تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني10%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135249 / تحميل: 11817
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مقدّمةالمؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

الله تعالى أحمد، وأصلي وأسلم على خاتم رسله أحمد، وعلى أوصيائه ما لاح في السماء فرقد، وما هزج طائر على أفنانه وغرّد.

وبعد فقد كنت شرعت عام ١٣٤٠هـ بتأليف كتاب تنتظم دفتاه تاريخ الشيعة الديني والسياسي على أثر هزات هنا وهناك تنتقص قدر هذه الفرقة من فرق المسلمين بمؤلفات فيها الكثير مما عُزي إلى الإمامية، ولم يكن مما تعتقده وهي منه براء. وما كان على مؤلفي تلك الكتب في عصر الطباعة إلا الرجوع إلى ما هو في متناولهم من المؤلفات المطبوعة المنشورة، وجلها الصريحة ذات العقيدة الصحيحة، لتسلم مؤلفاتهم من معرّة ما يجافي الحق والحقيقة ولا يأتي بخير اللهم إلا تفريق صفوف المسلمين في عصر هم أحوج فيه إلى تأليف الكلمة والوقوف صفاً واحداً للذود عن حياض كرامتهم وعزة دينهم المتين، ويا حبذا لو التف كل مسلم غيور طالب إحقاق الحق حول لواء جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية المؤسسة لهذا الغرض النبيل في مصر، ولا نذكر جامعة الأزهر إلا بخير، والأزهر الشريف الخالد المشيدة دعائمه منذ ألف عام ونيّف للقيام برسالتي العلم والدين وأدائهما حق الأداء والقضاء المبرم على التعصبات المذهبية لم يفرّط بمهمته، ومهمته الكبرى في هذا العصر أن يقضي على تلك المنازعات، وجلها وليد السياسات التي انتهى أجلها وأزيحت عللها.

فجامعة الأزهر مفروض على علمائها أن ينهضوا بكل ما يعزّز

٢١

الجامعة الإسلامية ويصلوا ما أمر الله به أن يوصل من إزاحة علل التفرق.

وبعد فإن من إثارة تلك المجادلات التي فتح بابها الموصد على مصراعيه فريق من كتاب مصر ومن غير مصر أن نشأت فوضى جدلية اختلط فيها الحابل بالنابل، وخاض غمارها كثير ممن لم يؤت الحكمة والاعتدال، ومن خدم سياسة الأجنبي عن قصد أو غير قصد. ولا ننقص بعض المؤلفين حقهم، فكانوا من المنصفين، وكانوا من الحريصين على قطع خط الرجعة على المفرقين، ومنهم مؤلف كتاب السنة والشيعة من علماء بيروت العاملين، وفريق من أعلام الكتّاب المصريين. وكان من مستغلّي تلك البلبلة وهي سلاح ماضي الحدين فريق من كتبة الفرنج، ومنهم مؤلف (عقيدة الشيعة) الذي حشا كتابه بكل ما هو أشبه بالعبادات من اتصاله بالاعتقادات والمأخوذ عن العامة لا عن الخاصة، ولم يكن فيه أثر للتمحيص، فيتبيّن الرشد من الغيّ والصحيح من الفاسد. وإذا كان نفر من المسلمين أنفسهم من ينتهج هذا الطريق، ولا يكلف نفسه التحقيق، فأي ملام على الأجنبي، وجل اعتماده وما يهدف إليه ما يمكن لدولته استغلال كل ما يوهن قوة من يطمح في إخضاعه لسلطانه، والنفر المولعون بالجدل البيزنطي هم أعوانه وأنصاره من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، ومن حيث يقصدون أو لا يقصدون.

وكأن الشيعة وخاصة الإمامية نكرة مجهولة وكتب اعتقاداتها المنشورة ملء مكاتب الشرق والغرب محتاجة إلى التعريف، وهو من الباحثين كقاب قوسين أو أدنى ولا يكلفهم عناء كثيراً.

فنهض بهذه المهمة إمام من أئمة الإمامية فألف رسالة (أصل الشيعة وأصولها) ألا وهو المرحوم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي وهو من كبار المدرسين ومن المراجع في التقليد، فكانت رسالة على اختصارها جامعة لكل ما يهم الباحث الوقوف عليه من عقائد الشيعة، وطبعت عدة مرات كما نقلت إلى كثير من اللغات الأجنبية، وتلقى مؤلفها العظيم تقاريظ كثيرة من علماء المسلمين على اختلاف المذاهب ومن المستشرقين إلى ما في تلك الرسالة من دعوة إلى التقرّب الإسلامي.

وفي احتدام تلك المعمعة الجدلية، وفيما حامَ حول الشيعة من الظنون، وما عزي إلى الإمامية منهم ما لم يعتقدوه دار في خُلدي على قلة

٢٢

المصادر أن أفرد كتاباً بالتأليف في تاريخ الشيعة الديني والسياسي تاركاً تدوين تاريخها الأدبي، وقد حفلت به الكتب القديمة والحديثة وفي هذا العصر، وقد أُلف فيه موسوعتان جليلتان الأولى (أعيان الشيعة) للإمام العلاّمة المرحوم السيد محسن الأمين العاملي، والثانية لإمام عصره في التأليف العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني النجفي (طبقات أعلام الشيعة في مختلف العصور إلى العصر الحاضر)، وهناك موسوعة ثالثة وهي (الطليعة في شعراء الشيعة) لمؤلفها المتتبع الضليع العلامة الشيخ محمد طاهر السماوي، وللعلامة الإمام السيد حسن الصدر الكاظمي كتاب جليل في موضوع مؤلفي الشيعة سماه (تأسيس الشيعة الكرام) وقد طبع مختصره، وللعلامة الشيخ علي آل كاشف الغطاء والد الشيخ محمد الحسين مؤلف كتاب (أصل الشيعة وأصولها) الآنف الذكر كتاب (طبقات الشيعة)، هذا ولست في صدد إحصاء المؤلفات الشيعية الأدبية المتعذر علي، فأكتفي بهذه الجملة، وها أنا أشرع في تدوين مباحث الكتاب مستمداً منه تعالى التُوفِّيق والتسديد في القول والعمل وعليه الاتكال. واتّباعاً للطريقة المألوفة عند العلماء المؤلفين لسهولة دراسة مؤلفاتهم على مختلف أهدافها وموضوعاتها من التبويب رتبت كتابي هذا على كتابين الأول وينطوي على معتقدات الإمامية، ويتناول ما يتّسع له المجال من الفروق بينها وبين معتقدات بعض فرق الشيعة المخالفة لها وينسب إليها منه ما هي منه براء.

والكتاب الثاني وهو (تاريخ الشيعة السياسي) ويشمل دول الشيعة على اختلاف المذاهب ممن يشملهم هذا الاسم، وعلى خاتمة تتضمن دعوة المسلمين كافة إلى التحرر من التعصب الممقوت للمذهب والعقيدة والذي أدّى إلى ذهاب ريحهم وتفرقهم قِدداً، وانتقاص أطراف ملكهم الواسع، وصيّرهم خولاً لمن كانوا لهم أتباعاً، وجنوا من ثمرات ذلك التنازع ما أطمع فيهم الغريب، وهم في هذا العصر أحوج منهم في كل العصور إلى التضامن والتآزر وترك التنازع فيما لا يجدي، وهو آية الفشل في ميادين الحياة، وإلى الاعتصام بعروة العقيدة الإسلامية الجامعة التي هي فوق الشبهات والأهواء، وقى الله تعالى المسلمين شر التفرق الذي أدّى بهم إلى الضعف، وجمعهم على التناصر والتظافر وإعلاء دين الله الإسلام، والله مع الجماعة.

٢٣

٢٤

الفكرة الشيعية

أسبابها - انتشارها

٢٥

٢٦

نأتي في هذا الجزء من كتابنا تاريخ الشيعة وهو تاريخها السياسي على مقدمة نشرح فيها الأسباب التي جعلت للشيعة كياناً سياسياً قام على منابذة السياسة الأموية، ثم على مناجزة السياسة العباسية، وكان من جهادها السياسي المستتر في عهد هاتين الدولتين تحت ستار التكتم والتقية، أن قام للشيعة دول في المشرق والمغرب كان القائمون على سلطانها في أول الأمر رجالاً من العلويين من بني الحسن والحسين، ومن العباسيين يوم انتشر دعاة الشيعة من العلويين والعباسيين في مختلف الأمصار الإسلامية، يدعون متحدين للفريقين. على أن الدعوة العباسية لم تكن في ظاهرها إلا دعوة للعلويين، ولم يطل العهد حتى أثمرت هذه الدعوة ثمرة اقتطفها بنو العباس، وما كان هؤلاء وقد آل إليهم السلطان وخلافة الإسلام أعطف على العلويين من الأمويين، ولا أقلّ تنكّراً لهم من أولئك، ممّا كان من أثره قيام دولة علوية في الشرق وأُخرى في الغرب الأفريقي والأندلسي من الأدارسة من بني الحسن، ومن الفاطميين من بني الحسين. ثم كان للشيعة في عهد انحلال الدولة العباسية وانتثار عقد سلطانها وامتداد الأيدي الغريبة إليها من التُّرك والفرس والعرب، دول من غير القبيل الهاشمي والفاطمي كالدول: البويهية والحمدانية وبني دُبيس وصدقة.

أما الأسباب فإنها كثيرة وقد بحث عنها المؤرخون، فمنهم من تعرّض لبحث القريب منها وأغفل البعيد، ومنهم من تعرّض لبحث الأمرين، وإنّا نلخصها معتمدين في ذلك على منطق الوقائع ووضوح الحوادث، وهي فيما استنتجناه تعود إلى أمور:

٢٧

الأول (الخلافة):

هذا المنصب الخطير الذي كان يعتقد الشيعة أنه لعلي وبني علي من فاطمة بالوصية من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبالنص الجلي الذي لا ارتياب فيه، ولهم أدلة من الحديث والكتاب على انحصاره في علي والأئمة من بنيه وأنه كمنصب النبوة وهو خلافة لها لا يرجع إلى الشورى والاختيار، وأنه من الأصول الاعتقادية. فصرفُه عن علي وأهل بيته كان ولا ريب من أسباب سخط الشيعة ومن دواعي عملهم في السر والخفاء على إعادته إلى نصابه وصرفه إلى أهله الذين هم أجدر به، وهو المنصوص عليه في اعتقادهم.

