حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204488 / تحميل: 8458
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

المعاني) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطا بشيء غير صحيح ، حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة ، لأنّ فيها تعارضا واضحا مع الآيات التالية ، والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض ، ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين ، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطا ، بقرائن الآيات التالية ، وسيأتي مزيد بحث في نهاية هذا البحث. ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول :( وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ ) وأصلحوا أموركم ومسير حياتكم( وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) .

بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و «التسليم» ، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل) ، إذ تقول :( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) .

وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث :

الخطوة الأولى : التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى.

الخطوة الثّانية : الإيمان بالله والاستسلام له.

الخطوة الثّالثة : العمل الصالح.

فبعد طي هذه المراحل الثلاث يكون الإنسان قد دخل إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع طبقا لوعد الله المؤكد مهما كان ذلك الإنسان مثقلا بالذنوب.

أمّا بشأن المراد من( اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) فقد ذكر المفسّرون تفسيرات متعددة. والتّفسير الذي هو أفضل من البقية هو أنّ أوامر متعددة ومختلفة نزلت من عند البارئعزوجل ، البعض منها واجب والآخر مستحبّ ، والبعض الآخر مباح ، والمراد من (أحسن) هو انتخاب الواجبات

١٢١

والمستحبات ، مع الانتباه إلى تدرّجها.

وقال البعض : إنّه إشارة إلى كون القرآن هو أحسن الكتب السماوية النازلة ، بدليل ما ورد في الآية (٢٣) من هذه السورة الزمر( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) . وبالطبع فإنّه لا يوجد هناك أي تعارض بين التّفسيرين.

* * *

بحثان

١ ـ باب التوبة مفتوح للجميع

من المشاكل التي تقف عائقا في طريق بعض المسائل التربوية ، هو إحساس الإنسان بعقدة الذنب من جزاء الأعمال القبيحة السابقة التي ارتكبها ، خاصة إذا كانت هذه الذنوب كبيرة ، إذ أنّ الذي يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد التوجّه نحو الطهارة والتقوى والعودة إلى الله ، فكيف يتخلص من أعباء الذنوب الكبيرة السابقة.

هذا التفكير يبقى كابوسا مخفيا يرافقه كالظل ، فكلّما خطا خطوة نحو تغيير منهاج حياته وسعى نحو الطهارة والتقوى ، وتحدثه نفسه : ما الفائدة من التوبة؟

فسلاسل أعمالك السابقة تطوق يديك ورجليك ، لقد اصطبغت ذاتك بلون الذنب ، وهو لون ثابت ولا يمكن إزالته والمطلعون على مسائل التربية وتوبة المذنبين يدركون جيدا ما ذكرناه ، يعلمون حجم هذه المشكلة الكبيرة.

التعاليم الإسلامية في القرآن المجيد حلت هذه المشكلة عند ما أفصحت عن أنّ التوبة والإنابة يمكن أن تكون أداة قاطعة وحازمة للانفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة ، أو حتى يمكن أن تكون بمثابة (ولادة جديدة) للتائب إذا تحققت بشرطها وشروطها ، إذ تكرر الحديث في الروايات الإسلامية بشأن بعض المذنبين

١٢٢

التائبين ، حيث ورد (كمن ولدته أمه).

وبهذا الشكل فإنّ القرآن الكريم يبقي أبواب اللطف الإلهي مفتّحة أمام كلّ الناس مهما كانت ظروفهم ، والمثال على ذلك الآيات المذكورة آنفا التي تدعو المجرمين والمذنبين بلطف للعودة إلى الله ، وتعدهم بإمكانية محو الماضي.

ونقرا في رواية وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(١) .

كما ورد حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام جاء فيه : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ»(٢) .

ومن البديهي أن هذه العودة لا يمكن أن تتمّ بدون قيد أو شرط ، لأنّ البارئعزوجل حكيم ولا يفعل شيئا عبثا ، فإذا كانت أبواب رحمته مفتحة أما عباده ، ودعوته إيّاهم للتوبة مستمرة ، فإنّ وجود الاستعداد عند العباد أمر لا بدّ منه.

ومن جهة اخرى يجب أن تكون عودة الإنسان صادقة ، وأن تحدث انقلابا وتغيرا في داخله وذاته.

ومن ناحية ثانية يجب أن يبدأ الإنسان بعد توبته باعمار وبناء أسس الإيمان والعقيدة التي كانت قد دمّرت بعواصف الذنوب.

ومن ناحية ثالثة يجب أن يصلح الإنسان بالأعمال الصالحة عجزه الروحي وسوء خلقه ، فكلّما كانت الذنوب السابقة كبيرة ، عليه أن يقوم بأعمال صالحة أكثر وأكبر ، وهذا بالتحديد ما بيّنه القرآن المجيد في الآيات الثلاث المذكورة أعلاه تحت عنوان (الإنابة) و (التسليم) و (اتباع الأحسن).

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الاول ، الصّفحة ١٢٧ ، مادة التوبة.

(٢) أصول الكافي ، المجلد ٢ ، الصفحة ٢١٦ ، باب التوبة ، الحديث ١٠.

١٢٣

٢ ـ اصحاب الأحمال الثقيلة

بعض المفسّرين أوردوا أسبابا متعددة لنزول الآيات آنفة الذكر ، ويحتمل أن تكون جميعها من قبيل التطبيق وليس من قبيل أسباب النّزول.

ومنها قصة (وحشي) الذي ارتكب أفظع جريمة في ساحة معركة أحد ، عند ما قتل حمزة عمّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدرا ، وقد كان حمزة قائدا شجاعا كرّس كلّ حياته في سبيل الدفاع عن النّبي الكريم. وبعبارة اخرى : إنّه كان درعا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فبعد أن بلغ الإسلام أوج عظمته وانتصر المسلمون على أعدائهم ، أراد وحشي أن يدخل الدين الإسلامي ، ولكنّه كان خائفا من عدم قبول إسلامه ، ولما أسلم قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوحشي؟» قال : نعم ، قال : «أخبرني كيف قتلت عميّ» فأخبره ، فبكىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : «غيب وجهك عنّي فإنّي لا أستطيع النظر إليك» فلحق بالشام فمات في الخمر(١) . وهنا تساءل أحدهم : هل أن هذه الآية تخص وحشيا فقط أم تشمل كلّ المسلمين ، فأجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّها تشمل الجميع.

ومنها قصة النباش ـ قال : دخل معاذ بن جبل على رسول الله باكيا فسلّم فردّعليه‌السلام ثمّ قال : «ما يبكيك ، يا معاذ؟» فقال : يا رسول الله ، إنّ بالباب شابا طريّ الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادخل عليّ الشاب يا معاذ» فأدخله عليه فسلم فردّعليه‌السلام قال : «ما يبكيك يا شاب؟»

قال : كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا ، إن أخذني اللهعزوجل ببعضها أدخلني نار جهنم؟ ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبدا.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل أشركت بالله شيئا؟».

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد ٢ ، الصفحة ٦٣٧ ، مادة (وحش) وتفسير الفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، الصفحة ٤ ، وتفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٣.

١٢٤

قال : أعوذ بالله أن أشرك بربّي شيئا.

قال : «أقتلت النفس التي حرّم الله؟».

قال : لا.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الجبال الرواسي».

فقال الشاب : فإنّها أعظم من الجبال الرواسيّ.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق».

قال : فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها ، وأشجارها وما فيه من الخلق.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يغفر الله ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسي».

قال : فإنّها أعظم من ذلك.

قال : فنظر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال : «ويحك يا شاب ذنوبك أعظم أم ربّك؟».

فخّر الشاب لوجهه وهو يقول : سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي ، ربّي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فهل يغفر الذنب العظيم إلّا الربّ العظيم».

قال الشاب : لا والله يا رسول الله ، ثمّ سكت الشاب فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟».

قال : بلى ، أخبرك : إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أخرج الأموات وأنزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليهم الليل ، أتيت قبرها فنبشتها ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها وتركتها متجرّدة على شفير قبرها ومضيت

١٢٥

منصرفا ، فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها. فإذا أنا بصوت من ورائي يقول : يا شاب ويل لك من ديّان يوم الدين ، فما أظن أنّي أشم رائحة الجنّة أبدا فما ترى يا رسول الله.

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تنحى عنّي يا فاسق ، إنّي أخاف أن أحترق بنارك ، فما أقربك من النّار!

فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها متعبّدا فيها ، ولبس مسحا وغل يديه جميعا إلى عنقه ، ونادى : يا ربّ هذا عبدك (بهلول) بين يديك مغلول ثمّ قال : اللهم ما فعلت في حاجتي إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيّك ، وإن لم تستجب لي دعائي فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) (١) .

