تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 391
المشاهدات: 124492
تحميل: 11008


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124492 / تحميل: 11008
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

مَزْيد وأخيه أبي قوام ثابت بن علي بن مَزْيد؛ وسبب ذلك أن ثابتاً كان يعتضد بالبساسيري ويتقرب إليه، فلما كان سنة أربع وعشرين وأربعمائة سار البساسيري معه إلى قتال أخيه دُبيس، فدخلوا النيل واستولوا عليه وعلى أعمال نور الدولة. فسيّر نور الدولة إليهم طائفة من أصحابه فقتلوهم فانهزموا، فلما رأى دُبيس هزيمة أصحابه سار عن بلده وبقي ثابت فيه إلى الآن. فاجتمع دُبيس وأبو المغرا عنّاز بن المغرا وبنو أسد وخفاجة وأعانه أبو كامل منصور بن قراد وساروا جريدة لإعادة دُبيس إلى بلده وأعماله. وتركوا حللهم بين خُصّا وحربى، فلما ساروا لقيهم ثابت عند جرجرايا، وكانت بينهم حرب قُتِل فيها جماعة من الفريقين، ثم تراسلوا واصطلحوا ليعود دُبيس إلى أعماله ويقطع أخاه ثابتاً إقطاعاً. وتحالفوا على ذلك وسار البساسيري نجدة لثابت، فلما وصل إلى النعمانية سمع بصلحهم فعاد إلى بغداد.

سنة (٤٣١): في هذه السنة استنجد الملك جلال الدولة ببغداد بدُبيس بن مزيد لما شغب عليه التُّرك.

سنة (٤٣٦): في هذه السنة خطب دُبيس بن مزيد لأبي كاليجار في بلاده.

سنة (٤٤١): في هذه السنة كانت حرب شديدة بين نور الدولة دُبيس بن مزيد وبين التُّرك الواسطيين؛ وسبب ذلك أن الملك الرحيم أقطع نور الدولة حماية نهر الصِّلة ونهر الفضل وهما من إقطاع الواسطيين، فسار إليهما ووليهما. فسمع عسكر واسط ذلك فسخطوه، واجتمعوا وساروا إلى نور الدولة ليقاتلوه ويدفعوه عنهما، وأرسلوا إليه يتهددونه فأعاد الجواب يقول: إن الملك أقطعني هذا، فنرسل إليه أنا وأنتم فبأي شيء أمر رضينا به. فسبّوه وساروا مجدّين إليه، فأرسل إلى طريقهم طائفة من عسكره فلقوهم، وكمن لهم. فلما التقوا استجرهم العرب إلى أن جاوزوا الكمين وخرج عليهم الكمين، فأوقعوا بهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة وأسروا كثيراً وجُرح مثلهم وتمت الهزيمة على الواسطيين، وغنم نور الدولة أموالهم ودوابهم وساروا إلى واسط، فنزلوا بالقرب منها. وأرسل الواسطيون إلى بغداد يستنجدون جندها، ويبذلون للبساسيري أن يدفع عنهم نور الدولة ويأخذ نهر الصِّلة ونهر الفضل لنفسه.

٢٦١

سنة (٤٤٣): في هذه السنة تجددت الفتنة ببغداد بين السنّة والشيعة وعظمت أضعاف ما كانت قديماً، وجرت أمور عظام منها إحراق مشهد باب التبن، ولما انتهى خبر إحراقه إلى نور الدولة دُبيس بن مزيد عظم عليه واشتد وبلغ منه كل مبلغ؛ لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النَّيْل، وتلك الولاية كلهم شيعة، فقُطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله فروسل في ذلك وعوتب، فاعتذر بأن أهل ولايته شيعة واتفقوا على ذلك فلم يمكنه أن يشق عليهم كما أن الخليفة لم يمكنه كفّ السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا وأعاد الخطبة إلى حالها.

سنة (٤٤٦): في هذه السنة زوّج نور الدولة دُبيس ابنه بهاء الدولة منصوراً بابنة أبي البركات بن البساسيري.

سنة (٤٤٦): في هذه السنة في رجب قصد بنو خفاجة الجامعَيْن وأعمال نور الدولة دُبيس، ونهبوا وفتكوا في أهل تلك الأعمال، وكان نور الدولة شرقي الفرات وخفاجة غربيها، فأرسل نور الدولة إلى البساسيري يستنجده، فسار إليه فلما وصل عَبَرَ الفرات من ساعته وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين، فانهزموا منه ودخلوا البر فلم يتبعهم، وعاد عنهم فرجعوا إلى الفساد، فاستعد لسلوك البر خلفهم أين قصدوا وعطف نحوهم قاصداً حربهم، فدخلوا البر أيضاً فتبعهم فلحقهم بخفّان وهو حصن بالبر، فأوقع بهم وقتل منهم ونهب أموالهم وجمالهم وعبيدهم وإماءهم وشرَّدهم كل مشرد، وحصر خفان ففتحه وخرَّبه وأراد تخريب القائم به وهو بناء من آجرّ وكلس، وصانع عنه صاحبه ربيعة بن مطاع بمال بذله. فتركه وعاد إلى البلاد، وهذا القائم قيل: إنه كان علماً تهتدي به السفن لما كان البحر يجيء إلى النجف، ودخل بغداد ومعه خمسة وعشرون رجلاً من خفاجة عليهم البرانس، وقد شدّهم بالحبال إلى الجمال، وقتل منهم جماعة وصلب جماعة وتوجَّه إلى حربى فحصرها، وقرر على أهلها تسعة آلاف دينار وأمنهم.

في هذه السنة لما ابتدأت الوحشة بين البساسيري والخليفة لأسباب، وعزم على حصر الأنبار على أبي الغنائم بن المحَلبان الذي أتاها من بغداد، ورد إليه نور الدولة معاوناً له على ذلك، وانتهى الأمر بفوز البساسيري على ابن المحَلبان.

٢٦٢

سنة (٤٤٨): في هذه السنة سلخ شوَّال كانت وقعة بين البساسيري، ومعه نور الدولة دُبيس بن مزيد وبين قريش بن بدران صاحب الموصل ومعه قتلمش، وهو ابن عم السلطان طغرلبك. وكانت الحرب عند سنجار وانتهت بهزيمة قريش وقتلمش، وقد جرح قريش وأتى إلى نور الدولة فأعطاه خلعة كانت قد نفذت من مصر، فلبسها وصار في جملتهم وساروا إلى الموصل وخطبوا لخليفة مصر بها وهو المستنصر بالله. وكانوا قد كاتبوه بطاعتهم، فأرسل إليهم الخلع من مصر للبساسيري ولنور الدولة دُبيس بن مزيد ولجماعة آخرين، ومنهم مقبل بن بدران أخو قريش.

سنة (٤٤٨): لما ظفر هزارسب بالعرب دعا إلى السلطان طغرلبك وأرسل إليه نور الدولة دُبيس وقريش يسألانه أن يتوسط لهما عند السلطان ويصلح أمرهما معه، فسعى في ذلك واستعطف السلطان عليهما، فقال: أما هما فقد عفوت عنهما، وأما البساسيري فذنبه إلى الخليفة ونحن متبعون أمر الخليفة فيه، فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة وتبعه التُّرك البغداديون ومُقبل بن المقلَّد وجماعة من عُقيل. وطلب دُبيس وقريش أن يرسل طغرلبك إليهما أبا الفتح بن ورّام. فأرسله فعاد من عندهما وأخبر بطاعتهما وأنهما يطلبان أن يمضي هزارسب إليهما ليحلّفهما. فأمره السلطان بالمضي إليهما، فسار واجتمع بهما وأشار عليهما بالحضور عند السلطان فخافا وامتنعا. فأنفذ قريش أبا السداد هبة الله بن جعفر وأنفذ دُبيس ابنه بهاء الدولة منصوراً. فأنزلهما السلطان وأكرمهما وكتب لهما بأعمالهما.

