تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 391
المشاهدات: 124592
تحميل: 11008


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124592 / تحميل: 11008
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 1

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

(بأبي أنت وأمي، قد أكثرتم وأطيبتم، وما أردت بمدحي إياكم إلا الله ورسوله، ولم أك لآخذ لذلك ثمناً من الدنيا فأرده إلى أهله). فجهد به عبد الله أن يقبله بكل حيلة فأبى، فقال له:

(إن أبيت أن تقبل فإني رأيت أن تقول شيئاً تغضب به بين الناس، لعل فتنة تحدث فيخرج من بين أصابعها بعض ما يجب).

فابتدأ الكُميت وقال قصيدته التي يذكر فيها مناقب قومه من مُضَر بن نِزار بن مَعدّ، وربيعة بن نزار، وأياد وأَنْمار ابني نزار، ويكثر فيها من تفضيلهم ويطنب في وصفهم، وأنهم أفضل من قحطان، فغضَّب بها بين اليمانية والنزارية، وهي قصيدته التي أولّها:

ألا حييت عنا يا مدين وهل ناس تقول مسلمينا

إلى أن انتهى إلى قوله تصريحاً وتعريضاً باليمن فيما كان من أمر الحبشة وغيرهم فيها وهو قوله:

لـنا قـمر السماء وكلّ نجم تـشير إلـيه أيدي المهتدينا

وجـدت الله إذ سـمّى نزار وأسـكنهم بـمكة قـاطنينا

لـنا جمل المكارم خالصات ولـلناس الـقفا ولنا الجبينا

وما ضربت هجائن من نزارٍ فـوالح من فحول الأعجمينا

وما حملوا الحمير على عتاق مـطـهرة فـيلفوا مـبلغينا

ومـا وجدت بنات بني نزارٍ حـلائل أسـودين وأحمرينا

وقد نقض دِعْبِل بن علي الخُزاعيّ هذه القصيدة على الكُميت وغيرها، وذكر مناقب اليمن وفضائلها ومدح ملوكها، وعرّض بغيرهم كما فعل الكُمَيت وذلك في قصيدته التي أوّلها:

أفـيقي من ملامك يا ظعين كـفاك الـلوم مرّ الأربعينا

ألـم تـحزنك أحداث الليالي يـشيبن الـذوائب والقرونا

أحيي الغر من سروات قومي لـقد حـييت عـني يا مدينا

فـإن يـك آل إسرائيل منكم وكـنتم بـالأعاجم فـاخرينا

فـلا تنس الخنازير اللواتي مُـسخن مع القرود الخاسئينا

٤١

بإيلة والخليج لهم رسوم وآثارٌ قدمن وما محينا

لقد علمت نزار أن قومي إلى نصر النبوّة فاخرينا

وهي طويلة، ونمي قول الكُمَيت إلى النزارية واليمانية، وافتخرت نِزار على اليمن، واليمن على نِزار، وأدلى كل فريق بما له من المناقب، وتحزّبت الناس وثارت العصبية في البدو والحضر، فنتج بذلك أمر (مروان بن محمد الجَعديّ) وتعصّبه لقومه من نزار على اليمن، وانحراف اليمن عنه إلى الدعوة العباسية، وتغلغل الأمر إلى انتقال الدولة عن بني أمية إلى تعصباً لقومه من ربيعة وغيرها من نزار، وقطعه الحلف الذي كان بين اليمن وربيعة في القدم، وفعل (عُقبَة بن سالِم) بعُمان والبحرين وقتله عبدِ القيس وغيرهم من ربيعة كياداً لمعن وتعصباً من عُقبة بن سالم لقومه من قَحطان. وغير ذلك مما تقدم وتأخر مما كان بين نزار وقحطان)(١) .

مغزى هذه القصة والعبرة منها:

إن الباحث يستنتج من هذه القصة أموراً:

الأول: استعداد النفوس لمثل هذه الثورة الفكرية المؤديّة إلى زوال حكم قائم على الأرستقراطية الممقوتة والاستئثار المذموم والاضطهاد العجيب وذهاب الشيعة منه بأوفر نصيب، وما كان غير الشيعة إلا كالشيعة في النفور منه.

الثاني: استفحال الدعاوة الشيعية وكثرة الملتفّين حولها للعمل على إزالة ظل ذلك الحكم بمختلف الأساليب وشتى الطرق.

الثالث: بعد غور القائمين على نشر هذه الدعاوة في فنون السياسة، فترى كيف حمل عبد الله بن الحسن ذلك الشيعي النزاري على إحداث هذه الثورة الفكرية، وكيف انبرى شيعي آخر لمناقضته مع كثرة الشعراء في ذلك العهد، وترى في ذلك مدى بصر الشيعة وشعرائهم في السياسة. وقد يكون هناك سر في حمل الشاعرين الشيعيين النزاري واليماني على هذه المناقضة

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي مجلد ٢ ص١٩٥، ١٩٦، ١٩٧ المطبعة البهية مصر سنة ١٣٤٦هـ.

٤٢

المؤدية إلى ذلك الانقلاب العظيم الذي ظهر في دعوة عبد الله بن الحسن للشاعر نزار الكُمَيْت، وخفي في دعوة دِعْبل القحطاني لمناقضته، وإن الشاعرين على بيّنة منه، وهما بعد من أخلص المخلصين للعلويين لا يعدوان أمرهم ولا يتجاوزان مرضاتهم.

