حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 205444 / تحميل: 8491
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أكله ، وليس بنجس إنّ مات فيما تولد فيه إجماعاً ، وإذا خرج فكذلك عندنا.

وللشافعي قولان ، وكذا في أكله عنده قولان : أظهرهما : التحريم مع الانفراد(1) .

الخامس : لو وقع الذباب وشبهه في ماءً قليل ومات فيه ، لم ينجسه عندنا ، وللشافعي قولان(2) .

ولو تغير الماء به فكذلك عندنا ، وللشافعي ـ على تقدير عدم النجاسة بالملاقاة ـ وجهان(3) ولو سلبه الاطلاق فمضاف طاهر.

السادس : حيوان الماء المحرم مما له نفس سائلة إذا مات في ماءً قليل نجسه عندنا ، لأنّفعال القليل بالنجاسة ، وبه قال الشافعي(4) .

وقال أبو حنيفة : لا ينجس ، لأنّه يعيش في الماء فلا ينجس بموته فيه ، كالسمك(5) . ويبطل بالفرق.

وما لا نفس له سائلة ـ كالضفدع ـ لا ينجس به الماء القليل ، وبه قال أبو حنيفة(6) ، خلافاً للشافعي(7) .

السابع : الجنين الذي يوجد ميتاً عند ذبح الاُم ـ إذا كان تاماً ـ حلال

__________________

1 ـ الوجيز 1 : 6 ، فتح العزيز 1 : 167 ـ 169 ، المجموع 1 : 131.

2 ـ الاُم 1 : 5 ، المجموع 1 : 129 ، الهداية للمرغيناني 1 : 19 ، المبسوط للسرخسي 1 : 51.

3 ـ المجموع 1 : 130.

4 ـ الاُم 1 : 5 ، الهداية للمرغيناني 1 : 19 ، المجموع 1 : 131.

5 ـ الهداية للمرغيناني 1 : 19.

6 ـ الهداية للمرغيناني 1 : 19 ، بدائع الصنائع 1 : 79.

7 ـ الاُم 1 : 5 ، فتح العزيز 1 : 163 ، الهداية للمرغيناني 1 : 19.

٦١

طاهر ، وإن لم تتم خلقته كان حراماً نجساً.

الثامن : المتكون من النجاسات ـ كدود العذرة ـ طاهر ، للعموم ، وكذا الدود المتولد من الميتة ، وفي وجه للشافعي : أنّه نجس(1) .

التاسع : يكره ما مات فيه الوزغ والعقرب ، وقول ابن بابويه : إذا ماتت العضاء‌ة في اللبن حرم(2) ، لرواية عمار(3) ، ضعيف ، ويحمل على الكراهة ، أو على التحريم للتضرر ، لا للنجاسة.

العاشر : لو وقع الصيد المجروح الحلال في الماء فمات ، فإن كانت حياته مستقرة فالماء نجس ، والصيد حرام ، وإن كانت حياته غير مستقرة فالضد منهما ، وإن اشتبه حكم بالأصلين فيهما على إشكال ينشأ من تضادهما ، فالاحوط التحريم فيهما.

الحادي عشر : جلد الميتة نجس بإجماع العلماء ، إلّا الزهري ، والشافعي في وجه ، فإنه طاهر عندهما(4) .

الثاني عشر : عظم الحيوان وقرنه وظفره وسنه لا تحلها الحياة فهي طاهرة ، وبه وقال أبو حنيفة(5) ، وقال الشافعي : إنّها نجسة لنموها(6) .

الثالث عشر : الشعر والصوف والريش من الميتة طاهر ، إلّا من نجس العين على ما تقدم ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ـ في أحد القولين ـ لأنّها

__________________

1 ـ المجموع 1 : 131.

2 ـ الفقيه 1 : 15 ذيل الحديث 32 ، والمقنع : 11.

3 ـ التي رواها الشيخ كاملة في التهذيب 1 : 285 / 832.

4 ـ المجموع : 217.

5 ـ المجموع 1 : 236 ، بداية المجتهد 1 : 78 ، الهداية للمرغيناني 1 : 21 ، شرح فتح القدير 1 : 84 ، اللباب 1 : 24.

6 ـ المجموع 1 : 236 ، بداية المجتهد 1 : 78 ، شرح العناية 1 : 84.

٦٢

لا تحلها الحياة ، وفي الآخر : إنّها نجسة لنمائها(1) .

ولو جز من حيوان ـ لا يؤكل لحمه ـ حي فطاهر عندنا ، خلافاً له(2) ولو جز من مأكول فهو طاهر إجماعا.

ولو نتف منه حياًَ فكذلك عندنا ، وللشافعي وجهان : النجاسة لأنّه ترك طريق إباحته ، وهو الجز فصار كخنق الشاة ، والطهارة لكثرة الالم فهو كالتذكية(3) .

الرابع عشر : ما لا يؤكل لحمه إذا وقعت عليه الذكاة فذكي كان لحمه وجلده طاهرين ، عملاً بالأصل.

وقال الشافعي : نجسان ، لأنّ التذكية لم تبح اللحم ، فلا تفيده الطهارة(4) .

وقال أبو حنيفة : الجلد طاهر ، وفي اللحم روايتان(5) .

الخامس عشر : البيضة في الميتة طاهرة إنّ اكتست الجلد الفوقاني ، وإلّا فلا ، وقال الشافعي : إنّها نجسة(6) ، ورواه الجمهور عن عليعليه‌السلام (7) .

__________________

1 ـ المجموع 1 : 231 ـ 232 و 236 ، شرح العناية 1 : 84 ، بداية المجتهد 1 : 78.

2 ـ المجموع 1 : 241 ـ 242 ، المهذب للشيرازي 1 : 18.

3 ـ المجموع 1 : 241 ـ 242.

4 ـ المجموع 1 : 245 ، المهذب للشيرازي 1 : 18.

5 ـ المجموع 1 : 245 ، اللباب 3 : 230 ، شرح فتح القدير 1 : 84 ، الهداية للمرغيناني 1 : 21.

6 ـ المجموع 1 : 244.

7 ـ المجموع 1 : 245.

٦٣

والمشيمة نجسة.

السادس عشر : في لبن الشاة الميتة روايتان(1) ، أقواهما : التحريم والنجاسة ، لملاقاة النجاسة ، وللشافعي وجهان(2) .

مسألة 20 : الخمر نجسة ، ذهب إليه علماؤنا أجمع إلّا ابن بابويه ، وابن أبي عقيل(3) ، وقول عامة العلماء أيضاً إلّا داود ، وربيعة ، وأحد قولي الشافعي(4) . لقوله تعالى : (إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس )(5) والرجس لغة : النجس ، ولأنّ ما حرم على الاطلاق كان نجساً كالدم والبول ، ولقول الصادقعليه‌السلام : « لا تصلّ في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله »(6) .

وقولهمعليهم‌السلام : « إنّ الله حرم شربها ، ولم يحرم الصلاة فيها »(7) . لا يدل على الطهارة ، واستصحاب حال كونه عصيراً ـ كما قاله داود ـ(8) ضعيف.

__________________

1 ـ فالدالة على الحلية ما في الكافي 6 : 258 / 3 ، الفقيه 3 : 216 / 1006 و 219 / 1011 ، التهذيب 9 : 75 / 320 و 76 / 324 ، الاستبصار 4 : 88 / 328 و 89 / 339 ، الخصال 2 : 434 / 19 وغيرها ، ومن الدالة على التحريم ما روي في التهذيب 9 : 77 / 325 ، الاستبصار 4 : 89 / 340 ، قرب الاسناد : 64 ، وغيرها.

2 ـ المجموع 1 : 244.

3 ـ الفقيه 1 : 160 / 752 ، علل الشرائع : 357 باب 72 ، وحكى المحقق قول ابن ابي عقيل في المعتبر : 117.

4 ـ المجموع 2 : 563 ، فتح العزيز 1 : 156 ، تفسير القرطبي 6 : 288 ، الميزان 1 : 105 ، مغني المحتاج 1 : 77.

5 ـ المائدة : 90.

6 ـ التهذيب 1 : 278 / 817 ، الاستبصار 1 : 189 / 660.

7 ـ الفقيه : 160 / 752 ، علل الشرائع : 357 باب 72 ، قرب الاسناد : 16.

8 ـ المجموع 2 : 563 ، الميزان 1 : 105.

٦٤

فروع :

الأول : كلّ المسكرات كالخمر في التحريم والنجاسة ، لقول الكاظمعليه‌السلام : « وما عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر »(1) وقول الباقرعليه‌السلام : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مسكر خمر »(2) .

وقال أبو حنيفة : النبيذ طاهر ، وهو أحد قولي الشافعي(3) .

الثاني : العصير إذا غلى حرم حتى يذهب ثلثاه ، وهل ينجس بالغليان أو يقف على الشدة؟ إشكال.

الثالث : الفقاع كالخمر عندنا في التحريم والنجاسة ـ خلافاً للجمهور(4) ـ لقول الرضاعليه‌السلام : « هو خمر مجهول »(5) .

الرابع : الخمر إذا انقلبت خلاً طهر إجماعاً ، ولو لاقته نجاسة ، أو عصره مشرك لم يطهر بالأنّقلاب.

الخامس : بواطن حبات العنقود إذا استحال ما فيها خمراً كان نجساً ، وهو أحد قولي الشافعي(6) .

السادس : المسكرات الجامدة ليست نجسة وإن حرمت ، ولو تجمّد الخمر ، أو ما مازجه لم يخرج عن نجاسته ، وكذا لو سال الجامد بغير

__________________

1 ـ الكافي 6 : 412 / 2 ، التهذيب 9 : 112 / 486.

2 ـ الكافي 6 : 408 / 3 ، التهذيب 9 : 111 / 482.

3 ـ المجموع 1 : 93 و 2 : 564 ، فتح العزيز 1 : 158 ، مغني المحتاج 1 : 77 ، تفسير القرطبي 13 : 51 ، بداية المجتهد 1 : 33.

