تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 391
المشاهدات: 124541
تحميل: 11008


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124541 / تحميل: 11008
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

رواج الأدب والشعر في دولتهم

قال القاضي ابن خلكان في وفياته في ترجمة أبي الفتيان محمد بن حويس الشاعر: وكان مُنقطعاً إلى بني مرداس أصحاب حَلب، وله فيهم القصائد الأنيقة، وقصَّته مشهورة مع الأمير جلال الدولة، وصمصامها أبي المظفر نصر بن محمود بن شبل الدولة، نصر بن صالح بن مرداس الكِلابي صاحب حَلب، فإنَّه كان قد مَدح أباه محمود بن نصر فأجازه ألف دينار. فلمَّا مات وقام مَقامه ولده نصر المَذكور قصده ابن حيِّوس المذكور بقصيدته الرائيَّة يمدحه بها ويُعزِّيه عن أبيه، وهي:

كفى الدين عِزَّاً ما قضاه لك الدهر فمَن كان ذا نَذر فقد وَجب النَذر

ومنها ثمانية لم تَفترِق مُذ جمعته فلا افترقت ما ذَبَّ عن ناظر شَفر

يقينك والتقوى وَجودك والغِنى ولفظك والمَعنى وعَزمك والنصر

ويذكر فيها وفاة أبيه، وتوليته الأمر بعده بقوله:

صَبرنا على حُكم الزمان الذي سطا عـلى أنَّـه لولاك لم يَكُن الصبر

غـزانا بـبؤسى لا يُماثلها الأسى تُـقارِن نُـعمى لا يَقوم بها الشكر

ومنها:

تـباعَدتُ عـنكم حِـرقةً لا زَهادةً وسِـرت إلـيكم حـين سني الضُّرُّ

فـلاقيت ظِـلَّ الأمن ما عنه حاجِزٌ يَـصدُّ وبـاب الـعِزِّ ما دونه سِتر

وطـال مَـقامي فـي أَسار جَميلكم فـدامت مَـعاليكم ودام لـي الأسر

وأنـجز لي ربُّ السماوات وعده ال كـريم بـأنَّ الـعُسر يَـتبعه اليُسر

فـجاد ابن نصر لي بألفٍ تَصرَّمت وإنِّـي عـليم أنْ سـيَخلفها نَـصر

لـقد كـنت مـأمولاً تَـرجَّى لمِثله فـكيف وطوعاً أمرك النهي والأمر

وما بيْ إلى الإلحاح والحِرص حاجة وقـد عرف المُبتاع وانفصل السعر

وإنِّي بـآمـالي لـديك مُـخيِّمٌ وكـمْ فـي الورى ثاوٍ وآماله سفر

وعـندك مـا أبـغي بقولي تَصنُّعاً بـأيسر مـا تـوليه يَـستعبد الحرُّ

فلمَّا فرغ مِن إنشادها قال الأمير نصر: والله، لو قال عوض قوله:

٣٦١

سيخلفها نصر، سيَضعُفها نَصر لأضعفتها له. وأعطاه ألف دينار في طَبق فِضَّة. وكان قد اجتمع على باب نصر المذكور جماعة مِن الشعراء، وامتدحوه وتأخَّرت صلته عنهم. ونزل بعد ذلك الأمير نصر إلى دار بولص النصراني، وكانت له عادة بغشيان مَنزله وعَقد مَجلس الأُنس عنده. فجاءت الشعراء الذين تأخرت جوائزهم إلى باب بولص، وفيهم أبو الحسن أحمد بن محمد بن الدويدة المعرِّي الشاعر المعروف، فكتبوا ورقة فيها أبيات اتَّفقوا على نظمها، وقيل: بَلْ نظمها ابن الدويدة المذكور، وسيَّروا الورقة إليه، والأبيات المذكورة هي:

على بابك المَحروس مِنَّا عِصابة مَفاليس فانظر في أمور المَفاليس

وقـد قَـنعتْ منك الجماعة كُلُّها بعُشر الذي أعطيته لابن حيُّوس

ومـا بـيننا هـذا التفاوت كُلُّه ولـكنْ سعيد لا يُقاس بمَنحوس

فلمَّا وقف عليها الأمير نصر، أطلق لهم مائة دينار، فقال: والله، لو قالوا بمِثل الذي أعطيته لابن حيُّوس لأعطيتهم مِثله. ثُمَّ قال:

وكان الأمير نَصر سَخيَّاً واسع العَطاء، مَلَك حَلب بعد وفاة أبيه محمود في سنة سبع وستِّين وأربعمائة، ولم تَطُل مُدَّته حتَّى ثار عليه جماعة مِن جُنده فقتلوه في ثاني شوَّال سنة ثمان وستِّين وأربعمائة، وداره بها هي الدار المَعروفة الآن بدار الأمير عَلَم الدين سليمان بن حيدر. ومِن مَحاسن شعر ابن حيُّوس القصيدة اللاميَّة التي مَدح بها أبا الفضل سابق بن محمود، وهو أخو نَصر المذكور، ومِن مَديحها قوله:

طـالما قلتُ للمُسائِل عنكم واعـتمادي هِداية الضُّلال

أنْ تَرد عِلم حالهم عن يَقين فـالقهم في مَكارم أو نِزال

ثُمَّ أورد للرستمي في الصاحب بن عباد مِمَّا يَنطبق على مَعنى هذه الأبيات، ويَتفوَّق عليها في حُسن التقسيم، وإنْ كان ابن حيُّوس قد ألمَّ بها:

مِن النَّفر العالين في السِّلم والوَغى وأهـل الـمَعالي والعوالي وآلها

إذا نَزلوا اخضرَّ الثرى مِن نُزولهم وإنْ نـازلوا احمرَّ القَنا مِن نزالها

قال: وكان ابن حيوس قد أثرى وحصلت له نِعمة ضَخمة مِن بَني

٣٦٢

مرداس، فبَنى داراً بمدينة حَلب، وكتب على بابها مِن شِعره:

دار بَـنيناها وعِـشنا بها فـي نِعمة مِن آل مرداس

قوم نَفوا بؤسي ولم يَتركوا عـليَّ لـلأيام مِـن باس

قـل لبني الدنيا ألا هكذا فليَصنع الناس مع الناس

وقيل: إنَّ هذه الأبيات للأمير الجليل أبي الفتح الحسن بن عبد الله بن عبد الجبار الحَلبي، المَعروف بابن أبي حصينة، وهو الصحيح.

ما جاء من أخبارهم في كامل ابن الأثير ج٩

سنة (٣٩٩) لما قَتل عيسى بن خلاط أبا علي بن ثمال بالرَّحبة ومَلكها، أقام فيها مُدَّة. ثُمَّ قصده بدران بن المقلَّد العُقيلي، فأخذ الرَّحبة منه وبقيت لبدران، فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها. فقصد الرُّقة أوَّلاً ومَلكها، ثُمَّ سار إلى الرَّحبة ومَلكها، ثُمَّ عاد إلى دمشق. وكان بالرحبة رجل مِن أهلها يُعرَف بابن مُحكان، فمَلك البلد واحتاج إلى مَن يَجعله ظَهره ويَستعين به على مَن يَطمع فيه، فكاتب صالح ابن مرداس الكِلابي، فقدِم عليه وأقام عنده مُدَّة. ثُمَّ إنَّ صالحاً تَغيَّر عن ذلك، فسار إلى ابن محكان وقاتله على البلد وقطع الأشجار، ثُمَّ تَصالحا وتزوَّج ابنة محكان. ودخل صالح البلد إلاَّ أنَّه كان أكثر مَقامه بالحلَّة، ثُمَّ إنَّ ابن محكان راسل أهل عانة فأطاعوه، ونَقل أهله وماله إليهم وأخذ رهائنهم، ثُمَّ خرجوا عن طاعته وأخذوا ماله، واستعادوا رهائنهم وردُّوا أولاده، فاجتمع ابن محكان وصالح على قَصد عانة، فسار إليها فوضع صالح على ابن محكان مَن يَقتله. فقُتل غِيلةً: وسار صالح إلى الرَّحبة فمَلكها، وأخذ أموال ابن محكان، وأحسن إلى الرعيَّة واستمرَّ على ذلك، إلاَّ أنَّ الدعوة للمِصريين.