الظاهر أنّ تلاوة جبرائيل لهذه الآية هنا لم تكن لأوّل مرّة كي تعدّ من أسباب النّزول ، وإنّما هي آية مكررة ونزلت من قبل ، وتكرارها إنّما هو للتأكيد وجلب الانتباه أكثر ، وإعلان عن قبول توبة ذلك الرجل المذنب. ونكرر مرّة اخرى : إن مثل أولئك الأشخاص الذين يحملون على أكتافهم ذنوبا ثقيلة عليهم أداء واجبات كثيرة لمحو آثار الماضي.

وقد ذكر «الفخر الرازي» أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات إذ قال : إنّها نزلت في أهل مكّة حيث قالوا : يزعم محمّد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له ، وقد عبدنا وقتلنا ، فكيف نسلم؟!(٢) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٦ ، الصفحة ٢٤ (طبع بيروت).

(٢) التّفسير الكبير لفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، الصفحة ٤ ذيل آيات البحث.

١٢٦

الآيات

( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) )

التّفسير

الندم لا ينفع في ذلك اليوم :

الآيات السابقة أكّدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة ، وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرق لذلك الموضوع ، ففي البداية تقول :( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ) (١) .

«يا حسرتا» : هي في الأصل (يا حسرتي) ، (حسرة أضيفت إليها ياء

__________________

(١) في بداية الآية عبارة تتعلق بالآيات السابقة ، ويكون التقدير (لئلا تقول نفس) أو (حذرا أن تقول نفس) وفي الحالة الثانية تكون مفعولا له لعبارة (أنيبوا واسلموا واتبعوا). (إن) في عبارة (وإن كنت لمن الساخرين) مخففة من الثقيلة إذ أنّها كانت في الأصل ، (إنّي كنت من الساخرين).

١٢٧

المتكلم) ، والتحسر معناه الحزن ممّا فات وقته لانحساره ممّا لا يمكن استدراكه.

ويرى الراغب في مفرداته (يا حسرتا) من مادة (حسر) على وزن (حبس) وتعني التعري والتجرد من الملابس ، وبما أن الندم والحزن على ما مضى بمنزلة زوال حجب الجهل ، فلا اطلاق على هذه الموارد.

نعم ، فعند ما يرد الإنسان إلى ساحة المحشر ، ويرى بأمّ عينيه نتائج إفراطه وإسرافه ومخالفته واتخاذه الأمور الجدية هزوا ولعبا ، يصرخ فجأة (وا حسرتاه) إذ يمتلئ قلبه في تلك اللحظات بغمّ كبير مصحوب بندم عميق ، وهذه الحالة النفسية التي وردت في الآيات المذكورة.

أما فيما يخصّ معنى( جَنْبِ اللهِ ) هنا؟ فإنّ المفسّرين ذكروا تفاسير ومعاني كثيرة لها. وكلمة (جنب) تعني في اللغة «الخاصرة» ، كما تطلق على كلّ شيء يستقر إلى جانب شيء آخر ، مثلما أن اليمين واليسار يعنيان الطرف الأيمن والأيسر للجسم ، ثمّ يقال لكل شيء في يسار أو يمين الجسم ، وهنا( جَنْبِ اللهِ ) تعني أن الأمور ترجع إلى جانب الله ، فأوامره وإطاعته والتقرب إليه ، والكتب السماوية كلها نزلت من جانبه ، وكلها مجموعة في هذا المعنى.

وبهذا الترتيب فإنّ المذنبين يكشفون في ذلك اليوم عن ندامتهم وحسرتهم وأسفهم على تقصيرهم وتفريطهم تجاه الله سبحانه وتعالى ، خاصة فيما يتعلق بسخريتهم واستهزائهم بآيات الله ورسله ، لأنّ السبب الرئيسي لتفريطهم هو العبث والسخرية من هذه الحقائق الكبيرة بدافع الجهل والغرور والتعصب.

ثمّ تضيف الآية( أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) .

يبدو أنّ هذا الكلام يقوله الكافر عند ما يوقف أمام ميزان الحساب ، حيث يرى البعض يقادون إلى الجنّة وهم محملون بأعمالهم الحسنة ، وهنا يتمنى الكافر لو أنّه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنّة الخلد.

وتضيف الآية مرّة اخرى( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ

١٢٨

الْمُحْسِنِينَ ) .

وهذا ما يقوله الكافر ـ أيضا ـ حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنّار نحو جهنم ، وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها ، وهنا يتأوه من أعماق قلبه ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرّة اخرى إلى الحياة الدنيا ليطهر نفسه من الأعمال السيئة والقبيحة بأعمال صالحة تهيئه وتعده للوقوف في صفوف المحسنين والصالحين.

والملاحظ أنّ كلّ عبارة من هذه العبارات الثلاث يقولها المجرمون عند مشاهدة مشهد معين من عذاب يوم القيامة الرهيب.

حيث أنّهم يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله فور دخولهم ساحة المحشر.

ويتمنون لو أنّهم فازوا بما فاز به المتقين ، عند ما يرون الثواب الجزيل الذي أغدقه البارئعزوجل على عباده المتقين.

ويتوسلون إلى البارئعزوجل ليعيدهم إلى الحياة الدنيا ليصلحوا ماضيهم الفاسد ، عند ما يرون العذاب الإلهي الأليم.

القرآن المجيد يردّ على القول الثّاني من بين الأقوال الثلاثة إذ يقول :( بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ) (١) .

إنّ قولك : لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين ، فما هي الهداية الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل الله ، وآياته وعلاماته الصادقة في الآفاق والأنفس؟! إنّك سمعت بأذنيك وشاهدت بعينيك كلّ هذه الآيات ، فما كان ردّ فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبير والكفر!

__________________

(١) رغم أنّ المتحدّث هي النفس وهي مؤنث ، وأنّ القرآن أورد أوصافها وأفعالها بصيغة المؤنث في آياته ، ولكن في هذه الآية ورد ضمير (كذبت) وما بعدها بصيغة المذكر ، وذلك لأنّ المقصود هنا هو الإنسان ، وقد قال البعض : إنّ (النفس) يمكن أن تأتي بصيغتي المذكر والمؤنث.

١٢٩

فهل يمكن أن يعاقب البارئعزوجل أحدا من دون أن يتمّ حجّته عليه؟ وهل كان هناك فرق بينك وبين الذين اهتدوا إلى طريق الحق من حيث المناهج التربوية الإلهية التي أعدّت لكم ولهم؟ لهذا فأنت المقصر الرئيسي ، وأنت بنفسك جلبت اللعنة إليك!

فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي ، ومن بعد يأتي التكذيب بآيات الله ، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان.

ولكن لماذا لم يجيب القرآن على القول الأول؟

الجواب : لأنّ هناك حقيقة لا مناص منها ، وهي أنّهم يجب أن يتحسروا ويغرقوا في الغم والهم.

وأما بشأن قولهم الثّالث الذي يتوسلون فيه إلى البارئعزوجل كي يسمح لهم بالعودة إلى الحياة الدنيا ، فإنّ القرآن الكريم يجيبهم في عدّة آيات منها الآية (٢٨) من سورة الأنعام :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) والآية (١٠٠) من سورة المؤمنون ، ولا حاجة لتكرار تلك الأجوية.

والملاحظ هنا أنّ الرد على قولهم الثّاني ، يمكن أن يكون في الوقت نفسه إجابة على السؤال الثّالث أيضا ، لأنّهم ماذا يهدفون من عودتهم إلى الحياة الدنيا؟ هل أنّه أمر آخر غير إتمام الحجة ، في حين أنّ البارئعزوجل أتمّ الحجة عليهم بصورة كاملة لا نقص فيها ، فانتباه المجرمين من غفلتهم فور مشاهدتهم للعذاب ، إنّما هو نوع من اليقظة الاضطرارية التي لا يبقى لها أي أثر عند ما يعودون إلى حالتهم الطبيعية. حقا إنّه نفس الموضوع الذي يشير إليه القرآن الكريم بشأن الكافرين والمشركين الذين يدعون الله مخلصين له الدين عند ما يبتلون بخطر ما في وسط البحر المتلاطم الأمواج ، ثمّ ينسون الله بمجرّد أن ينجيهم ويوصلهم بسلام إلى ساحل النجاة( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ

١٣٠

إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (١) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ التفريط في جنب الله

قلنا : إنّ( جَنْبِ اللهِ ) التي وردت في آيات بحثنا لها معان واسعة ، تشمل كلّ ما يرتبط بالله سبحانه وتعالى ، وبهذا الشكل فإنّ التفريط في جنب الله يشمل كلّ أنواع التفريط في طاعة أوامر الله ، واتباع ما جاء في الكتب السماوية ، والتأسي بالأنبياء والأولياء.

ولهذا السبب ورد في العديد من روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الأئمّة الأطهار هم المقصودون بـ( جَنْبِ اللهِ ) ، ومن تلك الروايات ما ورد في أصول الكافي نقلا عن الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام إذ قال في تفسير :( يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) : «جنب الله أمير المؤمنين وكذلك من كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم»(٢) .

