تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني15%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135297 / تحميل: 11821
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

العراقية. تصنع في النجف النواعير الحديدية التي ترفع الماء من الأنهر بطريقة فنية لسقي المزارع ، وهذه تصرف في ضواحي النجف(١) .

وإن كانت النجف قد شهدت تدنياً في الزراعة والصناعة فانها ازدهرت ازدهاراً ملحوظاً في علاقاتها التجارية مع البلاد العربية ، وذلك بسبب موقعها الجغرافي ولتوسطها بين بادية الشام والجزيرة من جهة وبين بغداد والبصرة من جهة اخرى. فقديماً كان التجار القادمون من الشام والحجازيأتون ببضائعهم الى النجف ليجدوا أمامهم بضائع الهند القادمة من البصرة وبضائع البلاد الأخرى القادمة من بغداد.

وعن موقع النجف التجاري يقول الدكتور مصطفى جمال الدين : « تقع [ النجف ] بين الريف العراقي المنتشر على ضفاف الفرات ، وبين البادية الممتدة من العراق الى الحجاز ، وهي السوق المشتركة بين عشائر الريف وعشائر البادية ، فمنتوجات ( المشخاب ) و ( الشامية ) و ( العباسية ) و ( الكوفة ) وغيرها من الثمر ، والحنطة ، والشعير ، والرزّ ، تتجمع في ( خانات ) النجف لتُصدَّر بعد ذلك إلى بغداد ، والبصرة ، والموصل ، ومنتوجات البادية من ( القادسية ) و ( الحيرة ) من الغنم والصوف والوبر ، والسمن ، والجلود ، ترد الى ( مَناخة ) النجف لتصدَّر الى مناطق العراق الاخرى »(٢) .

وظلّت النجف على هذه الحال بالرغم من التطورات التي شهدتها في أوائل القرن العشرين من انهيار نظام الحكم العثماني واستبداله بالحكم البريطاني وما رافقه من تطور في شتى مرافق الحياة. فكان لابد من الاتصال بالعالم الجديد

__________________

١ - ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٤٠٣.

٢ - مصطفى جمال الدين : الديوان ، ص ١٤.

٢١

والحضارة الجديدة ، وكان لابد من التطلع الى إنماء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية واللحاق بالركب الحضاري الجديد. الاّ أن ذلك لم يحصل في النجف ولم يلق ترحيباً من قبل أبنائها ، وذلك لأنها كانت ولا تزال مدينة شديدة المحافظة والانغلاق ، وقد ساعد على تأصيل هذه الميزة فيها محيطها الضيق ، ومناخها الصحراوي القاسي ، ومركزها الديني الهام.

ويفصّل الدكتور مصطفى جمال الدين الحياة الاجتماعية في هذه المدينة المحافظة فيصفها بأنها ؛ « مدينة متحفظة أشدّ أنواع التحفّظ ، فالتزمّت هو السِمَةُ البارزة في المجتمع النجفي ، فلا يوجد في هذه المدينة ما كان يوجد في غيرها من المدن ، كالمسارح ، والنوادي ، والسينمات وأمثال ذلك ممّا يلهي الشباب عن دراستهم ، أو يُخرجهم عن تحفّظهم ، بل حتى ( المقاهي ) الصغيرة المبثوثة في بعض أنحاء المدينة - وهي خالية من كل شيء عدا الشاي ، والقهوة ، والنرجيلة ، وبعض المرطبات - يمتنع علينا ، نحن شباب الدراسات الدينية ، الجلوس فيها. وأذكر أنه لا يوجد فينا من يملك جهاز ( راديو ) مثلاً ، لذلك كنا في الأربعينات ننزوي في صالة جمعية ( الرابطة الأدبية ) لنستمع أخبار الحرب العالمية الثانية من ( الراديو ) الذي أهداه لها الملك غازي مع المكتبة الثمينة »(١) .

وبغضّ النظر عن السلبيات التي قد تبعثها مثل هذه البيئة المقيدة ، فإنّ الجانب الايجابي قد يطغى عليها في كثير من الأحيان. فقد عرف النجفي بصفات كريمة مثل حسن الضيافة وكرم الطبع وسخاء النفس التي اصبحت جزءاً من طبيعته لا يمكن له الفكاك عنها. وهذه صفات قلّما نجدها في المدن الكبرى. وكذلك اتصف النجفي - ولكثرة احتكاكه بالآخرين - بسرعة التعرف وقوة

__________________

١ - المصدر السابق ، ص ١٧.

٢٢

الامتزاج التي تحصل عادة من رحابة الصدر ، ودماثة الخلق المتصفة برقة الطبع وخفة الروح. وثمة خصيصة اخرى تجلّت وبوضوح في طبع النجفي وهي نخوته وفتوته وسرعة اجابته في النجدة. وقد انعكست هذه الظاهرة على حياته الاجتماعية وتجسدت في تعامله وسلوكه مع أبناء وطنه(١) .

والطريف أنّ مجتمعاً منغلقاً ومحافظاً كالنجف كان من أكثر المجتمعات انفتاحاً في تقبّله النقد السليم والفكرة السليمة ، ولعل ذلك يعود إلى عاملين ، كما يقول الدكتور مصطفى جمال الدين ، هما : القراءات المتنوعة للكتب والصحف والمجلات التي كانت ترد النجف من مختلف البلدان كمجلة العرفان والمقتطف والمقطم والهلال وغيرها من صحف العالم الاسلامي ، بالاضافة الى الصحف والمجلات التي كانت تنشر في النجف وثقافات الوافدين على النجف من مختلف الأقطار الاسلامية للتحصيل في مدارس النجف الدينية فقد ساعد هذان العاملان على بث روح المنطق والدرك المتقابل بالاضافة الى الجرأة والشجاعة في ابداء الرأي الصريح والنقد البنّاء مما يندر تحققه في المجتمعات المنغلقة والمتزمتة. والشواهد في هذا الصدد كثيرة ، أذكر على سبيل المثال موقف الشيخ صالح الجعفري(٢) الذي وجه نقداً لاذعاً لوفود المسلمين المجتمعين في مكة لاداء مناسك الحج ، مذكراً إيّاهم بصمود الزعيم الهندي ( غاندي ) في تحديه الاستعمار الذي قاد الى تحرير الهند. يقول مخاطباً :

قِفْ في ( مِنىً ) واهتفْ بمز

دحم القبائلِ والوفودِ

حُجّوا فلستم بالغين

بحجّكم شَرَفَ الهنودِ !

__________________

١ - للتوسع ينظر شعراء الغري ، ج ١٢ ، ص ٤٥٤ - ٤٨١.

٢ - صالح الجعفري ( ١٩٠٨ - ١٩٧٩ م ) أديب معروف وشاعر شهير. له ديوان شعر. ( شعراء الغري ، ج ٤ ، ص ٢٩٦ ).

٢٣

حَجُّوا الى استقلالهم

وَحَجَجتُم خوفَ الوعيد

وعبادة الأحرار أفـ

ـضلُ من إطاعاتِ العبيد !(١)

ولدى حديثنا عن الحياة الاجتماعية في النجف لابد أن نشير الى المرأة وموقعها الاجتماعي في هذه البيئة المحافظة. فالذي يتبادر الى الذهن للوهلة الاولى هو أنّ المرأة في المجتمع الاسلامي المحافظ ملتزمة بأحكام التشريع الاسلامي في حياتها الخاصة والعامة. ولعل المرأة النجفية اكثر نساء العراق التزاماً بأحكام الشريعة الاسلامية ، وذلك لرسوخ العقيدة الدينية في أوساط المجتمع النجفي وحرص أبنائه على توظيف الأحكام الإسلامية في شؤون الحياة كافّة.

كانت المرأة النجفية تشكل جزءاً من بيتها ، قلّما تختلط بغير ذويها الاّ في المناسبات الدينية والمآتم الحسينية التي تقيمها النساء ، أو في حفلات الأعراس. وكانت إذا أرادت الخروج من بيتها عند اقتضاء الحاجة لبست عباءة طويلة تستر تمام بدنها دون أن تُظهِر زينةً أو تحدِث إثارة. فهي تحرص على حجابها أشدّ الحرص وترى فيه سلامة دينها وكمال شخصيتها وتمام تربيتها وأخلاقها.

وحين ظهرت الدعوة إلى تعليم المرأة وإنشاء مدارس للبنات ، جوبهت في بادىء الأمر بمعارضة شديدة ورد فعلٍ عنيف من قِبَل الناس ، لأنهم كانوا يعتقدون بانّ خروج المرأة من بيتها وممارسة التعليم في الخارج يُبعدها عن القيم الأخلاقية السائدة والأعراف الاجتماعية الموروثة ممّا قد يؤدي في النهاية إلى

__________________

١ - مصطفى جمال الدين : الديوان ، ص ٢٣ ، ٢٤.

٢٤

فسادها وخروجها عن طريق العفّة والحياء.

ومع مرور الزمان انشق الناس في امر تعليم المرأة الى فريقين. فريق ايّد فكرة التعليم من خلال التمسك بالشريعة الاسلامية والمحافظة على الشؤون الدينية ، وفريق دعا الى التعليم من خلال تبرّج المرأة وسفورها. وقد لعب الشعراء دوراً هاماً في قيادة الفريقين. ففي النجف اهتم شعراؤها بفكرة التعليم من خلال محافظة المرأة على سترها وحجابها ، بينما راح بعض الشعراء كالرصافي والزهاوي يدعون الى فكرة التعليم من خلال تبرج المرأة وسفورها.

والجدير بالذكر انّ بعض علماء النجف أيّدوا مسألة تعليم المرأة وتحمسوا لهذه الفكرة شريطة أن تكون ضمن اطار التعاليم الاسلامية والأعراف الاجتماعية السائدة ، ومن اولئك الشيخ محمد رضا الشبيبي(١) الذي ضجّ من تفشي الجهل والخمول بين الفتيان والفتيات :

كم فتىً في العراقِ أضحى مُقلاًّ

من كمالٍ وكم فتاة مُقلَّه

ركسا في غيابة الجهل حتى

لم يسع جهلها المحيط وجهله

قد تربّى عن النهى مستقلاًّ

وتربت عن الحجا مستقلّه(٢)

وكذلك فعل الشيخ صالح الجعفري حين دعا الى تعليم المرأة ومناصرتها في إحقاق حقوقها المشروعة في المجتمع. يقول من قصيدة :

هذّبوها فانها بشر

لكمال الحياة تفتقر

__________________

١ - محمد رضا الشبيبي ( ١٨٨٧ - ١٩٦٥ م ) عالم أديب ، وسياسي وطني ، وشاعر معروف ، له ديوان شعر ومؤلفات في الدين والتاريخ والأدب. ( معجم رجال الفكر والأدب في النجف ، ج ٢ ، ص ٧١٨ ). [ بتصرف ].

٢ - ديوان الشبيبي ، ص ٥٥.

٢٥

النواميس بينكم شرع

فهي انثى وآخر ذكر

الكي تستحيل حامضة

في زوايا البيوت تدخر

كيف يعطي ثماره شجر

في الحصى والتراب منقبر

وأدوها وحقها غمطوا

ربي رحماك انّهم كفروا

زعموا انهم بها ربحوا

لا وعينيك إنهم خسروا

حواست جمع كن

أهملوها لو أنهم شعروا(١)

وقد تبارى غير واحد من الشعراء في هذا الشأن وطالبوا بتعليم المرأة واصلاح بعض النظم الاجتماعية. من بينهم الشاعر عبد المنعم الفرطوسي الذي راح ينتهز كل فرصة ليعلن ثورته على التقاليد السقيمة التي تجرّ البلاد والأمة الى الضياع والتهلكة :

أفيقوا يا بني وطني عجالا

فما يجدي الرقادُ النائمينا

وهبّوا فيه للاصلاح كيما

نراكم للتمدن ناهضينا

أليس ثقافة الجنسين فرضاً

تقوم به الرجال المصلحونا

وفي نور المعارف خير هادٍ

طريق يقتفيه السالكونا

جمالُ الشعب يوماً أن نراه

يسير الى الثقافة مستبينا

وانّ ثقافةَ الاحلام نورٌ

به يُهدى الشبابُ الواثبونا(٢)

وفي هذا الشأن أيضاً يقول الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي طالب بفتح مدرسة رسمية للبنات وذلك عام ١٩٢٩ م :

علّموها فقد كفاكم شنارا

وكفاها أن تحسب العلم عارا

__________________

١ - علي الخاقاني : شعراء الغري ، ج ٤ ، ص ٣١٣.