وفي هذه السنة قُتل أبو علي بن ثمال الخفاجي. وكان الحاكم بأمر الله صاحب مِصر قد ولاَّه الرَّحبة. فسار إليها. فخرج إليه عيسى بن خلاط العقيلي، فقَتله ومَلك الرَّحبة ثُمَّ مَلكها بعده غيره. فصار أمرها إلى صالح بن مرداس الكِلابي صاحب حَلب.

سنة (٤٠٢) في هذه السنة كانت وقعة بين أبي نصر لؤلؤ صاحب

٣٦٣

حَلب، وبين صالح بن مرداس. وكان ابن لؤلؤ مِن مَوالي سعد الدولة ابن سيف الدولة بن حمدان، فقَوي على ولد سعد الدولة، وأخذ البلد منه، وخَطب للحاكم صاحب مِصر، ولقَّبه الحاكم مرتضى الدولة. ثُمَّ فَسد ما بينه وبين الحاكم فطَمع فيه ابن مرداس وبَنو كِلاب، وكانوا يُطالبونه بالصِّلات والخُلع. ثُمَّ إنَّهم اجتمعوا هذه السنة في خمسمائة فارس، ودخلوا مدينة حَلب. فأمر ابن لؤلؤ بإغلاق الأبواب والقَبض عليهم، فقَبض على مائة وعشرين رَجلاً، منهم صالح بن مرداس، وحَبسهم وقَتل مائتين، وأطَلق مَن لم يَفكر به. وكان صالح قد تزوَّج بابنة عمٍّ له يُسمّى جابراً، وكانت جميلة فوصِفت لابن لؤلؤ فخَطبها إلى إخوتها وكانوا في حَبسه، فذكروا له أنَّ صالِحاً قد تزوَّجها. فلم يَقبل منهم وتزوَّجها، ثُمَّ أطلقهم. وبَقي صالح بن مرداس في الحَبس فتوصَّل حتَّى صَعد مِن السور وألقى بنفسه مِن أعلى القلعة إلى تَلِّها. واختفى في مَسيل ماء. ووقع الخبر بهَربه، فأرسل ابن لؤلؤ الخَيل في طَلبه، فعادوا ولمَ يَظفروا به. فلمَّا سكن عنه الطَلب سار بقَيده ولُبنة حَديد في رُجليه حتَّى وصل قرية تُعرف بالياسريَّة، فرأى ناساً مِن العرب فعَرفوه وحملوه إلى أهله بمرج دابق. فجَمع ألفي فارس، فقصد حَلب وحاصرها اثنين وثلاثين يوماً، فخرج إليه ابن لؤلؤ فقاتله، فهزمهم صالح وأسر ابن لؤلؤ وقيَّده بقيده الذي كان في رُجله ولبنته. وكان لابن لؤلؤ أخٌ فنَجا وحَفظ مدينة حَلب. ثُمَّ إنَّ ابن لؤلؤ بَذل لابن مرداس مالاً على أنْ يُطلقه. فلمَّا استقرَّ الحال بينهما أخذ رهائنه وأطلقه. فقالت أم صالح لابنها: قد أعطاك الله ما لا كنت تؤمَّله، فإنْ رأيت أنْ تُتِم صَنيعك بإطلاق الرهائن فهو المَصلحة؛ فإنَّه إنْ أراد الغَدر بك لا يَمنعه مَن عندك، فأطلقهم. فلمَّا دخل البلد حمل ابن لؤلؤ إليه أكثر مِمَّا استقرَّ، وكان قد تَقرَّر عليه مائتا ألف دينار ومائة ثَوب، وأطلق كُلَّ أسيرٍ عنده مِن بَني كِلاب. فلمَّا انفصل الحال، ورحل صالح أراد ابن لؤلؤ قَبض غلامه فتح، وكان دزدار القلعة لأنَّه اتَّهمه بالمُمالأة على الهزيمة وكان خِلاف ظَنِّه. فأطلع على ذلك غُلاماً له اسمه سرور، وأراد أنْ يَجعله مكان فتح، فأعلم سرور بعض أصدقائه ويُعرَف بابن غانم؛ وسبب إعلامه أنَّه حضر عنده، وكان يَخاف ابن لؤلؤ لكَثرة ماله، فشكا إلى سرور ذلك، فقال له: سيكون أمرٌ تأمنُ معه. فسأله فكَتمه، فلم يَزل يَخدعه حتَّى أعلمه الخبر. وكان بين ابن

٣٦٤

غانِم وبين فتح مودَّة، فصعد إليه بالقلعة مُتنكِّراً فأعلمه الخبر، وأشار عليه بمُكاتبة الحاكم صاحب مِصر. وأمر ابن لؤلؤ أخاه أبا الجيش بالصعود إلى القلعة بحُجَّة افتقاد الخزائن، فإذا صار فيها قبض على فتح، وأرسل إلى فتح يُعلِمه أنَّه يُريد افتقاد الخزائن ويأمره بفتح الأبواب. فقال فتح: إنني قد شرِبت اليوم دواءً، وأسأل تأخير الصعود في هذا اليوم؛ فإنَّني لا أثِق في فتح الأبواب لغيري، وقال للرسول: إذا لقيته فاردُده. فلمَّا علم ابن لؤلؤ الحال أرسل والدته إلى فتح؛ ليَعلم سبب ذلك، فلمَّا صعدت إليه أكرمها وأظهر لها الطاعة، فعادت وأشارت على ابنها بترك مُحاقَّته، ففعل وأرسل إليه يَطلب جوهراً كان له بالقلعة. فغالطه فتح ولم يُرسله، فسكت على مَضَضٍ؛ لعلمه أنَّ المُحاقَّة لا تُفيد لحَصانة القلعة، وأشارت والدة ابن لؤلؤ عليه بأنْ يَتمارض، ويُظهِر شِدَّة المرض، ويستدعي فَتحاً ليَنزل إليه ليَجعله وصيَّاً، فإذا حضر قبضه. ففعل ذلك فلم يَنزل فَتح واعتذر وكَاتَبَ الحاكم، وأظهر طاعته وخَطب له، وأظهر العِصيان على أُستاذه وأخذ مِن الحاكم صيدا وبيروت وكُلَّ ما في حَلب مِن الأموال. وخرج ابن لؤلؤ مِن حَلب إلى انطاكية وبها الروم فأقام عندهم. وكان صالح بن مرداس قد مالأ فَتحاً على ذلك، فلمَّا عاد عن حَلب استصَّحب معه والدة ابن لؤلؤ ونساءه وتَركهنَّ بمنبج، وتَسلَّم حَلب نواب الحاكم وتَنقلت بأيديهم حتَّى صارت بيد إنسان مِن الحمدانيَّة يُعرف بعزيز المُلك، فقدَّمه الحاكم واصطنعه وولاَّه حَلب. فلمَّا قُتل الحاكم ووَلي الظاهر عصى عليه، فوضعت ستُّ المُلك أخت الحاكم فَرَّاشاً له على قتله فقتله. وكان للمِصريين بالشام نائب يُعرف بانوشتكين البربري، وبيده دمشق والرملة وعسقلان وغيرها. فاجتمع حسَّان أمير بَني طَي، وصالح بن مرداس أمير بَني كِلاب، وسنان بن عليان، وتَحالفوا واتَّفقوا على أنْ يكون مِن حَلب إلى عانة لصالح بن مرداس، ومِن الرَّملة إلى مِصر لحسَّان، ودمشق لسنان. فسار حسَّان إلى الرَّملة فحصرها وبها انوشتكين، فسار عنها إلى عسقلان واستولى عليها حسَّان ونهبها وقَتل أهلها، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة، أيَّام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة مِصر، وقصد صالح حَلب وبها إنسان يُعرف بابن ثُعبان يتولَّى أمرها للمِصريين وبالقلعة خادم يُعرف بموصوف. فأمَّا أهل البلد فسلَّموه إلى صالح؛ لإحسانه إليهم ولسوء سيرة المِصريين معهم، وصَعد ابن ثُعبان إلى القلعة فحصره صالح بالقلعة فغار

