حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204638 / تحميل: 8466
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

هذا، فضلاً عن حقد الأمويين على الأنصار، والذي لم يتردّد الأمويون في إظهاره لهم، ومن هنا لم يتلكّأ أهل المدينة في إخراج عامل يزيد عليها، فحاصروا بني أمية وأتباعهم، وكلّم مروان بن الحكم ـ وهو العدوّ اللدود لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الإمام زين العابدينعليه‌السلام في منح الأمان له، فاستجاب الإمامعليه‌السلام لهذا الطلب تكرّماً(١) وإغضاءً عن كلّ ما ارتكبه هذا العدوّ في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، في دفن الإمام الحسنعليه‌السلام وفي الضغط على الإمام الحسينعليه‌السلام من أجل أخذ البيعة ليزيد.

ولمّا بلغ أمر الثورة إلى مسامع يزيد أرسل مسلم بن عقبة ليقضي على ثورة أهل المدينة ـ وهي مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومهبط وحي الله ـ وزوّده بتعليمات خاصّة تجاههم قائلاً له:

اُدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم، فإذا ظهرتَ عليهم فأبحها ـ أي المدينة ـ ثلاثاً، فما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند(٢) . وأمرهُ أن يُجهِز على جريحهم ويقتل مدبرهم(٣) .

وصل جيش يزيد إلى المدينة، وبعد قتال عنيف مع أهلها استبسل فيه الثائرون دفاعاً عن دينهم، واستشهد أغلب المدافعين بمن فيهم عبد الله بن حنظلة ومجموعة من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفّذ قائد الجيش أوامر سيّده يزيد، وأوعز إلى جنوده باستباحة المدينة، فهجم الجند على البيوت وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، كما أسروا آخرين.

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٤ /٤٨٥ ، والكامل في التأريخ : ٤ / ١١٣.

(٢) الطبري : ٥ / ٤٨٤ وعنه في الكامل.

(٣) التنبيه والإشراف: ٢٦٣ ط. القاهرة.

٦١

قال المؤرّخ ابن كثير: أباح مسلم بن عقبة ـ الذي يقول فيه السلف (مسرف بن عقبة) قبّحه الله من شيخ سوء ما أجهله ـ المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد ـ لا جزاه الله خيراً ـ وقتل خلقاً من أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها... وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك وابني في الأُسارى، فقال: عجّلوه لها، فضرب عنقه، وقال: أعطوها رأسه، ووقعوا على النساء حتى قيل: إنّه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج.

قال المدائني، عن هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوج. وروي عن الزهري أنّه قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي ممّن لا أعرف من حرٍّ وعبد وغيرهم عشرة آلاف(١) .

وحدث مرةً أن دخلت الجيوش الشامية أحد البيوت، فلمّا لم يجدوا فيه إلاّ امرأة وطفلاً سألوها إن كان في البيت شيء ينهبونه، فقالت: إنّه ليس لديها مال، فأخذوا طفلها وضربوا رأسه بالحائط فقتلوه بعد أن انتثر دماغه من أثر الضرب بالحائط(٢) .

ثمّ نصب كرسيّ لمسلم بن عقبة، وجيء بالأُسارى من أهل المدينة فكان يطلب من كلّ واحد منهم أن يبايع ويقول: إنّني عبد مملوك ليزيد بن

ــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٨ / ٢٢٠ ، وتأريخ الخلفاء: ٢٣٣. أمّا الطبري فلم يذكر إلاّ إباحة القتال والأموال ثلاثة أيام: ٥/٤٩١ وترك ذكر الفروج وتبعه الجزري في الكامل.

(٢) تاريخ ابن عساكر : ١٠ / ١٣، المحاسن والمساوئ: ١ / ١٠٤.

٦٢

معاوية يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء(١) .

وكلّ من كان يمتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد وكان يصرّ على القول بأنّه عبدٌ لله ـ سبحانه وتعالى ـ كان مصيره القتل(٢) .

وجيء له بيزيد بن عبد الله ـ وجدّته أم سلمة زوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع محمد بن حذيفة العدوي، فطلب اليهما أن يبايعا، فقالا: نحن نبايع على كتاب الله وسنّة نبيّه، فقال مسلم: لا والله لا أقيلكم هذا أبداً، فقدّمهما فضرب أعناقهما.

فقال مروان بن الحكم ـ وكان حاضراً ـ : سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما؟! فنخس مسلم مروان بالقضيب في خاصرته، ثمّ قال له: وأنت والله لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء إلاّ برقة (أي لقُتِلْتَ)(٣) .

ثمّ جيء بآخر فقال : إنّي أبايع على سنّة عمر، فقال: اقتلوه، فقتل(٤) .

وأُتي بزين العابدينعليه‌السلام إلى مسلم بن عقبة، وهو مغتاظ عليه فتبرّأ منه ومن آبائه. فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممّن قدّم إلى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثمّ انصرف عنه.

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ٥/٤٩٣ و ٤٩٥ وعنه في الكامل في التاريخ: ٤/١١٨ وفي مروج الذهب ٣: ٧٠، الكامل في التاريخ ٤: ١١٨، والبداية والنهاية ٨ : ٢٢٢. وقد جاء في تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥١: كان الرجل من قريش يؤتى به فيقال: بايع على أنّك عبد قنّ ليزيد، فيقول: لا. فيضرب عنقه.

(٢) الكامل في التأريخ : ٤ / ١١٨، مروج الذهب : ٣ / ٧٠.

(٣) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٢ وعنه في الكامل في التاريخ : ٤ / ١١٨.

(٤) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٣، الأخبار الطوال: ٢٦٥.

٦٣

فقيل لعليّ بن الحسينعليه‌السلام : رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟

قال:(قلت: اللهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه) .

قيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا أتي به إليك رفعت منزلته؟ فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلئ قلبي منه رعباً، ولم يبايع الإمامعليه‌السلام ليزيد كما لم يبايع عليّ بن عبد الله بن العباس، حيث امتنع بأخواله من كندة، فالحصين بن نمير نائب مسلم بن عقبة قال: لا يبايع ابن اختنا إلاّ كبيعة علي بن الحسين(١) .

وذكر المؤرّخون : أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام كفل في واقعة الحرّة أربعمئة امرأة من عبد مناف، وظلّ ينفق عليهنّ حتى خروج جيش مسلم من المدينة(٢) .

وجاء الحديث من غير وجه: أنّ مسرف بن عقبة لمّا قدم المدينة أرسل إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام فأتاه، فلما صار إليه قرّبه وأكرمه وقال له: أوصاني أمير المؤمنين ببرّك وتمييزك من غيرك...(٣) .

وواضح أنّ البيعة إذا ما عرضت بشرطها الاستعبادي على الإمامعليه‌السلام فإنّه سيستمرّ على نهجه الرافض، وأنّ معنى الرفض هنا إنّه يتضرّج بدمائه الزكية، وهذا يعني دخول صورة من صور النقمة العارمة ضد الممارسات الأموية القمعية التي سوف تزلزل أعمدة الكيان الحاكم.

ــــــــــــــ

(١) النظرية السياسية لدى الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، محمود البغدادي: ٢٧٣. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ـ الطبعة الأولى سنة ١٤١٥هـ .

(٢) كشف الغمة : ٢/٣١٩ عن نثر الدرر للآبي (ق ٤ هـ) عن ابن الأعرابي.

(٣) الإرشاد: ٢/١٥٢ .

٦٤

وبعد انتهاء الأيام الدامية على مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مسلم بن عقبة: اللّهمّ إنّي لم أعمل عملاً قط بعد شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة(١) .

كان مسلم في تلك الأيام قد تجاوز التسعين من عمره، أي انّه كان قريباً جداً من حتفه وقد هلك بُعيد وقعة الحرّة وقبل أن يصل إلى مكة، وكان من الذين لم يحملوا من الإسلام إلاّ اسمه، ووظّفوا ظاهر القرآن والحديث لتسويغ جرائمهم، فقد كان من المخلصين لمعاوية بن أبي سفيان، وفي صفّين كان يقود معسكر معاوية بن أبي سفيان ضد الخليفة الشرعي للمسلمين، ألا وهو الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام (٢) .

ولعلّه لم يسمع حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي جاء فيه: (من أخاف أهل المدينة أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (٣) .

ولعلّه قد سمع هذا الحديث، لكنّه لمّا وجد من يعتبر نفسه خليفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تجرّأ على قتل ابن بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبي بناته من مدينة إلى أُخرى، دون أن يعترض عليه أحد، فمِمّ يخشى هو إن اعتدى على مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

وبعد أن قمع بوحشيّة ثورة أهل المدينة وأجهض انتفاضتهم; توجّه مسلم إلى مكة التي أعلن فيها عبد الله بن الزبير ثورته على الحكم الأموي،

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٧ وعنه في الكامل في التاريخ: ٤/١٢٣ .

(٢) وقعة صفين : ٢٠٦ و ٢١٣ وفي الإصابة : ٣ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

(٣) البداية والنهاية : ٨ / ٢٢٣، رواه عن النسائي، وروى مثله عن أحمد بن حنبل. اُنظر أحاديث أُخرى عن هذا الموضوع في كنز العمال، كتاب الفضائل الحديث ٣٤٨٨٦، ووفاء الوفاء: ٩٠، وسفينة البحار: ٨/٣٨ ، ٣٩ عن دعائم الإسلام.

٦٥

لكنّه لقي حتفه في الطريق، فتسلّم الحصين بن نمير قيادة الجيش الأموي بناءً على أوامر يزيد، وعندما وصل أطراف مكة فرض حصاراً عليها وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها(١) .

وفي الوقت الذي كانت فيه مكّة تحت حصار الجيش الأموي لقي يزيد حتفه، فعقد قائد الجيش الأموي ـ الذي لم يكن وقتذاك يعرف زعيمه الذي يقاتل معه ـ مفاوضات مع ابن الزبير أعرب له فيها عن استعداده لقبول بيعته شريطة أن يرافقه إلى الشام، إلاّ أنّ ابن الزبير رفض الشرط، فعاد الحصين وجيشه إلى الشام.