الرابع: اكتساب الشيعة عنصراً جديداً وقوة لا يستهان بها في تعزيز دعاوتهم، إن لم يكونا منبعثين عن عقيدة التشيع وعن اعتقاد اختصاص أهل البيت النبويّ بالخلافة، فهما منبعثان عن العصبية النزارية واليمانية التي أثارها الشاعران النزاري واليماني.

وكيف كان الحال فإن الدعوة الشيعية قد استمدت قوة إلى قوتها بفضل تضامن القبيل إلى القبيل بعامل العصبية، وهي التي احتمى بها الشاعران الشيعيان من امتداد الأيدي إليهما بسوء من غير الشيعة.

الخامس: تمكين الدعوة الشيعية بفضل هذه القوة الجديدة التي كانت مُعْولاً هدّاماً للسلطان الأموي الجائر، من تنظيمها ونشاط القائمين بها، واتخاذها شكلاً هو للظهور أقرب منه إلى الخفاء.

٤٣

٤٤

الإِرهاص بخلافة بني العباس

وزوالها عن بني أمية

رأينا أن نجمع في هذا الفصل جملة صالحة مما أرهص به المرهصون وجاء به الخبر من خلافة بني العباس وزوالها عن بني أمية؛ لارتباط ذلك بموضوع البحث، ولكي لا يفوتنا كل ما له علاقة بتعليل ذلك الانقلاب الخطير وما كان للسياسة الشيعية فيه من أثر بعيد. ويستخلص من جميع ذلك السبب الحافز لتمرّس العباسيين بأساليب الدعوة لمصير الأمر إليهم وانفرادهم به، بعد أن كانوا متحدين وبني عمهم من أبناء علي وأبناء فاطمة وبني جعفر على العمل لإزالة المُلك الأموي باسم الدعوة للرضا من آل محمد، وباسم التشيّع المشترك في الظاهر، وانفراد بني العباس في الباطن بحصرها فيهم وتستّرهم بالدعوة للرضا من آل محمد، اجتناباً للخلاف مع بني عمهم الذين كان ما مُنوا به من الظلم الأموي الجائر من أكبر دواعي انصراف الوجوه عن الأمويين وتلمّس وجوه الخلاص منهم، وتمهيداً لهم للوصول إلى الهدف بهذا الاتفاق المشترك.

وإننا نلخص تلك الإرهاصات والأخبار بأمور:

الأول:

ما أورده الطبري في تاريخه عند ذكره خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وسبب خلافته، قال:

(وكان بدء ذلك فيما ذكر عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنه أعلم عباس بن عبد المطلب أنه تؤول الخلافة إلى وُلْدِه، فلم يزل وُلْده يتوقعون ذلك ويتحدثون به بينهم.

٤٥

وذكر علي بن محمد أن إسماعيل بن الحسن حدّثه عن رشيد بن كريب أن أبا هاشم خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقال: يا ابن عمّ... إن عندي علماً أنبذه إليك، فلا تطلعنّ عليه أحداً، إن هذا الأمر الذي ترتجيه الناس فيكم.

قال: قد علمت فلا يسمعنه منك أحد.

قال علي: وأخبرنا سليمان بن داود عن خالد بن عجلان قال: لما خالف ابن الأشعث وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك، أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد فأخبره فقال: أما إذ كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس، إنما كنا نتخوّف لو كان من خراسان)(١) .

الثاني:

ذكر المسعودي في (مروج الذهب) في نهاية أمر الأمويين ومدة استيلائهم على الخلافة وأنها ألف شهر وأنها تأويل قوله عزّ وجل( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) . ذكر رواية عن ابن عباس أنه قال: (والله ليملكن بنو العباس ضعف ما ملكته بنو أمية باليوم يومين وبالشهر شهرين وبالسنة سنتين وبالخليفة خليفتين)(٢) .

الثالث:

في شرح النهج لابن أبي الحديد(٣) قال: (وقد جاءت الرواية أن أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) - لمّا ولد لعبد الله بن العباس مولود - فقده وقت صلاة الظهر، فقال (أي علي):«ما بال ابن العباس لم يحضر؟... » ، فقالوا: ولد له ولد ذكر يا أمير المؤمنين. قال:«فامضوا بنا إليه» ، فأتاه، فقال له علي:«شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب، ما سمَّيته؟»

____________________

(١) تاريخ الطبري: ج٧ ص٤٢١.

(٢) مروج الذهب: ج٢ ص١٩٩.

(٣) أورد ابن أبي الحديد في شرحه أبياتاً جاء منها ما يؤيد معرفة الشيعة مدة ملك بني أمية وهي ألف شهر، وهو قول بعض شيعة بني العباس:

أليس في ألف شهر قد مضت لهم = سقيتم جرعاً من بعدها جرع

٤٦

فقال: يا أمير المؤمنين أوَ يجوز لي أن أُسَمّيه حتى تسميه. فقال:«أخرجه إليّ...» ، فأخرجه، فحنكه ودعا له ثم رده إليه، وقال:«خذ إليك أبا الأملاك، قد سميته عليّاً وكنّيته أبا الحسن» )(١) .

الرابع:

نقل أبو الفرج الأصفهاني في مقاتله فقال:

(وكان علماء أبي طالب يرون فيه (محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) أنه النفس الزكية، وأنه المقتول بأحجار الزيت، وكان من أفضل أهل بيته وأكبر أهل زمانه في زمانه في علمه بكتاب الله وحفظه له وفقهه في الدين وشجاعته وجوده وبأسه، حتى لم يشكك أحد أنه المهدي، وشاع ذلك له في العامة، وبايعه رجال من بني هاشم جميعاً من آل أبي طالب وآل العباس وسائر بني هاشم. ثم ظهر من جعفر بن محمد قول في أنه لا يملك، وأن الملك يكون في بني العباس، فانتبهوا بذلك لأمر لم يكونوا يطمعون فيه.

