تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 391
المشاهدات: 124606
تحميل: 11008


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124606 / تحميل: 11008
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

وفاة عبيد الله المهدي وولاية ابنه أبي القاسم:

(ثم تُوفِّي عبيد الله المهدي بعد اثنتين وعشرين سنة من خلافته، وولي ابنه أبو القاسم محمد ويقال: نزار بعده، ولُقّب القائم بأمر الله. فعظم حزنه على أبيه حتى يُقال: إنه لم يركب سائر أيامه إلاّ مرتين. وكثر عليه الثوار، وثار بجهات طرابلس ابن طالوت القرشي، وزعم أنه ابن المهدي وحاصر طرابلس، ثم ظهر للبربر كذبه فقتلوه. ثم أغزى المغرب وملكه وولّى على فاس أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذابي. وحاصر الأدارسة ملوك الريف وغمارة؛ فنهض ميسور الخصي من القيروان في العساكر ودخل المغرب وحاصر فاس واستنزل عاملها أحمد بن بكر، ثم نهض في اتباع موسى، فكانت بينهما حروب؛ وأُخذ الثوري ابن موسى في بعضها أسيراً. وأجلاه ميسور عن المغرب، وظاهره عليه الأدارسة الذين بالريف.

وانقلب ميسور إلى القيروان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وعقد للقاسم بن محمد كبير أدارسة الريف من ولد محمد بن إدريس على أعمال ابن أبي العافية وما يفتحه من البلاد؛ فملك المغرب كلها ما عدا فاس، وأقام دعوة الشيعة بسائر أعماله.

ثم جهز أبو القاسم أسطولاً ضخماً لغزو ساحل الإفرنجة وعقد عليها ليقرب ابن إسحاق، فأثخن في بلاد الإفرنجة وسبى ونازل بلد جنوة، وافتتحها وعظم صنع الله في شأنها.

ومروا بسردانية من جزر الفرنج فأثخنوا فيها، ثم مروا بقرقيسيا من سواحل الشام فأحرقوا مراكبها. ثم بعث عسكراً إلى مصر مع خادمه زيران، فملكوا الاسكندرية، وجاءت عساكر الإخشيد من مصر فأزعجوهم عنها ورجعوا إلى المغرب)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٨٣، ٨٤.

١٤١

أخبار أبي يزيد الخارجي

(وهو أبو يزيد مخلد بن كيراد، وكان أبوه كيراد من أهل قسطيلة من مدائن بلاد توزر. وكان يختلف إلى بلاد السودان بالتجارة، وبها ولد ولده أبو يزيد ونشأ بتوزر، وتعلم القرآن وخالط النكاريّة من الخوارج، وهم الصُفرِيَّة، فمال إلى مذهبهم وأخذ به، ثم سافر إلى تاهرت وأقام بها يعلِّم الصبيان.

ولما سار الشيعي إلى سجلماسة في طلب المهدي انتقل هو إلى تقيوس، وأقام يعلِّم فيها. وكان يذهب إلى تكبير أهل مِلَّته واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان، ثم أخذ نفسه بالحسبة على الناس وتغيير المنكر سنة ست عشرة وثلاثمائة.

ولما مات المهديّ خرج بناحية جبل أوراس، وركب الحمار، وتلقّب بشيخ المؤمنين، ودعا للناصر صاحب الأندلس من بني أمية فاتبعه أمم من البربر، وزحف إليه عامل باغاية فلقيه في جموع البربر وهزمه، وزحف إلى باغاية فحاصرها ثم انهزم عنها، وكتب إلى بني واسى من قبائل زناتة بضواحي قسنطينة يأمرهم بحصارها، فحاصروها سنة ثلاث وثلاثين (وثلاثمائة). ثم فتح تبسة صلحاً ومجانة كذلك، وأهدى له رجل من أهل مرماجنة حماراً أشهب فكان يركبه وبه لُقِّب. وكان يلبس جبة صوف قصيرة ضيقة الكُمّين.

وكان عسكر الكتاميِّين على الأَريس فانفضوا، وملكها أبو يزيد وأحرقها ونهبها، وقتل في الجامع من لجأ إليه، وبعث عسكراً إلى سبيبة ففتحها وقتل عاملها. وبلغ الخبر إلى أبي القاسم، فقال: لابدّ أن يبلغ المصلّى من المهدية.

١٤٢

ثم جهّز العساكر وبعثها إلى رقادة والقيروان، وبعث خادمه ميسوراً الخصيّ لحربه وبعث عسكراً مع خادمه بشرى إلى باجة.

فنهض إليه أبو يزيد وهزمه إلى تونس، ودخل أبو يزيد باجة فنهبها وأحرقها، وقتل الأطفال وسبى النساء، واجتمع إليه قبائل البربر، واتخذ الأبنية والبيوت وآلات الحرب.

وبعث إليه بشرى عسكراً من تونس. وبعث أبو يزيد للقائهم عسكراً آخر؛ فانهزم أصحاب أبي يزيد وظفر أصحاب بشرى. ثم ثار أهل تونس ببشرى فهرب فاستأمنوا لأبي يزيد فأمنهم، وولى عليهم وسار القيروان، وبعث القائم خادمه بشرى للقائه، وأمره أن يبعث من يتجسس عن أخباره، فبعث طائفة، وبعث أبو يزيد طائفة أُخرى. فانهزم عسكر أبي يزيد وقُتل منهم أربعة آلاف وجيء بأسراهم إلى المهدية فقتلوا.

فسار أبو يزيد إلى قتال الكتاميّين فهزم طلائعهم، وأتْبعهم إلى القيروان، ونزل على رقادة في مائتي ألف مقاتل، وعاملُها يومئذٍ خليل بن إسحاق، وهو ينتظر وصول ميسور بالعساكر. ثم ضايقه أبو يزيد وأغراه الناس بالخروج فخرج. وهزمه أبو يزيد فمضى إلى القيروان. ودخل أبو يزيد رقادة، فعاث فيها وبعث أيوب الزويلي في عسكر إلى القيروان، فملكها في صفر سنة ثلاث وثلاثين (وثلاثمائة) ونهبها، وأمَّن خليلاً فقتله أبو يزيد. وخرج إليه شيوخ أهل القيروان فأمَّنهم ورفع النهب عنهم. وزحف ميسور إلى أبي يزيد، وكان معه أبو كملان فكاتبوا أبا يزيد، وداخلوه في الغدر بميسور، وكتب إليه القائم بذلك، فحذّرهم فطردهم عنه. ولحقوا بأبي يزيد، وسار معه إلى ميسور، فانهزم ميسور، وقتله بنو كملان وجاؤوا برأسه فأطافه بالقيروان، وبعث بالبشرى إلى البلاد. وبلغت هزيمة ميسور إلى القائم بالمهدية فاستعد للحصار وأمر بحفر الخنادق. وأقام أبو يزيد سبعين يوماً في مخيم ميسور، وبثّ السرايا في كل ناحية يغنمون ويعودون.

