حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)0%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الصفحات: 375
المشاهدات: 193524
تحميل: 7749


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193524 / تحميل: 7749
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء 2

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في عهد الرشيد والأمين والمأمون

عاصر الإمام الرضاعليه‌السلام ثلاثة من ملوك العباسيين: وهم هارون الرشيد، والأمين والمأمون، وفي عهد الرشيد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير؛ وذلك لما اتخذه هارون من إجراءات صارمة وقاسية ضد السادة العلويين عامة، وضد أبيه الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما تحدثنا عنه في فصول هذا الكتاب، ونتحدث - بإيجاز - عن هؤلاء الملوك، وعن مواقفهم مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

هارون الرشيد:

وهو من أشهر ملوك بني العباس، فقد انتشر اسمه، وذاع ذكره في الشرق والغرب، واستوسقت له الدنيا، وزها له الملك، وأصبحت عاصمته بغداد عروس الشرق، وامتد حكمه وسلطانه على أغلب أنحاء الأرض، وهو القائل للسحاب: إنّما تمطرين ففي ملكي. وقد ذعنت له ملوك الأرض، وصغرت أمام سلطانه، ونعرض إلى بعض ملامح شخصيته، وهي:

٢٠١

أ - القسوة:

أمّا القسوة فكانت من عناصره ومقوّماته، وكان فيما يقول المؤرّخون جبّاراً سفّاكاً للدماء على نمط ملوك الشرق المستبدين، حسبما يقول الأمير شكيب أرسلان(1) .

وكان من قسوته البالغة فتكه بالسادة العلويين، وتنكيله بهم فقد صبّ عليهم وابلاً من العذاب الأليم لم يألفوه إلاّ في عهد جدّه الطاغية السفّاك المنصور الدوانيقي، وقد عرضنا إلى ما لاقوه في عهده من الضر والمحن والبلاء.

ب - الحقد:

ومن عناصر شخصية الرشيد أنّه كان حقوداً على ذوي الأحساب العريقة والشخصيات اللامعة التي تتمتع بمكانة مرموقة في الأوساط الاجتماعية، وقد حقد على سيد المسلمين الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، فأودعه في ظلمات السجون ثم اغتاله بالسم، وذلك لما للإمام من منزلة عظمي في نفوس المسلمين وهكذا كان حاقداً على كل من ذاع اسمه، وانتشر فضله بين الناس، فقد نكب البرامكة فقتل أعلامهم، وصادر أملاكهم، وتركهم بأقصى مكان من الذلّ والهوان؛ وذلك لما لهم من مكانة عند الناس، فكانت الشعراء تلهج بذكرهم وتذيع جودهم وسخاءهم فغاظه ذلك، وورم أنفه فأنزل بهم عقابه الصارم.

لقد كان الحقد من مقومات شخصية هارون، وعنصراً بارزاً من عناصره.

التحلّل:

ولم يملك هارون أي رصيد من التقوى والإيمان، فكان متحلّلاً منساباً وراء شهواته وملاذه، وكان من مظاهر تحلّله ما يلي:

أ - شربه للخمر:

كان هارون مدمناً على شرب الخمر، وربما كان يتولى بنفسه سقاية ندمائه، وكانت أخته علية تصنع له الخمر الجيد، وتبعثه إليه، وقد ذكرنا عرضا مفصلاً لإدمانه على الخمر، وعكوفه على شربها في كتابنا حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

____________________

(1) حياة الإمام الرضا (ص 119).

٢٠٢

ب - ولعه بالغناء:

ونشأ هارون بين أحضان المغنيات والمطربات، وقد اجتمع في قصره عدد كبير من العازفات والمغنيات، فكان في قصره ثلاثمائة جارية من الحسان يعزفن ويغنين(1) ، وقد جعل المغنين طبقات ومراتب، فكان إبراهيم الموصلي وابن جامع وزلزل الضارب في الطبقة الأولى، وكان زلزل يضرب على العود، ويغني الموصلي وابن جامع، والطبقة الثانية: إسحاق وسليم بن سلام وعمرو بن الغزال، والطبقة الثالثة: أصحاب المعازف والطنابر(2) .

وهام بحب ثلاث مغنيات من جواريه هن: غادر، وماردة، وهيلانة، وخنث وقال فيهن الشعر ومن قوله:

ملك الثلاث الآنسات عناني

وحللن من قلبي أعزّ مكاني

مالي تطاوعني البرية كلها

وأطيعهن وهن في عصيانِ

ما ذاك إلاّ أنّ سلطان الهوى

وبه غلبن أعزّ من سلطاني(3)

وقد عرضنا بصورة مفصّلة إلى هذه الظاهرة من حياة الرشيد في كتابنا(حياة الإمام موسى بن جعفر) .

ج - لعبه بالنرد:

ومن تحلّل هارون وعدم مبالاته باقتراف الحرام لعبه بالنرد(4) وهو من أنواع القمار، وقد لعب مرّة مع إسحاق الموصلي بالنرد، وقد قامره على الخلعة التي عليها فغلبه إسحاق، فقام وخلع ما عليه من ثياب فامتنع الرشيد من لبسها وقال له: ويلك أنا البس ثيابك؟ فقال إسحاق: أي والله إذا أنصفت، وإذا لم تنصف قدرت وأمكنك، قال: ويلك أو أفتدي منك؟ قال نعم: قال الرشيد: وما الفداء؟ قال إسحاق: قل: أنت يا أمير المؤمنين فإنّك أولى بالقوّة، فقال: أعطيك كل ما علي، قال إسحاق: فمر به يا أمير المؤمنين فدعا بغير ما عليه من الثياب، ونزع ما كان عليه

____________________

(1) التمدن الإسلامي 5 / 118.