كما نقرأ في تفسير عليّ بن إبراهيم نقلا عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «نحن جنب الله»(٣) .

والمعنى ذاته ورد في روايات اخرى لأئمّة أهل البيت الأطهارعليهم‌السلام .

وكما قلنا مرارا فإنّ هذه التفاسير إنّما هي من قبيل بيان المصاديق الواضحة ، لأنّ من المسلّم أنّ اتباع نهج الأئمّة إنّما هو اتباع للرسول وطاعة لله ، إذ أنّ الأئمةعليهم‌السلام لا ينطقون بشيء من عندهم.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية ٦٥.

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، الصفحة ٤٩٥.

(٣) تفسير نور الثقلين المجلد الرابع الصفحة ٤٩٥.

١٣١

وفي حديث آخر تمّ تعريف العلماء غير العالمين بأنّهم مصداق واضح للمتحسرين ، وحيث ورد في كتاب (المحاسن) حديث للإمام الباقرعليه‌السلام ، جاء فيه : «إن أشد الناس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا بالعدل ثمّ خالفوه ، وهو قول اللهعزوجل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله»(١) .

٢ ـ على أعتاب الموت أو القيامة؟

هل أنّ تلك الأقوال الثلاثة قالها المجرمون عند ما شاهدوا العذاب الإلهي في الدنيا وهو عذاب الاستئصال والهلاك في نهاية أعمارهم؟ أم عن زمان دخولهم ساحة القيامة؟

المعنى الثّاني أنسب ، لأنّ الآيات السابقة تتحدث عن عذاب الاستئصال والآية التالية تتحدث عن يوم القيامة ، والشاهد على هذا القول هو الآية (٣١) من سورة الأنعام التي تقول :( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها ) .

والروايات المذكورة أعلاه خير شاهد على هذا المعنى.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٤٩٦.

١٣٢

الآيات

( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) )

التّفسير

الله خالق كلّ شيء وحافظه :

الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذابين والمستكبرين الذين يندمون يوم القيامة على ما قدمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا ، ولكن هيهات أن يستجاب لهم طلبهم ، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر ، إذ تقول :( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) .

ثم تضيف( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) .

لا شكّ أن عبارة( كَذَبُوا عَلَى اللهِ ) لها مفاهيم ومعان واسعة وعميقة ، لكن

١٣٣

الآية ـ هنا ـ تستهدف أولئك الذين قالوا بوجود شريك لله ، أو باتخاذ الله ولدا من الملائكة أو الذين يزعمون أنّ المسيحعليه‌السلام هو ابن الله ، وأمثال هذه المزاعم والادعاءات.

وكلمة «مستكبر» تطلق دائما على أولئك الذين يرون أنفسهم ذات شأن وقدر كبير ، ولكن المراد منها ـ هنا ـ أولئك الذين يستكبرون على الأنبياء ، والذين يتركون اتباع الشريعة الحقة ، ويرفضون قبولها واتباعها.

اسوداد وجوه الكاذبين يوم القيامة دليل على ذلتهم وهوانهم وافتضاحهم ، وكما هو معروف فإن ساحة القيامة هي ساحة ظهور الأسرار والخفايا وتجسيد أعمال وأفكار الإنسان ، فالذين كانت قلوبهم سوداء ومظلمة في الدنيا ، وأعمالهم وأفكارهم سوداء ومظلمة أيضا ، يخرج هذا السواد والظلام من أعماقهم إلى خارجهم في يوم القيامة ليطفح على وجوههم التي تكون في ذلك اليوم مسودّة ومظلمة.

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الإنسان يطابق باطنه يوم القيامة ، ولون الوجه يكون بلون القلب ، فالذي قلبه أسود ومظلم ، يكون وجهه مظلما وأسود ، والذي قلبه ساطع بالنور يكون وجهه كذلك ساطعا بالنور.

وهو ما ورد في الآيتين (١٠٦) و (١٠٧) من سورة آل عمران( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

والملفت للنظر أنّه قد ورد في بعض الروايات أهل البيتعليهم‌السلام ، أن الكذب على الله ، الذي هو أحد أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة ، له معان واسعة تشمل حتى الادعاء بالإمامة والقيادة كذبا ، كما ذكر ذلك الشيخ الصدوق في كتاب (الاعتقادات) نقلا عن الإمام الصادقعليه‌السلام عند ما أجاب الإمام على سؤال

١٣٤

يتعلق بتفسير هذه الآية ، وقال : «من زعم أنّه إمام وليس بإمام ، قيل : وإن كان علويا فاطميا؟ قال : وإن كان علويا فاطميا»(١) .

وهذا في الحقيقة بيان لمصداق بارز ، لأنّ الادعاء المزيف بالإمامة والقيادة الإلهية هو أوضح مصاديق الكذب على الله.

وكذلك فإنّ من نسب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى الإمام المعصوم حديثا مختلقا ، اعتبر كاذبا على الله ، لأنّهم لا ينطقون عن الهوى.

لهذا فقد ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من تحدث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما فإن صدق علينا فإنّما يصدق على الله وعلى رسوله ، وإن كذب علينا فإنّه يكذب على الله ورسوله ، لأنّا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال فلان ، إنّما نقول قال الله وقال رسوله ثمّ تلا هذه الآية( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ) (٢) .

الحديث المذكور يبيّن بصورة واضحة أنّ أئمة أهل البيت الأطهار ، لم يقولوا شيئا من عندهم ، وإن كلّ الأحاديث التي وردت عنهم صحيحة وموثوقة ، لأنّها تعود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه الحقيقة مهمّة جدا ، وعلى علماء الإسلام أن يلتفتوا إليها ، فالذين لا يقبلون بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، عليهم أن يقبلوا بأن الأحاديث التي يرويها أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، إنّما هي منقولة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبهذا الشأن ورد في كتاب الكافي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام :

«حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول اللهعزوجل »(٣) .

__________________

(١) الإعتقادات الإمامية ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٦ ، ونفس المعنى نقل عن تفسير علي بن إبراهيم وكتاب الكافي (يراجع المجلد الأوّل من كتاب الكافي (باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل) الحديث الأوّل والثّالث).

(٢) مجمع البيان ذيل آية البحث.

(٣) أصول الكافي ، المجلد ١ ، صفحة ٥١ (باب رواية الكتب والأحاديث) الحديث ١٤.

١٣٥

هذا الكلام يدعو إلى الإمعان والتأمل أكثر في آيات القرآن المجيد ، لأن التكبر هو المصدر الرئيسي للكفر ، كما نقرأ ذلك بشأن الشيطان( أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) (١) . ولهذا السبب فلا يمكن أن يكون للمستكبرين مكان آخر غير جهنم ليحترقوا بنارها ، وقد ورد في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

«إنّ في جهنم لواد للمتكبرين يقال له سقر ، شكى إلى اللهعزوجل شدة حرّه ، وسأله أن يتنفس فأذن له فتنفس فأحرق جهنم»(٢) .

الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة ، حيث تتحدث عن المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة ، إذ تقول :( وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ ) (٣) .

ثم توضح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني ،( لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

نعم ، إنّهم يعيشون في عالم لا يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور ، وهذه العبارة القصيرة جمعت ـ حقّا ـ كلّ الهبات الإلهية فيها.

الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة التوحيد والجهاد ضدّ الشرك ، وتواصل مجادلة المشركين ، حيث تقول :( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) .

العبارة الأولى في هذه الآية تشير إلى (توحد الله في الخلق) والثانية تشير إلى (توحده في الربوبية).

فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون ، كما ورد

__________________

(١) البقرة ، ٣٤.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٩٦ ، كما ورد نفس المعنى في تفسير الصافي في ذيل آيات البحث.

(٣) «مفازة» : مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر ، و (الباء) في (بمفازتهم) للملابسة أو السببية ، وبالنسبة إلى الحالة الأولى يكون المعنى إن الله يعطيهم النجاة المقترنة بالخلاص والفلاح ، أمّا بالنسبة إلى الحالة الثانية فالمعنى يكون (إن الله أنقذهم ونجاهم بسبب إخلاصهم) كناية عن الأعمال الصالحة والإيمان ـ.

١٣٦

في الآية (٣٨) من السورة هذه( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .

ولكنّهم ابتلوا بالانحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية) ، في بعض الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبر أمرهم ، وكانوا يلجؤون إليها عند ما يواجهون أي مشكلة. والقرآن المجيد ـ من خلال الآية المذكورة أعلاه ـ يشير إلى حقيقة أنّ تدبير أمور الكون وحفظه هي بيد خالقه ، وليس بيد أحد آخر ، ولهذا يجب اللجوء إليه دائما.

وقد ذكر «ابن منظور» في كتاب (لسان العرب) معاني متعددة لكلمة (وكيل) منها : الكفيل ، والحافظ ، والمدبر للأمر.