وأرسل سرية إلى سوسة ففتحوها عنوة واستباحوها، وضرب عمران إفريقية من سائر الضواحي، ولحق فَلّهم بالقيروان حفاة عراة، ومات أكثرهم جوعاً وعطشاً.

ثم بعث القائم إلى رؤساء كتامة والقبائل، وإلى زيري بن مناد ملك

١٤٣

صَنْهاجَة بالمسير إلى المهديَّة، فتأهبوا لذلك. وسمع أبو يزيد بخبرهم فنزل على خمسة فراسخ من المهدية وبث السرايا في جهاتها.

وسمع كتامة بافتراق عسكره في الغارة فخرجوا لبياته(١) آخر جمادى الأولى، وكان ابنه فضل قد جاء بالمدد من القيروان فبعثه للقاء كتامة. وركب في أثرهم، ولقي أصحابه منهزمين. ولما رآه الكتاميُّون انهزموا بغير قتال. واتبعهم أبو يزيد إلى باب المهديِّة ورجع ثم جاء بعد أيام لقتالهم، فوقف على الخندق المحدَث، وعليه جماعة من العبيد فقاتلهم ساعة وهزمهم، وجاوز السور إلى البحر ووصل المصلّى على رمية سهم من البلد، والبربر يقاتلون من الجانب الآخر، ثم حمل الكتاميِّون عليهم فهزموهم.

وبلغ ذلك أبا يزيد، وسمع بوصول زيري بن مناد فاعتزم أن يمر بباب المهدية ويأتي زيري وكتامة من ورائهم. فقاتلوا أهل الأرباض، ومالوا عليه لما عرفوه ليقتلوه، وتخلص بعد الجهد ووصل إلى منزله فوجدهم يقاتلون العبيد كما تركهم، فقوي أصحابه وانهزم العبيد. ثم رحل وتأخر قليلاً وحفر على معسكره خندقاً، واجتمع عليه خلق عظيم من البربر ونفوسة والزاب وأقاصي المغرب. وضيّق على أهل المِرّيَة، ثم زحف إليها آخر جمادى فقاتلها وتورّط في قتالها يومه ذلك، ثم خلَّص وكتب إلى عامل القيروان أن يبعث إليه مقاتلتها فجاؤوا، وزحف بهم آخر رجب فانهزم وقتل من أصحابه. ثم زحف الزحف الرابع آخر شوال ولم يظفر ورجع إلى معسكره.

واشتدّ الحصار على أهل المهديّة حتى أكلوا الميتات والدواب، وافترق أهلها في النواحي، ولم يبق بها إلا الجند. وفتح القائم أهراء الزرع التي أعدّها المهدي وفرّقها فيهم.

ثم اجتمعت كتامة وعسكروا بقُسَنْطينة، فبعث إليهم أبو يزيد بعثاً من وربجومة وغيرهم فهزموا كتامة، ووافت أبا يزيد حشود البربر من كل ناحية، وأحاط بسوسة وضيّق عليها، ثم انتقض البربر عليه ما كان منه من

____________________

(١) لبياته: للهجوم عليه ليلاً.

١٤٤

المجاهرة بالمحرّمات والمنافسة بينهم. فانفضُّوا عنه ورجع إلى القيروان سنة أربع وثلاثين (وثلاثمائة).

وغنم أهل المهديّة معسكره وكثر عبث البربر في أمصار أفريقية وضواحيها، وثار أهل القيروان بهم، وراجعوا طاعة القائم. وجاء علي بن حمدون من المَسيلة بالعساكر فبيَّته أيُّوب بن أبي يزيد وهزمه، وسار إلى تونس، وجاءت عساكر القائم فواقعوه مرات، وانهزم إلى القيروان في ربيع سنة أربع وثلاثين (وثلاثمائة). فبعث أيوب ثانية لقتال عليّ بن حمدون ببلطة. وكانت حروبه معه سجالاً إلى أن اقتحم عليه البلد بمداخلة بعض أهلها. ولحق ابن حمدون ببلاد كتامة، واجتمعت قبائل كتامة ونفزة ومواتة وعسكروا بقسنطينة. وبعث ابن حمدون العساكر إلى هوارة فأوقعوا بهم، وجاءهم مدد أبي يزيد فلم يغنِ عنهم.

وملك ابن حمدون مدينة بتجست وباغاية. ثم زحف أبو يزيد إلى سوسة في جمادى الآخرة من سنته، وبها عسكر القائم، وتُوفِّي القائم وهو بمكانه من حصارها)(١) .

وفاة القائم وولاية ابنه المنصور:

(ثم تُوفِّي القائم أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب أفريقية بعد أن عهد إلى ولده إسماعيل بعده، وتلقّب بالمنصور، وكتم موت أبيه حذراً من أن يطلع عليه أبو يزيد وهو بمكانه من حصار سوسة، فلم يسمّ بالخليفة ولا غيّر السكة ولا الخطبة ولا البنود إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد كما يذكر)(٢) .

بقية أخبار أبي يزيد ومقتله:

ولما مات القائم كان أبو يزيد محاصراً سوسة كما تقدم، وقد جهد أهلها الحصار. فلما وَلِيَ إسماعيل المنصور، وكان أوّل عمله أن بعث الأساطيل من المهديّة إلى سوسة مشحونة بالمدد من المقاتلة والأمتعة

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٨٤ إلى ص٨٩.

(٢) نفسه م٤ ص٨٩.

١٤٥

والميرة مع رشيق الكاتب، ويعقوب بن إسحاق، وخرج بنفسه في أثرهم، وأشار أصحابه بالرجوع فرجع، ووصل الأسطول إلى سوسة، وخرجوا لقتال أبي يزيد وعساكر سوسة معهم.

فانهزم أبو يزيد واستبيح معسكره نهباً وإحراقاً، ورحل إلى سبيبة وذلك آخر شوال سنة أربع وثلاثين (وثلاثمائة).