(2) التاج (ص 40 - 42).

(3) تزيين الأسواق، فوات الوفيات 4 / 225.

(4) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 70.

٢٠٣

فدفعه إلى إبراهيم(1) وكان يعلب بالشطرنج إذا سافر في دجلة(2) .

هذه بعض الأعمال التي أثرت عن هارون، وقد دلّت - بوضوح - على تحلّله وعدم تمسّكه بتعاليم الدين الحنيف.

لقد أسرف هارون في الشهوات، وصار بلاطه مسرحاً لجميع ألوان الدعارة والمجون، فلا يكاد يخلو من حفلات الرقص والغناء وشرب الخمور، ولم يعد حكمه بأي حال من الأحوال يمثّل أي جانب من جوانب الحكم الإسلامي.

مع الإمام الرضا:

وحينما اغتال هارون الإمام الرضاعليه‌السلام بعث عصابة من رجال الأمن للاطلاع على شؤون الإمام الرضاعليه‌السلام ومعرفة اتجاهاته وميوله.

وشعر الإمامعليه‌السلام بذلك فأراد التخلّص من هارون فمضى إلى السوق والأمن يتابعه فاشترىعليه‌السلام ديكاً وكلباً وشاة، ورفع رجال الأمن ذلك إلى هارون فلمّا عرف ذلك استراح من جانب الإمام، وعرف أنّه ليس أهلاً لأن يقوم بأي حركة ضده، وأمر رجال أمنه بالتوجّه إلى بغداد.

وانبرى الإمامعليه‌السلام إلى نشر أحكام الله وتعاليم الإسلام، وإيضاح جوانب الإمامة، وفزع بعض أعلام شيعته وخافوا بأنّه لا يصيبه أي مكروه من

هارون، وأنّه لا يخاف جانبه(3) بعد الذي صنعه من شراء الديك والكلب والكبش، وكان ممّن خاف على الإمام وحذرّه من بطش هارون هم:

1 - صفوان بن يحيى:

قال صفوان: لـمّا مضى أبو إبراهيمعليه‌السلام وتكلّم أبو الحسن الرضا خفنا عليه، فقيل له: إنّك قد أظهرت أمراً عظيماً، وإنّا نخاف عليك هذا الطاغية - يعني هارون - فقالعليه‌السلام : ليجهد جهده فلا سبيل له علي(4) .

2 - محمد بن سنان:

قال محمد بن سنان: قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون، إنّك قد شهرت

____________________

(1) الأغاني 5 / 69 - 70.

(2) الأغاني 9 / 64.

(3) البحار 12 / 32.

(4) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 97.

٢٠٤

نفسك بهذا الأمر - أي إظهار الإمامة - وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر من دمائكم!

فقالعليه‌السلام : جرأني على هذا ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بنبي وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بإمام(1) .

وشاية عيسى بن جعفر بالإمام:

وانبرى عيسى بن جعفر نحو هارون حينما توجّه من (الرقة) إلى (مكة) فقال له: (أذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب، فإنك حلفت إن ادعى أحد بعد موسى الإمامة ضربت عنقه صبراً، وهذا علي ابنه يدعي الأمر - أي الإمامة - ويقال فيه، ما في أبيه...).

فلم يحفل هارون بكلامه، ونظر إليه وقال له: (وما ترى؟ أتريد أن أقتلهم كلّهم؟).

وكان في المجلس موسى بن مهران فبادر إلى الإمام الرضاعليه‌السلام فأخبره بالأمر، فقالعليه‌السلام : (مالي ولهم لا يقدرون إلي على شيء)(2) .

وشاية يحيى بالإمام:

وممّن وشى بالإمام يحيى البرمكي، فقد قال لهارون: هذا علي الرضا بن موسى قد تقدم، وادعى الأمر لنفسه، فلم يحفل به هارون وقال له: يكفينا ما فعلنا بأبيه أتريد أن نقتلهم جميعاً(3) ، وقد باءت بالفشل جميع المحاولات التي حيكت ضده.

دعاء الإمام على البرامكة:

وكان للبرامكة دور خطير في التنكيل بالإمام الكاظمعليه‌السلام ، فقد أوغروا صدر الطاغية هارون عليه، وكان الإمام الرضاعليه‌السلام عالماً بذلك

____________________

(1) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 97.

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 226.

(3) الإتحاف بحب الأشراف (ص 59).

٢٠٥

فراح يدعو عليهم فقد روى محمد بن الفضيل قال: لـمّا كان في السنة التي بطش فيها بالبرامكة، ونزل بهم من البلاء ما نزل أبو الحسن الرضا واقفاً بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه فسئل عن ذلك، فقال: إنّي كنت أدعو الله تعالى على البرامكة بما فعلوا بأبي فاستجاب الله لي اليوم فيهم، ولم يلبث يسيراً حتى بطش هارون بجعفر ويحيى وتغيّرت أحوالهم(1) .

وروى الحسن بن علي الوشاء عن مسافر قال: كنت مع أبي الحسن الرضاعليه‌السلام بـ (منى)، فمرّ يحيى بن خالد مع قوم من آل برمك، فقالعليه‌السلام : (مساكين هؤلاء لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة).