ومن هنا يتضح أنّ الأصنام ليست مصدر خير أو شر ، وأنّها عاجزة عن حل أبسط عقدة ، حيث أنّها موجودات ضعيفة وعاجزة ، ولا يمكن أن تقدم أدنى فائدة للإنسان.

وقد عمد بعض المؤيدين للمذهب الجبري إلى الاستدلال على بعض الأمور من عبارة( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) لتأكيد ما جاء في معتقداتهم المنحرفة ، إذ قالوا : إنّ هذه الآية تشمل الأعمال أيضا ، ولهذا فإنّ أعمالنا تعد من خلق الله ، رغم أنّ أعضاءنا هي التي تقوم بها.

إنّ خطأ أولئك هو أنّهم لم يدركوا هذه الحقيقة جيدا ، وهي أنّ خالقية الله سبحانه وتعالى لا يوجد فيها أي تعارض مع حرية الإرادة والإختيار لدينا ، لأنّ التناسب فيما بينهما طولي وليس عرضي.

فأعمالنا تتعلق بالله ، وتتعلق بنا أيضا ، لأنّه لا يوجد هناك شيء في هذا الكون يمكن أن يكون خارج إطار سلطة البارئعزوجل ، وعلى هذا الأساس فإن أعمالنا هي من خلقه ، وإنه أعطانا القدرة والعقل والإختيار والإرادة وحرية العمل ، ومن هذه الناحية يمكن أن ننسب أعمالنا إليه ، حيث إنّه أراد أن نكون

١٣٧

أحرارا وننفذ الأعمال بأختيارنا ، كما أنّه وضع كلّ ما نحتاجه تحت تصرفنا.

لكننا في الحال ذاته أحرار مخيرون في تنفيذ الأعمال ، وعلى ذلك فإنّ أفعالنا منسوبة إلينا ونحن المسؤولون عنها.

فإذا قال أحد : إنّ الإنسان يخلق أعماله ، ولا دخل للهعزوجل فيها ، فإنّه قد أشرك لأنّه في هذه الحالة يعتقد بوجود خالقين ، خالق كبير وخالق صغير ، وإذا قال آخر : إنّ أعمالنا هي من خلق الله ولا دخل لنا فيها ، فقد انحرف ، لأنّه أنكر بقوله هذا حكمة وعدالة الله ، إذ لا يصح أن يجبرنا في الأعمال ، ثمّ يحمّلنا مسئوليتها! لأنّ في هذه الحالة ، يصبح الجزاء والثواب والحساب والمعاد والتكليف والمسؤولية كلّها عبثا.

لذا فإن الاعتقاد الإسلامي الصحيح والذي يمكن أن يستشف من مجموع آيات القرآن المجيد ، هو أن كلّ أعمالنا منسوبة لله وإلينا ، وهذه النسبة لا يوجد فيها أي تعارض ، لأنّها طولية وليست عرضية.

أمّا الآية التالية فقد تطرقت (توحيد الله في المالكية) لتكمل بحث التوحيد الذي ورد في الآيات السابقة ، إذ تقول :( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

«مقاليد» : كما يقول أغلب اللغويين ، جمع (مقليد) (مع أن الزمخشري يقول في الكشاف : إن هذه الكلمة ليس لها مفرد من لفظها) و (مقليد) و (إقليد) كلاهما تعني المفتاح ، وعلى حدّ قول صاحب كتاب (لسان العرب) وآخرين غيره فإن كلمة (مقليد) مأخوذة من (كليد) الفارسية الأصل ، ومن العربية تستعمل بنفس المعنى ، ولذا فإن( مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) تعني مفاتيح السماوات والأرض.

هذه العبارة تستخدم ككناية عن امتلاك شيء ما أو التسلط عليه كأنّ يقول أحد : مفتاح هذا العمل بيد فلان. لذا فإنّ الآية المذكورة أعلاه يمكن أن تشير إلى (وحدانية الله في الملك) وفي نفس الوقت تشير إلى وحدانيته في التدبير والربوبية والحاكمية على هذا العالم الكوني.

١٣٨

ولهذا السبب أوردت الآية المذكورة بمثابة استنتاج( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

لأنّهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات وتاهوا في صحاري الضلال عند ما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح السماوات والأرض ، وتوجهوا نحو موجودات عاجزة تماما عن تقديم أدنى عمل لهم.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه طلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضيح معنى كلمة (مقاليد) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا علي ، لقد سئلت عن عظيم المقاليد ، هو أن تقول عشرا إذا أصبحت ، وعشرا إذا أمسيت ، لا إله الّا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا قوة إلا بالله (هو) الأوّل والآخر والظاهر والباطن له الملك وله الحمد (يحيي ويميت) بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير»(١) .

ثم أضاف : «من قالها عشرا إذا أصبح ، وعشرا إذا أمسى ، أعطاه الله خصالا ستا أوّلها يحرسه من الشيطان وجنوده فلا يكون لهم عليه سلطان».

أمّا من ردد هذه الكلمات بصورة سطحية فإنّه ـ حتما ـ لا يستحق كل ، هذه المكافآت ، فيجب الإيمان بمحتواها والتخلق بها.

هذا الحديث يمكن أن يشير إلى أسماء الله الحسنى التي هي أصل الحاكمية والمالكية لهذا العالم الكوني.

من مجموع كلّ الأمور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد ، يمكن الحصول على نتيجة جيدة ، وهي أنّ التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن نكرانها وعلى كلّ إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام ، ولهذا فإن

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، الصفحة ٥٧١٩ ، وتفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلد ٩ ، الصفحة ٤١٧ ذيل آيات البحث (مع اختصار ذيل الحديث).

١٣٩

البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة( قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ) .

هذه الآية ـ وبالنظر الى أنّ المشركين والكفرة كانوا أحيانا يدعون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى احترام آلهتهم وعبادتها ، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو الهي عن عبادتها ، ـ أعلنت وبمنتهى الصراحة أنّ مسألة توحيد الله وعدم الإشراك به هي مسألة لا تقبل المساومة والاستسلام أبدا ، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك وتمحى من على وجه الأرض.

فالآية تعني أنّ عبدة الأصنام على العموم هم أناس جهلة ، لأنّهم لا يجهلون فقط البارئعزوجل ، بل يجهلون حتى مرتبة الإنسان الرفيعة.

إنّ التعبير بـ «تأمروني» ، الذي ورد ـ في الآية الآنفة ـ يشير إلى أنّ الجهلة كانوا يأمرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يعبد أصنامهم بدون أيّ دليل منطقي ، وهذا الموقف ليس بعجيب من أفراد جهلة.

أليس من الجهل والغباء أن يترك الإنسان عبارة الباريعزوجل رغم مشاهدته للكثير من الأدلّة في هذا العالم والتي تدلّ على علمه وقدرته وتدبيره وحكمته ، ثمّ يتمسّك بعبادة موجودات تافهة لا قيمة لها وعاجزة عن تقديم أدنى مساعدة وعون لعبدتها.

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

إحساساً...

ولنستمع إلى فصل آخر من رسالته يقول:

(وأمّا ما ذكرتم من العثرة كانت في أبي الحسن نوّر الله وجهه، فلعمري إنّها عندي للنهضة والاستقلال الذي أرجو به قطع الصراط، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر، ولا أظن عملاً هو عندي أفضل من ذلك إلاّ أن أعود بمثلها إلى مثله، وأين لي بذلك وأين لكم بتلك السعادة...).

لقد رد المأمون على أسرته التي عابت عليه عقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وأنّه قد عثر بذلك عثرة لا تغفر، فأجابهم أنّه قد خطا بذلك خطوة كبرى لنهضة الأمّة واستقلالها، فقد رشّح لزعامتها أفضل إنسان على وجه الأرض يقيم الحق، وينشر العدل، ويعيد للإسلام كرامته...

وهذا فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا قولكم: إنّي سفهت آراء آبائكم، وأحلام أسلافكم، فكذلك قال مشركو قريش:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) ويلكم إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء، فافقهوا، وما أراكم تعقلون).

وردّ المأمون بهذا الكلام على ما زعمته أسرته من أنّه سفه آراء آبائه، وأفسد أحلام أسلافه، وذلك ببرّه وإحسانه إلى آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ هذا المنطق الهزيل قد تمسك به المشركون من قبل حينما دعاهم الرسول الأعظم إلى كلمة التوحيد فرفضوا ذلك فقالوا: (انا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)...

ولنستمع إلى الفصل الأخير من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا تعييركم إياي: بسياسة المجوس، وإيّاكم فما أذهبكم (الأنفة) في ذلك، ولو ساستكم القردة والخنازير، وما أردتم إلاّ أمير المؤمنين، ولعمري لقد كانوا مجوساً فأسلموا كآبائنا وأمهاتنا في القديم، فهم المجوس الذين أسلموا، وأنتم المسلمون الذين ارتدوا، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد فهم يتناهون عن المنكر، ويأمرون بالمعروف، ويتقربون من الخير، ويتباعدون من الشر، ويذبون عن حرم المسلمين، يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر، ويتباشرون بما نال الإسلام وأهله من الخير... منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

٣٠١

وليس منكم إلاّ لاعب بنفسه، مأفون في عقله، إمّا مغن، أو ضارب دف، أو زامر، والله لو أنّ بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها لما زادوا على ما صيّرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً.

