تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 391
المشاهدات: 124578
تحميل: 11008


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124578 / تحميل: 11008
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

مِمَّن كانوا أُسروا مِن الحُجَّاج، وكانوا يرعون إبلهم وغَنمهم، فعادوا إلى بغداد، فوجد بعضهم نساءهم فقد تَزوَّجْنَ وولدْنَ واقتُسِمت تَركاتهم.

سنة (٤١٧): في هذه السنة اجتمع دُبيس بن علي بن مزيد الأسدي، وأبو الفتيان منيع بن حسَّان أمير بني خفاجة، وجمعا عشائرهما وغيرهما، وانضاف إليهم عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلَّد؛ وكان سببه أنَّ خفاجة تَعرَّضوا إلى السواد وما بيد قرواش بن المقلَّد، فانحدر مِن الموصل لدفعهم، فاستعانوا بدُبيس، فسار إليهم. واجتمعوا فأتاهم عسكر بغداد فالتقوا بظاهر الكوفة وهي لقرواش. فجرى بين مُقدَّمته ومُقدَّمتهما مُناوشة، وعلم قرواش أنَّه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جَريدة في نَفرٍ يَسيرٍ، وعلم أصحابه بذلك فتبعوه مُنهزمين فوصلوا إلى الأنبار. وسارت أسد وخفاجة خلفهم فلمَّا قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حِلله فلم يمُكنهم الإقدام عليه واستولوا على الأنبار ثُمَّ تفرقوا.

في هذه السنة سار منيع بن حسَّان أمير خفاجة إلى الجامعيْن، وهي لنور الدولة دُبيس فنهبها. فسار دُبيس في طَلبه إلى الكوفة ففارقها، وقصد الأنبار وهي لقرواش كان استعادها. فلمَّا نازلها منيع قاتله أهلها فلم يَكُن لهم بخفاجة طاقة، فدخل خفاجة الأنبار ونهبوها واحرقوا أسواقها، وكان ما سَبق في أخبار بني المسيِّب فليُرجع إليه.

سنة (٤٢٠): في هذه السنة أصعد الملك أبو كاليجار إلى المدينة واسط فمَلكها، وكان ابتداء ذلك أنَّ نور الدولة دُبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلَّة والنيل - ولم تَكُن الحلَّة بنيت ذلك الوقت - خطب لأبي كاليجار في أعماله؛ وسببه أنَّ أبا حسَّان المقلَّد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد كان بينه وبين نور الدولة عَداوة، فاجتمع هو ومنيع أمير بني خفاجة، وجرى ما عرفت خبره في أخبار بني صدقة.

وفي سنة (٤٢٥) كان مِن بني خفاجة نَجدةً لدُبيس بن علي بن مزيد على أخيه أبي قوام ثابت بن علي بن مزيد كما مَرَّ ذلك في أخبار بني صدقة.

سنة (٤٢٦): وفيها في ذي الحجَّة وثب الحسن بن أبي البركات بن ثمال الخفاجي بعمِّه علي بن ثمال أمير بَني خفاجة فقتله، وقام بإمارة بني

٣٤١

خفاجة، وفيها قصدت خفاجة الكوفة ومُقدَّمهم الحسن المذكور، فنهبوها وأرادوا تَخريبها، ومنعوا النخل مِن الماء؛ فهلك أكثره.

وفي سنة (٤٢٨) كانوا نَجدةً لجلال الدولة على بارسطغان مِن كِبار القوَّاد.

سنة (٤٤٦): في هذه السنة في رجب قصد بنو خفاجة الجامعَيْن وأعمال نور الدولة دُبيس، وفتكوا في أهلها. وكان نور الدولة شرقي الفرات وخفاجة غربيها. وجرى ما هو مبسوط في أخبار بني صدقة. وفي هذه الصفحة والتي تَليها شيءٌ مِن أخبارهم، وقد ذُكِر في أخبار بني صدقة.

سنة (٤٤٧): وفيها خطب محمود الخفاجي للمستنصر العلوي بشفاثا والعين، وصار في طاعته.

سنة (٤٤٩): وفيها أصلح دُبيس بن علي بن مزيد ومحمود بن الأخرم الخفاجي حالهما مع السلطان.

وفي سنة (٤٥٠) أنفذ السلطان طغرلبك، بعد استقرار الخليفة في داره، جيشاً عليهم خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس نَحو الكوفة، فأضاف إليهم سرايا ابن منيع الخفاجي، وكان قد قال للسلطان: أرسِل معي هذه العُدَّة حتَّى أمضي إلى الكوفة وأمنع البساسيري مِن الإصعاد إلى الشام. وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يَشعُر دُبيس بن مزيد والبساسيري إلاَّ والسريَّة قد وصلت. وانتهى الأمر بفوز عسكر السلطان، وقُتِل البساسيري وحُمل رأسه إلى السلطان.

سنة (٤٥٢): في هذه السنة خَلع السلطان طغرلبك على محمود بن الأخرم الخفاجي، ورُدَّت إليه إمارة بني الخفاجي وولاية الكوفة وسَقي الفرات، وضَمن خواصّ السلطان هناك بأربعة آلاف دينار كُلَّ سنة، وصرف عنها رجب بن منيع.

وفي سنة (٤٨٥) سار الحُجَّاج هذه السنة مِن بغداد، فقَدِموا الكوفة ورحلوا منها. فخرجت عليهم خفاجة. وقد طمعوا بموت السلطان (ملكشاه)، وبُعْدِ العسكر فأوقعوا بهم، وقتلوا أكثر الجُند الذين معم وانهزم باقيهم، ونهبوا الحُجَّاج، وقصدوا الكوفة فدخلوها وأغاروا عليها، وقتلوا في

٣٤٢

أهلها، فرماهم الناس بالنشَّاب فخرجوا بعد أنْ نَهبوا وأخذوا ثِياب مَن لقوه مِن الرجال والنساء. فوصل الخبر إلى بغداد فسُيِّرت العساكر منها، فلمَّا سمع بنو خفاجة انهزموا. فأدركهم العسكر، فقُتل منهم خَلقٌ كثيرٌ، ونُهبت أموالهم وضعفت خفاجة بعد هذه الوقعة.

سنة (٤٨٩): وفيها أغارت خفاجة على بلد سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل في أثرهم عسكراً مُقدَّمه ابن عمِّه قريش بن بدران بن دُبيس بن مزيد، فأسرته خفاجة وأطلقوه، وقصدوا مَشهد الحسين بن علي (عليهما السلام) فتظاهروا فيه بالفَساد والمُنكر، فوجَّه إليهم صدقة جيشاً، فكبسوهم وقتلوا منهم خَلقاً كثيراً في المَشهد حتَّى عند الضريح، وألقى رَجل منهم نفسه وهو على فرسه مِن على السور فسَلِم هو والفرس.

سنة (٤٩٨): وفيها أقطع السلطان محمد الكوفةَ للأمير قايماز، وأوصى صدقة أنْ يَحمي أصحابه مِن خفاجة، فأجاب إلى ذلك.

سنة (٤٩٩): في هذه السنة كانت حرب شَديدة بين عُبادة وخفاجة؛ وسببها أنَّ رَجلاً مِن عُبادة أخذ منه جماعة خفاجة جَمَلين، فجاء إليهم وطالبهم بهما، فلم يُعطوه شيئاً. فأخذ منهم غارة أحد عشر بَعيراً، فلحقته خفاجة، وقتلوا مِن أصحابه رَجُلاً وقطعوا يَد آخر. وكان ذلك بالمَوقف مِن الحلَّة السيفيَّة، ففرَّق بينهم أهلها، فسمعت عُبادة الخبر فتواعدت وانحدرت إلى العراق للأخذ بثأرها. وساروا مع جماعة مِن أُمرائهم، فبلغت عِدَّتهم سبعمائة فارس، وكانت خفاجة دون هذه العِدَّة. فراسلتهم خفاجة يبذلون لهم الديَّة ويصطلحون، فلم تُجِبهم إلى ذلك عُبادة. وأشار به سيف الدولة صدقة فلم تَقبل عُبادة فالتقوا بالقرب مِن الكوفة، ومع عبادة الإبل والغنم بين البيوت، فكمُنت لهم خفاجة ثلاثمائة فارس وقاتلوهم مُطاردةً مِن غير جِدٍّ في القتال، فداموا كذلك ثلاثة أيَّام.

