تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 391
المشاهدات: 124562
تحميل: 11008


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124562 / تحميل: 11008
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

وقال: لا خلف الله عليكم بخير!... فقال الناس وأهل السوق: لا بل أنت لا خلف الله عليك بخير ولا ردك!...

وكان أصحابه يُحدِثون في المسجد، فملأوه قذراً وبولاً. فلما خرجوا غسل الناس المسجد.

قال: وحدثني ابن عبد الله بن إبراهيم قال: أخذ أصحاب الحسين ستور المسجد فجعلوها خفاتين(١) لهم، قال: ونادى أصحاب الحسين بمكة أيما عبد أتانا فهو حر؛ فأتاه العبيد، وأتاه عبد كان لأبي فكان معه، فلما أراد الحسين أن يخرج أتاه أبي فكلمه وقال له: عمدت إلى مماليك لم تملكهم فأعتقتهم، بِمَ تستحل ذلك؟...، فقال حسين لأصحابه: اذهبوا به، فأي عبد عرفه فادفعوه إليه. فذهبوا معه فأخذ غلامه وغلامين لجيران له.

وانتهى خبر الحسين إلى الهادي، وكان قد حج في تلك السنة رجال من أهل بيته منهم محمد بن سليمان بن علي، والعباس بن محمد، وموسى بن عيسى سوى من حج من الأحداث، وكان على الموسم سليمان بن أبي جعفر، فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بن سليمان على الحرب، فقيل له: عمك العباس بن محمد قال: دعوني لا والله لا أُخدع عن ملكي. فنفذ الكتاب بولاية محمد بن سليمان بن علي على الحرب، فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج، وكان محمد بن سليمان قد خرج في عدة من السلاح والرجال؛ وذلك لأن الطريق كان مخوفاً مُعوراً من الأعراب، ولم يحتشد لهم حسين فأتاه خبرهم فهم بصوبه. فخرج بخدمه وإخوانه، وكان موسى بن علي بن موسى قد صار ببطن نخل على الثلاثين من المدينة، فانتهى إليه الخبر ومعه إخوانه وجواريه، وانتهى الخبر إلى العباس بن محمد بن سليمان وكاتبهم. وساروا إلى مكة فدخلوا، فأقبل محمد بن سليمان وكانوا أحرموا بعمرة، ثم ساروا إلى ذي طوى، فعسكروا بها ومعهم سليمان بن أبي جعفر، فانضمَّ إليهم من وافى في تلك السنة من شيعة ولد العباس ومواليهم وقوادهم. وكان الناس قد اختلفوا في تلك السنة في الحج وكثروا جداً، ثم قدَّم محمد بن سليمان قدامه تسعين حافراً ما بين فرس إلى بغل وهو

____________________

(١) خفاتين: مفردها خَفْتان ضرب من الثياب (فارسية).

١٢١

على نجيب عظيم، وخلفه أربعون راكباً على النجائب عليها الرجال، وخلفهم ما بين راكب على الحمير سوى من كان معهم من الرجالة وغيرهم. وكثروا في أعين الناس جداً، وملأوا فظنوا أنهم أضعافهم، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة وحلوا من عمرتهم، ثم مضوا فأتوا ذا طوى ونزلوا، وذلك يوم الخميس. فوجّه محمد بن سليمان أبا كامل مولى لإسماعيل بن علي في نيّف وعشرين فارساً وذلك يوم الجمعة، فلقيهم وكان في أصحابه رجل يقال له: زيد كان انقطع إلى العباس فأخرجه معه حاجّاً؛ لما رأى من عبادته، فلما رأى القوم قلب ترسه وسيفه وانقلب إليهم وذلك ببطن مر، ثم ظفروا به بعد ذلك مشدخاً بالأعمدة. فلما كان ليلة السبت وجهوا خمسين فارساً كان أول من ندبوا (صباح أبو الذيال) ثم آخر ثم آخر، فكان أبو خلوة الخادم مولى محمد خامساً، فأتوا المفضل مولى المهدي فأرادوا أن يصيِّروه عليهم فأبى وقال: لا... ولكن صيّروا عليهم غيري وأكون أنا معهم. فصيَّروا عليهم عبد الله بن حميد بن رزين السمرقندي، وهو يومئذ شاب ابن ثلاثين سنة؛ فذهبوا وهم خمسون فارساً وذلك ليلة السبت، فدنا القوم ورجعت الخيل وتعبأ الناس، فكان العباس بن محمد وموسى بن عيسى في الميسرة ومحمد بن سليمان في الميمنة، وكان معاذ بن مسلم فيما بين محمد بن سليمان والعباس بن محمد.

فلما كان قبل طلوع الفجر جاء حسين وأصحابه، فشد ثلاثة من موالي سليمان بن علي أحدهم (زنجويه) غلام حسَّان، فجاؤوا برأس فطرحوه قدام محمد بن سليمان - وقد كانوا قالوا: من جاء برأس فله خمسمائة درهم. وجاء أصحاب محمد فعَرْقبوا الإبل فسقطت محاملها، فقتلوهم وهزموهم، وكانوا خرجوا من تلك الثنايا، فكان الذين خرجوا مما يلي محمد بن سليمان أقلهم، وكان جلهم خرجوا مما يلي موسى بن عيسى وأصحابه، فكانت الصدمة بهم، فلما فرغ محمد بن سليمان ممن يليه وأسفروا نظروا إلى الذين يلون موسى بن عيسى، فإذا هم مجتمعون كأنهم كبة غزل التفَّت القلب والميمنة عليهم، وانصرفوا نحو مكة لا يدرون ما حال الحسين، فما شعروا وهم بذي طوى أو قريباً منها إلا برجل من أهل خراسان يقول: البشرى!.. البشرى!.. هذا رأس حسين، فأخرجه وبجبهته ضربة طولاً وعلى قفاه ضربة أُخرى.