الثاني:

سكت الشيعة مختارين أو مكرهين على الطاعة لمن ملكوا ناصية الخلافة بالاختيار والانتخاب والوصية والشورى للخلفاء الثلاثة وهم لم يبتعدوا عن إدارة مهامّها عن أسلوبها الديني؛ وسكتوا كما سكت إمامهم عن المناجزة في سبيل استردُّدها إليه لاعتبارات كثيرة رآها علي وحزبه من أعظم الدواعي إلى السكوت والرضا بالأمر الواقع، وفي الخروج عنها ما يتخوف منه على بَيضة الإسلام، وهو لم يستكمل بعدُ دعوته ولم يعتصم بعد بالقوة التي ترد عنه أعداءه الكثيرين، وتحمي تلك الدعوة ممن همّوا بالخروج عن الإسلام وقد رأوا رؤوس الفتنة تطلع بالردّة حوالي المدينة وبالأقطار العربية الأُخرى من أنحاء الجزيرة، ورأوا بنظرهم البعيد وحرصهم على انتشار الدعوة الإسلامية ما يكون من الإضرار بها إن انصرفوا إلى التنازع فيما بينهم المؤدّي إلى ذهاب ريحهم وتبدّد قوتهم وهو سلاح حاد للطامعين بالخروج من القريب، وبنقض الدعوة من الغريب القوي من الرومان والفرس. فرأوا - والحكمة الرشيدة فيما رأوا - أن ترك المطالبة بالحق - والمطالبة به تؤدي إلى مثل هذه النتائج - واجب محتَّم، فسكتوا، وإذا كان في السكوت ضرر ففي تركه أكبر الضررين. فكان عليّ وحزبه المثل الأعلى في الإعراض عن التنازع، والالتفاف حول الخلفاء ومناصرتهم، وفيها مناصرة للإسلام، والظهور بمظهر الوحدة وهي قوة حامية للدعوة صائرة إلى إعزاز الإسلام كلمة الله الباقية في الأرض.

٢٨

الثالث:

إن مما لا ريب فيه أن قيام الخلافة على الشكل الذي قامت فيه من الانتخاب الذي لم يستكمل شرائطه حتى عند من يقول بالاختيار في هذا المنصب، أن أسكتت المصلحة الإسلامية العامة من كان منصوصاً عليه من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وحزبه عن نقضه بقوة الجدل أو بقوة السلاح، وعن منازعة من صار إليه بانتخاب فريق من ذوي الحل والعقد دون الفريق الآخر، ومنهم علي وحزبه من الهاشميين وغير الهاشميين من أفاضل الصحابة، فلم يكن هذا السكوت المنبعث عن تلك المصلحة التي راعاها الفريق الذي عُزل عن حقه في الاختيار أو افتئت على حقه في النص، إلا بالذي يترك في النفوس أثراً إن لم يكن في نفس صاحب الحق فإنه في نفوس حزبه، وإن غلبت عليه دواعي الحال فلم تغلب عليه دواعي الاستقبال يوم تمكّن الفرص منه، والجرح إذا لم يندمل يوم فساده فهو إلى النكأة قريب.

كوّنت هذه الحال فكرةً لدى الشيعة فعملوا لها في السر على استرجاع الحق إلى أهله، ومن رسخت في نفوسهم هذه الفكرة يرونها واجباً دينياً يجب العمل به يوم تمكن الفرصة من العمل، فكانت كامنة في هذه النفوس الشيعية كمون النار في الرماد، وهي مع ذلك لم تجد إلا ما يستثيرها ويستفزّها ويذكّيها. ولم يجد حاملوها من حسن السياسة ما يخفف من سخائمهم، ولا ننكر أنه قد اندسّ فيهم من لم يكن مخلصاً لا لعلي ولا للمسلمين، ومن لم يكن راضياً عن خلافة الخلفاء إمّا حسداً وهو يرى مكانة قبيله أشرف من مكانة قبيلهم، وإمّا طمعاً في ولايةٍ من ولايات الخلافة، وهو لم يكن ذا حظ منها عملاً بقول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ = نصيب ولا حظّ تمنَّى زوالها

والنفوس مطبوعة على حب السلطان وأبهة الحكم، ولا سيما ممن يرجع إلى قبيل شريف، وإما عقيدة في علي خرج بها عن حد القصد، وادّعى فيه ما لم يدعه هو ولا حزبه كابن سبأ وأضرابه، وإما رجاء في المستقبل بالمشاركة في الأمر والنهي. فكان العباسيون كالعلويين والأمويين يرون أن لهم في ذلك المنصب من المؤهلات أضعاف ما لمن ولِيَهُ من الخلفاء، فأدّى ذلك كله إلى اصطباغ الفكرة الشيعية بكثير من الألوان.

٢٩

الرابع:

إن سياسة الخلافة كانت في عهد الخليفتين الأولين لا تبتعد عن روح الدين كما عرفت. وكانت حريصة على جمع الكلمة الإسلامية وبعيدة عن الاستئثار والافتئات، وأقرب إلى تأليف القلوب النافرة من خلافة الثالث المعتز بقبيله الأموي الكثير العدد. وقد سلف أن الأمويين لم تكن لهم قدم راسخة في الإسلام، بل كانوا حرباً عليه وأعداء ألدّاء للدعوة، وقد أُكرهوا على دخولهم في الإسلام إكراهاً يوم فتح مكّة الذي ظهر فيه أمر الإسلام والمسلمين، ودانت له جبابرة مكة وعتاة العرب، وغلب على يهود خَيْبَر وقُرَيْظَة وبني المُصْطَلِق.

بسط هذا القبيل يده في سلطان هذا الخليفة الأموي، وولي كبريات الولايات والأعمال، وشاء القدر أن يلي معاوية في عهد الخليفة الثاني ولاية الشام، وتمتد ولايته إلى خلافة عثمان، فيتسع أمامه مجال ترسيخ قواعد سلطانه. وقد جمعت هذه الولاية مما خلفه فيها الرومان من كنوز الثروة ومن العمران الزاخر والخصب العجيب ما يزيد في قوة سلطانه ونفوذه. وهو قد أوتي دهاء إلى سياسة مشى فيها بعيداً جد البعد عن روح السياسة الإسلامية الدينية، فكان فيه مطمع لذوي النفوس الضعيفة الطامحة إلى مشاركته في رغد العيش ورفاهيته.

هذا إلى ما نال في سلطان هذه الخلافة أعلام صحب علي من إرهاق وترويع، ومنها ما أصاب الصحابي الجليل أبا ذَرّ الغفاري من نفي إلى الشام، ومن الشام إلى الرَّبَذة حيث مات في هذا المنفى.

كانت هذه السياسة الجديدة وهي قائمة على إدارة رجال أمويين لا يعرفون للقصد حداً، وهي مصطبغة بصبغة بعيدة عن روح الدين، من أسباب نفور الشيعة ومن أسباب قوة الفكرة الشيعية في العمل لإرجاع الخلافة إلى أهلها، ولا نستطيع أن نقول: إن لعلي يداً في تغذيتها، وهو أبعد عن إحداث فتنة في الإسلام، ولكن ماذا يعمل علي في سبيل إخماد ثائرة النفوس، وقد امتلأت سخيمة من هذه السياسة القائمة على إرهاق أشياعه والابتعاد بالخلافة عن مناهجها الدينية...، وقد عرفت أن في الملتفّين حول الدعوة الشيعية أصنافاً من الناس ومنهم من له هوى غير

٣٠

هوى على ورجوع الخلافة إلى علي. فكان من نتائج تلك السياسة ومن مجموع هذه العناصر المكوّنة منها فكرة الدعوة للخلافة الحقة، انتقاض الأمصار على عثمان وقيام من قام منها من الكوفة ومصر والمدينة بمحاصرته في داره فمقتله. وما كان الجاني عليه في نفس الأمر والواقع إلا رجال قبيله، وهم وحدهم الملومون عند الباحث المنصف، وهم الذين جنوا على الإسلام لا الشيعة كما يزعم كثير من الباحثين، وخاصة في هذا العصر الذي توفرت فيه لديهم الأسباب لتمحيص الحقائق، وأوتوا وراء ذلك علماً بأساليب البحث ومعرفة بفلسفة المباحث الإسلامية وتاريخ الإسلام. ولئن بعدت عنهم الحوادث التي حدثت واكتنفها كثير من الغموض بواسطة العصبيات المذهبية التي تكونت من العصبيات الحزبية، فإن منطق تلك الحوادث التي تضافر على نقلها علماء الفريقين من الحزبين أو المذهبين، ما يرشد المنصف إلى سواء السبيل، وإلى تعليل تلك الحوادث بعللها الصحيحة، ولا سيما إذا تجرد عن التقليد لسلفه أو انجرّ إليه وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي والاعتقاد، وهو يظن أنه يكتب لفلسفة التاريخ الإسلامي، وما مؤدى فلسفته إلا الغمز من قناة الشيعة وتسفيه آرائهم وإلصاق كل جناية بهم.

الخامس:

لم يكن ما مُني به عليّ، وقد آل إليه مصير الخلافة، من الانتقاض عليه ممن بايعه أمس، ومن وقعة الدار، وقد شاء أعداؤه أن يحمّلوه منها أثقل الأوزار. وتحيّن معاوية الفرصة وقد استوسق له أمر الشام وأُطلقت يده في حكمه الذي استمر مدة طويلة، فاتّخذ من مقتل عثمان ذريعة لمنافسة عليّ في الخلافة، وما كان له بكفء في منزلة من منازل الشرف والفضيلة، مِمّا أَدّى إلى وقوع أعظم حرب منذ ظهور الإسلام وحتى ذلك الوقت بعد حرب الجمل التي جرها نقض من بايع بيعته.

لم يكن ما مُني به عليّ من هذه الأحداث العظيمة إلاّ حافزاً عظيماً لشيعته ومن التفّ حولهم وقال بمقالتهم ونفر من افتئات معاوية بالأمور نفورهم، لترويج تلك الفكرة الشيعية، وإن شئت فقل السياسية أو الحزبية.

٣١

السادس:

مقتل عليّ منازعاً في خلافته الحقة، مغلوباً على أمره من مناوئيه من هنا وهناك، فلا يمكن له من تقويم المعوّج والسير بالأمة في سياسة تضمن لها انتظام أمري دينها ودنياها، وابتلاؤها، وابتلاؤه بعد وقعة (صفّين) بالخوارج ممن كانوا يتظاهرون بالتشيّع له ثم بالتآمر عليه وقتله، وانتهاء الأمر إلى معاوية بعد ستة أشهر من خلافة الحسن التي انتهت إليه، وهو في حزب متضعضع الأركان مشتت الأهواء، تجمعت فيه عناصر لم يكن الكثير منها مخلصاً.