انشقاق البيت الأموي :

مات يزيد في ربيع الأول من سنة (٦٤ هـ) وهو في سنّ الثامنة والثلاثين من عمره في حُوّارين، وكانت صحيفة أعماله في مدّة حكمه ـ الذي استمر ثلاث سنوات وبضعة أشهر ـ مُسودّة بقتل ابن بنت النبيّ وأسر أهل بيت الوحي وحرائر الرسالة إلى جانب القتل الجماعي لأهل المدينة وهدم الكعبة المشرّفة.

وبعد موت يزيد بايع أهل الشام ولده معاوية، إلاّ أنّ حكمه لم يستمر أكثر من أربعين يوماً، إذ أعلن تنازله عن العرش، ومات بعدها في ظروف غامضة، فانشقّت القيادات المؤيّدة لبني أمية على نفسها إلى كتلتين: كتلة أيّدت زعامة مروان بن الحكم، وقد مثّل هذا الاتجاه القبائل اليمانية بقيادة حسّان الكلبي، بينما أيّدت قوى القيسيّين بقيادة الضحّاك بن قيس الفهري، عبد الله بن الزبير.

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٩٨ وعنه في الكامل في التأريخ : ٤ / ٢٤ عن الكلبي عن عوانة بن الحكم، ثم روى أخباراً عن ابن عمر تحاول نسبة الحرق إلى أصحاب ابن الزبير خطأً، في محاولة لتبرير يزيد الشّرير.

٦٦

وإبّان خلافة يزيد القصيرة امتدّت; أيدي الكلبييّن تدريجياً إلى مراكز السلطة، فمارسوا ضغوطاً شديدة على القيسييّن،الأمر الذي أزعج الضحّاك كثيراً فانتهز الفرصة بعد موت يزيد ليبايع ابن الزبير ـ وهو من العرب العدنانية ـ واشتبك الكلبيّون والقيسيّون في (مرج راهط) (١) في معركة أسفرت عن انتصار الكلبيّين، فأصبح مروان بن الحكم خليفة، واستقرّت الأوضاع المضطربة في الشام نسبيّاً.

تزايد المعارضة للحكم الأموي :

صعّد عبد الله بن الزبير معارضته للشام التي بدأها بعد موت معاوية، حيث كان قد دعا الحجازييّن لمبايعته كخليفة للمسلمين، فاستجابت له الأكثرية الساحقة منهم، وشهد العراق من جديد تحرّكات ضد الحكم الأموي.

ويبدو أنّ الذين دعو الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق عبر الرسائل المتوالية ورحّبوا بممثّله إليهم ثمّ تخلّوا عنه وعن الحسينعليه‌السلام بتلك الصورة المخزية ندموا على موقفهم المُذلّ ذاك، لكن هل الذين تحرّكوا ضدّ الشام كانوا نادمين جميعاً؟

الجواب : كلاّ، فليس جميع الذين تحركوا بعد موت يزيد كانوا يحملون همّ الإسلام، فقد كان هناك من يريد إخضاع الشام للعراق وإعادة عاصمة الخلافة إلى العراق.

وعلى أيّ حال، فقد أعلن المتديّنون والسياسيّون معارضتهم ضد حكم

ــــــــــــــ

(١) منطقة في شرق دمشق.

٦٧

الشام، لكنّهم لم يحققوا شيئاً يذكر(١) على صعيد إسقاط الحكم على المدى القريب، فقتل سليمان بن صرد قائد التوّابين، ورجع من بقي من جيشه إلى الكوفة، وفي تلك الغضون أظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي دعوته حاملاً شعار يا لثارات الحسينعليه‌السلام .

بدأ المختار بإعداد الشيعة للثورة بعد فشل ثورة التوّابين، وكان يعرف جيداً أنّ أيّ تحرّك شيعي يقتضي زعامة من أهل بيت الرسالةعليهما‌السلام ، وأنّ الانطلاق ينبغي أن يتمّ باسمهم ومَن أفضل من عليّ بن الحسينعليه‌السلام ؟ وإن رفض الإمام الاستجابة لذلك فليس أمامه غير محمد بن علي بن أبي طالب وهو عمّ الإمام السجادعليه‌السلام .

من هنا كاتب المختار الإمام زين العابدينعليه‌السلام وعمّه معاً، أمّا الإمامعليه‌السلام ـ فلم يعلن عن تأييده الصريح له، لكنّهعليه‌السلام أمضى عمله عندما ثأر من قتلة أبيه الحسينعليه‌السلام . أمّا عمه محمد بن الحنفيّة فقد أجاب على سؤال الوفد الذي جاء من الكوفة ليستفسر عن مدى شرعية الانضواء تحت راية المختار قائلاً: أما ما ذكرتم من دعاء مَن دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أنّ الله انتصر لنا من عدوّنا بمن شاء من خلقه(٢) .

وفهم الوفد تأييد ابن الحنفية لحركة المختار وهكذا استطاع المختار أن يستقطب كبار الشيعة مثل إبراهيم بن مالك الأشتر وغيره.

ــــــــــــــ

(١) زندگاني عليّ بن الحسين (= حياة الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام ) : ٩٢.

(٢) تاريخ الطبري : ٦/١٢ ـ ١٤ برواية أبي مخنف وابن نما الحلّي في كتابه: شرح الثأر روى عن والده : أنّه قال لهم: قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم علي بن الحسين، فلمّا دخلوا عليه وأخبروه خبرهم الذي جاؤوا لأجله قال لعمّه محمّد : يا عمّ، لو أن عبداً زنجيّاً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد وليّتك هذا الأمر فاصنع ما شئت. فخرجوا وهم يقولون : قد أذن لنا زين العابدين ومحمّد بن الحنفية، كما روى عنه في بحار الأنوار : ٤٥/٣٦٥ .

٦٨

وأرسل المختار رأسَيْ عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد إلى الإمام فسجدعليه‌السلام شكراً لله تعالى وقال:(الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى الله المختار خيراً) (١) .

وقال اليعقوبي: ووجّه المختار بالرأس الخبيث (أي: رأس ابن زياد) إلى الإمام عليّ بن الحسين، وعهد إلى رسوله بأن يضع الرأس بين يدي الإمام وقت ما يوضع الطعام على الخوان بعد الفراغ من صلاة الظهر، وجاء الرسول إلى باب الإمام، وقد دخل الناس لتناول الطعام، فرفع الرجل عقيرته ونادى: يا أهل بيت النبوّة! ومعدن الرسالة،ومهبط الملائكة، ومنزل الوحي! أنا رسول المختار بن أبي عبيدة الثقفي ومعي رأس عبيد الله بن زياد... ولم تبق علوية في دور بني هاشم إلاّ صرخت(٢) ، ويقول المؤرّخون: إنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام لم يُرَ ضاحكاً منذ أن استشهد أبوه إلاّ في اليوم الذي رأى فيه رأس ابن مرجانة(٣) .

وعن بعض المؤرّخين: أنّه لمّا رأى الإمام رأس الطاغية قال:(سبحان الله، ما اغتّر بالدنيا إلاّ من ليس لله في عنقه نعمة، لقد أُدخل رأس أبي عبد الله على ابن زياد وهو يتغدّى) (٤) .

سنوات المحن والاضطرابات :

كانت الفترة الممتدّة بين عامي (٦٦ و ٧٥ هـ) بالنسبة للشام والحجاز

ــــــــــــــ

(١) رجال الكشي: ١٢٧ ح ٢٠٣ وعنه في. المختار الثقفي: ١٢٤.

(٢) تأريخ اليعقوبي : ٢/٢٥٩ ط بيروت.

(٣) المصدر السابق .

(٤) العقد الفريد :٥ / ١٤٣.

٦٩

والعراق فترة محن واضطرابات، فلم يتحقّق في هذه المناطق الهدوء والأمن. وشهد الحجاز هجوم قوات عبد الملك على مكة ومقتل عبد الله بن الزبير، إلاّ أنّ نصيب العراق من الاضطرابات كان أكبر من المنطقتين السابقتين. ويمكن القول بجرأة أنّ ما لحق بأهل العراق كان هو النتيجة الطبيعية لدعاء سبط الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم، إذ رفع الإمام الحسينعليه‌السلام يده بالدّعاء في كربلاء وقال :(اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف وسلّط عليهم غلام ثقيف فيسومهم كأساً مصبَّرة فإنّهم كذّبونا وخذلونا ...) (١) .

وانتقم الله تعالى من أهل العراق الذين كذّبوا الحسين بن عليّعليه‌السلام وخذلوه بواسطة رجل إرهابي مستبد هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان (لا يصبر عن سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره)(٢) .

واتّخذ الحجّاج سجوناً لا تقي من حرٍّ ولا برد، وكان يعذّب المساجين بأقسى ألوان العذاب وأشدّه، فكان يشدّ على يد السجين القصب الفارسي المشقوق، ويجر عليه حتى يسيل دمه.

يقول المؤرّخون: إنّه مات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة منهنّ ستّ عشرة ألف مجرّدات، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد(٣) وأحصي في سجنه ثلاثة وثلاثون ألف سجين لم يحبسوا في دَين ولا تبعة(٤) ، وكان يمرّ على أهل السجن فيقول لهم:( اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٥/٤٥١ وعنه في وقعة الطف: ٢٥٤ وقريباً منه في الإرشاد : ٢/١١٠، ١١١. وليس فيه: سنين كسنيّ يوسف ، ولا غلام ثقيف .

(٢) حياة الحيوان : ١٦٧ .

(٣) حياة الحيوان : ١ / ١٧٠.

(٤) معجم البلدان : ٥ / ٣٤٩.

٧٠

تُكَلِّمُونِ ) (١) .

وقد كان يسخر من المسلمين الذين يزورون قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول: تباً لهم، إنّما يطوفون بأعواد و رمّة بالية، هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله(٢) ؟!

وعهد عبد الملك بن مروان بالملك من بعده إلى ولده الوليد، وأوصاه بالإرهابي الحجّاج خيراً، وقال له: وانظر الحجاج فأكرمه، فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناواك، فلا تسمعنّ فيه قول أحد وأنت إليه أحوج منه إليك، وادع الناسَ إذا متُّ إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا...(٣) .

ومثّلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشرّ حتى الساعات الأخيرة من حياته، إذ لم يبق بعدها إلاّ لحظات حتى وافته المنيّة، وكانت وفاته في شوال سنة (٨٦ هـ)(٤) وقد سئل عنه الحسن البصري فقال: ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته(٥) .