ثُمَّ إنَّهم اشتدَّ بينهم القتال واختلطوا حتَّى تركوا الرماح وتضاربوا بالسيوف. فبينما هم كذلك وقد أعيا الفريقان مِن القتال إذ طَلع كمين خفاجة وهم مُستريحون، فانهزمت عُبادة، وانتصرت عليهم خفاجة، وقُتل مِن وجوه عُبادة اثنا عشر رجلاً، ومِن خفاجة جماعة. وغَنمت خفاجة الأموال مِن الخيل والإبل والغنم والعبيد والإماء، وكان الأمير صدقة بن مزيد قد أعان خفاجة سِرَّاً، فلمَّا وصل المُنهزمون

٣٤٣

إليه هنَّأهم صدقة بالسلامة، فقال له بعضهم: ما زِلتُ أقاتل وأضارب، وأنا طامع في الظَفَر بهم حتَّى رأيت فرسك الشقراء تحت أحدهم فعلِمت أنَّهم أجلبوا علينا بخيلك، وأنَّنا لا طاقة لنا بهم، فنُصروا علينا بمعونتك وفلّونا بحدّك. فلم يُجبه صدقة.

سنة (٥٠٠): في هذه السنة في ربيع الأوَّل كانت حرب بين عُبادة وخفاجة، ظَفرت عبادة وأخذت بثأرها مِن خفاجة؛ وكان سبب ذلك أنَّ سيف الدولة صدقة أرسل ولده بدران في جيش إلى طرف بلاده، مِمَّا يَلي البطيحة ليحميها مِن خفاجة؛ لأنَّهم يؤذون أهل تلك النواحي. فقربوا منه وتهدَّدوا أهل البلاد، فكتب إلى أبيه يَشكو منهم ويُعرِّفه حالهم. فأحضر عبادة، وكانت خفاجة قد فعلت بهم العام الماضي ما سبق بيانه. فلمَّا حضروا عنده قال لهم: ليتجهَّزوا مع عسكره ليأخذوا بثأرهم مِن خفاجة، فساروا في مُقدَّم عسكره، فأدركوا حلَّة مِن خفاجة مِن بَني كُليب ليلاً، وهم غارّون لم يَشعروا بهم، فقالوا: مَن أنتم؟ فقالت عبادة: نحن أصحابٌ لِديِّون؛ فعلموا أنَّهم عبادة فقاتلوهم، وصبرت خفاجة، فبينما هم في القتال إذ سُمع طبل الجيش فانهزموا، وقَتلت منهم عبادة جماعة وكان فيهم عشرة مِن وجوههم وتَركوا حُرمهم. فأمر صدقة بحراستهنَّ وحمايتهنَّ، وأمر العسكر أنْ يُؤثروا عُبادة بما غَنِموه مِن أموال خفاجة خَلَفاً لهم عَمَّا أُخذ منهم في العام الماضي، وأصاب خفاجة مِن مُفارقة بلادها، ونهب أموالها، وقَتل رجالها أمرٌ عظيم، وانتزحت إلى نواحي البصرة. وأقامت عُبادة في بلاد خفاجة، ولمَّا انهزمت خفاجة وتَفرَّقت ونُهبت أموالها جاءت امرأة منهم إلى الأمير صدقة، فقالت له: أنت سبيتنا، وسلبتنا قُوَّتنا وغرَّبتنا، وأضعت حُرمتنا، قابلك الله في نفسك، وجعل صورة أهلك كصورتنا، فكَظَم الغيظ واحتمل لها ذلك، وأعطاها أربعين جَملاً ولم يَمض غير قليل حتَّى قابل الله صدقة في نفسه وأولاده، فإنَّ دعاء الملهوف عند الله بمكانٍ.

سنة (٥٣٦): وفيها أفسد بنو خفاجة بالعراق، فسيَّر السلطان مسعود سَرَّية إليهم مِن العسكر، فنَهبوا حلَّتهم وقتلوا مَن ظفروا به منهم وعادوا سالمين.

سنة (٥٥٦): في هذه السنة في شهر رمضان اجتمعت خفاجة إلى الحلَّة والكوفة، وطالبوا برسومهم مِن الطعام والتمر وغير ذلك، فمنعهم أمير

٣٤٤

الحاج أرغش وهو مُقطِع الكوفة، ووافقه على مَنعه الأمير قيصر شُحنة الحلَّة، وهما مِن مَماليك الخليفة؛ فأفسدت خفاجة. ونهبوا سواد الكوفة والحلَّة. فأسرى إليهم الأمير قيصر شُحنة الحلَّة في مائتين وخمسين فارساً، وخرج إليه أرغش في عسكر وسلاح، فانتزحت خفاجة مِن بين أيديهم، وتَبعهم العسكر إلى رَحبة الشام، فأرسل خفاجة يَعتذرون ويقولون: قد قنعنا بلَبن الإبل وخُبز الشعير، وأنتم تَمنعونا رسومنا، وطلبوا الصُّلح، فلم يُجبهم أرغش وقيصر، وكان قد اجتمع مع خفاجة كثير مِن العرب، فتصافّوا واقتتلوا، وأرسلت العرب طائفة إلى خيام العسكر ورحالهم، فحالوا بينهم وبينها. وحمل العرب حملة منكرة، فانهزم العسكر وقتل كثير منهم، وقُتل الأمير قيصر، وأُسرت جماعة أُخرى، وجُرِح أمير الحاج جِراحة شديدة. ودخل الرحبة فحماه شُحنتها وأخذ له الأمان، وسيَّره إلى بغداد ومَن نَجا مات عطشاً في البرية. وكان إماء العرب يَخرجنَ بالماء ويَسقينَ الجَرحى، فإذا طلبه منهن أحدٍ مِن العسكر أجهزنَ عليه. وكَثُر النواح والبكاء ببغداد على القتلى. وتَجهَّز الوزير عون الدين بن هبيرة والعساكر معه، فخرج في طلب خفاجة، فدخلوا البرَّ وخرجوا إلى البصرة. ولمَّا دخلوا البرَّ عاد الوزير إلى بغداد، وأرسل بنو خفاجة يَعتذرون، ويقولون: بُغي علينا، وفارقنا البلاد، فتبعونا واضطررنا إلى القتال، وسألوا العفو عنهم فأُجيبوا إلى ذلك.

سنة (٥٦٨): وفيها أغار بَنو حَزْن مِن خفاجة على سواد العراق؛ وسبب ذلك أنَّ الحماية كانت لهم لسواد العراق، فلمَّا تَمكَّن يزدن مِن البلاد وتَسلَّم الحلَّة أخذها منهم وجعلها لبني كعب مِن خفاجة. وأغار بنو حزن على السواد؛ فسار يزدن في عسكر ومعه الغضبان الخفاجي، وهو مِن بني كعب لقتال بَني حَزْن. فبينما هم سائرون ليلاً رمى بعض الجُند الغضبان بسهم فقتله لفساده. وكان في السواد. فلمَّا قُتل عاد العسكر إلى بغداد وأُعيدت خِفارة السواد إلى بَني حزن.