٢ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٩.

٢٦

وكفانا من التقهقر أنّا

لم نعالج حتى الأمور الصغارا

هذه حالنا على حين كادت

أمم الغرب تسبق الأقدارا

أنجب الشرق جامداً يحسب المر

أة عاراً ، وأنجبت طيارا

تحكم ( البرلمان ) من أمم الدنيـ

ـا نساء تمثل الأقطارا

ونساء العراق تمنع أن تر

سم خطاً أو تقرأ الأسفارا(١)

وهكذا استمرت الدعوات والمطالبات ردحاً من الزمن حتى أصبح تعليم المرأة أمراً أساسياً ، وحقاً من حقوقها المشروعة ، وجزءاً لا يتجزأ من بناء المجتمع المتحضر الذي يصبو إلى الكمال والحياة الفضلى.

٣ - الحياة السياسية :

شهد العراق منذ مطلع القرن العشرين ثلاثة من أنظمة الحكم : الحكم العثماني ، والحكم الملكي ، والحكم الجمهوري. والذي يهمنا في هذا البحث هو تسليط الضوء على الأجواء السياسية التي مرّ بها العراق في كل من العهدين الملكي والجمهوري ، حيث الفترة التي عاشها الشاعر وتأثر بأحداثها وتقلباتها السياسية. وتمهيداً للبحث لابد من الاشارة الى الخلفيات التاريخية للأحداث التي أطاحت بالنظام العثماني وأقامت على أنقاضه حكماً ملكياً في العراق.

خضع العراق منذ عام ١٥٣٤ م للهيمنة العثمانية مدة تقارب الأربعمائة سنة. وقد استمرت هذه الهيمنة حتى عام ١٩١٨ م حين اندلعت نيران الحرب العالمية الاولى ودخل الأتراك طرفاً مواجهاً للأنجليز وحلفائهم. فانجرّ العراق دون أن

__________________

١ - ديوان الجواهري ، ج ١ ، ص ٤٦٢.

٢٧

يشاء الى مواجهة المستعمر الجديد الذي راح يقتطع جزءاً فجزءاً من أراضيه ليعلنها مستعمرة له. وقد انبرى علماء الشيعة في النجف لهذا الاحتلال السافر وعاضدوا الأتراك بالرغم من الاضطهاد العنصري والطائفي الذي أعمله العثمانيون بحق الشيعة ، الاّ أنّ علماء الدين رأوا في الغزو البريطاني خطراً اكبر يهدد الاسلام والأمة الاسلامية ، فافتوا بوجوب الدفاع عن بيضة الاسلام والوقوف بجانب الأتراك ضد المحتل الانجليزي(١) . فاشتركت جموع غفيرة من مجاهدي النجف مع الجيش العثماني بقيادة علماء الدين ، أمثال السيد محمد سعيد الحبوبي(٢) ؟ الذي قاد جيشاً جرّاراً الى جبهة ( الشعيبة ) بالبصرة ، حيث أبلى بلاءً حسناً في مجابهة المحتل الغاصب.

لكن الأتراك لم يحفظوا هذا الصنيع لأهل النجف ، بل راحوا يطاردون الفارّين من الخدمة العسكرية ، ويوسعون الأهالي ظلماً وتنكيلاً ، بالاضافة إلى أنّهم قرروا مصادرة محتويات « الخزائن » الموجودة في العتبة المقدسة للانفاق على شؤون الحرب ، واجبار الشباب على الخدمة في الجيش. فبدأوا بتفتيش البيوت ليلاً وتعرضوا للنساء بحجة انّ الرجال كانوا يختفون بزي النساء تهرباً من الجندية. فضاق النجفيون ذرعاً بهذه الأعمال الشنيعة ، وهبّوا غاضبين ضد الأتراك ، وقاتلوهم قتالاً عنيفاً حتى استتب لهم الحكم في نهاية الأمر(٣) .

وظل الأتراك مطاردين من قبل الناس حتى انحسر ظلهم عن العراق تماماً

__________________

١ - جعفر آل محبوبة : ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٣٤١.

٢ - محمد سعيد الحبوبي ( ١٢٦٦ - ١٣٣٣ ه ) من علماء النجف المجتهدين ومن فحول الشعراء. له ديوان شعر وكتابات في الفقه والأصول. ( معجم رجال الفكر والادب في النجف ، ج ١ ، ص ٣٨٧ ).

٣ - جعفر الدجيلي : موسوعة النجف الأشرف ، ج ٤ ، ص ٢٩٤.

٢٨

يوم اعلنت الهدنة في الأول من تشرين الثاني عام ١٩١٨ م(١) وهكذا تم تقويض السلطة العثمانية لتحل محلها سلطة الانجليز التي لم تكن هي الأخرى بأقل من سابقتها ظلماً وعدواناً.

وعن هذه الفترة الانتقالية التي عاشها العراق يذكر الشيخ محمد رضا الشبيبي في قصيدة له بعنوان « شكوى وعتاب » سياسة الأتراك التعسفية ضد العراق وأبنائه ، وما آلت اليه هذه السياسة من تفشي الجهل والفساد في أوساط المجتمع :

لا الجبن ثار فأطغانا ولا البخل

الثائر الحقد بالأقوام والدخل

لو كان مابهم جبناً لما انتقموا

وفي طريق بلوغ النقمة الأجل

السيف قرّب منا كل قاصية

لا المنطق الفصل من قوم ولا الجدل

ماذا نؤمل في ادراك غايتنا

من السياسة كلاّ إنها حيل

يا من يعز علينا أن نؤنبهم

في حيث لا ينفع التأنيب والعذل

جفوتمونا وقلتم : نحن ساستكم

مُنىً مطيتها الإخفاق والفشل

كم تنبذون لنا ذنباً فنعذركم

لقد تقطعت الأعذار والعلل

أما صفحنا عن الماضي لأعينكم

أما أديلت لكم أيامنا الأول

أما استجيشت كما شئتم كتائبنا

حتى تفايض منها السهل والجبل

أما مشت تذرع الدنيا أما انقطعت

بها المتايه والغيطان والسبل

أما أطاعوا أما برّوا أما عطفوا

أما احتفوا بمواليهم أما احتفلوا

بالله لا تجرحوا أكبادنا ودعوا

جراح ( برقة ) و ( البلقان ) تندمل

ويتابع الشاعر سرد ممارسات العثمانيين حتى يصل الى قومه فيتحدث

__________________

١ - عبد الرزاق الحسني : العراق قديماً وحديثاً ، ص ٣٠.

٢٩

عنهم قائلاً :

قوم من العرب وخز النحل حظهم

وحظ قوم سوانا الأري والعسل(١)

عند المغانم لا ندعى ، ويفدحنا

من المغارم ثقل ليس يحتمل

تأبى الحوادث إلاّ أن نملكم

ولا - ودين التآخي - ما بنا ملل

أين الرهين بأموال لنا ذهبت

ومن يُقيد بإخوان لنا قتلوا(٢)

إمّا شهيد معلَّى فوق مشنقة

أو موثق بحبال الأسر معتقل

يا من بظل بني عثمان قد نشأوا

أضحيتم ، انّ ظل القوم منتقل(٣)

وأخذ النفوذ البريطاني يتسع شيئاً فشيئاً في ربوع العراق بعد أن سقط الجنوب وتمت السيطرة على بغداد. أمّا النجف فبقيت بأيدي أهلها سنتين كاملتين لم يتدخل البريطانيون في شؤونها. الاّ انهم عمدوا بعدها إلى ارسال ( الكابتن مارشال ) حاكماً على النجف مع عدد من الحراس والجنود. وقد كان هذا الحاكم سيّء المعاملة ، شديد التنكيل بأهالي النجف ، لم يترك اسلوباً في العنف والاضطهاد الاّ اقترفه. مما حدا بالنجفيين الى التفكير في الدفاع عن بلدهم والتخلص من أسر المحتل. فألّفوا ( جمعية سرية ) باشراف ثلة من علماء الدين على رأسهم السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ محمد جواد الجزائري(٤) وقد أسهمت هذه الجمعية مساهمة كبرى في إضرام نار الثورة وإشعال فتيلها ضد الغازي المحتل.

وفي ليلة يوم الثلاثاء الموافق ٦ جمادى الآخرة سنة ١٣٦٦ ه / ٩ آذار سنة ١٩١٨ م اجتمع عدد من ثوار الجمعية وقرروا القيام بعملية قتل الكابتن مارشال ،

__________________

١ - الأرْي : العسل. ( لسان العرب ، ج ١ ، ص ١٢٧ ).

٢ - يُقيد : من القَوَد بمعنى القصاص. ( لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٣٤٢ ).

٣ - ديوان الشبيبي ، ص ٢٧.

٤ - جعفر آل محبوبه : ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٣٤٤.

٣٠

وتم لهم ما ارادوا. وعلى اثر هذا الحادث تحركت حكومة بغداد فأرسلت جيشاً جراراً يضم خمساً وأربعين ألف جندي يقوده ( الكابتن بلفور ). فطوق المدينة بالجنود ، وحفر الخنادق ، وقطع عنها الماء ، وحاصرها من جميع الجهات. فدارت بين الثوار وجنود المحتلين معارك طاحنة حصدت من الطرفين نفراً كثيراً.

واستمر الحصار على البلدة أكثر من أربعين يوماً ، وأشرف الأهلون على مجاعة ، فطالبوا السلطة بفك الحصار والعفو عن الثوار ، الاّ انّ السلطة المحتلة فرضت لفك الحصار شروطاً لم يجد النجفيون بُداً من تنفيذها. وبذلك تم للبريطانيين الغلبة فقبضوا على قادة الثورة واعدموا منهم عدداً ونفوا آخرين.

وعن هذه الثورة وما ترتب عليها من معطيات ثمينة يقول جعفر آل محبوبة : « ونستطيع أن نقول بلا مجازفة إنّ ثورة النجف هذه هي الخطوة الأولى للقضية العراقية والبذرة الوحيدة لنتاج الفكرة الفراتية واتجاهها نحو استقلال العراق. إذ النجف هو المركز الروحي والعاصمة الكبرى لعموم الشيعة وقد أعطت بموقفها هذا درساً شافياً ومنهجاً واضحاً نفعها في نيل مآربها وتحقيق رغائبها في فك شعبها من رق الاستعمار. ومما ساعد على ذلك أن فكرة الحرية والاستقلال وإحياء المجد العربي قد تغلغلت في الأدمغة ونضجت وشعر بها أكثر العراقيين فلذلك نجحت نجاحاً باهراً وتقدمت تقدماً غريباً »(١) .

وقد وصف الشيخ محمد جواد الجزائري(٢) ثورة النجف بقصيدة رائعة قال فيها :

مددنا بصائرنا لا العيونا

وفزنا غداة عشقنا المنونا

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣٥٠.

٢ - محمد جواد الجزائري ( ١٢٩٨ - ١٣٧٨ ه ) عالم مجاهد ، وشاعر معروف. ( شعراء الغري ، ج ٧ ، ص ٣٥٠ ).