ــــــــــــــ

(١) تهذيب التهذيب : ٢ / ٢١٢.

(٢) شرح النهج : ١٥ / ٢٤٢ عن كتاب: افتراق هاشم وعبد شمس للدبّاس. وقد ورد الخبر قبله في الكامل للمبرّد : ١/٢٢٢. وفي سنن أبي داود: ٤/٢٠٩ والبداية والنهاية : ٩/١٣١ والنصائح الكافية لابن عقيل: ١١ عن الجاحظ ، وفي رسائل الجاحظ : ٢/١٦.

(٣) تاريخ الخلفاء: ٢٢٠.

(٤) البداية والنهاية : ٩ / ٦٨.

(٥) مروج الذهب : ٣ / ٩٦.

٧١

الفصل الثالث: استشهاد الإمام زين العابدينعليه‌السلام

وتقلّد الوليد أزمّة الملك بعد أبيه عبد الملك بن مروان، وقد وصفه المسعودي بأنّه كان جبّاراً عنيداً ظلوماً غشوماً(١) ، حتّى طعن عمر بن عبد العزيز الأموي في حكومته، فقال فيه: إنّه ممن امتلأت الأرض به جوراً(٢) .

وفي عهد هذا الطاغية الجبّار استشهد العالم الإسلامي الكبير سعيد بن جبير على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي أعتى عامل أموي.

وقد كان الوليد من أحقد الناس على الإمام زين العابدينعليه‌السلام لأنّه كان يرى أنّه لا يتمّ له الملك والسلطان مع وجود الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

فقد كان الإمامعليه‌السلام يتمتّع بشعبية كبيرة، حتّى تحدّث الناس بإعجاب وإكبار عن علمه وفقهه وعبادته، وعجّت الأندية بالتحدّث عن صبره وسائر ملكاته، واحتلّ مكاناً كبيراً في قلوب الناس وعواطفهم، فكان السعيد من يحظى برؤيته، ويتشرّف بمقابلته والاستماع إلى حديثه ، وقد شقّ على الأمويين عامّة هذا الموقع المتميّز للإمامعليه‌السلام وأقضّ مضاجعهم، وكان

ــــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٣ / ٩٦.

(٢) تأريخ الخلفاء : ٢٢٣.

٧٢

من أعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك(١) الذي كان يحلم بحكومة المسلمين وخلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وروى الزهري: عن الوليد أنّه قال : لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا(٢) .

فأجمع رأيه على اغتيال الإمام زين العابدينعليه‌السلام حينما آل إليه الملك، فبعث سمّاً قاتلاً إلى عامله على يثرب، وأمره أن يدسّه للإمامعليه‌السلام (٣) ونفّذ عامله ذلك، فسَمَتْ روح الإمام العظيمة إلى خالقها بعد أن أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها وعباداتها وجهادها وتجرّدها من الهوى.

وقام الإمام أبو جعفر محمد الباقرعليه‌السلام بتجهيز جثمان أبيه، وبعد تشييع حافل لم تشهد يثرب نظيراً له; وجيء بجثمانه الطاهر إلى بقيع الفرقد، فحفروا قبراً بجوار قبر عمّه الزكيّ الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام سيّد شباب أهل الجنة وريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأنزل الإمام الباقرعليه‌السلام جثمان أبيه زين العابدين وسيّد الساجدينعليه‌السلام فواراه في مقرّه الأخير.

فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً

ــــــــــــــ

(١) هناك من المؤرّخين من يرى أنّ هشام بن عبد الملك هو الذي دسّ السمّ للإمام عليه‌السلام ، راجع بحار الأنوار: ٤٦/١٥٣، ويمكن الجمع بين الرأيين فيكون أحدهما آمراً والآخر منفّذاً للجريمة.

(٢) راجع : حياة الإمام زين العابدين : ٦٧٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٥٣ عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : ١٩٤ .

٧٣

الباب الرابع: فيه فصول:

الفصل الأول: نظرة عامة في مسيرة أهل البيتعليهم‌السلام الرسالية.

الفصل الثاني: ملامح عصر الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الثالث: تخطيط الإمام زين العابدينعليه‌السلام وجهاده.

الفصل الرابع: ظواهر فذة في حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الأوّل: نظرة عامة في مسيرة أهل البيتعليهم‌السلام الرسالية

للوصول إلى التصور الصحيح عن المسيرة الرساليّة لأهل البيتعليهم‌السلام الرسالية لابدّ أن نجيب على الأسئلة التالية:

١ ـ ما هي الرسالة الإسلامية؟

٢ ـ وما هي الأخطار التي كانت تواجهها؟

٣ ـ وما هي التحصينات التي كان ينبغي اتّخاذها ضد تلك الأخطار.

وقبل الإجابة نقول: هناك نظرتان أساسيتان للكون ولموقف الإنسان منه.

النظرة الأولى :أن الكون مملكة لمليك قدير يراقب من وراء الستار مراقبة غير منظورة. والإنسان في الكون هو الأمين والخليفة لا الأصيل والمتحكم; لأن هذه مملكة غيره بكل ما فيها من وجود بما فيها نفس الإنسان. والإنسان إنّما يقوم بأعباء الخلافة والأمانة. وهذه الخلافة والأمانة تستبطن ضرورة استيحاء الأمر والنهي والتدبير والتقدير والتقديم من قبل ذلك المليك القدير. والأمين لابد له أن يطبّق على الأمانة التي استؤمن عليها قرارات المالك. فلابد للإنسان إذن أن يكون رهن أوامر ذلك المليك القدير.

والجزء الآخر لهذه النظرية الأساسية: أن المسؤولية تستبطن الحساب والثواب والعقاب. وهما يستبطنان وجود عالم آخر وراء هذا العالم لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة. وحينئذ لا يكون الإنسان قيد هذا الشوط القصير في الدنيا، بل يكون رهن خط طويل، وعلى مستوى أهداف كبيرة لا يستطيع هو أن يستنزفها; إذ تكون أوسع من عمر الإنسان في هذه الدنيا.

٧٤

وإذا أصبحت البشرية على مستوى الأهداف الكبيرة ـ لأنها انطلقت في غاياتها وفي ثباتها إلى أكثر من حدود هذه الدنيا الفانية ـ حينئذ تستطيع أن تقوم بأعباء تلك الأهداف الكبيرة.

والحضارة الإسلامية عبارة عن هذه النظرة الأساسية بكلّ شُعبها وفروعها التي ترجع بالنهاية إلى تجسيد كامل للعلاقة مع الله سبحانه وتعالى في تفاعل الإنسان في كلّ مجالاته الحيوية والكونية.

والنظرة الثانية : هي أن يرى الإنسان نفسه أصيلاً في هذا الكون، وأن هذا الكون غير خاضع لمليك ومراقبة من وراء الستار. وحينما تتركز في نظره هذه الأصالة وهذا الاستقلال بهذا الكون تنعدم المسؤولية، وإذا انعدمت المسؤولية بقي عليه هو أن يتحمل المسؤولية بنفسه.

فهو بدلاً من أن يشعر بأنه مسؤول ومراقب أمام جهة عُليا تضعه أمام أهداف كبرى في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير، هو يصنع لنفسه المسؤولية. وحينما يتحمّل هو وضع المسؤولية تكون هذه المسؤولية نتاج نفسه فينعكس فيما وضعه تمام ما في نفسه، أي تمام المحتوى الداخلي والروحي والحسي بكل ما فيه من نقص وانحراف.

وحينما يريد الإنسان أن يحدد لنفسه مسؤولياته ; فإنّما يحددّها على ضوء أهدافه التي سوف يحددها على ضوء ما يراه من الطريق الذي يريد سلوكه.

وحيث إن طريقه محدود في نطاق المادة فسوف تكون الأهداف على مستوى الطريق المحدود... وحينئذ سوف يخسر القيم الأخلاقية ويتولد عن ذلك ـ طبعاً ـ ألوان من الصراع والنزاع بين البشرية.

وجاء الإسلام لِيربي الإنسان على النظرية الأولى بحيث تصبح جزءً من وجوده وتجري مع دمه وعروقه وفكره وعواطفه وتنعكس على كل مجالات تصرفه وسلوكه مع الله سبحانه وتعالى ومع نفسه ومع الآخرين.

ولا بدّ للإسلام حينئذ أن يهيمن على هذا الإنسان، وعلى كل طاقاته وعلاقاته ليستطيع أن يربيه; وكلما كانت الهيمنة أوسع نطاقاً كانت التربية أكثر نجاحاً. فإنّ الأب قد لا ينجح في تربية ابنه لأن وجود ابنه ليس كله تحت هيمنته ; لأن هذا الابن هو ابنه وابن المجتمع أيضاً مادام يتفاعل معه ويتأثر به ويؤثر فيه ويتبادل معه العواطف والمشاعر والأفكار والانفعالات ، وقد يقيم معه علاقات في الحقول الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك من مجالات حياته، فهو ليس ابنه وحده بل ابن المجتمع أيضاً.

ومن الطبيعي أن يعجز كثير من الآباء عن تربية أبنائهم في المجتمع الفاسد.

٧٥

إذن فالتربية الكاملة لا تتحقق إلاّ إذا هيمن المربي على الإنسان هيمنة كاملة، على كل علاقاته الاجتماعية مع غيره بحيث يصبح تمام هذا الوجود تحت سيطرة هذا المربي، فيصير شخص واحد هو الأب وهو المجتمع. وحينئذ يصبح هذا مربّياً كاملاً.

وهذا ما صنعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين هيمن على العلاقات الاجتماعية لأنه تزعّم المجتمع بنفسه، فأنشأ مجتمعاً وقاده بنفسه ووقف يخطط لهذا المجتمع ويبني كل العلاقات داخل الإطار الاجتماعي: علاقة الإنسان مع نفسه وعلاقته مع ربّه وعلاقته مع عائلته وعلاقته مع بقية أبناء مجتمعه. ولهذا صارت كل هذه الأمور تحت هيمنته وبهذا استكمل الشرط الأساسي للتربية الناجحة(١) .