وجاء المنصور إلى القيروان وأمّن أهلها وأبقى على حرم أبي يزيد وأولاده وأجرى عليهم الرزق. وخرجت سريّة من عسكر المنصور لاستكشاف خبر أبي يزيد. وجاءت أخرى من عسكر أبي يزيد لمثل ذلك، فالتقوا وانهزمت سرية المنصور، فقوي أبو يزيد بذلك وكثر جمعه، وعاد فقاتل القيروان وخندق المنصور على عسكره. وقاتلهم أبو يزيد، فكان الظفر أول يوم للمنصور، ثم قاتلهم ثانياً فانهزموا، وثبت المنصور وراجع أصحابه من طريق المهديّة وسوسة.

ولما رأى أبو يزيد امتناعهم عليه رحل أواخر ذي القعدة، ثم رجع فقاتلهم وكانت الحرب سجالاً. وبعث السرايا إلى طريق المهدية وسوسة نكاية فيهم، وبعث إلى المنصور في حرمه وأولاده فبعثهم إليه بعد أن وصلهم، وقد كان أقسم على الرحيل، فلما وصلوا إليه نكث وقاتلهم خامس المحرم سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فهزمهم، ثم عبّى المنصور عساكره منتصف المحرم وجعل البرابر في الميمنة وكتامة في الميسرة وهو وأصحابه في القلب.

وحمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها، ثم على القلب، فلقيه المنصور واشتد القتال، ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم وأسلم أثقاله وعسكره، وقُتل خلق من أصحابه؛ وبلغت رؤوس القتلى التي في أيدي صبيان القيروان عشرة آلاف.

ومضى أبو يزيد لوجهه، ومرّ بباغاية فمنعه أهلها من الدخول، فأقام يحاصرها. ورحل المنصور في ربيع الأول لاتّباعه، واستخلف على المهدية مراماً الصِقِلي، وأدركه على باغاية، فأجفل المنصور في اتّباعه، وكلما قصد حصناً سبقه المنصور إليه إلى أن نزل المنصور طَبْنَة فجاءته رسل محمد بن خزر أمير مغراوة، من أصحاب أبي يزيد ومواطئه بالغرب

١٤٦

الأوسط؛ فاستأمن للمنصور فأمنه وأمره بطلب أبي يزيد. ووصل أبو يزيد إلى بني بَرْزال وكانوا نَكادِيّة، وبلغه خبر المنصور في اتباعه فسلك الرملة ثم عاد إلى نواحي غمرة، فصادف المنصور وقاتله، فانهزم أبو يزيد إلى جبل سالات، والمنصور في أثره في جبالٍ وأوعارٍ ومضايق تُفضي إلى القفر.

وأصابهم الجهد وعلم أنه ليس أمامه إلا المفازة إلى بلاد السودان. فرجع إلى غمرة من بلاد صنْهاجَة، ووفد عليه هنالك زيري بن مناد أمير صنهاجة فأكرمه ووصله كما يجب له.

وجاء كتاب محمد بن خزر بالمكان الذي فيه أبو يزيد من المفازة، وأقام المنصور هناك لمرض أصابه، فرجع أبو يزيد إلى المسيلة وحاصرها، فلما عوفي المنصور رحل أول رجب سنة خمس وثلاثين وقصده. فأخرج عن المسيلة، وقصد المفازة يريد بلاد السودان، فأبى عليه بنو كملان أصحابه، فرجعوا إلى جبال كتامة وعجيسة فتحصنوا بها.

وجاء المنصور فنزل بساحتهم عاشر شعبان، ونزل أبو يزيد فقاتلهم فانهزم وأسلم عسكره وأولاده، وطعنه بعض الفرسان فأكبه وحامى عنه أصحابه، فقتل في الحومة ما يزيد على عشرة آلاف، وتخلَّص. ثم سار المنصور في أثره أول رمضان، ولم يقدر أحد من الفريقين على الهزيمة؛ لضيق المكان وصعوبته.

ثم انهزم أبو يزيد لما ضرسه الحرب، وترك أثقاله، وساروا إلى رؤوس الجبال يرمون بالصخر، وتزاحفوا حتى تعانقوا بالأيدي، وكثر القتل، ثم تحاجزوا وتحصّن أبو يزيد بقلعة كتامة؛ واستأمن الذين معه من هوارة فأمّنهم المنصور، وحصر أبا يزيد في القلعة وقاتلها غير مرة حتى افتتحها عنوةً، وأضرمها ناراً، وقتل أصحاب أبي يزيد في كل ناحية، وجمع أهله وأولاده في القصر، وأظلم الليل فأمر المنصور بإشعال النيران في الشَعْراء(١) المحيطة بالقصر حتى أضاء الليل لتكون أحواله بمرأى منهم حذراً من فراره، حتى خرج الليل، وحمل في أصحاب المنصور حملة

____________________

(١) الشَعْراء: الشجر الكثير.

١٤٧

منكرة فأفرجوا له، وأمر المنصور بطلبه، وقد حمله ثلاثة من أصحابه؛ لأنه كان جريحاً فسقط في الوعر وارتثّ فحملوه إلى المنصور فسجد سجدة الشكر، وأقام عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. ثم هلك من الجراحة التي به، فأَمر بسلخ جلده وحشوه تبناً، واتخذ له قفصاً فأُدخل فيه مع قردين يلاعبانه بعثاله(١) .

ورحل إلى القيروان والمهدية، ولحق ابنه فضل بمعبد بن خزر، وزحف به إلى طبنة وبسكرة، وقصدا المنصور. فانهزم معبد وصمد إلى كتامة فبعث إليه العساكر مع مولييه شفيع وقيصر ومعهما زيري بن مناد في صنهاجة. فانهزم فضل ومعبد وافترق جمعهم ورجع المنصور إلى القيروان فدخلها(٢) .

بقية أخبار المنصور

(ثم انتقض حميد بن يضلبتن عامل المغرب، وانحرف عن طاعة الشيعة، ودعا للأموية من وراء البحر، وزحف إلى تاهرت فحاصرها.

فنهض إليه المنصور في صَفر سنة ست وثلاثين (وثلاثمائة)، وجاء إلى سوق حمزة فأقام به، وحشد زيري بن مناد جموع صنهاجة من كل ناحية ورحل مع المنصور.

فأفرج حميد عن تاهرت، وعقد عليها ليعلى بن محمد اليفرني، وعقد لزيري بن مناد على قومه وعلى سائر بلادهم. ثم رحل لقتال لواتة فهربوا إلى الرمال، وأقام هو على وادي ميناس، وكان هنالك ثلاثة جبال، كل منها عليه قصر مبنيّ بالحجر المنحوت، فوجد في وجه أحد هذه القصور كتابة على حجر فسيح، فأمر المنصور التراجمة بقراءته، وإذا فيه (أنا سليمان السردغوس، خالف أهل هذا البلد على الملك فبعثني إليهم، ففتح الله عليهم وبنيت هذا البناءِ لأُذكر به). ذكر هذه الغريبة ابن الرقيق في تاريخه.