وأضاف الإمام قائلاً:

(وا عجبي من هذا، هارون وأنا كهاتين، وضمّ بأصبعه)

قال مسافر: فو الله ما عرفنا معنى حديثه حتى دفنّاه معه(2) .

لقد استجاب الله دعاء وليّه فأنزل عقابه الصارم بالبرامكة، فأزال نعتهم وأباد أعلامهم، فقد نكل بهم هارون كأفظع وأقسى ما يكون التنكيل، فقتل جعفر،

وقسمه نصفين، وجعل كل نصف في الأماكن الحسّاسة في بغداد وألقى يحيى مع بقية أبنائه في سجونه، وصادر أموالهم المنقولة، وغير المنقولة.

كبس دار الإمام:

ولـمّا ثار محمد بن جعفر بن محمد على هارون أرسل الجلودي إلى مناجزته وأمره أن يغير على دور العلويين في المدينة، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلي، ولا يدع على واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً.

وهجم الجلودي على دار الإمام الرضاعليه‌السلام ، فقام الإمام وجمع السيدات من بنات رسول الله (ص) في بيت ووقف على باب البيت فقال الجلودي:

للإمام لا بد أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني الرشيد، فقال له الإمام: أنا أسلبهن لك، وأحلف أنّي لا أدع عليهنّ شيئاً إلاّ أخذته، فلم يزل الإمام يطلب إليه، ويتوسّل حتى سكن، وقامعليه‌السلام إلى البيت فأخذ ما على العلويات من حلي

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 225.

(2) عيون أخبار الرضا، البحار.

٢٠٦

وحلل، ولم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرارهن، وسلّم جميع ذلك إلى الجلودي ليقوم بتسليمه إلى طاغية بغداد(1) .

وتأثّر الإمام الرضاعليه‌السلام كأشد ما يكون التأثّر من هذا الاعتداء الصارخ على بيته، فلم يرع هارون كرامة الإمام، ولا كرامة بنات رسول الله (ص) واقترف معهن ما اقترفه جند يزيد مع عائلة ريحانة رسول الله (ص) وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسينعليه‌السلام بعد مقتله، فقد تدافعوا كالكلاب المسعورة إلى نهب ما على العلويات من حلي وحلل.

وعلى أي حال فإنّ هارون لم يقم - فيما أحسب - بإجراء آخر ضد الإمامعليه‌السلام غير هذا الإجراء... ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام قد انطوت نفسه على حزن عميق على ما حلّ بأبيه الإمام موسىعليه‌السلام من المحن والخطوب التي صبّها عليه هارون، فقد أودعه في ظلمات سجونه حفنة من السنين، وقابله بمزيد من التوهين، ثم اغتاله بالسم، وكذلك صبّ جام غضبه على السادة العلويين فأنزل بهم العقاب الصارم، وقتلهم تحت كل حجر ومدر ولم يرع فيهم أواصر النسب، وقرابتهم من رسول الله (ص) التي هي أولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

رسالة سفيان لهارون:

من الخير أن ننهي الحديث عن هارون بهذه الرسالة القيّمة التي بعثها سفيان الثوري أو (سفيان بن عينية) إلى هارون، فإنّها تكشف عن الكثير من جوانب حياته، فقد كتب إليه هارون رسالة يطلب فيها ودّه، والاتصال به، فأجابه سفيان بما يلي:

(من العبد الميت سفيان إلى العبد المغرور بالآمال هارون الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذّة قراءة القرآن، أمّا بعد: فإنّي كتبت إليك أعلمك أنّي قد صرمت حبلك، وقطعت ودّك، وإنّك جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك، بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقّه، وأنفذته بغير حكمه، ولم ترض بما فعلته، وأنت ناءٍ عنّي، حين كتبت إليّ تشهدني على نفسك، فأمّا أنا فأنّي قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدّي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 161، البحار 49 / 166.

٢٠٧

يا هارون: هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلّفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم - يعني العاملين - أم رضى بفعلك الأيتام والأرامل؟ أم رضي بذلك خلق من رعيتك، فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً، واعلم أنّك ستقف بين يدي الله الحكم العدل، فاتق الله في نفسك إذا سلبت حلاوة العلم والزهد ولذة قراءة القرآن، ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً، وللظالمين إماماً.

يا هارون: قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت ستوراً دون بابك، وتشبّهت بالحجّة بربّ العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس، ولا ينصفون، ويشربون الخمر، ويحدون الشارب، ويزنون، ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن يحكموا بها علىالناس، فكيف بك يا هارون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله احشروا الظلمة وأعوانهم، فتقدّمت بين يدي الله، ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يكفهما إلاّ عدلك وإنصافك والظالمون حولك، وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار وكأنّي بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق، ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيّتك واحفظ محمداً (ص) في أمّته، واعلم أنّ هذا الأمر يصر إليك إلاّ وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها واحداً بعد واحد ÷، فمنهم مَن تزوّد زاداً نفعه، ومنهم مَن خسر دنياه وآخرته، وإيّاك ثم إيّاك أن تكتب إليّ بعد هذا فإنّي لا أجيبك والسلام...).

ثم بعث بالكتاب من غير طي ولا ختم(1) ، وحكى هذا الكتاب تصرّف هارون بأموال المسلمين، وإنفاقها في غير جهاتها المشروعة كما حكت هذه الرسالة إيمان سفيان وقوّة شخصيته، ونكرانه لذاته... وبهذه الرسالة نطوي الحديث عن حكومة هارون.