١٢٢

وكان الناس نادوا بالأمان حين فرغوا، فجاء الحسن بن محمد أبو الزفت، مغمضاً إحدى عينيه، قد أصابها شيء في الحرب، فوقف خلف محمد والعباس، واستدار به موسى بن عيسى وعبد الله بن العباس، فأمر به فقُتل. فغضب محمد بن سليمان من ذلك غضباً شديداً ودخل محمد بن سليمان مكة من طريق والعباس بن محمد من طريق. فاحُتزّت الرؤوس فكانت مائة رأس ونيفاً، فيها رأس سليمان بن عبد الله بن حسن وذلك يوم التروية، وأُخذت أخت الحسين وكانت معه فبصرت عند زينب بنت سليمان واختلطت المنهزمة بالحِجّاج، فذهبوا وكان سليمان بن أبي جعفر شاكياً فلم يحضر القتال، ووافى عيسى بن جعفر الحج تلك السنة. وكان مع أصحاب الحسين رجل أعمى يقص عليهم فُقتل، ولم يُقتَل أحد منهم صبراً.

قال الحسين بن محمد بن عبد الله: وأسر موسى بن عيسى أربعة نفراً من أهل الكوفة ومولى لبني عجل وآخر. قال محمد بن صالح: حدثني محمد بن داود بن علي قال: حدثنا موسى بن عيسى قال: قدمت ومعي ستة أسارى وقال الهادي: هيه!.. تقتل أسيري؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إني فكرت فيه فقلت تجيء عائشة وزينب إلى أم أمير المؤمنين فتبكيان عندها وتكلمانها، فتكلم له أمير المؤمنين فيطلقه.

ثم قال: هات الأسرى، فقلت: إني جعلت لهم العهد والمواثيق بالطلاق والعتاق، فقال: آتني بهم، وأمر باثنين فقتلا وكان الثالث منكراً. فقلت يا أمير المؤمنين: هذا أعلم الناس بآل أبي طالب، فإن استبقيته دلّك على كل بغية لك. فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين، إني أرجو أن يكون بقائي صنعاً لك، فأطرق ثم قال: والله لإفلاتك من يدي بعد أن وقعت في يدي لشديد؛ فلم يزل يكلمه حتى أمر به أن يؤخر وأمر أن يكتب له طلبته.

وأما الآخر فصفح عنه، وأمر بقتل غدافى الصيرفي، وعلي بن السابق الفلاّس الكوفي، وأن يُصلبا فصلبوهما بباب الجسر وأُسرا بفخ. وغضب على مبارك التُّركي وأمر بقبض أمواله وتصييره في ساسة الدواب، وغضب على موسى بن عيسى لقتله الحسن بن محمد، وأمر بقبض أمواله.

ثم ذكر إفلات إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي

١٢٣

طالب من وقعة فخ - هذه في خلافة الهادي - ووقوعه إلى مصر، وعلى بريدها واضح مولى لصالح بن أمير المؤمنين المنصور، قال: وكان رافضياً خبيثاً، فحمله على البريد إلى أرض المغرب فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها: (وليلة)، فاستجاب له من بها وبأعراضها من البربر؛ فضرب الهادي عنق واضح وصلبه، ويقال: إن الرشيد الذي ضرب عنقه، وإنه دس إلى إدريس الشماخ اليمامي مولى المهدي، وكتب له كتاباً إلى إبراهيم بن الأغلب عامله على أفريقية، فخرج حتى وصل إلى (وليلة)، وذكر أنه من أوليائهم، ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه.

وأقبل الشماخ يُريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له، فنزل عنده بكل منزلة، ثم إنه شكا إليه علة في أسنانه، فأعطاه سنوناً مسموماً قاتلاً وأمره أن يستنّ به عند طلوع الفجر لليلته. فلما طلع الفجر استن إدريس بالسنون وجعل يرده في فيه ويكثر منه فقتله، وطلب الشماخ فلم يظفر به.

وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس، فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك فولّى الشماخ وأجازه، فقال في ذلك بعض الشعراء:

أتـظنّ يـا إدريس أَنك مُفلِت كـيد الـخليفة أو يُـفيد فِرارُ

فـلـيدركنَّك أو تـحل بـبلدةٍ لا يـهتدي فـيها إلـيك نهارُ

إن السيوف إذا انتضاها سخطة وطـالت وقصَّر دونها الأعمارُ

مـلك كـأن الموت يتبع أمره حـتى يـقال تـطيعه الأقدارُ

وذكر الفضل بن العباس الهاشمي أن عبد الله بن محمد المُنقري حدَّثه عن أبيه قال: دخل عيسى بن وأب على موسى بن عيسى عند منصرفه من فخ، فوجده خائفاً يلتمس عذراً من قَتْلِ من قَتَل، فقال له: أصلح الله الأمير أُنشدُك شعراً كتب به يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الحسين بن علي (رض)، قال: أنشدني، فأنشده:

يا أيها الراكب الغادي لطيته على عُذافرةٍ(١) في سيرها قُحَمُ

____________________

(١) عذافرة: الشديد من الإبل، الجمع: عَذافرة.

١٢٤

أبـلغ قريشاً على شحط المزار به بـيني وبـين حسين اللهُ والرحم

ومـوقف بـفناء الـبيت أنـشده عـهد الإلـه وما ترعى له الذمم

عـنـفتم قـومكم فـخراً بـأمكم أم حصان حصان لعمري برة كرم

هـي الـتي لا يُداني فضلها أحدٌ بـنتُ النبيّ وخير الناس قد علموا

وفـضلها لـكم فـضل وغـيركم مـن قـومكم لهم من فضلها قِسَمُ

أني لأعـلم أو ظـناً كـعالمه والـظن يـصدقُ أحـياناً فينتظمُ

أن سـوف يترككم ما يطلبون به قـتلى تـهاداكم الـعُقبان والرّخَمُ

يا قومنا لا تشِبّوا الحرب إذ خمدت وامـسكوا بحبال السلم واعتصموا

لا تركبوا البغي إن البغي مصرعه وإن شـارب كـأس الـبغي يتخم

قد جرب الحرب من قد كان قبلكم مـن الـقرون وقد بادت به الأمم

فـأنصفوا قـومكم لا تهلكوا بذخ فـرب ذي بـذخ زلـت به القدم

قال: فسُرّي عن موسى بن عيسى بعض ما كان فيه.