ليس منكم إلاّ مَن إذا مسّه الشر جزع، وإذا مسّه الخير منع، ولا تأنفون، ولا ترجون إلاّ خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً، كأنّه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرّب، أحب الناس مَن زيّن له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة، وتربده المطمورة، مشتّت الأحوال، فإن ارتدعتم ممّا أنتم فيه من السيئات والفضائح، وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم وإلاّ فدونكم تعلو بالحديد، ولا قوّة إلاّ بالله، وعليه توكّلي وهو حسبي...)(١) .

وانتهت هذه الرسالة، وقد أدلى المأمون في أواخرها بعيوب أسرته وفضائحها، ولا أعلم أنّ أسرة عربية قد وصمت بمثل الفضائح التي ذكرها المأمون، والتي انتهت بهذه الأسرة إلى مستوى سحيق ماله من قرار.

____________________

(١) البحار ٤٩ / ٢٠٨ - ٢١٤ الطبعة الحديثة، حياة الإمام الرضا (ص ٤٥٣ - ٤٦٠) وقد نقلناها منه.

٣٠٢

شؤون الإمام في (خراسان)

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الإمام الرضاعليه‌السلام حينما كان مقيماً في (خراسان)، وفيما يلي ذلك:

وفادة الشعراء على الإمام:

وبادرت كوكبة من أعلام الشعر العربي في ذلك العصر نحو الإمام الرضاعليه‌السلام تقدّم له تهانيها، وتبريكاتها لتولّيه ولاية العهد، كان منهم: الشاعر الكبير دعبل الخزاعي، الثائر على الظلم والجور، والمعبّر عن آلام المظلومين والمضطهدين، ومنهم: الشاعر الملهم إبراهيم بن العباس الصولي نابغة عصره في الأدب نظماً ونثراً(١) ، ومنهم: الأديب الكبير الشاعر رزين بن علي شقيق دعبل الخزاعي.

وقبل سفرهم إلى (خراسان) قال دعبل لإبراهيم:

إنّي أريد أن أصحبك إلى خراسان؟ فقال له إبراهيم:

(حبذا أنت صاحباً ومصحوباً، إن كنّا على شريطة بشار...).

____________________

(١) عرضنا لترجمته في البحث عن أصحاب الإمام ورواة حديثه.

٣٠٣

وبادر دعبل قائلاً:

(ما شريطته؟...).

قال قوله:

أخ خير من آخيت أحمل ثقله

ويحمل عنّي إذا حملته ثقلي

أخ إن نبا دهر بنا كنت دونه

وإن كان كون كان لي ثقة مثلي

أخ ماله لي لست أرهب بخله

ومالي له لا يرهب الدهر من بخلي(١)

وفي أثناء سفرهم قطع عليهم الطريق فاضطرّوا إلى ركب حمير تحمل الشوك، فقال إبراهيم:

أعيدت بعد حمل الشوك أحمالاً من الخزف

نشاوى لا من الخمر بل من شدّة الضعف

وقال: لرزين أجز هذا، فقال:

فلو كنتم على هذا تصيرون إلى النصف

تساوت حالكم فيه ولم تبقوا على الخصف

ثم قال لدعبل: أجز هذا يا أبا علي، فقال:

إذا فات الذي فات فكونوا من ذوي الظرف

وخفوا نقصف اليوم فإنّي بايع خفي(٢)

وانتهت قافلة هؤلاء الأعلام تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى خراسان، وفور وصولهم، بادروا إلى مقابلة الإمامعليه‌السلام فأنشده دعبل تائيته الخالدة التي سنذكرها، وأنشده إبراهيم بن العباس قصيدته التي لم يرو المؤرّخون منها إلاّ هذا البيت:

أزالت عناء القلب بعد التجلّدِ

مصارع أولاد النبي محمّدِ

واحتفى بهم الإمام، وقابلهم بمزيد من الحفاوة والتكريم.

جائزة الإمام لدعبل:

ووهب الإمام إلى دعبل صرّة فيها عشرة آلاف درهم من الدراهم المضروبة باسمه(٣) ، ولم تكن تلك الدراهم قد وقعت في يد أحد قبل دعبل، فرفض دعبل

____________________

(١) تأريخ ابن عساكر ٥ / ٣٣١.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤١ - ١٤٢.

(٣) الأغاني ١٨ / ٢٩، معجم الأدباء ٤ / ١٩٤، وفي رجال الكشي (ص ٣١٤) أنّه أعطاه ست مائة دينار، وفي الإتحاف أنّه أعطاه مائة دينار وهو بعيد عمّا عرف به الإمام من الكرم والسخاء.

٣٠٤

أخذها، وقال: لا والله ما هذا أردت، ولا له خرجت، وإنّما جئت للتشرّف به، والنظر إلى وجهه، وطلب من خادم الإمام أن يهب الإمام له ثوباً من ثيابه، فأنفذ إليه الإمام بجبّة خز(١) مع الدراهم، وقال له: خذ هذه الصرة فإنّك ستحتاج إليها.

وانصرف دعبل حتى انتهى إلى (قم)، وقد أذيع فيها حديث جبّة الإمامعليه‌السلام فسارع القميّون إلى دعبل، وسألوه أن يبيع إليهم الجبّة بثلاثين ألف درهم(٢) فأبى وسار عن (قم) فلحقه قوم من القميّين، وقالوا له: إن شئت أن تأخذ المال، وإلاّ فأنت أعلم، فقال لهم: إنّي والله لا أعطيكم إيّاها طوعاً، ولا تنفعكم غصباً، فإنّها إنّما تراد لله عزّ وجل، وهي محرّمة عليكم، وحلف أن لا يبيعها إليهم إلاّ أن يعطوه بعضها لتكون في كفنه فأعطوه كمّاً واحداً فكان في أكفانه(٣) ، ويقول الرواة:

إنّ جارية لدعبل كانت أثيرة عنده قد مرضت فعصبها دعبل بما عنده من جبّة الإمامعليه‌السلام فبرأت(٤) .

وأمّا الدراهم فقد باع دعبل كل درهم منها بعشرة دراهم إلى أهالي (قم) فبلغت حصّته مائة ألف درهم(٥) .

جائزة إبراهيم من الإمام:

ومنح الإمامعليه‌السلام إبراهيم الصولي عشرة آلاف درهم من الدراهم التي ضُرب عليها اسمه الشريف، ولم يبعها إبراهيم وإنّما بقيت عنده(٦) فتصرّف في بعضها، وبقي الآخر عنده حتى توفّي.

القصيدة الخالدة لدعبل:

وتعد قصيدة دعبل التي ألقاها على الإمام الرضاعليه‌السلام من ذخائر

____________________

(١) مقدمة ديوان دعبل (ص ٥٢).

(٢) في رجال النجاشي (ص ١٩٧) وفي البحار ١٢ / ٧١ أنّ الإمام خلع عليه قميصاً أخضر، وخاتماً فصّه عقيق، وقال له: احتفظ بهذا القميص فقد صلّيت فيه ألف ليلة بألف ركعة، وختمت فيه القرآن ألف ختمة.

(٣) الأغاني ١٨ / ٢٩. معجم الأدباء ٤ / ١٩٤.

(٤) البحار ١٢ / ٧١.

(٥) أمالي المرتضى ١ / ٤٨٤.

(٦) أمالي المرتضى ١ / ٤٨٤.

٣٠٥

الأدب العربي، ومن مناجم التراث الإسلامي، وهي من أشهر قصائد دعبل، وقد أثرّت في نفس الإمام تأثيراً بالغاً، حتى بكى، وأغمى عليه ثلاث مرات(١) ؛ لأنّه عرض فيها الفجائع القاسية التي حلّت بأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد كتبها دعبل في ثوب وأحرم فيه وأوصى أن يكون في أكفانه(٢) .

وقد انتشرت قصيدة دعبل انتشاراً هائلاً في ذلك العصر، وقد سمعها المأمون فأعجب بها، وطلب من دعبل أن يقرأها عليه، وقال له: لا بأس عليك ولك الأمان من كل شيء فيها، وقد رويتها إلاّ إنّي أحب أن أسمعها من فيك، فأنشدها والمأمون يبكي حتى اخضلّت لحيته من دموعه(٣) .