ثم رحل المنصور إلى القيروان بعد أن خلع على زيري بن مناد

____________________

(١) لحية عثولة أي كبيرة، كثة (في أقرب الموارد).

(٢) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٨٩ إلى ص٩٣.

١٤٨

وحمله، ودخل المنصورية في جمادى سنة ست وثلاثين (وثلاثمائة)، فبلغه أنّ فضل بن أبي يزيد جاء إلى جبل أُوراس، وداخل البربر في الثورة، فخرج إليه المنصور فدخل الرمل، ورجع المنصور إلى القيروان ثم إلى المهديّة، ورجع فضل بن أبي يزيد إلى باغاية. وأقام يحاصرها، فغدر به باطيط، وبعث برأسه إلى المنصور.

ثم عقد سنة تسع وثلاثين (وثلاثمائة) للحسين بن علي بن أبي الحسن الكلبيّ على صِقِلّية وأعمالها، وكانت لخليل بن إسحاق، فصرفه الحسين واستقلّ بولايتها، فكان له فيها ولبنيه ملك.

وبلغ المنصور أن مَلِك أفرنجة يريد غزو المسلمين، فأخرج أُسطوله وشحنه بالعساكر لنظر مولاه فرج الصقلي، وأمر الحسين بن علي عامل صقلية بالخروج معه، فأجازوا البحر إلى عُدْوَةِ الإفرنجة، ونزلوا قلورية، ولقيهم رجاء ملك الفرنجة فهزموه وكان فتحاً لاكفاء له، وذلك سنة أربعين وثلاثمائة.

ورجع فرج بالغنائم إلى المهديّة سنة اثنتين وأربعين (وثلاثمائة)، وكان معبِد بن خزر بعد مظاهرته لفضل بن أبي يزيد لم يزل منتقضاً وأولياء المنصور في طلبه حتى أخذ في بعض الوقائع وسيق معه ابنه إلى المنصور، فطيف بهما في أسواق المنصورية ثم قُتلا سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة(١) .

وفاة المنصور وولاية ابنه المُعزّ:

(تُوفِّي المنصور إسماعيل بن القاسم سلخ رمضان سنة إِحدى وأربعين وثلاثمائة لسبع سنين من خلافته، أصابه الجهد من مطر وثلج تجلّد على ملاقاته، ودخل على أثره الحمام فعيت(٢) حرارته ولازمه السهر فمات. وكان طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي قد نهاه عن الحمام فلم يقبل. وولّى الأمر بعده ابنه معدّ، ولُقِّب المُعزّ لدين الله، فاستقام أمره وخرج لجبل أوراس سنة اثنتين وأربعين (وثلاثمائة)، وجالت فيه عساكره،

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص٩٣ إلى ص٩٥.

(٢) عيت: عجز منها.

١٤٩

واستأمن إليه بنو كملان ومليلة من هوارة، ودخلوا في طاعته، فأمّنهم وأحسن إليهم. واستأمن إليه محمد بن خزر بعد قتل أخيه معبد فأمّنه.

ورجع إلى القيروان وترك مولاه قيصر في العساكر، وعقد له على باغاية فدوّخ البلاد وأحسن إلى الناس، وألّف من كان شارداً من البربر. ورجع بهم إلى القيروان فأكرمهم المًعزّ ووصلهم. ثم وفد بعدهم محمد بن خزر أمير مغراوة فلقَّاه مبرَّة وتكريماً. وأقام عنده بالقيروان إلى أن هلك سنة ثمان وأربعين (وثلاثمائة).

واستقدم المعِزّ زيري بن مناد سنة ثلاث وأربعين (وثلاثمائة) أمير صنهاجة، فقدم من استير، فأجزل صلته وردَّه إلى عمله، وبعث إلى الحسين بن علي عامل صقلّية سنة أربع وأربعين (وثلاثمائة) أن يخرجه بأسطوله إلى ساحل المرية من بلاد الأندلس، فعاث فيه، وغنم وسبى ورجع، فأخرج الناصر صاحب الأندلس أسطوله إلى سواحل أفريقية مع غالب مولاه فمنعتهم العساكر، وأقلعوا ثم عاودوا سنة خمس وأربعين (وثلاثمائة) في سبعين مركباً، فأحرقوا موسى الخزر وعاثوا في جهات سوسة ثم في نواحي طبرنة ورجعوا.

واستقام أمر المعِزّ في بلاد أفريقية والمغرب، واتسعت إيالته، وكانت أعماله من ايفكان خلف تاهرت بثلاث مراحل، إلى زناتة التي دون مصر، وعلى تاهرت وايفكان يعلى بن محمد اليفرني، وعلى أشير وأعمالها زيري بن مناد الصنهاجي، وعلى المسيلة وأعمالها جعفر بن علي الأندلسي، وعلى باغاية وأعمالها قيصر الصقلي. وكان على فاس أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذامي، وعلى سِجِلْماسَة محمد بن واسول المكناسي.

ثم بلغه سنة سبع وأربعين (وثلاثمائة) أن يعلى بن محمد اليفرني داخل الأموية من وراء البحر، وأهل المغرب الأقصى نقضوا طاعة الشيعة، فأغزى جوهراً الصقلي الكاتب إلى المغرب بالعساكر، وكان على وزارته، وخرج معه جعفر بن عليّ صاحب المسيلة، وزيري بن مناد صاحب أشير، وتلقاهم يعلى بن محمد صاحب المغرب الأوسط. ولمّا ارتحل عن ايفكان وقعت هيعة في أصحاب صيلة، وقيل له: إنّ بني يعرب أوقعوها، فتقبّض على يعلى، وناشته سيوف كتامة لحينه، وخرب ايفكان وأسر ابنه يدو بن

١٥٠

يعلى، وتمادوا إلى فاس، ثم تجاوزوها إلى سِجِلْماسة فأخذها. وتقبّض على الشاكر لله محمد بن الفتح الذي تلقّب بأمير المؤمنين من بني واسول، وولّى ابن المعتز من بني عمه مكانه.

ودوّخ المغرب إلى البحر، ثم رجع إلى فاس وحاصرها، وواليها يومئذ أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذامي، وقاتلها مدة فامتنعت عليه. وجاءته هدايا الأمراء الأدكرنية من السوس. ثم رحل إلى سِجِلْماسة وبها محمد بن واكول من مكناسة، وقد تلقّب بأمير المؤمنين الشاكر لله. وضرب السكة باسمه (تقدّست عزة الله). فلما سمع بجوهر هرب، ثم أُخذ أسيراً وجيء به إلى جوهر.