٣١

عشقنا المنون وهمنا بها

وعفنا أباطحنا والحجونا

وقمنا بها عزمات مضات

أبت أن نسيس الردى أو نلينا

هي الهمم الغر لم ترض بالسـ

ـماكين مهما استفزت قرينا(١)

رعينا بها سنة الهاشمي

نبي الدى ، والكتاب المبينا

وصنا كرامة شعب العراق

وكان لعلياه حصناً مصونا

وخضنا المعامع وهي الحمام

ندافع عن حوزة المسلمينا(٢)

وجحفل أعدائنا الانجليز

يملأ سهل الفلا والحزونا

إلى أن يقول :

وجزناكما شاء تلك الحزو

ن ننتظر الفتك حيناً فحينا

وأرجلنا طوع قيد الحديد

تسيل دماً يستفز الرصينا

ولم نلو للدهر جيد الذليل

وإن يكن الدهر حرباً زبوناً(٣)

وماضامنا الأسر في موقف

أطعنا عليه الرسول الأمينا

وما ضامنا ثقل ذاك الحديد

ونحن بحسن الثنا ظافرونا

ولم يُزْر بالحر غِلُّ اليدين

إذا ما قضى للعلاء الديونا(٤)

واستمر وهج الثورة في التأجج بالرغم من فشل ثورة النجف عام ١٩١٨. فكانت فكرة التحرر تأخذ مكانها يوماً بعد آخر في أذهان الناس. وبدأ العمل بالتمهيد لثورة عارمة تعم العراق كله ويشارك فيه الشعب بجميع شرائحه. ودائماً كانت النجف مركز انطلاق الثورة والفتيل الملتهب لجميع الانتفاضات.

__________________

١ - السماكان : نجمان نيّران. ( لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٣٦٩ ).

٢ - المعامع : شدة الحرب. ( لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ١٤٤ ).

٣ - حرب زَبُون : تَزْبِنُ الناس أي تصدِمُهم وتدفعهم. ( لسان العرب ، ج ٦ ، ص ١٦ ).

٤ - ديوان الجزائري ، ص ١٦.

٣٢

والنجف كما وصفها المؤرخ عبد الرزاق الحسني : « كانت قذىً في عين السياسة البريطانية بسبب مركزها الديني الواسع النطاق ، وتأثير علمائها في جماهير الشعب ، فقد كانت أول بلدة أحسّت بثقل السلطة الأجنبية ، وأول مدينة عراقية فكرت بالتخلص من الاستعمار البريطاني ، بالنظر الى ما كانت قد تشبعت به من روح الحرية والنزوع الى الديمقراطية ، وبسبب ما كانت تلقاه من دروس متواصلة عن فلسفة نهضة الامام أبي عبد الله الحسين بن عليعليهما‌السلام ، وبسبب كونها مهد العلماء ومركز الروحانية »(١) .

وبدأ التحرك السياسي للشعب بالمطالبة بحقوقه واستقلال بلاده وذلك عن طريق تنظيم المضابط والرسائل وارسالها الى سوريا والحجاز للنظر في الامر. الاّ أن ذلك لم يجد نفعاً ، فقررت الجهات العاملة في الحقل الوطني بمظاهرات سلمية تحت شعار الدين ، بمعنى أن تكون المناسبات الدينية وحفلات المولد النبوي اجتماعات سياسية لبحث القضية الوطنية والمطالبة بالحقوق المشروعة. واستمر هذا الغليان حتى كانت محاولة القبض على الزعماء السياسيين في بغداد في الثاني عشر من آب عام ١٩٢٠ م ، فتقرر القيام بالحركة المضادة(٢) .

وهكذا أخذ العمل السياسي ضد الانجليز يسير نحو التصعيد ، وبتوجيه من علماء الدين ، وخاصة بعد فتوى الامام محمد تقي الشيرازي التي جاء فيها : « المطالبة بالحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن ، ويجوز لهم التوسل بالقوة إذا امتنع الانجليز عن قبول مطالبهم »(٣) .

واندلعت الثورة العراقية الكبرى في الثلاثين من حزيران عام ١٩٢٠ والتي

__________________

١ - الثورة العراقية الكبرى ، ص ٦٩ ، ٧٠.

٢ - المصدر السابق ، ص ١٩٠.

٣ - عبد الصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص ٩٠.

٣٣

عرفت فيما بعد بثورة العشرين ، يقودها علماء الدين ورؤساء العشائر والزعماء السياسيون ومن خلفهم كافة شرائح المجتمع. وقد ساهم الشعراء والادباء وخاصة شعراء النجف مساهمة فعالة في إشعال لهب الثورة في أرجاء الوطن ، وتشجيع الأمة على المضي في ثورتها حتى النصر والظفر(١) .

ويعزو المؤرخ عبد الرزاق الحسني قيام ثورة العشرين الى عوامل خارجية وداخلية : فالمشروطية في ايران ( ١٩٠٥ م ) ، والانتفاضة الدستورية في تركية ( ١٩٠٨ م ) ، والثورة الحجازية عام ١٩١٦ م ، والوثبة المصرية في عام ١٩١٩ م ، وقيام الحكومة الفيصلية في الشام عام ١٩٢٠ م ، وعبث الحلفاء قبلئذ بالعهود التي قطعوها للعرب ، كانت كل هذه من المؤثرات الخارجية في الثورة العراقية. أمّا عواملها الداخلية فتكاد تنحصر بسوء الادارة المحتلة باضطهادها الشعب ، واحتياجات الجيش المحلية من جمع الطعام واستخدام وسائل النقل وتقييد التجوال والأسفار وتشغيل عمال المزارع في الجيش ، ومعاملة الناس بالخشونة ، وتولي العسكريين مهام رجال السياسة ورجال الادارة ، وسلب ثروة البلاد المعاشية(٢) .

وأدرك الانجليز خطورة الوضع وتفاقم الأزمة ، فعمدوا الى ضرب الثورة من الداخل عن طريق أساليب الغدر والخيانة وشراء الضمائر بالمال والمناصب. ولاشك ان عدم التكافؤ بين الطرفين في النواحي الاقتصادية والتكنيكية والعسكرية أدى إلى فشل الثورة - ان جاز لنا التعبير - لأن ثورة العشرين كما عبر عنها المؤرخ عبد الرزاق الحسني : « على الرغم من فشلها عسكرياً - نظراً الى

__________________

١ - محمد بحر العلوم : حصاد الأيام ، ص ٣٣٧.

٢ - الثورة العراقية الكبرى ، ص ١٣٤.

٣٤

التفوق البريطاني بما يملكه من أسلحة وجيش منظم وتجارب قتالية - اضافة الى عوامل الضعف في الحركات الوطنية العراقية ، قد نجحت سياسياً لايقاظها وعي الشعب بمختلف طبقاته وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما دفع بالانجليز الى اعطاء العراق حكماً شبه وطني بعد تأمين مصالحهم الرئيسية فيه »(١) .

وانتهت ثورة العشرين بعد مفاوضات طويلة استمرت بين الجانب الانجليزي وعلماء الدين الشيعة في النجف آلت في النهاية الى اقامة الحكم الوطني واختيار ملك عربي يحكم العراق. وقد وقع الأختيار على فيصل ابن الشريف حسين ليكون أول ملك للعراق وذلك في الثالث والعشرين من آب عام ١٩٢١ م(٢) .

الاّ ان الاضطرابات لم تخمد في عهد فيصل على الرغم من محاولاته إجراء الانتخابات وتشكيل المجلس التأسيسي ومن ثم المجلس النيابي ومجلس الوزراء بسبب الهيمنة البريطانيه على قرار العراق السياسي. فمنذ أن تسلَّم الملك الحكم وحتى وفاته في أيلول سنة ١٩٣٣ تم تشكيل عدة وزارات لم تدم سوى اشهر قلائل بسبب التدخل البريطاني في الشؤون الحكومية. وقد شهد العراق في العهد الفيصلي أحداثاً كبيرة يأتي في طليعتها انضمام العراق الى عصبة الامم سنة ١٩٣٢ م حيث انحسر ظل الانتداب - بالظاهر - ومنح العراق استقلاله(٣) .

وبعد وفاة الملك فيصل تُوّج نجله غازي ملكاً على العراق وذلك في الثامن

__________________

١ - المصدر السابق ، ص ٤٥٦.

٢ - مجلة الموسم : العددان ٩ - ١٠ ( ١٩٩١ م ) ، ص ١٨.

٣ - جعفر الدجيلي : موسوعة النجف الأشرف ، ج ٤ ، ص ٣٢٩.

٣٥

من أيلول سنة ١٩٣٣ م(١) . الاّ انّ هذا التتويج لم يلق ارتياحاً من قبل البريطانيين لما كانوا يعهدون في هذا الملك الشاب من تطلع نحو تحرر العراق الكامل من النفوذ الأجنبي.

وقد أكسبت طموحات الملك الشاب الوطنية والقومية التي جاءت منسجمة مع تطلعات الرأي العام العراقي ، تأثيراً شعبياً واسع النطاق ، ولكن من جانب آخر نال جفاء الانجليز وبعض الساسة العملاء الذين تضررت مصالحهم بسبب سياسة الملك الذي أراد ممارسة سلطاته الدستورية بصورة نظرية وواقعية(٢) .

وعندما أحست بريطانيا اصطدام مصالحها بسياسة الملك الوطنية والقومية حاولت التخلص منه بشتى الوسائل. وقد تسنى لها ذلك بمصرع الملك في حادث سير مدبر وذلك في الرابع من نسيان عام ١٩٣٩ م(٣) .

وبعد رحيل الملك غازي ، تُوّج نجله فيصل الثاني فأصبح ثالث ملك على العراق. ولصغر سنه تسلّم خاله الأمير عبد الاله مقاليد الحكم بالوصاية حتى سنة ١٩٥٣ م حيث تم تفويض السلطات الدستورية الى الملك.

وفي عهد الأمير عبد الاله عاش العراق فترة عسيرة من حياته. فقد كثرت فيها الاضطرابات وعلت صيحات الغضب الشعبي من جرّاء أساليب القمع والاضطهاد التي بلغت حداً لا يطاق. واستمرت هذه الحال حتى تم القضاء على الحكم الملكي في العراق وذلك في الرابع عشر من تموز عام ١٩٥٨ م بالثورة التي قادها عبد الكريم قاسم(٤) .

__________________

١ - لطفي جعفر فرج : الملك غازي ، ص ٦٣.

٢ - المصدر السابق ، ص ٢٧٧.

٣ - المصدر السابق.

٤ - عبد الرزاق محمّد أسود : موسوعة العراق السياسية ، ج ٤ ، ص ٤٣٤ ، ٤٣٥.

٣٦

انهى عبد الكريم قاسم بثورته سبعاً وثلاثين سنة من الحكم الملكي. وقد عوّل الشعب آمالاً كبيرة على هذه الثورة الاّ انها آلت في النهاية الى صراعات حادة واشتباكات عنيفة بين ضباط الثورة من جهة ، وبين الحركات السياسية التي ظهرت في عهد قاسم كحركة القوميين وحركة الشيوعيين من جهة اخرى. ولم يصمد عبد الكريم قاسم في سدّة الحكم سوى خمس سنين حيث تم القضاء عليه بانقلاب عسكري قام به عبد السلام عارف في الثامن من شباط عام ١٩٦٣ م(١) .

ولم يهدأ العراق بعد انقلاب عارف. فقد زج في دوامة من الانقلابات والصراعات العسكرية التي آلت في النهاية إلى مصرع عارف سنة ١٩٦٦ م وتسلّم أخيه عبد الرحمن عارف زمام السلطة. وقد بقي هذا الأخير في سدّة الحكم سنتين ثم اُجلي عن منصبه بعد أن تسلّم حزب البعث مقاليد الحكم في السابع عشر من تموز عام ١٩٦٨ م(٢) .

٤ - الحياة الثقافية :

احتلّت النجف مكانة علمية مرموقة ، وشهدت ازدهاراً ثقافياً متمّيزاً منذ أن حلَّ بها الشيخ الطوسي(٣) - في أواسط القرن الخامس الهجري - وأسس فيها جامعته الدينية الكبرى. ومن يومها ذاك أصبحت مدينة العلم التي يَؤمُّها الطلاب

__________________

١ - جمال مصطفى مردان : عبدالكريم قاسم ، البداية والسقوط ، ص ١٤٥.

٢ - عبدالوهاب الكيالي : موسوعة السياسة ، ج ٤ ، ص ٦٢.