وبالرغم من أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مارس عملية التغيير الشاملة للمجتمع وأعرافه وأنظمته ومفاهيمه، لكن الطريق لم يكن قصيراً أمام عملية التغيير الشاملة هذه، بل كان طريقاً ممتداً بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام، فكان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبدأ بإنسان الجاهلية فتنشئه إنشاء جديداً ويجعل منه الإنسان الإسلامي الذي يحمل النور الجديد ويجتثّ منه كلّ جذور الجاهلية ورواسبها.

وقد خطا الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعملية التغيير هذه خطوات مدهشة في برهة قصيرة جدّاً(٢) حتّى وأنتجت التربية النبوية إنتاجاً عظيماً وحققت تحوّلاً فريداً.

ولكن الأمة الإسلامية ـ ككل ـ لم تكن قد عاشت في ظل عملية التغيير هذه إلاّ عقداً واحداً من الزمن على أكثر تقدير، وهذا الزمن لا يكفي عادةً في منطق الرسالات العقائدية والدعوات التغييرية ليرتفع الجيل الذي عاش في كنف الرسالة عشر سنوات فقط إلى درجة من الوعي والموضوعية والتّحرر من رواسب الماضي والاستيعاب لمعطيات الرسالة الجديدة استيعاباً يؤهله للقيمومة على الخط الرسالي وتحمّل مسؤوليات الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة تامّة ومواصلة عملية التغيير الشاملة بدون قائد رساليّ.

بل إن منطق الرسالات العقائدية يفرض أن تمرّ الأمة بوصاية عقائدية فترة أطول من الزمن تهيؤها للارتفاع إلى مستوى تلك القيمومة(٣) .

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: ١١٧ ـ ١٢٢، طبعة دار التعارف.

(٢) بحث حول الولاية: ١٥، طبعة دار التعارف.

(٣) المصدر السابق : ٥٩.

٧٦

وباعتبار أن الإسلام كان يريد تحقيق أهدافه كاملة كان ينبغي أن يستمر تطبيقه على يد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه فيمتدّ به العمر حتى يستكمل كلّ الشروط اللازمة للتربية الشاملة في فترة زمنية كافية أو يوكل أمر تطبيق الإسلام إلى من يخلفه من القادة الأكفاء الذين بلغوا درجة العصمة في مستواهم العقائدي والفكري والعملي ليصونوا أمر التربية من أي انحراف أو انهيار.

إذن منطق العمل التغييري على مسار التاريخ كان يفرض على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصون تجربته من أيّ ضعف أو اندحار، وذلك من خلال استمرار الوصاية على التجربة الانقلابية الجديدة وهكذا كان فقد تمثّلت مهمّة صيانته للتجربة الفتيّة في أهل بيته المعصومين عليهم‌السلام الذين أعدّهم بنفسه إعداداً رسالياً وقيادياً خاصّاً ليكونوا قادرين على مواصلة عملية التغيير الشاملة بالشكل المطلوب، والمنسجم مع أهداف الرسالة الكبرى.

الأخطار التي كان يواجهها الإسلام :

لم يكن الإسلام نظرية بشرية لكي تتحدَّدْ فكرياً من خلال الممارسة والتطبيق وتتبلور مفاهيمه عبر التجربة المخلصة، وإنما هو رسالة الله التي حُدّدت فيها الأحكام والمفاهيم وزوّدت ربّانياً بكلّ التشريعات العامّة التي تتطلبها التجربة، فلا بدّ لزعامة هذه التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها وتفاصيلها ووعي كامل لأحكامها ومفاهيمها، وإلاّ كانت مضطرة إلى استلهام مسبّقاتها الذهنية ومرتكزاتها القَبْلية وذلك يؤدّي إلى نكسة في مسيرة التجربة وبخاصة إذا لاحظنا أن الإسلام كان هو الرسالة الخاتمة من رسالات السماء التي يجب أن تمتد مع الزمن وتتعدى كل الحدود الوقتية والإقليمية

٧٧

والقومية، الأمر الذي لا يسمح بأن تمارس زعامته ـ التي تشكل الأساس لكلّ ذلك الإمتداد ـ تجارب الخطأ والصواب التي تتراكم فيها الأخطاء عبر فترة من الزمن حتى تشكل ثغرة تهدد التجربة بالسقوط والانهيار(١) .

وقد برهنت الأحداث بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الحقيقة وتجلّت بعد نصف قرن أو أقلّ من خلال ممارسة جيل المهاجرين الذين لم يُرَشَّحوا من قبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإمامة الدعوة ولم يكونوا مؤهلين للقيمومة عليها.

ولم يمض ربع قرن حتى بدأت الخلافة الراشدة تنهار تحت وقع الضربات الشديدة التي وجّهها أعداء الإسلام القدامى فاستطاعوا أن يتسلّلوا إلى مراكز النفوذ في التجربة بالتدريج ويشغلوا القيادة غير الواعية ثم صادروا بكل وقاحة وعنف تلك القيادة وأجبروا الأمة وجيلها الطليعي الرائد على التنازل عن شخصيّته وقيادته وتحولت الزعامة إلى ملك موروث يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء ويبعثر الأموال ويعطّل الحدود ويجمّد الأحكام ويتلاعب بمقدرات الناس وأصبح الفيىء والسواد بستاناً لقريش، والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني أمية(٢) .

مضاعفات الانحراف في القيادة الإسلامية :

وهكذا واجه الإسلام بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انحرافاً خطيراً في صميم التجربة الإسلامية التي أنشأها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية. وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية والسياسية للأمّة في الدولة الإسلامية كان بحسب طبيعة الأشياء من المفروض أن يتسع ليتعمق بالتدريج على مرّ الزمن; إذ الانحراف يبدأ بذرة ثمّ تنمو هذه البذرة، وكلما تحققت مرحلة من الانحراف; مهّدت هذه المرحلة لمرحلة أوسع وأرحب.

فكان من المفروض أن يصل هذا الانحراف إلى خط منحن طوال

ــــــــــــــ

(١) بحث حول الولاية : ٥٧ ـ ٥٨ .

(٢) المصدر السابق : ٦٠ ـ ٦١.

٧٨

عملية تاريخية زمنية طويلة المدى يصل به إلى الهاوية فتمر التجربة الإسلامية للمجتمع والدولة لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة ومن كل صوب، وتصبح عاجزة عن مواكبة الحدّ الأدنى من حاجات الأمة ومصالحها الإسلاميّة والإنسانيّة.

وحينما يتسلسل الانحراف في خط تصاعدي فمن المنطقي أن تتعرض التجربة بعد مدى من الزمن لانهيار كامل. إذن الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية لقيادة المجتمع كان من المفروض أن تتعرض كلّها للانهيار الكامل; لأن هذه التجربة حين تصبح مليئة بالتناقضات وحين تصبح عاجزة عن مواجهة وظائفها الحقيقية; تصبح عاجزة عن حماية نفسها; لأن التجربة تكون قد استنفدت إمكانية البقاء والاستمرار على مسرح التاريخ، كما أن الأمة ليست على مستوى حمايتها; لأن الأمة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكّر فيه ولا تحقق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو إليها فلا ترتبط بأي ارتباط حياتي حقيقي معها، فالمفروض أن تنهار هذه التجربة في مدى من الزمن كنتيجة نهائية حتمية لبذرة الانحراف التي غرست فيها.

مضاعفات انهيار الدولة الإسلامية:

ومعنى انهيار الدولة الإسلامية أن تسقط الحضارة الإسلامية وتتخلى عن قيادة المجتمع ويتفكك المجتمع الإسلامي، ويُقصى الإسلام عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للأمة، لكن الأمة تبقى طبعاً، حين تفشل تجربة المجتمع والدولة، لكنها سوف تنهار أمام أول غزو يغزوها، كما انهارت أمام الغزو التتري الذي واجهته الخلافة العباسية.

وهذا الانهيار يعني: أن الدولة والتجربة قد سقطت وأن الأمة بقيت، لكن هذه الأمة أيضاً بحسب تسلسل الأحداث من المحتوم أن تنهار كأمة تدين بالإسلام وتؤمن به وتتفاعل معه; لأن هذه الأمة قد عاشت الإسلام الصحيح زمناً قصيراً جداً وهو الزمن الذي مارس فيه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زعامة التجربة وبعده عاشت الأمة التجربة المنحرفة التي لم تستطع أن تعمّق الإسلام وتعمّق المسؤولية تجاه عقيدتها ولم تستطع أن تثقّفها وتحصّنها وتزوّدها بالضمانات الكافية لئلاّ تنهار أمام الحضارة الجديدة والغزو الجديد والأفكار الجديدة التي يحملها الغازي إلى بلاد الإسلام. ولم تجد هذه الأمة نفسها قادرة على تحصين نفسها بعد انهيار التجربة والدولة والحضارة بعدما أهينت كرامتها وحُطِّمتْ إرادتها وغُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارست تلك التجربة المنحرفة وبعد أن فَقَدتْ روحها الحقيقية، لأن تلك الزعامات كانت تريد إخضاعها لزعامتها القسريّة.

٧٩

إن هذه الأمة من الطبيعي أن تنهار بالاندماج مع التّيار الكافر الذي غزاها وسوف تذوب الأمة وتذوب الرسالة والعقيدة أيضاً وتصبح الأمة خبراً بعد أن كانت أمراً حقيقياً على مسرح التاريخ وبهذا ينتهي دور الإسلام نهائياً(١) .

لقد كان هذا هو التسلسل المنطقي لمسيرة الدولة والأمة والرسالة بقطع النظر عن دور الأئمّة المعصومين الذين أوكلت لهم مهمة صيانة التجربة والدولة والأمة والرسالة جميعاً.

ويتلخص دور الأئمّة الراشدين الذين اختارهم الله ونص عليهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصيانة الإسلام وتطبيقه وتربية الإنسانية على أساسه وصيانة دولة الرسول الخاتم من الانهيار والتردّي في أمرين مهمّين وخطّين أساسيين بعد أن كانت التجربة الإسلامية تشتمل على عناصر ثلاثة باعتبارها

ــــــــــــــ

(١) راجع: أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف: ١٢٧ ـ ١٢٩.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

كافراً؟...).

(لا...).

(أرأيت لو قال: ما أدري هذه السورة قرآناً أم لا، أكان عندك كافراً؟...).

(بلى...).

(يا إسحاق خبرني عن حديث الطائر المشوي أصحيح عندك؟).