وخرجت دعاة بني هاشم إلى النواحي عند مقتل الوليد بن يزيد، واختلاف كلمة بني مروان، إلى أن قال: فلما ظهرت الدعوة لبني العباس وملكوا حرص السفاح والمنصور على الظفر بمحمد وإبراهيم لما في أعناقهم من البيعة لمحمد وتواريا، فلم يزالا ينتقلان في الاستتار، والطلب يزعجهما من ناحية إلى أُخرى، حتى ظهرا فقُتلا)(٢) .

الخامس:

ذكر أبو الفرج قبل هذا الكلام ما هو أوضح وأبين مما ظهر من جعفر (عليه السلام) في هذا المعنى، قال بحذف الإسناد: (إن جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأَبواء وفيهم إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وأبو جعفر المنصور وصالح بن علي وعبد الله بن حسن وابناه محمد وإبراهيم ومحمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج٢ ص٢١١.

(٢) مقاتل الطالبيين.

٤٧

قال صالح: (قد علمتم أنكم الذين تمد الناس أعينهم إليكم، وقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاعقدوا بيعة لرجل منكم تعطونه إياها من أنفسكم، وتواثقوا على ذلك حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين)، فحمد الله عبد الله بن الحسن وأثنى عليه ثم قال: (لقد علمتم أن ابني هذا هو المهدي فهلمّ فلنبايعه. وقال أبو جعفر لأي شيء تخدعون أنفسكم، والله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى، يعني محمد بن عبد الله. قالوا: قد والله صدقت، إن هذا لهو الذي تعلم. فبايعوا جميعاً محمداً ومسحوا على يده، قال عيسى: وجاء رسول عبد الله بن حسن إلى: (آتنا فإنا مجتمعون لأمر، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، هكذا قال عيسى. وقال غيره: (قال لهم عبد الله بن الحسن: لا تريدوا جعفراً لئلا يفسد عليكم أمركم. قال عيسى فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا عليه، وأرسل جعفر بن محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) محمد بن عبد الله الأرقط بن علي بن الحسين، فجئناهم فإذا بمحمد بن عبد الله يصلّي على طنفسة رحل مبنية، فقلت: أرسلني أبي إليكم لأسألكم لأي شيء اجتمعتم؟ فقال عبد الله: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد الله. قالوا: وجاء جعفر بن محمد فأوسع له عبد الله بن حسن إلى جنبه، فتكلم بمثل كلامه، فقال جعفر:«لا تفعلوا، فإن هذا الكلام لم يأت بعد، فلا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك» . فغضب عبد الله وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، ولكن يحملك على هذا الحسد لابني. فقال:«والله ما ذلك يحملني، ولكن هذا وأخوته وأبناؤهم دونكم» ، وضرب بيده على كتف عبد الله بن حسن وقال:«إنها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك، ولكنها لكم، وإنهما لمقتولان» ، ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال:«أرأيت صاحب الرداء الأصفر» يعني أبا جعفر، قلت: نعم، قال:«فإنا والله نجده يقتله» ، قال: قلت أيقتل محمداً؟ قال:«نعم» ، فقلت في نفسي: حسده ورب الكعبة. قال ثم قال:«والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيت قتلهما» . فلما قال جعفر ذلك نفض القوم فافترقوا ولم يجتمعوا بعدها، وتبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد الله أتقول هذا؟... قال:«نعم أقوله والله وأعلمه» )(١) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيين ج.

٤٨

السادس:

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: (قالوا: لما سمّت بنو أمية أبا هاشم مرض، فخرج من الشام وقيذاً يؤم المدينة، فمر بالحُمَيْمة(١) وقد أشفى، فاستدعى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فدفع الوصية إليه، وعرّفه ما يصنع وأخبره بما سيكون من الأمر وقال له: إنّي لم أدفعها إليك من تلقاء نفسي ولكن أبي أخبرني عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) بذلك وأمرني به وأعلمني بلقائي إياك في هذا المكان، ثم مات، فتولّى محمد بن علي تجهيزه، ودفنه وبعث الدعاة حينئذٍ في طلب الأمر)(٢) .

وقد كثرت الروايات عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في هذا المعنى وفي نهي بني عمه عن طلب الأمر الذي سيكون لبني العباس فيما تلقاه من أنباء الغيب عن آبائه كما تقدم ذكر بعضه.

السابع:

قال ابن قتيبة في كتابه الإمامة والسياسة: (ذكروا أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس دخل وهو شيخ كبير قد غشي بصره على هشام بن عبد الملك متوكئاً على ولديه أبي العباس وأبي جعفر فسلّم، ثم قال له هشام: ما حاجتك؟ ولم يأذن له في الجلوس. فذكر قرابته وحاجته ثم استجداه، فقال له هشام: ما هذا الذي بلغني عنكم يا بني العباس؟ ثم يأتي أحدكم وهو يرى أنه أحق بما في أيدينا منا، والله لا أعطيتك شيئاً، فخرج محمد بن علي، فقال هشام كالمستهزئ: إن هذا الشيخ ليرى أن هذا الأمر سيكون لولديه هذين أو لأحدهما، فرجع محمد نحوه فقال: أما والله إني أرى ذلك على رغم من رغم، فضحك هشام وقال: أغضبنا

____________________

(١) الحُمَيْمَة: تبعد عن الشوبك أقل من مسيرة يوم، يقع بينها وبين الشوبك وادي موسى، وهي من الشوبك قبله بغرب. ويقال له:ا الشراة كذا ضبطها أبو الفداء. وفي مراصد الاطلاع لياقوت: تصغير الحمّة بلد من أرض الشراة من أعمال عمان في الشام كان منزل بني العباس.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد المجلد ٣ الصفحة ٤٨٩.