ومن طريف ما ينقل عن هذه القصيدة الغرّاء أنّ دعبل لـمّا سار من (مرو) في قافلة قطع عليهم اللصوص الطريق، وأخذوا كل ما معهم، واتفق أنّ لصّاً كان ينهب ما عند دعبل وينشد بيتاً من قصيدته التي ألقاها على الإمام وهو:

أرى فيئهم في غيرهم متقسماً

وأيديهم من فيئهم صفرات

فقال له دعبل: لـمَن هذا البيت؟ فقال له لرجل من خزاعة يقال له دعبل، فقال له: أنا دعبل، ثم أنشده القصيدة فذهل ونادى ببقية اللصوص أن يردوا على القافلة ما أخذوه منها تكريماً لشاعر أهل البيت فردّوه عليهم(٤) .

ونظراً لأهمية هذه القصيدة فقد انبرى جمع من الأعلام إلى شرحها، ومن بين هذه الشروح:

١ - شرح السيد نعمة الله الجزائري.

٢ - شرح كمال الدين محمد بن محمد الشيرازي.

٣ - شرح الحاج ميرزا علي التبريزي(٥) .

نصّ القصيدة:

ونقل المغفور له الفاضل عبد الصاحب الدجيلي نصّ القصيدة في ديوان دعبل

____________________

(١) الأغاني ١٨ / ٤٢.

(٢) معجم الأدباء ٤ / ١٩٤.

(٣) الأغاني ١٨ / ٤٢.

(٤) نور الأبصار (ص ١٤٧)، الإتحاف (ص ١٦٣) البحار ١٢ / ٧١، مقدمة ديوان دعبل (ص ٥٣).

(٥) الذريعة.

٣٠٦

عن جمهرة من المصادر المخطوطة والمطبوعة ونحن ننقلها عنه، وهذا نصها:

١ - تجاوبن بالإرنان والزفرات = نوائح عجم اللفظ والنطقاتِ

٢ - يخبرن بالأنفاس عن سرّ أنفسٍ = أسارى هوى ماضٍ وآخر آتِ

٣ - فأسعدن أو أسعفن حتى تقوّضت = صنوف الدجى بالفجر منهزماتِ

٤ - على العرصات الخاليات من المها = سلام شجٍ صبٍّ على العرصاتِ

٥ - فعهدي بها خضر المعاهد مألفاً = من العطرات البيض والخفراتِ

٦ - ليالي يعدّين الوصال على القلى = وبعد تدانينا على الغرباتِ

٧ - وإذ هنّ يلحظن العيون سوافراً = ويسترن بالأيدي على الوجناتِ

٨ - وإذ كل يوم لي بلحظي نشوة = يبيت لها قلبي على نشواتِ

٩ - فكم حسراتٍ هاجها بمحسّر = وقوفي يوم الجمع من عرفاتِ(١)

١٠ - ألم تر للأيام ما جرّ جورها = على الناس من نقصٍ وطول شتاتِ

١١ - ومن دول المستهترين ومن غدا = بهم طالباً للنور في الظلمات(٢)

١٢ - فكيف ومن أنّى يطالب زلفةً = إلى الله بعد الصوم والصلواتِ

١٣ - سوى حبّ أبناء النبي ورهطه = وبغض بني الزرقاء والعبلاتِ(٣)

١٤ - وهند وما أدّت سمية وابنها = أولو الكفر في الإسلام والفجراتِ(٤)

١٥ - همُ نقضوا عهد الكتاب وفرضه = ومحكمه بالزور والشبهاتِ(٥)

١٦ - ولم تك إلاّ محنة كشفتهم = بدعوى ضلالٍ من هن وهناتِ

١٧ - تراثٌ بلا قربى وملكٌ بلا هدى = وحكمٌ بلا شورى بغير هداتِ(٦)

١٨ - رزايا أرتنا خضرة الأفق حمرةً = وردّت أُجاجاً طعم كل فراتِ

١٩ - وما سهلت تلك المذاهب فيهم = على الناس إلاّ بيعة الفلتاتِ(٧)

____________________

(١) محسّر وعرفات: اسمان لموضعين في مكة المكرّمة.

(٢) دول المستهترين: هي دول بني أمية، ودول بني العباس، الذين استهانوا بجميع الأعراف والقيم الإسلامية.

(٣) بنو الزرقاء: هم أبناء مروان طريد رسول الله (ص)، والزرقاء أمّه، وهي من النساء الفاجرات في الجاهلية، والعبلات إحدى قبائل قريش.

(٤) هند: أم معاوية الصحابي المزعوم صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام، وسمية: اسم لام زياد الإرهابي المجرم.

(٥) يشير إلى الحكم الأموي الذي نقض عهد الله، وخاس بجميع القيم الإسلامية.

(٦) يشير إلى أنّ الحكم الأموي لم يستند إلى الشورى ولا إلى القربى.

(٧) يشير إلى بيعة أبي بكر التي وصمها عمر بقوله: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها.

٣٠٧

٢٠ - وما نال أصحاب السقيفة إمرة = بدعوى تراثٍ، بل بأمر تراتِ(١)

٢١ - ولو قلّدوا الموصى إليه زمامها = لزمت بمأمون من العثراتِ(٢)

٢٢ - أخا خاتم الرسل المصفّى من القذى = ومفترس الأبطال في الغمراتِ(٣)

٢٣ - فإن جحدوا كان الغدير شهيده = وبدر وأحد شامخ الهضباتِ(٤)

٢٤ - وآي من القرآن تتلى بفضله = وإيثاره بالقوت في اللزباتِ(٥)

٢٥ - وغرُّ خلالٍ أدركته بسبقها = مناقب كانت فيه مؤتنفاتِ

٢٦ - مناقب لم تدرك بكيدٍ ولم تنل = بشيء سوى حد القنا الذرباتِ

٢٧ - نجيٌّ لجبريل الأمين وأنتمُ = عكوف على العزى معاً ومناةِ(٦)

٢٨ - بكيت لرسم الدار من عرفات = وأذريت دمع العين بالعبراتِ

٢٩ - وفك عرى صبري وهاجت صبابتي = رسوم ديارٍ أقفرت وعراتِ

٣٠ - مدارس آياتٍ خلت من تلاوةٍ = ومنزل وحيٍ مقفر العرصاتِ(٧)

٣١ - لآل رسول الله بالخيف من منى = وبالركن والتعريف والجمراتِ(٨)

٣٢ - ديار عليٍّ والحسين وجعفرٍ = وحمزة والسجّاد ذي الثفناتِ(٩)

____________________

(١) السقيفة: التي أرادها دعبل هي سقيفة بني ساعدة التي تآمروا فيها على الخلافة، والنبي مسجّى لم يدفن، وقد أسفر هذا المؤتمر عن إقصاء الإمام أمير المؤمنين عن مركز الخلافة الأمر الذي جرّ للمسلمين الويلات والدمار.

(٢) الوصي: هو الإمام أمير المؤمنين وصي رسول الله وباب مدينة علمه، ولو تقلّد الخلافة لصان المسلمين من العثرات.

أخو خاتم الرسل: وهو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فقد قال له النبي: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة.

(٤) الغدير: هو الموضع المعروف الذي عقد فيه النبي (ص) البيعة للإمام أمير المؤمنين، وبيعة الغدير جزء من الإسلام فمَن أنكرها فقد أنكر الإسلام كما يقول بعض أعلام العصر.

(٥) الآيات الواردة في الإمام علي منها: آية المباهلة، وآية المودّة، وآية التطهير، وآية التصدّق بالخاتم، وغيرها من الآيات التي أشادت بعملاق الإسلام.

(٦) العزى ومناة: صنمان لقريش كانوا يعبدونهما من دون الله.

(٧) يشير إلى بيوت السادة أبناء النبي الذين حصدتهم سيوف الأمويين والعباسيين حتى أقفرت بيوتهم من تلك الكواكب المشرقة بنور الإيمان والتوحيد.

(٨) هذه المواضع المقدّسة التي ذكرها دعبل هي التي كان يقيمون فيها السادة العلويون فيحيون لياليهم فيها بالعبادة إلى الله وتلاوة كتابه.

(٩) ذو الثفنات: هو لقب لسيّد الساجدين والعابدين الإمام زين العابدين فقد كانت له ثفنات كثفنات البعير في مواضع سجوده من كثرة سجوده لله.

