حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)10%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 205181 / تحميل: 8478
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يسبقوه إلى أهله، فجعل يقول: يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم(١) .

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطو خطوات قصيرة، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته، وتفاقمت جرائم قريش نحوه، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه، بإنهاء حياته وإطفاء نوره، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً، ويسلّموا له سيفاً صارماً، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد، حتى يموت، فيستريحوا منه، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً، ولا يقدر بنو هاشم، على حربهم.

ولكنّ الله ردّ كيدهم، وصدّهم عن ذلك، وخيّب حيلتهم، وأخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المكيدة الداهمة، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج، وبايعوه، ووعدوه بالنصر، والمؤازرة والحراسة.

والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن غادر مكة، وترك قومه، إلّا أنّ قومه لم يتركوه، بل أجّجوا نار الشحناء عليه، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية، وحملات طاحنة، وبذلت قريش آخر ما في وسعها، ورمت كل ما في كنانتها، وبالغت في تقويض الإسلام، وهدم بنائه، إلى أن دخل العام السادس، من الهجرة، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات، بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية، انقلب الى فتح مبين للإسلام، فانتهز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، وعظيم القبط، وملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،

__________________

(١) السيرة الحلبية، ج ١، ص ٣٢١ المقصود: هوجمتم من قبل العدو.

٤١

بل إلى رؤساء العرب، وشيوخ القبائل، والاساقفة، والمرازبة، والعمال، يدعوهم إلى دين الإسلام، الذي هو دين السلام، ورسالته من الله وما اُنزل إليه من ربّه.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته، عالمية لا تحدد بحد، بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

١. كتب إلى كسرى ملك فارس :

« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى أدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة، لاُنذر من كان حيّاً، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس »(١) .

٢. وكتبصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيصر ملك الروم :

« بسم الله الرحمن الرحيم، إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين »(٢) .

وما ذكرناه نماذج من رسائله، وكتاباته الإبلاغية، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول الله إلى العرب والعجم، وإلى الناس كلهم، من غير فرق بين اللون والجنس، والعنصر والوطن، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة، ووجود الانسان، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكافح كل مبدأ يضاد دينه، وكل رساله تغاير رسالته، وقد جرى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه طيلة حياته الرسالية، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد: « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من اُرسلت إليهم ضرباً من الخرق، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».

__________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٢، ص ٢٩٥، تاريخ اليعقوبي، ج ٢، ص ٦١ وغيرهما.

(٢) السيره الحلبية، ج ٢، ص ٢٧٥، مسند أحمد، ج ١، ص ٢٦٣ وغيرهما.

٤٢

فقد قال الله تعالى في سورة ص ٨٧ ـ ٨٨:( إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

وفي سورة يس ٦٩ ـ ٧٠:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ *لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

وفي سورة الفرقان ١:( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .

وقال سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ: ٢٨.

وقال سبحانه:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) . سورة الأعراف ١٥٨.

وقال سبحانه:( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) . سورة آل عمران: ٨٥.

وقال سبحانه:( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) . سورة النساء: ١٢٥.

وقال سبحانه:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إلّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) . التوبة: ٢٩ ـ ٣٣(١) .

__________________

(١) الدعوة إلى الإسلام، ص ٣٤.

٤٣

تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم، فنبهتهم من رقدتهم، وانهضتهم من كبوتهم، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته، وخاضع لرسالته، ومؤمن بما أتاه، إلى معظّم لرسله، ومجيز لهم، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه ـ حين أمره برمي الكتاب ـ: أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، وقال لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس: يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا إلى الله وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلّا الله وأنّ أحمد رسول الله.

وقال المقوقس: إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده ساحراً ضالاّ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول الله كتاباً، أظهر فيه إسلامه، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه، فأبى فأمر بقتله، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظمي وبناني

وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول الله: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير، وأساقفة نجران، ولبّاه عمّال كسرى باليمن، واقيال

٤٤

حضرموت، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة، كتابه المعروف، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما بلغه موته(١) .

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى ـ ومن لفّ لفه ـ وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان، فأبى أن يكون تابعاً للعرب، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى، فمزّق كتاب الرسول، وأرسل إلى باذان، عامله باليمن، وكتب إليه: « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به »(٢) .

هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها، أتينا بها بصورة مصغّرة، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصرّح بذلك في بدء دعوته، وأثنائها ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص، أو اُمّة معيّنة، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

__________________

(١) راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».

(٢) الكامل، ج ٢، ص ٨١، السيرة الحلبية، ج ٣، ص ٢٧٨، إلى غير ذلك.

٤٥

الأوّل: إنّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية، وأنّه رسول الله إلى الناس جميعاً، وأنّ الله أرسله رحمة للعالمين، وأنّه بشير ونذير للناس كافة، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه، من غير فرق بين شخص وشخص، أو عنصر وآخر، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

١.( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف ـ ١٥٨ ).

٢.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ ـ ٢٨ ).

٣.( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( النساء / ٧٩ ).

٤.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٧ ).

٥.( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان ـ ١ ).

٦.( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

ـ أي كل من بلغه القرآن، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض ـ.

٧.( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف ـ ٩ ).

٨.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) ( النساء ـ ١٧٠ ).

٩.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

١٠.( هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران ـ ١٣٨ ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها، صريحة في أنّ هتاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يختص باُمّة دون اُمّة، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني: إنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، وهذا دليل

٤٦

واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة، ودونك نماذج من هذا القسم.

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة ـ ٢١ ).

٢.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( البقرة ـ ١٦٨ ) إلى غير ذلك

فترى أنّه يخاطب الناس، ويقول: يا أيّها الناس تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً، ورسالته طائفية، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة(١) .

الثالث: إنّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه، من غير تقييد بلون، أو عنصر، أو شعب أرض خاصة، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها، وأنّ الرسالة التي اُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد، ودونك نماذج من هذا القسم :

١.( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ( آل عمران ـ ٩٧ ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه، عرباً كانوا، أم غير عرب ،

__________________

(١) لاحظ الفصل الثاني ـ في هذا الكتاب ـ ص ١١٣.

٤٧

فلم يقل: لله على الاُمّة العربية ـ مثلاً ـ حج بيته.

٢.( وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ( الحج ـ ٢٥ ).

٣.( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( لقمان ـ ٦ ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة(١) .

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع: يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص، بل تعم كل من تظلّه السماء، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء: ١٧٤ ).

٢.( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ) ( البقرة ـ ١٨٥ ).

٣.( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر: ٢٧ ).

٤.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم، لا للعرب خاصة، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة باُمّة دون اُمّة ؟! هذا ونجد سبحانه يقول:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الجمعة: ٣ ) وما المراد من ال‍:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) ـ أي من المؤمنين ـ ؟ أليس المراد كل من جاء بعد

__________________

(١) راجع المكاسب، ص ٣٨، للشيخ الأعظم الأنصاري.

٤٨

الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟(١) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث، وتهدف إلى أمر واحد: وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية، غير محدودة بحد، فلا يحدها قطر، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر ـ كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر ـ(٢) .

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام، وبفكرته الكلية، عن الكون والحياة والإنسان، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه: أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق، في مختلف الأبواب والفصول، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع، ولا تأخذ غيره دعامة، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلّا لنفس الأمر.