٤٩

الشيخ. ثم مضى محمد بن علي)(١) .

أما هذه الرواية فقد رواها في (شرح النهج) على غير هذه الصورة، وأن الذي دخل على سليمان لا على هشام هو علي بن عبد الله بن العباس، وأنه أوسع له على سريره وبره وسأله عن حاجته، فقال: ثلاثون ألف درهم، فأمر بقضائها. قال واستوص بابنيَّ هذين خيراً ففعل. وشكره علي بن عبد الله وقال: وصلتك رحم، فلما ولّى قال سليمان لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اختل وأسنّ وخلط، وصار يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده، فسمع ذلك علي بن عبد الله، فالتفت إليه وقال: أي والله ليكونن وليملكن هذان.

قال ابن أبي الحديد بعد نقل هذه الرواية: (قال أبو العباس المبرّد: (وفي هذه الرواية غلط؛ لأن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان، وإنما ينبغي أن يكون دخل على هشام). وعلّل ذلك بما لا حاجة بنا إلى نقله(٢) .

الثامن:

قال المسعودي في مروجه(٣) : (ولما حبس إبراهيم الإمام بحرّان، وعلم أن لا نجاة له من مروان، أثبت وصيته وجعلها إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وأوصاه بالقيام بالدولة والجدّ والحركة، وأن لا يكون له بالحُمَيْمَة لبث ولا عرجة حتى يتوجه إلى الكوفة. فإن هذا الأمر صائر إليه لا محالة وإنه بذلك أتتهم الرواية، وأظهره على أمر الدعاة بخراسان، ورسم له بذلك رسماً أوصاه فيه أن يعمل عليه ولا يتعداه، ودفع الوصية بجميع ذلك إلى (سابق الخوارزمي) مولاه، وأمره إن حدث به حدث من مروان في ليل أو نهار أن يركب أسرع سابق في السير، فلما حدث ركب وسار حتى أتى الحُمَيْمَة فدفع الوصية إلى أبي العباس ونعاه إليه، فأمره أبو العباس بستر الوصية وأن ينعاه، ثم أظهر أبو العباس من أهل بيته على أمره، ودعا إلى مؤازرته ومكاشفته أخاه أبا جعفر عبد الله بن محمد وعيسى

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد المجلد ٢ الصفحة ٢١١.

(٣) مروج الذهب المجلد ٢ الصفحة ٢١٠ المطبعة البهية المصرية سنة ١٣٤٦هـ.

٥٠

ابن موسى بن محمد ابن أخيه وعبد الله بن علي عمه.

وتوجَّه أبو العباس إلى الكوفة مسرعاً، وهؤلاء معه في غيرهم ممن خفّ من أهل بيته، فلقيتهم أعرابية على بعض مياه العرب في طريقهم إلى الكوفة، وقد تقدم أبو العباس وأخوه أبو جعفر وعمه عبد الله بن علي فيمن كان معهم إلى الماء، فقالت الأعرابية: تالله ما رأيت وجوهاً مثل هذه ما بين خليفة وخليفة وخارجي، فقال لها أبو جعفر المنصور: كيف قلت يا أمة الله؟... قالت: والله لَيَلِهَا هذا، وأشارت إلى السفّاح، ولتخلفنّه أنت وليخرجنّ عليك هذا، وأشارت إلى عبد الله بن علي).

التاسع:

قال المسعودي: (ووجدت في أخبار المدائني عن محمد بن الأسود قال: بينما عبد الله بن علي يساير أخاه داود ومعهما عبد الله بن الحسن بن الحسن، فقال داود لعبد الله: لم لا تأمر ابنيك بالظهور؟...، فقال عبد الله: هيهات... لم يأنِ لهما بعد. فالتفت إليه عبد الله بن علي فقال: كأنك تحسب أن ابنيك هما قاتلا مروان، فقال: إن ذلك كذلك، فقال عبد الله: هيهات... وتمثّل:

سيكفيك المقالة مستميت خفيف اللحم من أولاد حام

أنا والله قاتله)(١) .

وروى ابن أبي الحديد هذا البيت هكذا:

سيكفيك الجعالة مستميت خفيف الحاذ من فتيان جرم

العاشر:

من إرهاصات الأمويين بانتقال الأمر منهم إلى العباس ما ذكره المسعودي في مروجه قال:

(وقيل لعبد الله بن علي: إن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز يذكر أنه

____________________

(١) مروج الذهب المجلد ٢ الصفحة ٢١٠ الطبعة نفسها.