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 55 - 57 نقلاً عن حياة الحيوان للدميري 2 / 188.

٢٠٨

حكومة الأمين:

وتسلّم الأمين بعد وفاة أبيه القيادة الإسلامية، وكان بإجماع المؤرّخين غير مؤهّل لهذا المنصب الرفيع؛ وذلك لما يتصف به من نزعات وضيعة كان منها ما يلي:

1 - انهماكه في اللذات:

وانصرف الأمين بعد تقلّده للخلافة إلى اللهو والطرب، وعهد بأمور الدولة إلى الفضل بن الربيع فجعل يتصرف في شؤون الدولة حسب رغباته وميوله(1)، وقد جدّ في طلب الملهين(2) ، كما اشتغل بالخصيان ورقص النساء(3) .

2 - كراهته للعلم:

من صفات الأمين بغضه للعلم، وكراهته للعلماء، وكان أميّاً، لا يقرأ ولا يكتب(4).

وإذا كان بهذه الصفة فكيف قلّده هارون شؤون المسلمين وجعله حاكماً على أعظم إمبراطورية في العالم كلّه؟ لقد قلّده الخلافة استجابة لعواطف السيدة زبيدة، وسائر الأسرة العباسية الذين كانت ميولهم معه.

3 - ضعف الرأي:

ولم يتمتع الأمين برأي حصيف، فلم تصقله التجارب، ولم تهذّبه الأيام، وقد أعطي الملك العريض، ولم يحسن أي شيء، وقد وصفه المسعودي بقوله: (كان قبيح السيرة، ضعيف الرأي يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الخطوب على غيره ويثق بمَن لا ينصحه)(5) .

ووصفه الكتبي بقوله: (وكان قد هان عليه القبيح فاتبع هواه ولم ينظر في شيء من عقباه، وأنّه كان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع مَن شرب)(6) .

____________________

(1) حياة الإمام محمد الجواد (ص 284).

(2) مآثر الإنافة في معالم الخلافة 1 / 285 روضة الأعيان ورقة 99، وجاء فيه أنّه اشترى عربية المغنية بمائة ألف دينار.

(3) تأريخ الخلفاء للسيوطي (ص 134)، مختصر تأريخ الدولة (ص 134).

(4) السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي 1 / 16.

(5) التنبيه والإشراف (ص 302).

(6) عيون التواريخ 3 / ورقة 212.

٢٠٩

ويقول عنه الفخري: (انه لم يجد للأمين شيئا من سيرته يستحسنه فيذكره)(1) .

احتجابه عن الرعية:

ومن نزعاته أنّه كان ينفر من الناس تكبّراً عليهم، فقد احتجب عن رعيّته وأهالي مملكته، وقد خفّ إليه إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له:

(يا أمير المؤمنين إنّ قوّادك وجندك وعامة رعيتك قد خبثت نفوسهم وساءت ظنونهم، وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم ومراجعة لآمالهم...).

واستجاب الأمين لهذه النصيحة، فجلس في بلاطه، ودخل عليه الشعراء فمدحوه في قصائدهم، وهو لا يفهم ما يقولون، ثم انصرف عن الناس فركب الحراقة إلى (الشماسية)، واصطفّت له الخيل، وعليها الرجال، وقد اصطفوا على ضفاف دجلة وحملت معه مطابخ القصر، وما فيه من الخزائن.

أمّا الحراقة التي ركبها فكانت سفينة صنعت شبيهة بالأسد، وما رأى الناس منظراً أبهى ولا أجمل من ذلك المنظر، وكان معه في السفينة أبو نواس ينادمه وقال يصف تلك السفينة:

سخر الله للأمين مطايا

لم تسخّر لصاحب المحرابِ(2)

فإذا ما ركابه سرن بحراً

سار في الماء راكباً ليث غابِ

أسداً باسطاً ذراعيه يعدو

أهرت الشدق كالح الأنيابِ(3)

لا يعانيه باللجام ولا السوط

ولا غمز رجله في الركابِ

عجب الناس إذ رأوك على صورة

ليث يمر مرّ السحابِ

سبّحوا إذ رأوك سرت عليه

كيف لو أبصروك فوق العقابِ(4)

ذات زور ومنسر وجناحين

تشف العباب بعد العبابِ

تسبق الطير في السماء إذ ما

استعجلوها بجيئةٍ وذهابِ

____________________

(1) الآداب السلطانية (ص 212).

(2) صاحب المحراب: هو سليمان بن داود الذي بنى بيت المقدس.

(3) أهرت الشدق: واسعه، كالخ الأنياب: أي كاشرها.

(4) العقاب: إحدى السفن التي كانت معدّةً للأمين.

٢١٠

بارك الله للأمين وأبقاه

له رداء الشبابِ

ملك تقصر المدائح عنه

هاشمي موفّق للصوابِ(1)

هذه بعض نزعات الأمين وصفاته وهي تحكي صورة انسان تافه قد اتجه صوب ملذّاته وشهواته، ولم يعن بأيّ حالٍ من الأحوال في شؤون الدولة الإسلامية، وإنّما كان متجهاً نحو شهواته.

خلعه للمأمون:

وتقلّد الأمين الخلافة يوم وفاة أبيه الرشيد، وقد تسلم خاتم الخلافة، والبردة، والقضيب التي كان يتسلمها الملوك من قبله من بنى العباس.