4 ـ بدائع الصنائع 5 : 117 ، المبسوط للسرخسي 24 : 17 ، المغني 10 : 337 ، رحمة الامة 2 : 170 ، المنتقى للباجي 3 : 150.

5 ـ الكافي 6 : 422 / 1 ، التهذيب 9 : 124 / 539 ، الاستبصار 4 : 95 / 368.

6 ـ المجموع 2 : 564 ، مغني المحتاج 1 : 77.

٦٥

ممازجة لم يخرج عن طهارته.

مسألة 21 : الكلب والخنزير نجسان عيناً ولعاباً ، ذهب إليه علماؤنا أجمع ، وبه قال عليعليه‌السلام ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وعروة بن الزبير ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وأحمد(1) ، لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات )(2) ، وقول الصادقعليه‌السلام عن الكلب : « رجس نجس »(3) .

وقال أبو حنيفة : الكلب طاهر ، والخنزير نجس ، لعدم وجوب غسل ما عضه الكلب من الصيد(4) ، وهو ممنوع.

وقال الزهري ، ومالك ، وداود : الكلب والخنزير طاهران(5) .

فروع :

الأول : الحيوان المتولد منهما يحتمل نجاسته مطلقاًً ، واعتبار اسم أحدهما ، والمتولد من أحدهما وما غايرهما يتبع الاسم.

الثاني : كلّ أجزاء الكلب والخنزير وان لم تحلها الحياة نجسة ، خلافاً للمرتضى(6) .

__________________

1 ـ السراج الوهاج : 22 ، المجموع 2 : 567 ـ 568 ، الاشباه والنظائر للسيوطي : 431 ، مغني المحتاج 1 : 78 ، المحلى 1 : 112 ، الاُم 1 : 5 ، نيل الأوطار 1 : 42.

2 ـ صحيح مسلم 1 : 234 / 91 و 92 ، سنن أبي داود 1 : 19 / 71 ، مسند أحمد 2 : 427.

3 ـ التهذيب 1 : 225 / 646 ، الاستبصار 1 : 19 / 40.

4 ـ شرح فتح القدير 1 : 82 ، الهداية للمرغيناني 1 : 20 ، الكفاية 1 : 82 ، شرح العناية 1 : 82 ، المبسوط للسرخسي 1 : 48 ، بدائع الصنائع 1 : 63.

5 ـ المجموع 2 : 567 ـ 568 ، مغني المحتاج 1 : 78 ، نيل الأوطار 1 : 43 ، الشرح الصغير 1 : 18 ، تفسير القرطبي 13 : 45 ، المبسوط للسرخسي 1 : 48 ، فتح العزيز 1 : 161 ، بداية المجتهد 1 : 29 ، المدونة الكبرى 1 : 5.

6 ـ الناصريات : 218 المسألة 19.

٦٦

الثالث : كلب الماء طاهر بالأصل ، خلافاً لابن ادريس(1) ، ولا يجوز حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز بغير قرينة.

الرابع : الأقرب طهارة الثعلب ، والأرنب ، والفأرة ، والوزغة ـ وهو قول المرتضى ، وأحد قولي الشيخ(2) ـ عملاً بالأصل ، والنص الدال على طهارة سؤر ما عدا الكلب والخنزير(3) .

احتج الشيخ بأمر الكاظمعليه‌السلام بغسل أثر ما أصابته الفأرة الرطبة(4) ، وأمر الصادقعليه‌السلام بغسل اليد من مسّ الثعلب والأرنب(5) وهو محمول على الاستحباب.

مسألة 22 : الكافر عندنا نجس لقوله تعالى :( إنّما المشركون نجس ) (6) والحذف على خلاف الأصل ، والوصف بالمصدر جائز لشدة المعنى ، وقوله تعالى :( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) (7) ولقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل إنا بأرض قوم أهل كتاب نأكل في آنيتهم؟ : ( لا تأكلوا فيها إلّا ان لا تجدوا غيرها ، فاغسلوها ثم كلوا فيها )(8) .

وسئل الصادقعليه‌السلام عن سؤر اليهودي والنصراني.

__________________

1 ـ السرائر : 208.

2 ـ الناصريات : 216 المسألة 9 ، جمل العلم والعمل : 49 ، الخلاف 1 : 187 مسألة 144.

3 ـ التهذيب 1 : 225 / 646 ـ 647 و 261 / 760 ، الاستبصار 1 : 19 / 40 ـ 41.

4 ـ التهذيب 1 : 261 / 761 ، الكافي 3 : 60 / 3.

5 ـ التهذيب 1 : 262 / 763 ، الكافي 3 : 61 / 4.

6 ـ التوبة : 28.

7 ـ الأنعام : 125.

8 ـ سنن البيهقي 1 : 33 ، مستدرك الحاكم 1 : 143.

٦٧

فقال : « لا »(1) .

فروع :

الأول : لا فرق بين أن يكون الكافر أصلياً أو مرتداً ، ولا بين أن يتدين بملة أو لا ، ولا بين المسلم إذا أنكر ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة وبينة ، وكذا لو اعتقد المسلم ما يعلم نفيه من الدين ضرورة.

الثاني : حكم الشيخ بنجاسة المجبرة والمجسمة(2) ، وقال ابن ادريس بنجاسة كلّ من لم يعتقد الحق إلّا المستضعف(3) ، لقوله تعالى :( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) (4) .

والأقرب طهارة غير الناصب لأنّ علياًعليه‌السلام لم يجتنب سؤر من باينه من الصحابة.

الثالث : الناصب ـ وهو من يتظاهر ببغضه أحد من الائمةعليهم‌السلام ـ نجس ، وقد جعله الصادقعليه‌السلام شراً من اليهود والنصارى(5) ، والسر فيه أنهما منعا لطف النبوة وهو خاص ، ومنع هو لطف الامامة وهو عام.

وكذا الخوارج لانكارهم ما علم ثبوته من الدين ضرورة ، والغلاة أيضاً أنجاس لخروجهم عن الإسلام وان انتحلوه.

الرابع : أولاد الكفار حكمهم حكم آبائهم ، وهل يتبع المسبي السابي

__________________

1 ـ الكافي 3 : 11 / 5 ، التهذيب 1 : 223 / 638 ، الاستبصار 1 : 18 / 36.

2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 14.

3 ـ السرائر : 13.

4 ـ الأنعام : 125.

5 ـ الكافي 3 : 11 / 6 ، التهذيب 1 : 223 / 639 ، الاستبصار 1 : 18 / 37.

٦٨

في الإسلام؟ اشكال.

الخامس : قال ابن بابويه : لا يجوز الوضوء بسؤر ولد الزنا(1) ، وحكم ابن ادريس بنجاسته لأنّه كافر(2) ، وهو ممنوع ، والأقرب الطهارة.

تذنيب : ظهر مما قررناه أن النجاسات بالاصالة عشرة : البول ، والغائط ، والمني ، والدم ، والميتة ، والخمر ، والفقاع ، والكلب ، والخنزير ، والكافر ، وما عدا ذلك طاهر ، تعرض له النجاسة بملاقاة أحدها رطبا.

* * *

__________________

1 ـ الهداية : 14 ، الفقيه 1 : 8.

2 ـ السرائر : 81 ، 183 ، 241 ، 287.

٦٩
٧٠

الفصل الثاني : في أحكام النجاسات

مسألة 23 : النجاسات غير الدم يجب إزالة قليلها وكثيرها عن الثوب والبدن ، سواء قلّت أو كثرت عند علمائنا أجمع ، إلّا ابن الجنيد(1) ، وبه قال الشافعي(2) ، لقوله تعالى :( وثيابك فطُهر ) (3) وقولهعليه‌السلام : ( تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه )(4) .

وقال ابن الجنيد : إن قلّت عن الدرهم فمعفو ، كالدم(5) . وبه قال أبو حنيفة(6) ، وهو قياس في معارضة النص ، فيرد.

__________________

1 ـ حكاه المحقق في المعتبر : 118.

2 ـ المجموع 3 : 131 ، بداية المجتهد 1 : 81 ، كفاية الأخيار 1 : 55 ، الوجيز 1 : 8 ، الهداية للمرغيناني 1 : 35.

3 ـ المدثر : 4.

4 ـ سنن الدارقطني 1 : 127 و 128 / 2 و 7 و 9.

5 ـ حكاه المحقق في المعتبر : 118.

6 ـ اللباب 1 : 52 ، بداية المجتهد 1 : 81 ، فتح القدير 1 : 177 ، المحلى 1 : 94 ، بدائع الصنائع 1 : 80.

٧١

وقال مالك : لا يجب إزالة النجاسة مطلقاًً ، قلت أو كثرت(1) لقول ابن عباس : ليس على الثوب جنابة(2) ، ولا دلالة فيه.

وقال أبو حنيفة : النجاسة المغلظة يجب إزالة ما زاد على الدرهم ، والمخففة لا يجب إلّا أن يتفاحش(3) .

واختلف أصحابه في التفاحش ، قال الطحاوي : التفاحش أن يكون ربع الثوب(4) ، وقال بعضهم : ذراع في ذراع(5) ، وقال أبوبكر الرازي : شبر في شبر(6) ، وكل ذلك تخمين.

و أما الدم منها فإن كان حيضاً ، أو استحاضة ، أو نفاساً ، وجب ازالة قليله وكثيره ـ خلافاً لأحمد حيث عفى عن يسيره(7) ـ لقول الصادقعليه‌السلام عن الحائض : « تغسل ما أصاب ثيابها من الدم »(8) ولأنّه مقتضى الدليل.

وألحق به القطب الراوندي دم الكلب والخنزير ـ(9) ، واستبعده ابن ادريس(10) .

ــــــــــــــــــ

1 ـ الكافي في فقه أهل المدينة : 17 ، بداية المجتهد 1 : 81 ، نيل الأوطار 2 : 119.

2 ـ مصنف عبدالرزاق 1 : 372 / 1450.

3 ـ اللباب 1 : 51 ـ 52 ، بداية المجتهد 1 : 81 ، شرح فتح القدير 1 : 177 ـ 178.