وذكر عبد الله بن عبد الرحمان بن عيسى بن موسى أن العلاء حدّثه إن الهادي أمير المؤمنين لما ورد عليه خلع أهل فخ خلا ليله يكتب كتاباً بخطه، فاغتم بخلوته مواليه وخاصته فدسوا غلاماً له، فقالوا: اذهب حتى تنظر إلى أي شيء انتهى الخبر. قال: فدنا من موسى، فلما رآه قال: ما لك فاعتل عليه. قال: فأطرق ثم رفع رأسه فقال:

رقد الأُلى ليس السُّرى من شأنهم وكفاهم الإدلاج من لم يرقُد

ولما قتل الحسين بن علي وجاء برأسه يقطين بن موسى، فوُضِع بين يدي الهادي، قال: كأنكم والله جئتم برأس طاغوت من الطواغيت، إن أقلّ ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم. قال: فحرمهم ولم يعطهم شيئاً.

وقال موسى الهادي لما قتل الحسين متمثلاً:

قد أنصف القارة من راماه إنا إذا ما فئة نلقاها

نرد أولاها على أخرها

١٢٥

أعقاب الأدارسة الذين قامت لهم دول في المغرب:

قام لأعقاب الأدارسة الحسنيين دول في المغرب في الجزائر ومراكش. ولهم تاريخ حافل. ولما لم تكن دولهم داخلة في موضوع الكتاب؛ إذ لم تكن شيعية، أضربنا عن التعرّض لتاريخهم.

١٢٦

الدولة العُبْيدية

وخلفاؤها في القيروان ومصر

قامت هذه الدولة باسم الدعوة الإسماعيلية التي أفضنا في البحث عن منشئها، وعرضنا للدول التي قامت لها في الشرق في بلاد الشام والعراق والبحرين وإيران في مباحث أصل الشيعة إفاضة تغنينا عن التعرض لها في هذا البحث المخصوص في تاريخ الدولة الفاطمية.

ابتداء هذه الدولة:

قال ابن خلدون في الجزء الرابع من تاريخه(١) :

(وأوّلهم عبيد الله المهديّ بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق بن محمد المكتوم بن جعفر الصادق. ولا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القَيْروان وغيرهم وبالمحضر الذي ثبت ببغداد أيام القادر بالطعن في نسبهم، وشهد فيه أعلام الأئمة وقد مر ذكرهم، فإنّ كتاب المعتضد إلى ابن الأغلب بالقيروان، وابن مدرار بسجلماسة يغريهم بالقبض عليه لمّا سار إلى المغرب شاهد بصمة نسبهم. وشعر الشريف الرضيّ مسجل بذلك، والذين شهدوا في المحضر فشهادتهم على السماع وهي ما علمت. وقد كان نسبهم ببغداد منكراً عند أعدائهم شيعة بني العباس منذ مائة سنة، فتلوّن الناس بمذهب أهل الدولة، وجاءت شهادة عليه مع أنها شهادة على النفي، مع أنّ طبيعة الوجود في الانقياد إليهم، وظهور كلمتهم حتى في مكة

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٦٤ - منشورات دار الكتاب اللبناني سنة ١٩٨١.

١٢٧

والمدينة، أدلّ شيء على صحة نسبهم - وأمّا من يجعل نسبهم في اليهودية والنصرانية ليعمون(١) القدح وغيره فكفاه ذلك إثماً وسفسفة، وكان شيعة هؤلاء العُبَيْديين بالمشرق واليمن وأفريقية.

وكان أصل ظهورهم بأفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها، أنفذهما جعفر الصادق، وقال لهما: بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتى يجيء صاحب البذر.

فنزل أحدهما ببلد مراغة، والآخر ببلد سوق جمار؛ وكلاهما من أرض كتامة. ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي، وكان محمد الحبيب ينزل سَلَمْيَة من أرض حمص. وكان شيعتهم يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين. فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه لإقامة دعوته باليمن، وإنّ المهدي خارج في هذا الوقت، فسار وأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عندهم. واستولى على أكثر اليمن، وتسمى بالمنصور، وابتنى حصناً بجبل لاعة، وملك صنعاء من بني يعفر، وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب.

وكان أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب، كان محتسباً بالبصرة، وقيل: إنّما المحتسب أخوه أبو العباس المخطوم.

وأبو عبد الله هذا يعرف بالمعلِّم؛ لأنّه كان يعلم مذهب الإماميّة، فاتّصل أبو عبد الله بمحمد الحبيب، ورأى ما فيه من الأهلية فأرسله إلى ابن حوشب باليمن ليأخذ عنه، ثم يذهب إلى المغرب، يقصد بلد كتامة، فيُظهر بينهم الدعوة.

فجاء أبو عبد الله إلى ابن حوشب ولزمه، وشهد مجالسه وأفاد علمه. ثم خرج مع حاج اليمن إلى مكة فلقي بالموسم رجالات كتامة ورؤساءهم، فيهم من لقي الحلواني وابن بكار، وأخذوا عنهما.

فقصدهم أبو عبد الله في رحالهم، وكان منهم موسى بن حريث كبير

____________________

(١) كذا...، وتسمى هذه اللام لام التعليل أو لام كي، ومن المعلوم أن الفعل المضارع بعدها ينصب بأن المضمرة.

١٢٨

بني سكتان من جملة أحد شعوبهم، وأبو القاسم الورنجومي من أحلافهم، ومسعود بن عيسى من ملال المساكتي، وموسى بن تكاد، فجلس إليهم وسمعوا منه مذاهبهم ورأوا ما هو عليه من العبادة والزهد، فعلق بقلوبهم، وصار يتعهدهم في رحالهم. فاغتبطوا به واغتبط بهم، ولما أرادوا الرحلة إلى بلادهم سألوه الصحبة فوافقهم طاوياً وجه مذهبه عنهم، بعد أن سألهم عن قومهم وعصابتهم وبلادهم وملكة السلطان فيهم.