وسار عن سِجِلْماسة وافتتح البلاد في طريقه، ثم عاد إلى فاس وأقام في حصارها إلى أن افتتحها عنوة على يد زيري بن مناد، تسنم أسوارها ليلاً ودخلها وتقبّض على أحمد بن بكر وذلك سنة ثمانٍ وأربعين (وثلاثمائة)، وولى عليها من قبله، وطرد عمّال بني أُميَّة من سائر المغرب. وانقلب إلى القيروان ظافراً عزيزاً، وضم تاهرت إلى زيري بن مناد. وقدم بالفاطميين وبأحمد بن بكر وبمحمد بن واسال أسيرين في قفصين، ودخل بهما إلى المنصورية في يوم مشهود. وكانت ولاية المغرب والمشرق منقسمة بين مَوْلَيَيْه قيصر ومظفر، وكانا متغلبين على دولته، فقبض عليهما سنة تسع وأربعين (وثلاثمائة) وقتلهما.

وفي سنة خمسين (وثلاثمائة) كان تغلب النصارى على جزيرة أقريطش، وكان بها أهل الأندلس من جالية الحكم بن هشام بسبب ثورة الرفض، فقرّبهم إلى الإسكندرية فثاروا بها، وعبد الله بن طاهر يومئذ عامل مصر، فحاصرهم بالإسكندرية، حتى نزلوا على الأمان، وأن يجيزوا البحر إلى جزيرة اقريطش فعمّروها ونزلوها منذ تلك الأيام، وأميرها أبو حفص البلوطي منهم، واستبدّ بها وورث بنوه رئاسة فيها إلى أن نازلهم النصارى في هذه السنة في سبعمائة مركب، واقتحموها عليهم عنوة، وقتلوا منهم وأسروا.

وبقيت في أيدي النصارى لهذا العهد، والله غالب على أمره، وافتتح صاحب صِقِلِّية سنة إحدى وخمسين (وثلاثمائة) قلعة طرمين من حصون

١٥١

صقليّة بعد حصار طويل أجهدهم فنزلوا على حكم صاحب صقلية بعد تسعة أشهر ونصف الشهر للحصار. وأسكن المسلمين بالقلعة وسمّاها المُعِزّية نسبة إلى المُعزّ صاحب أفريقية.

ثم سار صاحب صقليّة بعدها وهو أحمد بن الحسن بن علي بن أبي الحسن إلى حصار رمطة من قلاع صقليّة، فاستمدوا ملكهم صاحب القِسْطَنْطِينيّة فجهَّز لهم العساكر براً وبحراً.

واستمدّ صاحب صقليّة المُعزّ فأمدّه بالعساكر مع ابنه الحسن، ووصل مدده إلى مدينة ميسنى، وساروا بجموعهم إلى رمطة، وكان على حصارها الحسن بن عمار فحمل عسكراً على رمطة وزحف إلى عسكر الروم مستميتاً، فقاتلهم فقتل أمير الروم وجماعة من البطارقة، وهُزموا أقبح هزيمة، واعترضهم خندق فسقطوا فيه، وأثخن المسلمون فيهم وغنموا عسكرهم. واشتدّ الحصار على أهل رمطة وعدموا الأقوات، فاقتحمها المسلمون عنوة، وركب فلّ الروم البحر يطلبون النجاة فاتبعهم الأمير أحمد بن الحسن في أسطوله فأدركهم، وسبح بعض المسلمين في الماء، فخرَّق مراكبهم وانهزموا.

وبث أحمد سرايا المسلمين في مدائن الروم فغنموا منها وعاثوا فيها حتى صالحوهم على الجزية.

وكانت هذه الواقعة سنة أربع وخمسين(وثلاثمائة). وتُسمّى وقعة المجاز)(١) .

فتح مصر:

(ثم إنّ المُعزّ لدين الله بلغه اضطراب أحوال مصر بعد موت كافور الاخشيديّ، وعظم فيها الغلاء، وكثرت الفتن وشغل بغداد عنهم بما كان من الفتن بين بختيار بن مُعزّ الدولة، وعضد الدولة ابن عمه.

فاعتزم المُعزّ على المسير إلى مصر، وأخرج جوهراً الكاتب إلى المغرب لحشد كتامة، وأوعز إلى أعمال برقة لحفر الآبار في طريقها،

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٩٥ إلى ص٩٩.

١٥٢

وذلك سنة خمس وخمسين (وثلاثمائة)، فسيره إلى مصر وخرج لتوديعه وأقام أياماً في معسكره.

سار جوهر وبلغ خبره إلى عساكر الاخشيدية بمصر فافترقوا، وقدم جوهر منتصف شعبان سنة ثمان وخمسين (وثلاثمائة)، فدخلها وخطب في الجامع العتيق منه باسم المُعتّز، وأُقيمت الدعوة العَلَوِيَّة.

وفي جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين (وثلاثمائة) دخل جوهر جامع ابن طولون فصلّى فيه، وأمر بزيادة (حيّ على خير العمل) في الآذان، فكان أول آذان أُذِّن به في مصر.

ثم بعث إلى المُعزّ بالهدايا وبأعيان الدولة الاخشيدية، فحبسهم المعز بالمهدية، وأحسن إلى القضاة والعلماء من وفدهم، وردّهم إلى مصر. وشرع جوهر في بناء القاهرة، واستحثّ المُعزّ للقدوم على مصر)(١) .

فتح دمشق:

(ولمّا فُتحت مصر، وأُخذ بنو طغج، هرب منهم الحسن بن عبد الله بن طغج إلى مكة ومعه جماعة من قوّادهم. فلما استشعر جوهر به بعث جعفر بن فلاح الكتامي في العساكر إليه، فقاتله مراراً ثم أسره ومن كان معه من القوّاد؛ وبعث بهم إلى جوهر، فبعث بهم جوهر إلى المعز بإفريقية.

ودخل جعفر الرملة عَنْوَةً فاستباحها، ثم أمّن من بقي، وجبى الخراج وسار إلى طبرية وبها ابن مُلْهم وقد أقام الدعوة للمُعزّ، فتجافى عنه، وسار إلى دمشق فافتتحها عنوة، وأقام بها الخطبة للمُعزّ لأيام من المحرّم سنة تسع وخمسين (وثلاثمائة).

وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن يعلى الهاشمي، وكان مُطاعاً فيهم، فجمع الأوباش والذعار وثار بهم في الجمعة الثانية، ولبس السواد، وأعاد الخطبة للمطيع، فقاتلهم جعفر بن فلاح أياماً وأولى عليهم الهزائم. وعاثت جيوش المغاربة في أهل دمشق، فهرب ابن يعلى ليلاً من البلد،

____________________

(١) نفسه: م٤ ص٩٩، ١٠٠.

١٥٣

وأصبحوا حيارى، وكانوا قد بعثوا الشريف الجعفري إلى جعفر في الصلح فأعاده إليهم بتسكين الناس والوعد الجميل، وأن يدخل البلد، فيطوف فيه، ويرجع إلى معسكره.

فدخل وعاث المغاربة في البلد بالنهب، فثار الناس بهم وحملوا عليهم وقتلوا منهم، وشرعوا في حفر الخنادق وتحصين البلد. ومشى الشريف أبو القاسم في الصلح بينهم وبين جعفر بن فلاح، فتم ذلك منتصف ذي الحجَّة سنة تسع وخمسين (وثلاثمائة).

ودخل صاحب شرطة جعفر فسكن الناس وقبض على جماعة من الأحداث، وقتل منهم وحبس، ثم قبض على الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى في المحرم من سنة ستين (وثلاثمائة)، وبعث به إلى مصر.

واستقام ملك دمشق لجعفر بن فلاح، وكان خرج بأفريقية سنة ثمان وخمسين (وثلاثمائة) أبو جعفر الزناتي واجتمعت إليه جموع من البربر والنكارِيَّة، وخرج إليه المُعزّ بنفسه وانتهى إلى باغاية، وافترقت جموع أبي خزر، وسلك الأوعار. فعاد المُعزّ وأمر بلكين بن زيري بالمسير في طلبه، فسار لذلك حتى انقطع عنه خبره.

ثم جاء أبو جعفر مستأمناً سنة تسع وخمسين (وثلاثمائة) فقبله، وأجرى عليه الرزق؛ وعلى أثر ذلك وصلت كتب جوهر بإقامة دعوته بمصر والشام، وباستدعائه إليها، فاشتد سروراً المُعزّ بذلك، وأظهره في الناس، ونطق الشعراء بامتداحه.

ثم زحف القرامطة إلى دمشق وعليهم ملكهم الأعصم، ولقيهم جعفر بن فلاح فظفر بهم وقتلهم. ثم رجعوا إليه سنة إحدى وستين (وثلاثمائة)، وبرز إليهم جعفر فهزموه وقتلوه.

وملك الأعصم دمشق، وسار إلى مصر، وكاتب جوهر بذلك للمُعزّ، فاعتزم على الرحلة إليها)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص١٠٠ إلى ص١٠٢.

١٥٤

مسير المُعزّ إلى مصر ونزوله بالقاهرة:

(ولمّا انتهت هذه الأخبار إلى المُعزّ اعتزم على المسير إلى مصر، وبدأ بالنظر في تمهيد المغرب، وقطع شواغله، وكان محمد بن الحسن بن خزر المَغْراويّ مخالفاً عليه بالمغرب الأوسط؛ وقد كثرت جموعه من زناتة والبربر، وكان جبّاراً طاغياً؛ فأهم المُعزّ أمره وخشي على أفريقية غائلته، فأمر بلكين بن زيري بن مناد بغزوه، فغزاه في بلاده، وكانت بينهما حروب عظيمة. ثم انهزم محمد بن خزر وجموعه؛ ولما أحسّ بالهزيمة تحامل على سيفه فقتل نفسه، وقُتل في المعركة سبعة عشر أميراً من أمراء زناتة، وأُسر منهم كثير وذلك سنة ستين وثلاثمائة.

وسَرَّ المُعزّ ذلك وقعد للهناء به، واستقدم بلكين بن زيري فاستخلفه على افريقية والمغرب، وأنزله القيروان وسماه يوسف، وكنّاه أبا الفتوح، وولّى على طرابلس عبد الله بن يخلف الكتامي، ولم يجعل لبلكين ولاية عليه، ولا على صاحب صقلية، وجعل على جباية الأموال زيادة الله بن الغريم، وعلى الخراج عبد الجبّار الخُراساني وحسين بن خلف المَرْصَدِي بنظر بلكين. وعسكر ظاهر المنصورية آخر شوّال من سنة إحدى وستين (وثلاثمائة)، وأقام على سردانية قريباً من القيروان حتى فرغ من أعماله، ولحقته عساكره، وأهل بيته وعماله، وحمل له ما كان في قصره من الأموال والأمتعة. وارتحل بعد أربعة أشهر من مقامه، وسار معه بلكين قليلاً ثم ودعه وردَّه إلى عمله. وسار هو إلى طرابلس في عساكره، وهرب بعضهم إلى جبل نفوسة فامتنعوا به، وسار إلى برقة فقتل بها شاعره محمد بن هاني الأندلسي (وُجِد قتيلاً بجانب البحر) في آخر رجب من سنة اثنتين وستين (وثلاثمائة).

ثم سار إلى الإسكندرية وبلغها في شعبان من هذه السنة، ولقيه بها أعيان مصر فأكرمهم ووصلهم. وسار فدخل القاهرة لخمس من رمضان من هذه السنة، فكانت منزله ومنزل الخلفاء بعد إلى آخر دولتهم)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٠٢، ١٠٣.

١٥٥

حروب المُعزّ مع القرامطة واستيلاؤه على دمشق:

(كان للقرامطة على بني طغج بدمشق ضريبة يؤدونها إليهم، فلما ملك ابن فلاح بدعوة المُعزّ قطع تلك الضريبة، وآسفهم بذلك فرجعوا إلى دمشق وعليهم الأعصم مَلِكُهم. فبرز إليهم جعفر بن فلاح فهزموه وقتلوه، وملكوا دمشق وما بعدها إلى الرملة.

وهرب من كان بالرملة وتحصَّنوا بيافان وملك القرامطة الرملة وجهّزوا العساكر على يافا وساروا إلى مصر، ونزلوا عين شمس وهي المعروفة لهذا العهد بالمطرية.

واجتمع إليهم خلق كثير من العرب وأولياء بني طغج، وحاصروا المغاربة بالقاهرة، وقاتلوهم أياماً فكان الظفر بهم. ثم خرج المغاربة واستماتوا وهزمهم فرحلوا إلى الرملة، وضيّقوا حصار يافا. وبعث إليهم جعفر بالمدد في البحر، فأخذه القرامطة. وانتهى الخبر إلى المُعزّ بالقيروان. وجاء إلى مصر ودخلها كما ذكرناه. وسمع أنهم يريدون المسير إلى مصر فكتب إلى الأعصم يذكّره فضل بنيه، وأنهم إنما دعوا له ولآبائه، وبالغ في وعظه وتهدّده فأساء في جوابه، وكتب إليه:

(وصل كتابك الذي قلّ تحصيله، وكثير تفصيله، ونحن سائرون إليك والسلام).