كان من الطبيعي، بعد هذين الحادثين العظيمين: مقتل علي وفشل جيش الحسن في محاربة معاوية، أن ينتهي أمر الحسن إلى ترك الحرب ومسالمة معاوية على شروط ومواثيق التزم بها.

وكان من جراء هذه الأحداث وإِخلاف معاوية للميثاق الذي أعطاه للحسن، وما جرّه هذا الميثاق على شيعة الحسن من المغارم والمظالم والقتل الذريع على يد عمّاله أمثال زياد وسَمُرَة وعمرو بن سعيد الأشْدَق وبُسْر بن أبي أَرْطاة وأضرابهم - دع ما كان في أيامه من الأحداث التي يمقتها الدين، والتي صبغت الخلافة الدينية بصبغة السلطان الدنيوي الجائر - كان ذلك كله وما إليه من أسباب نموّ تلك الفكرة.

السابع:

وهو مقتل الحسين، بعد مقتل الحسن مسموماً على يد جَعْدَة زوجته بِدَسيسَةٍ من معاوية، وقيام يزيد بعده بسلطان الخلافة وهو من لم تحمد سيرته لا في الدين ولا في سياسة الملك والسلطان.

كان هذا من أعظم الأسباب، بل كاد ينحصر فيه، ظهور الفكرة الشيعية بصورة عملية منظمة، وزاد في تنظيمها ما كان يلاقيه بعض رجالات أهل البيت بعد يزيد من الظلم الأموي، وقد ولي الأمر من بني أُميّة مروان وأبناء مروان.

وكان أول هدف للشيعة في سبيل تحقيق الفكرة الشيعية هو قيامهم وعلى رأسهم المختار بأخذ ثأر الحسين. ومن الواضح البيّن أن الذين كانوا ينظّمون الدعوة والذين قاموا بالثورة يرجعون إلى (محمد بن الحنفيّة)، ثم إلى ولده من بعده. ولم يكن أحد من ولد الحسن والحسين في أول الأمر

٣٢

ممن يدعى إليه أو يرضى الدعوة لنفسه، فكان المختار بثورته داعية محمد بن الحنفيّة، ثم انتشر الدعاة باسم بني محمد بن الحنفية وبني العباس، أو للرضا من آل محمد ظاهراً. أما ابن قتيبة فهو يقول في كتابه (الإمامة والسياسة) في بدء الفتن والدولة العباسية، قولاً لم ينظر فيه إلاّ إلى سبب واحد من الأسباب التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكره ومما سنذكره في هذهِ المقدمة، قال:

(لما سلّم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، قامت الشيعة من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة واليمن وأهل البصرة وأرض خراسان في سَتْرٍ وكتمان. فاجتمعوا إلى محمد بن علي (وهو محمد بن الحنفيّة)، فبايعوه على طلب الخلافة إن أمكنه ذلك. وعرضوا عليه قبض زكاتهم لينفقوها يوم الوثوب حين تحين الفرصة فيما يحتاج من النفقة على مجاهدته، فقبلها. وولّى على شيعة كل بلد رجلاً منهم، وأمره باستدعاء من قبله منهم في سرّ وتوصية إليهم ألا يبوحوا بمكتومهم إلاّ لمن يوثق به حتى يرى للقيام موضعاً. فأقام محمد بن الحنفية إمام الشيعة قابضاً لزكاتهم حتى مات. فلما حضرته الوفاة ولّى عبد الله ابنه من بعده وأمره بطلب الخلافة إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وأعلم الشيعة بتوليته إياه، فأقام عبد الله بن محمد بن علي وهو أمير الشيعة. فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك في أول خلافته أن الشيعة قد بايعت عبد الله بن محمد بن علي بعد أبيه، فبعث إليه، وقد أعدّ له في أفواه الطرق رجالاً معهم أشربة مسمومة، وأمرهم إذا خرج من عنده أن يعرضوا عليه الشراب، فلما دخل على سليمان أجلسه إلى جانبه ثم قال له: بلغني أن الشيعة بايعتك على هذا الأمر، فجحده عبد الله وقال: بلغك الباطل، وما زال لنا أعداء يبلغون الأئمة قبلك عنا مثل ما بلغك ليغروهم بنا فيدفع الله عنا كيد من ناوأنا، وأنا بما يلزمني من مؤونتي أشغل مني بطلب هذا الأمر. ثم خرج من عنده في وقت شديد الحر، فكان لا يمر بموضع إلاّ قام إليه الرجل بعد الرجل يقول له: هل لك في شربة سويق اللوز وسويق كذا وكذا يا ابن بنت رسول الله؟ ونفسه موجسة منهم، فيقول: بارك الله لكم، حتى إذا وصل إلى آخر الطريق خرج إليه رجل من خبائه وبيده عُسٌّ فقال: هل لك في شربة من لبن يا ابن بنت رسول الله؟ فوقع في نفسه أن اللبن مما لا يسمم، فشرب منه ثم مضى،

٣٣

فلم ينشب أن وجد للسمّ حسّاً فاستدلّ على الطريق إلى الحميمة، وبها جماعة آل العباس، وقال لمن معه: إن متّ ففي أهلي، ثم توجّه فنزل على محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس فأخبره الخبر، وقال له: إليك الأمر والطلب للخلافة بعدي، فولاّه وأشهد له من الشيعة رجالاً، ثم مات. فأقام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ودعوة الشيعة له حتى مات، فلمّا حضرته الوفاة ولّي محمد بن إبراهيم الأمر، فأقام وهو أمير الشيعة وصاحب الدعوة بعد أبيه، انتهى)(١) .

وكأن تسليم الحسن الأمر إلى معاوية بعد أخذه عليه العهود، نبَّه الشيعة، وهم يعلمون أنهم إذا لم ينكمشوا في أمرهم ويقلّدوه رجلاً من آل علي أو ولد العباس، وقد تنازل عنه الحسن ولم ينهض به الحسين - والإمامة لأخيه - فهم مأخوذون في عقر دارهم مُستهدفون للظلم، وإن كان هذا الرأي لا يراه كل الشيعة، ومنهم من يعتقد انحصاره في علي والأئمة من بنيه من فاطمة، وإنه ليس لسواهم ولا لبني العباس. ولكنه قد يكون في الشيعة من يؤيد القائمين وإن لم يروا رأيهم في إمامة محمد بن الحنفية وولده وولد ابن عباس، منهم إن لم يتفقوا معهم في العقيدة فهم متفقون معهم في التماس الخلاص من الظلم الأموي.

الثامن:

لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة من عليّ وهو المتعين لها على مذهب الإمامية بالنصّ ومذهب أهل السنة والجماعة ببيعة أهل الحلّ والعقد وهو الإمام المفترض الطاعة الذي لا تجوز محاربته. ولم يكتف بمحاربته وهو الظالم له، ولا بطغيان جيوشه على بلاده وانتقاصها من أطرافها وتأمير مثل (بُسْر بن أبي أرطاة) عليها، وهو الفظ الغليظ وحسبه لؤماً قتله في غزوته اليمن طفليّ عاملها من قبل علي بن عبد الله بن عباس. لم يكتف بهذه الأفاعيل حتى سنّ مَسبَّة عليّ في حياة عليّ، ولم يتحرّج من أن يسمعها ولده الحسن وقبيله الهاشميّ غير متأثم لا مستعظم، ثم درج عليها من وُلّي الأمر بعده من الأمويين إلى أن أبطلها عمر بن عبد العزيز.

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة.

٣٤

هل هذا من العقل والدهاء اللذين وُصف بهما معاوية؟ وهل من الحكمة استفزاز العلويين وأشياعهم وقبيلهم الهاشميّ بمثل هذه البدعة من سبّ إمام حق مفترض الطاعة؟... وهل تحتملها النفوس الأبيّة مهما اتّصف أهلها بالتؤدة والحلم والأناة...؟

أليست وحدها - دع تلك الأحداث العظام التي أحدثها في الإسلام ومنها أخذه البيعة لولده الذي لا يدين بدين الحقّ - مما يكون من أعظم الأسباب لتضامن الحزب الساخط على هذه السياسة ومثيلها من سياسة من وُلّوا الخلافة من بني أميَّة...؟

التاسع:

لم يكتف الأمويون باغتصابهم الخلافة بغير حق، وهم ليسوا لها بأهل، وافتئاتهم بسلطانها وهم ليسوا برشدة ولا بحكماء حتى اتخذوا لهم أشياعاً من الظَّلمَة. فكان لمعاوية مثل زياد وسَمُرَة وبُسْر بن أبي أَرْطاة، وكان ليزيد مثل عبيد الله بن زياد، وكان لعبد الملك مثل الحجاج، ولهشام مثل يوسف بن عمر، ولغيرهم مثل هؤلاء ممن كان همهم اضطهاد أشياع علي وهم كثر منتشرون في كل بلد إسلامي، وما كانوا بل وما كانت الأمة إن أسكتتها القوة وهي بعد مجتمعة تحت سلطان الخلافة المغمور بالفتوح وامتلاك ناصية الأمم، بالراضية عن شكل هذا الحكم السابح في بحار من الدماء والجرائم والآثام. ومع ذلك فإن القائمين عليه لم يدعوا طريقة من طرق استفزاز من لهم مكانتهم في نفوس الأمة ولا سيما من عليّة الهاشميين إلاّ وقد سلكوها غير ناظرين إلى ما لها من العُقْبى في تفريق شملهم يوم قيام الفرصة السانحة وانتزاع الأمر المغصوب منهم يوم يمكّن منه القدر.

أحرجوا الحسين فأخرجوه، وقد رأى الخروج واجباً، وقد طلبوا منه وهو الإمام الحق وسبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبايع يزيد. وظن وقد كاتبه الكوفيون، وبايع منهم لابن عمه (مسلم بن عقيل) ثمانية عشر ألفاً، أنه سيكون في منعة، وفي جيش كوفي مناصر يتغلب به على يزيد وأنصار يزيد، فيخلّص المسلمين منه ومنهم. ولكن انتهى الأمر بفشل الكوفيين ونكثهم البيعة له وبمقتله ومقتل أهله وأنصاره القليلين.