وخرج معهم إلى المغرب، وسلكوا طريق الصحراء، وعدلوا عن القيروان، إلى أن وصلوا بلد سوماثة، وبها محمد بن حمدون بن سماك الأَندلُسيّ من بجاية الأَنْدلُس نزيلاً عندهم، وكان قد أدرك الحلواني وأخذ عنه. فنزل أبو عبد الله الشيعي عليه، فأكرمه وفاوضه؛ وتفرّس ابن حمدون فيه أنّه صاحب الدولة.

ثم ارتحلوا وصحبهم ابن حمدون، ودخلوا بلد كتامة منتصف ربيع سنة ثمان وثمانين ومائتين، فنزل على موسى بن حريث ببلده انكجان في بلد بني سكتان من جبيلة، وعيَّن له مكان منزله بفجّ الأخيار، وأنّ النص عنده من المهديّ بذلك وبهجرة المهدي، وأنَّ أنصار الأخيار من أهل زمانه، وأنّ اسمهم مشتق من الكتمان.

واجتمع إليه الكثير من أهل كتامة ولقي علماءهم، واشتمل عليه الكثير من أهوائهم، فجاهر بمذهبه، وأعلن بإمامة أهل البيت، ودعا للرضا من آل محمد. واتبعه أكثر كتامة، وكانوا يسمونه بأبي عبد الله الشيعي والمشرقيّ. وبلغ خبره إلى أمير أفريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب، فبعث إليه بالتهديد والوعيد، فأساء الردّ عليه.

وخاف رؤساء كتامة عادية ابن الأغلب وأغراهم عمال بلادهم بالشيعي مثل موسى بن عياش صاحب مسيلة، وعلي بن حفص بن عسلوجة صاحب الريف. وجاء ابن تميم صاحب يلزمة، فاجتمعوا وتفاوضوا في شأنه.

وحضر يحيى المساكني وكان يُدعى بالأمير، ومهديّ بن أبي كمارة رئيس لُهَيْعَة، وفرج بن حيران رئيس إجانة، وثمل بن بجل رئيس لطافة. وراسلوا بيان بن صفلان رئيس بني سكتان، وأبو عبد الله الشيعيّ عندهم

١٢٩

بجبل إيكجان، في أن يسلِّمه إليهم أو يخرجه من بلدهم، وحذّروه عاقبة أمره.

فردّ أمره إلى أهل العلم، فجاؤوا بالعلماء، وهمّوا باغتياله فلم يتمّ لهم ذلك.

أطبقت بجيلة على مظاهرته، فهزموا هؤلاء المثيرين عليه وردّوهم خائبين. ثم راجعوا بيات بن صقلاب في أمره ولاطفوه حتى صفا إليهم. وشعر بذلك أبو عبد الله الشيعي وأصحابه، فبعثوا إلى الحسن بن هارون الغسّاني يسألونه الهجرة إليهم، فأجابهم ولحق ببلدة تازروت من بلادهم.

واجتمعت غسّان لنصرته مع بطون كتامة الذين بايعوه من قبل، فاعتزّ وامتنع وعظم أمره.

ثم انتقض على الحسن بن هارون أخوه محمد منافسه في الرياسة، وكان صديقاً لمهدي بن أبي كمارة فداخله في التثريب على أبي عبد الله.

وعظمت الفتنة بين لُهَيْعة وغسان. وولّى أبو عبد الله الشيعي الحسن بن هارون على حروبه؛ وظهر بعد أن كان مختفياً.

وكان لمهدي بن أبي كمارة شيخ لُهَيْعَة أخ اسمه أبو مديني وكان من أحباب أبي عبد الله، فقتل أخاه مهديّاً ورَأَسَ على لهيعة مكانه، فصاروا جميعاً إلى ولاية أبي عبد الله وأبي مديني شيخهم.

ثم تجمّعت كتامة لحرب الشيعي وأصحابه، ونازلوه بمكانه من تازروت. وبعث الشيعي سهل بن فكاش إلى فحل بن نوح رئيس لطانة - وكان صهره - لينجد له عن حربهم في السلم، فمشى إلى كتامة. وأبوا إلاّ أن يناجزوهم الحرب، فغلبهم أبو عبد الله وأصحابه، وانهزمت كتامة، وأبلى عروبة بن يوسف الملوشي في ذلك اليوم بلاء حسناً.

واجتمعت إلى أبي عبد الله غسّان كلها ويلزمة ولهيعة وكافّة بجاية ورئيسهم يومئذ ماكنون بن ضَبَارة وأبو زاكي تمام بن معارك. ولحق بجيلة من بجاية فرج بن خيران، ويوسف بن محمد من لطانة، وفحل بن نوح، واستقام أمر الباقي للشيعي.

وجمع فتح بن يحيى من أطاعه من قومه مسالمة لحرب الشيعي.

١٣٠

فسار إليهم وأوقع بهم، ولحق فَلَّهم(١) بسطيف، ثم استأمنوا إليه فأمّنهم. ودخلوا في أمره، وولّى منهم هارون بن يونس على حروبه.

ولحق رئيسهم فتح بن يحيى بعجيسة، وجمع ثانية لحرب الشيعي، فسار إليه ومعه جموع كتامة، وتحصّن منه فتح ببعض قلاعهم، فحاصره الشيعي وفتحها.

واجتمعت إليه عجيسة وزواوة وجميع قبائل كتامة. ورجع إلى تازروت، وبث دعاته في كل ناحية، فدخل الناس في أمره طوعاً وكرهاً.

ولحق فتح بن يحيى بالأمير إبراهيم بن أحمد بتونس، واستحثَّه لحرب الشيعي؛ ثم فتح أبو عبد الله مساكتة بمداخلة بعض أهلها، وقتل صاحبها موسى بن عيَّاش، وولّى عليها ماكنون بن ضبارة الجايي وهو أبو يوسف.