٣ - أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي ( ٣٨٥ - ٤٦٠ ه ). شيخ الطائفة الامامية وزعيم العلماء والمجتهدين. له مؤلفات كثيرة منها : « الاستبصار » و « التهذيب » في الحديث ، و « التبيان في تفسير القرآن » ، و « المبسوط » في الفقه ، و « العدة » في الاصول ، ومؤلفات اخرى في الرجال والكلام والعقائد. ( معجم رجال الفكر والادب في النجف ، ج ٢ ص ٨٥٣ ).

٣٧

من كل حدب وصوب ، ويتقاطر عليها الوافدون من شتى أقطار العالم. وهي اليوم لا تزال مركزاً هاماً للدراسات الاسلامية وخاصة في علوم الفقه ، والاصول ، والفلسفة الاسلامية ، وتفسير القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، وكل ما يتعلق بقضايا العقيدة الاسلامية ، وشؤون الفكر الاسلامي.

واستمرت الحركة العلمية في هذه المدينة وأخذت تنشط وتتطور بفضل الجهود التي بذلها الشيخ الطوسي في تنسيق العلوم الدينية ، وتأليف الكتب الدراسية المختصة بها ، وتهذيب رجال اكفّاء تكون لهم القدرة الكافية على تدريس هذه العلوم ونشرها في أوساط المجتمع الاسلامي. وكم حفظت هذه المدينة وعبر مسيرتها العلمية الطويلة من أسماء لعلماء ومفكرين عظام كان لهم الدور الأكبر في بث الوعي الاسلامي وإثراء المكتبة الاسلامية بجلائل الكتب والمؤلفات.

ولم تكن جامعة النجف تتقيد بمحل خاص للدراسة ، فكثيراً ما كانت العلوم الدينية تدرّس في غرف الصحن العلوي وإيواناته ، بالإضافة الى حلقات الدرس التي كانت تشكل في المساجد والجوامع الكثيرة المنتشرة هنا وهناك والتي اتخذ طلاب العلوم الدينية من بعضها مركزاً للبحث والتدريس. ومن اهم هذه المساجد : مسجد الخضراء(١) ومسجد الهندي(٢) ومسجد الشيخ الطوسي(٣) .

__________________

١ - من المساجد القديمة البعيدة العهد. موقعه شرقي الصحن بالقرب من الجهة الشمالية. لا يعرف وجه تسميته بالخضراء ويمكن أن يكون أُحدث مع الحضرة الشريفة فعرف بمسجد الحضرة ثم صحّف ، أو كانت فيه خضرة فعرف بها. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٠٢ ).

٢ - أسس هذا المسجد في أوائل القرن الثالث عشر الهجري ، وهو فخم البناء واسع الساحة ، يقع في آخر سوق البزّازين قبالة الصحن الشريف. وانمّا سُمّي بالهندي لانّه كان والسوق المجاور له لعائلة ثرية هندية كانت تقطن النجف. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١١٧ ).

٣ - من المساجد القديمة ، كان داراً للشيخ الطوسي وبعد وفاته أوصى أن يدفن بها وأن تجعل مسجداً من بعده. وهو اليوم من أشهر مساجد النجف ، ويقع في محلّة « المشراق » من الجهة الشمالية من الصحن العلوي. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٠٤ ، ١٠٥ ).

٣٨

ومع اتساع المدينة وازدياد الطلاب الوافدين عليها باتت الحاجة ملحة الى بناء المدارس الدينية والمعاهد العلمية فكانت اوّل مدرسة دينية تبنى في النجف هي مدرسة « المقداد السيوري(١) » التي يعود تأسيسها الى أوائل القرن التاسع الهجري. وقد تغيّر اسمها بعد ذلك واصبحت تُعرف بالمدرسة السليمية نسبةً إلى بانيها سليم خان(٢) .

وعلى مرّ السنين والأيام كثرت المدارس الدينية في النجف وأخذت تنتشر انتشاراً واسعاً في أنحاء المدينة(٣) . ومن أشهر المدارس الدينية التي حظت بشهرة واسعة ولا تزال قائمة الى يومنا هذا : مدرسة الشربياني(٤) ، ومدرسة الاخوند الخراساني(٥) ، ومدرسة السيد محمّد كاظم اليزدي(٦) ، ومدرسة السيد البروجردي(٧) .

__________________

١ - جمال الدين أبو عبد الله المقداد بن عبد الله الحلي السيوري المتوفى سنة ٨٢٦ ه فقيه متكلم ومحقق متتبع. من مؤلفاته : « تفسير مغمضات القرآن » ، و « تجويد البراعة في شرح تجريد البلاغة ». ( معجم رجال الفكر والادب في النجف ، ج ٢ ، ص ٦٩٨ ).

٢ - جعفر آل محبوبه : ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٢٥ ، ١٢٦.

٣ - للتوسع ينظر المصدر السابق ، ج ١ ص ١٢٤ - ١٤٦ ، ودليل النجف ، ص ٧٠ - ٧٤.

٤ - من المدارس المشهورة في النجف ، أسسها الشيخ محمّد المعروف بالفاضل الشربياني المتوفى سنة ١٣٢٤ ه ، وهو من مشاهير علماء النجف. أختط مدرسته قبل وفاته بأربع سنين ، ولا تزال قائمة يسكنها بعض أهل العلم. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٣٣ ).

٥ - هي في الأصل مجموعة من المباني الفسيحة تمَّ بناؤها سنة ١٣٢١ ه بأمر من الشيخ محمّد كاظم الخراساني صاحب « الكفاية في الاصول » المتوفى سنة ١٣٢٩ ه. وتعد مدرسة الاخوند من أهم المدارس الدينية في النجف. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٣٦ ).

٦ - من اكبر المدارس الدينية في النجف أسسها الزعيم الديني السيد محمّد كاظم اليزدي ( ١٢٤٧ - ١٣٣٧ ). كان ابتداء تأسيسها سنة ١٣٢٥ ه ، وتم بناؤها سنة ١٣٢٧ ه. تقع في محلة « الحويش » في الشارع الذي فيه مدرسة الفاضل الشربياني. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٣٩ ).

٧ - من المدارس الفخمة التي بنيت بابداع معماري وفن هندسي رائع. أسسها المرجع الديني السيد حسين البروجردي سنة ١٣٧٣ ه وقد انشئت فيها مكتبة عامرة حافلة بالكتب العلمية والمخطوطات القديمة. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٤٣ ).

٣٩

ولم تكن الدراسة الدينية حينها وكذلك هي الحال اليوم تسير وفق نظام معيّن ومنهج تعليمي منسق كما في المدارس الحديثة « اذ لم تكن لمدارسها صفوف مرتبة يتدرج فيها الطالب ولا كتب مخصوصة مقررة للتدريس يلزم التلميذ بقراءتها بل هناك كتب قديمة وحديثة من كل فن يقرأُها الطالب بحسب ما تستجيده فكرة الاساتذة البارعين وترغب اليه طباعه وطباعهم من حيث الاتقان والتدرج من سهل الى صعب(١) ».

واستعراضاً للطريقة المتبعة في التعليم بالمدارس الدينية ، فإنّ الطالب كان يمّر من خلال دراسته بثلاث مراحل هي :

١ - المقدمات : ويدرس الطالب في هذه المرحلة الصرف ، والنحو ، والبلاغة ، والمنطق ، وكذلك مقدمات الفقه واصوله. أمّا أهم المواد المقررة للتدريس في هذه المرحلة ، ففي الصرف والنحو « شرح قطر الندى » لابن هشام ، و « شرح ابن عقيل » على ألفية ابن مالك. وفي البلاغة « المختصر » و « المطول » للتفتازاني ، وكذلك « جواهر البلاغة » للسيد احمد الهاشمي. وفي المنطق « حاشية ملا عبد الله » ، و « المنطق » للشيخ محمّد رضا المظفر. وفي الفقه « تبصرة المتعلمين » للعلامة الحلي ، و « شرائع الاسلام » للمحقق الحلي. وفي اصول الفقه كتاب « المعالم » للحسن بن زين الدين المعروف بالشهيد الثاني ، وكتاب « اصول الفقه » للشيخ محمّد رضا المظفر.

والطالب في هذه المرحلة يقضي فترة غير محدودة تمتد الى عدة سنوات يهيء نفسه الى الدخول في المرحلة الثانية وهي مرحلة التخصص في الفقه والأصول.

__________________

١ - جعفر آل محبوبه : ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٣٧٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا، واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين وشافهوه بذلك فأذن لهم وسمع قسّام فاضطرب وألقى ما بيده، واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسّام فأمن الجميع. وولى على البلد أميراً اسمه خطلج، فدخل البلد وذلك في المحرم سنة اثنتين وسبعين (وثلاثمائة). ثم اختفى قسّام بعد يومين، فنهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقياً بنفسه على بلتكين فقبله، وحمله إلى مصر فأمنه العزيز. وكان بكجور في غَوِيَّة من غلمان سيف الدولة وعامله على حمص. وكان يمدّ دمشق أيام هذه الفتنة والغلاء، ويحمل الأقوات من حمص إليها، ويكاتب العزيز بهذه الخدم.

ثم استوحش سنة ثلاث وسبعين (وثلاثمائة) من مولاه أبي المعالي فاستنجز من العزيز وعده إياه بولاية دمشق، وصادف ذلك أن المغاربة بمصر أجمعوا على التوثّب بالوزير ابن كلس، ودعت الضرورة إلى استقدام بلتكين من دمشق، فأمره العزيز بالقدوم وولاية بكجور على دمشق ففعل، ودخلها بكجور في رجب من سنة ثلاث وسبعين (وثلاثمائة)، وعاث في أصحاب ابن كلس وحاشيته بدمشق؛ لما كان يبلغه عنه من صدّ العزيز عن ولايته، ثم أساء السيرة في أهل دمشق فسعى ابن كلس في عزله عند العزيز.

وجهّز العساكر سنة ثمان وسبعين (وثلاثمائة) مع منير الخادم، وكتب إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته. وجمع بكجور العرب وخرج للقائه، فانهزم. ثم خاف من وصول نزال فاستأمن لهم وتوجَّه إلى الرقّة فاستولى عليها، ودخل منير دمشق واستقرّ في ولايتها.

وارتفعت منزلته عند العزيز وجهّز لحصار سعد الدولة بحَلب. وكان بكجور بعد انصرافه من دمشق إلى الرقة سأل من سعد الدولة العود إلى ولاية حمص فمنعه فأجلب عليه، واستنجد العزيز لحربه وبعث إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته فسار إليه بالعساكر، وخرج سعد الدولة من حَلب للقائهم، وقد أضمر نزال الغدر ببكجور، تقدّم إليه بذلك عيسى بن نسطورس وزير العزيز بعد ابن كلس. وجاء سعد الدولة للقائهم، وقد استمدّ عامل أنطاكية للروم فأمدّه بجيش كثير وداخل العرب الذين مع بكجور في الانهزام عنه، ووعدوه ذلك من أنفسهم، فلمّا تراءى الجمعان وشعر بكجور بخديعة العرب استمات، وحمل على الصفّ بقصد سعد

١٦١

الدولة فقتل لؤلؤ الكبير مولاه بطعنه إيّاه، ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه، فسار إلى بعض العرب، وحمل إلى سعد الدولة فقتله، وسار إلى الرقّة فملكها وقبض جميع أمواله، وكانت شيئاً لا يعبَّر عنه. وكتب أولاده إلى العزيز يستشفعون به فشفع إلى سعد الدولة فيهم أن يبعثهم إلى مصر، ويتهدّده على ذلك، فأساء سعد الدولة الردّ، وجهّز لحصار حَلب الجيوش مع منجوتكين فنزل عليها وحاصرها، وبها أبو الفضائل ابن سعد الدولة ومولاه لؤلؤاً الصغير، وأرسلا إلى سبيل ملك الروم يستنجدانه، وهو في قتال بلغار، فبعث إلى عامل أنطاكية أن يمدّهما، فسار في خمسين ألفاً حتى نزل حبس العاصي، وبلغ خبره إلى منجوتكين فارتحل عن حَلب، ولقي الروم فهزمهم وأثخن فيهم قتلاً وأسراً. وسار إلى انطاكية وعاث في نواحيها، وخرج أبو الفضائل في مغيب منجوتكين إلى ضواحي حَلب، فنقل ما فيها من الغلال وأحق بقيتها لتفقد عساكر منجوتكين الأقوات.