٣٥

ولكن لم تكن هذه المأساة إلاّ المُعْول الأول لانتقاض بنيان الخلافة الأموية حجراً فحجراً.

استفزّوا زيد بن علي، ودم جده بعد لم يجفّ من أرض الكوفة ومأساته الفادحة لم تُنس، فخرج آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ولم يكن طالباً للإمامة وهو يعلم أنها ليست له بل هي لأخيه (أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)). وظن كما ظن أبوه من قبله أنه في عزة ومنعة بأنصاره الكوفيين الذين بايعوه كما بايعوا جده، وأصابه من نكثهم بيعته ما أصاب جده، فانتهى الأمر بقتله وصلبه.

وقال بعض أشياع الأمويين فيه:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم نرَ مهدياً على الجذع يُصلبُ

وقـستم بـعثمان عـلياً سفاهة وعثمان أزكى من علي وأطيب

قد ذكر المؤرخون أسباباً لخروجه، وسنذكرها في مواضعها من هذا الكتاب، وكان خروج زيد سنة مائة وإحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين.

وخرج بعده ولده يحيى بن زيد بن علي بن الحسين سنة خمس أو ست وعشرين بالجوزجان من بلاد خراسان، منكراً للظلم وما عم الناس من الجور، فانتهى خروجه بقتله وصلبه، ولم يزل مصلوباً إلى أن خرج أبو مسلم صاحب الدولة العباسية وقتل قاتله (سَلْم بن أَحْوز)، وأنزل جثة يحيى فصلى عليها ودفنت هناك.

أمّا ما كان لمقتل يحيى من الأثر في النفوس الخراسانية وثورتها على الظلم الأموي، فخُذْ دليلاً عليه ما ذكره المؤرخون ومنهم المسعودي في مروجه فقال:

(وأظهر أهل خراسان النياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر أعمالها في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أميّة، ولم يولد في تلك السنة بخراسان مولود إلاّ وسُمّي بيحيى أو بزيد لما داخلَ أهل خراسان من الجزع والحزن عليه)(١) .

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي المجلد ٢ ص١٨٥ - المطبعة البهية سنة ١٣٤٦هـ.

٣٦

نشاط الشيعة لتنظيم الدعوة

ونشرها ضد الأمويين

هذه الأسباب التي ذكرناها لا نزعم أنها هي وحدها التي أهابت بالشيعة إلى نفورها من الأمويين وحكمهم الظالم، بل هناك أسباب أُخرى نعرض عنها للاختصار مجتزئين بما ذكر.

هذه الأسباب إلى ما يضارعها دعت الشيعة إلى تنظيم صفوفها وتنظيم دعاتها إلى كل ما ينقض بنيان السلطان الأموي.

وإليك ما علّله ابن خلدون في تاريخه من خروج العلويين حيث قال:

(قد تقدم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعلي بن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتّى قتل المتولون كِبَر ذلك منهم (حِجْر بن عَديّ) وأصحابه. ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية، فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف. ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخروج عبيد الله بن زياد من الكوفة، وسمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليهم (سُليمان بن صُرَد)، ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم.

ثم خرج (المختار بن أبي عُبيد) بالكوفة طالباً بدم الحسين رضي الله عنه وداعياً لمحمد بن الحنفيَّة، وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسماهم شرطة الله. وزحف إليه (عُبيد الله بن زياد) فهزمه المختار وقتله. وبلغ محمد بن الحنفيّة من أحوال المختار ما نقمه عليه فكتب إليه بالبراءة

٣٧

منه، فصار إلى الدعاء (لعبد الله بن الزُّبَيْر)، ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة (يوسف بن عمر) وصلبه. وخرج إليه ابنه يحيى بالجَوْزَجان من خُراسان فقُتل وصُلب كذلك، وطُلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

وبعد أن أوجز اختلاف الشيعة في الإمامة ومصيرها إلى مذاهب الإمامية والزيدية أتباع زيد، والكيسانية المعتقدين إمامة محمد بن الحنفية قال:

(ولمّا صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سراً لمحمد بن عبد الله بن حسن المُثَنّى بن الحسن بن علي، وسلّم له جميعهم، وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم، ولما علموا له من الفضائل عليهم. ولهذا كان مالك وأبو حنيفة يجتمعان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون بذلك أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي. وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليهما المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب مالك على الفُتياء في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء)(٢) .

لم يدع رجال الشيعة وسيلة من وسائل التفكير في حمل الكافة على مقت الخلافة الأموية - وإن كان ما يصدر عنها كافياً لنماء ذلك المقت - ولم يتركوا ذريعة من الذرائع لتكوين فكرة عامة، ولا حيلة من الحيل لتفكيك عرى عصبيتها والعمل المشترك على دكّ عرشها، إلاّ وقد تذرعوا. وأنشأوا الأحزاب الخفيّة وبثوا الدعاة في الأمصار ولا سيما البعيدة عن عاصمة الخلافة كبلاد خراسان الواسعة، وهي البلاد التي لم تقم فيها عصبية للأمويين بل ولا للعرب وأهلها، وإن دخلوا في الإسلام فهم لا

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون ج٤ ص٣، ٤ - دار الكتاب اللبناني - بيروت.

(٢) نفسه ج٤ ص٥، ٦.

٣٨

ينسون عزة سلطانهم وقد انتزعه منهم العرب، ولا كان في طبيعة الحكم الأموي من العدل ما يحملهم على النسيان أو التناسي وفي نفوسهم نزوع إلى استردُّد ملكهم واسترجاع سلطانهم المفقود، فكانوا بطبيعة الحال أميل إلى الحزب الهاشمي المعارض والنفوس مطبوعة على هوى المستضعف. دع ما في انضمامهم إلى هذا الحزب ما يرون فيه الوصول إلى بغيتهم وهي رجوع سلطانهم إليهم وفيهم من عرف بفصل الدعاوة أو بدراسة الدين الحق لأهله.

ولهذه العوامل اعتزت الدعوة الهاشمية بخراسان بكثرة الأشياع والأتباع وقيام (أبي مسلم الخراساني).

العصبية بين النِّزاريّة واليَمانية:

ومن آثار هذه السياسة الشيعية الخفية المرتكزة على دمامة التفكير الصحيح من الحزب المعارض، قيام العصبية النِّزارية واليمانية التي كان (الكُميت) الشاعر الهاشمي السياسي أول من أذكى جذوتها وهو نزاري، وكان خصمه الذي نَهَدَ لمعارضته (دِعْبِل) الشيعي الشاعر الهاشمي السياسي وهو يماني.

وسبب قيام هذه العصبية بعد أن أتى الإسلام على كل عصبية جاهلية، أنّ الكُميت لما قال الهاشميات قصد البصرة فأتى (الفَرَزْدَق) وهو شيعي فأنشد قصيدته التي مستهلُّها:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

ولمّا أتمّ إنشادها قال له: (أظهِر، ثم أظهِر...)، وهذا هو غرض الكُميت الذي كان يقصده من عرض قصيدته على شاعر عصره الفَرَزْدق.

(ولما قدم الكميت المدينة أتى أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، فأذن له، وأنشده فلما بلغ من قصيدته قوله:

وقتيل بالطفّ غودر منهم بين غوغاء أمة وطغام

بكى أبو جعفر ثم قال:«يا كُميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك،

٣٩

ولكن لك ما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لِحسَّان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت» .

فخرج الكُميت من عنده، فأتى عبد الله بن الحسن بن علي فأنشده فقال: يا أبا المستهل، إن لي ضيعة أُعطيت فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشهدت لك بذلك شهوداً، وناوله إياه.

فقال له الكُمَيت:

(بأبي أنت وأمّي، إني كنت أقول الشعر في غيركم أريد بذلك الدنيا والمال، ولا والله ما قلت فيكم إلاّ لله، وما كنت لآخذ على شيء جعلته لله مالاً ولا ثمناً.

فألحّ عبد الله عليه وأبى من إعفائه، فأخذ الكُميت الكتاب ومضى. فمكث أياماً ثم جاء إلى عبد الله فقال:

(بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول الله، إني لي حاجة).

فقال له عبد الله: (وما هي؟ وكل حاجة لك مقضية). قال الكُميت: (كائنة ما كانت؟). قال عبد الله: (نعم).

قال الكُمَيت: (هذا الكتاب تقبله وترتجع الضيعة).

ووضع الكتاب بين يدي عبد الله، فقبله عبد الله.

ونهض عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأخذ ثوباً جلداً فدفعه إلى أربعة من غلمانه، ثم جعل يدخل دور بني هاشم ويقول:

(يا بني هاشم...، هذا الكُميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم وعرض دمه لبني أمية فأثيبوه بما قدرتم)، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم، واعلم النساء بذلك فكانت المرأة تبعث ما أمكنها حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها. فاجتمع من الدنانير والدراهم ما قيمته مائة ألف درهم، فجاء بها إلى الكميت، فقال:

(يا أبا المستهل...، أيتناك بجهد المقل ونحن في دولة عدونا، وقد جمعنا هذا المال وفيه حلى النساء كما ترى، فاستعن به على دهرك).فقال الكُميت:

٤٠

(بأبي أنت وأمي، قد أكثرتم وأطيبتم، وما أردت بمدحي إياكم إلا الله ورسوله، ولم أك لآخذ لذلك ثمناً من الدنيا فأرده إلى أهله). فجهد به عبد الله أن يقبله بكل حيلة فأبى، فقال له:

(إن أبيت أن تقبل فإني رأيت أن تقول شيئاً تغضب به بين الناس، لعل فتنة تحدث فيخرج من بين أصابعها بعض ما يجب).