ولم يمض زمان طويل من الوقت حتى فسدت العلائق ما بين الأمين والمأمون، فقد لعبت الحواشي المحيطة بهما في خلق الأزمات بينهما وتبودلت الرسائل بينهما وهي تحمل السباب والشتائم، لكل منهما وليس فيها أي دعوة إلى المودة والصفاء، وعمد الأمين فخلع رسميا أخاه المأمون عن ولاية العهد وجعلها لولده موسى وهو طفل صغير في المهد، وسماه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة المقدسة من جاء بكتاب العهد الذي علقه فيها الرشيد، وجعل فيه ولاية العهد إلى المأمون، وحينما أتى به مزقه، ولم يف به، وكان ذلك فيما يقول المؤرخون برأي الفضل بن الربيع، وبكر بن المعتمر في نكثه للعهد وبيعته لولده يقول رجل أعمى من أهل بغداد:

أضاع الخلافة غشّ الوزير،

وفعل الإمام، ورأى المشير

وما ذاك إلاّ طريق الغرور

وشر المسالك طرق الغرور

فعال الخليفة أعجوبة

وأعجب منه فعال الوزير

وأعجب من ذا وذا أنّنا

نبايع للطفل فينا الصغير

ومَن ليس يحسن مسح أنفه

ولم يخل من متنه حجر ظير

وما ذاك إلاّ بباغٍ وغاو

يريدان نقض الكتاب المنير

وَهَذانِ لَولا اِنقِلابُ الزَمانِ

أَفي العيرِ هَذانِ أَم في النَفير

وَلَكِنَّها فِتَنٌ كَالجِبالِ

تَرَفَّعَ فيها الوَضيعُ(2) الحَقير

____________________

(1) أبو نواس (ص 103 - 104) لابن منظور.

(2) مروج الذهب 3 / 309.

٢١١

الرشيد هو المسؤول عن هذه الأحداث:

وألقى الرشيد العداء والفتنة بين أبنائه فقد نصب الأمين ملكاً من بعده، وجعل المأمون ولي عهده، وكتب بذلك العهود والمواثيق، وأشهد عليها، وعلّقها في جوف الكعبة، مع علمه بالعداء العارم بين الأخوين فكانت النتيجة هي الأحداث المؤسفة التي ذهب ضحيّتها عشرة آلاف من المواطنين، وتخربت بغداد، وقد أعرب بعض الشعراء عن أسفه العميق على ما فعله الرشيد يقول:

أقول لغمّة في النفس منّي

ودمع العين يطّرد اطرادا

خذي للهول عدته بحزمٍ

ستلقي ما سيمنعك الرقادا

فإنّك إن بقيت رأيت أمراً

يطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذّب شرّ رأي

بقسمته الخلافة والبلادا

رأى ما لو تعقّبه بعلم

لبيض من مفارقة السوادا

أراد به ليقطع عن بنيه

خلافهم ويبتذلوا الودادا

فقد غرس العداوة غير آل

وأورث شمل ألفتهم بدادا

وألقح بينهم حرباً عواناً

وسلس لاجتنابهم القيادا

فويل للرعيّة عن قليل

لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألبسها بلاءً غير فانٍ

وألزمها التضعضع والفسادا

ستجري من دمائهم بحور

زواخر لا يرون لها نفادا

فوزر بلائهم أبداً عليه

أغيّاً كان ذلك أم رشادا(1)

الحروب الطاحنة:

وبعد ما خلع الأمين أخاه المأمون رسمياً عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون ولا تقتله حتى تقدم به إليّ، وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولـمّا انتهت الأنباء من بغداد بالإجراءات التي أتخذها الأمين ضد أخيه، بادر المأمون فخلع أخاه، ونصب نفسه حاكماً عاماً على العالم الإسلامي وقطع الخراج عن الأمين، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب إلى قتاله طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، وجهّزهما بجيش.

____________________

(1) تاريخ الطبري حوادث سنة 186 ه‍ـ.

٢١٢

والتقى الجيشان بـ‍ (الري)، والتحما في معركة رهيبة، جرت فيها أنهار من الدماء، وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام لقواته المسلحة، وانتهت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الرائع، ويهنئه فيه، وجاء في رسالته (كتبت إليك ورأس علي بن عيسى في حجري وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين).

وبادر الفضل فسلّم عليه بالخلافة وبشّره بهذا الانتصار، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك وسمّاه (ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين) وأمره بالتوجّه إلى العراق لاحتلال بغداد، والقضاء على أخيه.

ولـمّا علم الفضل بن الربيع وزير الأمين بهزيمة الجيش، ومقتل علي بن عيسى بن ماهان أسقط ما في يده، وأيقن بالرزء القاصم الذي حل بهم، وفي ذلك يقول الشاعر:

عجبت لمعشر يرجون نجحاً

لأمر ما تتمّ به الأمورُ

وكيف يتم ما عقدوا وراموا

وأس بنائهم فيه الفجورُ

أهاب إلى الضلال بهم غوي

وشيطان مواعده غرورُ

يصيب بهم ويلعب كل لعب

كما لعبت بشاربها الخمورُ

وكادوا الحق والمأمون غدراً

وليس بمفلح أبداً غرورُ

هو العدل النجيب البر فينا

تضمّن حبّه منّا الصدورُ

وعاقبة الأمور له يقينا

به شهد الشريعة والزبورُ(1)

وحكى هذا الشعر انتصار المأمون، وأنّه الفائز بالخلافة وأنّه لا يتم أمر الأمين؛ لأنّ الذين ناصروه كان أسُّ بنائهم قائماً على الفجور والبغي، وأنّ أنصاره قد أهاب بهم الضلال والغي، وأنّ المنتصر هو المأمون فإنّه العدل النجيب الذي عقد له الولاء في قلوب الناس.