٣٦٥

الماء الذي بها، فلم يَبق لهم ما يَشربون؛ فسَلَّم الجند القلعة إليه، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة. ومَلك مِن بَعْلَبك إلى عانة، وأقام بحَلب ستَّ سنين. فلمَّا كانت سنة عشرين وأربعمائة جهَّز الظاهر صاحب مِصر جيشاً وسيَّرهم إلى الشام لقتال صالح وحسَّان، وكان مُقدَّم العسكر أنوشتكين البربري، فاجتمع صالح وحسَّان على قتاله، فاقتتلوا بالأقحوانة على الأردن عند طبريَّة؛ فقُتل صالح ووَلده الأصغر وأُنقذ رأسهما إلى مِصر، ونَجا وَلده أبو كامل نصر بن صالح، فجاء إلى حَلب ومَلكها، وكان لقبه شِبل الدولة، فلمَّا عَلِمت الروم بانطاكية الحال تجهَّزوا إلى حَلب في عالَمٍ كثيرٍ، فخرج أهلها فحاربوهم؛ فهزموهم ونهبوا أموالهم وعادوا إلى أنطاكية، وبَقي شِبل الدولة مالِكاً لحَلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة. فأرسل إليه الدزبري العساكر المِصريَّة، وصاحب مِصر حينئذٍ المُستنصر بالله، فلقيهم عند حماة، فقُتل في شعبان، وملك الدزبري حَلب في رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ومَلَك الشام جميعه، وعَظُم أمره وكَثُر ماله، وأرسل يستدعي الجند التُّرك مِن البلاد، فبَلغ المِصريين عنه أنَّه عازم على العِصيان؛ فتقدَّموا إلى أهل دمشق بالخروج عن طاعته ففعلوا، فسار عنها نحو حَلب في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وتُوفِّي بعد ذلك بشهرٍ واحدٍ. وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس، المُلقَّب بمُعزِّ الدولة بالرَّحبة، فلمَّا بلغه موت الدزبري جاء إلى حَلب فمَلكها تسليماً مِن أهلها، وحصر امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهراً، ومَلكها في صَفَر سنة أربع ثلاثين وأربعمائة، فبَقي فيها إلى سنة أربعين وأربعمائة، فأنفذ المِصريون إلى مُحاربته أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان، فخرج أهل حَلب إلى حربه فهزمهم، واختنق منهم بالباب جماعة. ثُمَّ إنَّه رحل عن حَلب وعاد إلى مِصر، وأصابهم سَيل ذهب بكثير مِن دوابهم وأثقالهم. فأنفذ المِصريون إلى قتال مُعزِّ الدولة خادماً يُعرَف برفق؛ فخرج إليه في أهل حَلب فقاتلوه، فانهزم المِصريون وأُسر رفق ومات عندهم. وكان أسره سنة إحدى وأربعين وأربعمائة في ربيع الأوَّل، ثُمَّ إنَّ مُعزَّ الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المِصريين وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حَلب، فأنفذوا إليها أبا علي الحسن بن علي بن ملهم، ولقَّبوه مكين الدولة فتَسلَّمها مِن ثمال ذي القعدة سنة تسع وأربعين وأربعمائة. وسار ثمال إلى مِصر في ذي الحجَّة وسار أخوه أبو ذؤابة عطيَّة بن صالح

٣٦٦

إلى الرَّحبة، وأقام ابن ملهم بحَلب، فجرى بين بعض السودان وأحداث حَلب حرب، وسمع ابن ملهم أنَّ بعض أهل حَلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح، يَستدعونه ليُسلِّموا البلد إليه، فقبض على جماعة منهم، وكان منهم رَجل يُعرَف بكامل بن نباتة فخاف؛ فجلس يَبكي، وكان يقول لكُلِّ مَن سأله عن بكائه: إنَّ أصحابنا الذين أُخذوا قد قُتلوا وأخافُ على الباقين. فاجتمع أهل البلد واشتدُّوا، وراسلوا محموداً وهو منهم على مَسير يوم يَستدعونه، وحصروا ابن ملهم، وجاء محمود وحصره معهم في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. ووصلت الأخبار إلى مِصر؛ فسيَّروا ناصر الدولة أبا علي بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكر بعد اثنين وثلاثين يوماً مِن دخول محمود حَلب، فلمَّا قارب البلد خرج محمود عن حَلب إلى البرية، واختفى الأحداث جميعهم. وكان عطيَّة بن صالح نازلاً بقُرب البلد، وقد كَرِه فعل محمود ابن أخيه، فقبض ابن ملهم على مائة وخمسين مِن الأحداث، ونَهب وسط البلد، وأخذ أموال الناس، وأمَّا ناصر الدولة فلم يُمكِّن أصحابه مِن دخول البلد، ونهبه وسار في طلب محمود، فالتقيا بالغُنيدق في رجب؛ فانهزم أصحاب ابن حمدان وثبت هو، فجُرِح وحُمِل إلى محمود أسيراً. فأخذه وسار إلى حَلب فمَلكها، ومَلك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وأُطلق ابن حمدان فسار هو وابن ملهم إلى مِصر، فجهَّز المِصريون مُعزَّ الدولة ثمال بن صالح إلى ابن أخيه، فحصره في حَلب في ذي الحجَّة من السنة فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري صاحب حرَّان فجاء إليه، فلمَّا بلغ ثمالاً مجيئه سار عن حَلب إلى البرية في المُحرَّم سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وعاد منيع إلى حرَّان، فعاد ثمال إلى حَلب وخرج إليه محمود ابن أخيه، فاقتتلوا وقاتل محمود قتالاً شديداً، ثُمَّ انهزم محمود فمضى إلى أخواله بَني نُمير بحرَّان، وتسلَّم ثمال حَلب في ربيع الأوَّل سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وخرج إلى الروم فغزاهم، ثُمَّ تُوفِّي بحَلب في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وكان كريماً حليماً، وأوصى بحَلب لأخيه عطيَّة بن صالح فمَلكها ونزل بها قوم مِن التُّركمان مع ابن خان التُّركمان فقَوي بهم، فأشار أصحابه بقتلهم، فأمر أهل البلد بذلك فقَتلوا منهم جماعة، ونَجا الباقون فقصدوا محموداً بحرَّان واجتمعوا معه على حصار حَلب،

٣٦٧

فحصرها، وملكها في رمضان سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وقصد عمُّه عطيَّة الرِّقة فملكها، ولم يَزل بها حتَّى أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستِّين، وسار عطيَّة إلى بلد الروم فمات بالقِسْطَنْطِينيّة سنة خمس وستِّين وأربعمائة، وأرسل محمود التُّركمان مع أميرهم ابن خان إلى ارتاح فحصرها، وأخذها من الروم سنة ستِّين وأربعمائة. وسار محمود إلى طرابلس فحصرها، وأخذ مِن أهلها مالاً وعاد، وأرسله محمود في رسالة إلى السلطان ألب أرسلان، ومات محمود في حَلب سنة ثمان وستين وأربعمائة في ذي الحجَّة. ووصَّى بها بعده لابنه شبيب، فلم يُنفِّذ أصحابه وصيَّته لصغره، وسلّموا البلد إلى وَلده الأكبر واسمه نصر، وجدُّه لأُمِّه الملك العزيز بن الملك جلال الدولة بن بويه، وتزوَّجها عند دخولهم مِصر لمَّا ملك طغرلبك العراق. وكان نصر يُدمِن شِرب الخمر؛ فحمله السُّكر على أنْ خرج إلى التُّركمان الذين مَلَّكوا أباه البلد وهم بالحاضر يوم الفطر، فلقوه وقبَّلوا الأرض بين يديه، فسبَّهم وأراد قتلهم فرماه أحدهم بنشابَّة فقتله. وملك أخوه سابق، وهو الذي كان أبوه أوصى له بحَلب، فلمَّا صعد القلعة استدعى أحمد شاه مُقدَّم التُّركمان وخَلع عليه، وأحسن إليه، وبقي فيها إلى سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. فقصده تُتُش بن ألب أرسلان فحصره بحَلب أربعة أشهر ونصفاً، ثُمَّ رَحل عنه ونازله شرف الدولة فأخذ البلد منه.

سنة (٤٢٠) وفي هذه السنة سَيَّر الظاهر جيشاً مِن مِصر مُقدَّمهم أنوشتكين البريدي، فقَتل صالح بن مرداس، ومَلك نصر بن صالح مدينة حَلب.