سنة (٤٤٩): وفيها أصلح دُبيس بن علي بن مزيد ومحمود بن الأخْرم حالهما مع السلطان، فعاد دُبيس إلى بلاده، فوجدها خراباً لكثرة من مات بها من الوباء الجارف وليس بها أحد.

سنة (٤٥٠): لما عاد إبراهيم ينّال إلى هَمَذان سار طغرلبك خلفه وردَّ وزيره عميد الملك الكندري وزوجته إلى بغداد. وكان مسيره من نصيبين وأرسل إلى زوجته ووزيره عميد الملك يأمرهما باللحاق به، فمنعهما الخليفة من ذلك تمسّكاً بهما. وسار من كان ببغداد من التُّرك إلى السلطان بهَمَذان وسار عميد الملك إلى دُبيس بن مزيد فاحترمه وعظَّمه. ثم سار من عنده إلى هزارسب، وسارت خاتون إلى السلطان بهَمَذان، فأرسل الخليفة

٢٦٣

إلى نور الدولة دُبيس يأمره بالوصول إلى بغداد. فورد إليها في مائة فارس ونزل في النجمي، ثم عَبر إلى الأتانين. وقوي الإرجاف بوصول البساسيري. فلما تحقق الخليفة وصوله إلى هيت أمر الناس بالعبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي. فأرسل دُبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء يقول: الرأي عندي خروجكما من البلد معي، فإنني أجتمع أنا وهزارسب، فإنه بواسط على دفع عدوكما. فأجيب ابن مزيد بأن نقيم حتى يقع الفكر في ذلك. فقال: العرب لا تطيعني على المقام وأنا أتقدم إلى ديالى، فإذا انحدرتم سرتُ في خدمتكم. وسار وأقام بديالي ينتظرهما فلم ير لذلك أثراً، فسار إلى بلاده وجرت أمور وخطوب من البساسيري لا ربط لذكرها بهذا المقام.

في هذه السنة أنفذ السلطان بعد استقرار الخليفة في داره جيشاً عليهم خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس نحو الكوفة فأضاف إليهم سرايا ابن منيع الخفاجي، وكان قد قال للسلطان: أرسلْ معي هذه العدة حتى أمضي إلى الكوفة وأمنع البساسيري من الإصعاد إلى الشام. وسار السلطان طغرلبك في أثرهم، فلم يشعر دُبيس بن مزيد والبساسيري إلاَّ والسرية قد وصلت إليهم ثامن ذي الحجَّة من طريق الكوفة بعد أن نهبوها، وأخذ نور الدولة دُبيس رحله جميعه وأحدره إلى البطيحة وجعل أصحاب نور الدولة دُبيس يرحلون بأهليهم فيتبعهم التُّرك. فتقدم نور الدولة ليرد العرب إلى القتال فلم يرجعوا فمضى. ووقف البساسيري في جماعته، وحمل عليه الجيش فأُسر من أصحابه أبو الفتح بن ورّام وأُسر منصور وبدران وحماد بنو نور الدولة دُبيس. وانتهى الأمر بقتل البساسيري وحُمل رأسه إلى بغداد، ومضى نور الدولة إلى البطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم.

سنة (٤٥١): في هذه السنة انحدر السلطان طغرلبك إلى واسط بعد فراغه من أمر بغداد، فرآها قد نهبت وحضر عنده هزارسب بن بنكير، وأصلح معه حال دُبيس بن مزيد وأحضره معه إلى خدمة السلطان وأصعد في صحبته إلى بغداد.

سنة (٤٥٢): وفي هذه السنة في صفر أصعد السلطان إلى بغداد ومعه دُبيس بن مزيد مع جماعة، واجتمع السلطان بالخليفة وأمر الخليفة بعمل

٢٦٤

طعام كثير حضره السلطان والأمراء وأصحابهم، وعمل السلطان أيضاً سماطاً أحضر فيه الجماعة وخلع عليهم.

سنة (٤٥٥): في هذه السنة تُوفِّي السلطان طغرلبك، أما الأحوال بالعراق بعد وفاته، فإنه كُتب من ديوان الخلافة إلى شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل، وإلى نور الدولة دُبيس بن مزيد وإلى هزارسب وإلى جماعة غيرهم من ولاة الأطراف. وقدم إلى بغداد دُبيس بن مزيد، وفارق شرف الدولة مسلم بغداد ونهب النواحي، فسار نور الدولة والأكراد وبنو خفاجة إلى قتاله، ثم أُرسل إليه من ديوان الخليفة رسول معه خلعة له وكوتب بالرضا عنه، وانحدر إليه نور الدولة دُبيس، فعمل له شرف الدولة سماطاً كثيراً وخلع على دُبيس وولده منصور وعاد إلى حلته.

سنة (٤٦٠): وفيها عزل فخر الدولة بن جُهير من وزارة الخليفة، فخرج من بغداد إلى نور الدولة دُبيس بن مزيد بالفلَّوجة. ثم شُفع إليه فأُعيد إلى الوزارة سنة (٤٦١).

سنة (٤٦٢): وفيها تُوفِّي تاج الملوك هزارسب بن بنكير بن عياض بأصبهان وهو عائد من عند السلطان إلى خوزستان، وكان قد علا أمره وتزوج بأخت السلطان، وبغى على نور الدولة دُبيس بن مزيد، وأغرى السلطان به ليأخذ بلاده. فلما مات سار دُبيس إلى السلطان ومعه شرف الدولة مسلم صاحب الموصل، فخرج نظام الملك فلقيهما وتزوج شرف الدولة بأخت السلطان التي كانت امرأة هزارسب.

من أخبار بهاء الدولة منصور بن دُبيس بن مزيد:

سنة (٤٦٥): في هذه السنة لما مات السلطان ألب ارسلان، وبلغ ابن أخيه قاورت بك وفاته وهو بكرمان سار طالباً للري يريد الاستيلاء على الممالك. فسبقه إليها السلطان ملكشاه ونظام الملك. وجرت بينهما حرب قرب هَمَذان، انضم فيها إلى ملكشاه شرف الدولة مسلم بن قريش، وبهاء الدولة منصور بن دُبيس ومن معهما من العرب والأكراد. فتمت على يدهما هزيمة عسكر قاورت بك. وقد ذكر ابن الأثير أسباباً لالتحاق كل من مسلم بن قريش ومنصور بن دُبيس بجيش ملكشاه. وكان السبب بالتحاق منصور بن دُبيس، فإنه كان قد سار بمال أرسله به أبوه إلى السلطان فحضر الحرب لذلك.