وسار من الأحساء إلى مصر، ونزل عين شمس في عساكره، واجتمع إليه الناس من العرب وغيرهم. وجاء حسَّان بن الجرّاح في جموع عظيمة من طيّئ وبث سراياه في البلاد فعاثوا فيها.

وأهم المُعزّ شأنه فراسل ابن الجراح، واستماله بمائة ألف دينار على أن ينهزم عن القرامطة، واستحلفوه على ذلك. وخرج المُعزّ ليوم عيّنوه لذلك، فانهزم ابن الجراح بالعرب وثبت القرامطة قليلاً ثم انهزموا، وأخذ منهم نحو ألف وخمسمائة أسير، وساروا في اتّباعهم.

ولحق القرامطة بأذرعات، وساروا منها إلى الإحساء، وبعث المُعزّ القائد ظالم بن موهوب العقيلي والياً على دمشق فدخلها، وكان العامل بها من قبل القرامطة أبو اللجاء وابنه في جماعة منهم، فحبسهم ظالم وأخذ

١٥٦

أموالهم، ورجع القائد أبو محمود من أتباع القرامطة إلى دمشق فتلقاه ظالم وسرّ بقدومه، وسأله المقام بظاهر دمشق حذراً من القرامطة ففعل ودفع أبا اللجاء وابنه فبعث بهم إلى مصر فحُبسوا بها. وعاث أصحاب أبي محمود في دمشق، فاضطرب الناس وقتل صاحب الشرطة بعضهم فثاروا به وقتلوا أصحابه. وركب ظالم بذراريهم وأجفل أهل الضواحي إلى البلد، وكان من عيْث المغاربة. ثم وقعت في منتصف شوّال من سنة ثلاث وستين (وثلاثمائة) فتنة بين العامّة وبين عسكر أبي محمود وقاتلوه أياماً. ثم هزمهم وتبعهم إلى البلد، وكان ظالم بن موهوب يداري العامّة فأشفق في هذا اليوم على نفسه، وخرج من دار الإمارة وأحرق المغاربة ناحية باب الفراديس، ومات فيها خلق، واتصلت الفتنة إلى ربيع الآخر سنة أربع وستين (وثلاثمائة). ثم وقع الصلح بينهم على إخراج ظالم من البلد، وولاية جيش بن الصمصامة ابن أخت محمود، فسكن الناس إليه.

ثم رجع المغاربة إلى العيث، وعاد العامة إلى الثورة، وقصدوا القصر الذي فيه جيش، فهرب ولحق بالعسكر، وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي، وقطع الماء عن البلد، فضاقت الأحوال، وبطلت الأسواق، وبلغ الخبر إلى المُعزّ فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى رِيَّان الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها، وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة، وبعث إلى المُعزّ بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل أفتكين والياً على دمشق. وكان أفتكين هذا من موالي عِزِّ الدولة بن بويه. ولما ثار التُّرك على ابنه بختيار مع سبكتكين، ومات سبكتكين، قدمه التُّرك عليهم، وحاصروا بختيار بواسط، وجاء عضد الدولة لإنجاده فأجفلوا عن واسط، فتركوه ببغداد. وسار أفتكين في طائفة من الجند إلى حمص، فنزل قريباً منها، وقصده ظالم بن مرهوب العُقَيْليّ ليقبضه فعجز عنه. وسار افتكين فنزل بظاهر دمشق وبها زياد خادم المُعزّ، وقد غلب عليه، وعلى أعيان البلد الأحداث والذعار، فلم يملكوا معهم أمر أنفسهم، فخرج الأعيان إلى أفتكين وسألوا منه الدخول إليهم ليولوه، وشكوا إليه حال المغاربة، وما يحملونهم عليه من عقائد بعض الرفض، وما أنزل بهم عمالهم من الظلم والعسف، فأجابهم واستحلفهم، وحلف لهم، وملك البلد، وخرج منها زياد الخادم،

١٥٧

وقطع خطبة المُعزّ العلوي، وخطب للطائع العباسي، وقمع أهل الفساد، ودفع العرب عما كانوا استولوا عليه من الضواحي، واستقلّ ملك دمشق، وكاتب المعزّ يطلب طاعته وولايتها من قبله فلم يثق إليه، ورده، وتجهَّز لقصده، وجهّز العساكر فتُوفِّي بعسكره ببلبيس كما يذكر)(١) .

وفاة المُعزّ وولاية ابنه العزيز:

(ثم تُوفِّي المُعزّ بمصر في منتصف ربيع الآخر سنة خمس وستين (وثلاثمائة) لثلاث وعشرين سنة من خلافته، وَولِيَ ابنه نزار بعهده إليه، ووصيته، ولُقِّب العزيز بالله، وكتم موت أبيه إلى عيد النحر من السنة فصلّى بالناس، وخطبهم ودعا لنفسه، وعزّى بأبيه، وأقرَّ يعقوب بن كلس على الوزارة كما كان أيام أبيه، وأقرّ بلكين بن زيري على ولاية إفريقية، وأضاف إليه ولاية عبد الله بن يخلف الكتامي، وهي طرابلس، وسرت وجر أبيه، وكان أهل مكة والمدينة قد خطبوا للمُعزّ أبيه في الموسم، فتركوا الخطبة للعزيز، فبعث جيوشه إلى الحجاز فحاصروا مكة والمدينة، وضيّقوا عليهم حتى رجعوا إلى دعوتهم، وخطب للعزيز بمكة، وكان أمير مكة عيسى بن جعفر، والمدينة طاهر بن مسلم، ومات في هذه السنة فولي ابنه الحسن وابن أخيه مكانه)(٢) .

بقية أخبار أفتكين:

(ولمّا تُوفِّي المُعزّ وولي العزيز، قام أفتكين وقصد البلاد التي لهم بساحل الشام، فبدأ بصيدا فحاصرها، وبها ابن الشيخ في رؤوس المغاربة، وظالم بن موهوب العقيلي، فبرزوا إليه وقاتلوه، فاستنجد لهم، ثم كرَّ عليهم وأوقع بهم، وقتل منهم أربعة آلاف، وسار إلى مكة فحاصرها، وقصد طَبَرَيَّة وفعل فيها مثل صيدا. ورجع واستشار العزيز وزيره يعقوب بن كلس فأشار بإرسال جوهر الكاتب إليه، فجهَّزه العزيز وبعثه، وأقبل أفتكين على أهل دمشق يريهم التحوُّل عنهم ويذكرهم بذلك ليختبرهم فتطارحوا

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص١٠٣ إلى ص١٠٧.