٥١

قرأ في بعض الكتب عين بن عين بن عين، وقد أمل أن يكون هو. فقال عبد الله بن علي: أنا والله ذلك، ولي عليه فضل ثلاثة أعين، أنا عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، وهو عمرو بن عبد مناف. فلما صافَّ مروان عبد الله بن علي، أقبل مروان على رجل إلى جنبه فقال: من الرجل الذي كان يخاصم عندك عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الأقنى الحديد البصر الحسن الوجه؟...، فقلت: يرزق الله البيان من يشاء. قال: إنه لهو، قلت: نعم، قال: من وُلد العباس بن عبد المطلب هو؟... قلت: أجل. فقال مروان: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك إني ظننت أن الذي يحاربني من وُلد أبي طالب، وهذا الرجل من وُلد العباس واسمه عبد الله، أتدري لِمَ صيّرت الأمر بعدي لابني عبيد الله بعد عبد الله ومحمد أكبر من عبد الله؟ قلت: لِمَ؟ قال: لأنّا خُبِّرنا أن الأمر صائر بعدي إلى عبد الله أو عبيد الله، فنظرت فإذا عبيد الله أقرب إلى عبد الله من محمد فوليته دونه.

قال وبعث مروان بعد أن حدّث بهذا الحديث إلى عبد الله بن علي في خفية: إن الأمر يا ابن عم صائر إليك، فاتّق الله في الحرم.

قال: فبعث إليه عبد الله أن الحق لنا في دمك والحق علينا في حرمك)(١) . وفي شرح النهج توسع في هذا الحديث فترك نقله خوف التطويل.

الحادي عشر:

وفي الكامل لابن الأثير، قال محمد بن علي بن عبد الله: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتن افريقية. فعند ذلك يدعو لنا دعاة ثم تُقبِل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيلهم (المغرب) ويستخرجوا ما كنز الجبّارون. فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بافريقية ونقضت البربر، بعث محمد بن علي إلى خُراسان داعياً وأمره أن يدعو إلى الرضا ولا يُسمي أحداً(٢) .

____________________

(١) مروج الذهب المجلد ٢ الصفحة ٢١٥ نفس الطبعة.

(٢) الكامل لابن الأثير المجلد ٥ الصفحة ٤٠٨ الناشر دار بيروت سنة ١٩٦٥.

٥٢

الثاني عشر:

في شرح النهج: (كان العلاء بن رافع ذي الكلاع الحِميري مؤانساً لسليمان بن هشام بن عبد الملك لا يكاد يفارقه، وكان أمر المسوِّدة بخُراسان قد ظهر ودنوا من العراق واشتد إرجاف الناس ونطق العدو بما أحبَّ في بني أمية وأوليائهم.

قال العلاء: فإني لمع سليمان وهو يشرب تجاه رصافة أبيه، وذلك في آخر أيام يزيد الناقص وعنده الحَكَم الأَوْدي، وهو يُغنّيه بشعر البُرْجميّ:

إن الحبيب تروحت اجماله أُصُلاً فدمعك دائم إسباله

فافْنِ الحياة فقد بكيت بعولة لو كان ينفع باكياً إعواله

يا حبذا تلك الحمول وحبذ شخص هناك وحبذا أحماله

فأجاد ما شاء، وشرب سليمان بن هشام بالرطل وشربنا معه حتى توسدنا أيدينا، فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي، فقمت مسرعاً وقلت: ما شأن الأمير؟... فقال: على رسلك، رأيت كأني في مسجد دمشق وكأن رجلاً على يده حجر وعلى رأسه تاج أرى بصيص ما فيه من الجوهر وهو رافع صوته بهذا الشعر:

أبني أمية قدْ دنا تشتيتكم وذهاب ملككم وليس براجع

وينال صفوته عدوّ جادح(١) كأساً لكم بسمام موت ناقع

فقلت: أُعيذ الأمير بالله من وساوس الشيطان الرجيم، هذا من أضغاث الأحلام، ومما يقتضيه ويجلبه الفكر وسماع الأراجيف.

فقال: الأمر كما قلت لك، ثم وجم ساعة وقال: يا حِمْيري بعيد ما يأتي به الزمان قريب. قال العلاء: فو الله ما اجتمعنا على شراب بعد ذلك اليوم)(٢) .

____________________

(١) جادِح: من جَدَحَ الشيء اي خلطه بشيء من الماء أو اللبن أو نحوهما.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المجلد ١٢ الصفحة ٢٠٧.

٥٣

الثالث عشر:

وهو من إخبار الغيب عن زوال ملك بني أُميَّة، جاء ممن لم تكذب له فراسة أو ملحمة أو خبر عن غائب مما صح عنه، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو المَعْزو عِلمُه إلى علم الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفراسته الصادقة إلى الإلهام قال كما جاء في نهج البلاغة:

«إنَّ لبني أُميّة مِروداً (١) يجرون فيه، ولو قد اختلفوا فيما بينهم، ثم كادتهم الضِّباع لغَلبتهم» .

قال ابن أبي الحديد في شرحه: (هذا إخبار عن غيب صريح؛ لأن بني أمية لم يزل ملكهم منتظماً لما لم يكن بينهم اختلاف، وإنما كانت حروبهم مع غيرهم كحرب معاوية في (صفّين) وحرب يزيد مع أهل المدينة وابن الزبير بمكة وحرب مروان للضحاك وحرب عبد الملك لابن الأشعث وابن الزبير، وحرب يزيد ابنه لبني المهلب، وحرب هشام لزيد بن علي.