4 ـ حلية العلماء 2 : 44.

5 ـ بدائع الصنائع 1 : 80 ، شرح فتح القدير 1 : 178 ، حلية العلماء 2 : 44.

6 ـ حلية العلماء 2 : 44.

7 ـ المغني 1 : 59 ، الشرح الكبير 1 : 61.

8 ـ الكافي 3 : 109 / 1 ، التهذيب 1 : 270 / 652 الاستبصار 1 : 186 / 652.

9 ـ حكاه ابن ادريس في السرائر : 35.

10 ـ السرائر : 35.

٧٢

والحق عندي اختيار القطب ، ويلحق به أيضاً دم الكافر ، والضابط دم نجس العين ، لحصول حكم طارئ للدم ، وهو ملاقاته لنجس العين ، وكذا كلّ دم أصابه نجاسة غيره.

وإن كان دم قرح أو جرح سائلا لازما لم تجب إزالته ـ وإن كثر مع نجاسته ، سواء الثوب والبدن في ذلك ـ للمشقة ، ولقولهمعليهم‌السلام عن دم القروح التي لا تزال تدمي : « يصلّي »(1) .

وان كانت الدماء تسيل ، فإن انقطع السيلان اعتبر بالدرهم ، لزوال حرج إزالته.

وإن كان مغايراً لهذين القسمين من المسفوح كدم الفصاد والبثور والذبيحة كان نجساً وتجب إزالته إنّ زاد على الدرهم البغلي إجماعاً ، لقول الباقرعليه‌السلام : « وان كان أكثر من قدر الدرهم ورآه ولم يغسله وصلّى فليعد صلاته »(2) .

وان نقص عنه لم تجب إزالته إجماعاً ، لقول الباقرعليه‌السلام : « ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم »(3) وفي الدرهم قولان لعلمائنا(4) ، أحوطهما : الوجوب.

__________________

1 ـ التهذيب 1 : 256 / 744 ، الاستبصار 1 : 177 / 615.

2 ـ التهذيب 1 : 255 / 739 ، الاستبصار 1 : 175 / 610.

3 ـ التهذيب 1 : 256 / 742 ، الاستبصار 1 : 176 / 612.

4 ـ ممن ذهب إلى الوجوب السيد المرتضى في الانتصار : 13 ، وابن أبي عقيل على ما حكاه المصنف عنه في مختلف الشيعة : 60 ، وسلار في المراسم : 55.

وإلى عدمه الشيخ في المبسوط 1 : 35 ، والمفيد في المقنعة : 10 ، والصدوق في الهداية : 15 ، وابن البراج في المهذب 1 : 51.

٧٣

فروع :

الأول : قسم الشافعي النجاسة إلى دم وغيره ، والأول : إن كان من ذي النفس السائلة ففي قول عنه : أنّه غير معفو عنه مطلقاً. وفي القديم : يعفى عما دون الكف ، وفي ثالث : يعفى عن قليله ، وهو ما لم يتفاحش.

وإن كان من غير ذي النفس فهو نجس يعفى عما قل ، دون المتفاحش ، وغير الدم لا يعفى عن قليله ولا كثيره(1) .

الثاني : الدرهم البغلي هو المضروب من درهم وثلث ، منسوب إلى قرية بالجامعين(2) ، وابن أبي عقيل قدّره بسعة الدينار(3) ، وابن الجنيد بأنملة الإبهام(4) .

الثالث : هذا التقدير في المجتمع ، والأقرب في المتفرق ذلك لو جمع ، فيجب إزالته ، أو ما يحصل معه القصور ، وقال الشيخ : ما لم يتفاحش(5) .

الرابع : لو لاقت نجاسة غير الدم ما عفي عنه منه لم يبق عفو ، سواء لاقت قبل الاتصال بالمحل أو بعده.

مسألة 24 : نجس العين لا يطهر بحال ، إلّا الخمر تتخلل ، والنطفة والعلقة [ والمضغة ](6) والدم في البيضة اذا صارت حيوانا إجماعاً ، ودخان

__________________

1 ـ المهذب للشيرازي 1 : 67 ، المجموع 3 : 133 ـ 135 ، حلية العلماء 2 : 42 ـ 43.

2 ـ الجامعين : هي حلة بني مزيد التي بأرض بابل على الفرات بين بغداد والكوفة. معجم البلدان 2 : 96. وللتوسعة في بحث الدرهم اُنظر : العقد المنير فيما يتعلق بالدراهم والدنانير.

3 ـ حكاه المحقق في المعتبر 119.

4 ـ حكاه المحقق في المعتبر : 119.

5 ـ النهاية : 52.

6 ـ الزيادة من النسخة « م ».

٧٤

الاعيان النجسة عندنا ـ وهو أحد وجهي الشافعي(1) ـ وما أحالته النار عندنا ، وبه قال أبو حنيفة(2) ، فإن الاستحالة أبلغ في الإزالة من الغسل ، خلافاً للشافعي(3) ، لأنّها لم تنجس بالاستحالة فلم تطهر بها ، والملازمة ممنوعة.

ولو وقع في القدر ـ وهي تغلي على النار ـ دم ، قال بعض علمائنا : تطهر بالغليان ، لأنّ النار تحيل الدم(4) ، وفيه ضعف ، ولو كان غير الدم لم تطهر إجماعا.

ولو استحال الخنزير ـ وغيره من العينيات ـ ملحاً في المملحة ، أو الزبل الممتزج بالتراب ـ حتى طال عهده ـ ترابا ، قال أبو حنيفة : يطهر ، وللشافعي وجهان(5) ، وعندي في ذلك تردد ، وللشيخ قولان في تراب القبر بعد صيرورة الميت رميماً(6) .

و أما النجس بالملاقاة فعلى أقسام :

الأول : الحصر ، والبواري ، والارض ، والثابت(7) فيها ، والأبنية ، تطهر بتجفيف الشمس خاصة من البول وشبهه ، كالماء النجس ، وإن كان خمراً إذا ذهبت الآثار.

____________

1 ـ المجموع 2 : 579.

2 ـ المجموع 2 : 579 ، بدائع الصنائع 1 : 85.

3 ـ المجموع 2 : 579.

4 ـ الصدوق في المقنع : 12.

5 ـ المجموع 2 : 579 ، السراج الوهاج : 23 ، مغني المحتاج 1 : 81 ، بدائع الصنائع 1 : 85 ، حلية العلماء 1 : 245.

6 ـ المبسوط للطوسي 1 : 32 و 93.

7 ـ في نسخة « ش » : والنابت ، والصحيح ظاهراً ما اثبت من نسخة « م ».

٧٥

وقال بعض علمائنا : لا يطهر ، وان جازت الصلاة عليها(1) .

ولو جفّ بغير الشمس أو بقيت عينه لم يطهر إجماعاً ، وللشيخ منع في غير البول(2) .

وما اخترناه قول أبي حنيفة وصاحبيه ، والشافعي في القديم(3) ، لأنّ الأرض والشمس من شأنهما الاحالة ، وهي أبلغ من تأثير الماء ، ولأنّ الشمس تفيد سخونة ، وهي تقتضي تصاعد أجزاء النجاسة ومفارقتها.

وقال مالك والشافعي ـ في الجديد ـ وأحمد وإسحاق : لا يطهر بتجفيف الشمس(4) ، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بصب الذنوب(5) ، ولو سلم لم يمنع.

وهل تطهر الأرض من بول الرجل بإلقاء ذنوب عليها ، بحيث يغمرها ، ويستهلك فيه البول ، فتذهب رائحته ولونه؟ قال الشيخ : نعم(6) ، وبه قال الشافعي(7) ، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بإراقة ذنوب من ماءً على بول

__________________

1 ـ ذهب إليه الشيخ في المبسوط 1 : 93 ، والمحقق في المعتبر : 124 ، وابن حمزة في الوسيلة : 79.

2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 93.

3 ـ المجموع 2 : 596 ، الاُم 1 : 52 ـ 53 ، النتف 1 : 33 ، البحر الزخار 2 : 25.

4 ـ الاُم 1 : 52 و 53 ، المجموع 2 : 596 ، القواعد في الفقه الاسلامي : 344 ، نيل الأوطار 1 : 52.

5 ـ صحيح البخاري 1 : 65 ، سنن أبي داود 1 : 103 / 380 ، صحيح مسلم 1 : 236 / 284 ، الموطأ 1 : 65 / 111.

6 ـ المبسوط للطوسي 1 : 92.

7 ـ المجموع 2 : 591 ، الاُم 1 : 52 ، الوجيز 1 : 9 ، مغني المحتاج 1 : 85.

٧٦

الأعرابي(1) .

وقال أبو حنيفة : إنّ كانت رخوة ينزل فيها الماء كفاه الصب ، وإن كانت صلبة لم يجد فيها إلّا حفرها ونقل التراب ، لأنّ الماء المزال به النجاسة نجس ، فاذا لم يزل من الأرض كان على وجهها نجساً ، والأقرب أنها تطهر بتجفيف الشمس ، أو بإلقاء الكر ، أو الجاري ، أو المطر عليها(2) .

ولو سلم حديث الأعرابي حمل على الجفاف بالهواء ، فاعيدت الرطوبة لتجف بالشمس ، مع أن بعضهم روى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بأخذ التراب الذي أصابه البول فيلقى ، ويصب على مكانه ماء‌اً(3) ، ونحن نقول بذلك.

فروع :

الأول : قال الشيخ : يحكم بطهارة الأرض التي يجري عليها وإليها(4) .

الثاني : قال الشيخ : لو بال اثنان وجب أن يطرح مثل ذلك ، وعلى هذا أبداً(5) .

__________________

1 ـ صحيح البخاري 1 : 65 ، سنن أبي داود 1 : 103 / 380 ، سنن الترمذي 1 : 296 / 147 ، سنن الدارمي 1 : 189 ، صحيح مسلم 1 : 236 / 99 ، الموطأ 1 : 64 / 111 ، مسند أحمد 2 : 239 ، سنن ابن ماجة 1 : 176 / 529 و 530.