٢٦٥

سنة (٤٧٤): في هذه السنة في شوال تُوفِّي نور الدولة أبو الأغر دُبيس بن علي بن مزيد الأسدي بمطير آباذ، وكان عمره ثمانين سنة وإمارته سبعاً وخمسين سنة. وما زال مُمَّدحاً في كل زمان مذكوراً بالتفضل والحسَّان ورثاه الشعراء فأكثروا. وولي بعده ما كان إليه ابنه أبو كامل منصور ولقبه بهاء الدولة، فأحسن السيرة واعتمد الجميل، وسار إلى السلطان ملكشاه في ذي القعدة واستقر له الأمر، وعاد في صفر سنة خمس وسبعين وأربعمائة وخلع الخليفة أيضاً عليه.

سنة (٤٧٧): في هذه السنة جرت حرب بين فخر الدولة بن جهير وابن مروان، وقد انضم إليه شرف الدولة، وانتهت الحرب بفوز جيوش ابن جهير وانكسار ابن مروان وشرف الدولة، وامتلاء الأيدي من الغنائم والسبي مما مرّ ذكره في أخبار بني المسيب فلا نعيده.

سنة (٤٧٩): في هذه السنة في ربيع الأول تُوفِّي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دُبيس بن علي بن مزيد الأسدي صاحب الحلَّة والنَّيْل وغيرهما مما يجاورهما. ولما سمع نظام الملك خبر وفاته قال: مات أجلّ صاحب عمامة، وكان فاضلاً قرأ على علي بن برهان فبرع بذكائه في الذي استفاد منه وله شعر حسن فمنه:

فإن أنا له أحمل عظيما ولم أَقُدْ لُهاماً ولم أَصبر على فعل مُعظَم

ولـم أُجِر الجاني وأمَنع حَوْزَهُ عـلامَ أنـادي للفخار وانتمي

وله في صاحب له يُكْنى أبا مالك يرثيه:

فإن كان أودى خِدُننا ونديمن أبـو مالك فالنائبات تنوب

فكل ابن أُنثى لا محالة ميت وفي كل حي للمنون نصيب

ولو ردّ حزن أو بكاء لهالك بكيناه ما هبَّت صبا وجنوب

ولما تُوفِّي أرسل الخليفة إلى ولده سيف الدولة صدقة نَقيب العلويين أبا الغنائم يُعَزّيه. وسار سيف الدولة إلى السلطان ملكشاه، فخلع عليه وولاّه ما كان لأبيه وأكثر الشعراء مراثي بهاء الدولة.

سنة (٤٨٢): في هذه السنة في جمادى الأولى كثرت الفتن في بغداد بين أهل الكرخ وغيرها من المحالّ، واستفحلت وعظم خطرها وجرى من

٢٦٦

النهب والقتل والفساد أمور عظيمة. فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل عسكراً إلى بغداد، فطلبوا المفسدين والعيارين فهربوا منهم، فهدمت دورهم وقُتل منهم ونُفي، وسكنت الفتنة وأمن الناس.

سنة (٤٨٣): في هذه السنة في جمادى الأولى نهب العرب البصرة نهباً قبيحاً، وكانت أمور فادحة وأول خرق جرى في أيام السلطان ملكشاه، فلما فعلوا ذلك، وبلغ الخبر إلى بغداد انحدر سعد الدولة كوهرائين وسيف الدولة صدقة بن مزيد إلى البصرة لإصلاح أمورها، فوجدوا العرب قد فارقوها.

سنة (٤٨٦): وفيها في شعبان سار سيف الدولة صدقة بن مزيد إلى السلطان في بركيارق، فلقيه بنصيبين وسار معه إلى بغداد على الموصل.

سنة (٤٨٨): في صفر هذه السنة سيّر الملك تُتُش يوسف بن آبق التُّركماني شحنة لبغداد ومعه جمع من التُّركمان، فمُنع من دخول بغداد، وورد إليه صدقة بن مويد صاحب الحلَّة وكان يكره تُتُش ولم يخطب له في بلاده. فلما سمع ابن آبق بوصوله عاد إلى طريق خراسان ونهب باجِسْرا وقاتله العسكر ببعقوبا، فهزمهم ونهبهم افحش نهب وأكثر معه من التُّركمان وعاد إلى بغداد وكان صدقة قد رجع إلى الحلَّة.

سنة (٤٩٠): لما ضايق قوام الدولة أبو سعيد كربوقا على علي بن مسلم في حصاره الموصل ولم يجد حيلة لدفعه عنها، وقد عزَّت عليه الأقوات ودام الحصار مدة تسعة أشهر فارقها إلى الأمير صدقة بن مزيد بالحلَّة.

وفي السنة أغارت خفاجة على بلد سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل في أثرهم عسكراً مقدمه ابن عمه قريش بن بدران بن دُبيس بن مزيد، فأسرته خفاجة وأطلقوه وقصدوا مشهد الحسين بن علي (عليه السلام) فتظاهروا فيه بالفساد والمنكر. فوجه إليهم صدقة جيشاً، فكبسوهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً في المشهد حتى عند الضريح وألقى رجل منهم نفسه وهو على فرسه من على السور، فسلم هو والفرس.

سنة (٤٩٣): في هذه السنة أعيدت الخطبة للسلطان بركيارُق ببغداد واتصل به الأمير صدقة بن مزيد صاحب الحلَّة. وكان في الأمراء الذي قاتلوا معه أخاه محمد بإِسْبيذْروذَ (النهر الأبيض) وهو على عدة فراسخ من

٢٦٧

هَمَذان وانتهت المعركة بانكسار بركيارُق.

سنة (٤٩٤): لمّا: كان السلطان بركيارق بالريّ بعد انهزام أخيه محمد، اجتمعت عليه العساكر، فصار معه نحو مائة ألف فارس. ثم إنهم ضاقت عليهم الميرة فتفرقت العساكر، فعاد دُبيس بن صدقة إلى أبيه.

في هذه السنة خرج الأمير صدقة بن منصور بن دُبيس بن مَزيْد صاحب الحلَّة عن طاعة السلطان بركيارُق، وقطع خطبته من بلاده وخطب فيها للسلطان محمد؛ وكان سبب ذلك أن الوزير الأعزّ أبا المحاسن الدّهستاني وزير السلطان بركيارق أرسل إلى صدقة يقول له: قد تخلّف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار وكذا وكذا ديناراً لِسنين كثيرة، فإن أرسلتها، وإلاَّ سيّرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك. فلما سمع هذه الرسالة قطع الخطبة وخطب لمحمد. فلما وصل السلطان بركيارق إلى بغداد على هذه الحال أرسل إليه مرة بعد مرة يدعوه إلى الحضور عنده، فلم يُجبْ إلى ذلك. فأرسل إليه الأمير إِياز يشير عليه بقصد خدمة السلطان ويضمن له كل ما يريده، فقال: لا أحضر ولا أطيع السلطان إلا إذا سلّم وزيره أبا المحاسن إلي، وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبداً ويكون في ذلك ما يكون، فإن سلّمه إلي فأنا العبد المخلص في العبودية بالحسن والطاعة. فلم يُجَب إلى ذلك، فتمّ على مقاطعته وأرسل إلى الكوفة وطرد عنها النائب بها عن السلطان واستضافها إليه. ولما وصل السلطان محمد إلى بغداد، وقدم إليه الأمير صدقة في المحرم سنة خمس وتسعين وأربعمائة وخرج الخلق كلهم للقائه. وفي هذه السنة لما أطلق زعيم الرؤساء أبو القاسم علي بن فخر الدولة بن جهير أخو عميد الدولة من الاعتقال خرج إلى ظاهر بغداد من ثلمة في السور، وقد اختلط بالناس وسار إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد، فاستقبله وأنزله وأكرمه.