وإن شئت فقل: إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده، إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده، في عامة أقطار الأرض جميعاً، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فلا وجه

__________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ٢٨٤.

(٢) هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والاُصول، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.

٤٩

لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو بشعب دون شعب.(١)

ولا يجد الباحث ـ مهما اُوتي من مقدرة علمية كبيرة ـ في ما جاء به نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سعة نطاقه، وبحثه في شتى الجهات، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي، أو صبغة طائفية، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد اُخرى، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية، أو ظروف محلية، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وصار النافع منها ضاراً، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الامارات.

هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل، ونضعها على طاولة الحساب، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع: فقبل كل شيء، لاحظ كتاب الله العزيز، ومعجزة الإسلام الخالدة، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته، وساد العداء والتنازع بين الناس، وكان نظام الغاب وحده، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه، فهل نرى آية من آياته الباهرة، أو قانوناً من قوانينه، أو حكمة من حكمه ومعارفه، أو سننه من سنة، أو فريضة من فرائضه تنفع في

__________________

(١) سوف نرجع إليه في ختام البحث، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته.

٥٠

مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة، وتسف بجماعة اُخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة، أو فريته الشانئة ؟: « الإسلام دين طائفي، أو مبدأ إصلاح إقليمي، لا يصلح لعامة المجتمعات، ولا يصلح لعامة القارات، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ».

ليت شعري ماذا يريد منها ؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية، والكنوز العلمية، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها، أو شبهها.

فلو أراد ذلك، فتلك فرية بيّنة، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه، وتخضع لشيء دون الخالق، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك، ومصائد الضلال، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم، أو حيوان لا يدفع عن نفسه، أو انسان محتاج مثله، أو غيرها من الأرباب الكاذبة، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره، وبعبارة صحيحة: إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب، فلا وجه لأن يختص باُمّة دون اُمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق اُخرى، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق

٥١

وغيرها، قوانين إقليمية، لا تصلح إلّا لظروف خاصة، ولا تفيد إلّا في شبه الجزيرة العربية، ولا يسعد بها إلّا انسانها، دون اناس المناطق الاُخرى، إلّا أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا، والإصلاح بين الناس، وأداء الأمانة، وحسن السلوك معهم، والتعاون والاحسان، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله، أو تأسّست بعده، فأمر بالصدق وأداء الأمانة، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس، والعفو والغفران والقرى والضيافة، والتواضع، والشكر والتوكل، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال، والبهتان والغضب، والاثرة، والحسد، والغش والبغي والخمر والميسر، والجبن والغيبة والكذب، والاستكبار والرياء، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و .

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب، ودفع مفاسدها، وقصرها على مافيه من الخير للبشر، وايثار السلم على الحرب، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة، وأحلّ البيع وحرّم الربا، ونهى عن الغش والتطفيف، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :

٥٢

١.( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل ـ ٩٠ ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

٢. هلاّ كان منه قوله سبحانه( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء ـ ٥٨ ).

وقد ندد الله باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم، وقال:( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران ـ ٧٥ ).

وليس هذا إلّا لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون اُخرى، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

٣. أو ليس منه قوله سبحانه:( وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران ـ ١٠٤ ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه، فليس معنى هذا، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع، محصور في هذا النطاق، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية، والشخصية والاجتماعية من صدق، وعدل، وبر، وأمانة، وصلة رحم، ولين جانب، ووفاء عهد، ووعد، ورحمة للضعيف، ومساعدة للمحتاج، ونصرة للمظلوم، وصبر، ودعوة إلى الخير، وتواص بالحق، وعدم اللجاج فيه، والانفاق لله، والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والتعاون على البر والتقوى، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من

٥٣

كذب، وظلم، وبغي، واثم، وقتل نفس، وارتكاب فاحشة، وانتهاك عرض وافك وزور، وعربدة سكر، وإسراف وتبذير، وخيانة ونكث غدر، وخديعة، وقطع رحم، وأكل أموال الناس بالباطل، وجبن، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب، وفظاظة خلق، ورياء ومكابرة وانتقام باغ، وتناقض بين القول والعمل وغرور، وصد عن الحق، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم »(١) ، « والمعجم المفهرس »(٢) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الاُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء(٣) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة، وفي حقب من الزمان والمكان، فلو كانت مختصة بإقليم خاص، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الاُخر، لا إلى الرقي والحضارة(٤) .

الدعوة إلى الفطرة، أساس الأحكام الإسلامية :

لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فدعا إلى التوحيد المطلق، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة، ونشر العلم والحضارة

__________________

(١) تأليف المسيو جول لابوم، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة، حسب ما فهم منها، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده.

(٢) تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري.

(٣) اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه.

(٤) نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الاُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة، تأكلها حثالات الأرض.

٥٤

وقضى على الرذائل والمنكرات، والشهوات الجامحة، والتقاليد البالية، والخرافات الكاذبة، والرهبانية المبتدعة، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منها وتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدر شعرة.

فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء الله عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول: « إنّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّرة ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية :

وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلّا بالتقوى، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات ـ ١٣ ).

كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية، والزمالة البشرية، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق.

أجل حارب العصبية، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها، أعني: وحدة الاُمّة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الاخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، بل وحدة اللغة

٥٥

الدينية(١) .

وقد بلغت بها الاُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة، الذروة من المجد والعظمة، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد.

أو ليس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية، القاضية على كل نعرة طائفية، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون غيرها ؟

١. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّها الناس إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ألا إنّكم من آدم وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد الله، عبد إتّقاه »(٢) .

٢. « ألا إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه »(٣) .

٣. « إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا، مثل أسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى »(٤) .

٤. « إنّما الناس رجلان: مؤمن تقي، كريم على الله; وفاجر شقي، هيّن على الله »(٥) .

وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة، يقول :

« ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول :

« إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،

__________________

(١) كل ذلك دليل على عالمية تشريعه، وسعة نطاق رسالته، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: روضة الكافي، ص ٢٤٨، سيرة ابن هشام ج ٢، ص ٤١٢، بحار الأنوار، ج ٢١، ص ١٠٥، والشرح الحديدي، ج ١٧، ص ٢٨١، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.

٥٦

كان تفكيره تفكيراً غامضاً، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلّا لها، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب دون غيرهم، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ».

وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو اُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين.

ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلّا لتلك البلاد، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلّا للعرب دون غيرهم، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الاُمم وأحوالهم، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته، ألقت بمالها بين يديه، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلّا من ذكاء عقله وكفاية مواهبه.

هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكّة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من

٥٧

الذي غمر الجزيرة وملأها عدلاً وأمناً ودعة وحبّاً ؟

لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا.

أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكّر في أن يدعو خلق الله المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش ـ اتصالاً تعيش عليه قريش وينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية ـ فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلّا أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض.

وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلّا لبلاد العرب، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء، إذ يقول الله تعالى لرسوله في غير آية:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ) ( سورة النحل ـ ٨٩ ).

ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشة، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات »(١) .

__________________

(١) تاريخ الإسلام السياسي ـ الطبعة الخامسة ـ ج ١، ص ١٦٧ ـ ١٧٠، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.

٥٨

نظرة في الآيات

المشعرة بعدم العمومية

قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً.

غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها.

١. آيات الانذار :

انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات :

١.( وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( القصص ـ ٤٦ ).

٢.( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( السجدة ـ ٣ ).

٣.( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس ـ ٦ ).

٤.( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم ـ ٩٧ ).

٥٩

فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوم خاص، وبذلك تضيق دائرة الدعوة.

الجواب :

إنّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة.

لأنّها أوّلاً: لا تخرج من حدّ الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة.

وثانياً: إنّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار، ففي سورة يس التي ورد فيها:( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قوله سبحانه:( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( يس ـ ٧٠ ).

فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا.

وقال سبحانه أيضاً:( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) ( الكهف ـ ٤ ).

وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا: اتّخذ الله ولداً.

فاليهود قالوا بأنّ الله اتّخذ عزيراً ولداً.

والنصارى قالوا: بأنّ الله اتّخذ المسيح ولداً.

وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام.

فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء ـ ٤٥ ).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

٣ - إنّ معظم جيش المأمون ضبّاطاً وجنوداً كانوا من الشيعة الذين يدينون بإمامة الإمام الرضاعليه‌السلام فأراد أن يكسب ودّهم وإخلاصهم.

٤ - إنّ الثورة ضد الحكم العباسي قد اندلعت في معظم الأقاليم الإسلامية، وكان شعار الثوّار الذي رفعوه الدعوة إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد استجاب الثوّار لهذه البيعة التي عقدها للإمام، وفي نفس الوقت فقد أضفى على الإمام لقب الرضا ليجلب بذلك المأمون عواطف الثوّار، وبالفعل فقد بايع الثوّار المأمون واستراح من الخطر المحدق بدولته الذي كاد أن يلفّ لواءها، ويطوي معالمها، وكانت خطّة المأمون، وأنّه من الطراز الأول في السلك الدبلوماسي فقد استطاع أن يتغلّب على الأحداث المحيطة وينقذ حكومته من أعظم خطر محدق بها.

٥ - وفي بيعة المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد فقد أكسب

المأمون حكومته الشرعية، وأنّها ليست ظالمة كحكومة آبائه، وعلى هذا فالخروج عليه غير مشروع، ويجب على المسلمين مناهضة الثائرين عليه.

٦ - ومن المكاسب التي ظفر بها المأمون في هذه البيعة هو أنّه تعرّف على عناصر الشيعة، وتعرّف على هوياتهم، ولم يعودوا يعملون في السر والخفاء فقد كانت خلاياهم سرّية للغاية، وبعد البيعة ظهر أمرهم، وانكشفوا للسلطة.

٧ - ومن الأهداف التي كان ينشدها المأمون في هذه البيعة هو إظهار الإمامعليه‌السلام أنّه ليس من الزاهدين في الدنيا، وإنّما كان من عشّاقها في قبوله لهذه البيعة، ولم تكن تخفى على الإمام جميع أهداف المأمون، فقد أبطلها؛ وذلك بالشروط التي اشترطها على المأمون أن لا ينصب ولا يعزل، ويكون بمنحى عن الحكم كما سنوضح ذلك.

هذه بعض الأهداف التي دعت المأمون إلى عقده ولاية العهد إلى الإمام الرضاعليه‌السلام (١) ، ونعود للحديث عن ولاية العهد، وموقف الإمامعليه‌السلام منها، وبعض المواضيع التي ترتبط بها، وفيما يلي ذلك:

____________________

(١) عرض بصورة موضوعية وشاملة السيد جعفر مرتضى إلى الأهداف التي دعت المأمون لترشيح الإمام ولي عهده، وقد أحصاها إلى إحدى عشر هدفاً في كتابه حياة الإمام الرضا.

٢٦١

رسالة الفضل إلى الإمام:

وأرسل الفضل بن سهل رسالة إلى الإمام الرضاعليه‌السلام يطلب فيها القدوم إلى (خراسان)، ليتسلّم الخلافة من المأمون وهذا نصّها بعد البسملة:

لعلي بن موسى الرضا، وابن رسول الله المصطفى، والمهتدي بهديه، والمقتدي بفعله، الحافظ لدين الله، الخازن لوحي الله، من وليّه الفضل بن سهل، الذي بذل في ردّ حقّه إليه مهجته، ووصل ليله فيه بنهاره.

سلام عليك أيها المهتدي ورحمة الله وبركاته، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو وأسأله أن يصلّي على محمّدٍ عبده.

أمّا بعد: فإنّي أرجو أنّ الله قد أدّى لك، وإذن لك في ارتجاع حقّك ممّن استضعفك، وأن يعظم مننه عليك، وأن يجعلك الإمام الوارث، ويري أعداءك،

ومَن رغب عنك منك ما كان يحذرون.

وإنّ كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين عبد الله الإمام المأمون ومنّي على رد مظلمتك عليك، وإثبات حقوقك في يديك، والتخلّي منها إليك، على ما اسأل الله الذي وقف عليه: أن تبلغني ما أكون بها أسعد العالمين، وعند الله من الفائزين، ولحق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المؤدّين، ولك عليه من المعاونين، حتى أبلغ في تولّيك ودولتك كلتا الحسنتين.

فإذا أتاك كتابي - جُعلت فداك - وأمكنك أن لا تضعه من يدك، حتى تسير إلى أمير المؤمنين، الذي يراك شريكاً في أمره، وشفيعاً في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده... فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفاً، وبملائكته محفوظاً، وبكلاءته محروساً، وإنّ الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائدة عليك، وصلاح الأمّة بك، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته)(١) .

وحفلت هذه الرسالة التي رفعها أكبر مسؤول في الدولة العباسية بما يلي:

١ - إضفاء الألقاب الكريمة، والنعوت الرفيعة على الإمامعليه‌السلام ، من أنّه حافظ لدين الله تعالى، وخازن لوحيه، وهذه الألقاب هي التي تضفيها الشيعة على أئمّتهم.

____________________

(١) حياة الإمام الرضا (ص ٤٤٢ - ٤٤٣) نقلاً عن كتاب التدوين لعبد الكريم الرافعي الشافعي.

٢٦٢

٢ - إعلام الإمامعليه‌السلام بإرجاع الخلافة إليه، وأنّ الله تعالى قد شاء أن يرجع ويعود هذا الحق السليب الذي تناهبته أيدي الظالمين إلى أهله، وأصحابه، وهم أهل بيت النبوّة وسيّدهم الإمام الرضاعليه‌السلام .

٣ - إنّ هذه الرسالة لم تكن بإيحاء وتدبير من الفضل وحده، وإنّما كانت منه ومن المأمون فهو الذي عزم على التخلّي عن الخلافة وتسليمها للإمام.

٤ - واحتوت هذه الرسالة على طلب الفضل من الإمام مغادرة يثرب فوراً والتوجّه إلى (خراسان) ليتسلّم قيادة الحكم.

موقف الإمام:

ولم تظهر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام عن هذه الرسالة، إلاّ أنّه من المؤكّد أنّ الإمام رفض رفضاً باتّاً الاستجابة لها؛ وذلك لعلمه بنوايا المأمون وأنّه لا واقع لرسالة الفضل إليه وإنّما كانت هناك دوافع سياسية ومدبّرة تحت الكواليس هي التي دفعت الفضل والمأمون إلى هذا العرض.