فلما ولي الوليد بن يزيد وخرج عليه ابن عمه يزيد بن الوليد وقتله، اختلفت أمية فيما بينها، وجاء الوعد وصدق من وعد به، فإنه منذ قتل الوليد دعت دعاة بني العباس بخراسان، وأقبل مروان بن محمد من الجزيرة يطلب الخلافة، فخلع إبراهيم بن الوليد وقتل قوماً من بني أمية، واضطرب أمر الملك وانتثر، وأقبلت الدولة الهاشمية وتمت، وزال ملك بني أمية، وكان زوال ملكهم على يد أبي مسلم، وكان في بدايته أضعف خلق الله وأعظمهم فقراً ومسكنة، وفي ذلك تصديق قوله (عليه السلام)«ثم كادتهم الضباع لغلبتهم» )(٢) .

وهذا السبب وهو أهم أسباب زوال الملك الأموي، يجب أن يُضاف إلى الأسباب التي مهّدنا بها في المقدمة لتاريخ الشيعة السياسي.

ولم يخف السبب على أعلام الهاشميين الذين كانوا يعملون على إسقاط الدولة الأموية سواء في ذلك علويّهم وعباسيّهم، فقد نقل أبو الفرج الأصبهاني في مقاتله:

____________________

(١) مِرْوَد: على وزن مِفْعَل من الإرواد وهو الإمهال والإنظار.

(٢) شرح نهج البلاغة ج٨ ص٨٥٧ - مكتبة الحياة بيروت.

٥٤

(إن بني هاشم اجتمعوا فخطبهم عبد الله بن الحسن، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنكم أهل البيت قد فضلكم الله بالرسالة واختاركم لها، وأكثركم بركة يا ذرّية محمد، وقد ترون كتاب الله معطّلاً وسنّة نَبيّه متروكة والباطل حيّاً والحق ميتاً، قاتلوا لِلّه في الطلب لرضاه بما هو أهله، قبل أن ينزع منكم اسمكم، وتهونوا عليه كما هانت بنو إسرائيل وكانوا أحب خلقه إليه. وقد علمتم أنّا لم نزل نسمع أن هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أيديهم، فقد قتلوا صاحبهم الوليد بن يزيد، فهلمَّ نبايع محمداً)(١) .

وجرى ما قد ذكرناه في القسم الرابع مما رواه أبو الفرج في غير هذا الطريق.

الرابع عشر:

عن مقتل الطالبيين بحذف الإسناد، قال بعد ذكره دعوة محمد بن عبد الله بن الحسن لنفسه، ودعوة أبيه ومن دعاه إليه من أهل بيته عقب قتل الوليد بن يزيد ووقوع الفتنة بعده:

(وكان قد سُعي به إلى مروان بن محمد، فقال: لست أخاف أهل هذا البيت؛ لأنه لا حظّ له في الملك، وإنما الحظ لبني عمهم العباس.

وبعث إلى عبد الله بن الحسن بمال واستكفاه، وأوصى عامله بالحجاز أن يصونهم ولا يعرض لمحمد بطلب، ولا إخافة إلا أن يستظهر حرباً أو شقّاً لعصا)(٢) .

وقال:

(إن مروان لما بعث عبد الملك بن عطية السعدي لقتال الحرورية، لقيه أهل المدينة سوى عبد الله بن الحسن وابنيه محمد وإبراهيم. فكتب بذلك إلى مروان: (إني هممت بضرب أعناقهم). فكتب إليه مروان: أن لا تعرض لعبد الله ولا لابنيه، فليسوا بأصحابنا الذين يقاتلوننا ويظهرون علينا)(٣) .

____________________

(١) أبو فرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيّين.

(٢) مقاتل الطالبيّين.

(٣) مقاتل الطالبيّين.

٥٥

وبعد فإنك لترى أن مروان لم يكن يتخوف العلويين، وإنه على بيّنة من أن بني العباس هم الذين ينازعونه سلطانه، ومنهم يتخوّف انتزاعه لا من العلويّين.

الخامس عشر:

في كامل ابن الأثير: (وكان مروان لمّا أرسل للقبض عليه أي على (إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس)، وصف للرسول صفة أبي العبّاس؛ لأنه كان يجد في الكتب: إنَّ مَنْ هذه صفته يقتلهم ويسلبهم ملكهم! وقال له ليأتيه بإبراهيم بن محمد.

فقدم الرسول: فأخذ أبا العباس بالصفة، فلما ظهر إبراهيم وأمن قيل للرسول، إنما أُمرتَ بإبراهيم، وهذا عبد الله. فترك أبا العباس وأخذ إبراهيم: فانطلق به إلى مروان، فلما رآه قال: ليس هذه الصفة التي وصفت لك... فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت، وإِنّما سَمَّيْت إبراهيم، فهذا إبراهيم. فأمر به فحُبس وأعاد الرسول في طلب أبي العباس فلم يروه)(١) .

السادس عشر:

وهو يلخّص ما فصّلناه من أمور الإرهاصات بزوال الملك الأموي، وهو ما جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، قال:

(قلت: سألت النَقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى فقلت له: من أي طريق عرف بنو أمية أن الأمر سينتقل عنهم، وأنه سيليه بنو هاشم، وأول من يلي منهم سيكون اسمه عبد الله؟ وقد منعوهم عن الزواج من بني الحرث بن كعب لعلمهم أن أول من يلي الأمر من بني هاشم تكون أمه حارثية؟

وبأي طريق عرف بنو هاشم أن الأمر سيصير إليهم ويملكه عبيد أولادهم حتى عرفوا صاحب الأمر منهم بعينه كما قد جاء في هذا الخبر؟ فقال: أصل هذا كله محمد بن الحنفية، ثم ابنه عبد الله المكنّى أبا هاشم.