فلما عاد منجوتكين إلى الحصار جهز عسكره، وأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي في الصلح، فعقد له ذلك، ورحل منجوتكين إلى دمشق.

وبلغ الخبر إلى العزيز فغضب. وكتب إلى منجوتكين بالعود إلى حصار حَلب وإبعاد الوزير المغربي، وأنفذ الأقوات للعسكر في البحر إلى طرابلس. وأقام منجوتكين في حصار حَلب، وأعادوا مراسلة ملك الروم فاستنجدوه وأغروه، وكان قد توسط بلاد البلغار، فعاد مُجدّاً في السير. وبعث لؤلؤ إلى منجوتكين بالخبر حذراً على المسلمين، وجاءته جواسيسه بذلك فأجفل بعد أن خرّب ما كان اتخذه في الحصار من الأسواق والقصور والحمامات.

ووصل ملك الروم إلى حَلب ولقي أبا الفضائل ولؤلؤاً، ثم سار في الشام وافتتح حمص وشيزر ونهبهما، وحاصر طرابلس أربعين يوماً، فامتنعت عليه، وعاد إلى بلاده، وبلغ الخبر إلى العزيز فعظم عليه، واستنفر الناس للجهاد، وبرز من القاهرة وذلك سنة إحدى وثمانين. ثم انتقض منير في دمشق فزحف إليه منجوتكين إلى دمشق)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص١٠٨ إلى ص١١٤.

١٦٢

أخبار الوزراء

(كان وزير المُعزّ لدين الله، يعقوب بن يوسف بن كلس أصله من اليهود وأسلم، وكان يدبّر الأحوال الاخشيديّة بمصر، وعزله أبو الفضائل بن الفرات سنة سبع وخمسين، وصادره فاستتر بمصر، ثم فرّ إلى المغرب، ولقي المُعزّ لدين الله، وجاء في ركابه إلى مصر، فاستوزره وعظم مقامه عنده، واستوزره بعده ابنه العزيز إلى أن تُوفِّي سنة ثمانين، وصلّى عليه العزيز وحضر دفنه، وقضى عنه دَينه. وقسّم عمله فردّ النظر في الظلامات إلى الحسن بن عمّار كبير كتامة، وردّ النظر في الأموال إلى عيسى بن نسطورس، ولم تزل الوزارة سائر دولتهم في أرباب الأقلام، وكانوا بمكان، وكان منهم البارزي. وكان مع الوزارة قاضي القضاة وداعي الدعاة. وسأل أن يرسم اسمه على السكة فغرب ومنع، ومات قتيلاً بتنيس، وكان منهم أيضاً أبو سعيد النسري، وكان يهودياً وأسلم قبل وزارته والجرجاني، وقد قطع في أمر منع من الكتب فيه، فكتب وحلف الحاكم بيمين لا تُكفَّر لَيُقَطِّعَنَّه. ثم ردّه بعد ثلاث وخلع عليه وابن أبي كُدَيْنة ثلاثة عشر شهراً. ثم صرف وقتل. وأبو الطاهر بن ياشاد، وكان من أهل الدين واستعفى فأُعفي، وأقام معتكفاً في جامع مصر، وسقط ليلة من السطح فمات. وكان آخرهم الوزير أبو القاسم بن المغربي، وكان بعده بدر الجيالي أيّام المستنصر وزير سيف الدولة، واستبدّ له على الدولة، ومن بعده منهم كما يأتي في أخبارهم)(١) .

أخبار القضاة

(كان النُعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حَيُّون في خطة القضاء للمُعِزّ بالقَيْرَوان، ولّما جاء إلى مصر أقام بها في خطَّة القضاء إلى أن تُوفِّي، وولي ابنه عليّ، ثم تُوفِّي سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، فولّى العزيز أخاه أبا عبد الله محمداً، خلع عليه وقلّده سيفاً. وكان المُعزّ قد وعد أباه بقضاء ابنه محمد هذا بمصر، وتمَّ في سنة تسع وثمانين أيام الحاكم. وكان كبير الصيت، كثير الحسَّان، شديد الاحتياط في العدالة،

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١١٥، ١١٦.

١٦٣

فكانت أيامه شريفة. وولي بعده ابن عمه أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن النعمان أيام الحاكم، ثم عُزِل سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وقُتِل وأُحرِق بالنار، وولي مكانه ملكة بن سعيد الغارقي إلى أن قتله الحاكم سنة خمس وأربعمائة بنواحي القصور، وكان عالي المنزلة عند الحاكم ومداخلاً له في أمور الدولة، وخالصة له في خلواته.

وولّى بعده أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوّام، واتصل في آخرين إلى آخر دولتهم، كان كثيراً ما يجمعون للقاضي المظالم والدعوة فيكون داعي الدعاة، وربما يُفْردون كلاًّ منهما. وكان القاضي عندهم يصعد مع الخليفة المنبر مع من يصعده من أهل دولته عندما يخطب الخلفاء في الجُمَع والأعياد)(١) .

وفاة المُعزّ وولاية ابنه الحاكم:

(قد تقدّم أنّ العزيز استنفر الناس للجهاد سنة إحدى وثمانين (وثلاثمائة)، وبرز في العساكر لغزو الروم، ونزل بلبيس فاعتورته الأمراض، واتصلت به إلى أن هلك آخر رمضان سنة ست وثمانين لإحدى عشرة سنة ونصف السنة من خلافته، ولُقِّب الحاكم بأمر الله، واستولى برجوان الخادم على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولته، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمَّار ويُلَقَّب بأمين الدولة، وتغلَّب على ابن عمار؛ وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم.

ونكر منجوتكين تقديم ابن عمار في الدولة، وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك، فأظهر الانتقاض، وجهّز العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح، فلقيهم بعسقلان، وانهزم منجوتكين وأصحابه، وقتل منهم ألفين، وسيق أسيراً إلى مصر، فأبقى عليه ابن عمار، واستماله للمشارقة. وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، ويُكنّى أبا تميم، فبعث من طبرية أخاه عليّاً إلى دمشق فامتنع أهلها فكاتبهم أبو تميم، وتهدّدهم وأذعنوا، ودخل على البلد ففتك فيهم.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١١٦.

١٦٤

ثم قدّم أبو تميم فأمّن وأحسن، وبعث أخاه عليّاً إلى طرابلس، وعزل عنها جيش بن الصمصامة، فسار إلى مصر، وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمار وأعيان كتامة، وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة، نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة ونَكْبَةِ أخيه شرف الدولة إيّاه، فخلص إلى العزيز فقرّبه، وحظي عنده فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة. وثارت الفتنة، واقتتل المشارقة والمغاربة، فانهزمت المغاربة، واختفى ابن عمار، وأظهر برجان الحاكم وجدّد له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح فنهب، ونهبت خزائنه، واستمرّ القتل في كتامة واضطربت الفتنة بدمشق، واستولى الأحداث. ثم أذن برجوان لابن عمّار في الخروج من أستاره، وأجرى له أرزاقه على أن يقيم بداره.

واضطرب الشام، فانتقض أهل صور، وقام بها رجل ملاّح اسمه العلاقة، وانتقض مفرج بن دغفل بن الجرّاح، ونزل على الرملة وعاث في البلاد.

وزحف (الدوقس) ملك الروم إلى حصن أفامِيَة محاصراً لها. وجهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة، فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدون، وجهّز أسطولاً في البحر، واستنجد العلاقة ملك الروم فأنجده بالمقاتلة في المراكب، فظفر بهم أُسطول المسلمين، واضطرب أهل صور وملكها ابن حمدان وأسر العلاقة، وبعث به إلى مصر فسلخ وصلب، وسار جيش بن الصمصامة إلى الفرج بن دغفل فهرب أمامه، ووصل إلى دمشق وتلقاه أهلها مذعنين، وأحسن إليهم وسكنهم، ورفع أيدي العدوان عنهم. ثم سار إلى أفامية وصافّ الروم عندها، فانهزم أوّلاً هو وأصحابه، وثبت بشارة الأخشيدي بن قرارة في خمسمائة فارس، ووقف الدوقس ملك الروم على رابية في ولده، وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين فقصد كردي من مصاف الأخشيدي، وبيده عصا من حديد يُسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمناً، فلمّا دنا منه ضربه بالخشت فقتله، وانهزم الروم واتبعهم جيش بن الصمصامة إلى أنطاكية يغنم ويسبي ويُحرِق، ثم عاد مظفراً إلى دمشق فنزل بظاهرها ولم يدخل واستخلص رؤساء الأحداث استحجبهم، وأُقيم له الطعام في كل يوم، وأقام على ذلك برهة. ثم أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب الحجرة عليهم،

١٦٥

ويوضع السيف في سائرهم، فقتل منهم ثلاثة آلاف، ودخل دمشق وطاف بها، وأحضر الأشراف فقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم، وبعث بهم إلى مصر، وأمن الناس. ثم إنه تُوفِّي وولي محمود بن جيش، وبعث برجوان إلى بسيل ملك الروم فصالحه لعشر سنين، وبعث جيشاً إلى بَرْقَة وطرابلس الغرب ففتحها وولّى عليها يانساً الصقلّي، ثم ثقل مكان برجوان على الحاكم فقتله سنة تسع وثمانين، وكان خصيّاً أبيض، وكان له وزير نصراني استوزره الحاكم من بعده.

ثم قتل الحسين بن عمّار، ثم الحسين بن جوهر القائد، ثم جهّز العساكر مع يارختكين إلى حَلب، وقصد حسَّان بن فرج الطائي، لما بلغ من عيثه وفساده، فلما رحل من غزوه إلى عسقلان لقيه حسَّان وأبوه مفرج فانهزم وقتل، ونهبت النواحي، وكثرت جموع بني الجرّاح وملكوا الرملة، واستقدموا الشريف أبا الفتوح الحسن بن جعفر أمير مكة، فبايعوه بالخلافة. ثم استمالهما الحاكم ورغّبهما فرداه إلى مكة، وراجعا طاعة الحاكم، وراجع هو كذلك، وخطب له بمكة. ثم جهّز الحاكم العساكر إلى الشام مع علي بن جعفر بن فلاح، وقصد الرملة، فانهزم حسَّان بن مفرج وقومه، وغلبهم على تلك البلاد واستولى على أموالهم وذخائرهم، وأخذ ما كان لهم من الحصون بجبل السراة، ووصل إلى دمشق في شوّال سنة تسعين (وثلاثمائة)، فملكها واستولى عليها، وأقام مفرج وابنه حسَّان شريدين بالقفر نحواً من سنتين، ثم هلك مفرج وبعث حسَّان ابنه إلى الحاكم فأمنه وأقطعه، ثم وفد عليه بمصر فأكرمه ووصله)(١) .

خروج أبي ركوة ببرقة والظفر به:

(كان أبو رَكْوَةَ هذا يزعم أنّه الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمان الداخل، وأنه هرب من المنصور بن أبي عامر حين تتبَّعهُم بالقتل وهو ابن عشرين سنة، وقصد القيروان فأقام بها يعلِّم الصبيان، ثم قصد مصر وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن والشام؛ وكان يدعو للقائم من ولد أبيه هشام، واسمه الوليد، وإنما لقبه أبا ركوة لأنه كان يحملها

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص١١٧ إلى ١٢٠.

١٦٦

لوضوئه على عادة الصوفية. ثم عاد إلى نواحي مصر ونزل على بني قُرَّة من بادية هلال بن عامر، وأقام يعلِّم الصِبيان ويؤمهم في صلاتهم. ثم أظهر ما في نفسه ودعا للقائم.

وكان الحاكم قد أسرف في القتل في أصناف الناس وطبقاتهم، والناس معه على خطر، وكان قتل جماعة من بني قرّة وأحرقهم بالنار لفسادهم، فبادر بنو قرّة، وكانوا في أعمال بَرْقَة فأجابوه وانقادوا له وبايعوا. وكان بينهم وبين لواتة ومزاتة وزناتة جيرانهم في الأصل حروب ودماء فوضعوها، واتفقوا على بيعته)(١) .