٣٠٨

٣٣ - ديار لعبد الله والفضل صنوه = نجي رسول الله في الخلواتِ

٣٤ - منازل وحي الله ينزل بينها = على أحمد المذكور في السوراتِ

٣٥ - منازل قوم يهتدي بهداهم = فتؤمن منهم زلّة العثراتِ

٣٦ - منازل كانت للصلاة وللتقى = وللصوم والتطهير والحسناتِ

٣٧ - منازل جبريل الأمين يحلّها = من الله بالتسليم والرحماتِ

٣٨ - منازل وحي الله معدن علمه = سبيل رشادٍ واضح الطرقاتِ

٣٩ - ديار عفاها جور كل منابذٍ = ولم تعف للأيام والسنواتِ

٤٠ - فيا وارثي علم النبي وآله = عليكم سلام دائم النفحاتِ

٤١ - قفا نسأل الدار التي خفّ أهلها = متى عهدها بالصوم والصلواتِ

٤٢ - وأين الألى شطّت بهم غربة النوى = أفانين في الآفاق مفترقاتِ

٤٣ - هم أهل ميراث النبي إذا اعتزوا = وهم خير ساداتٍ وخير حماةِ

٤٤ - مطاعيم في الإعسار في كل مشهدٍ = لقد شرفوا بالفضل والبركاتِ(١)

٤٥ - وما الناس إلاّ حاسدٌ ومكذِّبٌ = ومضطغنٌ ذو إحنةٍ وتراتِ

٤٦ - إذا ذكروا قتلى ببدرٍ وخيبرٍ = ويم حنينٍ أسبلوا العبرات(٢)

٤٧ - فكيف يحبون النبي ورهطه = وهم تركوا أحشاءهم وغراتِ(٣)

٤٨ - لقد لاينوه في المقال وأضمروا = قلوباً على الأحقاد منطوياتِ(٤)

٤٩ - فإن لم تكن إلاّ بقربى محمّدٍ = فهاشم أولى من هن وهناتِ

٥٠ - سقى الله قبراً بالمدينة غيثه = فقد حلّ فيه الأمن بالبركاتِ

٥١ - نبي الهدى صلّى عليه مليكه = وبلّغ عنه روحه التحفاتِ

٥٢ - وصلّى عليه الله ما ذرّ شارق = ولاحت نجوم الليل مبتدراتِ

٥٣ - أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً = وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ

٥٤ - إذن للطمت الخدّ فاطم عنده = وأجريت دمع العين في الوجناتِ

____________________

(١) يشير دعبل إلى كرم أهل البيت، وأنّهم مطاعيم في الإعسار للفقراء والمحرومين.

(٢) يشير دعبل إلى القوى المعادية لأهل البيت الذين وترهم سيف علي وسيوف المؤمنين، فإنّهم إذا ذكروا قتلاهم بكوا عليهم أحرّ البكاء.

(٥) إنّ القوى المنحرفة عن أهل البيت كيف يحبون النبي وأهله.

(٤) أراد دعبل أنّ المعادين للإسلام لاينوا النبي بكلامهم ولكنّ قلوبهم قد انطوت على عدائه.

٣٠٩

٥٥ - أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي = نجوم سماواتٍ بأرض فلاةِ

٥٦ - قبورٌ بكوفانٍ وأخرى بطيبةٍ = وأخرى بفخٍّ نالها صلواتِ(١)

٥٧ - وأخرى بأرض الجوزجان محلّها = وقبر بباخمرى لدى الغرباتِ(٢)

٥٨ - وقبرٌ ببغدادٍ لنفسٍ زكيّةٍ = تضمّنها الرحمن في الغرفاتِ(٣)

٥٩ - فأما الممضات التي لست بالغا = مبالغها مني بكنه صفات

٦٠ - قبورٌ لدى النهر من أرض كربلا = معرّسهم فيها بشطِّ فراتِ

٦١ - توفّوا عطاشا بالفرات فليتني = توفّيت فيهم قبل حين وفاتي

٦٢ - إلى الله أشكوا لوعةً عند ذكرهم = سقتني بكأس الذلِّ والفظعاتِ

٦٣ - أخاف بأن أزدارهم فيشوقني = مصارعهم بالجزع فالنخلاتِ

٦٤ - تقسّمهم ريب الزمان كما ترى = لهم عفرة مغشية الحجراتِ

٦٥ - سوى أنّ منهم بالمدينة عصبة = - مدى الدهر - أنضاءً من الأزماتِ

٦٦ - قليلة زوار سوى بعض زور = من الضبع والعقبان والرخمات

٦٧ - لهم كل حين نومة بمضاجعٍ = ثوت في نواحي الأرض مختلفاتِ

٦٨ - وقد كان منهم بالحجاز وأهلها = مغاوير يختارون في السرواتِ

٦٩ - تنكّب لأواء السنين جوارهم = فلا تصطليهم جمرة الجمراتِ(٤)

٧٠ - حمى لم تزره المذنبات وأوجه = تضئ لدى الأستار في الظلماتِ

____________________

(١) أشار دعبل إلى مراقد السادة العلويين، وأوّل مرقد لهم قبر الإمام علىعليه‌السلام في النجف التي هي في ظهر الكوفة، وقبر الشهيد مسلم بن عقيل، وفي طيبة قبور أئمّة البقيععليهم‌السلام ، وفي فخ قبر الحسين بن علي بن الحسن وغيره من العلويين.

(٢) الجوزجان: فيها قبر الشهيد العظيم يحيى بن زيد الذي استشهد أيام الوليد الأموي، وباخمرى: هي موضع بين الكوفة وواسط فيها استشهد إبراهيم بن عبد الله بن الحسن في أيام الطاغية الدوانيقي.

(٣) أمّا القبر الذي ببغداد فهو قبر باب الحوائج الإمام الكاظم وقبر حفيده الإمام الجواد، ونعت كثير من المصادر أنّ دعبل لـمّا انتهى إلى هذا البيت قال له الإمام الرضا أفلا الحق لك بهذا الموضع بيتين، فقال: بلى يا بن رسول الله فقالعليه‌السلام .

وقبر بطوس يا لها من مصيبة

ألحّت على الأحشاء بالزفراتِ

إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً

يفرّج عنّا الغمِّ والكرباتِ

فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبر مَن؟ قال الإمامعليه‌السلام : هو قبري. جاء ذلك في المناقب ٣ / ٤٥٠ وغيره.

(٤) اللأواء: الشدّة.

٣١٠

٧١ - إذا أوردوا خيلاً تسعّر بالقنا = مساعر جمر الموت والغمراتِ

٧٢ - وإن فخروا يوماً أتوا بمحمّدٍ = وجبريل والفرقان والسوراتِ

٧٣ - وعدوا عليّاً ذا المناقب والعلا = وفاطمة الزهراء خير بناتِ

٧٤ - وحمزة والعبّاس ذا الهدي والتقى = وجعفر الطيّار في الحجباتِ

٧٥ - أولئك لا منتوج هند وحزبها = سمية من نوكى ومن قذراتِ(١)

٧٦ - ستسأل تيم عنهم وعديّها = وبيعتهم من أفخر الفجراتِ(٢)

٧٧ - هم منعوا الآباء من أخذ حقّهم = وهم تركوا الأبناء رهن شتاتِ(٣)

٧٨ - وهم عدلوها عن وصي محمّدٍ = فبيعتهم جاءت على الغدراتِ(٤)

٧٩ - ملامك في أهل النبي فإنّهم = أحباي ما عاشوا وأهل ثقاتي

٨٠ - تخيّرتهم رشداً لأمري فإنّهم = على كل حالٍ خيرة الخيراتِ

٨١ - نبذت إليهم بالمودّة صادقاً = وسلّمت نفسي طائعاً لولاتي

٨٢ - فيا ربّ زدني من يقيني بصيرةً = وزد حبّهم يا ربّ في حسناتي

٨٣ - سأبكيهم ما حجّ لله راكب = وما ناح قُمْريٌّ على الشجراتِ

٨٤ - بنفسي أنتم من كهولٍ وفتيةٍ = لفك عناةٍ أو لحمل دياتِ

٨٥ - وللخيل لـمّا قيّد الموت خطوها = فأطلقتم منهن بالذرباتِ(٥)

٨٦ - أحبّ قصيّ الرحم من أجل حبكم = وأهجر فيكم أسرتي وبناتي(٦)

٨٧ - وأكتم حبيكم مخافة كاشحٍ = عنيدٍ لأهل الحق غير مواتِ

٨٨ - فيا عين بكّيهم وجودي بعبرة = فقد آن للتسكاب والهملاتِ(٧)

____________________

(١) النوكي: الحمق.

(٢) أراد بتيم: أبو بكر، وأراد بعدي عمر بن الخطاب، ويرى دعبل أنّهما مسؤولان عمّا لحق بأهل البيت من المآسي والنكبات فهما اللذان أقصيا الإمام أمير المؤمنين عن الخلافة وسببا للعترة الطاهرة ألوانا مريرة من المصائب.

(٣) أشار دعبل إلى أنّ الملوك السابقين هم الذي منعوا السادة العلويين من أخذ حقهم، وتركوا السادة من أبنائهم رهن شتات.

(٤) الوصي هو الإمام أمير المؤمنين وصي رسول الله وباب مدينة علمه وقد شجب دعبل تحوّل الخلافة عنه، وتقليدها لغيره.

(٥) الذربات: الداهيات.

(٦) يريد دعبل أنّه يحب ويخلص لـمَن أحب وأخلص لأهل البيت عليهم، وإن كانوا بعاداً عنه في النسب، ويعادي مَن عاداهم، وإن كانوا أُسرته وبناته.

(٧) الهملات: هي الدموع.