سنة (٤٢١) في هذه السنة خرج مَلك الروم مِن القِسْطَنْطِينيّة في ثلاثمائة ألف مُقاتل إلى الشام، فلم يَزل يَسير بعساكره حتَّى بلغوا قريب حَلب، وصاحبها شِبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على يوم منها فلحقهم عَطش شَديد، وكان الزمان صيفاً، وكان أصحابه مُختلفين عليه، فمنهم مَن يَحسده، ومنهم مَن يَكرهه، ومِمَّن كان معه ابن الدوقس، وهو مِن أكابرهم، وكان يُريد هَلاك المَلك ليَملك بعده، فقال الملك: الرأي أنْ نُقيم حتَّى تجيء الأمطار، وتَكثُر المياه، فقبَّح ابن الدوقس هذا الرأي، وأشار بالإسراع؛ قَصداً لشَرٍّ يَتطرَّق إليه؛ ولتدبيرٍ كان قد دبَّره عليه فسار، ففارقه ابن

٣٦٨

الدوقس وابن لؤلؤ في عشرة آلاف فارس، وسلكوا طَريقاً آخر؛ فخَلا بالمَلك بعض أصحابه وأعلمه أنَّ ابن الدوقس وابن لؤلؤ قد حالفا أربعين رَجلاً هو أحدهم على الفتك به؛ فاستشعر مِن ذلك، وخاف ورحل مِن يومه راجعاً. ولحقه ابن الدوقس وسأله عن السبب الذي أوجب عَوده، فقال له: قد اجتمعت علينا العرب، وقَربوا منَّا، وقَبض في الحال عليه وعلى ابن لؤلؤ وجماعة معهما؛ فاضطرب الناس واختلفوا، ورحل الملك وتَبِعهم العرب وأهل السواد حتَّى الأرْمَن يَقتلون ويَنهبون، وأخذوا مِن الملك أربعمائة بَغل مُحمَّلة مالاً وثياباً، وهلك كثير مِن الروم عطشاً، ونَجا الملك وحده، ولم يَسلم معه مِن أمواله وخزائنه شيء ألبتَّة، وكفى الله المؤمنين القتال. وقيل في عَوده غير ذلك: وهو أنَّ جَمعاً مِن العرب ليس بالكثير عَبر على عَسكره، وظَنَّ الروم أنَّها كَبسة؛ فلم يَدروا ما يَفعلون حتَّى إنَّ مَلكهم لَبس خِفَّاً أسود، وعادة مُلوكهم لِبس الخِفَّ الأحمر، فتركه ولبس الأسود ليَعمي خبره على مَن يُريده وانهزموا، وغَنِم المسلمون جميع ما كان معهم.

سنة (٤٢٦) وفيها جَمعت الروم وسارت إلى ولاية حَلب، فخرج إليهم صاحبها شِبل الدولة بن صالح بن مرداس فتصافّوا واقتتلوا، فانهزمت الروم وتَبِعهم إلى عزّاز، وغَنِم غنائم كثيرة وعاد سالِماً.

سنة (٤٣٢) في هذه السنة كانت الوقعة بين عسكر المِصريين سيَّره الدزبري وبين الروم. فظَفر المسلمون؛ وكان سبب ذلك أنَّ مَلك الروم قد هادنه المُستنصر بالله العلوي صاحب مِصر، فلمَّا كان الآن شرع يُراسل ابن صالح بن مرداس ويَستميله، وراسله قبله صالح ليتقوَّى به على الدزبري خَوفاً أنْ يأخذ منه الرِّقة، فبلغ ذلك الدزبري فتهدَّد ابن صالح، فاعتذر وجَحد، وانتهت الوقعة بانتصار المسلمين على الروم.

سنة (٤٣٣) في هذه السنة فَسد أمر أنوشتكين الدزبري نائب المُستنصر بالله صاحب مِصر بالشام، وقد كان كبيراً على مَخدومه بما يَراه مِن تَعظيم المُلوك له وهَيبة الروم منه، وكان الوزير أبو القاسم الجرجرائي يَقصده ويَحسده، إلاَّ أنَّه لا يَجد طريقاً إلى الوقيعة فيه. ثُمَّ اتَّفق أنَّه سعى بكاتب للدزبري اسمه أبو سعد، وقيل عنه: إنَّه يَستميل صاحبه إلى غير جهة المِصريِّين فكوتب الدزبري بإبعاده فلم يَفعل، وما زال يَسعى به الجرجرائي حتَّى أفسد عليه الجُند وكَثُر عليه الشَّغَب في دِمشق، وقصدوا قَصره وهو بظاهر البلد

٣٦٩

وتبعهم مِن العامَّة مَن يُريد النهب فاقتتلوا. فعلم الدزبري ضُعفه وعَجزه، ففارق مَكانه واستصَّحب أربعين غُلاماً له وما أمكنه مِن الدَّواب والأثاث والأموال، ونُهِب الباقي وسار إلى بَعلبك، فمنعه مُستحفظها، وأخذ ما أمكنه أخذه مِن مال الدزبري، وتبعه طائفة مِن الجند يَقْفون أثره وينهبون ما يَقدرون عليه، وسار إلى مدينة حماه، فمُنِع عنها وقُوتِل وكاتب المقلَّد بن مُنقذ الكناني الكفر طابي واستدعاه؛ فأجابه وحضر عنده في نَحو ألفي رَجل مِن كفر طاب وغيرها، فاحتمى به وسار إلى حَلب، ودخلها وأقام بها مُدَّة وتُوفِّي في مُنتصَف جمادى الأولى مِن هذه السنة، فلمَّا تُوفِّي فَسد أمر الشام وزال النظام وطمعت العرب، وخرجوا في نواحيه فخرج حسَّان بن المفرج الطائي بفلسطين، وخرج مُعزُّ الدولة بن صالح الكِلابي بحَلب وقصدها وحصرها وملك المدينة، وامتنع أصحاب الدزبري بالقعلة، وكتبوا إلى مِصر يَطلبون النَّجدة فلم يفعلوا. واشتغل عساكر دمشق ومُقدَّمهم الحسين بن أحمد الذي وَلي أمر دِمشق بعد الدزبري بحرب حسَّان، ووقع الموت في الذين في القلعة، فسلَّموها إلى مُعزِّ الدولة بالأمان.

سنة (٤٤٠) في جمادى الآخرة وَصلت عساكر مِصر إلى حَلب في جَمعٍ كثيرٍ، فحصروها وبها مُعزُّ الدولة أبو علوان ثمال بن صالح الكِلابي، فجَمع جَمعاً كثيراً بلغوا خمسة آلاف فارس وراجل، فلمَّا نزلوا على حَلب خرج إليهم ثمال، وقاتلهم قتالاً شديداً صَبر فيه لهم إلى اللَّيل، ثُمَّ دخل البلد. فلمَّا كان الغَد اقتتلوا إلى آخر النهار، وصَبر أيضاً ثمال، وكذلك أيضاً اليوم الثالث. فلمَّا رأى المِصريون صَبر ثمال وكانوا ظنُّوا أنَّ أحداً لا يَقوم بين أيديهم رحلوا عن البلد، فاتَّفق أنَّ تلك الليلة جاء مَطر عظيم لمْ يَرَ الناس مِثله فجاءت المدود إلى منزلهم، فبلغ الماء ما يُقارب قامتين ولو لم يَرحلوا لغرِقوا ثُمَّ رحلوا إلى الشام الأعلى.

سنة (٤٤١) وفيها وصل عسكر مِن مِصر إلى حَلب، وبها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس، فخافهم لكَثرتهم، فانصرف عنها فمَلكها المِصريُّون.