ولحق إبراهيم بن موسى بن عياش بأبي العباس إبراهيم بن الأغلب بتونس بعد خروج أبيه إلى صِقِلّية. وكان فتح بن يحيى المساكتي قد نزع إليه من قبل ذلك، ووعده المظاهرة. فجهَّز العساكر وعقد عليها لابنه أبي خوال. وزحف من تونس سنة تسع وثمانين و...، فدوّخ كتامة ثم صمّد(٢) إلى تازروت، فلقيه أبو عبد الله الشيعي في جموعه ببلد ملوسة. فهزمهم أبو خوال، وفرَّ الشيعيّ من قصر تازروت إلى إيكجان فامتنع بها، فهدم أبو خوال القصر واتبعه، وتوغّل أبو خوال في بلاد كتامة، فاضطرب أمره وتوقّع البيات(٣) .

وسار إبراهيم بن موسى بن عياش من عسكر أبي خوال إلى نواحي مسيلة يتجسّس الأخبار. فتواقع مع طائفة من أصحاب الشيعي فهزموه واتبعوه إلى المعسكر؛ فاضطرب وأجفل أبو خوال و خرج من بلاد كتامة.

____________________

(١) فَلَّهم: رجل فلٌّ وقومٌ فلٌّ: منهزم ومنهزمون (يستوي فيه الواحد والجمع) وقد يجمع على أفلال وفُلول.

(٢) صمّدَ: فلاناً وله وإليه أي قصده.

(٣) البيات: الهجوم على الأعداء ليلاً.

١٣١

واستوطن أبو عبد الله إيكجان، وبنى بها بلداً وسمّاها دار الهجرة؛ واستبصر الناس في أمره ودخلوا في دعوته.

ثم هلك الحسن بن هارون، وجهّز أبو العباس العساكر ثانية مع ابنه أبي خوال، وردّه لحرب الشيعي وكتامة، فسار في بلادهم، ورجع منهزماً، وأقام قريباً منهم يدافعهم ويمنعهم من التقدّم.

وفي خلال ذلك هلك إبراهيم بن أحمد بن الأغلب، وقتل ابنه أبو العباس. وقام بالأمر ابنه زيادة الله، فاستدعى أخاه أبا خوال وقتله، وانتقل من تونس إلى وقادة، وانهمك في لذّاته.

وانتشرت جيوش الشيعي في البلاد وعلا أمره، وبشَّرهم بأنَّ المهدي قرب ظهوره، فكان كما قال)(١) .

وصول المهدي إلى المغرب واعتقاله وخروجه من الاعتقال وبيعته:

(ولما تُوفِّي محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام، عهد إلى ابنه عبيد الله وقال له: أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرة بعيدة وتلاقي محناً شديدة.

واتّصل خبره بسائر دعاته في أفريقية واليمن؛ وبعث إليه أبو عبد الله رجالاً من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم وأنهم في انتظاره. وشاع خبره، واتصل بالعباسيين، فطلبه المكتفي، ففرّ من أرض الشام إلى العراق، ثم لحق بمصر ومعه ابنه أبو القاسم غلاماً حدثاً وخاصته ومواليه، بعد أن كان أراد قصد اليمن، فبلغه ما أحدث بها علي بن الفضل من بعد ابن حوشب، وأنه أساء السيرة؛ فانثنى عن ذلك واعتزم على اللحاق بأبي عبد الله الشيعي بالمغرب. فارتحل من مصر إلى الاسكندرية في زي التجّار، وجاء كتاب المكتفي إلى عامل مصر وهو يومئذ عيسى النوشري بخبرهم والقعود لهم بالمراصد، وكتب نعته وحليته، فسرح في طلبهم حتّى وقف عليهم، وامتحن أحوالهم فلم يقف على اليقين في شيء منها، فخلّى سبيلهم.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٦٤ إلى ص٧٠.

١٣٢

وجدّ المهديّ في السير، وكان له كتب في الملاحم منقولة عن آبائه سُرقت من رَحْلِه في طريقه. فيقال: إن ابنه أبا القاسم استردّها من بَرْقَة حين زحف إلى مصر. ولمّا انتهى إلى طرابس وفارقه التجّار أهل الرفقة، بعث معهم أبا العباس أخا أبي عبد الله الشيعي إلى أخيه بكتامة ومرّ بالقَيْرَوان، وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله، وهو يسأله عنهم فقبض على أبي العباس، وسأله فأنكر فحبسه، وكتب إلى عامل طرابلس بالقبض على المهدي ففاته، وسار إلى قسنطينة، ثم عدل عنها خشية على أبي العباس، أخي الشيعيّ المعتقل بالقيروان؛ فذهب إلى سجلماسة، وبها اليَسَع بن مدرار فأكرمه.

ثم جاء كتاب زيادة الله (ويُقال: كتاب المكتفي) بأنه المهدي الذي داعيته في كتامة، فحبسه اليسع. ثم إن أبا عبد الله الشيعي بعد مهلك أبي خوال الذي كان مضايقاً لهم، اجتمعت إليه سائر كتامة، وزحف إلى سطيف، فحاصرها مدة، وكان بها علي بن جعفر بن عسكوجة صاحبها وأخوه أبو حبيب فملكها. وكان بها أيضاً داود بن جاثة من كبار لُهَيْعة، لحق بها فيمن لحق من وجوه كتامة. فقام بها من بعد علي وأخيه. واستأمن أهل سطيف فأمنهم أبو عبد الله، ودخلها فهدمها.

وجهّز زيادة الله العساكر إلى كتامة مع قريبه إبراهيم بن حشيش، وكانوا أربعين ألفاً، فانتهى إلى قسنطينة فأقام بها، وهم متحصنون بجبلهم، ثم زحف إليهم وواقعهم عند مدينة يلزمة، فانهزم إلى باغاية ولحق بالقيروان.

وكتب الشيعي بالفتح إلى المهدي مع رجال من كتامة، أخفوا أنفسهم حتى وصلوا إليه وعرّفوه بالخبر، ثم زحف الشيعي إلى طَبْنَة فحاصرها وقتل فتح بن يحيى المساكتي، ثم افتتحها على الأمان، ثم زحف إلى يلزمة فملكها عنوة.

وجهّز زيادة الله العساكر مع هارون الطبني عامل باغاية، فانتهوا إلى مدينة أزمول وكانوا في طاعة الشيعي، فهدمها هارون وقتل أهلها. وزحف إليه عروبة بن يوسف من أصحاب الشيعي فهزمه وقتله.