2 ـ المجموع 2 : 592 ، نيل الأوطار 1 : 52 ، فتح الباري 1 : 259 ، بدائع الصنائع 1 : 89.

3 ـ سنن أبي داود 1 : 103 / 381 ، سنن الدارقطني 1 : 132 / 4.

4 ـ المبسوط للطوسي 1 : 93.

5 ـ المبسوط للطوسي 1 : 92.

٧٧

الثالث : ليس للذنوب تقدير ، بل ما يقهر البول ويزيل لونه وريحه.

وقال الشافعي : يطرح سبعة أضعاف البول(1) .

الرابع : لو جفت هذه الاشياء بغير الشمس لم تطهر ، فإن رمي عليها ماءً طاهر ، أو نجس ، أو بول ، وجفت بالشمس طهرت باطناً وظاهراً.

وقال الشافعي في القديم : تطهر لو جفت بغير الشمس ـ كالريح ، وطول الزمان ـ ظاهرها ، وفي باطنها قولان(2) .

الخامس : ليس الثوب كالارض ، وهو أظهر وجهي الشافعي(3) ، لأنّ في أجزاء التراب فوة محيلة إلى صفة نفسها ، بخلاف الثوب ، فلا يطهر إلّا بالغسل بالماء.

الثاني : الجسم الصقيل كالمرآة والسيف ، قال المرتضى : يطهر بالمسح إذا أزال العين ، لأنّ المقتضي للنجاسة قد زال فيزول معلوله(4) ، وقال الشيخ : لا يطهر(5) . وهو الأقوى لأنّها حكم شرعي فيقف على مورده.

الثالث : العجين بالماء النجس لايطهر بالخبز ، لقول الصادقعليه‌السلام : « يدفن ولا يباع »(6) وللشيخ قولان(7) : أحدهما : الطهارة ، لقول

__________________

1 ـ الاُم 1 : 52 ، المجموع 2 : 592.

2 ـ اُنظر الاُم 1 : 52 ـ 53.

3 ـ الاُم 1 : 55 ، المجموع 2 : 596.

4 ـ حكاه عنه في الخلاف 1 : 479 مسألة 222 ، والمعتبر : 125.

5 ـ الخلاف 1 : 479 مسألة 222.

6 ـ الاستبصار 1 : 29 / 77 ، التهذيب 1 : 414 / 1306.

7 ـ قال بالطهارة في الاستبصار 1 : 29 ـ 30 حيث رجح في ذيل أخبار الباب القول بالطهارة ، والنهاية : 8. وبالنجاسة في التهذيب 1 : 414 ذيل الحديث 1306 والمبسوط 1 : 13.

٧٨

الصادقعليه‌السلام : « لا بأس أكلت النار ما فيه »(1) وهو محمول على الاحالة ، إذ بدونها لم تأكل.

واللبن المضروب بماء نجس ، أو ببول يطهر بإحراقه آجراً ، قاله الشيخ(2) ، لأنّ النار أحالت الاجزاء الرطبة.

وقال الشافعي : لا يطهر ، إلّا أن يكاثره الماء فيطهر ظاهره ، أما باطنه فإن تفتت ترابا وكاثره الماء طهر ، ولا يطهر بالاحراق(3) .

الرابع : أسفل القدم والنعل ، وباطن الخف يطهر بالارض مع زوال النجاسة ، وبه قال أبو حنيفة(4) ، لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فإن رأى في نعله أثرا ، أو أذى فليمسحها وليصل فيها )(5) .

وقالعليه‌السلام : ( إذا وطأ أحدكم الاذى بخفيه فإن التراب له طهور )(6) .

ولقول الصادقعليه‌السلام : « لا بأس » وقد سئل عن وطئ العذرة بالخف ثم مسحت حتى لم ير شيئاً(7) .

ولا يشترط جفاف النجاسة ، ولا أن يكون لها جرم ، خلافاً لابي

__________________

1 ـ الاستبصار 1 : 29 / 75 ، التهذيب 1 : 414 / 1304 ، الفقيه 1 : 11 / 19.

2 ـ الخلاف 1 : 501 مسألة 241.

3 ـ المجموع 2 : 597 ، الاُم 1 : 53 ، فتح العزيز 1 : 251.

4 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 82 ، اللباب 1 : 50 ، الهداية للمرغيناني 1 : 34 ، نيل الأوطار 1 : 54 ، المجموع 2 : 598 ، المحلى 1 : 94.

5 ـ سنن ابي داود 1 : 175 / 650.

6 ـ سنن ابي داود 1 : 105 / 385 ، مستدرك الحاكم 1 : 166.

7 ـ التهذيب 1 : 274 / 808.

٧٩

حنيفة(1) ، للعموم والاولوية.

مسألة 25 : ما عدا هذه الاشياء على أقسام :

الأول : الثوب يغسل من النجاسة العينية حتى يذهب العين والاثر ، وإن بقيت الرائحة واللون لعسر الإزالة ، وكذا غيره ، والمستحب صبغ أثر الحيض مع المشقة ، بالمشق وشبهه ، ويجب في الغسل أن يورد الماء على النجاسة ويغلبه عليها ، فلو أدخل الثوب أو غيره على الإناء لم يطهر ، ونجس الماء.

وللشافعي قول بعدم الطهارة مع بقاء الرائحة أو اللون وإن عسر زواله(2) ، وهو مردود ، لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لخولة وقد سألته عن دم الحيض يبقى أثره : ( لا بأس به يكفيك ولا يضرك أثره )(3) .

ولو كانت النجاسة حكمية ، وهي التي لا تدرك بالحواس ، كالبول إذا جفّ على الثوب ، ولم يوجد له أثر ، يجب غسلها أيضاً عن الثوب والبدن وغيرهما.

ولا بد في غسل الثوب من العصر ـ وهو أحد قولىّ الشافعي(4) ـ لأنّ الغسالة نجسة ، فلا يطهر مع بقائها فيه ، ولا يكفي صب الماء ، ولا بد من الغسل مرتين.

__________________

1 ـ المبسوط للسرخسي 1 : 82 ، الهداية للمرغيناني 1 : 34 ، فتح القدير 1 : 172 ، اللباب 1 : 50 ، المحلى 1 : 94.

2 ـ فتح العزيز 1 : 240 ، مغني المحتاج 1 : 85.

3 ـ سنن ابي داود 1 : 100 / 365 ، مسند أحمد 2 : 364 و 380.

4 ـ السراج الوهاج : 24 ، مغني المحتاج 1 : 85 ، المجموع 2 : 593 ، فتح العزيز 1 : 244.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

في عهد الرشيد والأمين والمأمون

عاصر الإمام الرضاعليه‌السلام ثلاثة من ملوك العباسيين: وهم هارون الرشيد، والأمين والمأمون، وفي عهد الرشيد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير؛ وذلك لما اتخذه هارون من إجراءات صارمة وقاسية ضد السادة العلويين عامة، وضد أبيه الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما تحدثنا عنه في فصول هذا الكتاب، ونتحدث - بإيجاز - عن هؤلاء الملوك، وعن مواقفهم مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

هارون الرشيد:

وهو من أشهر ملوك بني العباس، فقد انتشر اسمه، وذاع ذكره في الشرق والغرب، واستوسقت له الدنيا، وزها له الملك، وأصبحت عاصمته بغداد عروس الشرق، وامتد حكمه وسلطانه على أغلب أنحاء الأرض، وهو القائل للسحاب: إنّما تمطرين ففي ملكي. وقد ذعنت له ملوك الأرض، وصغرت أمام سلطانه، ونعرض إلى بعض ملامح شخصيته، وهي:

٢٠١

أ - القسوة:

أمّا القسوة فكانت من عناصره ومقوّماته، وكان فيما يقول المؤرّخون جبّاراً سفّاكاً للدماء على نمط ملوك الشرق المستبدين، حسبما يقول الأمير شكيب أرسلان(١) .

وكان من قسوته البالغة فتكه بالسادة العلويين، وتنكيله بهم فقد صبّ عليهم وابلاً من العذاب الأليم لم يألفوه إلاّ في عهد جدّه الطاغية السفّاك المنصور الدوانيقي، وقد عرضنا إلى ما لاقوه في عهده من الضر والمحن والبلاء.

ب - الحقد:

ومن عناصر شخصية الرشيد أنّه كان حقوداً على ذوي الأحساب العريقة والشخصيات اللامعة التي تتمتع بمكانة مرموقة في الأوساط الاجتماعية، وقد حقد على سيد المسلمين الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، فأودعه في ظلمات السجون ثم اغتاله بالسم، وذلك لما للإمام من منزلة عظمي في نفوس المسلمين وهكذا كان حاقداً على كل من ذاع اسمه، وانتشر فضله بين الناس، فقد نكب البرامكة فقتل أعلامهم، وصادر أملاكهم، وتركهم بأقصى مكان من الذلّ والهوان؛ وذلك لما لهم من مكانة عند الناس، فكانت الشعراء تلهج بذكرهم وتذيع جودهم وسخاءهم فغاظه ذلك، وورم أنفه فأنزل بهم عقابه الصارم.

لقد كان الحقد من مقومات شخصية هارون، وعنصراً بارزاً من عناصره.

التحلّل:

ولم يملك هارون أي رصيد من التقوى والإيمان، فكان متحلّلاً منساباً وراء شهواته وملاذه، وكان من مظاهر تحلّله ما يلي:

أ - شربه للخمر:

كان هارون مدمناً على شرب الخمر، وربما كان يتولى بنفسه سقاية ندمائه، وكانت أخته علية تصنع له الخمر الجيد، وتبعثه إليه، وقد ذكرنا عرضا مفصلاً لإدمانه على الخمر، وعكوفه على شربها في كتابنا حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

____________________

(١) حياة الإمام الرضا (ص ١١٩).