رسل المأمون إلى الإمام:

وأرسل المأمون وفداً رسمياً لإشخاص الإمام الرضا (ص) من (يثرب) إلى (خراسان)، أمّا الشخص الذي كان يرأس الوفد فقد ذهب أكثر المؤرّخين إلى أنّه الرجاء بن أبي الضحاك، وقيل إنّه عيسى بن يزيد المعروف بالجلودي، واستبعد ذلك السيد الأمين، وقال: إنّ الجلودي كان من قوّاد الرشيد وكان عدوّاً للإمام الرضاعليه‌السلام ، وليس من الحكمة أن يبعثه المأمون لإشخاص الإمام(١) .

وقد عهد المأمون إلى رئيس الوفد أن يأتي بالإمامعليه‌السلام على طريق (البصرة)، و (الأهواز) و (فارس)، وأن لا يأتي به على طريق (الكوفة) و (قم)(٢) ، كما كتب المأمون إلى الإمام الرضاعليه‌السلام أن لا يأخذ على طريق الجبل وقم، وإنّما يأخذ على طريق البصرة والأهواز وفارس(٣) .

وواضح كل الوضوح السر في إصرار المأمون واهتمامه على أن لا يأتي الإمام من

____________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ١٢١.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤٩.

(٣) أعيان الشيعة البحار.

٢٦٣

طريق الكوفة وقم هو أنّ هاتين المدينتين من مراكز الشيعة، وأهلها ممّن يدينون بالولاء للإمامعليه‌السلام ويقولون بإمامته، ومن الطبيعي أنّه إذا اجتاز عليهما فسوف يقابل بمزيد من الحفاوة والتكريم، الأمر الذي يعزّز مركز الإمامعليه‌السلام ، ويشكّل ذلك خطراً على الدولة العباسية، أمّا مرور الإمام على (البصرة) فلا مكسب فيه للإمام؛ لأنّها كانت عثمانية الهوى، كما كانت تدين بالولاء للعباسيين، وهذا الإجراء يكشف عن زيف خطّة المأمون في التخلّي عن الحكم، وإرجاعه للعلويين.

الإمام يودّع قبر النبي:

ولم يجد الإمامعليه‌السلام بدّاً من إجابة المأمون، فمضى إلى قبر جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فودّعه الوداع الأخير، وعلم أنّه لا عودة له إلى جواره، روى محول السجستاني قال:

لـمّا ورد البريد بإشخاص الإمام الرضا إلى (خراسان) كنت أنا بالمدينة فدخل المسجد ليودّع قبر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فودّعه مراراً، وكان صوته يعلو بالبكاء والنحيب، فتقدّمت إليه، وسلّمت عليه، فردّ السلام، وهنّأته بما يصير إليه.

فقالعليه‌السلام :

(ذرني فإنّي أخرج من جوار جدّيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأموت في غربة وأُدفن في جنب هارون).

قال محول: فخرجت متبعاً طريق الإمام حتى مات بـ‍ (طوس)، ودُفن بجنب هارون(١) .

الإمام يأمر أهله بالبكاء عليه:

وكان الإمام الرضاعليه‌السلام على علم لا يخامره أدنى شك أن لا عودة له إلى أهله ووطنه، فودّعهم الوداع الأخير، وجمع عياله وأمرهم بالبكاء والنحيب عليه، وهو يسمع ذلك، ووزّع عليهم أثني عشر ألف دينار(٢) وعرّفهم أنّه لا يرجع إليهم أبداً.

____________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ١٢٢.

(٢) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ١٢٣ كشف الغمة ٣ / ٩٥.

٢٦٤

إقامة ولده الجواد مقامه:

وأقام الإمام الرضاعليه‌السلام ولده الجواد مقامه وهو ابن سبع سنين أو يزيد على ذلك، وأدخله مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووضع يده على حافة القبر الشريف وألصق ولده بالقبر، واستحفظه عند جدّه الرسول (ص) وقال له: أمرت جميع وكلائي، وحشمي، بالسمع والطاعة لك، وعرف أصحابه أنّه القيّم من بعده(١) .

إلى بيت الله الحرام:

وقبل أن يتوجّه الإمام إلى (خراسان)، يمّم وجهه نحو بيت الله الحرام ليودعه الوداع الأخير، وقد صحب معه معظم عائلته، وكان من بينهم ولده الإمام الجوادعليه‌السلام ، ولـمّا انتهى إلى بيت الله المعظم أدّى التحية فطاف بالبيت وصلّى بمقام إبراهيم، وسعى، وطاف معه ولده الإمام الجواد فلمّا انتهى إلى حجر إسماعيل جلس فيه، وأطال الجلوس فانبرى إليه موفق الخادم، وطلب منه القيام فأبى، وقد بدا عليه الحزن والأسى، فأسرع موفق نحو الإمام الرضا، وأخبره بشأن ولده، وبادر الإمام الرضا نحو ولده فطلب منه القيام فأجابه بنبرات مشفوعة بالبكاء والحسرات قائلاً:

(كيف أقوم وقد ودّعت يا أبتي البيت وداعاً لا رجوع بعده؟).

لقد رأى الإمام الجوادعليه‌السلام ما بدا على أبيه من الوجل والأسى، فاستشفّ من ذلك أنّه النهاية الأخيرة من حياة أبيه، وفعلاً قد تحقق ذلك، فإنّ الإمام الرضا لم يعد في سفرته إلى الديار المقدّسة، وقضى شهيداً مسموماً على يد المأمون العباسي.

إلى خراسان:

وغادر الإمام الرضاعليه‌السلام بيت الله الحرام متوجّهاً إلى خراسان، وقد قوبل بمنتهى الحفاوة والتكريم والإجلال في كل بلد أو حي اجتازه، فقد سارع المسلمون إلى الاحتفاء به، وهم يتبرّكون بتقبيل يديه، ويعرضون عليه التشرّف بضيافته وتقديم الخدمات له، كما يسألونه عن أحكام دينهم، وهوعليه‌السلام يجيبهم عن ذلك.

____________________

(١) الدر النظيم.

٢٦٥

في نيسابور:

وطوت قافلة الإمام البيداء تجذ في السير، لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى (نيسابور)(١) وقد استقبل فيها استقبالاً شعبياً منقطع النظير، فلم تشاهد (نيسابور) في جميع تأريخها مثل ذلك الاستقبال، وكان في طليعة المستقبلين كبار العلماء والفضلاء ورجال الحديث، وقد رووا عنه الحديث الذهبي الذي سنذكره.

ونزل الإمامعليه‌السلام في محلّة الغربي أو الفروي في دار شخص سمّاه أهل

نيسابور (بسندة) وهي كلمة فارسية معناها في العربية (مرضي)، لأنّ الإمامعليه‌السلام ارتضاه من دون الناس فنزل في داره، وزرع الإمام في تلك الدار لوزة فنبتت، وصارت شجرة وأثمرت في سنة، ولـمّا علم الناس جعلوا يستشفون بلوزها فمَن أصابته علّة تبرّك بالتناول من لوزها فعوفي ببركة الإمام العظيم، وقد قطع بعض أغصانها شخص فعمي، وقطع تلك الشجرة ابن حمدان فأصابه العمى(٢) .

وكان في (نيسابور) حمّام فدخل فيه الإمامعليه‌السلام فاغتسل فيه ثم خرج منه وصلّى على ظهره، وأخذ أهالي (نيسابور) يتبرّكون بذلك الحمّام فيغتسلون فيه ويشربون منه التماساً للبركة، ويصلّون على ظهره ويدعون الله عزّ وجل في حوائجهم فتقضى لهم ببركة الإمام العظيم(٣).