سنة (٤٥٢) في هذه السنة في جمادى الآخرة حَصر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكِلابي مدينة حَلب، وضَيَّق عليها، واجتمع مع جَمع كثير مِن العرب، فأقام عليها فلم يَتسهلَّ له فَتحها فرحل عنها. ثُمَّ عاودها فحصرها فملك المدينة عِنوة في جمادى الآخرة بعد أنْ حصرها

٣٧٠

وامتنعت القلعة عليه، وأرسل مَن بها إلى المُستنصر بالله صاحب مِصر ودمشق يَستنجدونه، فأمر ناصر الدولة أبا محمد الحسين بن الحسن بن حمدان الأمير بدمشق أنْ يَسير بمَن عنده مِن العساكر إلى حَلب يَمنعها مِن محمود. فسار إلى حَلب، فلمَّا سَمع محمود بقربه منه خَرج مِن حَلب، ودخلها عَسكر ناصر الدولة فنهبوها. ثُمَّ إنَّ الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حَلب واشتدَّ القتال بينهم، فانهزم ناصر الدولة، وعاد مقهوراً إلى مِصر. وملك محمود حَلب، وقَتل عمَّه مُعزَّ الدولة واستقام أمره بها، وهذه الوقعة تُعرَف بوقعة الفُنيدق وهي مشهورة.

سنة (٤٥٤) وفيها مات أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس، المُلقَّب عِزَّ الدولة بحَلب، وقام أخوه عطيَّة مَقامه.

سنة (٤٦٢) في هذه السنة أقبل ملك الروم مِن القِسْطَنْطِينيّة في عسكر كثيف إلى الشام، ونزل على مدينة منبج، ونهبها وقتل أهلها وهزم محمود بن صالح بن مرداس، وبَني كِلاب، وابن حسَّان الطائي ومَن معهما مِن جموع العرب. ثم إنَّ مَلك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده ولم يُمكِنه المَقام لشِدَّة الجوع.

سنة (٤٦٣) في هذه السنة خَطب محمود بن صالح بن مرداس بحَلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله، وللسلطان ألب أرسلان؛ وسبب ذلك أنَّه رأى إقبال دولة السلطان وقوَّتها وانتشار دعوتها، فجَمع أهل حَلب، وقال: هذه دولة جديدة ومَملكة شَديدة، ونحن تَحت الخوف منهم، وهم يستحلُّون دِماءكم لأجل مَذاهبكم، والرأي أنْ نُقيم الخُطبة قبل أنْ يأتي وقت لا يَنفعنا فيه قولٌ ولا بَذلٌ. فأجاب المشايخ إلى ذلك ولبِس المؤذِّنون السواد، وخطبوا للقائم بأمر الله والسلطان، فأخذت العامَّة حُصر الجامع، وقالوا: هذه حُصر علي بن أبي طالب، فليأت أبو بكر بحُصر يصلّي عليها بالناس. وأرسل الخليفة إلى محمود الخُلع مع نَقيب النُّقباء طراد بن محمد الزينبي، فلبِسها ومدحه ابن سنان الخفاجي وأبو الفتيان بن حيّوس. وقال أبو عبد الله بن عطيَّة يَمدح القائم بأمر الله، ويَذكر الخُطبة بحَلب ومَكَّة والمدينة:

كـم طائعٍ لك لم تَجلب عليه ولم تَـعرف لـطاعته غير التُّقى سَببا

هـذا الـبَشير بإذعان الحِجاز وذا داعي دِمشق وذا المَبعوث مِن حَلبا

٣٧١

وفي هذه الصفحة: في هذه السنة سار السلطان ألب أرسلان إلى حَلب، وقد وَصلها نَقيب النُّقباء أبو الفوارس طراد بالرسالة القائميَّة والخُلع، فقال له محمود صاحب حَلب: أسألك الخروج إلى السلطان واستعفاءه لي مِن الحضور عنده، فخرج نَقيب النُّقباء، وأخبر السلطان بأنَّه قد لبِس الخُلع القائمة، وخطب. فقال: أيُّ شيءٍ تُساوي خُطبتهم وهم يُؤذّنون (حي على خَير العَمل) ولابُدَّ مِن الحضور ودَوس بِساطي، فامتنع محمود من ذلك. فاشتدَّ الحصار على البلدت الأسعار وعظم القتال. وزحف السلطان يوماً وقَرب مِن البلد فوقع حَجر مَنجنيق على فرسه، فلمَّا عَظُم الأمر على محمود خرج ليلاً ومعه والدته مَنيعة بنت وثاب النميري، فدخلا على السلطان، وقالت له: هذا وَلدي فافعل به ما تُحِب فتلقَّاهما بالجميل، وخَلع على محمود وأعاده إلى بلده، فأنفذ إلى السلطان مالاً جَزيلاً.

سنة (٤٦٨) في هذه السنة مَلك نصر بن محمود بن مرداس مدينة مَنبج وأخذها مِن الروم.

سنة (٤٦٩) وفيها مات محمود بن مرداس صاحب حَلب وملك بعده ابنه نصر، فمدحه ابن حيُّوس بقصيدة، وقد أورد هنا ما أوردناه عن ابن خلكان وما أوردناه هناك أوفى تَفصيلاً.

سنة (٤٧٢) في هذه السنة مَلك شرف الدولة مسلم بن قريش العُقيلي صاحب الموصل مدينة حَلب؛ وسَبب ذلك أنَّ تاج الدولة تُتُش بن ألب أرسلان حصرها مَرَّة بعد أُخرى، فاشتدَّ الحصار بأهلها، وكان شرف الدولة يواصلهم بالغَلاَّت وغيرها. ثُمَّ إنَّ تُتُش حصرها هذه السنة وأقام عليها أيَّاماً، ورحل عنها وملك بزاعة والبيرة وأحرق ربض عزاز، وعاد إلى دمشق. فلمَّا رحل عنها تاج الدولة استدعى أهلها شرف الدولة ليسلِّموها إليه فلمَّا قاربها امتنعوا مِن ذلك، وكان مُقدَّمهم يُعرَف بابن الحُتَيْتى العباسي، فاتَّفق أنَّ وَلده خرج يتصيَّد بضَيعةٍ له فأسره أحد التُّركمان، وهو صاحب حصن بنواحي حَلب، وأرسله إلى شرف الدولة، فقرَّر معه أنْ يُسلِّم البلد إليه إذا أطلقه فأجاب إلى ذلك. فأطلقه فعاد إلى حَلب واجتمع بأبيه وعَرَّفه ما استقرَّ، فأذعن إلى تَسليم البلد ونادى بشِعار شرف الدولة وسلَّم البلد إليه، فدخله سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، وحصر القلعة واستنزل منها سابقاً ووثاباً ابني محمود بن مرداس. فلمَّا مَلك البلد أرسل ولده وهو ابن عمَّة السلطان

٣٧٢

إلى السلطان يُخبِره بمِلك البلد، وأنفذ معه شهادة فيها خطوط المُعدِّلين بحَلب بضمانها، وسأل أنْ يُقرِّر عليه الضمان، فأجابه السلطان إلى ما طلب، وأقطع ابن عمَّته مدينة بالس، وكانت في هذه السنة نهاية مُلك بَني مرداس.

ما أورده ابن القلانسي مِن أخبارهم

لمَّا اقتضت الآراء وصواب التدبير تَجريد العساكر المِصريَّة إلى الشام، ووقع الاختيار في ذلك على الأمير مُنتَجب الدولة، وذلك عقيب وفاة الحاكم وخِلافة الظاهر لإعزاز دين الله، استدعاه الوزير علي بن أحمد الجرجرائي، وقال له: ما تحتاج إليه لخروجك إلى الشام ودمشق؟. فقال: فرسي البرذعيَّة وخَيمة أستظل بها. فعَجب الوزير مِن مَقاله واستعاد فرسه المذكورة مِن سعيد السُّعداء وردَّها إليه، وأطلق له خمسة آلاف دينار وأصحبه صدقة بن يوسف الفلاحي ناظراً في الأموال ونَفقة الرجال، وجُرِدت العساكر معه ولُقِّب بالأمير مُظفر مُنتجب الدولة، وخُلِع عليه وخرج إلى مُخيَّمه وجملة مَن جُرِد معه سبعة آلاف فارس وراجل سِوى العرب. وسار في ذي القعدة وودَّعه الإمام الظاهر لإعزاز دين الله وعَيَّد بالرملة عِيد النحر، وسار إلى بَيت المَقدس، وجَمع العساكر، وقصد صالح بن مرداس، وحسَّان بن مفرج، وجموع العرب عند مَعرفته بتَجميعهم. ووقع اللِّقاء في القحوانة (الأقحوانة) والتقى الفريقان فهُزِمت جموع العرب وأخذتهم السيوف وتَحكَّمت فيهم، وكان صالح بن مرداس على فَرسه المشهور، فوَقف به مِن كَدِّ الهَزيمة ولم يَنهض به فلَحِقه رَجل مِن العرب يُعرَف بطريف بن فزارة، فضربه بالسيف على رأسه، وكان مَكشوفاً فصاح ووقع ولم يَعرِفه. وتَمَّ في طلب فرسه فمَرَّ به رَجل مِن البادية فعَرفه، فقطع رأسه وعاد يَرقص به، فلقيه الأمير عِزُّ الدولة رافع، فأخذه منه وجاء به إلى الأمير المُظفَّر، فلمَّا رآه نَزل عن فرسه وسجد لله شُكراً على ما أولاه مِن الظَّفر، وركب وأخذه بيده وجعله على رُكبته وأطلق للزبيدي الذي جاء به ألف دينار، ولعِزِّ الدولة رافع خمسة آلاف دينار، وأطلق لطريف الذي ضربه بالسيف فرسه وجوشنه وألف دينار، وأخذ الغُلمان التُّرك الذين لصالح لنفسه وأحسن إليهم. وتَقدَّم بجمع الرؤوس وأنفذ جُثَّة صالح إلى صيدا لتُصلَب على بابها، وأوصل رأسه إلى الحَضرة وخَلع على الواصلين به وأُعيدوا ومعهم الخُلع وزيادة الألقاب