سنة (٤٩٥): في هذه السنة خرج تاج الرؤساء ابن أخت أمين الدولة أبي سعيد بن الموصلايا إلى الحلَّة السيفية مستجيراً بسيف الدولة صدقة؛ وسبب ذلك أن الوزير الأعز وزير السلطان بركيارق كان يُنسب إليه أنه هو الذي يميل جانب الخليفة إلى السلطان محمد، فسار خائفاً واعتزل خاله أمين الدولة الديوان، وجلس في داره فلما قُتل الوزير الأعز، عاد تاج الرؤساء من الحلَّة إلى بغداد.

٢٦٨

سنة (٤٩٦): لما أتى ينّال بن انوشتكين إلى بغداد، واستقر أمره بها ظلم الناس بالبلاد جميعاً، وصادرهم واستطال أصحابه على العامة بالضرب والقتل وغير ذلك. أرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة وعرَّفه ما يفعله ينَّال، من نهب الأموال وسفك الدماء، وطلب إليه أن يحضر بنفسه ليكف ينَّال، فسار من حلته في رمضان ووصل بغداد رابع شوَّال وضرب خيامه بالنجمي واجتمع هو وينَّال وإيلغازي ونواب ديوان الخليفة وتقررت القواعد على مال يأخذه ويرحل عن العراق. فطلب ينال المهلة، فعاد صدقة عاشر شوَّال إلى حلته، وترك ولده دُبيساً ببغداد يمنعه من الظلم والتعدي عما استقر الأمر عليه. فبقي ينَّال إلى مستهل ذي القعدة وسار إلى أوانا، فنهب وقطع الطريق وعسف الناس وبالغ في الفعل القبيح وأقطع القُرى لأصحابه. فأرسل الخليفة إلى صدقة في ذلك، فأرسل ألف فارس وساروا إليه ومعهم جماعة من أصحاب الخليفة وإيلغازي شحنة بغداد. فلما سمع ينال بقربهم منه عبر دجلة وسار إلى باجِسْرى وشعثها، وقصد شهر آبان فمنعه أهلها، فقاتلهم فقُتل بينهم قتلى، ورحل عنهم وسار إلى أذربيجان قاصداً إلى السلطان محمد. وعاد دُبيس بن صدقة وإيلغازي شِحنة بغداد إلى مواضعهم.

وفي هذه السنة منتصف ربيع الأول ورد كمشتكين القيصري إلى بغداد شحنةً أرسله إليها السلطان بركيارق. فلما سمع إيلغازي وهو شحنة ببغداد للسلطان محمد أرسل إلى أخيه سُقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا يستدعيه إليه؛ ليعتضد به على منعه، وسار إلى سيف الدولة صدقة بالحلَّة اجتمع به، وسأله تجديد عهد في دفع من يقصده من جهة بركيارق فأجابه إلى ذلك وحلف له. فعاد إيلغازي. وورد سقمان في عساكره ونهب في طريقه تكريت، وورد إليه سقمان ودخلها ونهبها. ولما وصل إلى بغداد نزل بالرملة. وأما كمشتكين فأسرع بمن انضم إليه إلى بغداد فوصلها منتصف ربيع الأول، وفارق إيلغازي داره واجتمع بأخيه سُقمان، وأصعدا من الرملة ونهبا بعض قرى دُجَيْل. فسار طائفة من عسكر كمشتكين وراءهما، ثم عادوا عنها وخُطب للسلطان بركيارق ببغداد. فأرسل كمشتكين القيصري إلى سيف الدولة صدقة ومعه حاجب من ديوان الخليفة في طاعة بركيارق. فلم يجب إلى ذلك وكشف القناع ببغداد في مخالفته. وسار من الحلَّة إلى جسر

٢٦٩

صرصر، فقطعت خطبة بركيارق ببغداد، ولم يذكر على منابرها أحد من السلاطين، واقتصر الخطباء على الدعاء للخليفة لا غير. ولما وصل سيف الدولة إلى صرصر أرسل إلى إيلغازي وسقمان، وكانا بحربى يعرّفهما أنه قد أتى لنصرتهما، فعادا ونهبا دُجيلاً، ولم يبقيا على قرية كبيرة ولا صغيرة، وأخُذت الأموال وافتُّضت الأبكار ونهب العرب والأكراد الذين مع سيف الدولة بنهر ملك إلاّ أنهم لم يُنقل عنهم مثل التُّركمان من أخذ النساء والفساد معهن، لكنهم استقصوا في أخذ الأموال بالضرب والاحراق وبطلت معايش الناس وغلت الأسعار. فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة بالإصلاح. فلم تستقر قاعدة وعاد إيلغازي وسُقمان ومعهما دُبيس بن سيف الدولة صدقة من دُجيل، فخيَّموا بالرملة فقصدهم جماعة كثيرة من العامة فقاتلوهم فقُتل من العامة أربعة نفر وأُخذ منهم جماعة، فأُطلقوا بعد أن أخذت أسلحتهم. وازداد الأمر شدة على الناس، فأرسل الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن بن الدامغاني وتاج الرؤساء بن الموصلايا إلى سيف الدولة يأمره بالكف عن الأمر الذي هو ملابسه، ويعرِّفه ما الناس فيه ويُعظِّم الأمر عليه. فأظهر طاعة الخليفة أن أخرج القيصريّ من بغداد وإلاّ فليس غير السيف وأرعد وأبرق. فلما عاد الرسول استقر الأمر على إخراج القيصري من بغداد. ففارقها ثاني عشر ربيع الآخر وسار إلى النهروان. وعاد سيف الدولة إلى بلده، وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد وسار القيصري إلى واسط، فخاف الناس منه وأرادوا الانحدار منها ليأمنوا فمنعهم القيصري. وخطب لبركيارق بواسط، ونهبوا كثيراً من سوادها. فلما سمع صدقة ذلك سار إلى واسط، فدخلها وعدل في أهلها وكف عسكره عن أذاهم، ووصل إليه إيلغازي بواسط، وفارقها القيصري ونزل متحصِّناً بدجلة، فقيل لسيف الدولة: إن هناك مخاضة فسار إليها في عسكره وقد لبسوا السلاح، فلما رآهم عسكر القيصري تفرقوا عنه وبقي في خواص أصحابه. فطلب الأمان من سيف الدولة، فأمنه فحضر عنده فأكرمه، وقال له: قد سمنت، قال: وتركتنا نسمن أخرجتنا من بغداد ثم من واسط ونحن لا نعقل. ثم بذل صدقة الأمان لجميع عسكر واسط، ومن كان مع القيصري سوى رجليَنْ، فعادا إليه فأمنهما وعاد القيصري إلى بركيارق، وأُعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وخُطب بعده لسيف الدولة وإيلغازي واستناب كل

٢٧٠

واحد منهما ولده وعادا عنها في العشرين من جمادى الأولى، وأمن أهل واسط مما كانوا يخافونه، فأما إيلغازي فإنه أصعد إلى بغداد، وأما سيف الدولة صدقة فإنه عاد إلى الحلَّة، وأرسل ولده الأصغر منصوراً مع إيلغازي إلى المستظهر بالله يسأله الرضا عنه، فإنه كان قد سخط بسبب هذه الحادثة فوصل إلى بغداد وخاطب في ذلك فأجيب إليه.