وملخص بدء أمره في الخروج ونهايته أنه مكن له بمن انضم إليه من بني قرة وسواهم من القبائل أن خرج على الحاكم إلى أن اضطر لسوق العسكر إليه، ووقعت بينه وبينهم معارك انتهت بالانتصار عليه وقبضه وحمله إلى القاهرة وموته قبل الوصول إليها وذلك سنة سبع وتسعين وثلاثمائة.

بقية أخبار الحاكم:

(كان الحسن بن عمّار زعيم كتامة مدبِّر دولته، وكان بَرْجُوانُ خادمه وكافله، وكان بين الموالي والكِتامِيِّين في الدولة منافسة. وكان كثيراً ما يفضي إلى القتال. واقتتلوا سنة سبع وثمانين (وثلاثمائة). وأركب المغاربة ابن عمّار، والموالي برجوان، وكانت بينهم حروب شديدة. ثم تحاجزوا واعتزل ابن عمّار الأمور، وتخلّى بداره عن رسومه وجراياته، وتقدّم برجوان بتدبير الدولة. وكان كاتب بن فِهْر بن إبراهيم يربِّع(٢) وينظر في الظلامات، ويطالعه، وولّى على برقة يَأْنَس صاحب الشرطة مكان صندل. ثم قتل برجوان سنة تسع وثمانين (وثلاثمائة)، ورجع التدبير إلى القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر، وبقي ابن فهر على حاله.

وفي سنة تسعين وثلاثمائة انقطعت طرابلس عن منصور بن بَلْكين بن زيري صاحب أفريقية، وولّى عليها يأْنس العزيزي من موالي العزيز، فوصل

____________________

(١) نفسه: م٤ ص١٢١، ١٢٢.

(٢) ربع الحبل: فتله من أربع طاقات، ولا محلّ لها هنا. ولعلها كلمة عاميّة بمعنى (تربّع) جلس على ركبتيه.

١٦٧

إليها، وأمكنه عامل المنصور منها، وهو عَصولة بن بَكّار. وجاء إلى الحاكم بأهله ووُلْده وماله وأَطلق يد يأْنس على مخلَّفه بطرابلس، يقال: له من الولد نيف وستون بين ذكر وأُنثى، ومن السراري خمس وثلاثون. فتُلُقي بالمَبَرَّة وهُيِّئَ له القصور، ورتب له الجِراية وقلَّده دمشق وأعمالها، فهلك بها لسنة من ولايته.

وفي سنة اثنتين وتسعين (وثلاثمائة) وصل الصريخ من جهة فلفلول بن خَزْرون المُغراوِيّ في ارتجاع طرابلس إلى منصور بن بلكين، فجهَّزت العساكر مع يحيى بن علي الأندلسي الذي كان جعفر أخوه عامل الزاب للعُبَيْديّين، ونزع إلى بني أمية وراء البحر. ولم يزل هو وأخوه في تصريفهم إلى أن قتل المنصور بن أبي عامر جعفراً منهما، ونزع أخوه يحيى إلى العزيز بمصر فنزل عليه، وتصرف في خدمته، وبعثه (إِلآن) الحاكم في العساكر لما قدَّمناه، فاعترضه بنو مُرّة ببرقة ففضُّوا جموعه، ورجع إلى مصر، وسار يأْنس من برقة إلى طرابلس فكان من شأنه مع عصولة ما ذكرناه.

وبعد وفاة عصولة ولي على دمشق مُفْلِج الخادم، وبعده عليّ بن فلاح سنة ثمان وتسعين (وثلاثمائة).

وبعد مسير يأْنس ولّى على برقة صَنْدَل الأسود. وفي سنة ثمان وتسعين (وثلاثمائة) عزل الحسين بن جوهر القائد، وقام بتدبير الدولة صالح بن علي بن صالح الروباذِيّ، ثم نكب حسين القائد بعد ذلك وقتل، ثم قتل صالح بعد ذلك، وقام بتدبير الدولة الكافي بن نصر بن عبدون، وبعده زَرْعَة بن عيسى بن نسطورس، ثم أبو عبد الله الحسن بن طاهر الوزان، وكثر عيث الحاكم في أهل دولته، وقتله إيّاهم، مثل الجرجراي(١) وقطعه أيديهم، حتى إن كثيراً منهم كانوا يهربون من سطوته، وآخرون يطلبون الأمان فيكتب لهم به السجلاّت. وكان حاله مضطرباً إلى الجور والعدل، والإخافة والأمن، والنسك والبدعة.

وأمّا ما يرمى به من الكفر، وصدور السجلات بإسقاط الصلوات فغير

____________________

(١) الجرجراي: أحد الوزراء.

١٦٨

صحيح، ولا يقوله ذو عقل، ولو صدر من الحاكم بعض ذلك لقُتل لوقته.

وأما مذهبه في الرافضة فمعروف، ولقد كان مضطرباً فيه مع ذلك، فكان يأَذْن في صلاة التراويح ثم ينهى عنها، وكان يرى بعلم النجوم ويؤثره، ويُنقل عنه أنه منع النساء من التصرف في الأسواق، ومنع من أكل الملوخيا؛ ورفع إليه أن جماعة من الروافض تعرّضوا لأهل السُنّة في التراويح بالرجم، وفي الجنائز فكتب في ذلك سجلاً قرئ على المنبر بمصر كان فيه:

(أما بعد: فإن أمير المؤمنين يتلو عليكم آية من كتاب الله المبين، لا إكراه في الدِّين، الآية. مضى أمس بما فيه، وأتى اليوم بما يقتضيه. معاشر المسلمين، نحن الأئمة، وأنتم الأُمة، لا يحلّ قتل من شهد الشهادتين، ولا يحلّ عروة بين اثنين، تجمعها هذه الأخوّة، عصم الله بها من عصم، وحرم لها ما حرم، من كل محرّم، من دم ومال ومنكح، الصلاح والأصلح بين الناس أصلح، والفساد والإفساد بين العباد يستقبح، يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر، ويعرض عما انقضى فلا يُذْكر. ولا يُقَبل على ما مرّ وأدبر، من إِجراء الأمور على ما كانت عليه في الأيام الخالية أيّام آبائنا الأئمة المهتدين، سلام الله عليهم أجمعين، مهديهم بالله، وقائمهم بأمر الله، ومنصورهم بالله، ومُعزّهم لدين الله).

وهو إذ ذاك بالمهدية والمنصورية، وأحوال القيروان تجري فيها ظاهرة غير خفية، ليست بمستورة عنهم ولا مطوية. يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون، ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ومفطرون. صلاة الخمس للدين بها جاءهم فيها يصلون، وصلاة الضحى وصلاة التروايح لا مانع لهم منها ولا هم عنها يدفعون، يخمِّس في التكبير على الجنائز المخمِّسون، ولا يمنع من التكبير عليها المربعون. يؤذّن بحيّ على خير العمل المؤذّنون، ولا يُؤْذى من بها لا يُؤذّنون. لا يُسب أحد من السلف، ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف، والخالف فيهم بما خلف، لكل مسلم مجتهد في دينه واجتهاده، وإلى الله ربه ميعاده، عنده كتابه، وعليه حسابه. ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم، لا يَسْتَعْلي مسلم بما اعتقده، ولا يعترض معترض على صاحبه فيما اعتمده من جميع ما نصّه أمير المؤمنين في سجله هذا.

١٦٩

وبعد قوله تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُم مَن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كُتِبَ في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة)(١) .

وفاة الحاكم وولاية الظاهر

(ثم تُوفِّي الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نِزار قتيلاً ببركة الحبش بمصر، وكان يركب الحمار ويطوف بالليل، ويخلو بدار في جبل المقطم للعبادة، ويقال: لاستنزال روحانية الكواكب. فصعد ليلة من الليالي لثلاث بقين من شوّال سنة إحدى عشرة (وأربعمائة)، ركب على عادته ومشى معه راكبان فردّهما واحداً بعد آخر في تصاريف أموره. ثم افتُقِد ولم يرجع، وأقاموا أيّاماً في انتظاره. ثم خرج مظفّر الصقلِّي والقاضي وبعض الخواص إلى الجبل فوجدوا حماره مقطوع اليدين، واتبعوا أثره إلى بركة الحبش فوجدوا ثيابه مزررة، وفيها عدّة ضربات بالسكاكين، فأيقنوا بقتله. ويقال: بلغه عن أخته أنّ الرجال يتناوبون بها فتوعَّدها، فأرسلت إلى ابن دُواس من قواد كتامة، وكان يخاف الحاكم فأغرته بقتله، وهوّنته عليه، لما يرميه به الناس من سوء العقيدة، فقد يهلك الناس ونهلك معه. ووعدته بالمنزلة والإقطاع، فبعث إليه رجلين فقتلاه في خلوته.

ولمّا أيقنوا بقتله اجتمعوا إلى أخته ستّ الملك فأحضرت عليّ بن دُواس، وأجلس عليّ بن الحاكم صبيّاً لم يناهز الحُلُم، وبايع له الناس ولُقّب الظّاهر لإِعزاز دين الله، ونفذت الكتب إلى البلاد بأخذ البيعة له، ثم حضر ابن دُواس من الغد، وحضر معه القوّاد فأمرت ستّ الملك خادمها فعلاه بالسيف أمامهم حتى قتله، وهو ينادي بأثر الحاكم، فلم يختلف فيه اثنان، وقامت بتدبير الدولة أربع سنين، ثم ماتت.

وقام بتدبير الدولة مِعْضاد وتافر بن الوزان، وولي وزارته أبو القاسم علي بن أحمد الجرجراي وكان متغلِّباً على دولته، وانتقض الشام خلال

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص١٢٣ إلى ص١٢٧.

١٧٠

ذلك، وتغلّب صالح بن مرداس من بني كِلاب على حَلب، وعاث بنو الجراح في نواحيه، فبعث الظاهر سنة عشرين وأربعمائة قائده الزريريّ إلى فلسطين في العساكر وأوقع بصالح بن الجراح، وقُتل صالح وابنه وملك دمشق. وملك حَلب من يد شبل الدولة نصر بن صالح وقتله، وكان بينه وبين بني الجرّاح قبل ذلك وهو بفلسطين حروب؛ حتى هرب من الرملة إلى قيسارية فاعتصم بها، وأخرب ابن الجراح الرملة وأحرقها، وبعث السرايا فانتهت إلى العريش، وخشي أهل بَلْبيس وأهل القُرافَة على أنفُسِهم فانتقلوا إلى مصر، وزحف صالح بن مرداس في جموع العرب لحصار دمشق وعليها يومئذ ذو القرنين ناصر الدولة بن الحسين، وبعث حسَّان بن الجراح إليهم بالمدد، ثم صالحوا صالح بن مرداس، وانتقل إلى حصار حَلب، وملكها من يد شعبان الكتامي وجردت العساكر من الشام مع الوزيري، وملك دمشق وأقام بها)(١) .

وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر

(ثم تُوفِّي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن علي بن الحاكم منتصف شعبان سنة سبع وعشرين (وأربعمائة) لست عشرة سنة من خلافته، فولي ابنه أبو تميم معدّ، ولُقِّب المستنصر بأمر الله، وقام بأمره وزير أبيه أبو القاسم علي بن أحمد الجرجراي، وكان بدمشق الوزيري واسمه أقوش تكين(٢) ، وكانت البلاد صلحت على يديه لعدله ورفقه وضبطه، وكان الوزير الجرجراي يحسده ويبغضه، وكتب إليه بإيعاد كاتبه أبي سعيد فأنفذ إليه أنه يحمل الوزيري على الانتقاض، فلم يجب الوزيري إلى ذلك، واستوحش، وجاء جماعة من الجند إلى مصر في بعض حاجاتهم فداخلهم الجرجراي في التوثّب به، ودسّ معهم بذلك إلى بقية الجند بدمشق فتعلّلوا عليه. فخرج إلى بَعْلَبَكَّ سنة ثلاث وثلاثين (وأربعمائة)، فمنعه عاملها من الدخول فسار إلى حماة فمنع أيضاً فقوتل، وهو خلال ذلك ينهب، فاستدعى بعض أوليائه من كفر طاب، فوصل إليه في ألفي رجل، وسار إلى حَلب فدخلها

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص١٢٧ إلى ص١٢٩.