(بلى...).

(بان والله عنادك، لا يخلو هذا من أن يكون كما دعاه النبي أو يكون مردوداً، أو عرف الله الفاضل من خلقه، وكان المفضول أحب إليه، أو تزعم أن الله لم يعرف الفاضل من المفضول، فأيّ الثلاث أحب إليك؟...).

وحار إسحاق ولم يهتد إلى الجواب، وبقي يتأمّل فوجد مسلكاً يدافع يه عن فكرته، فقال: (يا أمير المؤمنين إنّ الله تعالى يقول في أبي بكر:( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (١) فنسبه الله إلى صحبة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وسارع المأمون في الرد عليه قائلاً: (سبحان الله!! ما أقل علمك باللغة والكتاب، أما يكون الكافر صاحباً للمؤمن، فأيّ فضيلة في هذا؟ أما سمعت قول الله تعالى:( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) (٢) ، فقد جعله له صاحباً، وقال الهزلي شعراً:

ولقد غدوت وصاحبي وحشية

تحت الرداء بصيرة بالمشرق

وقال الأزدي:

ولقد دعوت الوحش فيه وصاحبي

محض القوادم من هجانٍ هيكل

فصيّر فرسه صاحبه، وأمّا قوله:( إنّ الله معنا ) فإنّ الله تبارك وتعالى مع البر والفاجر، أما سمعت قوله تعالى:( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا

____________________

(١) سورة التوبة: آية ٤٠.

(٢) سورة الكهف: آية ٣٤.

٢٤١

خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (١) .

وأمّا قوله:( لا تحزن ) فأخبرني عن حزن أبي بكر كان طاعة أو معصية، فإن زعمت أنّه طاعة فقد جعلت النبي (ص) ينهى عن الطاعة، وهو خلاف صفة الحكيم، وإن زعمت أنّه معصية فأيّ فضيلة للعاصي؟ وأخبرني عن قوله تعالى:( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) على مَن؟.

وانبرى إسحاق فقال: (نزلت - أي السكينة - على أبي بكر؛ لأنّ النبي (ص) منزّه عن صفة السكينة.

فأجابه المأمون:

(اخبرني عن قوله تعالى:( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (٢).

أتدري مَن المؤمنون الذين أرادهم الله في هذا الموضع؟).

(لا...).

وأخذ المأمون يشرح لإسحاق معنى الآية الكريمة قائلاً: (إنّ الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي (ص) إلاّ سبعة من بني هاشم، عليعليه‌السلام يضرب بسيفه، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله (ص) والخمسة محدقون بالنبي (ص) خوفاً من أن يناله سلاح الكفّار حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله (ص) الظفر، عنى بالمؤمنين في هذا الموضع عليا، ومَن حضر من بني هاشم، فمَن كان أفضل أمن كان مع النبي (ص) فنزلت السكينة على النبي (ص) وعليه، أم مَن كان في الغار مع النبي (ص) ولم يكن أهلاً لنزولها عليه يا إسحاق، مَن أفضل؟ مَن كان مع النبي (ص) في الغار أو مَن نام على مهاده وفراشه، ووقاه بنفسه حتى تم للنبي (ص) ما عزم عليه من الهجرة.

إنّ الله تبارك وتعالى أمر نبيّه (ص) أن يأمر عليّاً بالنوم على فراشه، ووقايته بنفسه فأمره بذلك، فقال علي: أتسلم يا نبي الله؟ فقال: نعم، قال: سمعاً وطاعة، ثم أتى مضجعه، وتسجّى بثوبه وأحدق المشركون به لا يشكون في أنّه النبي (ص)

____________________

(١) سورة المجادلة: آية ٧.

(٢) سورة التوبة: آية ٢٥ - ٢٦.

٢٤٢

وقد اجمعوا على أن يضربه من كل بطن من قريش رجل ضربة؛ لئلاّ يطلب الهاشميون بدمه، وعليعليه‌السلام يسمع بأمر القوم فيه من التدبير في تلف نفسه، فلم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار، وهو مع النبي (ص) وعلي وحده، فلم يزل صابراً محتسباً، فبعث الله تعالى ملائكته تمنعه من مشركي قريش، فلمّا أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا أين محمد؟ قال: وما علمي به؟ قالوا: فأنت غدرتنا ثم لحق بالنبي (ص)، فلم يزل عليعليه‌السلام أفضل لما بدا منه، إلاّ ما يزيد خيراً حتى قبضه الله تعالى إليه، وهو محمود مغفور له.

يا إسحاق أما تروي حديث الولاية؟).

(نعم...).

(أروه...).

فرواه له، فقال المأمون:

(أما ترى أنّه أوجب لعليعليه‌السلام على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما عليه؟).

فقال إسحاق:

(إنّ الناس يقولون: إنّ هذا قاله بسبب زيد بن حارثة).

فأنكر المأمون ذلك وقال:

(وأين قال النبي (ص) هذا؟).

فأجاب إسحاق:

(قاله بغدير خم بعد منصرفه من حجّة الوداع).

وسارع المأمون لإبطال ذلك قائلاً:

(متى قتل زيد بن حارثة؟... أليس قد قتل قبل غدير خم؟).

(بلى...).

(أخبرني لو رأيت ابناً لك أتت عليه خمس عشرة سنة، يقول: مولاي مولى ابن عمّي أيّها الناس فاقبلوا أكنت تكره له ذلك؟).

(بلى...).

وكرّ المأمون منكراً عليه قائلاً:

(أتنزّه ابنك عمّا لا تنزّه عنه النبي (ص)...).

والتفت إليه المأمون ليقيم عليه الحجّة قائلاً:

٢٤٣

(أتروي قول النبي (ص) لعلي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى)؟.

(نعم...).

(أما تعلم أنّ هارون أخو موسى لأبيه وأُمّه؟).

(بلى...).

(فعلي كذلك؟).

(لا...).

سارع المأمون قائلاً: (هارون نبي، وليس علي كذلك، فما المنزلة الثالثة إلاّ الخلافة، لقد قال المنافقون: إنّه استخلفه استثقالاً، فأراد أن يطيب نفسه، وهذا كما حكى الله تعالى عن موسى، حيث قال: لهارون( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) .

وانبرى إسحاق قائلاً: (إنّ موسى خلف هارون في قومه، وهو حي، ثم مضى، إلى ميقات ربّه تعالى، وإنّ النبي (ص) خلف عليّاً حين خرج إلى غزاته...).

وردّ عليه المأمون: (اخبرني عن موسى حين خلف هارون أكان معه حيث مضى إلى ميقات ربّه عزّ وجل أحد من أصحابه؟).

(نعم...).

(أو ليس قد استخلفه على جميعهم؟...).

(بلى...).

(فكذلك علي خلفه النبي (ص) حين خرج إلى غزاته في الضعفاء والنساء والصبيان، إذ كان أكثر قومه معه، وإن كان قد جعله خليفة على جميعهم، والدليل على أنّه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (علي منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي) وهو وزير النبي (ص) أيضاً بهذا القول؛ لأنّ موسى قد دعا الله تعالى، وقال فيما دعا( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي *

____________________

(١) سورة الأعراف: آية ١٤٢.

٢٤٤

هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وأشركه في أمري ) (١) فإذا كان علي منه بمنزلة هارون من موسى فهو وزيره، كما كان هارون وزير موسى، وهو خليفته كما كان هارون خليفة موسى...).

مع علماء الكلام:

وبعدما حاجج المأمون علماء الحديث، وتغلّب عليهم بمناقشته للأحاديث التي تمسّكوا بها، في الاستدلال على ما يذهبون إليه، التفت بعد ذلك إلى علماء الكلام فقال لهم:

(أسألكم أو تسألوني؟...).

(بل نسألك...).

س - والتفت عالم منهم، فقال للمأمون: (أليست إمامة عليعليه‌السلام من قبل الله عزّ وجل؟ نقل ذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من نقل الفرائض مثل الظهر أربع ركعات، وفي مأتي درهم خمسة دراهم، والحج إلى مكة؟) فقال المأمون: بلى، فقال المتكلّم: فما بالهم لم يختلفوا في جميع الفرائض، واختلفوا في خلافة علي وحدها؟...).

ج - المأمون:

(لأنّ جميع الفرائض لا يقع فيها من التنافس والرغبة مثل ما يقع في الخلافة).

س - متكلّم:

وانبرى متكلّم آخر فقال: ما أنكرت أن يكون النبي (ص) أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه رأفة ورقّة عليهم من غير أن يستخلف هو بنفسه، فيعصي

خليفته فينزل بهم العذاب...).

ج - المأمون:

وأجاب المأمون: أنكرت ذلك من قبل أنّ الله تعالى أرأف بخلقه من النبي (ص)، وقد بعث نبيّه إليهم وهو يعلم أنّ فيهم عاص ومطيع، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله.

____________________

(١) سورة طه: آية ٢٩ - ٣٢.

٢٤٥

وعلّة أخرى: لو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم، فلو أمر الكل مَن كان المختار؟ ولو أمر بعضاً دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا المعنى علامة، فإن قلت: الفقهاء فلا بد من تحديد الفقيه وسمته).

وانبرى متكلّم فقال: (روى أنّ النبي (ص) قال: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح...).

فردّ عليه المأمون هذه المقالة الفاسدة التي تستلزم التصويب المجمع على بطلانه، وهو أن ليس لله تعالى في كل واقعة حكم يصيبه مَن يصيبه، ويخطئه مَن يخطئه، وهذا جواب المأمون: (هذا القول لا بد أن يكون يريد كل المؤمنين أو البعض، فإن أراد الكل فهذا مفقود؛ لأنّ الكل لا يمكن اجتماعهم، وإن كان البعض، فقد روى كل في صاحبه حسناً مثل رواية الشيعة في علي، ورواية الحشوية في غيره، فمتى يثبت ما تريدون من الإمامة؟).

وقال متكلّم آخر: (فيجوز أن تزعم أنّ أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أخطأوا).

فأجابه المأمون: (كيف نزعم أنّهم أخطأوا، واجتمعوا على ضلالة وهم لم يعلموا فرضاً ولا سنّة؛ لأنّك تزعم أنّ الإمامة لا فرض من الله تعالى، ولا سنّة من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنّة خطأ؟.