٢٠٢

ب - ولعه بالغناء:

ونشأ هارون بين أحضان المغنيات والمطربات، وقد اجتمع في قصره عدد كبير من العازفات والمغنيات، فكان في قصره ثلاثمائة جارية من الحسان يعزفن ويغنين(١) ، وقد جعل المغنين طبقات ومراتب، فكان إبراهيم الموصلي وابن جامع وزلزل الضارب في الطبقة الأولى، وكان زلزل يضرب على العود، ويغني الموصلي وابن جامع، والطبقة الثانية: إسحاق وسليم بن سلام وعمرو بن الغزال، والطبقة الثالثة: أصحاب المعازف والطنابر(٢) .

وهام بحب ثلاث مغنيات من جواريه هن: غادر، وماردة، وهيلانة، وخنث وقال فيهن الشعر ومن قوله:

ملك الثلاث الآنسات عناني

وحللن من قلبي أعزّ مكاني

مالي تطاوعني البرية كلها

وأطيعهن وهن في عصيانِ

ما ذاك إلاّ أنّ سلطان الهوى

وبه غلبن أعزّ من سلطاني(٣)

وقد عرضنا بصورة مفصّلة إلى هذه الظاهرة من حياة الرشيد في كتابنا(حياة الإمام موسى بن جعفر) .

ج - لعبه بالنرد:

ومن تحلّل هارون وعدم مبالاته باقتراف الحرام لعبه بالنرد(٤) وهو من أنواع القمار، وقد لعب مرّة مع إسحاق الموصلي بالنرد، وقد قامره على الخلعة التي عليها فغلبه إسحاق، فقام وخلع ما عليه من ثياب فامتنع الرشيد من لبسها وقال له: ويلك أنا البس ثيابك؟ فقال إسحاق: أي والله إذا أنصفت، وإذا لم تنصف قدرت وأمكنك، قال: ويلك أو أفتدي منك؟ قال نعم: قال الرشيد: وما الفداء؟ قال إسحاق: قل: أنت يا أمير المؤمنين فإنّك أولى بالقوّة، فقال: أعطيك كل ما علي، قال إسحاق: فمر به يا أمير المؤمنين فدعا بغير ما عليه من الثياب، ونزع ما كان عليه

____________________

(١) التمدن الإسلامي ٥ / ١١٨.

(٢) التاج (ص ٤٠ - ٤٢).

(٣) تزيين الأسواق، فوات الوفيات ٤ / ٢٢٥.

(٤) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٧٠.

٢٠٣

فدفعه إلى إبراهيم(١) وكان يعلب بالشطرنج إذا سافر في دجلة(٢) .

هذه بعض الأعمال التي أثرت عن هارون، وقد دلّت - بوضوح - على تحلّله وعدم تمسّكه بتعاليم الدين الحنيف.

لقد أسرف هارون في الشهوات، وصار بلاطه مسرحاً لجميع ألوان الدعارة والمجون، فلا يكاد يخلو من حفلات الرقص والغناء وشرب الخمور، ولم يعد حكمه بأي حال من الأحوال يمثّل أي جانب من جوانب الحكم الإسلامي.

مع الإمام الرضا:

وحينما اغتال هارون الإمام الرضاعليه‌السلام بعث عصابة من رجال الأمن للاطلاع على شؤون الإمام الرضاعليه‌السلام ومعرفة اتجاهاته وميوله.

وشعر الإمامعليه‌السلام بذلك فأراد التخلّص من هارون فمضى إلى السوق والأمن يتابعه فاشترىعليه‌السلام ديكاً وكلباً وشاة، ورفع رجال الأمن ذلك إلى هارون فلمّا عرف ذلك استراح من جانب الإمام، وعرف أنّه ليس أهلاً لأن يقوم بأي حركة ضده، وأمر رجال أمنه بالتوجّه إلى بغداد.

وانبرى الإمامعليه‌السلام إلى نشر أحكام الله وتعاليم الإسلام، وإيضاح جوانب الإمامة، وفزع بعض أعلام شيعته وخافوا بأنّه لا يصيبه أي مكروه من

هارون، وأنّه لا يخاف جانبه(٣) بعد الذي صنعه من شراء الديك والكلب والكبش، وكان ممّن خاف على الإمام وحذرّه من بطش هارون هم:

١ - صفوان بن يحيى:

قال صفوان: لـمّا مضى أبو إبراهيمعليه‌السلام وتكلّم أبو الحسن الرضا خفنا عليه، فقيل له: إنّك قد أظهرت أمراً عظيماً، وإنّا نخاف عليك هذا الطاغية - يعني هارون - فقالعليه‌السلام : ليجهد جهده فلا سبيل له علي(٤) .

٢ - محمد بن سنان:

قال محمد بن سنان: قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون، إنّك قد شهرت

____________________

(١) الأغاني ٥ / ٦٩ - ٧٠.

(٢) الأغاني ٩ / ٦٤.

(٣) البحار ١٢ / ٣٢.

(٤) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٩٧.

٢٠٤

نفسك بهذا الأمر - أي إظهار الإمامة - وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر من دمائكم!

فقالعليه‌السلام : جرأني على هذا ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بنبي وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بإمام(١) .

وشاية عيسى بن جعفر بالإمام:

وانبرى عيسى بن جعفر نحو هارون حينما توجّه من (الرقة) إلى (مكة) فقال له: (أذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب، فإنك حلفت إن ادعى أحد بعد موسى الإمامة ضربت عنقه صبراً، وهذا علي ابنه يدعي الأمر - أي الإمامة - ويقال فيه، ما في أبيه...).

فلم يحفل هارون بكلامه، ونظر إليه وقال له: (وما ترى؟ أتريد أن أقتلهم كلّهم؟).

وكان في المجلس موسى بن مهران فبادر إلى الإمام الرضاعليه‌السلام فأخبره بالأمر، فقالعليه‌السلام : (مالي ولهم لا يقدرون إلي على شيء)(٢) .

وشاية يحيى بالإمام:

وممّن وشى بالإمام يحيى البرمكي، فقد قال لهارون: هذا علي الرضا بن موسى قد تقدم، وادعى الأمر لنفسه، فلم يحفل به هارون وقال له: يكفينا ما فعلنا بأبيه أتريد أن نقتلهم جميعاً(٣) ، وقد باءت بالفشل جميع المحاولات التي حيكت ضده.

دعاء الإمام على البرامكة:

وكان للبرامكة دور خطير في التنكيل بالإمام الكاظمعليه‌السلام ، فقد أوغروا صدر الطاغية هارون عليه، وكان الإمام الرضاعليه‌السلام عالماً بذلك

____________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٩٧.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٢٦.

(٣) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٥٩).

٢٠٥

فراح يدعو عليهم فقد روى محمد بن الفضيل قال: لـمّا كان في السنة التي بطش فيها بالبرامكة، ونزل بهم من البلاء ما نزل أبو الحسن الرضا واقفاً بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه فسئل عن ذلك، فقال: إنّي كنت أدعو الله تعالى على البرامكة بما فعلوا بأبي فاستجاب الله لي اليوم فيهم، ولم يلبث يسيراً حتى بطش هارون بجعفر ويحيى وتغيّرت أحوالهم(١) .

وروى الحسن بن علي الوشاء عن مسافر قال: كنت مع أبي الحسن الرضاعليه‌السلام بـ (منى)، فمرّ يحيى بن خالد مع قوم من آل برمك، فقالعليه‌السلام : (مساكين هؤلاء لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة).

وأضاف الإمام قائلاً:

(وا عجبي من هذا، هارون وأنا كهاتين، وضمّ بأصبعه)

قال مسافر: فو الله ما عرفنا معنى حديثه حتى دفنّاه معه(٢) .

لقد استجاب الله دعاء وليّه فأنزل عقابه الصارم بالبرامكة، فأزال نعتهم وأباد أعلامهم، فقد نكل بهم هارون كأفظع وأقسى ما يكون التنكيل، فقتل جعفر،

وقسمه نصفين، وجعل كل نصف في الأماكن الحسّاسة في بغداد وألقى يحيى مع بقية أبنائه في سجونه، وصادر أموالهم المنقولة، وغير المنقولة.

كبس دار الإمام:

ولـمّا ثار محمد بن جعفر بن محمد على هارون أرسل الجلودي إلى مناجزته وأمره أن يغير على دور العلويين في المدينة، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلي، ولا يدع على واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً.

وهجم الجلودي على دار الإمام الرضاعليه‌السلام ، فقام الإمام وجمع السيدات من بنات رسول الله (ص) في بيت ووقف على باب البيت فقال الجلودي:

للإمام لا بد أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني الرشيد، فقال له الإمام: أنا أسلبهن لك، وأحلف أنّي لا أدع عليهنّ شيئاً إلاّ أخذته، فلم يزل الإمام يطلب إليه، ويتوسّل حتى سكن، وقامعليه‌السلام إلى البيت فأخذ ما على العلويات من حلي

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٢٥.

(٢) عيون أخبار الرضا، البحار.

٢٠٦

وحلل، ولم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرارهن، وسلّم جميع ذلك إلى الجلودي ليقوم بتسليمه إلى طاغية بغداد(١) .

وتأثّر الإمام الرضاعليه‌السلام كأشد ما يكون التأثّر من هذا الاعتداء الصارخ على بيته، فلم يرع هارون كرامة الإمام، ولا كرامة بنات رسول الله (ص) واقترف معهن ما اقترفه جند يزيد مع عائلة ريحانة رسول الله (ص) وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسينعليه‌السلام بعد مقتله، فقد تدافعوا كالكلاب المسعورة إلى نهب ما على العلويات من حلي وحلل.