سنة (٤٩٦): كانت مدينة هيت لشرف الدولة مسلم بن قريش أقطعه إياها السلطان الب ارسلان، ولم تزل معه حتى قُتل، فنظر فيها عمداء بغداد إلى أن مات السلطان ملكشاه. ثم أخذها أخوه تُتُش بن ألب ارسلان، فلما استولى السلطان بركيارق أقطعها بهاء الدولة ثروان بن وهب بن وُهَيْبة وأقام هو وجماعة من بني عُقْيل عند سيف الدولة صدقة، وكانا متصافيين وكان صدقة يزوره كثيراً ثم تنافرا؛ وكان سبب ذلك أن صدقة زوَّج بنتاً له من ابن عمه، وكان ثروان قد خطبها فلم يجبه إلى ذلك، فتحالفت عُقْيل وهم في حلة سيف الدولة أن يكونوا يداً واحدة عليه، فأنكر صدقة ذلك. وحج ثروان عُقَيْبَ ذلك وعاد مريضاً، فوكّل به صدقة، وقال: لابدّ من هيت. فأرسل ثروان حاجبه وكتب خطه بتسليم البلد إليه. وكان بهيت حينئذٍ محمد بن رافع بن رفاع بن ضُبيعة بن مالك بن مقلد بن جعفر. وأرسل صدقة ابنه دُبيس مع الحاجب ليتسلمها، فلم يسلّم إليه محمد. فعاد دُبيس إلى أبيه فلمّا أخذ صدقة واسطاً هذه النوبة أصعد في عسكره إلى هيت فخرج إليه منصور بن كثير ابن أخي ثروان، ومعه جماعة من أصحابه فلقوا سيف الدولة وحاربوه ساعة من النهار. ثم إن جماعة من الرَّبعَييّنْ فتحوا لسيف الدولة البلد فدخله أصحابه، فلما رأى ذلك منصور ومن معه سلّموا البلد إليه، فملكه يوم نزوله، وخلع على منصور وجماعة من وجوه أصحابه، وعاد إلى حِلَّته واستخلف عليها ابن عمه ثابت بن كامل.

وفي هذه السنة استوزر المستظهر بالله زعيم الرؤساء أبا القاسم بن جُهير واستقدمه من الحلَّة من عند سيف الدولة صدقة، وقد سبق سبب التجائه إليه.

وفي سنة (٤٩٧) لما أُستولي في هذه السنة في المحرم على مدينة عانة والحديثة بَلْك بن بهرام بن أرتق، وهو ابن أخي إيلغازي بن أرتق، وكانت له مدينة سروج فأخذها الفرنج منه، فسار إلى عانة وأخذها من بني

٢٧١

يعيش بن عيسى بن خلاط، فقصد بنو يعيش سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومعهم مشايخهم وسألوه الإصعاد إليها وان يتسلمها منهم، ففعل وأصعد معهم. فرحل التُّركمان وبهرام عنها، وأخذ صدقة رهائنهم وعاد إلى حلته، فرجع بَلك إليها ومعه ألفا رجل من التُّركمان، فمانعه أصحابه قليلاً. واستدل على المخاضة إليها، فخاضها وعبر وملكهم ونهبهم وسبى جميع حرمهم، وانحدر طالباً هيت من الجانب الشامي، فبلغ إلى قريب منها. ثم رجع من يومه ولما سمع صدقة جهَّز العساكر، ثم أعادهم عند عود بلك.

وفي هذه السنة اصطلح الأخوان السلطان بركيارق والسلطان محمد بعد أن جر اختلافهما العظائم على البلاد التي كانا متسلطين عليها. وبُني صلحهما على قاعد مقررة بعد اقتسام سلطان البلاد بينهما، ومما دخل في نفوذ السلطان محمد من بلاد العراق بلاد سيف الدولة صدقة. ولما وصلت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح وما استقرت القواعد عليه حضر إيلغازي بالديوان، وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق أُجيب إلى ذلك. وخُطب له بالديوان وخطب له من الغد بالجوامع وبواسط، ولمّا خطب إيلغازي ببغداد لبركيارق، وصار في جملته أرسل الأمير صدقة إلى الخليفة يقول: كان أمير المؤمنين ينسب إليّ كل ما يتجدد من إيلغازي من اخلال بواجب الخدمة وشرط الطاعة ومن اطِّراح المراقبة. والآن فقد أبدى صفحته للسلطان الذي استنابه، وأنا غير صابر على ذلك، بل أسير لإخراجه عن بغداد. فلما سمع إيلغازي ذلك شرع في جمع التُّركمان وورد صدقة بغداد، فنزل مقابل التاج وقبَّل الأرض ونزل في مخيَّمه بالجانب الغربي. ففارق إيلغازي بغداد إلى يعقوبا، وأرسل إلى صدقة يعتذر من طاعته لبركيارق بالصلح الواقع، وأنّ اقطاعه حلوان وغيرها في جملة بلاده، وأنّ بغداد التي هو شحنة فيها قد صارت له؛ فذلك الذي أدخله في طاعته، فرضي عنه صدقة وعاد إلى الحلَّة.

وفي هذه السنة في شوَّال انحدر سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلَّة إلى اسط في عسكر كثير. فنودي بها في التُّرك: من أقام فقد برئت منه الذمة. فسار جماعة منهم إلى بركيارق وجماعة إلى بغداد. وصار مع صدقة جماعة منهم. ثم إنه أحضر مهذّب الدولة بن أبي الجبر صاحب البطيحة، وضمنه البلد لمدة آخرها آخر السنة بخمسين ألف دينار. وعاد إلى

٢٧٢

الحلَّة وأقام مهذّب الدولة بواسط إلى سادس ذي القعدة وانحدر إلى بلده. وفي الصفحة والسنة في ربيع الأول أُطلق سديد الملك أبو المعالي من الاعتقال، وهو الذي كان وزير الخليفة. ولما أُطلق هرب إلى الحلَّة السيفية، ومنها إلى السلطان بركيارق فولاّه الإشراف على ممالكه.

سنة (٤٩٨): تُوفِّي في هذه السنة السلطان بركيارقُ، وبلغ أخاه السلطان محمد وفاته وهو يحاصر الموصل. فأصلح صاحبها جكرش وسار إلى بغداد ومعه سقمان القطبي وسار معه جكرش وغيرهما من الأمراء. وكان سيف الدولة صدقة صاحب الحلَّة قد جمع كثيراً من العساكر، فبلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس، وعشرة آلاف راجل وأرسل ولديه بدران ودُبيساً إلى السلطان محمد يستحثه على المجيء إلى بغداد، فاستصحبهما معه إلى بغداد، ووصل إليها يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى، ونزل بالجانب الغربي بأعلى بغداد، وخطب له به وملكشاه بن بركيارق بالجانب الشرقي. وبعد أن تهيأ رجال كل من الملكين لمحاربة الآخر سُعي بالصلح بينهما على أن تسلَّم السلطنة إلى السلطان محمد. وثاني يوم تمَّ عقد الصلح على قواعد تقررت. ولما كان من الغد حضر الأمير إياز عند السلطان محمد، فلقيه وزير السلطان وكافة الناس. ووصل سيف الدولة صدقة ذلك الوقت، ودخلا إلى السلطان فأكرمهما وأحسن إليهما، وقيل: بل ركب السلطان ولقيهما، ووقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره.