ثم فتح الشيعي مدينة ينجبت كلها على يد يوسف الغسّاني، ولحق

١٣٣

عسكرها بالقيروان. وشاع عن الشيعي وفاؤه بالأمان، فأمّنه الناس.

وكثر الإرجاف بزيادة الله، فجهَّز العساكر وأزاح العلل، وأنفق ما في خزائنه وذخائره، وخرج بنفسه سنة خمس وتسعين، ونزل الأَريس. ثم حاد عن اللقاء. وأشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردءاً للعساكر فرجع، وقدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته، وأمره بالمقام هنالك.

ثم زحف الشيعي إلى باغاية، فهرب عاملها، وملكها صلحاً. وبعث إلى مدينة قرطاجنة فافتتحها عنوة وقتل عاملها، وسرح عساكره في إِفريقية فردّدوا فيها الغارات على قبائل البربر من نَفْزَة وغيرهم.

ثم استأمن إليه أهل تيفاش فأمنهم، واستعمل عليهم صواب بن أبي القاسم السكتاني، فجاء إبراهيم بن أبي الأغلب واقتحمها عليه.

ثم نهض الشيعي في احتفال من العساكر إلى باغاية، ثم إلى سكتانة ثم إلى تَبْسَة ففتحها كلها على الأمان، ثم إلى القصرين من قمودة فأمّن أهلها وأطاعوه.

وسار يريد رقادة، فخشي إبراهيم بن أبي الأغلب على زيادة الله لقلة عسكره، فنهض إلى الشيعي واعترضه في عساكره واقتتلوا ثم تحاجزوا؛ ورجع الشيعي إلى إيكجان وإبراهيم إلى الأَريس. ثم سار الشيعي ثانية بعساكره إلى قُسَنْطينة فحاصرها واقتحمها على الأمان، ثم إلى قفصة كذلك. ثم رجع إلى باغاية فأنزل بها عسكراً مع أبي مكدولة الجيلي، ثم سار إلى إيكجان وخالفه إبراهيم إلى باغاية. وبلغ الخبر إلى الشيعي فسرَّح لقتاله أبا مديني بن فروخ اللهيمي ومعه عروبة بن يوسف الملوشي، ورجاء بن أبي قنَّة في اثني عشر ألفاً. فقاتلوا ابن أبي الأغلب ومنعوه من باغاية، فرحل عنها، واتبعوه إلى فجّ العرعر، ورجعوا عنه.

ثم زحف أبو عبد الله الشيعيّ سنة ست وتسعين في مائتي ألف من العساكر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب بالأريس، ثم اقتتلوا أيّاماً؛ ثم انهزم إبراهيم واستبيح معسكره وفرَّ إلى القيروان. ودخل الشيعي الأريس فاستباحها، ثم سار فنزل قمودة.

١٣٤

واتصل الخبر بزيادة الله وهو برقادة ففرَّ إلى المشرق، ونُهبت قصورة. وافترق أهل رقادة إلى القيروان وسوسة.

ولمّا وصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان نزل قصر الإمارة، وجمع الناس، وأرادهم على البيعة له على أن يعينوه بالأموال. فاعتدوا وتصايحت به العامة، ففرَّ عنها ولحق بصاحبه.

وبلغ أبا عبد الله الشيعي خبر فرارهم بسبيبة فقدم إلى رقادة، وقدم بين يديه عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير، فساروا وأمّنوا الناس، وجاء على أثرهم. وخرج أهل رقاد والقيروان للقائه، فأمنهم وأكرمهم. ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين ونزل قصرها وأطلق أخاه أبا العباس من الاعتقال، ونادى بالأمان، فتراجع الناس وفرَّ العمال في النواحي. وطلب أهل القيروان فهربوا، وقسم دور البلد على كتامة فسكنوها، وجمع أموال زيادة الله وسلاحه فأمر بحفظها، وحفظ جواريه. واستأذنه الخطباء لمن يخطبون، فلم يعين أحداً، ونقش على السكة من أحد الوجهين: (بلغتْ حجة الله) ومن الآخر: (تفرّق أعداء الله)؛ وعلى السلاح: (عدة في سبيل الله)؛ وفي وسم الخيل: (الملك لله).

ثم ارتحل إلى سجلماسة في طلب المهدي، واستخلف على أفرقية أخاه أبا العباس وترك معه أبا زاكي تمام بن معارك الألجائي.

واهتز المغرب لخروجه وفرت زناتة من طريقه، ثم بعثوا إليه بالطاعة فقبلهم، وأرسل إلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة يتلطفه، فقتل الرسل وخرج للقائه.

فلمّا تراءى الجمعان انفضَّ معسكره وهرب هو وأصحابه، وخرج أهل البلد من الغد للشيعي، وجاؤوا معه إلى محبس المهدي وابنه فأخرجهما، وبايع للمهديّ ومشى مع رؤساء القبائل بين أيديهما وهو يبكي من الفرح ويقول: هذا مولاكم حتى أنزله بالمخيَّم.

وبعث في طلب اليسع فأُدرك وجيء به فقُتل، وأقاموا بسجلماسة أربعين يوماً ثم ارتحلوا إلى أفريقية. ومرّوا بأيكجان، فسلّم الشيعي ما كان بها من الأموال للمهدي، ثم نزلوا رقادة في ربيع سنة سبع وتسعين.

١٣٥

وحضر أهل القيروان وبويع للمهدي البيعة العامة، واستقام أمره، وبثَّ دعاته في الناس؛ فأجابوا إلاّ قليلاً عرض عليهم السيف.

وقسّم الأموال والجواري في رجال كتامة، وأقطعهم الأعمال ودوّن الدواوين، وجبى الأموال، وبعث العمال في البلاد، فبعث على طرابلس ماكنون بن ضبارة الألجائي، وعلى صِقِلّية الحسن بن أحمد بن أبي خنزير، فسار إليها ونزل البحر. ونزل مازر في عيد الأضحى من سنة سبع وتسعين، فاستقضى إسحاق بن المنهال، وولّى أخاه على كريت. ثم أجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى العُدْوَة الشماليّة، ونزل بسيط قلورِيَّة من بلاد الإفرنج، فأثخن فيها، ورجع إلى صقلية فأساء السيرة في أهلها، فثاروا به وحبسوه وكتبوا إلى المهدي فقبل عذرهم، وولّى عليهم مكانه عليّ بن عمر البلوي فوصل خاتم تسع وتسعين)(١) .