فابتدأ الكُميت وقال قصيدته التي يذكر فيها مناقب قومه من مُضَر بن نِزار بن مَعدّ، وربيعة بن نزار، وأياد وأَنْمار ابني نزار، ويكثر فيها من تفضيلهم ويطنب في وصفهم، وأنهم أفضل من قحطان، فغضَّب بها بين اليمانية والنزارية، وهي قصيدته التي أولّها:

ألا حييت عنا يا مدين وهل ناس تقول مسلمينا

إلى أن انتهى إلى قوله تصريحاً وتعريضاً باليمن فيما كان من أمر الحبشة وغيرهم فيها وهو قوله:

لـنا قـمر السماء وكلّ نجم تـشير إلـيه أيدي المهتدينا

وجـدت الله إذ سـمّى نزار وأسـكنهم بـمكة قـاطنينا

لـنا جمل المكارم خالصات ولـلناس الـقفا ولنا الجبينا

وما ضربت هجائن من نزارٍ فـوالح من فحول الأعجمينا

وما حملوا الحمير على عتاق مـطـهرة فـيلفوا مـبلغينا

ومـا وجدت بنات بني نزارٍ حـلائل أسـودين وأحمرينا

وقد نقض دِعْبِل بن علي الخُزاعيّ هذه القصيدة على الكُميت وغيرها، وذكر مناقب اليمن وفضائلها ومدح ملوكها، وعرّض بغيرهم كما فعل الكُمَيت وذلك في قصيدته التي أوّلها:

أفـيقي من ملامك يا ظعين كـفاك الـلوم مرّ الأربعينا

ألـم تـحزنك أحداث الليالي يـشيبن الـذوائب والقرونا

أحيي الغر من سروات قومي لـقد حـييت عـني يا مدينا

فـإن يـك آل إسرائيل منكم وكـنتم بـالأعاجم فـاخرينا

فـلا تنس الخنازير اللواتي مُـسخن مع القرود الخاسئينا

٤١

بإيلة والخليج لهم رسوم وآثارٌ قدمن وما محينا

لقد علمت نزار أن قومي إلى نصر النبوّة فاخرينا

وهي طويلة، ونمي قول الكُمَيت إلى النزارية واليمانية، وافتخرت نِزار على اليمن، واليمن على نِزار، وأدلى كل فريق بما له من المناقب، وتحزّبت الناس وثارت العصبية في البدو والحضر، فنتج بذلك أمر (مروان بن محمد الجَعديّ) وتعصّبه لقومه من نزار على اليمن، وانحراف اليمن عنه إلى الدعوة العباسية، وتغلغل الأمر إلى انتقال الدولة عن بني أمية إلى تعصباً لقومه من ربيعة وغيرها من نزار، وقطعه الحلف الذي كان بين اليمن وربيعة في القدم، وفعل (عُقبَة بن سالِم) بعُمان والبحرين وقتله عبدِ القيس وغيرهم من ربيعة كياداً لمعن وتعصباً من عُقبة بن سالم لقومه من قَحطان. وغير ذلك مما تقدم وتأخر مما كان بين نزار وقحطان)(١) .

مغزى هذه القصة والعبرة منها:

إن الباحث يستنتج من هذه القصة أموراً:

الأول: استعداد النفوس لمثل هذه الثورة الفكرية المؤديّة إلى زوال حكم قائم على الأرستقراطية الممقوتة والاستئثار المذموم والاضطهاد العجيب وذهاب الشيعة منه بأوفر نصيب، وما كان غير الشيعة إلا كالشيعة في النفور منه.

الثاني: استفحال الدعاوة الشيعية وكثرة الملتفّين حولها للعمل على إزالة ظل ذلك الحكم بمختلف الأساليب وشتى الطرق.

الثالث: بعد غور القائمين على نشر هذه الدعاوة في فنون السياسة، فترى كيف حمل عبد الله بن الحسن ذلك الشيعي النزاري على إحداث هذه الثورة الفكرية، وكيف انبرى شيعي آخر لمناقضته مع كثرة الشعراء في ذلك العهد، وترى في ذلك مدى بصر الشيعة وشعرائهم في السياسة. وقد يكون هناك سر في حمل الشاعرين الشيعيين النزاري واليماني على هذه المناقضة

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي مجلد ٢ ص١٩٥، ١٩٦، ١٩٧ المطبعة البهية مصر سنة ١٣٤٦هـ.

٤٢

المؤدية إلى ذلك الانقلاب العظيم الذي ظهر في دعوة عبد الله بن الحسن للشاعر نزار الكُمَيْت، وخفي في دعوة دِعْبل القحطاني لمناقضته، وإن الشاعرين على بيّنة منه، وهما بعد من أخلص المخلصين للعلويين لا يعدوان أمرهم ولا يتجاوزان مرضاتهم.

الرابع: اكتساب الشيعة عنصراً جديداً وقوة لا يستهان بها في تعزيز دعاوتهم، إن لم يكونا منبعثين عن عقيدة التشيع وعن اعتقاد اختصاص أهل البيت النبويّ بالخلافة، فهما منبعثان عن العصبية النزارية واليمانية التي أثارها الشاعران النزاري واليماني.

وكيف كان الحال فإن الدعوة الشيعية قد استمدت قوة إلى قوتها بفضل تضامن القبيل إلى القبيل بعامل العصبية، وهي التي احتمى بها الشاعران الشيعيان من امتداد الأيدي إليهما بسوء من غير الشيعة.

الخامس: تمكين الدعوة الشيعية بفضل هذه القوة الجديدة التي كانت مُعْولاً هدّاماً للسلطان الأموي الجائر، من تنظيمها ونشاط القائمين بها، واتخاذها شكلاً هو للظهور أقرب منه إلى الخفاء.

٤٣

٤٤

الإِرهاص بخلافة بني العباس

وزوالها عن بني أمية

رأينا أن نجمع في هذا الفصل جملة صالحة مما أرهص به المرهصون وجاء به الخبر من خلافة بني العباس وزوالها عن بني أمية؛ لارتباط ذلك بموضوع البحث، ولكي لا يفوتنا كل ما له علاقة بتعليل ذلك الانقلاب الخطير وما كان للسياسة الشيعية فيه من أثر بعيد. ويستخلص من جميع ذلك السبب الحافز لتمرّس العباسيين بأساليب الدعوة لمصير الأمر إليهم وانفرادهم به، بعد أن كانوا متحدين وبني عمهم من أبناء علي وأبناء فاطمة وبني جعفر على العمل لإزالة المُلك الأموي باسم الدعوة للرضا من آل محمد، وباسم التشيّع المشترك في الظاهر، وانفراد بني العباس في الباطن بحصرها فيهم وتستّرهم بالدعوة للرضا من آل محمد، اجتناباً للخلاف مع بني عمهم الذين كان ما مُنوا به من الظلم الأموي الجائر من أكبر دواعي انصراف الوجوه عن الأمويين وتلمّس وجوه الخلاص منهم، وتمهيداً لهم للوصول إلى الهدف بهذا الاتفاق المشترك.

وإننا نلخص تلك الإرهاصات والأخبار بأمور:

الأول:

ما أورده الطبري في تاريخه عند ذكره خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وسبب خلافته، قال:

(وكان بدء ذلك فيما ذكر عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنه أعلم عباس بن عبد المطلب أنه تؤول الخلافة إلى وُلْدِه، فلم يزل وُلْده يتوقعون ذلك ويتحدثون به بينهم.

٤٥

وذكر علي بن محمد أن إسماعيل بن الحسن حدّثه عن رشيد بن كريب أن أبا هاشم خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقال: يا ابن عمّ... إن عندي علماً أنبذه إليك، فلا تطلعنّ عليه أحداً، إن هذا الأمر الذي ترتجيه الناس فيكم.

قال: قد علمت فلا يسمعنه منك أحد.

قال علي: وأخبرنا سليمان بن داود عن خالد بن عجلان قال: لما خالف ابن الأشعث وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك، أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد فأخبره فقال: أما إذ كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس، إنما كنا نتخوّف لو كان من خراسان)(١) .

الثاني:

ذكر المسعودي في (مروج الذهب) في نهاية أمر الأمويين ومدة استيلائهم على الخلافة وأنها ألف شهر وأنها تأويل قوله عزّ وجل( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) . ذكر رواية عن ابن عباس أنه قال: (والله ليملكن بنو العباس ضعف ما ملكته بنو أمية باليوم يومين وبالشهر شهرين وبالسنة سنتين وبالخليفة خليفتين)(٢) .

الثالث:

في شرح النهج لابن أبي الحديد(٣) قال: (وقد جاءت الرواية أن أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) - لمّا ولد لعبد الله بن العباس مولود - فقده وقت صلاة الظهر، فقال (أي علي):«ما بال ابن العباس لم يحضر؟... » ، فقالوا: ولد له ولد ذكر يا أمير المؤمنين. قال:«فامضوا بنا إليه» ، فأتاه، فقال له علي:«شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب، ما سمَّيته؟»

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٧ ص٤٢١.

(٢) مروج الذهب: ج٢ ص١٩٩.

(٣) أورد ابن أبي الحديد في شرحه أبياتاً جاء منها ما يؤيد معرفة الشيعة مدة ملك بني أمية وهي ألف شهر، وهو قول بعض شيعة بني العباس:

أليس في ألف شهر قد مضت لهم = سقيتم جرعاً من بعدها جرع

٤٦

فقال: يا أمير المؤمنين أوَ يجوز لي أن أُسَمّيه حتى تسميه. فقال:«أخرجه إليّ...» ، فأخرجه، فحنكه ودعا له ثم رده إليه، وقال:«خذ إليك أبا الأملاك، قد سميته عليّاً وكنّيته أبا الحسن» )(١) .

الرابع:

نقل أبو الفرج الأصفهاني في مقاتله فقال:

(وكان علماء أبي طالب يرون فيه (محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) أنه النفس الزكية، وأنه المقتول بأحجار الزيت، وكان من أفضل أهل بيته وأكبر أهل زمانه في زمانه في علمه بكتاب الله وحفظه له وفقهه في الدين وشجاعته وجوده وبأسه، حتى لم يشكك أحد أنه المهدي، وشاع ذلك له في العامة، وبايعه رجال من بني هاشم جميعاً من آل أبي طالب وآل العباس وسائر بني هاشم. ثم ظهر من جعفر بن محمد قول في أنه لا يملك، وأن الملك يكون في بني العباس، فانتبهوا بذلك لأمر لم يكونوا يطمعون فيه.

وخرجت دعاة بني هاشم إلى النواحي عند مقتل الوليد بن يزيد، واختلاف كلمة بني مروان، إلى أن قال: فلما ظهرت الدعوة لبني العباس وملكوا حرص السفاح والمنصور على الظفر بمحمد وإبراهيم لما في أعناقهم من البيعة لمحمد وتواريا، فلم يزالا ينتقلان في الاستتار، والطلب يزعجهما من ناحية إلى أُخرى، حتى ظهرا فقُتلا)(٢) .