وعلى أي حال فإنّ هارون لم يقم - فيما أحسب - بإجراء آخر ضد الإمامعليه‌السلام غير هذا الإجراء... ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام قد انطوت نفسه على حزن عميق على ما حلّ بأبيه الإمام موسىعليه‌السلام من المحن والخطوب التي صبّها عليه هارون، فقد أودعه في ظلمات سجونه حفنة من السنين، وقابله بمزيد من التوهين، ثم اغتاله بالسم، وكذلك صبّ جام غضبه على السادة العلويين فأنزل بهم العقاب الصارم، وقتلهم تحت كل حجر ومدر ولم يرع فيهم أواصر النسب، وقرابتهم من رسول الله (ص) التي هي أولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

رسالة سفيان لهارون:

من الخير أن ننهي الحديث عن هارون بهذه الرسالة القيّمة التي بعثها سفيان الثوري أو (سفيان بن عينية) إلى هارون، فإنّها تكشف عن الكثير من جوانب حياته، فقد كتب إليه هارون رسالة يطلب فيها ودّه، والاتصال به، فأجابه سفيان بما يلي:

(من العبد الميت سفيان إلى العبد المغرور بالآمال هارون الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذّة قراءة القرآن، أمّا بعد: فإنّي كتبت إليك أعلمك أنّي قد صرمت حبلك، وقطعت ودّك، وإنّك جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك، بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقّه، وأنفذته بغير حكمه، ولم ترض بما فعلته، وأنت ناءٍ عنّي، حين كتبت إليّ تشهدني على نفسك، فأمّا أنا فأنّي قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدّي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦١، البحار ٤٩ / ١٦٦.

٢٠٧

يا هارون: هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلّفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم - يعني العاملين - أم رضى بفعلك الأيتام والأرامل؟ أم رضي بذلك خلق من رعيتك، فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً، واعلم أنّك ستقف بين يدي الله الحكم العدل، فاتق الله في نفسك إذا سلبت حلاوة العلم والزهد ولذة قراءة القرآن، ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً، وللظالمين إماماً.

يا هارون: قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت ستوراً دون بابك، وتشبّهت بالحجّة بربّ العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس، ولا ينصفون، ويشربون الخمر، ويحدون الشارب، ويزنون، ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن يحكموا بها علىالناس، فكيف بك يا هارون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله احشروا الظلمة وأعوانهم، فتقدّمت بين يدي الله، ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يكفهما إلاّ عدلك وإنصافك والظالمون حولك، وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار وكأنّي بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق، ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيّتك واحفظ محمداً (ص) في أمّته، واعلم أنّ هذا الأمر يصر إليك إلاّ وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها واحداً بعد واحد ÷، فمنهم مَن تزوّد زاداً نفعه، ومنهم مَن خسر دنياه وآخرته، وإيّاك ثم إيّاك أن تكتب إليّ بعد هذا فإنّي لا أجيبك والسلام...).

ثم بعث بالكتاب من غير طي ولا ختم(١) ، وحكى هذا الكتاب تصرّف هارون بأموال المسلمين، وإنفاقها في غير جهاتها المشروعة كما حكت هذه الرسالة إيمان سفيان وقوّة شخصيته، ونكرانه لذاته... وبهذه الرسالة نطوي الحديث عن حكومة هارون.

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٥٥ - ٥٧ نقلاً عن حياة الحيوان للدميري ٢ / ١٨٨.

٢٠٨

حكومة الأمين:

وتسلّم الأمين بعد وفاة أبيه القيادة الإسلامية، وكان بإجماع المؤرّخين غير مؤهّل لهذا المنصب الرفيع؛ وذلك لما يتصف به من نزعات وضيعة كان منها ما يلي:

١ - انهماكه في اللذات:

وانصرف الأمين بعد تقلّده للخلافة إلى اللهو والطرب، وعهد بأمور الدولة إلى الفضل بن الربيع فجعل يتصرف في شؤون الدولة حسب رغباته وميوله(١)، وقد جدّ في طلب الملهين(٢) ، كما اشتغل بالخصيان ورقص النساء(٣) .

٢ - كراهته للعلم:

من صفات الأمين بغضه للعلم، وكراهته للعلماء، وكان أميّاً، لا يقرأ ولا يكتب(٤).

وإذا كان بهذه الصفة فكيف قلّده هارون شؤون المسلمين وجعله حاكماً على أعظم إمبراطورية في العالم كلّه؟ لقد قلّده الخلافة استجابة لعواطف السيدة زبيدة، وسائر الأسرة العباسية الذين كانت ميولهم معه.

٣ - ضعف الرأي:

ولم يتمتع الأمين برأي حصيف، فلم تصقله التجارب، ولم تهذّبه الأيام، وقد أعطي الملك العريض، ولم يحسن أي شيء، وقد وصفه المسعودي بقوله: (كان قبيح السيرة، ضعيف الرأي يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الخطوب على غيره ويثق بمَن لا ينصحه)(٥) .

ووصفه الكتبي بقوله: (وكان قد هان عليه القبيح فاتبع هواه ولم ينظر في شيء من عقباه، وأنّه كان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع مَن شرب)(٦) .

____________________

(١) حياة الإمام محمد الجواد (ص ٢٨٤).

(٢) مآثر الإنافة في معالم الخلافة ١ / ٢٨٥ روضة الأعيان ورقة ٩٩، وجاء فيه أنّه اشترى عربية المغنية بمائة ألف دينار.

(٣) تأريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١٣٤)، مختصر تأريخ الدولة (ص ١٣٤).

(٤) السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي ١ / ١٦.

(٥) التنبيه والإشراف (ص ٣٠٢).

(٦) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢١٢.

٢٠٩

ويقول عنه الفخري: (انه لم يجد للأمين شيئا من سيرته يستحسنه فيذكره)(١) .

احتجابه عن الرعية:

ومن نزعاته أنّه كان ينفر من الناس تكبّراً عليهم، فقد احتجب عن رعيّته وأهالي مملكته، وقد خفّ إليه إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له:

(يا أمير المؤمنين إنّ قوّادك وجندك وعامة رعيتك قد خبثت نفوسهم وساءت ظنونهم، وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم ومراجعة لآمالهم...).

واستجاب الأمين لهذه النصيحة، فجلس في بلاطه، ودخل عليه الشعراء فمدحوه في قصائدهم، وهو لا يفهم ما يقولون، ثم انصرف عن الناس فركب الحراقة إلى (الشماسية)، واصطفّت له الخيل، وعليها الرجال، وقد اصطفوا على ضفاف دجلة وحملت معه مطابخ القصر، وما فيه من الخزائن.

أمّا الحراقة التي ركبها فكانت سفينة صنعت شبيهة بالأسد، وما رأى الناس منظراً أبهى ولا أجمل من ذلك المنظر، وكان معه في السفينة أبو نواس ينادمه وقال يصف تلك السفينة:

سخر الله للأمين مطايا

لم تسخّر لصاحب المحرابِ(٢)

فإذا ما ركابه سرن بحراً

سار في الماء راكباً ليث غابِ

أسداً باسطاً ذراعيه يعدو

أهرت الشدق كالح الأنيابِ(٣)

لا يعانيه باللجام ولا السوط

ولا غمز رجله في الركابِ

عجب الناس إذ رأوك على صورة

ليث يمر مرّ السحابِ

سبّحوا إذ رأوك سرت عليه

كيف لو أبصروك فوق العقابِ(٤)

ذات زور ومنسر وجناحين

تشف العباب بعد العبابِ

تسبق الطير في السماء إذ ما

استعجلوها بجيئةٍ وذهابِ

____________________

(١) الآداب السلطانية (ص ٢١٢).

(٢) صاحب المحراب: هو سليمان بن داود الذي بنى بيت المقدس.

(٣) أهرت الشدق: واسعه، كالخ الأنياب: أي كاشرها.

(٤) العقاب: إحدى السفن التي كانت معدّةً للأمين.

٢١٠

بارك الله للأمين وأبقاه

له رداء الشبابِ

ملك تقصر المدائح عنه

هاشمي موفّق للصوابِ(١)

هذه بعض نزعات الأمين وصفاته وهي تحكي صورة انسان تافه قد اتجه صوب ملذّاته وشهواته، ولم يعن بأيّ حالٍ من الأحوال في شؤون الدولة الإسلامية، وإنّما كان متجهاً نحو شهواته.

خلعه للمأمون:

وتقلّد الأمين الخلافة يوم وفاة أبيه الرشيد، وقد تسلم خاتم الخلافة، والبردة، والقضيب التي كان يتسلمها الملوك من قبله من بنى العباس.

ولم يمض زمان طويل من الوقت حتى فسدت العلائق ما بين الأمين والمأمون، فقد لعبت الحواشي المحيطة بهما في خلق الأزمات بينهما وتبودلت الرسائل بينهما وهي تحمل السباب والشتائم، لكل منهما وليس فيها أي دعوة إلى المودة والصفاء، وعمد الأمين فخلع رسميا أخاه المأمون عن ولاية العهد وجعلها لولده موسى وهو طفل صغير في المهد، وسماه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة المقدسة من جاء بكتاب العهد الذي علقه فيها الرشيد، وجعل فيه ولاية العهد إلى المأمون، وحينما أتى به مزقه، ولم يف به، وكان ذلك فيما يقول المؤرخون برأي الفضل بن الربيع، وبكر بن المعتمر في نكثه للعهد وبيعته لولده يقول رجل أعمى من أهل بغداد:

أضاع الخلافة غشّ الوزير،

وفعل الإمام، ورأى المشير

وما ذاك إلاّ طريق الغرور

وشر المسالك طرق الغرور

فعال الخليفة أعجوبة

وأعجب منه فعال الوزير

وأعجب من ذا وذا أنّنا

نبايع للطفل فينا الصغير

ومَن ليس يحسن مسح أنفه

ولم يخل من متنه حجر ظير

وما ذاك إلاّ بباغٍ وغاو

يريدان نقض الكتاب المنير

وَهَذانِ لَولا اِنقِلابُ الزَمانِ

أَفي العيرِ هَذانِ أَم في النَفير

وَلَكِنَّها فِتَنٌ كَالجِبالِ

تَرَفَّعَ فيها الوَضيعُ(٢) الحَقير

____________________

(١) أبو نواس (ص ١٠٣ - ١٠٤) لابن منظور.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٣٠٩.