٣٧٣

للأمير المُنتجب، وقُرِيء سِجلُّه عليه، وقال فيه الأمير أبو الفتيان محمد بن سلطان بن محمد بن حيّوس مِن قَصيدة امتدحه بها:

فكمْ ليلة نام عنِّي الرَّقيب ونـبَّهني الـقمر المُرتقب

جمعت بها بين ماء الغمام وماء الرضاب وماء الغَب

لجود المظفَّر سيف الإمام وعُدَّته المصطفى المنتخب

ولمَّا توجَّه عَقيب ذلك إلى حَلب، ونزل عليها ظَفر بشِبل الدولة نصر بن صالح، وكان قد انهزم ولحِقه رَجل فرماه بخشت في كَتفه فأنفذه ووقع عن فرسه، ومَرَّ به أحد التُّرك فقطع رأسه وسلَّمه إلى رافع وأنفذ مَن يُسلِّم جُثَّته إلى حماة فصُلِبت على الحِصن. وأمر أمير الجيش بعد ذلك بإنفاذ ثيابٍ وطَيبٍ وتَكفين الجُثَّة في تابوتٍ، ودفنها في المسجد، وبقيت فيه إلى سنة ٤٣٩ ونقلها مقلد بن كامل لما ملك حماة إلى قلعة حَلب وأنفذ الرأس والتُّركي والبدوي مع الشريف الزيدي إلى الحضرة في نصف شعبان سنة ٤٢٩. وعاد أمير الجيوش إلى دمشق، ونزل في القصر وأقام فيها ما أقام، وسار منها إلى حَلب، ونزل على السعدي، وفُتِحت له أبواب البلد ودخله، وأحسن إلى أهله وردَّ ما كان صالح اغتصبه مِن الأملاك إلى أربابها، وأمر بقتال القعلة فقوتلت وهو قائم. وراسله مُقلد بن كامل المُقيم بها وسلَّمها إليه وأقطعه عِدَّة مَواضع وسَكن في دار عزيز الدولة، وجاء في الهامش نَقلاً عن هلال بن الصابي ما يلي: في هذه السنة يَعني العشرين بعد الأربعمائة جَهَّز صاحب مِصر جيشاً مع القائد أنوشتكين الدزبري التُّركي أمير الجيوش لقتال صالح (وهو صالح بن مرداس أسد الدولة، ويُعرَف بابن الروقليَّة)، وحسَّان بن المفرج بن الجراح، وكانا قد جَمعا واستوليا على الأعمال وانتهيا إلى غَزَّة، فلمَّا بلغهما خبر الدزبري انصرفا مِن بين يديه وتبعهما إلى الأقحوانة أسفل عقبة فيق واقتتلوا؛ فانهزم حسَّان بن المفرج، وقتل صالح وابنه الأصغر. وبعث الدزبري برأس صالح إلى مِصر وأفلت نصر بن صالح الأكبر إلى حَلب. واستولى الدزبري على الشام ونزل بدمشق، وكتب إلى صاحب مِصر كتاباً مَضمونه: إلى سيِّدنا ومولانا، ويُوضِّح للعلوم الشريفة أنَّه كان قد عَرف اصطناع الدولة لأجل الجِراح، ومُقابلتهم حَسَّانها بسوء الاجتراح، وكان أخلقهم بالشُّكر لما أوليه حسَّان، وأحقَّهم بالكَفِّ عن

٣٧٤

الإساءة؛ إذ لم يَكُن منه في الطاعة حسَّان، ولكنْ أبى إلاّ طَبعه اللئيم، ومُعتَقده الذميم، وكمْ له مِن غَدرةٍ في الدين واضحة، ورِئة في أموال المُستضعَفين قارِحة، وأمَّا صالح بن مرداس زَعيم بَني كِلاب فإنَّه اتَّفق مع حسَّان مُدلاَّ ًبحَدِّه وحديده، مُحلِئاً على الدولة بعد حسَّانها إليه بعَدِّه وعَديده، فتآمرا على الفَساد، وتوازرا على الفَساد ونَهب البلاد، وكان صالح أشدَّهما كُفراً، وأعظمهما أمراً ومَكراً، ووافى الملعونان الأقحوانة الصغرى عند شاطئ نهر الأردن ووقعت الحرب، واشتدَّت بالطعن والضرب، فانهزم حسَّان مَغلولاً والعاقبة للمُتَّقين، ومَن أصدق مِن الله قِيلاً، وأمَّا الخائن صالح، فلم يَزل يُواصل الحَملات حتَّى أتعس الله جِدَّه، وأخذ سيف الله منه حَدَّه، فخَرَّ صريعاً قد أزهق الله نفسه، وأخبث مَغرسه، وغَنِم المُجاهدون سيفه وفرسه. وقد نُفذِّ إلى الحضرة رأسه، وقُتِل عامَّة أصحابه مِمَّن كَفر النعمة وفجر، ولم يُقتَل مِن الأولياء التامِّين عليه غير ثلاثة نَفر (والدزبري انوشتكين لقَبه مُنتَجب الدولة، وقيل: مُصطفى الدولة مُظفَّر الدين)، ولمَّا انهزم شِبل الدولة نصر بن صالح إلى حَلب طَمع صاحب انطاكية في حَلب، فجَمع الروم وسار إليها وأحاط بها، فكَبسه نصر وأهل البلد، فقتلوا مُعظَم أصحابه وانهزم هو إلى أنطاكية في نَفرٍ يَسيرٍ، وغَنِم أموالهم وعسكرهم، وقيل: كبسه على إعزاز فغَنِم منه أموالاً عظمية.

ونقل عن مُؤرِخ آخر، وهو محمد بن مؤيّد الملك: كان أبو صالح شِبل الدولة صاحب حَلب قد أنفذ إلى مِصر رَجلاً يُقال له: الأيسر بعدما هَزِم الروم على إعزاز، وبَعث مِن غَنائمهم شَيئاً كثيراً مِن الصياغات والآلات والأواني والخيل والبغال، فأعجب ذلك الجرجرائي الوزير، وأكرم رسوله، وخَلع عليه وبَعث معه الخُلع الجليلة لشِبل الدولة. وكان انوشتكين الدزبري صاحب الشام مُقيماً بدمشق فلم يَزل رَجل يقال له: ابن كليد يُغري بين الدزبري وشِبل الدولة حتَّى أوقع بينهما، وكان ابن كليد بحمص، فبعث الدزبري رافع بن أبي الليل أمير الكلبيِّين إلى قتال نصر بن صالح إلى حَلب. فخرج شِبل الدولة نصر بن صالح لقتالهم فاقتتلوا فقُتِل نصر في المَعركة وذلك في شعبان. وسار الدزبري فنَزل على جبل جوشن ظاهر حَلب، وأغلق أهل حَلب أبوابها وقاتلوه فاستمالهم وأمّنهم ففتحوا له الأبواب فدخلها، وكان في القلعة المقلَّد بن كامل ابن عم شبل الدولة

٣٧٥

فتراسلا واستقرَّ الأمر على أنَّ المُقلَّد يأخذ مِن القلعة ثمانين ألف دينار وثياباً وأواني ذَهب وفِضَّة، ويُسلِّمها إلى الدزبري، وكانت خديعةً فأجاب الدزبري، فأخذ جيمع ما كان في القلعة مِن الأواني والذخائر والجواهر، وما تَرك إلاَّ ما ثَقل حمله. ومضى إلى حلَّته وحصل جمهور ما كان في القلعة المُقلَّد وأخذ عِزُّ الدولة ثمال بن صالح أخو نصر، وكان قد انهزم إلى القلعة يوم الوقعة، وأراد أنْ يَعصي فلم يَتوفَّق فأخذ خمسين ألف دينار وانصرف. وبلغ الوزير بمِصر فعَزَّ عليه قَتل نَصْر، وما جرى في أموال القلعة مِن التفريط، وكان ذلك مُضافاً إلى سوء رأي الدزبري فكانت ولاية شِبل الدولة نصر على حَلب تسع سنين.