الخامس:

ذكر أبو الفرج قبل هذا الكلام ما هو أوضح وأبين مما ظهر من جعفر (عليه السلام) في هذا المعنى، قال بحذف الإسناد: (إن جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأَبواء وفيهم إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وأبو جعفر المنصور وصالح بن علي وعبد الله بن حسن وابناه محمد وإبراهيم ومحمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج٢ ص٢١١.

(٢) مقاتل الطالبيين.

٤٧

قال صالح: (قد علمتم أنكم الذين تمد الناس أعينهم إليكم، وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إياها من أنفسكم، وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين)، فحمد الله عبد الله بن الحسن وأثنى عليه ثم قال: (لقد علمتم أن ابني هذا هو المهدي فهلمّ فلنبايعه. وقال أبو جعفر لأي شيء تخدعون أنفسكم، والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى، يعني محمد بن عبد الله. قالوا: قد والله صدقت، إن هذا لهو الذي تعلم. فبايعوا جميعاً محمداً ومسحوا على يده، قال عيسى: وجاء رسول عبد الله بن حسن إلى: (آتنا فإنا مجتمعون لأمر، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، هكذا قال عيسى. وقال غيره: (قال لهم عبد الله بن الحسن: لا تريدوا جعفراً لئلا يفسد عليكم أمركم. قال عيسى فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا عليه، وأرسل جعفر بن محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) محمد بن عبد الله الأرقط بن علي بن الحسين، فجئناهم فإذا بمحمد بن عبد الله يصلّي على طنفسة رحل مبنية، فقلت: أرسلني أبي إليكم لأسألكم لأي شيء اجتمعتم؟ فقال عبد الله: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد الله. قالوا: وجاء جعفر بن محمد فأوسع له عبد الله بن حسن إلى جنبه، فتكلم بمثل كلامه، فقال جعفر:«لا تفعلوا، فإن هذا الكلام لم يأت بعد، فلا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك» . فغضب عبد الله وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، ولكن يحملك على هذا الحسد لابني. فقال:«والله ما ذلك يحملني، ولكن هذا وأخوته وأبناؤهم دونكم» ، وضرب بيده على كتف عبد الله بن حسن وقال:«إنها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك، ولكنها لكم، وإنهما لمقتولان» ، ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال:«أرأيت صاحب الرداء الأصفر» يعني أبا جعفر، قلت: نعم، قال:«فإنا والله نجده يقتله» ، قال: قلت أيقتل محمداً؟ قال:«نعم» ، فقلت في نفسي: حسده ورب الكعبة. قال ثم قال:«والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيت قتلهما» . فلما قال جعفر ذلك نفض القوم فافترقوا ولم يجتمعوا بعدها، وتبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد الله أتقول هذا؟... قال:«نعم أقوله والله وأعلمه» )(١) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيين ج.

٤٨

السادس:

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: (قالوا: لما سمّت بنو أمية أبا هاشم مرض، فخرج من الشام وقيذاً يؤم المدينة، فمر بالحُمَيْمة(١) وقد أشفى، فاستدعى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فدفع الوصية إليه، وعرّفه ما يصنع وأخبره بما سيكون من الأمر وقال له: إنّي لم أدفعها إليك من تلقاء نفسي ولكن أبي أخبرني عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) بذلك وأمرني به وأعلمني بلقائي إياك في هذا المكان، ثم مات، فتولّى محمد بن علي تجهيزه، ودفنه وبعث الدعاة حينئذٍ في طلب الأمر)(٢) .

وقد كثرت الروايات عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في هذا المعنى وفي نهي بني عمه عن طلب الأمر الذي سيكون لبني العباس فيما تلقاه من أنباء الغيب عن آبائه كما تقدم ذكر بعضه.

السابع:

قال ابن قتيبة في كتابه الإمامة والسياسة: (ذكروا أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس دخل وهو شيخ كبير قد غشي بصره على هشام بن عبد الملك متوكئاً على ولديه أبي العباس وأبي جعفر فسلّم، ثم قال له هشام: ما حاجتك؟ ولم يأذن له في الجلوس. فذكر قرابته وحاجته ثم استجداه، فقال له هشام: ما هذا الذي بلغني عنكم يا بني العباس؟ ثم يأتي أحدكم وهو يرى أنه أحق بما في أيدينا منا، والله لا أعطيتك شيئاً، فخرج محمد بن علي، فقال هشام كالمستهزئ: إن هذا الشيخ ليرى أن هذا الأمر سيكون لولديه هذين أو لأحدهما، فرجع محمد نحوه فقال: أما والله إني أرى ذلك على رغم من رغم، فضحك هشام وقال: أغضبنا

____________________

(١) الحُمَيْمَة: تبعد عن الشوبك أقل من مسيرة يوم، يقع بينها وبين الشوبك وادي موسى، وهي من الشوبك قبله بغرب. ويقال له:ا الشراة كذا ضبطها أبو الفداء. وفي مراصد الاطلاع لياقوت: تصغير الحمّة بلد من أرض الشراة من أعمال عمان في الشام كان منزل بني العباس.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد المجلد ٣ الصفحة ٤٨٩.

٤٩

الشيخ. ثم مضى محمد بن علي)(١) .

أما هذه الرواية فقد رواها في (شرح النهج) على غير هذه الصورة، وأن الذي دخل على سليمان لا على هشام هو علي بن عبد الله بن العباس، وأنه أوسع له على سريره وبره وسأله عن حاجته، فقال: ثلاثون ألف درهم، فأمر بقضائها. قال واستوص بابنيَّ هذين خيراً ففعل. وشكره علي بن عبد الله وقال: وصلتك رحم، فلما ولّى قال سليمان لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اختل وأسنّ وخلط، وصار يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده، فسمع ذلك علي بن عبد الله، فالتفت إليه وقال: أي والله ليكونن وليملكن هذان.

قال ابن أبي الحديد بعد نقل هذه الرواية: (قال أبو العباس المبرّد: (وفي هذه الرواية غلط؛ لأن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان، وإنما ينبغي أن يكون دخل على هشام). وعلّل ذلك بما لا حاجة بنا إلى نقله(٢) .

الثامن:

قال المسعودي في مروجه(٣) : (ولما حبس إبراهيم الإمام بحرّان، وعلم أن لا نجاة له من مروان، أثبت وصيته وجعلها إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وأوصاه بالقيام بالدولة والجدّ والحركة، وأن لا يكون له بالحُمَيْمَة لبث ولا عرجة حتى يتوجه إلى الكوفة. فإن هذا الأمر صائر إليه لا محالة وإنه بذلك أتتهم الرواية، وأظهره على أمر الدعاة بخراسان، ورسم له بذلك رسماً أوصاه فيه أن يعمل عليه ولا يتعداه، ودفع الوصية بجميع ذلك إلى (سابق الخوارزمي) مولاه، وأمره إن حدث به حدث من مروان في ليل أو نهار أن يركب أسرع سابق في السير، فلما حدث ركب وسار حتى أتى الحُمَيْمَة فدفع الوصية إلى أبي العباس ونعاه إليه، فأمره أبو العباس بستر الوصية وأن ينعاه، ثم أظهر أبو العباس من أهل بيته على أمره، ودعا إلى مؤازرته ومكاشفته أخاه أبا جعفر عبد الله بن محمد وعيسى

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد المجلد ٢ الصفحة ٢١١.

(٣) مروج الذهب المجلد ٢ الصفحة ٢١٠ المطبعة البهية المصرية سنة ١٣٤٦هـ.

٥٠

ابن موسى بن محمد ابن أخيه وعبد الله بن علي عمه.

وتوجَّه أبو العباس إلى الكوفة مسرعاً، وهؤلاء معه في غيرهم ممن خفّ من أهل بيته، فلقيتهم أعرابية على بعض مياه العرب في طريقهم إلى الكوفة، وقد تقدم أبو العباس وأخوه أبو جعفر وعمه عبد الله بن علي فيمن كان معهم إلى الماء، فقالت الأعرابية: تالله ما رأيت وجوهاً مثل هذه ما بين خليفة وخليفة وخارجي، فقال لها أبو جعفر المنصور: كيف قلت يا أمة الله؟... قالت: والله لَيَلِهَا هذا، وأشارت إلى السفّاح، ولتخلفنّه أنت وليخرجنّ عليك هذا، وأشارت إلى عبد الله بن علي).

التاسع:

قال المسعودي: (ووجدت في أخبار المدائني عن محمد بن الأسود قال: بينما عبد الله بن علي يساير أخاه داود ومعهما عبد الله بن الحسن بن الحسن، فقال داود لعبد الله: لم لا تأمر ابنيك بالظهور؟...، فقال عبد الله: هيهات... لم يأنِ لهما بعد. فالتفت إليه عبد الله بن علي فقال: كأنك تحسب أن ابنيك هما قاتلا مروان، فقال: إن ذلك كذلك، فقال عبد الله: هيهات... وتمثّل:

سيكفيك المقالة مستميت خفيف اللحم من أولاد حام

أنا والله قاتله)(١) .

وروى ابن أبي الحديد هذا البيت هكذا:

سيكفيك الجعالة مستميت خفيف الحاذ من فتيان جرم

العاشر:

من إرهاصات الأمويين بانتقال الأمر منهم إلى العباس ما ذكره المسعودي في مروجه قال:

(وقيل لعبد الله بن علي: إن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز يذكر أنه

____________________

(١) مروج الذهب المجلد ٢ الصفحة ٢١٠ الطبعة نفسها.

٥١

قرأ في بعض الكتب عين بن عين بن عين، وقد أمل أن يكون هو. فقال عبد الله بن علي: أنا والله ذلك، ولي عليه فضل ثلاثة أعين، أنا عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، وهو عمرو بن عبد مناف. فلما صافَّ مروان عبد الله بن علي، أقبل مروان على رجل إلى جنبه فقال: من الرجل الذي كان يخاصم عندك عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الأقنى الحديد البصر الحسن الوجه؟...، فقلت: يرزق الله البيان من يشاء. قال: إنه لهو، قلت: نعم، قال: من وُلد العباس بن عبد المطلب هو؟... قلت: أجل. فقال مروان: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك إني ظننت أن الذي يحاربني من وُلد أبي طالب، وهذا الرجل من وُلد العباس واسمه عبد الله، أتدري لِمَ صيّرت الأمر بعدي لابني عبيد الله بعد عبد الله ومحمد أكبر من عبد الله؟ قلت: لِمَ؟ قال: لأنّا خُبِّرنا أن الأمر صائر بعدي إلى عبد الله أو عبيد الله، فنظرت فإذا عبيد الله أقرب إلى عبد الله من محمد فوليته دونه.