وسارع متكلّم آخر فقال للمأمون: (إن كنت تدّعي لعلي من الإمامة دون غيره فهات بيّنتك على ما تدّعي...).

مناقشة المأمون:

(ما أنا بمدع، ولكنّي مقر، ولا بينة على مقر، والمدّعي مَن يزعم أنّ إليه التولية والعزل، وأنّ إليه الاختيار، والبيّنة لا تعرى من أن تكون من شركائه، فهم خصماء، أو تكون من غيرهم، والغير معدوم، فكيف يؤتى بالبيّنة على هذا؟).

وقال متكلّم آخر:

(فما كان الواجب على عليعليه‌السلام بعد مضي رسول الله (صلّى الله عليه

٢٤٦

وآله)؟).

وأجاب المأمون:

(قد فعله - أي فعل ما يجب عليه -).

وأشكل المتكلّم قائلاً:

(أفما وجب عليه أن يعلم الناس أنّه إمام؟).

وسارع المأمون قائلاً:

(إنّ الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه، ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك، وإنّها تكون بفعل من الله تعالى فيه، كما قال لإبراهيم:( إنّي جاعلك للناس إماماً ) (١) ، وكما قال تعالى لداود:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ) (٢) وكما قال عزّ وجل للملائكة في آدم( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) (٣) .

فالإمام إنّما يكون إماماً من قبل الله تعالى، وباختياره إيّاه في بدء الصنيعة والتشريف في النسب والطهارة في المنشأ والعصمة في المستقبل، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقّاً للإمامة، وإذا عمل خلافها اعتزل فيكون خليفة من قبل أفعاله).

وأشكل متكلّم آخر فقال:

(لم أوجبت الإمامة لعلي بعد الرسول (ص)؟).

وأجاب المأمون:

(لخروجه من الطفولة إلى الإيمان كخروج النبي من الطفولية إلى الإيمان، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجّة، واجتنابه الشرك كبراءة النبي (ص) من الضلالة، واجتنابه للشرك؛ لأنّ الشرك ظلم ولا يكون الظالم إماماً، ولا من عبد وثناً بإجماع، ومن شرك فقد حلّ من الله تعالى محلّ أعدائه، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة حتى يجيء إجماع آخر مثله، ولأنّ من حكم عليه مرة، فلا يجوز أن يكون حاكماً، فيكون الحاكم محكوماً عليه مرة، فلا يكون حينئذٍ فرق بين الحاكم والمحكوم عليه...).

____________________

(١) سورة البقرة: آية ١٢٤.

(٢) سورة ص: آية ٢٦.

(٣) سورة البقرة: آية ٣٠.

٢٤٧

وأشكل شخص أخر من المتكلّمين فقال:

(لم لا يقاتل عليعليه‌السلام أبا بكر وعمر، كما قاتل معاوية؟).

وأجاب المأمون:

(المسألة محال؛ لأنّ لِمَ اقتضاء، ولم يفعل نفي، والنفي لا يكون له علة، إنّما العلة، للإثبات، وإنّما يجب أن ينظر في أمر علىعليه‌السلام امن قبل الله أم من قبل غيره، فإن صحّ أنّه من قبل الله تعالى، فالشك في تدبيره كفر لقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)(١) فأفعال الفاعل تبع له صلة، فإن كان قيامه عن الله تعالى، فأفعاله عنه، وعلى الناس الرضى والتسليم، وقد ترك رسول الله (ص) القتال يوم (الحديبية) يوم صد المشركون هديه عن البيت، فلمّا وجد الأعوان وقوي حارب، كما قال الله تعالى: في الأول: (فاصفح الصفح الجميل)(٢) ، ثم قال عز وجل:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (٣) .

وانبرى متكلّم آخر فقال:

(إذا زعمت أنّ إمامة عليعليه‌السلام من قبل الله تعالى، وأنّه مفترض الطاعة، فلم لا يجوز إلاّ التبليغ والدعاء للأنبياءعليهم‌السلام ، وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته؟...).

جواب المأمون:

(إنّا لم نزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام أمر بالتبليغ فيكون رسولاً، ولكنّه وضع علماً بين الله تعالى وبين خلقه، فمن تبعه كان مطيعاً، ومَن خالفه كان عاصياً، فإن وجد أعواناً يتقوّى بهم جاهد، وإن لم يجد أعواناً فاللوم عليهم لا عليه؛ لأنّهم أمروا بطاعته على كل حال ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلاّ بقوّة، وهو بمنزلة البيت، على الناس الحج إليه، فإذا حجّوا أدّوا ما عليهم، وإذا لم يفعلوا كانت اللائمة عليهم لا على البيت).

____________________

(١) سورة النساء: آية ٦٥.

(٢) سورة الحجر: آية ٨٥.

(٣) سورة التوبة: آية ٥.

٢٤٨

وقال متكلّم آخر:

(إذا وجب أنّه لا بد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار، كيف يجب بالاضطرار أنّه (علي) دون غيره؟...).

جواب المأمون:

وردّ المأمون هذه الشبهة بقوله: إنّ الله تعالى لا يفرض مجهولاً، ولا يكون المفروض - أي الإمامة وغيرها من التكاليف - ممتنعا، إذ المجهول ممتنع من قبل أن الله تعالى لا يفرض مجهولاً، ولا يكون المفروض ممتنعاً، فلا بد من دلالة الرسول (ص) على الفرض ليقطع العذر بين الله وبين عباده، أرأيت لو فرض الله تعالى على الناس صوم شهر فلم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم يوسم بوسم وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد الله تعالى، فيكون الناس حينئذٍ مستغنين عن الرسول المبين لهم، وعن الإمام الناقل لهم خبر الرسول إليهم...).

وأشكل متكلّم أخر فقال:

(من أين أوجبت أنّ عليا كان بالغاً حين دعاه النبي (ص) فإنّ الناس يزعمون أنّه كان صبياً حين دعي، ولم يكن جاز عليه الحكم، ولا بلغ مبلغ الرجال...).

جواب المأمون:

(أنّه لا يرى في ذلك الوقت من أن يكون ممّن أرسل إليه النبي (ص) ليدعوه، فإن كان كذلك فهو محتمل التكليف، قوي على أداء الفرائض الخ...).

وجوم العلماء:

ووجم علماء الحديث وعلماء الكلام، فقد أفحمهم المأمون، وألزمهم الحجّة، واستدلّ على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بأوثق الأدلة وأنصعها.

أسئلة المأمون للعلماء:

ووجّه المأمون أسئلة إلى العلماء، كان منها ما يلي:

١ - س: أليس قد روت الأمّة بإجماع منها أنّ النبي (ص) قال: (مَن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار) فقال العلماء بأجمعهم:

(بلى يا أمير المؤمنين).

وعرض عليهم المأمون حديثاً نبوياً آخر فقال:

(ورووا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (مَن عصى الله بمعصية صغرت أو

٢٤٩

كبرت ثم اتخذها ديناً، ومضى مصرّاً عليها فهو مخلد بين أطباق الجحيم).

وصدق العلماء الحديث وأقرّوا به، فقال لهم المأمون:

خبروني عن رجل تختاره الأمّة، هل يجوز أن يقال له: خليفة رسول الله (ص) ومن قبل الله عزّ وجل، ولم يستخلفه الرسول (ص)؟ فإن قلتم نعم، فقد كابرتم، وإن قلتم: لا وجب أن يكون فلان غير خليفة لرسول الله (ص).

وأقبل المأمون يعظهم بعد حديث جرى بينه وبين العلماء في هذا الموضوع قائلاً: (اتقوا الله، وانظروا لأنفسكم، ودعوا التقليد، وتجنّبوا الشبهات، فو الله ما يقبل الله تعالى إلاّ من عبد لا يأتي إلاّ بما يعقل، ولا يدخل إلاّ فيما يعلم أنّه حق، والريب شك، وإدمان الشك كفر بالله تعالى، وصاحبه في النار...).

والتفت إليهم بعد هذا التأنيب، قائلاً:

(أخبروني عن النبي (ص) هل استخلف حين مضى؟ أم لا).

فقالوا جميعاً:

(لم يستخلف).

وأشكل عليهم المأمون قائلاً:

(فتركه ذلك - أي الاستخلاف لأحد من بعده - هدى أم ضلال؟...).

فأجابوا:

(بلى هدى).

وانبرى المأمون يقيم الدليل على بطلان ما ذهبوا إليه قائلاً:

(فعلى الناس أن يتبعوا الهدى، ويتركوا الباطل ويتنكّبوا الضلال؟...).

فأجابوا:

(وقد فعلوا ذلك - أي اتبعوا الهدى -).

وأخذ المأمون يقيم أروع الحجج والبراهين على زيف ما قالوه: قائلاً:

(لم استخلف الناس بعده - أي بعد النبي (ص) - وقد تركه هو، فترك فعله ضلال، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى... وإذا كان ترك الاستخلاف هدى، فلم استخلف أبو بكر ولم يفعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ولم جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافاً على صاحبه، لأنّكم زعمتم أنّ النبي (ص) لم يستخلف،

٢٥٠

وأنّ أبا بكر استخلف، وعمر لم يترك الاستخلاف كما فعل أبو بكر، وجاء بمعنى ثالث، وهو الشورى التي نصّ عليها لتعيين الخليفة من بعده فخبروني أي ذلك ترونه صواباً، فإن رأيتم فعل النبي (ص) صواباً فقد أخطأتم أبا بكر، وكذلك القول في بقية الأقاويل وخبروني أيّهما أفضل ما فعله النبي (ص) بزعمكم من ترك الاستخلاف، أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟.

وخبروني هل يجوز أن يكون تركه من الرسول (ص) هدى وفعله من غيره هدى؟ فيكون هدى ضد هدى؟ فأين الضلال حينئذٍ.

وخبروني هل ولي أحد بعد النبي (ص) باختيار الصحابة منذ قبض النبي (ص) إلى اليوم؟ فإن قلتم: لا، فقد أوجبتم أنّ الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي (ص).

وإن قلتم: نعم، كذبتم الأمة، وأبطل قولكم: الوجود الذي لا يدفع.

وخبروني عن قول الله عزّ وجل:( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ) (١) .

أصدق هذا أم كذب؟.

فأجابوا:

(نعم - إنّه صدق -).

وانبرى المأمون قائلاً:

(أليس ما سوى الله لله إذ كان محدثه ومالكه؟).