محاصرة بغداد:

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، وقد

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 310.

٢١٣

حاصرت بغداد، وأيقن الأمين بالهزيمة فكتب إلى طاهر يطلب منه الأمان لنفسه وعائلته، وأنصاره، وأنّه يستقيل من الخلافة لأخيه، فقال طاهر: (الآن ضيّق خناقه، وهيض جناحه، وانهزم فساقه، لا والذي نفسي بيده حتى يضع يده في يدي، وينزل على حكمي).

ولم يجبه إلى شيء ممّا أراد.

ودام الحصار على بغداد مدة طويلة حتى تخربت فيها معالم الحضارة، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكّانها وكثر العابثون والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء ونهب الأموال، ومطاردة النساء، وانبرى جماعة من خيار الناس بقيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين من إيذاء الناس، وتصدّوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد.

وعلى أي حال فقد منيت بغداد بأفدح الخسائر، وفقدت زينتها وشبابها، وشاع الثكل والحزن والحداد في جميع أنحائها، وقد رثاها جماعة من الشعراء يقول الأعمى في قصيدة له:

وأبكي لإحراق وهدم منازل

وقتل وانهاب اللهى والذخائرِ

وإبراز ربات الخدور حواسراً

خرجن بلا خمرٍ ولا بمآزرِ

تراها حيارى ليس تعرف مذهباً

نوافر كأمثال الظباء النوافرِ

كأن لم تكن بغداد أحسن منظراً

وملهى رأته عين لاهٍ وناظرِ

بلى هكذا كانت فأذهب حسنها

وبدّد منها الشمل حكم المقادرِ

وحلّ بهم ما حلّ بالناس قبلهم

فأضحوا أحاديثاً لبادٍ وحاضرِ

أبغداد يا دار الملوك ومجتنى

صفوف المنى يا مستقر المنابرِ

ويا جنّة الدنيا ويا مطلب الغنى

ومستنبط الأموال عند المتاجرِ

أبيني لنا أين الذين عهدتهم

يحلّون في روض من العيش ناضرِ

وأين الملوك في المواكب تغتدي

تشبّه حسناً بالنجوم الزواهرِ

والقصيدة كلها توجّع وألم على ما حلّ ببغداد من الدمار الشامل في الأموال والأنفس، ويصف شاعر آخر حالة بغداد، وما حلّ بها من الخراب يقول:

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 313.

٢١٤

مَن ذا أصابك يا بغداد بالعين

ألم تكوني زماناً قرّة العينِ

ألم يكن فيك قوم كان قربهم

وكان مسكنهم زيناً من الزينِ

صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا

ماذا لقيت بهم من لوعة البينِ(1)

ورثى شاعر آخر بغداد وما حلّ بأهلها من الخطوب والنكبات يقول:

بكت عيني على بغداد لـمّا

فقدت غضارة العيش الأنيقِ

تبدّلنا هموماً من سرورٍ

ومن سعةٍ تبدّلنا بضيقِ

أصابتنا من الحسّاد عينٌ

فأفنت أهلنا بالمنجنيقِ

فقوم أحرقوا بالنار قسراً

ونائحة تنوح على غريقِ

وصائحة تنادي يا صحابي

وقائلة تقول أيا شقيقي

وحوراء المدامع ذات دلٍّ

مضمّخة المجاسد بالخلوقِ

تنادي بالشفيق فلا شفيق

وقد فقد الشفيق مع الرقيقِ

وقوم أخرجوا من ظل دنيا

متاعهم يباع بكل سوقِ

ومغترب بعيد الدار ملقى

بلا رأس بقارعة الطريقِ

توسّط من قتالهم جميعاً

فما يدرون من أي الفريقِ

فلا ولد يقيم على أبيه

وقد هرب الصديق عن الصديقِ(2)

وحكت هذه القصيدة الحالة الراهنة في بغداد من انتشار القتل، وفقدان الأمن، وشيوع الخوف في جميع أرجاء بغداد.

قتل الأمين:

وكان الأمين في تلك المحنة الحازبة مشغولاً بلهوه وطربه، وقد أحاطت به جيوش المأمون، ويروي المؤرّخون أنّه كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم، وكان من بينهم (كوثر) وكان مغرماً به فخرج ينظر إلى الجيش المحيط بالقصر فأصابته شجة في وجهه فجعل يبكي، فوجّه الأمين من جاء به فجعل يمسح الدم من وجهه وهو يقول:

ضربوا قرّة عيني ومن أجلي ضربوه

أخذ الله من قلبي لأناس حرقوه(3)

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 316.                                       (2) مروج الذهب 3 / 317.

(3) روضة الأعيان في أخبار مشاهير الزمان، مصوَّر في مكتبة السيد الحكيم تسلسل 3902 ورقة 103.

٢١٥

وكانت الأنباء تتوافد عليه بهزيمة جيشه، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك كله، وكان مشغولاً مع كوثر في صيد الأسماك التي جعلها في حوض كبير له، وكان يقول: (يصطاد كوثر ثلاث سمكات وما صدت إلاّ سمكتين).

وكان بهذه الحالة المزرية مشغولاً بلهوه حتى هجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح، وتلا قوله تعالى:( اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (1) .