ما ذكره ابن خلدون في تاريخه عن خفاجة

ج٤ ص٤٧٥ كان هؤلاء خفاجة، وهم مِن بَني عمرو بن عُقيل موطِّنين بضواحي العراق ما بين بغداد والكوفة وواسط والبصرة، وأميرهم بهذه العصور منيع بن حسَّان، وكانت بينه وبين صاحب الموصل مُنافسات

٣٤٥

جرتها المناهضة والجوار، فتردَّدت الرُّسل بين السلم والحرب، وسار منيع بن حسَّان سنة سبع عشرة إلى الجامعين مِن أعمال دُبيس فنهبها، وسار دُبيس في طَلبه، ففارق الكوفة وقصد الأنبار مِن أعمال قرواش، فحاصرها أيَّاماً، ثُمَّ افتتحها وأحرقها، جاء قرواش لمُدافعته ومعه غريب بن مقن فلم يَجدوه، فمضوا إلى القصر، فخالفهم منيع إلى الأنبار، فعاث فيها ثانية، فسار قرواش إلى الجامعين، واستنجد دُبيس بن صدقة، فسار معه في بني أسد، ثُمَّ خاموا عن لِقاء منيع فافترقوا، ورجع قرواش إلى الأنبار فأصلحها ورمَّم أسوارها. وكان دُبيس وقرواش في طاعة جلال الدولة، فسار منيع بن حسَّان إلى أبي كاليجار بالأهواز، فأطاعه وخلع عليه، ورجع إلى بلده يَخطب له بها.

ثُمَّ إنَّ نور الدولة دُبيس خَطب لأبي كاليجار في أعماله لمَّا بلغه أنَّ ابن عمه المقلَّد بن الحسن ومنيع بن حسَّان أمير خفاجة سارا مع عساكر بغداد إليه، فخطب هؤلاء لأبي كاليجار، واستدعاه فسار مِن الأهواز إلى واسط، ولمَّا سار جلال الدولة إلى الأهواز، وقد خالف أبا كليجار، تَخلَّف عنه دُبيس خَشية على أحيائه مِن خفاجة.

دولة بني شاهين ملوك البطيحة

ابن خلدون ج٤ ص٤٣٧: كان عمران بن شاهين مِن أهل المُصامدة، وكان يتصرَّف في الجِباية، وحصل منها بيده مال فصرفه وهرب إلى البطيحة مُمتنعاً مِن الدولة، وأقام هنالك بين القصب والآجام يقتات بسَمك الماء وطيره ويأخذ الرِّفاق التي تمُرُّ به، واجتمع إليه لصوص الصيَّادين، فقوي وامتنع على السلطان، وتَمسّك بطاعة أبي القاسم بن البريدي بالبصرة، فقلَّده حماية الجامدة وحماية البطائح ونواحيها، فعَزَّ جانبه وكَثُر جَمعه وسلاحه، واتَّخذ مَعاقل على التلال بالبطيحة، وغلب على تلك النواحي. وأهمَّ مُعزُّ الدولة أمره، وبعث وزيره أبا جعفر الصيمري في العساكر سنة ثمان وثلاثين وحصره، وأيقن بالهَلاك وما نَفَّس عن مَخنقه إلاَّ وصول الخبر بوفاة عماد الدولة بن بويه، ومُبادرة الوزير الصيمري إلى شيراز بعد أنْ كتب إليه مُعزُّ الدولة بأنْ يَترك مُحاربة ابن شاهين ويَسير إلى شيراز مَدداً لعَضد الدولة. فعاد عمران إلى حاله وقَوي أمره. وجاء في الصفحة

٣٤٦

٥٠٥ في الخبر عن بني شاهين ما لا يَخرج عن هذا.

ولمَّا انصرف الصيمري عن عمران وعاد إلى حاله، بعث مُعزُّ الدولة لقتاله روزبهان مِن أعيان الديلم في العساكر، فتَحصَّن منه في مَضايق البطائح، فطاوله فضجر روزبهان واستعجل قتاله، فهزمه عمران وغَنِم ما معهم. فاستفحل وقَوي وأفسد السابلة، وكان أصحابه يَطلبون الخِفارة مِن جُند السلطان إذا مَرُّوا بهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة، فبعث مُعزُّ الدولة بالعساكر مع المهلبي، وزحف إلى البطائح سنة أربعين، ودخل عمران في مَضايقه، وأشاروا عليه بالهجوم فلم يَفعل، فكتب إليه مُعزُّ الدولة بذلك بإشارة روزبهان، فدخل المهلبي المَضايق بجميع عسكره، وقد أكمن لهم عمران، فخرج عليهم الكمين وتَقسَّموا بين القتل والغَرق والأسر. ونجا المهلبي سابِحاً في الماء، وكان روزبهان مُتأخراً في الزحف فسَلِم. وأسر عمران كثيراً مِن قوَّادهم الأكابر، ففاداه مُعزُّ الدولة بمَن في أسره مِن أهله وأصحابه، وقلَّده ولاية البطائح. فاستفحل أمره. ثُمَّ انتقض سنة أربع وأربعين لخبرٍ بلغه عن مَرضٍ طَرَقَ مُعزَّ الدولة، وأرجف أهل بغداد بموته. ومَرَّ به مال مِن الأموال يُحمَل إلى مُعزِّ الدولة، ومعه جماعة مِن التُّجار، فكبسهم وأخذ جميع ما معهم ثُمَّ رَدَّ ذلك بعد إبلال معز الدولة مِن مَرضه. وفَسد ما بينهما مِن الصُّلح، ثُمَّ سار مُعزُّ الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين، فبعث العساكر مِن هنالك لقتال عمران مع أبي الفضل العباس بن الحسن، وقَدِم عليه نافع مولى ابن وجيه صاحب عُمان يَستنجده عليها، فانحدر إلى الأُبلَّة، وبعث معه المراكب إلى عُمان، وسارت عساكره إلى البطائح فنزلوا الجامدة، وسدُّوا الأنهار التي تَصبُّ إليها، ثُمَّ رجع مُعزُّ الدولة مِن الأُبلَّة وطَرقه المَرض، فجهَّز العساكر لقتال عمران. وعاد إلى بغداد فهلك، وولي بعده ابنه عِزُّ الدولة بختيار، فأعاد العساكر المُجمَرة على عمران وعقد معه الصلح، فاستمرَّ حاله. ثُمَّ زحف بختيار إليه سنة تسع وخمسين، وأقام بواسط يتصيَّد شهراً، ثُمَّ بعث وزيره إلى الجامِدة وطُرق البطيحة، فسدَّ مَجاري الماء وقلبها إلى أنهارها وهي الجسور إلى العراق، ثُمَّ جاء المَدُّ مِن دجلة وخَرَّب جميع ذلك، ثُمَّ انتقل عمران إلى مَعقل آخر، ونقل ماله إليه حتَّى إذا حَسر المياه، وانتهجت الطرق فقدوا عمران مِن مكانه وطال عليهم الأمر، وشغب الجُند إلى الوزير، فأمر بختيار بمصالحته على

٣٤٧

ألف ألف درهم. ولمَّا رحل العسكر عنه ثار أصحابه في أطراف الناس، فنهبوا كثيراً مِن العساكر، ووصلوا إلى بغداد سنة إحدى وستين.