(٢) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٠٧.

١٥٨

إليه، واستماتوا واستحلفهم على ذلك. ووصل جوهر في ذي القعدة سنة خمس وستين (وثلاثمائة) فحاصر دمشق شهرين، وضيّق حصارها. وكتب أفتكين إلى الأعصم ملك القرامطة يستنجده، فسار إليه من الإحساء، واجتمع إليهم من رجال الشام والعرب نحو من خمسين ألفاً، وأدركوا جوهر بالرملة، وقطعوا عنه الماء، فارتحل إلى عسقلان فحاصروه بها حتى بلغ به الجهد، وأرسل جوهر إلى أفتكين بالمغاربة والوعد، والقرمطي يمنعه، ثم سأله في الاجتماع فجاء أفتكين، ولم يزل جوهر يفتلُّ له في الذروة والغارب، وأفتكين يعتذر بالقرمطي ويقول: أنت حملتني على مداراته. فلما أيس منه، كشف له عمّا هم فيه من الضيق، وسأله الصنيعة وأنّها يتّخذها عند العزيز فحلف له على ذلك، وعزله القرمطي. وأراه جوهر أن يحمل العزيز على المسير بنفسه فصُمَّ من عزله وأبى إلاّ الوفاء، وانطلق جوهر إلى مصر وأغرى العزيز بالمسير إليهم، فتجهَّز في العساكر وسار وجوهر في مقدّمته، ورجع أفتكين والقرمطي إلى الرملة، واحتشدوا ووصل العزيز فاصطفوا للحرب بظاهر الرملة في محرّم سنة سبع وستين (وثلاثمائة). وبعث العزيز إلى أفتكين يدعوه إلى الطاعة، ويُرغِّبَه ويعده بالتقدُّم في دولته، ويدعوه إلى الحضور عنده، فتقدّم بين الصفّين وترجل وقبّل الأرض وقال: قل لأمير المؤمنين لو كان قبل هذه لسارعت، وأمّا الآن فلا يمكنني، وحمل على الميسرة فهزمهم وقتل الكثير منهم، فامتعض العزيز وحمل هو والميمنة جميعاً فهزمهم، ووضع المغاربة السيف فقتلوا نحواً من عشرين ألفاً، ثم نزل في خيامه، وجيء بالأسرى، فخلع على من جاء بهم، وبذل لمن جاء بأفتكين مائة ألف دينار، فلقيه المفرج بن دغفل الطائي، وقد جهده العطش فاستسقاه فسقاه، وتركه بعرشه مكرماً. وجاء إلى العزيز فأخبره بمكانه، وأخذ المائة ألف التي بذلها فيه، وأمكنه من قياده. ولما حضر عند العزيز وهو لا يشكّ أنه مقتول أكرمه العزيز ووصله، ونصب له الخيام، وأعاد إليه ما نهب له، ورجع به إلى مصر فجعله أخص خدمه وحجّابه، وبعث إلى الأعصم القرمطي من يردّه إليه ليصله، كما فعل بأفتكين، فأدرك بطبرية، وامتنع عن الرجوع، فبعث إليه بعشرين ألف دينار، وفرضها له ضريبة.

وسار القرمطي إلى الأحساء، وعاد العزيز إلى مصر، ورقى رتبة

١٥٩

أفتكين وخصّ به الوزير يعقوب بن كلس فسمّه. وسمع العزيز بأنه سمّه فحبسه أربعين يوماً وصادره على خمسمائة ألف دينار، ثم خلع عليه، وأعاده إلى وزارته.

وتُوفِّي جوهر الكاتب في ذي القعدة في سنة إحدى وثمانين (وثلاثمائة)، وقام ابنه الحسن مقامه، ولُقِّب قائد القوّاد، وكان أفتكين قد استخلص أيام وزارته بدمشق رجلاً اسمه قسّام فعلا صيتُه وكثر تابعه، واستولى على البلد. ولمّا انهزم أفتكين والقرامطة، بعث العزيز القائد أبا محمود بن إبراهيم والياً على دمشق كما كان لأبيه المُعزّ، فوجد فيها قسّاماً قد ضبط البلد، وهو يدعو للعزيز فلم يتم له معه ولاية، وبقي قسّام مستبدّاً عليه إلى أن مات أبو محمود سنة سبعين (وثلاثمائة)، ثم جاء أبو ثعلب بن حمدان صاحب الموصل إلى دمشق، عند انهزامه أمام عضُد الدولة، فمنعه قسّام من الدخول، وخاف أن يغلبه على البلد بنفسه أو بأمر العزيز، واستوحش أبو ثعلب لذلك فقاتله قليلاً، ثم رحل إلى مطرية. وجاءت عساكر العزيز مع قائده الفضل فحاصروا قسّاماً بدمشق، ولم يظفروا به ورجعوا.

ثم بعث العزيز سنة تسع وستين (وثلاثمائة) سليمان بن جعفر بن فلاح، فنزل بظاهرها، ولم يمكِّنه قسّام من دخولها، ودسّ إلى الناس فقاتلوه، وأزعجوه عن مكانه، وكان مفرج بن الجراح أمير بني طيّئ، وسائر العرب بأرض فلسطين وقد كثرت جموعه، وقويت شوكته، وعاث في البلاد، وخرّبها، فجهَّز العزيز العساكر لحربه مع قائده بلتكين التُّركي، فسار إلى الرملة، واجتمع إليه العرب من قيس وغيرهم، ولقي ابن الجراح، وقد أكمن لهم بلتكين من ورائهم، فانهزم ومضى إلى انطاكية، فأجاره صاحبها. وصادف خروج ملك الروم من القِسْطَنْطِينيّة إلى بلاد الشام، فخاف ابن الجرّاح، وكاتب بكجور مولى سيف الدولة وعامله على حمص ولجأ إليه فأجاره.

ثم زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسّام أنه جاء لإصلاح البلد، وكان مع قسّام جيش بن الصمصامة ابن أُخت أبي محمود قد قام بعده في ولايته، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول معه بظاهر البلد هو وأصحابه. واستوحش قسّام وتجهَّز للحرب، ثم قاتل وانهزم أصحابه. ودخل بلتكين

١٦٠