سنة (٤٤٩) في هذه السنة وردت الأخبار بتَسلم الأمير مكين الدولة قلعة حَلب مِن مُعزِّ الدولة، وحصل فيها في الخميس لثلاث بقين مِن ذي القعدة منها، وأقام بها مُدَّة أربع سنين يَخطب فيها للمُستنصر بالله صاحب مِصر.

في هذه الصفحة سنة (٤٥٠) فيها وصل الأمير ناصر الدولة وسيفها ذو المَجدين أبو محمد الحسين بن الحسن بن حمدان إلى دمشق والياً عليها، دَفعة ثانية بعد أولى في يوم الاثنين النصف مِن رَجب منها، وأقام يَسوس أحوالها ويَستخرج أموالها إلى أنْ وَرد عليه الأمر مِن الحضرة بمِصر بالمَسير في العسكر إلى حَلب، فتوجَّه إليها في العسكر في السادس عشر مِن شهر ربيع الأوَّل. سنة ٤٥٢ واتَّفقت الوقعة المَشهورة المَعروفة بوقعة الفُنيدِق بظاهر حَلب في يوم الاثنين مُستهَل شعبان مِن السنة، بين ناصر الدولة المذكور وعسكره وبين جميع العرب الكِلابيِّين ومَن انضمَّ إليهم. فكَسرت العرب عسكر ناصر الدولة، واستولوا عليهم ونكَّلوا فيهم، وأفْلت ناصر الدولة مُنهزماً مَجروحاً مَغلولاً وعاد إلى مِصر.

سنة (٤٥٢) وفي هذه السنة نزل الأمير محمود بن شِبل الدولة بن صالح بن مرداس على حَلب مُحاصراً لها، ومُضيِّقاً عليها وطامِعاً في تَملُّكها، ومعه منيع بن سيف الدولة، فأقام عليها مُدَّة فلم يَتسهلَّ له فيها أرَب، ولا تَيسَّر طلب فرحل عنها، ثُمَّ حَشَّد بعد مُدَّة وجمع وعاد مُنازلاً لها، ومُضايقاً عليها لأهلها ومُراسلاً لهم، وتَكرَّرت المُراسلات منهم إلى أنْ تَسهَّل أمرها، وتَيسَّر خَطبها، فتسلَّمها في يوم الاثنين مِن جمادى الآخرة، وضايق القَلعة

٣٧٦

إلى أنْ عرف وصول الأمير ناصر الدولة بن حمدان في العساكر المِصريَّة لإنجادها، فخرج منها في رجب، ونَهب حَلب بعسكر ناصر الدولة واتَّفقت وقعة الفنيدق المشهورة وانفلال ناصر الدولة، وعَوده إلى مِصر مُنهزماً مَخذولاً. فعاد محمود بجَمعه إلى حَلب وحصل بها، وقتل عمَّه مُعزَّ الدولة واستقام أمره فيها. وفي هذه السنة قصد الأمير عطيَّة فيمَن جَمعه وحَشَّده مدينة الرَّحبة، ولم يَزل نازلاً عليها ومُضايقاً لأهلها ومُراسلاً لهم إلى أنْ تَسهَّل الأمر فيها وسُلِّمت إليه، وحصل بها في صَفَر مِن السنة.

سنة (٤٥٣) وفي هذه السنة استقرَّ الصلح والموادعة بين مُعزِّ الدولة صاحب حَلب وابن أخيه محمود بن شِبل.

سنة (٤٥٦) وفي هذه السنة عاد محمود بن شِبل الدولة بن صالح إلى حَلب مُضايقاً لها ولعطيَّة عمَّه، فاستصرخ بالأمير ابن خان التُّركي فأنجده عليه، فلمَّا أحسَّ بوصوله رَحل عنها مُنهزماً، ثُمَّ خاف عطيَّة مِن الأمير ابن خان؛ فأمر أحداث حَلب بنَهب عسكره فنَهبوه، ورحل ابن خان منهزماً، وأنفذ إلى الأمير محمود يَعتذر إليه مِن المُساعدة عليه، وتوجَّه معه إلى طرابلس، وعاد معه إلى حَلب لحصرها في هذه السنة.

سنة (٤٥٧) في هذه السنة نزل الأمير محمود بن شِبل الدولة بن صالح على حَلب ثالث دَفعة ومعه الأمير ابن خان التُّركي، وأقام عليها إلى انتصاف شهر رمضان، ولم يَزل مُضايقاً لها إلى أنْ تَسهَّل أمرها ومَلكها، فلمَّا حصل بها فارقه ابن خان بعسكره نحو العراق، ولم يَدخلها إشفاقاً مِن أحداث حَلب لِما فعلوه في تلك النَّوبة مِن القيام عليه والنَّهب لأصحابه.

وفي هامش الصفحة ٩٩ و ١٠٠ نقلاً عن الفارقي أحمد بن علي الأزق، أنَّ السلطان ألب أرسلان لمَّا نزل على الفرات بعد هَزيمته جيوش الروم في رابع عشر ربيع الآخر، ولم يَخرج إليه محمود صاحب حَلب، غاظه ذلك. وعَبر الفرات وأخربت العساكر بلد حَلب ونهبوه، ووصلوا إلى القَريتين مِن أعمال حَمص، ونهبوا بَني كِلاب، وعادوا بغنائم عظيمة. وهَربت العرب إلى البرية. وراسل محموداً وطلب منه الحضور فامتنع، وحمل إليه الأموال التي قسَّطها على بلاده، فقال: ما أعرف لامتناعك مِن قَصد خدمتي مع إقامتك الخُطبة لي، واتِّصال مُكاتبتك وَجهاً وقد عَلمت إحساني إلى كُلِّ