الحديث الذهبي:

وأحاط العلماء ورواة الحديث بالإمامعليه‌السلام ، وكان على بغلة شهباء،

____________________

(١) نيسابور: قال ياقوت الحموي: نيسابور مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، لم أر فيما طوّفت من البلاد كانت مثلها، وقال في مدحها أبو العباس الزوزني المعروف بالمأموني:

ليس في الأرض مثل نيسابور

بلدٌ طيب وربٌّ غفور

وقال المرادي: يذم أهلها:

لا تنزلن بنيسابور مغترباً

إلاّ وحبلك موصول بسلطانِ

أو فلا أدب يجدي ولا حسب

يغني ولا رحمة ترعى لإنسانِ

وقد تخرّج منها من أئمّة العلم ما لا يحصى، منهم: الحافظ الإمام أبو علي الحسين بن علي بن زيد بن داود بن يزيد النيسابوري الصائغ، معجم البلدان ٥ / ٣٣١ - ٣٣٢.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٣٣.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٣٥.

٢٦٦

وقد لبس عمامته، وكان في مقدمة العلماء يحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع، وأحمد بن حرب، وغيرهم(١) ، لـمّا رأته الجماهير الحاشدة وهو بتلك الهيئة التي تحكي هيئة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعالت أصواتهم بالتهليل والتكبير مشفوعة بالأسى والبكاء، وقد ضجّت البقعة بالبكاء فنادى العلماء والحفاظ:

(معاشر الناس انصتوا، وعوا، ولا تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عترته).

وألقى الإمامعليه‌السلام على العلماء هذا الحديث الشريف فقال:

(سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليهم‌السلام يقول: سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (لا إله إلاّ الله حصني فمَن دخل حصني أمن من عذابي).

ولـمّا مرّت الراحلة نادى أهل (نيسابور) فقال: (ولكن بشروطها، وأنا من شروطها)(٢) .

إنّ كلمة لا إله إلاّ الله حصن من حصون الله تعالى، ولكنّها ليست على إطلاقها موجبة للنجاة من العذاب، والأمن من العقاب، ولكن بشروط، منها: الإقرار بإمامة الإمام الرضاعليه‌السلام الذي هو أحد أوصياء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد كتب هذا الحديث الشريف ما ينيف على عشرين ألفاً(٣) من العلماء والحفّاظ، أمّا أسند هذا الحديث الشريف فهو من أجل وأروع الأحاديث المسندة،

يقول أحمد بن حنبل: لو قرئ هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جُنّته(٤) ، وقد أوصى

____________________

(١) المنتظم لابن الجوزي مصوّر في مكتبة السيد الحكيم (ج ١٠ ورقة ٦٧).

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٣٥ ونال هذا الحديث أهميّة كبرى عند العلماء فذكروا له عدّة طرق وأدرجوه في الأخبار المتواترة التي هي قطعية الصدور.

(٣) أخبار الدول (ص ١١٥).

(٤) الصواعق المحرقة.

٢٦٧

بعض أمراء السامانية أن يكتب هذا الحديث بالذهب ويدفن معه(١) .

إلى طوس:

وسرت قافلة الإمامعليه‌السلام من (نيسابور)، وهي تطوي الصحراء حتى انتهت إلى (سناباد)، وفيه جبل كانت تنحت منه القدور، فاستند إليه، قال: اللّهم انفع به، وبارك فيما يجعل فيه، وفيما ينحت منه، ثم أمر بأن ينحت منه قدور له فنحتت له، وقال: لا يطبخ ما آكله إلاّ فيها.

وفي (سناباد) دار حميد بن قحطبة الطائي التي فيها قبر هارون الرشيد فمضى إليها الإمام، وانتهى إلى قبر هارون فخطّ بيده إلى جانبه، وقال لمن حوله: هذه تربتي، وفيها أدفن، وسيجعل الله هذا المكان مختلف شيعتي، وأهل محبتي، والله ما يزورني منهم زائر، ولا يسلّم عليّ منهم مسلّم إلاّ وجب له غفران الله ورحمته بشفاعتنا أهل البيت، ثم استقبل القبلة فصلّى ركعتين ودعا بدعوات، ولـمّا فرغ من صلاته سجد سجدةً طال مكثه فيها فأحصيت له فيها خمسمائة تسبيحة(٢) ، ثم ناولعليه‌السلام بعض ثيابه إلى حميد لغسلها، فأخذها حميد وأعطاها إحدى جواريه فأخذتها، وسرعان ما أقبلت وقالت: وجدت رقعة في قميص أبي الحسن، فناولتها إلى حميد، وسارع بها إلى الإمامعليه‌السلام وقال له: ما فيها يا بن رسول الله (ص)؟

فقالعليه‌السلام :

(هذه عوذة من أمسكها في جيبه كان مدفوعاً عنه، وكانت له حرز من الشيطان الرجيم، ومن السلطان...).

وطلب حميد من الإمام أن يمليها عليه فأملاها وهذا نصّها بعد البسملة:

بسم الله إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّاً أو غير تقي، أخذت بالله السميع البصير على سمعك وبصرك، لا سلطان لك علي، ولا على سمعي وبصري، ولا على شعري، ولا على بشري، ولا على لحمي، ولا على دمي، ولا على مخّي، ولا على عصبي، ولا على عظامي، ولا على أهلي، ولا على مالي، ولا على ما رزقني ربّي، سترت بيني وبينك بستر النبوّة الذي استتر به أنبياء الله من سلطان الفراعنة، جبرئيل

____________________

(١) أخبار الدول (ص ١١٥).

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٣٦ - ١٣٧.

٢٦٨

عن يميني، وميكائيل عن يساري، وإسرافيل من ورائي ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أمامي، والله مطّلع على ما يمنعك ويمنع الشيطان منّي.

اللّهم لا يغلب جهله أناتك أن يستفزني ويستخفني، اللّهمّ إليك التجأت، اللّهمّ إليك التجأت، اللّهمّ إليك التجأت(١) .

استقبال المأمون للإمام:

وأمر المأمون باستقبال الإمام استقبالاً رسمياً، فخرجت القوّات المسلّحة لاستقباله وسائر أبناء الشعب، وكان المأمون في مقدمة مستقبليه، ومعه الفضل ابن سهل، وبقيّة وزرائه ومستشاريه، فصافح الإمام ورحّب به ترحيباً حارّاً، وخصّص له داراً فخمة، مزوّدة بالخدم والحشم، وسائر ما يحتاج إليه، وعني به عناية فائقة.

عرض الخلافة على الإمام:

وعرض المأمون الخلافة على الإمامعليه‌السلام ، تنازله عن الخلافة رسميّاً، وتقليد الإمامعليه‌السلام بها فقال له:

(يا بن رسول الله قد عرفت فضلك، وعلمك وزهدك وورعك، وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة منّي...).

فأجابه الإمام:

(بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله...).

لقد أعرب الإمامعليه‌السلام عن زهده في الدنيا، وورعه عن محارم الله تعالى مبتغياً بذلك الفوز في الدار الآخرة والرفعة عند الله.

وسارع المأمون قائلاً:

(إنّي رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك...).