(نعم...).

وثار المأمون فقال:

(ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة، تفرضون طاعته، وتسمونه خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنتم استخلفتموه وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه، وعمل بخلاف محبتكم، ومقتول إذا أبى الاعتزال...).

وتكلّم بعد هذا الكلام بعنف مع القوم، ثم استقبل القبلة ورفع يديه قائلاً: (اللّهمّ إنّي قد أرشدتهم، اللّهمّ إنّي قد أخرجت ما وجب عليّ إخراجه من عنقي.

____________________

(١) سورة الأنعام: آية ١٢.

٢٥١

اللّهمّ إنّي أدين بالتقرّب إليك بتقديم عليعليه‌السلام على الخلق بعد نبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أمرنا به رسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله ...(١) ).

ووجم القوم، ولم يجدوا منفذاً يسلكون فيه للدفاع عمّا يرونه، وكان معظم استدلال المأمون على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قائماً على المنطق والدليل، ولا أكاد أعرف حقيقة ناصعة واضحة وضوح الشمس كإمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد فرضته مواهبه وعبقرياته، وشدة إنابته إلى الله وزهده، وتخلّيه من الدنيا، كل ذلك جعله أولى بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من غيره، فلم يملك أحد من الصحابة، ولا من أقرباء النبي (ص) وأرحامه مثل ما يملكه من الطاقات الندية الخلاقة من العلم والنزاهة والشرف، وغير ذلك من الصفات الكريمة والنزعات العظيمة، وبهذه الجهة كان أولى بمركز النبي ومقامه، وأمّا قرابته من النبي فليس لها أي أثر في ترجيحه على غيره من المسلمين، فإنّ هذه الجهة لا تصلح دليلاً تثبت به أحقيّة الإمامعليه‌السلام بالخلافة.

وعلى أيّ حال فإن ما أقامه المأمون من هذه الأدلة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يكن المقصود منها إلاّ التقرّب إلى الإمام الرضاعليه‌السلام حتى ينال ثقته منه، وقد صرّح بذلك إسحاق بن حماد فقال: لم يكن الغرض في تفضيله الإمام عليعليه‌السلام على جميع الصحابة إلاّ تقرّباً للإمام أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، وكان الإمام نفسه يقول لأصحابه الذين يثق بهم: لا تغترّوا بقوله، فما يقتلني والله غيره، ولكن لا بد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله(٢) .

عقده بولاية العهد للإمام:

وثمّة دليل آخر اعتمد عليه الذاهبون إلى تشيّع المأمون، وهو عقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وبذلك فقد عرّض الخلافة التي تقمّصها العباسيون إلى الخطر، وتسليمها إلى السادة العلويين.

هذه أهم الأدلة التي استند إليها القائلون بتشيّع المأمون وأنّه علوي الفكر والرأي:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٨٤ - ١٩٩ البحار.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٨٥.

٢٥٢

زيف تشيّعه:

والذي نراه بمريد من التأمّل والتحقيق أنّ المأمون لم يكن من الشيعة، ولم يعتنق ولاء أهل البيتعليهم‌السلام ، وإنّما بدرت هذه البوادر التي ذكرها لأغراض سياسية، لا علاقة لها مطلقاً بدعوى التشيّع، ويدعم ذلك ما يلي:

١ - إنّه من الأسرة العباسية التي عرفت بالبغض والعداء لأهل البيتعليهم‌السلام ، فلم تنجب هذه الأسرة إلاّ الجبابرة الطغاة الذين صبّوا جام غضبهم على آل النبي (ص) وعترته، فقد عمدوا إلى قتلهم وتشريدهم، والتنكليل بهم، وقد اقترفوا معهم ما لم تقترفه الأسرة الأموية، بل إنّ الأسرة الأموية على ما عرفت به من العداء العارم لأبناء النبي (ص) فإنّها لم تقابلهم بمثل ما قابلتهم به بنو العباس، وقد كانت لبني أمية من الفواضل ما ليست لبني العباس، وقد أوضحنا بعض ما عانوه العلويون منهم في فصول هذا الكتاب.

وعلى أي حال، فإنّه من المستبعد جداً أن يتحوّل المأمون عن خطّة آبائه، ويغيّر منهجهم وسلوكهم بين عشيّة وضحاها فيكون علوي الرأي، وموالياً لخصوم آبائه، ويعرّض دولته إلى الخطر.

٢ - أمّا انتقاصه لمعاوية، والحكّام الذين سبقوه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام عليهم، فإنّه لم يكن جديّاً، وإنّما كان صورياً لأغراض سياسية، فقد روى التغلبي، وكان معاصراً له، قال المأمون: (وظنّوا أنّه لا يجوز تفضيل علي إلاّ بانتقاص غيره من السلف، والله ما استجيز أن انتقص الحجّاج بن يوسف، فكيف بالسلف الطيب)(١) .

إنّه يتمنّع من انتقاص الإرهابي المجرم الحجّاج الذي أغرق العراق لما سفكه من دماء الأبرياء.

ونسب له من الشعر ما يدعم ذلك، فقد قال:

أصبح ديني الذي أدين به

ولست منه الغداة معتذرا

حب علي بعد النبي ولا

اشتم صدّيقاً ولا عمرا

ثم ابن عفّان في الجنان مع الـ

أبرار ذاك القتيل مصطبرا

____________________

(١) حياة الإمام الرضا نقلاً عن عصر المأمون ١ / ٣٦٩.

٢٥٣

ألا ولا أشتم الزبير ولا

طلحة إن قال قائل غدرا

وعائش الأم لست أشتمها

من يفتريها فنحن منه برا(١)

إلى غير ذلك من الشواهد والأدلة التي تثبت زيف تشيّعه، وأنّه لا علاقة له مطلقاً بأهل البيتعليهم‌السلام .

٣ - اغتياله للإمام الرضاعليه‌السلام بعد ما نفذت أغراضه السياسية ولم يكتف بذلك، وإنّما أوعز إلى عامله على مصر بغسل المنابر التي كان يخطب عليها بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام (٢) ، وهذا يكشف عمّا يكنّه في أعماق نفسه من البغض والعداء للإمام.

لقد استبان بصورة واضحة للأسرة العلوية زيف ما يدّعيه المأمون من الولاء لهم، وأنّه كان صورياً لا واقع له، ويقول الرواة إنّه كتب إلى عبد الله شقيق الإمام الرضا يعطيه الأمان، ويضمن له ولاية العهد بعده كما صنع مثل ذلك بأخيه الإمام الرضا، وقد جاء في كتابه: (وما ظننت أنّ أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا...).

فأجابه برسالة كشف فيها عن نوايا المأمون، وهذا نصّها: (وصل كتابك، وفهمته تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال عليّ حيلة المغتال القاصد لسفك دمي. وعجبت من ذلك العهد، وولاية لي بعدك، كأنّك تظن أنّه لم يبلغني ما فعلته بالرضا، ففي أي شيء ظننت أنّي أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي قد غرّتك نضرته وحلاوته؟ فو الله لئن أقذف وأنا حي، في نار تتأجّج أحبّ إليّ من أن ألي أمراً بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل.

أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا أم ظننت أنّ الاستتار قد أملّني وضاق به صدري؟ فو الله إنّي لذلك، ولقد مللت الحياة، وأبغضت الدنيا ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر علي المخاطرة بدمي، وليتك قدرت من غير أن أبذل نفسي لك فتقتلني، ولقيت الله عزّ وجل بدمي ولقيته قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا.

____________________

(١) البداية والنهاية ١٠ / ٢٧٧.

(٢) الولاية والقضاة للكندي.

٢٥٤

واعلم أنّي رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عزّ وجل عنّي، وفي عمل أتقرّب به إليه، فلم أجد رأياً يهدي إلى شيء من ذلك، فرجعت إلى القرآن الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفّحته سورة سورة، وآية، آية، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربّه من الشهادة في طلب مرضاته.

ثم تتبّعته ثانية أتأمّل الجهاد أيّه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جلّ وعلا يقول: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة) فطلبت أيّ الكفّار أضر على الإسلام، وأقرب من موضعي فلم أجد أضر على الإسلام منك؛ لأنّ الكفار أظهروا كفرهم فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم، وأنت ختلت المسلمين بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت مال الله من غير حلّه، وشربت الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين، وأعطيته المغنّين ومنعته من حقوق المسلمين، فغششت بالإسلام، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه للمشرك، وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند.

فإن يسعدني الدهر، ويعينني الله عليك، بأنصار الحق أبذل نفسي في جهادك بذلاً يرضاه منّي، وأن يمهلك ويؤخّرك ليجزيك بما تستحقّه في منقلبك، أو تختر منّي الأيام قبل ذلك، فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عزّ وجل من نيّتي والسلام...)(١) .

ووضعت هذه الرسالة المأمون على طاولة التشريح، فأظهرت زيفه، وكشفت خداعه، ودجله، وأنّه لا واقع بأي حال من الأحوال إلى ما يزعمه من الولاء والحب لأهل البيت.

أما الفصول الأخيرة من هذه الرسالة، فقد ألحقت المأمون بقافلة الكفار الذين يجب جهادهم، والإطاحة بهم، كما بيّنت سياسة المأمون، وأنّها تأخذ الناس بالظنّة، وتعاقبهم بالتهمة وبالإضافة إلى ذلك، فقد أعربت عن تحلّل المأمون؛ وذلك بشربه للخمر، وإنفاقه لأموال المسلمين على الملاهي والمغنّين والعابثين والماجنين.

لقد كانت هذه الرسالة صرخة مدوّية في وجه الطاغية المأمون، وهي من الصفحات المشرقة في مناهضة الظلم والطغيان.

____________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٦٣٠ - ٦٣١).

٢٥٥

ومن الجدير بالذكر أنّه يروي جانب آخر من هذه الرسالة، أو من رسالة أخرى بعثها هذا السيد الجليل إلى المأمون يقول فيها:

(هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلّين لدمائنا الآخذين حقّنا، الذين جاهروا في أمرنا فحذّرناهم، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضا بنا والتستّر لمحننا، تختل واحدا فواحدا منا، ولكنني كنت امرأ حبب إلى الجهاد، كما حبب إلى كل امرئ بغيته، فشحذت سيفي، وركبت سناني على رمحي، واستفرهت فرسي.