(٢) كذا، وفي الكامل ج٨ ص٣٢: أنوشتكين الدزبري نائب المستنصر بالله صاحب مصر بالشام.

١٧١

وتُوفِّي بها في جمادى الآخرة من السنة.

وفسد بعده أمر الشام وطمع العرب في نواحيه وولّى الجرجراي على دمشق الحسين بن حمدان فكان قصارى أمره منع الشام.

وملك حسَّان بن مُفَرِّج فلسطين، وزحف مُعزّ الدولة بن صالح الكِلابي إلى حَلب فملك المدينة وامتنع عليه أصحاب القلعة، وبعثوا إلى مصر للنجدة فلم ينجدهم فسلموا القلعة لمعزّ الدولة بن صالح فملكها)(١) .

مَسيرُ العرب إلى أفريقية

(كان المعزّ بن باديس قد انتقض دعوة العُبَيْديّين بأفريقية، وخطب للقائم العباسي، وقطع الخطبة للمستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدّده. ثم إنه استوزر الحسين بن عليّ التازوري بعد الجرجراي، ولم يكن في رتبته، فخاطبه المعزّ دون ما كان يخاطب من قبله كان يقول في كتابه إليهم: عبده، ويقول في كتاب التازوري: صنيعته، فحقد ذلك، وأغرى به المستنصر وأصلح بين زغبة ورياح من بطون هلال، وبعثهم إلى أفريقية وملكهم كل ما يفتحونه، وبعث إلى المعزّ: (أمّا بعد فقد أرسلنا إليك خيولاً، وحملنا عليها رجالاً فحولاً، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً).

فساروا إلى برقة فوجدوها خالية؛ لأن المعزّ كان أباد أهلها من زِناتَةَ، فاستوطن العرب برقة واحتقر المُعزّ شأنهم، واشترى العبيد واستكثر منهم، حتى اجتمع له منهم ثلاثون ألفاً.

وزحف بنو زُغْبَة إلى طرابلس فملكوها سنة ست وأربعين (وأربعمائة)، وجازت رياح الأَتبح، وبنو عدي إلى أفريقية فأضرموها ناراً، ثم سار أمراؤهم إلى المعزّ وكبيرهم مؤنس بن يحيى من بني مرداس من زياد، فأكرمهم المعزّ، وأجزل لهم عطاياه فلم يُغن شيئاًَ. وخرجوا إلى ما كانوا عليه من الفساد، ونزل بأفريقية بلاء لم ينزل بها مثله. فخرج إليهم المعزّ في جموعه من صنهاجة والسودان نحواً من ثلاثين ألفاً، والعرب في

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٢٩، ١٣٠.

١٧٢

ثلاثة آلاف فهزموه وأثخنوا في صنهاجة بالقتل واستباحوهم. ودخل المعزّ القيروان مهزوماً. ثم بيَّتهم يوم النحر، وهم في الصلاة فهزموه أعظم من الأولى. ثم سار إليهم بعد أن احتشد زناتة معه فانهزم ثالثة، وقتل من عسكره نحو من ثلاثة آلاف. ونزل العرب بمصَلّى القيروان، ووالوا عليهم الهزائم، وقتلت منهم أمم. ثم أباح لهم المعزّ دخول القيروان للميرة فاستطالت عليهم العام فقتلوا منهم خلقاً، وأدار المُعزّ السور على القيروان سنة ست وأربعين (وثلاثمائة)، ثم ملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة سنة ست وأربعين (وثلاثمائة). وأمر المعز أهل القيروان بالانتقال إلى المهديَّة للتحصين بها، وولّى عليها ابنه تيما سنة خمس وأربعين (وثلاثمائة)، ثم انتقل إليها سنة تسع وأربعين (وثلاثمائة).

وانطلقت أيدي العرب على القيروان بالنهب والتخريب، وعلى سائر الحصون والقرى.

ثم كانت الخطبة للمستنصر ببغداد على يد البساسيري من مماليك بني بُوَيْه عند انقراض دولتهم، واستيلاء السلجوقية)(١) .

مقتل ناصر الدولة بن حمدان بمصر

(كانت أمّ المستنصر متغلّبة على دولته، وكانت تصطنع الوزراء وتولّيهم، وكانوا يتخذون الموالي من التُّرك للتغلّب على الدولة، فمن استوحشت منه أغرت به المستنصر فقتله، فاستوزرت أوّلاً أبا الفتح الفلاحي، ثم استوحشت منه فقبض عليه المستنصر وقتله، ووزر بعده أبا البركات حسن بن محمد وعزله. ثم ولّى الوزارة أبا محمد التازوري من قرية بالرملة تُسمّى تازور، فقام بالدولة إلى أن قُتل. ووزر بعده أبو عبد الله الحسين بن البابلي، وكان في الدولة من موالي السودان ناصر الدولة بن حمدان، واستمالوا معهم كتامة والمَصامِدَة. وخرج العبيد إلى الضياع واجتمعوا في خمسين ألف مقاتل، وكان التُّرك ستة آلاف، وشكوا إلى المستنصر فلم يشكهم، فخرجوا إلى غرمائهم والتقوا بكوم الريش، وأكمن

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص١٣٠ إلى ص١٣٢.

١٧٣

التُّرك للعبيد ولقوهم فانهزموا، وخرج كمينهم على العبيد، وضربوا البوقات والكاسات فارتاب العبيد وظنوه المستنصر فانهزموا وقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفاً. وفدى التُّرك وتغلّبوا، وعظم الافتراء فيهم فخلت الخزائن، واضطربت الأمور، وتجمّع باقي العسكر مع الشام وغيره إلى الصعيد، واجتمعوا مع العبيد، وكانوا خمسة عشر ألفاً، وساروا إلى الجيزة فلقيهم التُّرك، وعليهم ناصر الدولة بن حمدان فهزموهم إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والتُّرك ظافرين.

واجتمع العبيد في الصعيد، وحضر التُّرك بدار المستنصر فأمرت أمه العبيد بالدار أن يفتكوا بمقدّمي التُّرك ففعلوا وهربوا إلى ظاهر البلد، ومعهم ناصر الدولة، وقاتل أولياء المستنصر فهزمهم، وملك الإسكندرية ودمياط وقطع الخطبة منهما ومن سائر الريف للمستنصر. وراسل الخليفة العباسي ببغداد، وافترق الناس من القاهرة. ثم صالح المستنصر ودخل القاهرة واستبدّ عليه، وصادر أُمه على خمسين ألف دينار، وافترق عنه أولاده وكثير من أهله في البلاد. ودسّ المستنصر لقوّاد التُّرك بأنه يحوّل الدعوة فامتعضوا لذلك، وقصدوه في بيته، وهو آمن منهم، فلما خرج إليهم تناولوه بسيوفهم حتى قتلوه وجاءوا برأسه، ومرّوا على أخيه في بيته فقطعوا رأسه، وأتوا بهما جميعاً إلى المستنصر، وذلك سنة خمس وستين (وثلاثمائة)، وولّى عليهم الذّكر منهم وقام بأمر الدولة)(١) .

استيلاء بدر الجمالي على الدولة:

(أصل بدر هذا من الأرمن من صنائع الدولة بمصر ومواليها، وكان حاجباً لصاحب دمشق، واستكفاه فيما وراء بابه. ثم مات صاحبُ دمشق، فقام بالأمور إلى أن وصل الأمير على دمشق، وهو ابن منير، فسار هو إلى مصر وترقّى في الولايات إلى أن وليَ عكا، وظهر منه كفاية واضطلاع، ولمّا وقع بالمستنصر ما وقع من استيلاء التُّرك عليه، والفساد والتضييق، واستقدم بدراً الجمالي لولاية الأمور بالحضرة، فاستأذن في الاستكثار من الجند لقهر من تغلَّب من جند مصر فأذن له في ذلك. وركب البحر من عكا

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٣٢، ١٣٣، ١٣٤.

١٧٤

في عشرة مراكب، ومعه جند كثيف من الأرمن وغيرهم، فوصل إلى مصر، وحضر عند الخليفة، فولاّه ما وراء بابه، وخلع عليه بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق، ولقبّه بالسيّد الأجل أمير الجيوش، مثل والي دمشق، وأضيف إلى ذلك كافل قضاة المسلمين، وداعي دعاة المؤمنين، ورتب الوزارة وزاده سيفه ورد الأمور كلها إليه، ومنه إلى الخليفة، وعاهده الخليفة على ذلك، وجعل إليه ولاية الدعاة والقضاة، وكان مبالغاً في مذهب الإمامية، فقام بالأمور واستردّ ما كان تغلّب عليه أهل النواحي مثل ابن عمّار بطرابلس، وابن معروف بعسقلان وبني عقيل بصور.

ثم استردّ من القواد والأمراء بمصر جميع ما أخذوه أيام الفتنة من المستنصر من الأموال والأمتعة. وسار إلى دمياط، وقد تغلّب عليها جماعة من المفسدين من العرب وغيرهم فأثخن في لَواتَة بالقتل والنهب في الرجال والنساء، وسبى نساءهم، وغنم خيولهم، ثم سار إلى جهينة ومعهم قوم من بني جعفر فلقيهم على طرخ العليا سنة تسع وستين (وثلاثمائة)، فهزمهم، وأثخن فيهم، وغنم أموالهم، ثم سار إلى أسوان وقد تغلّب عليها كنز الدولة محمد فقتله وملكها، وأحسن إلى الرعايا ونظم حالهم وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، وعادت الدولة إلى أحسن ما كانت عليه)(١) .

استيلاء الغز على الشام وحصارهم مصر:

(كان السلجوقية وعساكرهم من الغز قد استولوا في هذا العصر على خُراسان والعراقين وبغداد، وملكهم ظُغْرُلْبَك، وانتشرت عساكرهم في سائر الأقطار، وزحف (أتسز بن أنز) من أمراء السلطان ملك شاه وسماه الشاميون أَفْسَفْس، والصحيح هذا، وهو اسم تركي، هكذا قال ابن الأثير.

فزحف سنة ثلاث وثلاثين، بل وستين، ففتح الرملة ثم بيت المقدس، وحاصر دمشق وعاث في نواحيها، وبها المُعَلّى بن حيدرة، ولم يزل يوالي عليها البعوث إلى سنة ثمان وستين.

وكثر عسف المُعلّى بأهلها مع ما هم فيه من شدّة الحصار فثاروا به،

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٣٤، ١٣٥.

١٧٥

وهرب إلى بلسيس، ثم لحق بمصر فُحبس إلى أن مات، ولما هرب من دمشق اجتمعت المصامدة وولوا عليهم انتصار بن يحيى منهم ولقّبوه وزير الدولة. ثم اضطربوا مما هم فيه من الغلاء، وجاء أمير من القدس فحاصرهم حتى نزلوا على أمانه، وأنزل وزير الدولة بقلعة بانياس، ودخل دمشق في ذي القعدة، وخطب فيها للمقتدي العباسي، ثم سار إلى مصر سنة تسع وستين فحاصرها وجمع بدر الجمالي العساكر من العرب وغيرهم، وقاتله فهزمه، وقتل أكثر أصحابه، ورجع أتسز منهزماً إلى الشام، فأتى دمشق، وقد صانوا مخلّفه فشكرهم ورفع عنهم خراج سنة تسع وستين وجاء إلى بيت المقدس فوجدهم قد عاثوا في مخلّفه، وحصروا أهله وأصحابه في مسجد داود (عليه السلام)، فحاصرهم ودخل البلد عَنوَةً، وقتل أكثر أهله حتى قتل كثيراً في المسجد الأقصى.