وفاة عمران بن شاهين وقيام ابنه الحسن مقامه

ثُمَّ تُوفِّي عمران بن شاهين فَجأة في مُحرَّم سنة تسع وستين لأربعين سنة مِن ثورته، بعد أنْ طلبه المُلوك والخُلفاء وردَّدوا عليه العساكر، فلم يَقدروا عليه. ولمَّا هلك قام بعده ابنه الحسن، فطَمع عضد الدولة فيه وجهز العساكر مع وزيره، وسدُّوا عليه الماء وأنفق فيها أموالاً، وجاء المَدُّ فأزالها، وبقوا كلمَّا سدُّوا فَوهةً فَتَقَ الحسن أُخرى وفتح الماء أمثالاً لها، ثُمَّ وافقهم في الماء فاستظهر عسكر الحسن، وكان معه المظفَّر أبو الحسن، ومحمد بن عمر العلوي الكوفي، فاتَّهمه بمُراسلة الحسن وإفشاء سِرِّه إليه. وخاف أنْ تَنقص مَنزلته عند عَضد الدولة، فطَعن نفسه فمات، وأُدرِك بآخر رَمق، فقال: محمد بن عمر حَمَلني على هذا، وحُمِل إلى ولده بكازرون. فدُفِن هنالك، وأَرسل عَضد الدولة إلى العسكر مَن رجَّعه إليه، وصالح الحسن بن عمران على مالٍ يَحمله وأخذ رهنه بذلك.

مَقتل الحسن بن عمران وولاية أخيه أبي الفرج

كان الحسن بن عمران آسفاً على أخيه أبي الفرج وحَنقاً عليه، ولم يَزل يَتحيَّل عليه إلى أنْ دعاه إلى عِيادة أُختٍ لهما مَرضت، وأكمن في بيتها جماعة أعدَّها لقتله. فدخل الحسن مُنفرداً عن أصحابه، فأغلقوا الباب دونهم وقتلوه. وصعد أبو الفرج إلى السطح فأعلمهم بقتله ووعدهم. فسكتوا، ثُمَّ بذل لهم المال فأقرُّوه. وكتب إلى بغداد بالطاعة، فكتب له بالولاية وذلك لثلاث سنين مِن ولاية الحسن.

مقتل أبي الفرج وولاية أبي المعالي بن الحسن

ثُمَّ إنَّ أبا الفرج لمَّا قَتل أخاه الحسن قَدَّم الجماعة الذين قتلوه على أكابر القوَّاد، وكان الحاجب المظفَّر بن علي كبير قوَّاد عمران والحسن. فاجتمع إليه القوَّاد وشكوا إليه، فسكَّنهم فلم يَرضوا، وحملوه على قتل أبي الفرج فقتله، ونَصَّب أبا المعالي بن أخيه الحسن مَكانه لأشهُر مِن ولايته،

٣٤٨

ثم تولى تدبيره بنفسه لصغره، وقتل من كان يخالفه من القواد، واستولى على أموره كلها.

استيلاء المظفَّر وخلع أبي المعالي

ثُمَّ إنَّ المظفَّر بن علي الحاجب القائم بأمر أبي المعالي طَمع في الاستقلال بأمر البطيحة، فصنع كتاباً على لسان صمصام الدولة سلطان بغداد بولايته، وجاء به رِكابيٌّ عليه أثر السَفر، وهو بدست إمارته فقرأه بحضرتهم وتلقَّاه بالطاعة، وعزل أبا المعالي وأخرجه مع أُمِّه إلى واسط، وكان يَصلهما بالنَّفقة. وأحسن السيرة بالناس، وانقرض بيت عمران بن شاهين.

ما جاء في الكامل من أخبار بني شاهين

ج ٨ ص١٩٠ سنة (٣٣٨) في هذه السنة استفحل أمر عمران بن شاهين، وقوي شأنه، وكان ابتداء حاله أنَّه مِن أهل الجامدة فجبى جِبايات، فهرب إلى البطيحة خَوفاً مِن السلطان، وأقام بين القصب والآجام واقتصر على ما يصيده مِن السمك وطيور الماء قوتاً، ثُمَّ صار يَقطع الطريق على مَن يَسلك البطيحة، واجتمع إليه جماعة مِن الصيَّادين وجماعة مِن اللُّصوص. فقوي بهم وحمى جانبه مِن السلطان، فلمَّا خاف أنْ يُقصد استأمن إلى أبي القاسم البريدي، فقلَّده حِماية الجامدة ونواحي البطائح. وما زال يَجمع الرجال إلى أنْ كَثُر أصحابه وقوي، واستعدَّ بالسلاح واتَّخذ مَعاقل على التلول التي بالبطيحة، وغلب على تلك النواحي. فسار إليه في الجيوش وحاربه مرَّةً بعد مرَّةً، واستأمر أهله وعياله. وهرب عمران بن شاهين واستتر، وأشرف على الهَلاك، فاتَّفق أنَّ عماد الدولة بن بويه مات واضطرب جيشه بفارس، فكتب مُعزُّ الدولة إلى الصيمري بالمُبادرة إلى شيراز لإصلاح الأمور بها. فترك عمران وسار إلى شيراز، فلمَّا سار الصيمري عن البطائح ظهر عمران بن شاهين مِن استتاره، وعاد إلى أمره، وجَمع مَن تفرَّق عنه مِن أصحابه وقوي أمره. وعاد الصيمري في هذه السنة مِن فارس، وأقام يُحاصر عمران بن شاهين، فأخذته حُمَّى مات منها بأعمال الجامدة.

٣٤٩

سنة (٣٣٩) تَقدَّم أنَّ عمران بن شاهين قد ازداد قوَّة وجُرأة بعد مَسير الصيمري عنه، فأنفذ مُعزُّ الدولة إلى قتاله روزبهان وهو مِن أعيان عسكره، فنازله وقاتله فطاوله عمران وتَحصَّن منه في مَضايق البطيحة. فضجر روزبهان وأقدم عليه طالباً للمناجَزة، فاستظهر عليه عمران وهزمه وأصحابه، وقَتل منهم وغَنِم جميع ما معهم مِن السلاح وآلات الحرب، فقوي بها وتَضاعفت قوَّته، فطَمع أصحابه في السلطان، فصاروا إذا اجتاز بهم أحد مِن أصحاب السلطان يَطلبون منه البَذرقة والخِفارة، فإنْ أعطاهم، وإلاَّ ضربوه واستخفُّوا به وشتموه. وكان الجُند لابُدَّ لهم مِن العبور عليهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة وغيرها، ثُمَّ انقطع الطريق إلى البصرة إلاّ على الظَهر؛ فشكا الناس ذلك إلى مُعزِّ الدولة؛ فكتب إلى المهلبي بالمسير إلى واسط لهذا السبب، وكان بالبصرة، فأصعد إليها وأمدَّه مُعزُّ الدولة بالقوَّاد والأجناد والسلاح، وأطلق يده في الإنفاق، فزحف إلى البطيحة، وضيَّق على عمران وسَدَّ المَذاهب عليه، فانتهى إلى المَضايق لا يَعرِفها إلاَّ عمران وأصحابه، وأحبَّ روزبهان أنْ يُصيب المهلبي ما أصابه مِن الهزيمة ولا يَستبدَّ بالظَفر والفتح، وأشار على المهلبي بالهجوم على عمران، فلم يَقبل منه. فكتب إلى مُعزِّ الدولة يُعجِّز المهلبي، ويقول: إنَّه يُطاول ليُنفق الأموال ويَفعل ما يُريد؛ فكتب مُعزُّ الدولة بالعَتب والاستبطاء. فترك المهلبي الحَزْم وما كان يُريد أنْ يفعله، ودخل بجميع عسكره، وهَجم على مكان عمران، وكان قد جعل الكُمناء في تلك المضايق، وتأخَّر روزبهان ليَسلَم عند الهزيمة، فلمَّا تَقدَّم المهلبي خرج عليه وعلى أصحابه الكُمناء، ووضعوا فيهم السلاح، فقُتلوا وغَرِقوا وأُسروا. وانصرف روزبهان سالماً هو وأصحابه. وألقى المهلبي نفسه في الماء فنجا سِباحة، وأسر عمران القوَّاد والأكابر. فاضطرَّ مُعزُّ الدولة إلى مُصالحته، وإطلاق مَن عنده مِن أهل عمران وإخوته. فأطلق عمران مَن في أسره مِن أصحاب مُعزِّ الدولة، وقلَّده مُعزُّ الدولة البطائح، فقوي واستفحل أمره.