في هذه السنة قتل السلطان محمد الأمير إياز؛ وكان مقتله لسبب هزل ومزاح أدى إلى ارتياب السلطان منه. وكان إياز بعد إقرار أمر السلطنة للسلطان محمد قد عمل دعوة عظيمة في داره وحضر مع السلطان صدقة بن مزيد، وفارق السلطان الدار وعاد إلى داره. فلما كان ثالث عشر جمادى بعد الدعوة بخمسة أيام استدعى السلطان الأمير صدقة واياز وجكرش وغيرهم من الأمراء، فلما حضروا أرسل إليهم أنه بلغنا أن قلج ارسلان بن سليمان بن قُتلمش قصد ديار بكر ليتملَّكها وسيَّر منها إلى الجزيرة، وينبغي أن تجتمع آراؤكم على من يسير إليه؛ ليمنعه ويقاتله فقال الجماعة: ليس لهذا غير الأمير إياز. فقال إياز: ينبغي أن اجتمع أنا وسيف الدولة صدقة بن مزيد على هذا الأمر والدفع لهذا القاصد. فقيل ذلك للسلطان. فأعاد الجواب يستدعي إياز وصدقة والوزير سعد الملك ليحرر الأمر في حضرته

٢٧٣

فنهضوا ليدخلوا إليه، وكان قد أعد جماعة من خواصه ليقتلوا إياز إذا دخل إليه. فلما دخلوا ضرب أحدهم رأسه فأبانه، فأما صدقة فغطى وجهه بكمه، وأما الوزير فإنه غشي عليه، ولف إياز في مسح وأُلقي على الطريق.

وفي هذه السنة أَقطع السلطان محمد الكوفة للأمير قايماز وأوصى صدقة أن يحمي أصحابه من خفاجة فأجاب إلى ذلك.

سنة (٤٩٩): في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عُبادة وخفاجة. وكان قبل وقوع الحرب بينهما أشار صدقة على عبادة بالصلح، فلم تقبل وانتهت المعركة بفوز خفاجة وبامتلاء أيديهم من الغنائم. وكان الأمير صدقة قد أعان خفاجة سراً، فلما وصل المنهزمون إليه هنأهم صدقة بالسلامة، فقال له بعضهم: ما زلت أقاتل وأضارب وأنا طامع في الظفر بهم حتى رأيت فرسك الشقراء تحت أحدهم، فعلمت أنهم أُجلبوا علينا بخيلك ورجلك، وأننا لا طاقة لنا بهم فنُصروا علينا بمعونتك، وفلّونا بحدك فلم يجبه صدقة.

في هذه السنة في جمادى الأولى انحدر سيف الدولة من الحلَّة إلى البصرة فملكها، وكان قد تمكَّن إسماعيل بن ارسلانجق منها ومن نواحيها، وأقام بها عشر سنين نافذ الأمر، وازداد قوة وتمكناً بالاختلاف الواقع بين السلاطين وأخذ الأموال السلطانية. وكان قد أرسل صدقة وأظهر له أنه في طاعته وموافقته، فلما استقر الأمر للسلطان محمد أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعاً يأخذها من إسماعيل، فخاطب صدقة في معناه حتى أُقرت البصرة عليه، فأنفذ السلطان عميداً إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان هناك، فمنعه إسماعل ولم يمكِّنه من عمله وفعل ما خرج به عن حدِّ المجاملة فأمر السلطان صدقة بقصده وأخذ البصرة منه؛ فتحرك لذلك. فاتفق ظهور منكبرس وخلافه على السلطان وأنه على قصد واسط، فسُرّ إسماعيل بذلك وزاد انبساطه وأرسل صدقة حاجباً له وكان قبله قد خدم أباه وجده إلى إسماعل يأمره بتسليم الشرطة وأعمالها إلى مهذّب الدولة بن أبي الجبر؛ لأنها كانت في ضمانه، فوصل إلى الشرطة وأخذ منها أربعمائة دينار، فأحضره إسماعيل وحبسه وأخذ الدنانير منه. فلما رأى صدقة مكاشفته سار من حلته، وأظهر أنه يريد قصد الرحبة، ثم جدَّ السير إلى البصرة، فلم يشعر إسماعيل الا بقربه منه. ففرّقَ أصحابه في القلاع التي استجدَّها بِمَطَّارا

٢٧٤

ونهر معقل وغيرهما، واعتقل وجوه العباسيين والعلويين وقاضي البصرة ومدرِّسها وأعيان أهلها ونازلهم صدقة. فجرى قتال بين طائفة من عسكره وطائفة من البصريين قُتل فيها أبو النجم بن أبي القاسم الورَّامي وهو ابن خال سيف الدولة صدقة، فمما مُدح به سيف الدولة وُرثي به أبو النجم بن أبي القاسم قول بعضهم:

تَهَنَّ يا خير من يحمي حريم حِمَىً فـتحاً أَغـثتْ به الدنيا مع الدين

ركـبت للبصرة الغراء في نُخبٍ غُـرٍّ كـجيش عـلي يوم صفين

هـوى أبو النجم كالنجم المنير به لـكنه كـان رجـماً لـلشياطين

وأقام صدقة محاصراً لإسماعيل بالبصرة، فأشار عليه بعض أصحابه بالعود عنها، وأعلموه أنهم لا يظفرون بطائل، فأشار عليهم بالمقام، وقالوا: إن رحلنا كانت كسرة، وكان رأي سيف الدولة المقام، وقال: إن تعذَّر عليّ فتح البصرة لم يطعني أحد واستعجزني الناس. ثم إن إسماعيل خرج من البلد وقاتل صدقة، فسار بعض أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد ودخلوه وقتلوا من السواديّة الذين جمعهم إسماعيل خلقاً كثيراً. وانهزم إسماعيل إلى قلعته بالجزيرة، فأدركه بعض أصحاب سيف الدولة، وأراد قتله ففداه أحد غلمانه بنفسه فوقعت الضربة فيه فأثخنته. فنهُبت البصرة وغنم من معه من عرب البرّ وغيرهم ما فيها، ولم يسلم منهم إلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد، فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها وحموا المربد، عمَّت المصيبة أهل البلد سوى من ذكرنا وامتنع إسماعيل بقلعته، فاتفق أن لمهذّب بن أبي الجبر انحدر في سفن كثيرة وأخذ القلعة التي لإسماعيل بمطارا، وقتل بها خلقاً من أصحاب إسماعيل، وحمل إلى صدقة كثيراً فأطلقهم. فلما علم إسماعيل بذلك أرسل إلى صدقة يطلب الأمان على نفسه وأهله وأمواله، فأجابه إلى ذلك وأجَّله سبعة أيام، فأخذ كل ما يمكنه حمله مما يعز عليه، وما لم يقدر على حمله أهلكه بالماء وغيره. ونزل إلى سيف الدولة وأمن سيف الدولة أهل البصرة من كل أذى، ورتب عندهم شحنة وعاد إلى الحلَّة ثالث جمادى الآخرة. وكان مقامه بالبصرة ستة عشر يوماً. وأما إسماعيل فإنه لما سار صدقة إلى الحلَّة قصد هو الباسيان إلى أن وصله ماله في المراكب، وسار نحو فارس وصار يتعنَّت

٢٧٥

أصحابه وزوجته وقبض على جماعة من خواصه، وقال لهم: أنتم سقيتم ولدي أفراسياب السم حتى مات وكان قد مات، في صفر من هذه السنة. ففارقه كثير منهم حتى زوجته فارقته وسارت إلى بغداد، وانتهى الأمر به إلى الموت وانتهاب أمواله وتفرِّق أصحابه.