ثم جهّز أمير الجيوش بدر الجمالي العساكر من مصر مع قائده نصير الدولة فحاصر دمشق، وضيّق عليها، وكان ملك السُلجوقيّة السلطان ملك شاه قد أقطع أخاه (تُتُش) سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام وما يفتحه منها، فزحف إلى حَلب وحاصرها وضيّق عليها، ومعه جموع كثيرة من التُّركمان، فبعث إليه أتسز من دمشق يستصرخه فسار إليه، وأجفلت عساكر مصر عن دمشق، وخرج أتسز من دمشق للقائه فقتله وملك البلد، وذلك سنة إحدى وسبعين (وأربعمائة).

وملك (ملك شاه) بعد ذلك حَلب، واستولى السُلجوقية على الشام أجمع، وزحف أمير الجيوش بدر الجمالي من مصر في العساكر إلى دمشق، وبها تاج الدولة تُتُش، فحاصره وضيّق عليه، وامتنع عليه، ورجع، وزحفت عساكر مصر سنة اثنتين وثمانين (وأربعمائة) إلى الشام فاسترجعوا مدينة صور من يد أولاد القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، كان أبوهم قد انتزى عليها، ثم فتحوا مدينة صيدا ثم مدينة جبيل. وضبط أمير الجيوش البلاد وولّى عليها العُمّال. وفي سنة أربع وثمانين (وأربعمائة) استولى الفرنج على جزيرة صقلّية، وكان أمير الجيوش قد ولّى على مدينة صور منير الدولة الجيوش من طائفته فانتقض سنة ست وثمانين (وأربعمائة)، وبعث إليه أمير الجيوش العساكر فثار به أهل المدينة، واقتحمت عليهم العساكر، وبعث منير الدولة إلى مصر في جماعة من أصحابه فقُتلوا كلهم.

١٧٦

ثم تُوفِّي أمير الجيوش بدر الجمالي سنة سبع وثمانين (وأربعمائة) في ربيع الأول لثمانين سنة من عمره. وكان له موليان أمين الدولة لاويز ونصير الدولة أفتكين، فلمّا قضى بدر نحبه استدعى المستنصر لاويز ليقلِّده، فأنكر ذلك أفتكين، وركب في الجند وشغبوا على المستنصر، واقتحموا القصر، وأسمعوه خشن الكلام، فرجع إلى ولاية ولد بدر، وقدّم للوزارة ابنه محمداً الملك أبا القاسم شاه، ولقّبه بالأفضل مثل لقب أبيه. وكان أبو القاسم بن المقري رديفاً لبدر في وزارته بما كان اختصه لذلك، فولّى بعد موته الوزارة القاسم بالدولة، وجرى على سنن أبيه في الاستبداد.

وكانت وفاة المستنصر قريباً من ولايته)(١) .

وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعلي:

(ثم تُوفِّي المستنصر معدّ بن الظاهر يوم التروِيَة سنة سبع وثمانين (وأربعمائة) لستين سنة من خلافته، ويقال: لخمس وستين بعد أن لقي أهوالاً وشدائد، وانفتقت عليه فتوق استهلك فيها أمواله وذخائره حتى لم يكن له إلا بساطه الذي يجلس عليه، وصار إلى حد العزل والخلع، حتى تدارك أمره باستقدام بدر الجمالي من عكا، فتقوّم أمره ومكنه في خلافته.

ولما مات خلّف من الولد أحمد ونزاراً وأبا القاسم. وكان المستنصر فيما يقال: قد عهد لنزار، وكانت بينه وبين أبي القاسم الأفضل عداوة فخشي بادرته، وداخل عمته في ولاية أبي القاسم، على أن تكون لها كفالة الدولة، فشهدت بأن المستنصر عهد له بمحضر القاضي والداعي، فبويع ابن ستّ، ولُقِّب المستعلي بالله، وأُكره أخوه الأكبر على بيعته، ففرّ إلى الإسكندرية بعد ثلاث، وبها نصير الدولة أَفْكين مولى بدر الجمالي الذي سعى للأَفضَل، فانتقض وبايع لنزار بعهده، ولُقِّب المصطفى لدين الله. وسار الأفضل بالعساكر وحاصرهم بالإسكندرية، واستنزلهم على الأمان وأعطاهم اليمين على ذلك، وأركب نزاراً السفن إلى القاهرة وقتل بالقصر.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص١٣٦ إلى ص١٣٨.

١٧٧

وجاء الأفضل ومعه أَفْتكين أسيراً، فأحضره يوماً ووبّخه، فهمّ بالردّ عليه فقتل بالضرب بالعصي، وقال: لا يتناول اليمين هذه للقتلة، ويقال: إِنّ الحسين بن الصبَّاح رئيس الإسماعيلية بالعراق قصد المستنصر في زيّ تاجر، وسأله إقامة الدعوة له ببلاد العجم فأذن له بذلك. وقال له الحسن: مَن إِمامي من بعدك؟ فقال: ابني نزار. فسار ابن الصبَّاح ودعا الناس ببلاد العجم إليه سراً، ثم أظهر أمره، وملك القلاع هنالك مثل قلعة الموت وغيرها. وهم من أجل هذا الخبر يقولون بإمامة نزار؛ ولما ولي المستعلي خرج ثغر عن طاعته ووليَ عليه واليه كشيلَة، وبعث المستعلي العساكر فحاصره، ثم اقتحموا عليه، وحملوه إلى مصر فقُتل بها سنة إحدى وتسعين وأربعمائة.

وكان (تُتُش) صاحب الشام قد مات، واختلف بعده ابناه رضوان ودقاق، وكان دقاق بدمشق ورضوان بحَلب، فخطب رضوان في أعماله للمستعلي بالله أياماً قلائل، ثم عاود الخطبة للعباسيين)(١) .

استيلاء الفرنج على بيت المقدس:

(كان بيت المقدس قد أقطعه تاج الدولة تُتُش للأمير سُليمان بن أرتق التُّركمانيّ، وقارن ذلك استفحال الفرنج واستطالتهم على الشام، وخروجهم سنة تسعين وأربعمائة، ومرّوا بالقِسْطَنْطِينيّة وعبروا خليجها، وخلى صاحب القِسْطَنْطِينيّة سبيلهم ليحولوا بينه وبين صاحب الشام من السُلجُوقيّة والغُزّ، فنازلوا أوّلاً انطاكية فأخذوها من يد (باغيسيان) من قواد السلجوقية، وخرج منها هارباً فقتله بعض الأرمن في طريقه وجاء برأسه إلى الفرنج بأنطاكية.

وعظم الخطب على عساكر الشام، وسار (كربوقا) صاحب الموصل فنزل مرج دابق، واجتمع إليه دقاق بن تُتُش وسليمان بن أرتق، وطَغْتَكين أتابك صاحب حمص وصاحب سنجار، وجمعوا من كان هنالك من التُّرك والعرب وبادروا إلى أنطاكية لثلاثة عشر يوماً من حلول الفرنج بها. وقد اجتمع ملوك الفرنج ومقدمهم (بنميد)، وخرج الفرنج وتصادموا مع

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص ١٣٨ إلى ص١٤٠.

١٧٨

المسلمين، فانهزم المسلمون، وقتل الفرنج منهم ألوفاً، واستولوا على معسكرهم، وساروا إلى مَعرّة النُعمان وحاصروها أياماً، وهربت حاميتها، وقتلوا منها نحواً من مائة ألف، وصالحهم ابن مُنْقِذ على بلده شيزر، وحاصروا حِمْص فصالحهم عليها جناح الدولة.

ثم حاصروا عكَّة فامتنعت عليهم، وأدرك عساكر الغزّ من الوهن ما لا يعبر عنه، فطمع أهل مصر فيهم، وسار الأفضل بن بدر بالعساكر لاسترجاع بيت المقدس، فحاصرها، وبها سُقْمان وأبو الغازي، ابنا أرتق، وابن أخيهما (ياقوتي) وابن عمهما (سوتج)، ونصبوا عليها نيفاً وأربعين منجنيقاً، وأقاموا عليها نيّفاً وأربعين يوماً، ثم ملكوها بالأمان في سنة تسعين (وأربعمائة).

وأحسن الأفضل إلى سُقْمان وأبي الغازي ومن معهما، وخلّى سبيلهم، فسار سقمان إلى بلد الرَها وأبو الغازي إلى بلد العراق، وولّى الأفضل على بيت المقدس، ورجع إلى مصر.

ثم سارت الفرنج إلى بيت المقدس وحاصروه نيفاً وأربعين يوماً، ونصبوا عليه برجين، ثم اقتحموه من الجانب الشمالي لسبع بقين من شعبان، واستباحوه أُسبوعاً ولجأ المسلمون إلى مِحْراب داود (عليه السلام) واعتصموا به إلى أن استنزلهم الفَرَنْج بالأمان، وخرجوا إلى عسقلان، وقتل بالمسجد عند الشجرة سبعون ألفاً، وأخذوا من المسجد نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة، يزن كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة، وتنوراً من الفضة يزن أربعين رطلاً بالشامي، ومائة وخمسين قنديلاً من الصُفر وغير ذلك مما لا يحصى.

وأجفل أهل بيت المقدس وغيرهم من أهل الشام إلى بغداد، باكين على ما أصاب الإسلام ببيت المقدس من القتل والسَبي والنهب.

وبعث الخليفة أعيان العلماء إلى السلطان (بَرْكَيارُق) وأخوته محمد (وسنجر) بالمسير إلى الجهاد فلم يتمكّنوا من ذلك، للخلاف الذي كان بينهم. ورجع الوفد مؤيسين(١) من نصرهم.

____________________

(١) كذا بالأصل والأصح: آيسين.

١٧٩

وجمع الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر، وسار إلى الفرنج، فساروا إليهم وكبسوهم على غير أُهبة فهزموهم، وافترق عسكر مصر، وقد لاذوا بِخُمّ الشعْراء هناك فأضرموها عليهم ناراً فاحترقوا وقُتِل من ظَهر، ورجع الفرنج إلى عسقلان فحاصروها حتى أنزلوا لهم عشرين ألف دينار فارتحلوا)(١) .

وفاة المستعلي وولاية ابنه الآمر:

(ثم تُوفِّي المستعلي أبو القاسم أحمد بن المستنصر منتصف صفر سنة خمس وتسعين (وأربعمائة) لسبع سنين من خلافته، فبويع ابنه أبو علي ابن خمس سنين، ولُقِّب الآمر بأحكام الله، ولم يلِ الخلافة فيهم أصغر منه، ومن المستنصر فكان هذا لا يقدر على ركوب الفرس وحده)(٢) .

هزيمة الفرنج لعساكر مصر:

(ثم بعث الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر لقتال الفرنج مع سعد الدولة الفراسي أميراً، مملوك أبيه، فلقي الفرنج بين الرملة ويافا، ومقدّمهم بغدوين فقاتلهم، وانهزم وقتل، واستولى الفرنج على معسكره، فبعث الأفضل ابنه شرف المعالي في العساكر، فبارزهم قرب الرملة وهزمهم، واختفى بغدوين في الشجر، ونجا إلى الرملة مع جماعة من زعماء الفرنج، فحاصرهم شرف المعالي خمسة عشر يوماً حتى أخذهم، فقتل منهم أربعمائة صبراً. وبعث ثلاثمائة إلى مصر، ونجا بغدوين إلى يافا. ووصل في البحر جموع من الفرنج للزيارة فندبهم بغدوين للغزو، وسار بهم إلى عَسْقَلان، فهرب شرف المعالي وعاد إلى أبيه. وملك الفرنج عَسْقَلان، وبعث العساكر في البَرّ مع تاج العجم مولى أبيه إلى عسقلان، وبعث الأسطول في البحر إلى يافا مع القاضي ابن قادوس، فبلغ إلى يافا، واستدعى تاج العجم وحبسه، وبعث جمال الملك من مواليه إلى عسقلان مقدّم العساكر الشاميّة. ثم بعث الأفضل سنة ثمان وتسعين (وأربعمائة) ابنه

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٤٠، ١٤١، ١٤٢.

(٢) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٤٢، ١٤٣.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391