مقتل أبي عبد الله الشيعي وأخيه:

(لمّا استقام سلطان عُبَيْدِ الله المهديّ بأفريقية استبدّ بأمره، وكفح أبا عبد الله الشيعي وأخاه أبا العباس عن الاستبداد عليه، والتحكم في أمره، فعظم ذلك عليهما، وصرَّح أبو العبّاس بما في نفسه، فنهاه أخوه أبو عبد الله عن ذلك فلم يُصغ إليه. ثم استماله أبو العباس لمثل رأيه فأجابه.

وبلغ ذلك إلى المهدي فلم يصدقه، ثم نهى أبا عبد الله عن مباشرة الناس، وقال: إنه مفسد للهيبة، فتلطف في رده ولم يجبه إليه، ففسدت النيّة بينهما، واستفسدوا كتامة وأغروهم به وذكروهم بما أخذه من أموال إيكجان واستأثر به دونهم. وألقوا إليهم أنّ هذا ليس هو الإمام المعصوم الذي دعونا إليه، حتى بعث إلى المهدي رجل كان في كتامة يُعرف بشيخ المشايخ وقال له: جئنا بآية على أمرك، فقد شككنا فيك، فقتله المهديّ.

ثم عظمت استرابتهم (شوكتهم) واتّفقوا على قتل المهديّ. وداخلهم في ذلك أبو زاكي تمام بن معارك، وغيره من قبائل كتامة.

ونمي الخبر إلى المهديّ فتلطَّف في أمرهم، وولّى من داخلهم من

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٧٠ إلى ص٧٦.

١٣٦

قواد كتامة على البلاد، فبعث تمام بن معارك على طرابلس وبعث إلى عاملها ماكنون بقتله، فقتله عند وصوله.

ثم اتّهم المهديّ ابن الغريم بمداخلتهم، وكان من أصحاب زيادة الله؛ فأمر بقتله واستصفاء أمواله وكان أكثرها لزيادة الله.

ثم إنّ المهدي استدعى عروبة بن يوسف وأخاه حباسة، وأمرهما بقتل الشيعيّ وأخيه. فوقفا لهما عند القصر، وحمل عروبة على أبي عبد الله فقال له: لا تفعل...، فقال: الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك.

ثم أجهز عليهما في نصف جمادى سنة ثمانٍ وتسعين (ومائتين).

ويُقال: إنّ المهديّ صلّى على أبي عبد الله وترحّم عليه، وعلم أن الذي حمله على ذلك إغراء أبي العباس أخيه.

وثارت فتنة بسبب قتلهما من أصحابهما، فركب المهديّ وسكّنها، ثم ثارت فتنة أُخرى بين كتامة وأهل القيروان وفشا القتل فيهم، فركب المهدي وسكنها، وكفّ الدعاة عن طلب التشيُّع من العامة، وقتل جماعة من بني الأغلب برقادة لما رجعوا إليها بعد زيادة الله)(١) .

رجع إلى أخبار المهدي:

(لمّا استقام أمر المهدي بعد الشيعيّ، جعل ولاية عهده لابنه أبي القاسم نزار، وولّى على بَرْقَةَ وما إليها حباسة بن يوسف، وعلى المغرب أخاه عروبة، وأنزله باغاية. فسار إلى تاهرت فاقتحمها، وولّى عليها دواس بن صولات اللهيص.

ثم انتقضت عليه كتامة بقتله أبا عبد الله الشيعيّ، ونصبوا طفلاً لقّبوه المهدي، وزعموا أنه نبيّ، وأن أبا عبد الله الشيعي لم يمت، فجهَّز ابنه أبا القاسم لحربهم فقاتلهم وهزمهم، وقتل الطفل الذي نصبوه، وأثخن فيهم ورجع.

ثم انتقض أهل طرابلس سنة ثلاثمائة، وأخرجوا عاملهم ماكنون.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٧٦ إلى ص٧٨.

١٣٧

فبعث إليهم ابنه أبا القاسم. فحاصرها طويلاً، ثم فتحها وأثخن فيهم، وأغرمهم ثلاثمائة ألف دينار.

ثم أغزى(١) المهدي ابنه أبا القاسم وجموعه كتامة سنة ٣٠١ إلى الاسكندرية ومصر، وبعث اسطوله في البحر في مائتين من المراكب وشحنها بالأمداد، وعقد عليها لحباسة بن يوسف.

وسارت العساكر فملكوا برقة ثم الإسكندرية والفيوم. وبعث المقتدر العساكر من بغداد مع سبكتكين ومؤنس الخادم، فتواقعوا مرّات، وأجلاهم عن مصر فرجعوا إلى المغرب. ثم عاد حباسة في العساكر في البحر سنة اثنتين (وثلاثمائة) إلى الإسكندرية فملكها، وسار يريد مصر فجاء مؤنس الخادم من بغداد لمحاربته، فتواقعوا مرّات، وكان الظهور آخر لمؤنس. وقُتل من أصحابه نحو من سبعة آلاف؛ وانصرف إلى المغرب فقتله المهديّ.

وانتقض لذلك أخوه عروبة بالمغرب، واجتمع إليه خلق كثير من كتامة والبربر. وسرح إليهم المهدي مولاه غالباً في العساكر فهزمهم، وقتل عروبة وبني عمه في أُمم لا تُحصى.

ثم انتقض أهل صقلية وتقبَّضوا على عاملهم علي بن عمرو، وولوا عليهم أحمد بن قهرب، فدعا للمقتدر العباسي وأطاعه، وذلك سنة أربع وثلاثمائة. وخلع طاعة المهديّ وجهّز إليه الأسطول مع الحسن بن أبي خنزير، فلقيه أسطول ابن قهرب فغلبه، وقتل ابن أبي خنزير.