قال وبعث مروان بعد أن حدّث بهذا الحديث إلى عبد الله بن علي في خفية: إن الأمر يا ابن عم صائر إليك، فاتّق الله في الحرم.

قال: فبعث إليه عبد الله أن الحق لنا في دمك والحق علينا في حرمك)(١) . وفي شرح النهج توسع في هذا الحديث فترك نقله خوف التطويل.

الحادي عشر:

وفي الكامل لابن الأثير، قال محمد بن علي بن عبد الله: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتن افريقية. فعند ذلك يدعو لنا دعاة ثم تُقبِل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيلهم (المغرب) ويستخرجوا ما كنز الجبّارون. فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بافريقية ونقضت البربر، بعث محمد بن علي إلى خُراسان داعياً وأمره أن يدعو إلى الرضا ولا يُسمي أحداً(٢) .

____________________

(١) مروج الذهب المجلد ٢ الصفحة ٢١٥ نفس الطبعة.

(٢) الكامل لابن الأثير المجلد ٥ الصفحة ٤٠٨ الناشر دار بيروت سنة ١٩٦٥.

٥٢

الثاني عشر:

في شرح النهج: (كان العلاء بن رافع ذي الكلاع الحِميري مؤانساً لسليمان بن هشام بن عبد الملك لا يكاد يفارقه، وكان أمر المسوِّدة بخُراسان قد ظهر ودنوا من العراق واشتد إرجاف الناس ونطق العدو بما أحبَّ في بني أمية وأوليائهم.

قال العلاء: فإني لمع سليمان وهو يشرب تجاه رصافة أبيه، وذلك في آخر أيام يزيد الناقص وعنده الحَكَم الأَوْدي، وهو يُغنّيه بشعر البُرْجميّ:

إن الحبيب تروحت اجماله أُصُلاً فدمعك دائم إسباله

فافْنِ الحياة فقد بكيت بعولة لو كان ينفع باكياً إعواله

يا حبذا تلك الحمول وحبذ شخص هناك وحبذا أحماله

فأجاد ما شاء، وشرب سليمان بن هشام بالرطل وشربنا معه حتى توسدنا أيدينا، فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي، فقمت مسرعاً وقلت: ما شأن الأمير؟... فقال: على رسلك، رأيت كأني في مسجد دمشق وكأن رجلاً على يده حجر وعلى رأسه تاج أرى بصيص ما فيه من الجوهر وهو رافع صوته بهذا الشعر:

أبني أمية قدْ دنا تشتيتكم وذهاب ملككم وليس براجع

وينال صفوته عدوّ جادح(١) كأساً لكم بسمام موت ناقع

فقلت: أُعيذ الأمير بالله من وساوس الشيطان الرجيم، هذا من أضغاث الأحلام، ومما يقتضيه ويجلبه الفكر وسماع الأراجيف.

فقال: الأمر كما قلت لك، ثم وجم ساعة وقال: يا حِمْيري بعيد ما يأتي به الزمان قريب. قال العلاء: فو الله ما اجتمعنا على شراب بعد ذلك اليوم)(٢) .

____________________

(١) جادِح: من جَدَحَ الشيء اي خلطه بشيء من الماء أو اللبن أو نحوهما.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المجلد ١٢ الصفحة ٢٠٧.

٥٣

الثالث عشر:

وهو من إخبار الغيب عن زوال ملك بني أُميَّة، جاء ممن لم تكذب له فراسة أو ملحمة أو خبر عن غائب مما صح عنه، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو المَعْزو عِلمُه إلى علم الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفراسته الصادقة إلى الإلهام قال كما جاء في نهج البلاغة:

«إنَّ لبني أُميّة مِروداً (١) يجرون فيه، ولو قد اختلفوا فيما بينهم، ثم كادتهم الضِّباع لغَلبتهم» .

قال ابن أبي الحديد في شرحه: (هذا إخبار عن غيب صريح؛ لأن بني أمية لم يزل ملكهم منتظماً لما لم يكن بينهم اختلاف، وإنما كانت حروبهم مع غيرهم كحرب معاوية في (صفّين) وحرب يزيد مع أهل المدينة وابن الزبير بمكة وحرب مروان للضحاك وحرب عبد الملك لابن الأشعث وابن الزبير، وحرب يزيد ابنه لبني المهلب، وحرب هشام لزيد بن علي.

فلما ولي الوليد بن يزيد وخرج عليه ابن عمه يزيد بن الوليد وقتله، اختلفت أمية فيما بينها، وجاء الوعد وصدق من وعد به، فإنه منذ قتل الوليد دعت دعاة بني العباس بخراسان، وأقبل مروان بن محمد من الجزيرة يطلب الخلافة، فخلع إبراهيم بن الوليد وقتل قوماً من بني أمية، واضطرب أمر الملك وانتثر، وأقبلت الدولة الهاشمية وتمت، وزال ملك بني أمية، وكان زوال ملكهم على يد أبي مسلم، وكان في بدايته أضعف خلق الله وأعظمهم فقراً ومسكنة، وفي ذلك تصديق قوله (عليه السلام)«ثم كادتهم الضباع لغلبتهم» )(٢) .

وهذا السبب وهو أهم أسباب زوال الملك الأموي، يجب أن يُضاف إلى الأسباب التي مهّدنا بها في المقدمة لتاريخ الشيعة السياسي.

ولم يخف السبب على أعلام الهاشميين الذين كانوا يعملون على إسقاط الدولة الأموية سواء في ذلك علويّهم وعباسيّهم، فقد نقل أبو الفرج الأصبهاني في مقاتله:

____________________

(١) مِرْوَد: على وزن مِفْعَل من الإرواد وهو الإمهال والإنظار.

(٢) شرح نهج البلاغة ج٨ ص٨٥٧ - مكتبة الحياة بيروت.

٥٤

(إن بني هاشم اجتمعوا فخطبهم عبد الله بن الحسن، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنكم أهل البيت قد فضلكم الله بالرسالة واختاركم لها، وأكثركم بركة يا ذرّية محمد، وقد ترون كتاب الله معطّلاً وسنّة نَبيّه متروكة والباطل حيّاً والحق ميتاً، قاتلوا لِلّه في الطلب لرضاه بما هو أهله، قبل أن ينزع منكم اسمكم، وتهونوا عليه كما هانت بنو إسرائيل وكانوا أحب خلقه إليه. وقد علمتم أنّا لم نزل نسمع أن هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أيديهم، فقد قتلوا صاحبهم الوليد بن يزيد، فهلمَّ نبايع محمداً)(١) .

وجرى ما قد ذكرناه في القسم الرابع مما رواه أبو الفرج في غير هذا الطريق.

الرابع عشر:

عن مقتل الطالبيين بحذف الإسناد، قال بعد ذكره دعوة محمد بن عبد الله بن الحسن لنفسه، ودعوة أبيه ومن دعاه إليه من أهل بيته عقب قتل الوليد بن يزيد ووقوع الفتنة بعده:

(وكان قد سُعي به إلى مروان بن محمد، فقال: لست أخاف أهل هذا البيت؛ لأنه لا حظّ له في الملك، وإنما الحظ لبني عمهم العباس.

وبعث إلى عبد الله بن الحسن بمال واستكفاه، وأوصى عامله بالحجاز أن يصونهم ولا يعرض لمحمد بطلب، ولا إخافة إلا أن يستظهر حرباً أو شقّاً لعصا)(٢) .

وقال:

(إن مروان لما بعث عبد الملك بن عطية السعدي لقتال الحرورية، لقيه أهل المدينة سوى عبد الله بن الحسن وابنيه محمد وإبراهيم. فكتب بذلك إلى مروان: (إني هممت بضرب أعناقهم). فكتب إليه مروان: أن لا تعرض لعبد الله ولا لابنيه، فليسوا بأصحابنا الذين يقاتلوننا ويظهرون علينا)(٣) .

____________________

(١) أبو فرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيّين.

(٢) مقاتل الطالبيّين.

(٣) مقاتل الطالبيّين.

٥٥

وبعد فإنك لترى أن مروان لم يكن يتخوف العلويين، وإنه على بيّنة من أن بني العباس هم الذين ينازعونه سلطانه، ومنهم يتخوّف انتزاعه لا من العلويّين.

الخامس عشر:

في كامل ابن الأثير: (وكان مروان لمّا أرسل للقبض عليه أي على (إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس)، وصف للرسول صفة أبي العبّاس؛ لأنه كان يجد في الكتب: إنَّ مَنْ هذه صفته يقتلهم ويسلبهم ملكهم! وقال له ليأتيه بإبراهيم بن محمد.

فقدم الرسول: فأخذ أبا العباس بالصفة، فلما ظهر إبراهيم وأمن قيل للرسول، إنما أُمرتَ بإبراهيم، وهذا عبد الله. فترك أبا العباس وأخذ إبراهيم: فانطلق به إلى مروان، فلما رآه قال: ليس هذه الصفة التي وصفت لك... فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت، وإِنّما سَمَّيْت إبراهيم، فهذا إبراهيم. فأمر به فحُبس وأعاد الرسول في طلب أبي العباس فلم يروه)(١) .

السادس عشر:

وهو يلخّص ما فصّلناه من أمور الإرهاصات بزوال الملك الأموي، وهو ما جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، قال:

(قلت: سألت النَقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى فقلت له: من أي طريق عرف بنو أمية أن الأمر سينتقل عنهم، وأنه سيليه بنو هاشم، وأول من يلي منهم سيكون اسمه عبد الله؟ وقد منعوهم عن الزواج من بني الحرث بن كعب لعلمهم أن أول من يلي الأمر من بني هاشم تكون أمه حارثية؟

وبأي طريق عرف بنو هاشم أن الأمر سيصير إليهم ويملكه عبيد أولادهم حتى عرفوا صاحب الأمر منهم بعينه كما قد جاء في هذا الخبر؟ فقال: أصل هذا كله محمد بن الحنفية، ثم ابنه عبد الله المكنّى أبا هاشم.

____________________

(١) الكامل لابن الأثير المجلد ٥ الصفحة ٤٠٩ الناشر دار بيروت سنة ١٩٦٥.