وفي هذه السنة اجتمعت ربيعة والمنتفق ومن انضم إليها من العرب، وقصدوا البصرة في جمع كثير. وكان الأمير صدقة لما استولى عليها استناب بها مملوك جده دُبيس بن مزيد التونتاش وجعل معه مائة وعشرين فارساً، فقاتلهم هذا فأسروه وانهزم أصحابه، ولم يقدر من بها على حفظها، فدخلوها بالسيف أواخر ذي القعدة وأحرقوا الأسواق والدور الحسَّان، ونهبوا ما قدروا عليه وأقاموا ينهبون ويحرقون اثنين وثلاثين يوماً، وتشرَّد أهله في السواد ونهبت خزانة كتب كانت موقوفة وقفها القاضي أبو الفرج ابن أبي البقاء. وبلغ الخبر صدقة، فأرسل عسكراً فوصلوا وقد فارقها العرب. ثم إن السلطان محمداً أرسل شحنة وعميداً إلى البصرة وأخذها من صدقة، وعاد أهلها إليها وشرعوا في عمارتها.

سنة (٥٠٠): في هذه السنة في صفر تسلَّم الأمير سيف الدولة صدقة ابن منصور بن مزيد قلعة تكريت. وقد تقدم أنها كانت لبني مقن العقيليين وقد تداولتها أيدي الغالبين. ولما استقر السلطان محمد بعد موت أخيه بركيارق اقطعها للأمير أقسنقر البُرسقي شحنة بغداد. فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر حتى ضاق على كيقباذ الأمر، فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه فسار إليها في صفر هذه السنة وتسلَّمها منه. وانحدر البُرسقي ولم يملكها. ومات كيقباذ بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام واستناب صدقة بها ورّام بن أبي فراس بن ورّام. وكان كيقباذ يُنسَب إلى الباطنية، وكان موته من سعادة صدقة، فإنه لو أقام عنده لعرّض صدقة لظنون الناس في اعتقاده ومذهبه.

وفي هذه السنة كانت حرب بين عُبادة وخفاجة كان الظفر بها لعبادة، وأخذت بثارها؛ وكان سبب ذلك أن سيف الدولة صدقة أرسل ولده بدران في جيش إلى طرف بلاده مما يلي البطيحة ليحميها من خفاجة؛ لأنهم يؤذون أهل تلك النواحي، فقد قربوا منها وتهددوا أهل البلاد، فكتب إلى أبيه يشكو منهم ويعرِّفه حالهم، فأحضر عبادة وكانت خفاجة قد فعلت بهم العام الماضي ما

٢٧٦

تقدم ذكره. فلما حضروا عنده قال لهم: ليتجهزوا مع عسكره ليأخذوا بثأرهم من خفاجة، فساروا في مقدم عسكره، فأدركوا حلة من خفاجة، من بني كليب لبلادهم وهم غارون لم يشعروا بهم، فقالوا: من انتم؟ فقالت عبادة: نحن أصحاب لديون. فعلموا أنهم عبادة، فقاتلوهم وصبرت خفاجة. فبينما هم في القتال إذ سُمع طبل الجيش، فانهزموا وقَتلت منهم عبادة جماعة، وكان فيهم عشرة من وجوههم. وتركوا حُرمهم فأمر صدقة بحراستهن وحمايتهن وأمر العسكر أن يؤثروا عبادة بما غنموه من أموال خفاجة خلفاً لهم عما أُخذ منهم في العام الماضي. وأصاب خفاجة من مفارقة بلادها وَنَهْب أموالها وقتل رجالها أمر عظيم، وانتزحت إلى نواحي البصرة وأقامت عبادة في بلاد خفاجة. ولما انهزمت خفاجة وتفرقت ونُهبت أموالها جاءت امرأة منهم إلى الأمير صدقة فقالت له: أنت سبيتنا وسلبتنا قوتنا وغرّبتنا وأضعت حُرمتنا قابلك الله في نفسك، وجعل صورة أهلك كصورتنا. فكظم الغيظ واحتمل لها ذلك وأعطاها أربعين جملاً، ولم يمض غير قليل حتى قابل الله صدقة في نفسه وأولاده، فإن دُعاءَ الملهوف عند الله بمكان.

لما أقطع السلطان محمد في محرم هذه السنة جاولي سقاوو الموصل والأعمال التي بيد جكرمش سار إلى الموصل، وجعل طريقه على البوازيج فملكها ونهبها أربعة أيام، ثم سار إلى أربل، وانهزم عسكر جكرش وأسر. ولما وصل الخبر إلى الموصل أقعدوا في الأمر ولده زنكي وهو صبي عمره إحدى عشرة سنة، وخطبوا له وكان مستحفظ القلعة مملوكاً لجكرش اسمه غزغلي فقام في ذلك المقام المرضي، وفرَّق الأموال التي جمعها جكرش والخيول وغير ذلك على الجند، وكاتب سيف الدولة صدقة وقلج أرسلان والبُرسقي شحنة بغداد بالمبادرة إليهم، ومنع جاولي عنهم ووعدوا كلاً منهم أن يسلموا البلد إليه. فأما صدقة فلم يجبهم إلى ذلك ورأى طاعة السلطان. وجرت بعد ذلك أمور وأحداث لا علاقة لها بأخبار بني مزيد فأعرضنا عنها.

وفي هذه السنة اختلف سيف الدولة صدقة بن مزيد ومهذّب الدولة السعيد بن أبي الجبر صاحب البطيحة وانضاف حماد بن أبي الجبر إلى صدقة وأظهر معاداة ابن عمه مهذّب الدولة ثم اتفقوا وكان سبب ذلك أن صدقة لما أقطعه السلطان محمد مدينة واسط ضمنها منه مهذّب الدولة،