٢١١

الرشيد هو المسؤول عن هذه الأحداث:

وألقى الرشيد العداء والفتنة بين أبنائه فقد نصب الأمين ملكاً من بعده، وجعل المأمون ولي عهده، وكتب بذلك العهود والمواثيق، وأشهد عليها، وعلّقها في جوف الكعبة، مع علمه بالعداء العارم بين الأخوين فكانت النتيجة هي الأحداث المؤسفة التي ذهب ضحيّتها عشرة آلاف من المواطنين، وتخربت بغداد، وقد أعرب بعض الشعراء عن أسفه العميق على ما فعله الرشيد يقول:

أقول لغمّة في النفس منّي

ودمع العين يطّرد اطرادا

خذي للهول عدته بحزمٍ

ستلقي ما سيمنعك الرقادا

فإنّك إن بقيت رأيت أمراً

يطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذّب شرّ رأي

بقسمته الخلافة والبلادا

رأى ما لو تعقّبه بعلم

لبيض من مفارقة السوادا

أراد به ليقطع عن بنيه

خلافهم ويبتذلوا الودادا

فقد غرس العداوة غير آل

وأورث شمل ألفتهم بدادا

وألقح بينهم حرباً عواناً

وسلس لاجتنابهم القيادا

فويل للرعيّة عن قليل

لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألبسها بلاءً غير فانٍ

وألزمها التضعضع والفسادا

ستجري من دمائهم بحور

زواخر لا يرون لها نفادا

فوزر بلائهم أبداً عليه

أغيّاً كان ذلك أم رشادا(١)

الحروب الطاحنة:

وبعد ما خلع الأمين أخاه المأمون رسمياً عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون ولا تقتله حتى تقدم به إليّ، وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولـمّا انتهت الأنباء من بغداد بالإجراءات التي أتخذها الأمين ضد أخيه، بادر المأمون فخلع أخاه، ونصب نفسه حاكماً عاماً على العالم الإسلامي وقطع الخراج عن الأمين، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب إلى قتاله طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، وجهّزهما بجيش.

____________________

(١) تاريخ الطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍ـ.

٢١٢

والتقى الجيشان بـ‍ (الري)، والتحما في معركة رهيبة، جرت فيها أنهار من الدماء، وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام لقواته المسلحة، وانتهت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الرائع، ويهنئه فيه، وجاء في رسالته (كتبت إليك ورأس علي بن عيسى في حجري وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين).

وبادر الفضل فسلّم عليه بالخلافة وبشّره بهذا الانتصار، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك وسمّاه (ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين) وأمره بالتوجّه إلى العراق لاحتلال بغداد، والقضاء على أخيه.

ولـمّا علم الفضل بن الربيع وزير الأمين بهزيمة الجيش، ومقتل علي بن عيسى بن ماهان أسقط ما في يده، وأيقن بالرزء القاصم الذي حل بهم، وفي ذلك يقول الشاعر:

عجبت لمعشر يرجون نجحاً

لأمر ما تتمّ به الأمورُ

وكيف يتم ما عقدوا وراموا

وأس بنائهم فيه الفجورُ

أهاب إلى الضلال بهم غوي

وشيطان مواعده غرورُ

يصيب بهم ويلعب كل لعب

كما لعبت بشاربها الخمورُ

وكادوا الحق والمأمون غدراً

وليس بمفلح أبداً غرورُ

هو العدل النجيب البر فينا

تضمّن حبّه منّا الصدورُ

وعاقبة الأمور له يقينا

به شهد الشريعة والزبورُ(١)

وحكى هذا الشعر انتصار المأمون، وأنّه الفائز بالخلافة وأنّه لا يتم أمر الأمين؛ لأنّ الذين ناصروه كان أسُّ بنائهم قائماً على الفجور والبغي، وأنّ أنصاره قد أهاب بهم الضلال والغي، وأنّ المنتصر هو المأمون فإنّه العدل النجيب الذي عقد له الولاء في قلوب الناس.

محاصرة بغداد:

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، وقد

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٣١٠.

٢١٣

حاصرت بغداد، وأيقن الأمين بالهزيمة فكتب إلى طاهر يطلب منه الأمان لنفسه وعائلته، وأنصاره، وأنّه يستقيل من الخلافة لأخيه، فقال طاهر: (الآن ضيّق خناقه، وهيض جناحه، وانهزم فساقه، لا والذي نفسي بيده حتى يضع يده في يدي، وينزل على حكمي).

ولم يجبه إلى شيء ممّا أراد.

ودام الحصار على بغداد مدة طويلة حتى تخربت فيها معالم الحضارة، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكّانها وكثر العابثون والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء ونهب الأموال، ومطاردة النساء، وانبرى جماعة من خيار الناس بقيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين من إيذاء الناس، وتصدّوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد.

وعلى أي حال فقد منيت بغداد بأفدح الخسائر، وفقدت زينتها وشبابها، وشاع الثكل والحزن والحداد في جميع أنحائها، وقد رثاها جماعة من الشعراء يقول الأعمى في قصيدة له:

وأبكي لإحراق وهدم منازل

وقتل وانهاب اللهى والذخائرِ

وإبراز ربات الخدور حواسراً

خرجن بلا خمرٍ ولا بمآزرِ

تراها حيارى ليس تعرف مذهباً

نوافر كأمثال الظباء النوافرِ

كأن لم تكن بغداد أحسن منظراً

وملهى رأته عين لاهٍ وناظرِ

بلى هكذا كانت فأذهب حسنها

وبدّد منها الشمل حكم المقادرِ

وحلّ بهم ما حلّ بالناس قبلهم

فأضحوا أحاديثاً لبادٍ وحاضرِ

أبغداد يا دار الملوك ومجتنى

صفوف المنى يا مستقر المنابرِ

ويا جنّة الدنيا ويا مطلب الغنى

ومستنبط الأموال عند المتاجرِ

أبيني لنا أين الذين عهدتهم

يحلّون في روض من العيش ناضرِ

وأين الملوك في المواكب تغتدي

تشبّه حسناً بالنجوم الزواهرِ

والقصيدة كلها توجّع وألم على ما حلّ ببغداد من الدمار الشامل في الأموال والأنفس، ويصف شاعر آخر حالة بغداد، وما حلّ بها من الخراب يقول:

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٣١٣.

٢١٤

مَن ذا أصابك يا بغداد بالعين

ألم تكوني زماناً قرّة العينِ

ألم يكن فيك قوم كان قربهم

وكان مسكنهم زيناً من الزينِ

صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا

ماذا لقيت بهم من لوعة البينِ(١)

ورثى شاعر آخر بغداد وما حلّ بأهلها من الخطوب والنكبات يقول:

بكت عيني على بغداد لـمّا

فقدت غضارة العيش الأنيقِ

تبدّلنا هموماً من سرورٍ

ومن سعةٍ تبدّلنا بضيقِ

أصابتنا من الحسّاد عينٌ

فأفنت أهلنا بالمنجنيقِ

فقوم أحرقوا بالنار قسراً

ونائحة تنوح على غريقِ

وصائحة تنادي يا صحابي

وقائلة تقول أيا شقيقي

وحوراء المدامع ذات دلٍّ

مضمّخة المجاسد بالخلوقِ

تنادي بالشفيق فلا شفيق

وقد فقد الشفيق مع الرقيقِ

وقوم أخرجوا من ظل دنيا

متاعهم يباع بكل سوقِ

ومغترب بعيد الدار ملقى

بلا رأس بقارعة الطريقِ

توسّط من قتالهم جميعاً

فما يدرون من أي الفريقِ

فلا ولد يقيم على أبيه

وقد هرب الصديق عن الصديقِ(٢)

وحكت هذه القصيدة الحالة الراهنة في بغداد من انتشار القتل، وفقدان الأمن، وشيوع الخوف في جميع أرجاء بغداد.

قتل الأمين:

وكان الأمين في تلك المحنة الحازبة مشغولاً بلهوه وطربه، وقد أحاطت به جيوش المأمون، ويروي المؤرّخون أنّه كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم، وكان من بينهم (كوثر) وكان مغرماً به فخرج ينظر إلى الجيش المحيط بالقصر فأصابته شجة في وجهه فجعل يبكي، فوجّه الأمين من جاء به فجعل يمسح الدم من وجهه وهو يقول:

ضربوا قرّة عيني ومن أجلي ضربوه

أخذ الله من قلبي لأناس حرقوه(٣)

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٣١٦.                                       (٢) مروج الذهب ٣ / ٣١٧.

(٣) روضة الأعيان في أخبار مشاهير الزمان، مصوَّر في مكتبة السيد الحكيم تسلسل ٣٩٠٢ ورقة ١٠٣.

٢١٥

وكانت الأنباء تتوافد عليه بهزيمة جيشه، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك كله، وكان مشغولاً مع كوثر في صيد الأسماك التي جعلها في حوض كبير له، وكان يقول: (يصطاد كوثر ثلاث سمكات وما صدت إلاّ سمكتين).

وكان بهذه الحالة المزرية مشغولاً بلهوه حتى هجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح، وتلا قوله تعالى:( اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (١) .

وهجاه بعض الشعراء بقوله:

إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً

فاحكم على ملكه بالويل والخربِ

أما ترى الشمس في الميزان هابطة

لما غدا وهو برج اللهو والطربِ(٢)

وبعث طاهر برأس الأمين إلى المأمون في (خراسان) فلمّا رآه حزن وتأسّف فقال له الفضل:

(الحمد الله على هذه النعمة الجليلة فإنّ محمّداً كان يتمنى أن يراك بحيث رأيته).

وأمر المأمون بنصب رأس أخيه في صحن الدار وقد وضع على خشبة، وأعطى الجند، وأمر كل مَن قبض رزقة أن يلعنه فكان الجندي يقبض رزقه ويلعن الرأس وقبض بعض العجم عطاءه فقيل له: العن هذا الرأس فقال: لعن الله هذا ولعن

والديه وأدخلهم في كذا وكذا من أمهاتهم، فقيل له: لعنت أمير المؤمنين، وكان المأمون يسمعه فتغافل عنه، وأمر بحط رأس أخيه وردّه إلى العراق فدُفن مع جثّته(٣) .