ولم تخف على الإمام نوايا المأمون، وإنّه إنّما قام بذلك تنفيذاً لأغراضه السياسية، وكيف يتنازل عن الخلافة وقد قتل أخاه الأمين من أجلها، وخرّب بغداد، ونشر في ربوع العالم الإسلامي الثكل والحزن والحداد، فكيف يسلّمها للإمامعليه‌السلام ؟

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٣٨.

٢٦٩

وأجابه الإمام بجواب حاسم أغاظ المأمون، وورم منه أنفه قائلاً له: (إن كانت هذه الخلافة لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك...).

وأفحم المأمون، فقد سدّ الإمام عليه كل نافذة يسلك منها، وراح يقول مهدّداً للإمام:

(لا بد لك من قبول هذا الأمر...).

فأجابه الإمام:

(لست أفعل ذلك طائعاً أبداً...).

وبهر ذو الرياستين، وراح يقول:

(وا عجبا!! رأيت الميمون أمير المؤمنين يفوّض أمر الخلافة إلى الرضا، ورأيت الرضا يقول: لا طاقة لي بذلك، ولا قدرة لي عليه، فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها...).

لقد كان الإمامعليه‌السلام عالماً بزيف هذا العرض، وعدم جدّيته فالمأمون من الأسرة العباسية الحاقدة على آل البيتعليهم‌السلام ، فقد ارتكب معهم من المجازر ما لم ترتكبه الأسرة الأموية، فقتلوهم في وضح النهار وفي غلس الليل، وقد جهدوا أن لا يبقى علوياً على وجه الأرض، والمأمون ليس أقل خبثاً، فقد اغتال سيد العلويين الإمام الرضا وقتل غيره من السادة الأطهار، فكيف يثق الإمام به؟.

المبرّرات المزعومة للمأمون:

أمّا المبررات المزعومة للمأمون في عرضه للخلافة على الإمام الرضاعليه‌السلام فهي:

١ - إنّه وجّه دعوة إلى الفضل بن سهل والى أخيه الحسن بن سهل، فلمّا مثلا عنده عرض عليهما ما نواه من تقليد الإمام للخلافة فجعل الحسن يعظم ذلك عليه، ويعرفه مضاعفات ذلك، فقال المأمون: (إنّي عاهدت الله أن أخرجها - أي الخلافة - إلى أفضل آل أبي طالب إن ظفرت بالمخلوع، وما أعلم أحداً أفضل من هذا الرجل - يعني الإمام الرضا -)(١) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٥٦٢ - ٥٦٣)، الفصول المهمّة (ص ٢٤١).

٢٧٠

ومعنى هذا أنّه عقد عهداً مع الله يجب الوفاء به إن تمّ القضاء على أخيه، وظفر به، أن يعطي الخلافة إلى أفضل رجل من آل أبي طالب، وكان أفضلهم في عصره هو الإمام الرضاعليه‌السلام ، ولكن لا واقع لذلك مطلقاً كما دلّت على ذلك الأحداث.

٢ - إنّه حاول بنقل الخلافة إلى العلويين أن يكافئ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على ما أسداه إلى العباسيين من فضل حينما ولي الخلافة، فقد جعل عبد الله بن عباس وزيراً له كما قلّده إمارة البصرة، وكذلك قلّد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، وغير ذلك من الأيادي التي أسداها إليهم، فأراد المأمون بما عمله مكافأة الإمام في ولده(١).

٣ - إنّه إنّما عمل ذلك طاعة لله وطلباً لمرضاته، والخير للأمّة، ومصلحة المسلمين(٢) .

هذه بعض المبرّرات التي تذرّع بها المأمون لنقل الخلافة إلى الإمام الرضاعليه‌السلام .

زيف مبرّراته:

ولا واقع مطلقاً لهذه المبررات، فلو كان المأمون صادقاً فيها لما منع مرور الإمام على الكوفة في مجيئه من يثرب؛ وذلك خشية من أن يكون له استقبال شعبي في هذه المدينة التي هي من مراكز الشيعة في العالم الإسلامي، وكذلك منع اجتيازه على (قم) للعلّة ذاتها، ومضافاً لذلك فإنّ عبد الله بن أبي سهل النوبختي الذي كان عالماً بالنجوم أخبره أنّ وقت البيعة للإمام الرضا في الوقت الذي قرّره المأمون ليس بصالح ولا يتم، فأمر المأمون على تنفيذ بيعته للإمام في ذلك الوقت(٣) الأمر الذي ينم عن خبثه ودجله في هذا الأمر.

عرض ولاية العهد على الإمام:

وحاول المأمون بجميع الطرق والوسائل إقناع الإمامعليه‌السلام على قبول الخلافة أو ولاية العهد من بعده، فامتنع من إجابته امتناعاً شديداً، وقد استمرّت

____________________

(١) الآداب السلطانية (ص ٢١٩).

(٢) أعلن المأمون ذلك في وثيقة العهد التي سنذكرها.

(٣) فرج المهموم (ص ١٤٢)، تأريخ الحكماء (ص ٢٢٢ - ٢٢٣).

٢٧١

المحاولات على إقناعه أكثر من شهرين إلاّ أنّها لم تجد شيئاً وأصرّ الإمام على رفضه وامتناعه عن قبول أيّ منصب من مناصب الدولة.

إرغام الإمام:

ونفدت جميع الطرق الدبلوماسية التي سلكها المأمون لإقناع الإمامعليه‌السلام على قبول ولاية العهد، فرأى أن يسلك طريقاً آخر وهو التهديد والتوعيد للإمام، فقد بعث إلى الإمام فلمّا مثل عنده جرى حوار بينهما فقالعليه‌السلام له: (والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لاعلم ما تريد؟...).

وسارع المأمون قائلاً:

(ما أريد؟...).

وطلب الإمام منه الأمان إن صارحه بالحقيقة قائلاً:

(الإمام على الصدق؟).

(لك الأمان...).

وبيّن الإمام دوافع المأمون في إصراره على تقليده بولاية العهد قائلاً: (تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟...).

وغضب المأمون وورم أنفه، فصاح بالإمام قائلاً:

(إنّك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد، وإلاّ أجبرتك على ذلك فإن فعلت، وإلاّ ضربت عنقك...)(١) .

وانبرى الإمامعليه‌السلام يتضرّع إلى الله تعالى ويدعو قائلاً:

(اللّهمّ إنّك قد نهيتني من الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أكرهت واضطررت، كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل إن لم اقبل ولاية عهده، وقد أكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيالعليهما‌السلام إذ قبل كل واحد منهما الولاية من طاغية زمانه.

____________________

(١) أمالي الصدوق (ص ٤٣)، عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤٠.

٢٧٢

اللّهمّ لا عهد إلاّ عهدك، ولا ولاية لي إلاّ من قبلك، فوفّقني لإقامة دينك، وإحياء سنّة نبيّك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّك أنت المولى، وأنت النصير، ونعم المولى أنت، ونعم النصير...)(١) .

وقبل الإمام ولاية العهد وهو باكٍ حزين(٢) ، قد طافت به الآلام والهموم.

شروط الإمام:

وشرط الإمامعليه‌السلام على المأمون شروطاً تكشف عن عدم رضاه بولاية العهد، وإجباره على قبول هذا المنصب، وهي:

أ - لا يولّي أحداً.

ب - لا يعزل أحداً.

ج - لا ينقض رسماً.

د - يكون مشيراً من بعيد في شؤون الدولة(٣) .

وأجاز المأمون هذه الشروط التي تتصادم مع أهدافه، وتفضح نواياه.