٢٧٧

واستناب في الأعمال أولاده وأصحابه، فمدوا أيديهم في الأموال وفرطوا فيها وفرقوها. فلما انقضت السنة طالبه صدقة بالمال وحبسه. ثم سعى في خلاصه بدران بن صدقة وهو صهر الدولة، فأخرجه من الحبس وأعاده إلى بلده البطيحة. وضمن حماد بن أبي الجبر واسط. فانحل على مهذّب الدولة كثير من أمره، فآل الأمر إلى الاختلاف بعد الاتفاق، فإن المصطنع إسماعيل جد حماد، والمختص محمداً والد مهذّب الدولة أخوان. وهما ابنا أبي الجبر وكانت إليهما رياسة أهلهما وجماعتهما. فهلك المصطنع وقام ابنه أبو السيد المظفّر والد حماد مقامه، وهلك المختص محمد وقام ابنه مهذّب الدولة مقامه. وصارا يتنازعان ابن الهيثم صاحب البطيحة، ويقاتلانه إلى أن أخذه مهذّب الدولة أيام كوهرائين. وسلَّمه إلى كوهرائين، فحمله إلى أصبهان فهلك في طريقها. فعظم أمر مهذّب الدولة وصيّره كوهرائين أمير البطيحة، فصار ابن عمه وجماعة تحت حكمه، وكان حماد شاباً، فأكرمه مهذّب الدولة وزوّجه بنتاً له وزاد في اقطاعه فكثر ماله، فصار يحسد مهذّب الدولة ويضمر بغضه، وربما ظهر في بعض الأوقات، وكان مهذّب الدولة يداريه بجهده فلما هلك كوهرائين انتقل حماد عن مهذّب الدولة، وأظهر ما في نفسه فاجتهد مهذّب الدولة في إعادته إلى ما كان فلم يفعل. فسكت عنه فجمع النفيس بن مهذّب الدولة جمعاً وقصد حماداً، فهرب منه إلى سيف الدولة فأرسل حماد إلى صدقة يعرّفه ذلك، فأرسل إليه كثيراً من الجند فقوي عزم مهذّب الدولة على المحاربة لئلا يظن به العجز، فأشار عليه أهله بترك الخروج من موضعه لحصانته، فلم يفعل وسيّر سفنه وأصحابه في الأنهر، فجعل حماد وأخوه له الكمناء واندفعوا من بين أيديهم، فطمع أصحاب مهذّب الدولة وتبعوهم فخرج عليهم الكمناء فلم يسلم منهم إلاّ من لم يحضر أجله، فقُتل منهم وأُسر خلق كثير. فقوي طمع حماد وأرسل إلى صدقة يستنجده، فأرسل إليه مقدم جيشه سعيد بن حميد العمري وغيره من المقدمين، وجمعوا السفن ليقاتلوا مهذّب الدولة، فرأوا أمراً محكماً فلم يمكنهم الدخول إليه. وكان حماد بخيلاً ومهذّب الدولة جواداً، فأرسل إلى سعيد بن حميد الإقامات الوافرة والصِلات الكثيرة، واستماله فمال إليه واجتمع به. وتقرر الأمر على أن أرسل مهذّب الدولة ابنه النفيس

٢٧٨

إلى صدقة، فرضي عنه وأصلح بينهم وبين حماد ابن عمهم، وعادوا إلى حالة حسنة من الاتفاق وكان صلحهم في ذي الحجَّة سنة خمسمائة.

وفي هذه السنة في صَفَر عُزل الوزير أبو القاسم علي بن جهير وزير الخليفة، فقصد دار سيف الدولة صدقة ببغداد ملتجئاً إليها وكانت ملجأً لكل ملهوف، فأرسل إليه صدقة من أخذه إليه إلى الحلَّة.

وفي سنة (٥٠١) وفي رجب قتل الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دُبيس بن مزيد الأسدي أمير العرب، وهو الذي بنى الحلَّة السيفية بالعراق. وكان قد عظم شأنه وعلا قدره واتسع جاهه واستجار به صغار الناس وكبارهم فأجارهم، وكان كثير العناية بأمور السلطان محمد والتقوية ليده والشد منه على أخيه بركيارق حتى أنه جاهر بركيارق بالعداوة، ولم يبرح على مصافاة السلطان محمد وزاده محمد اقطاعاً من جملته مدينة واسط، وأذن له في أخذ البصرة. ثم أفسد ما بينهما العميد أبو جعفر محمد بن حيز البلخي، وقال في جملة ما قاله عنه: إن صدقة قد عظم أمره، وزاد حاله وكثر إدلاله ويبسط في الدولة حمايته على كل من يفر إليه من عند السلطان، وهذا لا تحتمله الملوك لأولادهم ولو أرسلت بعض أصحابك لملك بلاده وأمواله. ثم إنه تعدَّى ذلك حتى طعن في اعتقاده ونسبه وأهل بلده إلى مذهب الباطنية وكذب وإنما كان مذهبه التشيع لا غير، ووافق ارغون السعدي أبا جعفر العميد، وانتهى ذلك إلى صدقة وكانت زوجة ارغون بالحلَّة وأهله، فلم يؤاخذهم بشيء مما كان له أيضاً هناك من بقايا خراج ببلده، فأمر صدقة أن يخلص ذلك إليه بأجمعه ويسلم إلى زوجته. وأما سبب قتله فإن صدقة كان كما ذكرنا يستجير به كل خائف من خليفة وسلطان وغيرهما. وكان السلطان محمد قد سخط على أبي دُلف سرخاب بن كيخسرو صاحب ساوة وآبة، فهرب منه وقصد صدقة فاستجار به فأجاره، فأرسل السلطان يطلب من صدقة أن يسلمه إلى نوابه فلم يفعل. وأجاب: إنني لا أُمكِّن منه بل أُحامي عنه، وأقول: ما قاله أبو طالب لقُريش لما طلبوا منه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

ونُسلمُه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وظهر منه أمور أنكرها السلطان، فتوجه إلى العراق ليتلافى هذا

٢٧٩

الأمر. فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الذي يفعله، فأشار عليه ابنه دُبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال والخيل والتُحف ليستعطف له السلطان، وأشار سعيد بن حميد صاحب جيش صدقة بالمحاربة وجمع الجند وتفريق المال فيهم، واستطال في القول. فمال صدقة إلى قوله وجمع العساكر واجتمع إليه عشرون ألف فارس وثلاثون ألف راجل، فأرسل إليه المستظهر بالله يحذِّره عاقبة أمره، وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان، ويعرض له توسط الحال فأجابه صدقة: إنني على طاعة السلطان لكن لا آمن على نفسي في الاجتماع به. وكان الرسول بذلك عن الخليفة نَقيب النُّقباء علي بن طراد الزينبي. ثم أرسل السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي إلى صدقة يطيب قلبه ويزيل خوفه، ويأمره بالانبساط على عادته، ويعرِّفه عزمه على قصد الفرنج ويأمره بالتجهّز للغزاة معه. فأجاب: إن السلطان قد أفسد أصحابه قلبه عليّ وغيروا حالي معه وزال ما كان عليه في حقي من الإنعام، وذكر سالف خدمته ومناصحته. وقال سعيد بن حُميد صاحب جيشه: لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع. وامتنع صدقة من الاجتماع بالسلطان. ووصل السلطان إلى بغداد في عشرين من ربيع الآخر ومعه وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك، وسيّر البُرسقي شحنة بغداد في جماعة من الأمراء إلى صرصر. فنزلوا عليها وكان وصول السلطان جريدة لا يبلغ عساكره ألفي فارس، فلما تيقن ببغداد مكاشفة صدقة أرسل الأمراء يأمرهم بالوصول إليه والجد في السير وبتعجيل ذلك، فوردوا إليه من كل جانب. ثم وصل كتاب صدقة إلى الخليفة في جمادى الأولى يذكر أنه واقف عندما يرسم له، ويُقرر من حاله مع السلطان، ومهما أمرته من ذلك امتثله، فأنفذ الخليفة الكتاب إلى السلطان، فقال السلطان: أنا ممتثل ما يأمر به الخليفة ولا مخالفة عندي، فأرسل الخليفة إلى صدقة يعرّفه إجابة السلطان إلى ما طلب منه؛ ويأمره بإنفاذ ثقته ليستوثق له ويحلف السلطان على ما يقع الاتفاق عليه. فعاد صدقة عن ذلك الرأي، وقال: إذا رحل السلطان عن بغداد أمددته بالمال والرجال وما يحتاج إليه في الجهاد، وأمّا الآن وهو ببغداد وعسكره بنهر الملك، فما عندي مال ولا غيره وإنّ جاولي سقاوو وإيلغازي بن أرتق قد أرسلا إليّ بالطاعة لي، والموافقة معي على محاربة السلطان وغيره، ومتى أردتهما وصلا في عساكرهما، وورد إلى السلطان قرواش بن

٢٨٠