ولم أدر أي العدو أشد ضرراً على الإسلام، فعلمت أنّ كتاب الله يجمع كل شيء فقرأته فإذا فيه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) .

ومن بنود هذه الرسالة:

(وتدبّرت فإذا أنت أضرّ على الإسلام والمسلمين من كل عدو لهم؛ لأنّ الكفار خرجوا منه، وخالفوه، فحذرهم الناس وقاتلوهم، وأنت دخلت فيه ظاهراً، فأمسك الناس، وطفقت تنقض عراه، عروة، عروة، فأنت أشدّ أعداء الإسلام ضرراً عليه...) (١).

وحكمت هذه الفصول بعض الجوانب من السياسة العباسية التي تركّزت على ظلم السادة العلويين، والتنكيل بهم، كما حكت تعطش السيد الجليل نجل الإمام موسىعليه‌السلام إلى الجهاد للإطاحة بحكم المأمون الذي هو من ألد أعداء الإسلام، فقد نقض عراه، عروة، عروة على حد تعبير هذه الرسالة.

٤ - إبادته للسادة العلويين بعد اغتياله للإمام الرضاعليه‌السلام فقد عمدت مخابراته ورجال أمنه إلى مطاردتهم، واستئصالهم، وقد اغتال كوكبة من أبناء الإمام موسىعليه‌السلام ، وقد استخدم السمّ كأعظم سلاح لتصفية أبناء النبي (ص)، فقد اغتال بالسم السيد الشريف الجليل إبراهيم نجل الإمام موسىعليه‌السلام ، ولـمّا توفّي أنزله في ملحودة قبره الفقيه أبن السمّاك، وأنشد حينما ألحده:

٢٥٦

مات الإمام المرتضى مسموما

وطوى الزمان فضائلاً وعلوما

قد مات في الزوراء مظلوماً

كما أضحى أبوه بكربلا مظلوما

فالشمس تندب موته مصفرّة

والبدر يلطم وجهه مغموما(١)

إنّ اغتياله للسادة العلويين، ومطاردتهم حتى هربوا خوفا منه مختفين في الأقطار والأمصار ينسف دعوى تشيّعه، وأنّه لا علاقة له بالولاء لأهل البيت شأنه شأن آبائه الذين هم من ألد أعداء أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أسباب تظاهره بالتشيّع:

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن بعض الأسباب التي دعت المأمون لتظاهره بالولاء لأهل البيتعليه‌السلام ، وإعلان تشيّعه في المحافل الرسمية، وفيما أحسب أنّ الذي دعاه لذلك ما يلي:

أ - إنّه كان مختلفاً كأشد ما يكون الاختلاف مع أسرته العباسية، الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين؛ لأنّ أمه السيدة زبيدة، وهي من صميم الأسرة العباسية، وكانت من أندى الناس كفّاً، ومن أكثرهم عطاء وصلة للعباسيين، أمّا أم المأمون فهي (مراجل)، وكانت من إماء القصر، وكان العباسيون يحتقرون المأمون من جهة أمّه، فأراد بما أظهره من الولاء للعلويين، وعقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام إرغامهم، وإذلالهم، وقهرهم.

ب - إنّه أراد بإظهاره التشيّع إرضاء قادة جيشه الذين كانت لهم ميول ومحبّة لأهل البيتعليهم‌السلام .

ج - وإنّما عمد المأمون إلى العطف على العلويين، وإذاعة فضائل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام جلب عواطف الشعب البار، الذين أترعت عواطفهم وقلوبهم بالمحبة والولاء لأهل البيتعليهم‌السلام وقد تسلّح بهم في محاربته لأخيه الأمين.

د - ومن الأسباب الوثيقة جداً التي دعت المأمون إلى التظاهر بالتشيّع وعقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام هو القضاء على الثورة العارمة التي فجّرتها الشيعة بقيادة السادة العظام من أبناء الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، فقد التهمت الكثير من مناطق العالم الإسلامي، وكادت تقضي على الحكم العباسي، ولكنّه

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٨ نقلاً عن مختصر الخلفاء.

٢٥٧

استطاع بدهاء منقطع النظير القضاء عليها وذلك بعقده بولاية العهد للإمام الرضا الذي هو سيد العلويين وزعيمهم بلا منازع، والذي يدين شطر كبير من هذه الأمة بإمامته.

لقد أخمد المأمون الثورة، واستأصلها من جذورها بعطفه المصطنع لأهل البيت، وترشيحه للخلافة الإمام الرضا ثم مبايعته له بولاية العهد، وضربه للسكة باسمه.

ه‍ـ - ولعلّ من جملة الأسباب التي حفّزت المأمون إلى تظاهره بالتشيّع، هو كشف الشيعة، ومعرفة السلطة بأسمائهم وأماكنهم، بعد ما كانوا خلايا تحت الخفاء، فقد عجزت الحكومات العباسية السابقة على حكومة المأمون عن معرفتهم، والوقوف على نشاطاتهم ومعرفة خلاياهم، فأراد المأمون بما صدر منه من الإحسان إلى العلويين، وانتقاصه للخلفاء، وذمّه لمعاوية، وغير ذلك ممّا صدر منه كشف الشيعة حتى تطاردهم أجهزة أمنه، وشرطته، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه... هذه بعض الأسباب التي دعت المأمون إلى التظاهر بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام .

منهج حكمه:

ونهج المأمون في أيام حكومته منهج معاوية بن هند، فقد ذكر المؤرخون أنّه عرضت عليه سيرة أبي بكر وعمر وعثمان وعليعليه‌السلام فأبى أن ينهج نهجهم، ويسير بسياستهم، ولكنّه قبل أن يسير بسيرة معاوية الذئب الجاهلي الذي كان يأخذ الأموال من وجوهها، ويضعها كيف يشاء، وقال المأمون: إن كان فهذا(١) ، لقد اقتدى بمعاوية ونهج نهجه فعمد إلى اغتيال الأبرياء فدسّ إليهم سمّاً قاتلاً فقضى عليهم كما فعل معاوية بخصومة، وهو القائل: (إنّ لله جنوداً من عسل) لقد كان المكر والخداع من أبرز صفاته، كما كان معاوية.

____________________

(١) حياة الإمام الرضا (ص ١٨١) نقلاً عن المحاسن والمساوئ للبيهقي (ص ٢٩٥).

٢٥٨

الإمام الرضاعليه‌السلام وولاية العهد

نحن أمام حدث تأريخي مهم بالغ الخطورة، أشغل الرأي العام، وأذهل كافة الأوساط السياسية، وهو عقد المأمون بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، الأمر الذي يؤذن بتحوّل الخلافة من بني العباس إلى خصومهم السادة العلويين، فقد بهر الناس، وتساءلوا: كيف تحوّلت السياسة العباسية بين عشيّة وضحاها إلى هذا الخط المعاكس للخط السياسي الذي سلكه العباسيون منذ بداية حكمهم، وهو قهر السادة العلويين وإبادتهم، فقد أفنوا شبابهم فدفنوهم أحياءً وألقوا بأطفالهم في حوض دجلة، واستعملوا معهم جميع ألوان الإبادة...

والمأمون - فيما عرفه الناس، وعرفه التأريخ - هو من أبناء هذه الأسرة الظالمة لأهل البيتعليهم‌السلام ، لم يشذ في سلوكه عن سلوك آبائه، ولم ينحرف عن اتجاههم المعادي للعلويين، قد تغذّى وتربّى على بغضهم وعدائهم، فجدّه المنصور وأبوه الرشيد، وهما قد سلكا جميع الطرق لتصفية العلويين جسدياً، وسخّرا جميع أجهزتهم السياسية والاقتصادية للحط من شأن العلويين وكرامتهم، وإبعادهم عن الساحة السياسية في دنيا العرب والإسلام.

٢٥٩

وبعد هذا فما الذي دعا المأمون إلى هذا التغيير المفاجئ والعدول عن خطّة آبائه ومنهجهم، فعقد ولاية العهد إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ؟ كما أنّه كيف انصاع الإمام الرضا إلى ذلك مع علمه بانحراف المأمون، وما يكنّه في ذخائر نفسه من البغض لأهل البيتعليهم‌السلام ؟ وهذا ما سنتحدث عنه.

دوافع المأمون:

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر في الأسباب والدوافع التي دعت المأمون إلى

عقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وهذه بعضها:

١ - إنّه لم يكن له مركز قوي في الدولة الإسلامية، فقد كانت الأسرة العباسية تحتقره، وذلك من جهة أمّه (مراجل) التي كانت من خدم القصر، مضافاً إلى صلته القوية بالفضل بن سهل، وتوليته جميع أموره، وهو فارسي الأصل، وكذلك كان أخوه الأمين يبغضه ويبغي له الغوائل، ويكيده من جهة منافسته له على السلطة، فأراد المأمون تدعيم مركزه، وتقوية نفوذه، والتغلّب على الحاقدين عليه، فعقد بولاية العهد لأعظم شخصية في العالم الإسلامي وهو الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فهو ابن الإمام الصادق الملهم الأول لقضايا الفكر والعلم في الإسلام، كما يدين بإمامته والولاء له شطراً كبير من المسلمين، فلذا بادر إلى تعيينه لهذا المنصب الخطر في الدولة الإسلامية.

٢ - وقبل أن يتسلّم المأمون قيادة الدولة الإسلامية كان على علم بما يكنّه المجتمع الإسلامي من الكراهية والبغض للأسرة العباسية؛ وذلك لما اقترفوه من

الظلم والاستبداد بأمور المسلمين، وما صبّوه على السادة العلويين دعاة العدل الاجتماعي من أنواع الجور والطغيان، حتى تمنّى المسلمون عودة الحكم الأموي على ما فيه من قسوة وعذاب يقول الشاعر:

يا ليت جور بني مروان عاد لنا

وليت عدل بني العباس في النارِ

ويقول شاعر آخر:

ما أحسب الجور ينقضي وعلى

الأمّة والٍ من آل عباسِ

فأراد المأمون أن يفتح صفحة جديدة للمواطنين، ويلقي الستار على سياسة آبائه، فعيّن الإمام الرضاعليه‌السلام ، والذي هو أمل الأمّة الإسلامية لولاية العهد.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375