سنة (٣٤٤) كان قد عَرض لمُعزِّ الدولة مَرض، سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وكان خوّاراً في أمراضه، فأرجف الناس به واضطربت بغداد، فاضطرَّ إلى الركوب على ما به مِن شِدَّة المرض. فلمَّا كان في المُحرَّم مِن

٣٥٠

هذه السنة أوصى إلى ابنه بختيار، وقلَّده الأمر بعده وجعله أمير الأُمراء، وبلغ عمران بن شاهين أنَّ مُعزَّ الدولة قد مات، واجتاز عليه مالٌ يُحمَل إلى مُعزِّ الدولة مِن الأهواز، وفي صحبته كثير مِن التُّجَّار. فخرج عليهم فأخذ الجميع، فلمَّا عوفي مُعزُّ الدولة راسل ابن شاهين في المعنى، فردَّ عليه ما أخذه له، وحصّل له أموال التُّجَّار، وانفسخ الصلح بينهما، وكان ذلك في المُحرَّم.

سنة (٣٤٩)، وفيها استأمن أبو الفتح المعروف بابن العريان، أخو عمران بن شاهين صاحب البطيحة إلى مُعزِّ الدولة بأهله وماله، وكان خاف أخاه فأكرمه مُعزُّ الدولة وأحسن إليه.

سنة (٣٥٠)، وفيها وصل أبو القاسم أخو عمران بن شاهين إلى مُعزِّ الدولة مستأمناً.

سنة (٣٥٥)، وفيها سار مُعزُّ الدولة إلى واسط؛ لأجل قَصد ولاية عمران بن شاهين بالبطائح؛ ولإرسال جيش إلى عمان. فلمَّا وصل إلى واسط قَدِم عليه نافع الأسود الذي كان صاحب عمان، فأحسن إليه، وأقام للفُراغ مِن أمر عمران، فأنفذ الجيش إليه مع أبي الفضل العباس بن الحسن، فنزلوا الجامدة وشرعوا في سَدِّ الأنهار التي تَصبُّ إلى البطائح. وسار مُعزُّ الدولة إلى الأُبلَّة، وأرسل الجيش إلى عمان، وعاد إلى واسط لإتمام حرب ابن عمران ومِلك بَلده. فأقام بها، فمَرِض وأصعد إلى بغداد لليلتين بقيتا مِن ربيع الأوَّل سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وهو عَليل. وخلَّف العسكر بها ووعدهم أنَّه يَعود إليهم، فلمَّا وصل إلى بغداد تُوفِّي، فدعت الضرورة إلى مُصالحة عمران والانصراف عنه.

سنة (٣٥٦) لمَّا تُوفِّي مُعزُّ الدولة في هذه السنة وولي ابنه عِزُّ الدولة بختيار، كتب إلى العسكر بمصالحة عمران بن شاهين، ففعلوا وعادوا.

سنة (٣٥٩) في هذه السنة، في شوال انحدر بختيار إلى البطيحة؛ لمُحاصرة عمران بن شاهين، فأقام بواسط يتَصيَّد شهراً. ثُمَّ أمر وزيره أبا الفضل أنْ يَنحدر إلى الجامدة وطفوف البطيحة، وبَنى أمره على أنْ يَسدَّ أفواه الأنهار ومَجاري المياه إلى البطيحة، ويردَّها إلى دجلة والفاروث وربع طير، فبنى المُسنَّيات التي يُمكِن السلوك عليها إلى العراق، فطالت الأيَّام

٣٥١

وزادت دجلة، فخرَّبت ما عمِلوه، وانتقل عمران إلى مَعقل آخر مِن مَعاقل البطيحة، ونقل كُلَّ ماله إليه. فلمَّا نَقصت المياه واستقامت الطُرق وجدوا مكان عمران بن شاهين فارغاً. فطالت الأيَّام وضَجر الناس مِن المَقام، وكرهوا تلك الأرض مِن الحر والبَقِّ والضَّفادع، وانقطاع الموادِّ التي ألِفوها، وشَغب الجُند على الوزير وشتموه، وأبوا أنْ يُقموا، فاضطرَّ بختيار إلى مُصالحة عمران على مالٍ يأخذه منه، وكان عمران قد خافه في الأوَّل، وبذل له خمسة آلاف ألف درهم، فلمَّا رأى اضطراب أمر بختيار بذل ألفي ألف درهم في نجوم، ولم يُسلِّم إليهم رهائن ولا حلف لهم على تأدية المال. ولمَّا رحل العسكر تَخطَّف عمران أطراف الناس، فغَنِم منهم، وفَسد عسكر بختيار، وزالت عنهم الطاعة والهَيبة. ووصل بختيار إلى بغداد في رجب سنة إحدى وستين وثلاثمائة.

سنة (٣٦٣) لمَّا اضطرب أمر بختيار، وعصى عليه مَن كان يُخلص له الطاعة؛ وكان مِن أسباب ذلك اختلاف الديلم والتُّرك في الأهواز، اضطر وهو في مِثل هذه الحال المُضطرِبة، اضطر إلى الاستنجاد بعمِّه ركن الدولة، وابن عمِّه عضد الدولة لإطفاء النائرة، وكاتب أبا تغلب بن حمدان يطلب مساعدته، ويُسقِط عنه المال الذي عليه. وكان مِمَّن كتب إليه عمران بن شاهين بالبطيحة، وأرسل إليه خُلَعاً، وأسقط عنه باقي المال الذي اصطلحا عليه، وخطب إليه إحدى بناته، وطلب منه أنْ يُسيّر إليه عسكراً، فأجابه: أمَّا إسقاط المال فنحن نَعلم أنَّه لا أصل له وقد قبلته، وأمَّا الوِصلة فإنَّني لا أتزوج أحداً إلاَّ أنْ يكون الذكر مِن عندي، وقد خطب إلي العَلويون وهم مَوالينا فما أجبتهم إلى ذلك، وأمَّا الخُلَع والفرس فإنَّني لست مِمَّن يلبس مَلبوسكم وقد قبلها ابني. وأمَّا إنفاذ عسكر فإنَّ رجالي لا يَسكنون إليكم لكَثرة ما قتلوا منكم. ثُمَّ ذكر ما عامله به هو وأبوه مَرَّة بعد أُخرى، وقال: ومع هذا فلابُدَّ أنْ يَحتاج إلى أنْ يَدخل بيتي مُستجيراً بي والله لأُعاملنَّه بضِدِّ ما عاملني به هو وأبوه، فكان كذلك.

سنة (٣٦٦) في هذه السنة تَجهَّز عضد الدولة، وسار يَطلب العراق؛ لِما كان يَبلغه عن بختيار وابن بقية مِن استمالة أصحاب الأطراف: كحسنويه الكردي، وفخر الدولة بن ركن الدولة، وأبي تَغلُب بن حمدان، وعمران بن شاهين وغيرهم، والاتِّفاق على مُعاداته؛ ولِما كانا يقولانه مِن الشتم القبيح

٣٥٢

له؛ ولِما رأى مِن حُسن العراق وعظم مملكته إلى غير ذلك. وانحدر بختيار إلى واسط على عَزم مُحاربة عضد الدولة، ولمَّا التقوا بالأهواز واقتتلوا، وخامر على بختيار بعض عسكره انهزم بختيار، وأخذ ماله ومال ابن بقية. ونُهبت الأثقال وغيرها، ولمَّا وصل بختيار إلى واسط حمل إليه ابن شاهين صاحب البطيحة مالاً وسلاحاً وغير ذلك مِن الهدايا النفيسة، ودخل بختيار إليه فأكرمه وحمل إليه مالاً جليلاً وأعلاقاً نفيسة. وعَجب الناس مِن قول عمران: إنَّ بختيار سيَدخل مَنزلي ويَستجير بي، فكان كما ذكر.