ثم راجع أهل صقلية أمرهم، وكاتبوا المهدي، وثاروا بابن قهرب فخلعوه وبعثوا به إلى المهدي فقتله على قبر ابن أبي خنزير، وولّى على صقلية علي بن موسى بن أحمد، وبعث معه عساكر كتامة.

ثم اعتزم المهديّ على بناء مدينة على ساحل البحر يتّخذها معصماً لأهل بيته لما كان يتوقعه على الدولة من الخوارج.

ويُحكى عنه أنه قال: بنيتها لتعتصم بها الفواطم ساعة من نهار، وأراهم موقف صاحب الحمار بساحتها، فخرج بنفسه يرتاد موضعاً لبنائها.

____________________

(١) أَغْزى: فلاناً بعث به وجهّزه للغزو وحمله عليه.

١٣٨

ومرّ بتونس وقرطاجنة حتى وقف على مكانها جزيرة متصلة بالبر كصورة كفّ اتّصلت بزند، فاختطّ المهدية بها وجعلها دار ملكه، وأدار بها سوراً محكماً، وجعل لها أبواباً من الحديد وزن كل مصراع مائة قنطار. وابتدأ ببنائها آخر سنة ثلاث (وثلاثمائة)، ولمّا ارتفع السور رمى من فوقه بسهم إلى ناحية المغرب ونظر إلى منتهاه وقال: إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار يعني أبا زيد.

ثم أمر أن يُبحثَ في الجبل دار لإنشاء السفن (تسعمائة سفين)، وبحث في أرضها أهراء للطعام ومصانع للماء، وبنى فيها القصور والدور، فكملت سنة ست (وثلاثمائة). ولمّا فرغ منها قال: اليوم أمنت على الفواطم.

ثم جهّز ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر مرة ثانية سنة سبع وثلاثمائة، فملك الإسكندرية ثم سار فملك الجيزة والاشمونين وكثيراً من الصعيد. وكتب إلى أهل مكة بطلب الطاعة فلم يجيبوا إليها. وبعث المقتدر مؤنساً الخادم في العساكر، وكانت بينه وبين أبي القاسم عدة وقعات ظهر فيها مؤنس، وأصاب عسكر أبي القاسم الجهد من الغلاء والبلاء، فرجع إلى أفريقية، وكانت مراكبهم قد وصلت من المهدية إلى الإسكندرية في ثمانين مركباً مدداً لأبي القاسم وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكتامي؛ وكانا شجاعين. وسار الأسطول من طرسوس للقائهم في خمسة وعشرين مركباً. والتقوا على رشيد، وظفرت مراكب طرسوس، وأحرقوا وأسروا سليمان ويعقوب، فمات سليمان في حبس مصر، وهرب يعقوب من حبس بغداد إلى إفريقية.

ثم أغزى المهدي سنة ثمان وثلاثمائة مضالة بن حبوس في رجالات مكناسة إلى بلاد المغرب، فأوقع بملك فاس من الأدارسة، وهو يحيى بن إدريس بن إدريس بن عمرو، واستنزله عن سلطانه إلى طاعة المهدي. فأعطى بها صفقته وعقد لموسى بن أبي العافية المكناسي من رجالات قومه على أعمال المغرب. ورجع ثم عاود غزو المغرب سنة تسع وثلاثمائة فدوّخه ومهّد جوانبه؛ وأغراه قريبه عامل المغرب موسى بن أبي العافية بيحيى بن إدريس صاحب فاس فتقبّض عليه وضم فاس إلى أعمال موسى، ومحا دعوة الإدريسية من المغرب، وأجهضهم عن أعماله فتحيزّوا إلى بلاد الريف وغمارة واستجدوا بها ولاية. ومنهم كان بنو حمّود العلويون

١٣٩

المستولون على قرطبة عند انقراض ملك الأمويين في سنة ثلاث وأربعمائة.

ثم صمد مضالة إلى بلاد سجلماسة فقتل أميرها من آل مدرار المكناسيين المنحرف عن طاعة الشيعة، وعقد لابن عمه وسار في أتباعه إلى زناتة في نواحي المغرب؛ فكانت بينه وبينهم حروب هلك مضالة في بعضها على يد محمد بن خزر.

واضطرب المغرب فبعث المهدي ابنه أبا القاسم غازياً إلى المغرب في عساكر كتامة وأولياء الشيعة سنة خمس عشرة وثلاثمائة، ففرَّ محمد بن خزر وأصحابه إلى الرمال، وفتح أبو القاسم بلد مزانة ومطماطة وهوارة وسائر الأباضية والصفرية ونواحي تاهرت قاعدة المغرب الأوسط إلى ما وراءها.

ثم عاج إلى الريف فافتتح بلد لكور من ساحل المغرب الأوسط، ونازل صاحب جراوة من آل إدريس وهو الحسن بن أبي العيش، وضيق عليه، ودوّخ أقطار المغرب. ورجع ولم يلق كيداً ومرَّ بمكان بلد المسيلة وبها بنو كملان من هوارة، وكان يتوقع منهم الفتنة فنقلهم إلى فج القيروان. وقضى الله أن يكونوا أولياء لصاحب الحمار عند خروجه. ولما نقلهم أمر ببناء المسيلة في بلدهم، وسماها المحمدية ودفع علي بن حمدون والأندلسي من صنائع دولتهم إلى بنائها، وعقد له عليها وعلى الزاب بعد اختطاطها، فبناها وحصنها وشحنها بالأقوات، فكانت مدداً للمنصور في حصار صاحب الحمار.

ثم انتقض موسى بن أبي العافية عامل فاس والمغرب، وخلع طاعة الشيعة وانحرف إلى الأموية من وراء البحر، وبث دعوتهم في أقطار المغرب. فنهض إليه أحمد بن بصلين المكناسي قائد المهدي، وسار في العساكر، فلقيه ميسور وهزمه وأوقع به وبقومه بمكناسة، وأزعجه عن المغرب إلى الصحاري وأطراف البلاد ودوّخ المغرب وثقّف أطرافه ورجع ظافراً)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٧٨ إلى ص٨٣.

١٤٠