نص وثيقة ولاية العهد:

ولم تقتصر ولاية العهد بين الإمامعليه‌السلام وبين المأمون على البحوث الكلامية، وإنّما دوّنت في وثيقة رسميّة، وقّع عليها الإمام والمأمون، وشهد عليها كبار رجال الدولة، وقد نقلتها جمهرة من مصادر التأريخ، وقد اطلع عليها ابن الجوزي وقال: ابتاعها خالي بمأتي دينار، وحملها إلى سيف الدولة صدقة بن منصور، وكان فيها خطوط جماعة من الكتّاب مثل الصولي عبد الله بن العباس، والوزير المغربي(٤) ، وقد اطلع عليها علي بن عيسى الإربلي، ونقل نصّها في كتابة (كشف الغمّة ) وذلك في سنة (٦٧٠ ه‍)(٥) ، ونحن ننقل نصّها فقد جاء فيها بعد البسملة:

(هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين لعلي بن موسى بن جعفر.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ١ / ١٩.

(٢) ينابيع المودّة (ص ٢٨٤).

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤٠.

(٤) مرآة الزمان ٥ / ورقة ١٤٨ مصوّر.

(٥) كشف الغمّة.

٢٧٣

أمّا بعد: فإنّ الله عزّ وجل اصطفى الإسلام ديناً، واصطفى من عباده رسلاً دالين عليه، وهادين إليه، ويبشّر أوّلهم بآخرهم، ويصدّق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوّة الله إلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله على فترة الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهداً لهم، ومهيمناً عليهم وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، بما أحلّ وحرم ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، وأمر به، ونهى عنه لتكون له الحجة البالغة على خلقه، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيا من حيى عن بيّنة، وإنّ الله لسميع عليم.

فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا انقضت النبوّة، وختم الله بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الوحي والرسالة، وجعل قوام الدين، ونظام أمر المسلمين بالخلافة، وإتمامها وعزّها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي يقام بها فرائض الله تعالى وحدوده، وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوّه.

فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبيل،

وحقن الدماء وصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين، واختلالهم، واختلاف ملّتهم وقهر دينهم، واستعلاء عدوّهم، وتفرّق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة.

فحق على مَن استخلفه الله في أرضه، وائتمنه على خلقه أن يجهد الله نفسه، ويؤثر ما فيه رضي الله وطاعته، ويعتمد لما الله مواقفه عليه، ومسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما أحله الله وقلده، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) وقال الله عز وجل:( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ، وبلغنا أنّ عمر بن الخطاب قال: (لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوّفت أن يسألني الله عنها).

٢٧٤

وأيم الله إنّ المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله، ليعرض على أمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمّة، وبالله الثقة، وإليه المفزع، والرغبة في التوفيق والعصمة، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجّة، والفوز من الله بالرضوان والرحمة، وأنظر الأمة لنفسه، وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلائقه في أرضه، من عمل بطاعة الله وكتابه وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في مدّة أيامه وبعدها، وأجهد رأيه فيمَن يوليه عهده، ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه علماً لهم، ومفزعاً في جمع ألفتهم، ولمّ شعثهم، وحقن دمائهم والأمن بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم، واختلافهم ورفع نزغ الشيطان وكيده عنهم، فإنّ الله عزّ وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام الإسلام وكماله، وعزّه وصلاح أهله، وألهم خلفاءه الخلافة من توكيده لـمَن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة وشملت فيه العافية، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة والسعي والفرقة والتربص للفتنة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقها، وثقل محملها، وشدّة مؤونتها، وما يجب على مَن تقلّدها من ارتباط طاعة الله، ومراقبته فيما حمله منها، فانصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عزّ الدين، وقمع المشركين، وصلاح الأمّة ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنّة، ومنعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، علما بما الله سائله عنه، ومحبة أن يلقى الله مناصحاً له في دينه وعباده، ومختاراً لولاية عهده، ورعاية الأمّة من بعده أفضل من يقدر عليه، في دينه وورعه وعمله، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقّه، مناجياً بالاستجارة في ذلك ومسألته، وإلهامه ما فيه رضاه وطاعته في آناء ليله ونهاره، ومعملاً في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس، وعلي بن أبي طالب فكره ونظره، مقتصراً ممّن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته، حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة.

فكان خيرته بعد استخارته الله، وإجهاده نفسه في قضاء حقّه في عباده وبلاده في البيتين جميعاً:

٢٧٥

علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

لـمّا رأى من فضله البارع، وعلمه النافع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخلّيه من الدنيا، وتسلّمه من الناس.

وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة والألسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولـمّا لم يزل يعرفه به من الفضل يافعاً، وناشئاً، وحدثاً ومكتهلاً، فعقد له بالخلافة من بعده، واثقاً بخيرة الله في ذلك، إذ علم الله أنّه فعله إيثارا له، وللدين ونظراً للإسلام والمسلمين، وطلباً للسلامة، وثبات الحجّة والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لربّ العالمين.

ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقوّاده وخدمه، فبايعوا مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده، وغيرهم ممّن هو أشبك منه رحماً وأقرب قرابة.

وسمّاه الرضا، إذ كان رضا عند أمير المؤمنين، فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده وعامة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده علي بن موسى على اسمه وبركته، وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم منشرحة لها صدورهم، عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طلعة الله، والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين بها من قضاء حقّه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدة ذلك في جمع إلفتكم، وحقن دمائكم، ولمّ شعثكم، وسدّ ثغوركم وقوّة دينكم، ورغم عدوّكم، واستقامة أموركم، وسارعوا إلى طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين، فإنّه الأمن إن سارعتم إليه، وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله...)(١) .

وانتهت هذه الوثيقة وكان تأريخها يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين هجرية.

وطلب المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام أن يكتب بيده الشريفة بقبول هذا العهد، فكتبعليه‌السلام بخطّه بعد البسملة ما يلي:

____________________

(١) صبح الأعشى ٩ / ٣٦٢ - ٣٦٦.

٢٧٦

(الحمد الله الفعّال لما يشاء، ولا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، وصلاته على نبيّه خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.

أقول: وأنا علي بن موسى بن جعفر: إنّ أمير المؤمنين عضده الله بالسداد، ووفّقه للرشاد، عرف من حقّنا ما جهله غيره، فوصل أرحاماً قُطعت، وأمن أنفساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افترقت، ومبتغياً رضى ربّ العالمين، لا يريد جزاءً من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين.

وأنّه جعل إلى عهده، والإمرة الكبرى إن بقيت بعده، فمَن حلّ عقدة أمر الله بشدّها، وفصم عروة أحبّ الله إيثاقها، فقد أباح الله حريمه، وأحلّ محرمه، إذ كان بذلك زارياً على الإمام منتهكاً حرمة الإسلام، بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض على العزمات، خوفاً من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز وبائقة تبتدر.

وقد جعلت الله على نفسي إن استرعاني أمر المسلمين وقلّدني خلافة العمل فيهم - عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة - بطاعته وطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن لا أسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً، ولا مالاً إلاّ ما سفكته حدود الله، وأباحته فرائضه، وأن أتخيّر الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكّداً، يسألني الله عنه، فإنّه عزّ وجل يقول: ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) .

وإن أحدثت أو غيرت أو بدلت كنت للغير مستحقاً وللنكال متعرضاً، وأعوذ بالله من سخطه، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته، في عافية لي وللمسلمين.