سنة (٣٦٩) في هذه السنة تُوفِّي عمران بن شاهين فجأة في المُحرَّم، وكانت ولايته بعد أنْ طَلبه المُلوك والخُلفاء وبذلوا الجُهد في أخذه وأعملوا الحِيل أربعين سنة، فلم يُقدِرهم الله عليه. ومات حَتف أنفه، فلمَّا مات وَلي مكانه ابنه الحسن، فتجدَّد لعضد الدولة طَمع في أعمال البطيحة، فجهَّز العساكر مع وزيره المطهر بن عبد الله، فأمدَّهم بالأموال والسلاح والآلات، وسار المطهر في صَفَر. فلمَّا وصل شَرع في سَدِّ أفواه الأنهار الداخلة في البطائح، فضاع فيها الزمان والأموال وجاءت المدود، وبَثق الحسن بن عمران بعض تلك السُّدود. فأعانه الماء فقلعها، وكان المطهر إذا سَدَّ جانباً انفتحت عِدَّة جوانب. ثُمَّ جرت بينه وبين الحسن وقعة في الماء استظهر عليه الحسن، وكان المطهر سريعاً قد ألِف المُناجزة ولم يألَف المُصابرة؛ فشقَّ ذلك عليه وكان معه في عسكره أبو الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي، فاتَّهمه بمراسلة الحسن وإطلاعه على أسراره. وخاف المطهر أنْ تَنقص منزلته عند عضد الدولة، ويَشمت به أعداؤه كأبي الوفاء وغيره، فعَزم على قتل نفسه، فأخذ سِكِّيناً وقَطع شرايين ذِراعه، فخرج الدَّمُ منه، فدخل فرَّاش فرأى الدم فصاح فدخل الناس فرأوه، وظنُّوا أنَّ أحداً فعل به ذلك. فتكلَّم وكان بآخر رَمق، وقال: إنَّ محمد بن عمر أحوجني إلى هذا، ثُمَّ مات، وحُمِل إلى بلده كازرون فدُفِن فيها. وأرسل عضد الدولة مِن حفظ العسكر وصالح الحسن بن عمران على مالٍ يؤدِّيه، وأخذ رهائنه.

سنة ٣٧٢ في هذه السنة قُتِل الحسين بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة، قَتله أخوه أبو الفرج، واستولى على البطيحة؛ وكان سبب قتله أنَّه حَسده على ولايته، ومَحبَّة الناس له، فاتَّفق أنَّ أُختاً لهما مَرِضت، فقال أبو الفرج لأخيه الحسن: إنَّ أُختنا شفيَِّة، فلو عُدتها، ففعل وسار إليها، ورتَّب أبو

٣٥٣

الفرج في الدار نَفراً يُساعدونه على قتله. فلمَّا دخل الحسن الدار تَخلَّف عنه أصحابه، ودخل أبو الفرج معه وبيده سيف، فلمَّا خلا به قتله ووقعت الصيحة، فصعد إلى السطح، وأعلم العسكر بقتله ووعدهم الحسَّان. فسكتوا وبذل لهم المال فأقرُّوه في الأمر، وكتب إلى بغداد يُظهِر الطاعة، ويَطلب تقليده الولاية، وكان مُتهِّوراً جاهلاً.

سنة (٣٧٣) في هذه السنة قُتِل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة، ووَلي أبو المعالي ابن أخيه الحسن؛ سبب قتله أنَّ أبا الفرج قَدَّم الجماعة الذين ساعدوه على قَتل أخيه، ووضع مِن حال مُقدَّمي القوَّاد. فجمعهم المظفر بن علي الحاجب، وهو أكبر قوَّاد أبيه عمران وأخيه الحسن، وحذَّرهم عاقبة أمرهم. فاجتمعوا على قتل أبي الفرج، فقتله المظفر، وأجلس أبا المعالي مكانه وتولَّى تَدبُّره بنفسه، وقَتل كُلَّ مَن كان يَخافه مِن القُوَّاد، ولم يَترك معه إلاَّ مَن يَثق به، وكان أبو المعالي صغيراً.

ولمَّا طالت أيَّامٌ على المظفر بن علي الحاجب وقَوي أمره، طمع في الاستقلال بأمر البطيحة، فوضع كتاباً عن لسان صمصام الدولة إليه يتَضمَّن التعويل عليه في ولاية البطيحة، وسلَّمه إلى ركابيٍّ غَريب، وأمره أنْ يأتيه إذا كان القُوَّاد والأجناد عنده. ففعل ذلك وأتاه وعليه أثر الغبار، وسلَّم إليه الكتاب، فقبَّله وفتحه وقرأه بمَحضر مِن الأجناد وأجاب بالسمع والطاعة. وعزل أبا المعالي، وجعله مع والدته، وأجرى عليهما جِراية، ثُمَّ أخرجهما إلى واسط. وكان يَصلهما بما يُنفقانه. واستبدَّ عليهما جِراية ثُمَّ أخرجهما إلى واسط. وكان يَصلهما بما يُنفقانه. واستبدَّ بالأمر، وأحسن السيرة، وعَدل في الناس مُدَّة، ثُمَّ إنَّه عَهد إلى ابن أُخته أبي الحسن علي بن نصر المُلقَّب بمُهذَّب الدولة، ثُمَّ بعده إلى أبي الحسن علي بن جعفر، وهو ابن أُخته الأُخرى. وانقرض بيت عمران بن شاهين، وكذلك الدنيا دول.

سنة (٤١٢) في هذه السنة مَرض صدقة صاحب البطيحة، فقصدها أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين في صَفَر ليملكها. وكان أبو الهيجاء بعد موت أبيه قد تَمزَّق في البلاد، تارة بمِصر، وتارة عند بدر بن حسنويه، وتارة بينهما. فلمَّا وَلي الوزير أبو غالب أنفق عليه لأدبٍ كان فيه، فكاتبه بعض أهل البطيحة ليسلّموا إليه، فسار إليهم، فسمع به صدقة قبل موته بيومين، فسيَّر إليه جيشاً، فقاتلوه فانهزم أبو الهيجاء وأُخذ أسيراً، فأراد استبقاءه، فمنعه سابور بن المرزبان بن مروان، وقتله بيده.

٣٥٤

بنو مرداس ملوك حَلب

- أوليتهم -

قال ابن خلدون ج٤ ص٢٧١: كان ابتداء أمر صالح بن مرداس ملك الرحبة، وهو مِن بَني كِلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ومجالاتهم بضواحي حَلب. وقال ابن حزم: إنَّه مِن وِلد عمرو بن كِلاب، وكانت مدينة الرحبة لأبي علي بن ثمال الخفاجي، فقتله عيسى بن خلاط العقيلي، وملكها مِن يده وبقيت له مُدَّة، ثُمَّ أخذها منه بدران بن المقلَّد، وزحف لؤلؤ الساري نائب الحاكم بدمشق، فملك الرِّقة ثُمَّ الرحبة مِن يد بدران، وعاد إلى دمشق. وكان رئيس الرحبة ابن مجلكان، فاستبدَّ بها وبعث إلى صالح بن مرداس يَستعين به على أمره، فأقام عنده مُدَّة، ثُمَّ فَسد ما بينهما وقاتله صالح، ثُمَّ اصطلحا وزوَّجه ابن مجلكان ابنته. ودخل البلد ثُمَّ انتقل ابن مجلكان إلى عانة بأهله وماله بعد أنْ أطاعوه وأخذ رهنهم. ثُمَّ نقضوا وأخذوا ماله، وسار إليهم ابن مجلكان مع صالح، فوضع عليه صالح مَن قتله وسار إلى الرحبة، فملكها واستولى على أموال ابن مجلكان، وأقام دعوة العلويِّين بمصر صالح مؤسس دولة بَني مرداس أو بَني صالح.