وهجاه بعض الشعراء بقوله:

إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً

فاحكم على ملكه بالويل والخربِ

أما ترى الشمس في الميزان هابطة

لما غدا وهو برج اللهو والطربِ(2)

وبعث طاهر برأس الأمين إلى المأمون في (خراسان) فلمّا رآه حزن وتأسّف فقال له الفضل:

(الحمد الله على هذه النعمة الجليلة فإنّ محمّداً كان يتمنى أن يراك بحيث رأيته).

وأمر المأمون بنصب رأس أخيه في صحن الدار وقد وضع على خشبة، وأعطى الجند، وأمر كل مَن قبض رزقة أن يلعنه فكان الجندي يقبض رزقه ويلعن الرأس وقبض بعض العجم عطاءه فقيل له: العن هذا الرأس فقال: لعن الله هذا ولعن

والديه وأدخلهم في كذا وكذا من أمهاتهم، فقيل له: لعنت أمير المؤمنين، وكان المأمون يسمعه فتغافل عنه، وأمر بحط رأس أخيه وردّه إلى العراق فدُفن مع جثّته(3) .

وانتهت بذلك حياة الأمين، وقد حكت عن قساوة المأمون وعدم رأفته على أخيه، فقد سلب الرحمة من نفسه، وما ذاك إلاّ لحرصه على الملك.

ولم تظهر لنا أيّة بوادر للإمام الرضاعليه‌السلام في عهد الأمين، لعلّ السبب في ذلك هو انشغاله في الحرب مع أخيه فقد أشغلته هذه الحرب عن التعرّض للإمامعليه‌السلام بأيّ مكروه.

____________________

(1) عيون التواريخ 3 / ورقة 211.

(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 78.

(3) مروج الذهب (ص 225 - 226).

٢١٦

حكومة المأمون:

وقبل أن نتحدث عن شؤون الإمام الرضاعليه‌السلام في عهد المأمون، نعرض - بإيجاز - إلى إعطاء صورة عنه، وهي كما يلي:

أُمّه:

أمّا أم المأمون فكانت أمة وهي إحدى خادمات قصر الرشيد، وقد عهد إليها بطبخ الطعام، ويصفها المؤرّخون بأنّها كانت أشوه وأقذر جارية في مطبخ الرشيد، أمّا السبب في ملامسة الرشيد لها فتعزوه بعض المصادر إلى أنّ السيدة زبيدة لعبت مع الرشيد الشطرنج فغلبته، فحكمت عليه أن يطأ أقبح جارية في المطبخ، وهي (مراجل) فأبى هارون ذلك، وبذل لها خراج مصر والعراق لتعفيه، فأبت، ولم تقبل، وانصاع إلى حكمها فوطأ (مراجل) فعلقت منه المأمون(1) ، وقد ولد سنة (170 ه‍) وهي السنة التي استخلف بها الرشيد، فلمّا بشّر به سمّاه المأمون تيمّناً بذلك(2) ، وقد توفّيت أمّه في النفاس، وقد تولّى تربيته الفضل بن سهل.

وقد اتخذ الحاقدون على المأمون من أمّه وسيلة لهجائه والتشهير به، وعدم لباقته لتولّي منصب الخلافة، يقول له أخوه الأمين:

وإذا تطاولت الرجال بفضلها

فاربع فإنّك لست بالمتطاولِ

أعطاك ربّك ما هويت وإنّما

تلقى خلاف هواك عند مراجلِ

تعلو المنابر كل يوم آملاً

ما لست من بعدي بواصلِ(3)

وفي أيام الفتنة عيّره بأمّه وكتب إليه:

يا بن التي بيعت بأبخس قيمةٍ

بين الملا في السوق هل من زائدِ

ما فيك موضع غرزة من أبوة

إلاّ وفيه نطفة من واحدِ

فردّ عليه المأمون:

وإنّما أمّهات الناس أوعية

مستودعات وللأحساب آباءُ

فلربّ معربة ليست بمنجبةٍ

وطالما أنجبت في الخدر عجماءُ(4)

____________________

(1) حياة الحيوان للدميري 1 / 72.

(2) عصر المأمون 1 / 210.

(3) تأريخ الخلفاء للسيوطي (ص 304).

(4) محاسن بغداد دار السلام (ص 121).

٢١٧

وقال الرقاشي في مدحه للأمين وهو يعرض بمراجل أم المأمون: لم تلده أمة تعرف في السوق التجار(1)، وليس على المأمون أي نقص من جهة أمّه، فقد هدم الإسلام هذه النعرات الجاهلية، وساوى بين جميع أجناس البشر فليس لأحد على أحد فضل إلاّ بالتقوى.

صفات المأمون:

أمّا صفات المأمون ونزعاته النفسية فهي كما يلي:

الغدر:

أمّا الغدر فهو من ذاتيات المأمون، ومن عناصره فقد بايع الإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وبعد ما انتهت مآربه السياسية غدر به فدسّ له سمّاً

قاتلاً فقتله - كما سنوضّح ذلك في البحوث الآتية - وقد غدر بطائفة من أعلام عصره ممّن كان يحذر منهم وهم:

1 - عبد الله بن موسى الهادي:

وكان يندّد المأمون، وكان يعربد عليه إذا شرب معه فساء المأمون ذلك، فحبسه في منزله، وأقعد على بابه حرسا ثم أنّه أظهر له الرضى، وصرف الحرس عن بابه، وكان عبد الله مغرماً بالصيد فدس إلى خادم من خدمه فسقاه سمّاً في دراج وهو بـ (موسى باد) ولـمّا أحسّ بالسم قال لأصحابه: هو آخر ما تروني(2) .