وانتهت بذلك حياة الأمين، وقد حكت عن قساوة المأمون وعدم رأفته على أخيه، فقد سلب الرحمة من نفسه، وما ذاك إلاّ لحرصه على الملك.

ولم تظهر لنا أيّة بوادر للإمام الرضاعليه‌السلام في عهد الأمين، لعلّ السبب في ذلك هو انشغاله في الحرب مع أخيه فقد أشغلته هذه الحرب عن التعرّض للإمامعليه‌السلام بأيّ مكروه.

____________________

(١) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢١١.

(٢) حياة الحيوان للدميري ١ / ٧٨.

(٣) مروج الذهب (ص ٢٢٥ - ٢٢٦).

٢١٦

حكومة المأمون:

وقبل أن نتحدث عن شؤون الإمام الرضاعليه‌السلام في عهد المأمون، نعرض - بإيجاز - إلى إعطاء صورة عنه، وهي كما يلي:

أُمّه:

أمّا أم المأمون فكانت أمة وهي إحدى خادمات قصر الرشيد، وقد عهد إليها بطبخ الطعام، ويصفها المؤرّخون بأنّها كانت أشوه وأقذر جارية في مطبخ الرشيد، أمّا السبب في ملامسة الرشيد لها فتعزوه بعض المصادر إلى أنّ السيدة زبيدة لعبت مع الرشيد الشطرنج فغلبته، فحكمت عليه أن يطأ أقبح جارية في المطبخ، وهي (مراجل) فأبى هارون ذلك، وبذل لها خراج مصر والعراق لتعفيه، فأبت، ولم تقبل، وانصاع إلى حكمها فوطأ (مراجل) فعلقت منه المأمون(١) ، وقد ولد سنة (١٧٠ ه‍) وهي السنة التي استخلف بها الرشيد، فلمّا بشّر به سمّاه المأمون تيمّناً بذلك(٢) ، وقد توفّيت أمّه في النفاس، وقد تولّى تربيته الفضل بن سهل.

وقد اتخذ الحاقدون على المأمون من أمّه وسيلة لهجائه والتشهير به، وعدم لباقته لتولّي منصب الخلافة، يقول له أخوه الأمين:

وإذا تطاولت الرجال بفضلها

فاربع فإنّك لست بالمتطاولِ

أعطاك ربّك ما هويت وإنّما

تلقى خلاف هواك عند مراجلِ

تعلو المنابر كل يوم آملاً

ما لست من بعدي بواصلِ(٣)

وفي أيام الفتنة عيّره بأمّه وكتب إليه:

يا بن التي بيعت بأبخس قيمةٍ

بين الملا في السوق هل من زائدِ

ما فيك موضع غرزة من أبوة

إلاّ وفيه نطفة من واحدِ

فردّ عليه المأمون:

وإنّما أمّهات الناس أوعية

مستودعات وللأحساب آباءُ

فلربّ معربة ليست بمنجبةٍ

وطالما أنجبت في الخدر عجماءُ(٤)

____________________

(١) حياة الحيوان للدميري ١ / ٧٢.

(٢) عصر المأمون ١ / ٢١٠.

(٣) تأريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٣٠٤).

(٤) محاسن بغداد دار السلام (ص ١٢١).

٢١٧

وقال الرقاشي في مدحه للأمين وهو يعرض بمراجل أم المأمون: لم تلده أمة تعرف في السوق التجار(١)، وليس على المأمون أي نقص من جهة أمّه، فقد هدم الإسلام هذه النعرات الجاهلية، وساوى بين جميع أجناس البشر فليس لأحد على أحد فضل إلاّ بالتقوى.

صفات المأمون:

أمّا صفات المأمون ونزعاته النفسية فهي كما يلي:

الغدر:

أمّا الغدر فهو من ذاتيات المأمون، ومن عناصره فقد بايع الإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وبعد ما انتهت مآربه السياسية غدر به فدسّ له سمّاً

قاتلاً فقتله - كما سنوضّح ذلك في البحوث الآتية - وقد غدر بطائفة من أعلام عصره ممّن كان يحذر منهم وهم:

١ - عبد الله بن موسى الهادي:

وكان يندّد المأمون، وكان يعربد عليه إذا شرب معه فساء المأمون ذلك، فحبسه في منزله، وأقعد على بابه حرسا ثم أنّه أظهر له الرضى، وصرف الحرس عن بابه، وكان عبد الله مغرماً بالصيد فدس إلى خادم من خدمه فسقاه سمّاً في دراج وهو بـ (موسى باد) ولـمّا أحسّ بالسم قال لأصحابه: هو آخر ما تروني(٢) .

٢ - إسحاق بن موسى:

الهادي، وقد احتفت به فصائل من الجيش حينما كان المأمون في (خراسان) وأمرته، فاستولى على بعض المناطق فدسّ إليه المأمون ابنه وخادماً له فقتلاه وقاد به ابنه وقتل الخادم بالسياط(٣) .

٣ - حميد بن عبد الحميد:

الطوسي، دعاه المأمون لتناول الطعام، وكان عنده أحمد بن أبي خالد الأحول وهو من الحاقدين على حميد ومن أعدائه، ولـمّا قربت المائدة أجلس المأمون أحمد إلى

____________________

(١) الآداب السلطانية (ص ٢١٢).

(٢) أسماء المغتالين (ص ٢٠٠).

(٢) أسماء المغتالين (ص ١٩٩).

٢١٨

جانبه فساء ذلك حميد، وقال للمأمون: (يا أمير المؤمنين لا أماتني الله حتى يريني الدنيا عليك سهلة حتى ترى أينا أنفع لك).

وانتهز أحمد هذه الفرصة فقال للمأمون: (يا أمير المؤمنين إنّما يتمنى فساد ملكك والفتنة).

فغضب المأمون وقام عن المائدة، ولم يتم غذاءه، وقد أضمر ذلك في نفسه، ولـمّا أراد البناء بـ‍ (بوران) قال لحميد: يا أبا غانم قد أذنت لك في الحج، فانصرف حميد مسروراً وأمر بتهيئة أسباب السفر، ودخل جبريل بن بختيشوع على حميد فقال له: يا أبا غانم طر بدنك فإنّي أرجو أن تأتي بكل جارية معك حاملاً، وكان حميد مغرماً بالنكاح ثم سقاه شربة، وكان في مجلسه عبد الله الطيفوري، وكان متطبباً فلمّا رأى الشربة فهم الأمر، فقال لجبريل: (أبو غانم قد ضعف عن هذه؟).

وقصد بذلك أنّه انكشف له ما دبّر لأبي غانم من الاغتيال، وتناول أبو غانم الشربة، فأثرب به في الوقت، وجعل الطيفوري يداويه حتى تماثل للشفاء قليلاً إلاّ أنّه بعد ذلك أشربه السم وقضى عليه(١) .

٤ - الفضل بن سهل:

واغتال المأمون الفضل بن سهل، وكان وزيره ومستشاره إلاّ أنّه خشي منه فدسّ إليه مَن قتله في الحمّام، وسنوضح ذلك في البحوث الآتية.

هؤلاء بعض الذين اغتالهم المأمون، ومقتدياً بمعاوية فهو أوّل الملوك الذين فتحوا باب الاغتيال والغدر في الإسلام.

القسوة:

وظاهرة أخرى من صفات المأمون وهي القسوة وانعدام الرأفة من نفسه، فقد قتل أخاه، وحمل رأسه إليه، ولو كانت عنده نزعة من الرحمة لعفا عن

أخيه بعد ما طلب العفو والأمان وتسليم السلطة إليه، ومن قسوته أنّه بعد ما اغتال الإمام الرضاعليه‌السلام قابل السادة العلويين بمنتهى الشدّة والصرامة، فعهد إلى

____________________

(١) أسماء المغتالين (ص ١٩٩).

٢١٩

جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجدوا(١) .

الدهاء:

ولم تعرف الدبلوماسية الإسلامية في العصر العباسي مَن هو أدهى من المأمون، ولا مَن هو أدرى منه في الشؤون السياسية، فقد كان سياسياً من الطراز الأول، فقد استطاع بدهائه أن يتغلب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألـمّت به، وكادت تطوي حياته وسلطانه، فقد استطاع بمهارة فائقة أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتع بتأييد مكثف من قبل الأسرة العباسية والقيادات العسكرية العليا، كما استطاع أن يقضى على أعظم ثورة مضادة له، تلك ثورة القائد الملهم أبي السريا، التي اتسع نطاقها فشملت معظم الأقاليم الإسلامية، وقد سقط معظمها بأيدي الثوار، وكان شعار الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد حمل الإمام الرضاعليه‌السلام قسراً إلى (خراسان)، وهو الزعيم الأوحد للأسرة العلوية، والمرجع العام للعالم الإسلامي، فأرغمه على قبول ولاية العهد وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة مآثر الإمام أمير المؤمنين وباقي أفراد الأئمة الطاهرين، كما ضرب السكة باسم الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد أوهم الثوّار والقوى العسكرية التي كان معظمها يدينون بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام بأنّه علوي العقيدة وأنّه جاد في تحويل الخلافة إلى العلويين حتى أيقنوا أنّه لا حاجة لاستمرار الثورة، وإراقة الدماء وقضى بذلك على الثورات كما تعرّف في نفس الوقت على العناصر الشيعية التي عجز آباءه عن معرفتهم، وهذا التخطيط السياسي - فيما أحسب - من أروع المخططات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التأريخ(٢) .

الميل إلى اللهو:

وكان المأمون شديد الميل إلى اللهو، وكان بعض ما أثر عنه في ذلك ما يلي:

أ - لعبه بالشطرنج:

وأهم لعبة عند المأمون وأحبها إليه هي الشطرنج(٣) فقد هام فيها، وقد وصفها بهذه الأبيات:

____________________

(١) حياة الإمام الرضا.

(٢) حياة الإمام محمد الجواد (ص ٢٣١ - ٢٣٢).

(٣) العقد الفريد ٣ / ٢٥٤.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375