٥٦

قلت له: أفكان محمد بن الحنفية مخصوصاً من أمير المؤمنين (عليه السلام) بعلم يستأثر به على أخويه حسن وحسين (عليهما السلام)؟

قال: لا ولكنهما كتما وأذاع. ثم قال: قد صحّت الرواية عندنا عن أسلافنا وعن غيرهم من أرباب الحديث، أن عليّاً (عليه السلام) لمّا قُبض، أتى محمد ابنه أخويه حسناً وحسيناً (عليهما السلام) فقال لهما: أعطياني ميراثي من أبي. قال أبو جعفر (فروى أبان بن عثمان عمن نروي له ذلك عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال:« فدفعا إليه صحيفة لو أَطلعاه على أكثر منها لهلك، فيها ذكر دولة بني العباس» . قال أبو جعفر: وقد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي قال: حدثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال: لما أردنا الهرب من مروان بن محمد لمّا قُبض على إبراهيم الإمام جعلنا نسخة الصحيفة التي دفعها أبو هاشم ابن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وهي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة، (جعلناها) في صندوق من نحاس صغير، ثم دفناه تحت زيتونات بالشّراة - لم يكن بالشّراة من الزيتون غيرهن -. فلما أفضى السلطان إلينا وملكنا الأمر، أرسلنا إلى ذلك الموضع رجلاً فبحث وحفر فلم يوجد فيه شيء، فأمرنا بحفر جَرِيب من الأرض(١) في ذلك الموضع حتى بلغ الحفر الماء، ولم نجد شيئاً.

قال أبو جعفر: (وقد كان محمد بن الحنفية صرّح بالأمر لعبد الله بن العباس وعرّفه تفصيله، ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد فصّل لعبد الله بن العباس الأمر، وإنما أخبره به مجملاً كقوله في هذا الخبر:«خذ إليك أبا الأملاك» ، ونحو ذلك مما كان يعرض له به. ولكن الذي كشف القناع وأبرز المستور عليه هو محمد بن الحَنفيّة، وكذلك أيضاً ما وصل إلى بني أميّة من علم هذا الأمر فإنه وصل من جهة محمد بن الحنفيّة وأطلعهم على السر الذي علمه، ولكن لم يكشف لهم كشفه لبني العباس، فإن كشفه الأمر لبني العباس كان أكمل).

قال أبو جعفر: (فأمّا أبو هاشم فإنه قد أفضى بالأمر إلى محمد بن

____________________

(١) جريب من الأرض: مقدار معلوم من الأرض.

٥٧

علي بن عبد الله بن العباس، وأطلعه عليه وأوضحه له.

فلما حضرته الوفاة عقيب انصرافه من عند الوليد بن عبد الملك مرّ بالشّراة وهو مريض، ومحمد بن علي بها، فدفع إليه كتبه وجعله وصيّه، وأمر الشيعة بالاختلاف إليه).

قال أبو جعفر: (وحضر وفاة أبي هاشم ثلاثة نفر من بني هاشم: محمد بن علي هذا، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب. فلما مات خرج محمد بن علي ومعاوية بن عبد الله بن جعفر من عنده، وكل واحد منهما يدعي وصايته، فأما عبد الله بن الحرث فلم يقل شيئاً).

قال أبو جعفر: (وصدق محمد بن علي أنه إليه أوصى أبو هاشم وإليه دفع كتاب الدولة. وكذب معاوية بن عبد الله بن جعفر، لكنه قرأ الكتاب فوجد لهم فيه ذكراً يسيراً، فادّعى الوصيّة بذلك، فمات. وخرج ابنه عبد الله بن معاوية يَدّعي وصاية أبيه، ويدعي لأبيه وصاية أبي هاشم، ويظهر الإنكار على بني أمية، وكان له في ذلك شيعة يقولون بإمامته سرّاً حتى قُتل)(١) .

هذا بعض ما أرهص به المرهصون وتنبأ به المتنبئون، وجاءت به الرواية عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبعض أهل بيته بزوال ملك بني أمية، ومصير الخلافة إلى بني العباس.

وقد يكون الكثير منها مبنيّاً على الفراسة والحدس، مما آل إليه أمر الأمويين من الاضطراب والفساد المؤدّيين إلى الانقلاب، مع اختلافهم فيما بينهم، وفي الاختلاف ذهاب الريح. وتطلّع الخاصة من مفكري الأمة إلى من يجب أن يحلّ محلهم إن زال ملكهم، وزواله أصبح متحقق الوقوع لتوفّر أسبابه. وقد نفرت من حكمهم النفوس، وزواله أصبح متحقق الوقوع لتوفّر أسبابه. وقد نفرت من حكمهم النفوس، وهو قائم على افتئاتهم وافتئات عمّالهم وأوليائهم بسلطان الأمة والتحكم في أعشارها وإيشارها، وقيام الخارجين عليهم من الهاشميين وغير الهاشميين علويّهم وجعفريّهم وعباسيّهم، وقد لاقوا من اضطهادهم واضطهاد أحزابهم وأشياعهم ما لا تحتمله النفوس الأبية.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

٥٨

فإن المقتول منهم في عهد بني أمية، دع من قُتل في وقعة كربلاء: زيد بن علي بن الحسين وولده يحيى، وعبد الله بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخو جعفر بن محمد، وعبيد الله بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومن وُلْدِ جعفر عبد الله بن عون بن عون بن جعفر بن أبي طالب، ومن وُلْدِ محمد بن الحنفيّة ولده أبو هاشم ثم عبد الله الذي دَسَّ إليه من سمَّه سليمانُ بن عبد الملك حين وفد عليه واحتمل السمّ إلى الحُمَيْمَة بأرض الشّراة فمات بها، وقد تقدم ذكر ذلك.

ومقتل إبراهيم الإمام في حرّان في سجنه في عهد مروان بن محمد، دَعْ أحداث الفتنة اليمانية النّزارية التي أذكاها الكُمَيْت ودِعْبِل كما عرفت آنفاً، واستفحال أمر الخوارج.

كل ذلك وما إليه، دعا خاصة الأمة إلى التفكير فيمن يلي أمورها إن زال المُلك الأُموي، ومن هو من الهاشميين أقرب إلى انضواء الكافّة تحت لوائه، وانصرافهم إلى الدعوة إليه والعمل لها.

وكانت كلمة الشيعة قد اختلفت فيمن هو أهل للإمامة اختلافاً عظيماً، فبعضهم يرى صرفها إلى آل أبي طالب من وُلْد علي، وفريق منهم يراها في الأئمة من وُلد الحسين، وآخر في ولد الحسن والحسين بدون تعيين في الشخص بل في الوصف كمعتقد الزيدية، وآخر في محمد بن الحنفية ووَلدِه أبي هاشم وهم الكيسانية، وآخر في وُلد العباس وهم الراوَنْديّة ومنهم أبو مسلم الخراساني صاحب دعوتهم الأعظم.

ولئن كانت الدعوة تكاد تكون متمحضة لأهل البيت النّبويّ فقد كانت الأسباب مهيأة لبني العباس، وليس لأوّلهم ما لأوّل بني علي من الحفائظ في الصدور المرضى التي أعادها إليها بعد أن أسكتت نأمتها وأخفت نارها عظمة النبوة وأبّهة الخلافة وظهور أمر المسلمين على الأمم واشتغالهم بالفتوحات العظيمة. أعادها رجوع العصبيات إلى القبائل العربية بكل ما تضمره من ضغائن وأحقاد. وتجدّدت تذكارات أخلاف من أُصيبوا من أسلافهم في حروب علي، سواء كان في صدر الدعوة الإسلامية أم كانفي حروب صِفِّين والجمل والنَّهروان، وذلك إلى أول صدمة اصطدم بها علي في صرف الخِلافة عنه في السَّقيفة والشّورى، وابتلائه بعد أن صارت

٥٩

الخلافة إليه بخروج طَلحة والزُّبَير وعائشة، ثم بمنازعة معاوية له، ثم قتله على يد الخوارج، واستئثار معاوية بالسلطان، وسنّه مسبّة علي على المنابر، وتوليته العهد لولده يزيد الذي لم يكن على شيء من العلم والحلم والدين والسياسة، والذي كان من باكورة أعماله وقعة (الطّفّ) التي أذلّت الهاشميين عامة والعلويّين خاصة.

وإنّ قتيل الطّفّ من آل هاشم أذلّ رقاباً من قريش فذلّت

ثم تُنقل الخلافة التي أصبحت مُلكاً عضوضاً صرفاً إلى مروان وبني مروان الذين جروا على طابع سياسة معاوية من إماتة العصبية الهاشمية وخاصة العلوية، واختصاصهم بالولايات والزُلفى، وضروب المصانعات من هم أكثر كرهاً لعلي وأهل بيته، وأبعد عن الرحمة لهم ولشيعتهم، وتنفر القلوب منهم، وما إلى ذلك من ضروب الأساليب من تبعيد الناس عن أهل البيت من أبناء علي، بل ومن أبنائه من آل فاطمة، وما كان للأمويّين مثل هذه السياسة المرهقة مع بني العباس. هذا وبنو فاطمة لم يكونوا متفقين في الخروج، فإن خاصتهم وهم الأئمة الذين يعتقد بإمامتهم الإمامية لم يكونوا يرون الخروج ولا يرون أن الأمر صائر إليهم، وهم منصرفون إلى الدين وتعليم شرائعه تحت ستار من التقيَّة، مبتعدون كل الابتعاد عن مظاهر الدنيا وأبهة سلطانها.

أما بنو العباس فكانوا على اتفاق في طلب هذا الأمر على عكس الفاطميين، وحسبك أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية قد أوصى بالإمامة لمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فكانت هذه الوصية له تأييداً للعباسيين والدعوة العباسية.

ومن مجموع هذه الأسباب استجمعت دعوة بني العباس شرائطها، وكان من الطبيعي أن يرهص المرهصون، ويتفرّس المتفرّسون، ويتنبّأ المتنبّئون بمصير الأمر إليهم مضافاً إلى ما يعضد هذا الإرهاص وذلك التفرّس والتنبؤ مما ورد به الحديث والرواية، وبلغ مضمونه أشياع بني العباس وخاصةَ بني أمية.

هذا وما كانت دعوة العباسيين في أول الأمر إلاّ دعوة شيعية عامة يراد منها التغلب على الأمويين، وإنقاذ الأمة من مظالمهم - وقد تجاوزت أقصى الحدود - والأخذ بثأر بني علي، فكان ذلك من تضافر الدعوة

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391