2 - إسحاق بن موسى:

الهادي، وقد احتفت به فصائل من الجيش حينما كان المأمون في (خراسان) وأمرته، فاستولى على بعض المناطق فدسّ إليه المأمون ابنه وخادماً له فقتلاه وقاد به ابنه وقتل الخادم بالسياط(3) .

3 - حميد بن عبد الحميد:

الطوسي، دعاه المأمون لتناول الطعام، وكان عنده أحمد بن أبي خالد الأحول وهو من الحاقدين على حميد ومن أعدائه، ولـمّا قربت المائدة أجلس المأمون أحمد إلى

____________________

(1) الآداب السلطانية (ص 212).

(2) أسماء المغتالين (ص 200).

(2) أسماء المغتالين (ص 199).

٢١٨

جانبه فساء ذلك حميد، وقال للمأمون: (يا أمير المؤمنين لا أماتني الله حتى يريني الدنيا عليك سهلة حتى ترى أينا أنفع لك).

وانتهز أحمد هذه الفرصة فقال للمأمون: (يا أمير المؤمنين إنّما يتمنى فساد ملكك والفتنة).

فغضب المأمون وقام عن المائدة، ولم يتم غذاءه، وقد أضمر ذلك في نفسه، ولـمّا أراد البناء بـ‍ (بوران) قال لحميد: يا أبا غانم قد أذنت لك في الحج، فانصرف حميد مسروراً وأمر بتهيئة أسباب السفر، ودخل جبريل بن بختيشوع على حميد فقال له: يا أبا غانم طر بدنك فإنّي أرجو أن تأتي بكل جارية معك حاملاً، وكان حميد مغرماً بالنكاح ثم سقاه شربة، وكان في مجلسه عبد الله الطيفوري، وكان متطبباً فلمّا رأى الشربة فهم الأمر، فقال لجبريل: (أبو غانم قد ضعف عن هذه؟).

وقصد بذلك أنّه انكشف له ما دبّر لأبي غانم من الاغتيال، وتناول أبو غانم الشربة، فأثرب به في الوقت، وجعل الطيفوري يداويه حتى تماثل للشفاء قليلاً إلاّ أنّه بعد ذلك أشربه السم وقضى عليه(1) .

4 - الفضل بن سهل:

واغتال المأمون الفضل بن سهل، وكان وزيره ومستشاره إلاّ أنّه خشي منه فدسّ إليه مَن قتله في الحمّام، وسنوضح ذلك في البحوث الآتية.

هؤلاء بعض الذين اغتالهم المأمون، ومقتدياً بمعاوية فهو أوّل الملوك الذين فتحوا باب الاغتيال والغدر في الإسلام.

القسوة:

وظاهرة أخرى من صفات المأمون وهي القسوة وانعدام الرأفة من نفسه، فقد قتل أخاه، وحمل رأسه إليه، ولو كانت عنده نزعة من الرحمة لعفا عن

أخيه بعد ما طلب العفو والأمان وتسليم السلطة إليه، ومن قسوته أنّه بعد ما اغتال الإمام الرضاعليه‌السلام قابل السادة العلويين بمنتهى الشدّة والصرامة، فعهد إلى

____________________

(1) أسماء المغتالين (ص 199).

٢١٩

جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجدوا(1) .

الدهاء:

ولم تعرف الدبلوماسية الإسلامية في العصر العباسي مَن هو أدهى من المأمون، ولا مَن هو أدرى منه في الشؤون السياسية، فقد كان سياسياً من الطراز الأول، فقد استطاع بدهائه أن يتغلب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألـمّت به، وكادت تطوي حياته وسلطانه، فقد استطاع بمهارة فائقة أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتع بتأييد مكثف من قبل الأسرة العباسية والقيادات العسكرية العليا، كما استطاع أن يقضى على أعظم ثورة مضادة له، تلك ثورة القائد الملهم أبي السريا، التي اتسع نطاقها فشملت معظم الأقاليم الإسلامية، وقد سقط معظمها بأيدي الثوار، وكان شعار الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد حمل الإمام الرضاعليه‌السلام قسراً إلى (خراسان)، وهو الزعيم الأوحد للأسرة العلوية، والمرجع العام للعالم الإسلامي، فأرغمه على قبول ولاية العهد وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة مآثر الإمام أمير المؤمنين وباقي أفراد الأئمة الطاهرين، كما ضرب السكة باسم الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد أوهم الثوّار والقوى العسكرية التي كان معظمها يدينون بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام بأنّه علوي العقيدة وأنّه جاد في تحويل الخلافة إلى العلويين حتى أيقنوا أنّه لا حاجة لاستمرار الثورة، وإراقة الدماء وقضى بذلك على الثورات كما تعرّف في نفس الوقت على العناصر الشيعية التي عجز آباءه عن معرفتهم، وهذا التخطيط السياسي - فيما أحسب - من أروع المخططات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التأريخ(2) .

الميل إلى اللهو:

وكان المأمون شديد الميل إلى اللهو، وكان بعض ما أثر عنه في ذلك ما يلي:

أ - لعبه بالشطرنج:

وأهم لعبة عند المأمون وأحبها إليه هي الشطرنج(3) فقد هام فيها، وقد وصفها بهذه الأبيات:

____________________

(1) حياة الإمام الرضا.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 231 - 232).

(3) العقد الفريد 3 / 254.

٢٢٠