٣٧٧

مَن حَضر عندي مِن مُلوك الأطراف. فأرسل محمود والدته وولده بخِدمة قليلة فازداد غَيظ السلطان. واتَّفق أنَّ الخليفة بَعث لمحمود الخُلع التي طلبها لمَّا خطب للقائم مع نَقيب النُّقباء منها: الفرجيَّة، والعمامة، وفرس بمَركب ثَقيل، ولواء، ولوالدته فرسين وثياباً، ولبني عمِّه خَيلاً وثياباً، وخرج محمود والتقى النَقيب فسلَّم عليه عن الخليفة، فنزل وقبَّل الأرض ولبِس الخُلع وركب الفرس، ودخل إلى حَلب. وأقام النَقيب يومين لم يَرَ مِن محمود فيهما ما ظَنَّ، فركب إليه (و) قال محمود: أنا أُطيعكم، وهذا السلطان على بُعد، وطلبت حِراستي وحِراسة بلادي، فأمَّا البلاد فقد شاهدت خَرابها ونَهبها وأنا مُطالب بالخروج إليه والأموال التي تفقدني ومُهدَّد بالحصار والبَوار، وهذا كتاب السلطان عندي بالإعفاء مِن دَوس البساط. فقال النَقيب: هات الكتاب لأمضي إليه. فأعطاه إيَّاه، فخرج إليه وكان نازلاً على الفندق، فلمَّا وصل بعث السلطان إليه بفَرس النوبة وأكرمه واستدعاه وبلَّغه عن الخليفة ما حمله إليه؛ فقام وقبَّل الأرض وشَكر ودعا، وقال له: ما الذي أخرجك؟ فقال: جِئت لأُخرج محمود إلى خِدمتك، فأخرجَ إليَّ هذا الكتاب. فقال: صحيح أنا كَتبته تَطييباً لقلبه مع بُعدي عنه، فأمَّا إذا قَربت منه فما أقنع منه، وأيُّ عُذرٍ لنا إذا كان مُنتَمياً إلينا وقد عصى علينا، ونَصب المَجانيق ليَستعدَّ للحصار؟! وأيُّ حُرمة تَبقى لنا عند الملوك؟! ويَجب أنْ تَرجع إليه وتَضمن له عنِّي كُلَّ ما يُريد. قال النَقيب: فقلت: سَمعاً وطاعة. وثَقل عليَّ ما بَعث له الخليفة، فقال بعض الحُجَّاب: ما فعل هذا إلاّ بأمرك فسَكَن. واجتمعت بنظام الملك، وقلت: محمود يَخدم بعشرين ألف دينار للسلطان وخمسة آلاف دينار لك، ويَدفع باللِّقاء إلى حين عَود السلطان مِن دِمشق. وعُدت إلى حَلب، وأخبرت محموداً، فقال: أمَّا المال فما عندي حَبَّة، وأمَّا الخروج فلا سَبيل إليه. ونزل السلطان على حَلب يوم الأحد لليلة بَقيت مِن جمادى الآخرة فقاتلهم؛ فذلُّوا، فأرسل محمود يَطلب المُوادعة، وخرج إليه في الليل ومعه والدته، فأخذت بيده ودفعته إلى السلطان، وقالت: هذا وَلدي قد سلَّمته إليك فاحكم فيه بما تَراه، فتلقَّاه بما أُحبًّ وأكرِمه. وقال: عُدْ إلى قلعتك وتَرجع إلينا في غَد؛ ليَظهر مِن إكرامنا ما تَستحقُّه. فرجع إلى القلعة وعاد مِن الغَد وتلقَّاه نظام الملك والحُجَّاب والخواصُّ، ولم يَتخلَّف غير السلطان، ودخل على السلطان، فخَلع عليه الخُلع الجليلة، وأعطاه الخيل

٣٧٨

بمراكب الذهب والفِضَّة والكوسات والأعلام وعتبه، فقال محمود: والله ما كنت إلاَّ على نيَّة تلقيك حتَّى خُيِّفت منك، فعلم السلطان مَن فَعَل ذلك؛ فكاسر...

سنة (٤٦٤) وفيها نَهض محمود بن صالح فيمَن حَشَّد مِن العرب، وقصد ناحية إعزاز في يوم السبت الثاني والعشرين مِن رجب للقاء الروم، فاندفعت الروم بين أيدي العرب، والعرب في عُدَّة قليلة تُناهز ألف فارس وقَصدوا أنطاكية واجتمعوا بها وعادت العرب إلى حَلب.

سنة (٤٦٥) فيها هَرب الأمير أبو الجيوش علي بن المقلَّد بن منقذ مِن حَلب خَوفاً مِن صاحبها الأمير محمود بن صالح حين عرف عَزمه على القبض عليه، وقصد المَعرَّة، ثُمَّ قصد كفر طاب. وفيها ورد نفي الأمير عَطيَّة عَمَّ الأمير محمود بن صالح مِن القِسْطَنْطِينيّة في ذي الحجَّة. وفيها ورد سائراً الأمير محمود بن صالح مِن حَلب فيمَن جمعه وحشَّده مِن عسكره إلى الرَّحبة.

وفي هذه الصفحة سنة (٤٦٦) فيها فتح الأمير محمود بن صالح قلعة السن في يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر.

سنة (٤٦٧) وفي هذه السنة وردت الأخبار مِن ناحية حَلب بوفاة صاحبها الأمير محمود بن شِبل الدولة بن صالح بحَلب في جمادى الأولى: وقام في مَنصبه ولده الأمير نصر بن محمود، وهنَّأه بعد التَّعزية الأمير أبو الفِتيان بن حيّوس بالقصيدة الألفيَّة المشهورة التي يقول فيها:

وقد جادت محمود بألف تَصرَّمت وإنِّي سأرجو أنْ سيَخلفها نَصر

فأطلق له ألف دينار، وقال له: لو كنت قلت: سيضعفها نصر لفعلت.

سنة (٤٦٨) وفي هذه السنة وردت الأخبار مِن حَلب بأنَّ الأمير نصر بن محمود بن صالح صاحبها قُتِل بها في يوم الأحد عيد الفِطر، قتله قَوم مِن أتراك الحاضر؛ وذلك أنَّه قَبض على مُقدَّمهم المَعروف بالأمير أحمد شاه، وخرج إليهم ليَنهبهم فرماه أحدهم بسَهم فقتله، وقام في مَنصبه مِن بعده أخوه سابق بن محمود بن صالح.

سنة (٤٧١) وفي هذه السنة قَتل أحمد شاه مُقدَّم التُّرك في الشام.

٣٧٩

وفيها برز تاج الدولة مِن دمشق، وقصد حَلب في عسكره ونزل عليها وأقام عليها أيَّاماً، ورحل عنها في شهر ربيع الأوَّل، وعَبر الفرات مَشرقاً ثُمَّ عاد إلى دمشق.

سنة (٤٧٢) فيها تسلَّم شرف الدولة مسلم بن قريش حَلب.

سنة (٤٧٥) فيها توجَّه السلطان تاج الدولة إلى ناحية الشام مِن دِمشق، ومعه في خِدمته الأمير وثاب بن محمود بن صالح، ومنصور بن كامل، وقصد ناحية الروم وأقام هناك مُدَّة.

سنة (٤٨٦) في هذه السنة وصل قسيم الدولة إلى حَلب، ومعه جماعة مِن بَني عقيل وبعض عسكر السلطان بركيارق، وانتهى الخبر بذاك إلى تاج الدولة، فنَهض في العسكر مِن ناحية الرَّحبة إلى الفرات، وقصد بلد أنطاكية وأقام بها، وورد عليه الخبر بانكفاء السلطان مِن الرحبة إلى بغداد، وأنَّ عَزمه أنْ يَشتو بها. وأقام تاج الدولة بأنطاكية مُدَّة، فقلَّت الأقوات، وارتفعت الأسعار، وخوطب في العَود إلى الشام فلم يَفعل، وعاد إلى دِمشق آخر ذي الحجَّة مِن السنة، وفي جُملته الأمير وثاب بن محمود بن صالح، وبَنو كامل وجماعة مِن العرب لم يَجسروا على الإقامة بالشام خَوفاً مِن قَسيم الدولة صاحب حَلب.

سنة (٤٨٧) وفي شهر ربيع الآخر مِن هذه السنة برز السلطان تاج الدولة مِن دِمشق في العسكر، وتوجَّه إلى الشام وقطع العاصي، وتَقدَّم إلى العسكرية برعي الزراعات ونَهب المواشي والعوامل. ولمَّا اتَّصل الخبر بذاك إلى قسيم الدولة صاحب حَلب شرع في الجَمع والاحتشاد والتأهُّب لدَفعه والاستعداد، وأجمع على لقائه، وانتهى الخبر إلى تاج الدولة بذلك، ووصول بوزان صاحب الرُها إليه في عَسكره لإسعاده عليه وإنجاده وسَوَّاه مِن أُمراء الأطراف ووصول الجميع في حَلب لمعونته ومؤازرته. فرحل مِن مَنزله بكفر حمار، وأخذت جيوشه في الغارة على المواشي وإحراق الزرع، ورحل قَسيم الدولة في جَمعه مِن العسكر وتَقديره نَحو من عشرين ألفاً وزيادة على ذلك، قاصداً مِن حَلب تاج الدولة، والتقى الفريقان، وكان الظَفر لتاج الدولة. وأسر قسيم الدولة أق سنقر صاحب حَلب وأكثر أصحابه، وحين أُحضِروا بين يدي السلطان تاج الدولة أمر بضَرب عُنق قسيم الدولة ومَن اتَّفق

٣٨٠