____________________

(١) الكامل لابن الأثير المجلد ٥ الصفحة ٤٠٩ الناشر دار بيروت سنة ١٩٦٥.

٥٦

قلت له: أفكان محمد بن الحنفية مخصوصاً من أمير المؤمنين (عليه السلام) بعلم يستأثر به على أخويه حسن وحسين (عليهما السلام)؟

قال: لا ولكنهما كتما وأذاع. ثم قال: قد صحّت الرواية عندنا عن أسلافنا وعن غيرهم من أرباب الحديث، أن عليّاً (عليه السلام) لمّا قُبض، أتى محمد ابنه أخويه حسناً وحسيناً (عليهما السلام) فقال لهما: أعطياني ميراثي من أبي. قال أبو جعفر (فروى أبان بن عثمان عمن نروي له ذلك عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال:« فدفعا إليه صحيفة لو أَطلعاه على أكثر منها لهلك، فيها ذكر دولة بني العباس» . قال أبو جعفر: وقد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي قال: حدثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال: لما أردنا الهرب من مروان بن محمد لمّا قُبض على إبراهيم الإمام جعلنا نسخة الصحيفة التي دفعها أبو هاشم ابن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وهي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة، (جعلناها) في صندوق من نحاس صغير، ثم دفناه تحت زيتونات بالشّراة - لم يكن بالشّراة من الزيتون غيرهن -. فلما أفضى السلطان إلينا وملكنا الأمر، أرسلنا إلى ذلك الموضع رجلاً فبحث وحفر فلم يوجد فيه شيء، فأمرنا بحفر جَرِيب من الأرض(١) في ذلك الموضع حتى بلغ الحفر الماء، ولم نجد شيئاً.

قال أبو جعفر: (وقد كان محمد بن الحنفية صرّح بالأمر لعبد الله بن العباس وعرّفه تفصيله، ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد فصّل لعبد الله بن العباس الأمر، وإنما أخبره به مجملاً كقوله في هذا الخبر:«خذ إليك أبا الأملاك» ، ونحو ذلك مما كان يعرض له به. ولكن الذي كشف القناع وأبرز المستور عليه هو محمد بن الحَنفيّة، وكذلك أيضاً ما وصل إلى بني أميّة من علم هذا الأمر فإنه وصل من جهة محمد بن الحنفيّة وأطلعهم على السر الذي علمه، ولكن لم يكشف لهم كشفه لبني العباس، فإن كشفه الأمر لبني العباس كان أكمل).

قال أبو جعفر: (فأمّا أبو هاشم فإنه قد أفضى بالأمر إلى محمد بن

____________________

(١) جريب من الأرض: مقدار معلوم من الأرض.

٥٧

علي بن عبد الله بن العباس، وأطلعه عليه وأوضحه له.

فلما حضرته الوفاة عقيب انصرافه من عند الوليد بن عبد الملك مرّ بالشّراة وهو مريض، ومحمد بن علي بها، فدفع إليه كتبه وجعله وصيّه، وأمر الشيعة بالاختلاف إليه).

قال أبو جعفر: (وحضر وفاة أبي هاشم ثلاثة نفر من بني هاشم: محمد بن علي هذا، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب. فلما مات خرج محمد بن علي ومعاوية بن عبد الله بن جعفر من عنده، وكل واحد منهما يدعي وصايته، فأما عبد الله بن الحرث فلم يقل شيئاً).

قال أبو جعفر: (وصدق محمد بن علي أنه إليه أوصى أبو هاشم وإليه دفع كتاب الدولة. وكذب معاوية بن عبد الله بن جعفر، لكنه قرأ الكتاب فوجد لهم فيه ذكراً يسيراً، فادّعى الوصيّة بذلك، فمات. وخرج ابنه عبد الله بن معاوية يَدّعي وصاية أبيه، ويدعي لأبيه وصاية أبي هاشم، ويظهر الإنكار على بني أمية، وكان له في ذلك شيعة يقولون بإمامته سرّاً حتى قُتل)(١) .

هذا بعض ما أرهص به المرهصون وتنبأ به المتنبئون، وجاءت به الرواية عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبعض أهل بيته بزوال ملك بني أمية، ومصير الخلافة إلى بني العباس.

وقد يكون الكثير منها مبنيّاً على الفراسة والحدس، مما آل إليه أمر الأمويين من الاضطراب والفساد المؤدّيين إلى الانقلاب، مع اختلافهم فيما بينهم، وفي الاختلاف ذهاب الريح. وتطلّع الخاصة من مفكري الأمة إلى من يجب أن يحلّ محلهم إن زال ملكهم، وزواله أصبح متحقق الوقوع لتوفّر أسبابه. وقد نفرت من حكمهم النفوس، وزواله أصبح متحقق الوقوع لتوفّر أسبابه. وقد نفرت من حكمهم النفوس، وهو قائم على افتئاتهم وافتئات عمّالهم وأوليائهم بسلطان الأمة والتحكم في أعشارها وإيشارها، وقيام الخارجين عليهم من الهاشميين وغير الهاشميين علويّهم وجعفريّهم وعباسيّهم، وقد لاقوا من اضطهادهم واضطهاد أحزابهم وأشياعهم ما لا تحتمله النفوس الأبية.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

٥٨

فإن المقتول منهم في عهد بني أمية، دع من قُتل في وقعة كربلاء: زيد بن علي بن الحسين وولده يحيى، وعبد الله بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخو جعفر بن محمد، وعبيد الله بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومن وُلْدِ جعفر عبد الله بن عون بن عون بن جعفر بن أبي طالب، ومن وُلْدِ محمد بن الحنفيّة ولده أبو هاشم ثم عبد الله الذي دَسَّ إليه من سمَّه سليمانُ بن عبد الملك حين وفد عليه واحتمل السمّ إلى الحُمَيْمَة بأرض الشّراة فمات بها، وقد تقدم ذكر ذلك.