جاء في وفيات الأعيان لابن خلكان في ترجمته ما يلي: (أسد الدولة، أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس بن نصير بن حميد بن مُدرك بن شداد بن عبيد بن قيس بن ربيعة بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كِلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الكِلابي).

كان مِن عرب البادية، وقصد مدينة حَلب، وبها مرتضى الدولة بن لؤلؤ بن الجراحي، غلام أبي الفضائل بن سعد الدولة، نصر بن سيف الدولة بن حمدان، نيابة عن الظاهر بن الحاكم العبيدي صاحب مصر. فاستولى عليها وانتزعها منه، وكان ذا بأس وعزيمة، وأهل وعشيرة وشوكة. وكان تَملُّكه لها في ثالث عشر ذي الحجَّة سنة سبع عشر وأربعمائة، واستقرَّ بها ورتَّب أمورها، فجهَّز إليه الظاهر المذكور أمير الجيوش انوشتكين الدزبري في عسكر كثيف، وكان بدمشق نائباً عن الظاهر، وكان ذا شَهامة وتَقدُمة

٣٥٥

ومَعرفة بأسباب الحرب. فخرج متوجِّهاً إليه، فلمَّا سمع صالح الخبر خرج إليه وتَقدَّم حتَّى تلاقيا على الأقحوانة فتصافّا، وجرت بينهما مَقتلة انجلت عن قتل أسد الدولة صالح المذكور، وذلك في جمادى الأولى سنة عشرين وأربعمائة، وقيل: تسع عشر وأربعمائة. وهو أوَّل ملوك بني مرداس المتملِّكين بحَلب.

ما جاء عنهم في تاريخ العِبر لابن خلدون ج٤

قد سَبق في أخبار بَني حمدان استبداد لؤلؤ، مولى أبي المعالي بن سيف الدولة بحَلب على ابنه أبي الفضائل، وأخذه البلد منه، ومَحوه الدعوة العبَّاسيَّة والخُطبة للحاكم العلوي بمِصر، ثُمَّ فساد حاله معه وطمع صالح بن مرداس في مُلك حَلب، وتَقدَّم هنالك خبر ما كان بين صالح ولؤلؤ مِن الحروب، وأنِّه كان له مولى اسمه فتح وضعه في قلعة حَلب حافظاً لها، فاستوحش وانتقض على لؤلؤ بممالأته صالح بن مرداس، وبايع للحاكم على أنْ أقطعه صيدا وبيروت وسوَّغه ما كان في حَلب مِن الأموال. ولحق لؤلؤ بانطاكية وأقام عند الروم، وخرج فتح بحرم لؤلؤ وأُمِّه وتركهَنَّ في منبج، وترك حَلب وقلعتها إلى نواب الحاكم. وتداولت في أيديهم حتَّى وليها بعض بني حمدان مِن قِبل الحاكم يُعرَف بعزيز الملك اصطنعه الحاكم وولاَّه حَلب، ثُمَّ عصى على ابنه الظاهر، وكانت عمَّته بنت الملك مُدبِّرة لدولته، فوضعت على عزيز الملك مَن قتله، وولُّوا على حَلب عبد الله بن علي بن جعفر الكتامي، ويُعرف بابن شعبان الكتامي، وعلى القلعة صفي الدولة موصوفاً الخادم.

استيلاء صالح بن مرداس على حَلب

ولمَّا ضعف أمر العُبيِّديِّين بمِصر مِن بعد المائة الرابعة، وانقرض أمر بَني حمدان مِن الشام والجزيرة، تَطاولت العرب إلى الاستيلاء على البلاد. فاستولى بَنو عقيل على الجزيرة، واجتمع عرب الشام، فتقاسموا البلاد على أنْ يكون لحسَّان بن مفرج بن دغفل وقومه طَي مِن الرملة إلى مِصر، ولصالح بن مرداس ولقومه بَني كِلاب مِن حَلب إلى عانة، ولحسَّان بن عليان وقومه دمشق وأعمالها. وكان العامل على هذه البلاد مِن قِبل الظاهر

٣٥٦

خليفة مِصر انوشتكين إلى عسقلان، ومَلكها ونَهبها حسَّان، وسار صالح بن مرداس إلى حَلب، فمَلكها مِن يد ابن شعبان، وسلَّم له أهل البلد ودخلها، وصعد ابن شعبان القلعة. فحصرهم صالح بالقلعة حتَّى جهدهم الحصار واستأمنوا. ومَلك القلعة، وذلك سنة أربع وعشرين وأربعمائة، واتَّسع مُلكه ما بين بَعلبك وعانة.

مَقتل صالح وولاية ابنه أبي كامل

ولم يَزل صالح مَالكاً لحَلب إلى سنة عشرين وأربعمائة، فجهَّز الظاهر العساكر مِن مِصر إلى الشام لقتال صالح وحسَّان، وعليهم انوشتكين الدريدي. فسار لذلك ولقيهما على الأردن بطبريَّة وقاتلهما فانهزما، وقُتِل صالح وولده الأصغر، ونجا ولده الأكبر أبو كامل نصر بن صالح إلى حَلب، وكان يُلقَّب شبل الدولة. ولمَّا وقعت هذه الواقعة طَمع الروم أهل انطاكية في حَلب، فزحفوا إليها في عَدد كثير يَبلُغ ثلاثمائة ألف مُقاتل، ووُقيت حَلب شَرَّ هذه الغزوة، بسبب مُخالفة الدوقس مِن أكابر الروم لمَلك الروم ورجوعه عنها.

مَقتل نصر بن صالح واستيلاء الوزيري على حَلب

وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة زحف الوزيري مِن مِصر في العساكر إلى حَلب، وخليفتهم يومئذٍ المُستنصر. وبرز إليه نصر. فالتقوا عند حماة، وانهزم نصر وقُتِل، وملك الوزيري حَلب في رمضان مِن هذه السنة.

مَهلك الوزيري وولاية ثمال بن صالح

ولمَّا مَلك الوزيري حَلب واستولى على الشام، عَظُم أمره واستكثر مِن التُّرك في الجُند، ونُميَ عنه إلى المُستنصر بمِصر وزيره الجرجاني أنَّه يَروم الخِلاف، فدسَّ الجرجاي إلى جانب الوزيري والجُند بدمشق في الثورة به، وكَشف لهم عن سوء رأي المُستنصر، فثاروا به وعَجز عن مُدافعتهم، فاحتمل أثقاله، وسار إلى حَلب ثُمَّ إلى حَلب ودخلها، وتُوفِّي سنة ثلاث وثلاثين. ولمَّا تُوفِّي فَسد أمر الشام وانحلَّ النظام

٣٥٧

وتزايد طَمع العرب. وكان مُعزُّ الدولة ثمال بن صالح بالرحبة مُنذ مَهلك أبيه وأخيه، فقصد حَلب وحاصرها، فملك المدينة وامتنع أصحاب الوزيري بالقلعة واستمدُّوا أهل مِصر، وشُغل الوالي بدمشق بعد الوزيري، وهو الحسين بن حمدان لحرب حسَّان بن مفرج صاحب فلسطين، فاستأمن أصحاب الوزيري إلى ثمال بن صالح بعد حصاره إيَّاها حولاً فأمنهم، وملكها في صَفَر سنة أربع وثلاثين وأربعمائة. فلم يَزل مُملَّكاً عليها إلى أنْ زَحفت العساكر إليه مِن مِصر مع أبي عبيد الله بن ناصر الدولة بن حمدان، وبَلغت جموعهم خمسة آلاف مُقاتل. وقاتلهم وأحسن دفاعهم وأصابهم سَيل كاد يَذهب بهم. فأفرجوا عن حَلب وعادوا إلى مِصر. ثُمَّ عادت العساكر ثانية مِن مِصر سنة إحدى وأربعين وأربعمائة مع رفق الخادم، فقاتلهم ثمال وهزمهم، وأسر الخادم رفقاً ومات عنده.