والجامعة والجفر يدلاّن على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي، ولا بكم، إن الحكم إلاّ لله يقضي بالحق، وهو خير الفاصلين، ولكنّي امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإيّاه، وأشهدت الله على نفسي بذلك وكفى بالله شهيداً...).

وكتبت بخطّي، وبحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه والفضل بن سهل، وسهل بن الفضل، ويحيى بن أكثم، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين.

٢٧٧

وكتب الفضل بن سهل وزير المأمون ما صورته:

(رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قراءة مضمون هذا المكتوب ظهره وبطنه بحرم سيّدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين الروضة والمنبر على رؤس الأشهاد، ومرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وسائر الأولياء والأجناد، وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين الحجّة به على جميع المسلمين وإبطال الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين:( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) .

وكتب الفضل بن سهل في التأريخ المعين فيه.

وكتب يحيى بن أكثم القاضي ما صورته: (شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذه الصحيفة ظهرها وبطنها، وكتب بخطّه بالتأريخ.

وكتب حماد بن النعمان ما صورته: (شهد حماد بن النعمان بمضمون ظهره وبطنه).

وكتب بشر بن المعتبر ما صورته: (شهد بمثل ذلك بشر بن المعتمر وكتب بخطّه بالتأريخ)(١) .

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر في وثيقة المأمون، وما كتبه الإمام الرضاعليه‌السلام ، وما شهد به الفضل بن سهل، وفيما يلي ذلك:

محتويات وثيقة ولاية العهد:

وحفلت وثيقة ولاية العهد التي وقّعها المأمون والإمام الرضا بما يلي:

أوّلاً - الإشادة بالإسلام، وبكتاب الله العظيم: الذي هو المنهج الكامل والدستور الشامل لسعادة الإنسان وصلاحه.

ثانياً - الإشادة بالرسول العظيم داعية الله الأكبر، ورافع مشعل التوحيد، والنقطة الفكرية في الأرض.

ثالثاً - بيان أهمية الخلافة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبها قوام الدين، ونظام أمر المسلمين، وهي ظل الله في الأرض.

رابعاً - لزوم طاعة المسلمين للخلفاء، فإنّ عدم طاعتهم تنجم منه الإضرار البليغة

____________________

(١) صبح الأعشى ٩ / ٣٩٢ - ٣٩٣.

٢٧٨

على العالم الإسلامي.

خامساً - إنّ على الخلفاء مسؤوليات خطيرة، والتي منها إيثار طاعة الله على كل شيء، والحكم بالحق والعدل بين الناس، إلى غير ذلك من المسؤوليات الجسام التي عرضتها الوثيقة بصورة شاملة.

سادساً - إنّ من أهم مسؤوليات الخلفاء تعيين ولاة العهد من بعدهم، وأن يكون التعيين قائماً على الاختيار التام والفحص الشديد في أمر مَن يعيّنه من بعده، وأن لا يكون الاختيار خاضعاً للمحاباة والأهواء، فإنّ في ذلك تعريض الأمّة لأخطار جسام تُمنى بها.

سابعاً - إنّ المأمون قد بذل جهداً شاقاً وعسيراً في اختيار ولي عهده، فلم يجد في الأسرة العلوية، ولا في الأسرة العباسية من هو أفضل من الإمام الرضاعليه‌السلام ؛ وذلك لما يتمتع به من الصفات الكريمة التي منها:

أ - الفضل البارع.

ب - العلم النافع.

ج - الزهد الخالص في الدنيا.

د - الورع عن محارم الله تعالى.

وهذه الصفات الكريمة هي التي دفعت المأمون لانتخاب الإمام الرضاعليه‌السلام ، وترشيحه لولاية العهد من بعده.

محتويات ما كتبه الإمام:

أمّا محتويات ما كتبه الإمام الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله على وثيقة ولاية العهد، فهي كما يلي:

أولاً - الإشادة بصلات المأمون للسادة العلويين، فقد أنعشهم بها بعد ما عانوا من الضيق والحرمان، والظلم من حكّام بني العباس الذين جهدوا على أن لا يبقى علوي على وجه الأرض، فقد دفنوهم أحياء، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر، وألقوا بأطفالهم في حوض (دجلة) حتى ماتوا، إلى غير ذلك من المآسي التي صبّها العباسيون على العلويين.

ثانياً - أشار الإمامعليه‌السلام بقوله: (إذ كان بذلك زارياً على الإمام الخ) إلى

٢٧٩

جدّه الإمام أمير المؤمنين باب مدينة علم النبي (ص)، ورائد حكمته، الذي أقصاه القوم عن منصبه الذي قلّده النبي (ص) له في يوم (غدير خم )، وقد عانت الأمّة من جرّاء ذلك ألواناً رهيبة من المآسي والويلات، فقد أصبحت الخلافة بأيدي الجناة أمثال: معاوية ويزيد ومروان والوليد والمنصور وغيرهم من أئمّة الظلم والجور، الذين لم يألوا جهداً في ظلم الناس وإرغامهم على ما يكرهون.

وأشار الإمامعليه‌السلام بقوله: (فصبر منه على الفلتات) إلى قول عمر بن الخطاب الذي وصم بيعة أبي بكر بأنّها فلتة وقى الله المسلمين شرّها فقد صبر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على هذه الفلتة (وفي العين قذى وفي الحلق شجى) - على حدّ تعبيره - وذلك حرصاً منه على كلمة الإسلام من الانهيار، ووحدة المسلمين من التصدّع؛ وذلك لقرب المسلمين من الجاهلية، وتربّص القوى المعادية للإسلام للفتك والانقضاض عليه إذا حدث انقسام بين صفوف المسلمين، الأمر الذي دعا الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام للصبر على نهب تراثه.

ثالثاً - إنّ الإمامعليه‌السلام قد قطع على نفسه عهداً مسؤولاً عنه أمام الله، وأمام المسلمين أن يسوس الناس سياسة قوامها العدل الخالص، والحق المحض، ويعيد للناس سيرة جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويختار لجهاز الحكم الأكفّاء الصالحين الذين يخشون الله تعالى ويبتغون الدار الآخرة... بكل هذه الأهداف العظيمة التي سيحققها الإمام إذا تقلّد خلافة المسلمين.

رابعاً - واستشفّ الإمامعليه‌السلام من وراء الغيب أنّه لا يتقلّد الخلافة، ولا تنعم الأمة في حكمه، فقد قرأ في(الجامعة) و(الجفر) اللذين هما من ودائع النبوّة، وفيهما علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة أنّ الخلافة لا تنتهي إلى الإمامعليه‌السلام ، وأنّ تقلّده لولاية العهد إنّما هو خداع وتضليل من قبل المأمون.

محتوى كتابة الفضل:

أمّا ما كتبه الفضل بن سهل على وثيقة ولاية العهد فإنّه يشير إلى أنّ هذه الوثيقة متى أمر المأمون بقراءتها في الجامع النبوي بين الروضة والمنبر الشريف على رؤوس الأشهاد من وجوه الهاشميين، والقوّات المسلّحة وسائر الناس؛ ليكون ذلك أبلغ في توكيد العهد، ودفع آراء الجاهلين والمغرضين.

هذه بعض محتويات الوثيقة وملحقاتها، وقد كانت صريحة في محتوياتها، وليس

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375