ومقتل إبراهيم الإمام في حرّان في سجنه في عهد مروان بن محمد، دَعْ أحداث الفتنة اليمانية النّزارية التي أذكاها الكُمَيْت ودِعْبِل كما عرفت آنفاً، واستفحال أمر الخوارج.

كل ذلك وما إليه، دعا خاصة الأمة إلى التفكير فيمن يلي أمورها إن زال المُلك الأُموي، ومن هو من الهاشميين أقرب إلى انضواء الكافّة تحت لوائه، وانصرافهم إلى الدعوة إليه والعمل لها.

وكانت كلمة الشيعة قد اختلفت فيمن هو أهل للإمامة اختلافاً عظيماً، فبعضهم يرى صرفها إلى آل أبي طالب من وُلْد علي، وفريق منهم يراها في الأئمة من وُلد الحسين، وآخر في ولد الحسن والحسين بدون تعيين في الشخص بل في الوصف كمعتقد الزيدية، وآخر في محمد بن الحنفية ووَلدِه أبي هاشم وهم الكيسانية، وآخر في وُلد العباس وهم الراوَنْديّة ومنهم أبو مسلم الخراساني صاحب دعوتهم الأعظم.

ولئن كانت الدعوة تكاد تكون متمحضة لأهل البيت النّبويّ فقد كانت الأسباب مهيأة لبني العباس، وليس لأوّلهم ما لأوّل بني علي من الحفائظ في الصدور المرضى التي أعادها إليها بعد أن أسكتت نأمتها وأخفت نارها عظمة النبوة وأبّهة الخلافة وظهور أمر المسلمين على الأمم واشتغالهم بالفتوحات العظيمة. أعادها رجوع العصبيات إلى القبائل العربية بكل ما تضمره من ضغائن وأحقاد. وتجدّدت تذكارات أخلاف من أُصيبوا من أسلافهم في حروب علي، سواء كان في صدر الدعوة الإسلامية أم كانفي حروب صِفِّين والجمل والنَّهروان، وذلك إلى أول صدمة اصطدم بها علي في صرف الخِلافة عنه في السَّقيفة والشّورى، وابتلائه بعد أن صارت

٥٩

الخلافة إليه بخروج طَلحة والزُّبَير وعائشة، ثم بمنازعة معاوية له، ثم قتله على يد الخوارج، واستئثار معاوية بالسلطان، وسنّه مسبّة علي على المنابر، وتوليته العهد لولده يزيد الذي لم يكن على شيء من العلم والحلم والدين والسياسة، والذي كان من باكورة أعماله وقعة (الطّفّ) التي أذلّت الهاشميين عامة والعلويّين خاصة.

وإنّ قتيل الطّفّ من آل هاشم أذلّ رقاباً من قريش فذلّت

ثم تُنقل الخلافة التي أصبحت مُلكاً عضوضاً صرفاً إلى مروان وبني مروان الذين جروا على طابع سياسة معاوية من إماتة العصبية الهاشمية وخاصة العلوية، واختصاصهم بالولايات والزُلفى، وضروب المصانعات من هم أكثر كرهاً لعلي وأهل بيته، وأبعد عن الرحمة لهم ولشيعتهم، وتنفر القلوب منهم، وما إلى ذلك من ضروب الأساليب من تبعيد الناس عن أهل البيت من أبناء علي، بل ومن أبنائه من آل فاطمة، وما كان للأمويّين مثل هذه السياسة المرهقة مع بني العباس. هذا وبنو فاطمة لم يكونوا متفقين في الخروج، فإن خاصتهم وهم الأئمة الذين يعتقد بإمامتهم الإمامية لم يكونوا يرون الخروج ولا يرون أن الأمر صائر إليهم، وهم منصرفون إلى الدين وتعليم شرائعه تحت ستار من التقيَّة، مبتعدون كل الابتعاد عن مظاهر الدنيا وأبهة سلطانها.

أما بنو العباس فكانوا على اتفاق في طلب هذا الأمر على عكس الفاطميين، وحسبك أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية قد أوصى بالإمامة لمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فكانت هذه الوصية له تأييداً للعباسيين والدعوة العباسية.

ومن مجموع هذه الأسباب استجمعت دعوة بني العباس شرائطها، وكان من الطبيعي أن يرهص المرهصون، ويتفرّس المتفرّسون، ويتنبّأ المتنبّئون بمصير الأمر إليهم مضافاً إلى ما يعضد هذا الإرهاص وذلك التفرّس والتنبؤ مما ورد به الحديث والرواية، وبلغ مضمونه أشياع بني العباس وخاصةَ بني أمية.

هذا وما كانت دعوة العباسيين في أول الأمر إلاّ دعوة شيعية عامة يراد منها التغلب على الأمويين، وإنقاذ الأمة من مظالمهم - وقد تجاوزت أقصى الحدود - والأخذ بثأر بني علي، فكان ذلك من تضافر الدعوة

٦٠