رغبة ثمال عن حَلب ورجوعها لصاحب مصر

لم تَزل العساكر تَتردَّد مِن مِصر إلى حَلب، وتُضيَّق عليها حتَّى سَئِم ثمال بن صالح إمارتها، وعجز عن القيام بها، فبعث إلى المُستنصر بمِصر وصالحه على أنْ يَنزل له عن حَلب. فبعث عليها مكين الدولة أبا علي الحسن بن ملهم، فتسلَّمها آخر سنة تسعة وأربعين وأربعمائة. وسار ثمال إلى مِصر، ولحق أخوه عطيَّة بن صالح بالرحبة، واستولى ابن ملهم عليها.

ثورة أهل حَلب بابن ملهم وولاية محمود بن نصر بن صالح

وأقام ابن ملهم بحَلب سنتين أو نحوها، ثُمَّ بلغه عن أهل حَلب أنَّهم كاتبوا محمد بن نصر بن صالح، فقبض عليه. فثار به أهل حَلب وحصروه بالقلعة، وبعثوا إلى محمود، فجاء مُنتصف ثنتين وخمسين وأربعمائة وحاصره معهم بالقلعة. واجتمعت معه جُموع العرب، واستمدَّ ابن ملهم المُستنصر، فكتب إلى أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان أنْ يَسير إليه في العساكر. فسار إلى حَلب. وأجفل محمود عنها، ونزل ابن ملهم إلى البلد، ودخلها ناصر الدولة ونهبتها عساكره وابن ملهم. ثُمَّ تواقع محمود وناصر الدولة بظاهر حَلب، فانهزم ناصر الدولة بن حمدان وأُسر، فرجع به

٣٥٨

محمود إلى البلد ومَلكها، ومَلك القلعة في شعبان مِن هذه السنة، وأطلق أحمد بن حمدان وابن ملهم، فعادا إلى مِصر.

رجوع ثمال بن صالح إلى مُلك حَلب وفرار محمود بن نصر عنها

لمَّا هَزم محمود بن حمدان وأخذ القلعة مِن يد ابن ملهم، وكان مُعزُّ الدولة ثمال بن صالح بمِصر مُنذ سلَّمها للمُستنصر سنة تسع وأربعين وأربعمائة، فسرَّحه المُستنصر الآن، وأذِنَ له في مِلك حَلب مِن ابن أخيه، فحاصره في ذي الحجَّة سنة ثنتين وخمسين وأربعمائة، واستنجد محمود بخاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري صاحب حرّان، فأمدَّه بنفسه وجاء لنصره. فأفرج ثمال عن حَلب، وسار إلى البرية في مُحرَّم سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. ثُمَّ عاد منيع إلى حرَّان، وملك ثمال حَلب في ربيع سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وغزا بلاد الروم فظَفر وغَنِم.

وفاة ثمال وولاية أخيه عطيَّة

ثُمَّ تُوفِّي ثمال بحَلب قريباً مِن استيلائه، وذلك في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وعهد بحَلب لأخيه عطيَّة بن صالح، وكان بالرحبة مِن لدُن مَسير ثمال إلى مِصر، فسار ومَلكها.

عَود محمود إلى حَلب ومِلكه إيَّاها مِن عطيَّة

ولمَّا مَلك عطيَّة حَلب، وكان ذلك عند استيلاء السلجوقيَّة على مَمالك العراق والشام، وافتراقهم على العَمالات، ونزل به قوم منهم فاستخدمهم وقَوي بهم. ثُمَّ خَشي أصحابه غائلتهم فأشاروا بقَتلهم؛ فسلَّط أهل البلد عليهم؛ فقتلوا منهم جماعة ونَجا الباقون، فقصدوا محمود بن نصر بحرَّان فاستنهضوه لمِلك حَلب. وجاءهم فحاصرها ومَلكها في رمضان سنة خمس وخمسين وأربعمائة، واستقام أمره، ولحِق عطيَّة عمَّه بالرقَّة فملكها إلى أنْ أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين. فسار إلى بلد الروم سنة خمس وستين وأربعمائة، واستقام أمر محمود بن نصر في حَلب، وبعث التُّرك الذين جاؤوا في خدمته مع أميرهم ابن خان سنة ستِّين وأربعمائة إلى بعض قِلاع الروم فحاصروها ومَلكها، وسار محمود

٣٥٩

إلى طرابلس، فحاصرها، وصالحوه على مالٍ، فأفرج عنهم. ثُمَّ سار إليه السلطان البارسلان بعد فُراغه مِن حصار ديار بكر وآمد والرُها، ولم يَظفر بشيءٍ منها. وجاء إلى حَلب وحاصرها وبها محمود بن نصر، وجاءت رسالة الخليفة القائم بالرجوع إلى الدعوة العبَّاسيَّة. فأعادها وسأل مِن الرسول أزهر أبي الفوارس طراد الزينبي أنْ يَعفيه السلطان مِن الحضور عنده، فأبى السلطان مِن ذلك، واشتدَّ الحِصار على محمود وأضربهم حجارة المنجانيق، فخرج ليلاً ومعه والدته منيعة بنت وثاب مُتطارحين على السلطان، فخَلع على محمود في حَلب آخر ثمان وستِّين وأربعمائة، وعهد لابنه شبيب إلى التُّرك الذين مَلَّكوا أباه وهم بالحاضر. وقد بلغه عنهم العَبث والفَساد، فلمَّا دنا مِن حللهم تلقُّوه، فلم يُجبِهم وقاتلهم، وأُصيب بسَهم في تلك الجولة ومات.

مَهلك نصر بن محمود وولاية أخيه سابق

ولمَّا هَلك نصر مَلك أخوه سابق. قال ابن الأثير: وهو الذي أوصى له أبوه بالمُلك، فلم يُنفَّذ عهده لصغره، فلمَّا وَلي استدعى أحمد شاه مُقدَّم التُّركمان الذين قتلوا أباه، فخَلع عليه وأحسن إليه، وبَقي فيها مُملَّكاً.

استيلاء مسلم بن قريش على حَلب مِن يد سابق

ولمَّا كانت سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة زحف تُتُش بعد أنْ مَلك دمشق إلى حَلب فحاصرها أيَّاماً. ووجل أهل حَلب مِن ولاية التُّرك؛ فبعثوا إلى مسلم بن قريش ليُملِّكوه. ثُمَّ بدا لهم في أمره ورجع مِن طريقه. وكان مُقدَّمهم يُعرف بابن الحسين العبَّاسي، وخرج ولده مُتصيِّداً في ضَيعةٍ له، فأرسل له بعض أهل القِلاع بنواحي حَلب مِن التُّركمان وأسره، وأرسله إلى مسلم بن قريش. فعاهده على تَمكينه مِن البلد، وعاد إلى أبيه فسَلَّم البلد إلى مسلم بن قريش، ومَلكها سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة. ولحِق سابق بن محمود وأخاه وثَّاب إلى القلعة واستنزلهما بعد أيَّامٍ على الأمان. واستولى على نواحيها؛ وبعث إلى السلطان ملك شاه بالفتح؛ وأنْ يَضمن البلد على العادة، فأجابه إلى ذلك. وصارت في ولاية مسلم بن قريش إلى أنْ مَلكها السلطان مِن بعده.

٣٦٠