٣١١

٨٩ - لقد حفّت الأيام حولي بشرّها = وإنّي لأرجو الأمن بعد وفاتي(١)

٩٠ - ألم تر أنّي من ثلاثين حجّة = أروح وأغدو دائم الحسراتِ

٩١ - أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً = وأيديهم من فيئهم صفراتِ(٢)

٩٢ - فكيف أداوي من جوى بي والجوى = أميّة أهل الفسق والتبعاتِ

٩٣ - فآل رسول الله نحف جسومهم = وآل زياد حفل القصراتِ(٣)

٩٤ بنات زيادٍ في القصور مصونةٌ = وآل رسول الله في الفلواتِ

٩٥ - سأبكيهم ما ذرّ في الأرض شارقٌ = ونادى منادى الخير بالصلواتِ

٩٦ - وما طلعت شمسٌ وحان غروبها = وبالليل أبكيهم وبالغدواتِ

٩٧ - ديار رسول الله أصبحن بلقعاً = وآل زيادٍ تسكن الحجراتِ

٩٨ - وآل رسول الله تدمى نحورهم = وآل زيادٍ آمنوا السرباتِ

٩٩ - وآل رسول الله تُسبى حريمهم = وآل زيادٍ ربّة الحجلاتِ

١٠٠ - إذا وتروا مدّوا إلى واتريهم = أكفّاً عن الأوتار منقضبات(٤)

١٠١ - فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غدٍ = تقطّع نفسي إثرهم حسراتِ

١٠٢ - خروج إمام لا محالة خارجٌ = يقوم على اسم الله والبركات(٥)

١٠٣ - يميّز فينا كلَّ حقٍ وباطلٍ = ويجزي على النعماء والنقمات

١٠٤ - سأقصر نفسي جاهداً عن جدالهم = كفاني ما ألقى من العبراتِ

١٠٥ - فيا نفس طيبي ثم يا نفس أبشري = فغير بعيدٍ كل ما هو آتٍ

١٠٦ - ولا تجزعي من مدّة الجور إنّني = أرى قوّتي قد آذنت بشتاتِ

١٠٧ - فإن قرّب الرحمن من تلك مدّتي = وأخّر من عمري لطول حياتي

١٠٨ - شفيت ولم أترك لنفسي رزيّة = وروّيت منهم منصلي وقناتي(٦)

____________________

(١) في رواية: لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها، وفي رواية أنّ دعبل لـمّا أنشد هذا البيت رفع الإمامعليه‌السلام يديه بالدعاء، وقال له: آمنك الله يا خزاعي يوم الفزع الأكبر.

(٢) في رواية أنّ دعبل لـمّا بلغ إلى هذا البيت جعل الإمام الرضا يقلب كفّه ويقول: (أجل والله منقبضات).

(٣) القصرات: جمع مفرده قصرة، وهي أصل العنق.

(٤) في رواية أنّ دعبل لـمّا فرغ من إنشاد هذا البيت جعل الإمام الرضاعليه‌السلام يقلب كفّيه ويقول: أجل والله منقبضات.

(٥) عندما انتهى دعبل من إنشاد هذا البيت، والبيت الذي بعده قال له الإمام: (يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك) المناقب ٣ / ٤٥٠.

(٦) المنصل: حديدة السهم والرمح والسكّين.

٣١٢

١٠٩ - فإنّي من الرحمن أرجوا بحبّهم = حياةً لدى الفردوس غير بتاتِ(١)

١١٠ - عسى الله أن يأوي لذا الخلق إنّه = إلى كل قومٍ دائم اللحظاتِ

١١١ - فإن قلت عرفاً أنكروه بمنكرٍ = وغطّوا على التحقيق بالشبهاتِ

١١٢ - أحاول نقل الشمس عن مستقرّها = وأسمع أحجاراً من الصلداتِ

١١٣ - فمن عارفٍ لم ينتفع ومعاندٍ = يميل مع الأهواء والشهواتِ

١١٤ - قصارى منهم أن أموت بغصّةٍ = تردّد في صدري وفي اللهواتِ

١١٥ - كأنّك بالأضلاع قد ضاق رحبها = لِمَا ضُمّنت من شدّة الزفراتِ(٢)

وانتهت هذه القصيدة العصماء التي نالت رضا الإمام ودعاءه لدعبل بالفوز يوم الفزع الأكبر.

وقد تأثّر الإمام كأشدّ ما يكون التأثّر في الأبيات التي رثى بها دعبل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقد بكى الإمام أمرّ البكاء، وأغمي عليه غير مرة، فقد نخبت قلبه فاجعة كربلاء، وكان يقول: إنّ أمر الحسين أسهر جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، يا أرض كرب وبلاء أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحط الذنوب والعظام(٣) .

ويشتد حزن الإمام ويتضاعف أساه إذا حلّ شهر المحرم، وقد قال: كان أبي صلوات الله عليه إذا دخل شهر محرّم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكارثة تغلبه حتى تمضي منه عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، وكان يقول: (هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين)(٤) .

وقالعليه‌السلام : إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وانتهكت فيه حرمتنا، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهبت ما فيه من ثقلنا، ولم يرعوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حرمة في أمرنا(٥) .

____________________

(١) غير بتات: أي غير منقطعة، وإنّما هي حياة خالدة ودائمة.

(٢) ديوان دعبل.

(٣) الأنوار النعمانية ٣ / ٢٣٨.

(٤) الأنوار النعمانية ٣ / ٢٣٨.

(٥) الأنوار النعمانية ٣ / ٢٣٨.

٣١٣

وروى الريان بن شبيب قال: دخلت على الرضا في أول يوم من المحرم فقال لي:

(يا بن شبيب أصائم أنت؟).

(لا...).

وأخذ الإمام يعرفه حرمة ذلك اليوم قائلاً:

(هذه اليوم الذي دعا فيه زكريا ربّه عزّ وجل، فقال: يا رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، إنّك سميع الدعاء، فاستجاب الله له وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلّي في المحراب: إنّ الله يبشرك بيحيى، فمَن صام هذا اليوم، ثم دعا الله عزّ وجل استجاب له، كما استجاب لزكريا.

يا بن شبيب إنّ المحرّم هو الشهر الذي كان فيه أهل الجاهلية - فيما مضى - يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها، ولا حرمة نبيّها، لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله ذلك لهم أبداً.

يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك الحسين بن علي بن أبي طالب، فإنّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السماوات السبع، والأرضون لقتله، ولقد نزلت إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصرته فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائمعليه‌السلام فيكونون معه من أنصاره وشيعته، وشعارهم: (يا لثارات

الحسين)(١) .

لقد أخلدت كارثة كربلاء الحزن والأسى لأهل البيتعليهم‌السلام فهم وشيعتهم في حزن مستمر لا ينسون ما حلّ بسبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من عظيم المحن والرزايا، فقد انتهكت في يوم عاشوراء حرمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يرع في ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان أيّ حرمة لله، ولا لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد عمد جيش ابن مرجانة إلى قتل سبط رسول الله (ص) بتلك القتلة المروعة...

ولنعد بعد هذا إلى متابعة شؤون الإمام في (خراسان).

____________________

(١) الأنوار النعمانية ٣ / ٢٣٩.

٣١٤

إنفاق جميع ما عنده:

وأنفق الإمامعليه‌السلام جميع ما يملك (بخراسان) على الفقراء والبؤساء فأنكر عليه الفضل بن سهل، وقال له:

(إنّ هذا المغرم...).

فرد عليه الإمام ببالغ الحجّة قائلاً:

(بل هو المغنم، لا تعدن مغرماً ما اتبعت به أجراً وكرماً)(١) .

إنّه ليس من المغرم في شيء إنفاق الإمام جميع ما عنده على الفقراء والمحرومين، وإنقاذهم من غائلة الفقر وويلات البؤس، وإنّما المغرم ما كان ينفقه ملوك العبّاسيين وإخوانهم الأمويون من الأموال الطائلة على شهواتهم ولياليهم الحمراء، ولم ينفقوا أي شيء على فقراء المسلمين.

خطبة الإمام في التوحيد:

وتعتبر هذه الخطبة من غرر خطب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن روائع ما أثر عنهم في قضايا التوحيد، ولو ولم يكن للإمام الرضاعليه‌السلام من تراث إلاّ هذه الخطبة لكفى بها للتدليل على إمامته، وبلوغه مرتبة سامية من العلم والفضل لم يبلغها إلاّ الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم... ونظراً لأهميتها البالغة فقد تصدى سماحة المغفور له يحيى بن محمد علي إلى شرحها، وقد جاء في مقدمتها:

(إنّ الخطبة المعروفة الواردة في التوحيد إلى جناب الحضرة المقدّسة والساحة المطهّرة... ثامن أئمّة الدين إمام الورى علي بن موسى الرضا عليه التحيّة والثناء، لما كانت بحراً عميقاً، محتوياً على فوائد ومعارف... جامعة من فنون العلم وصنوف المعروفة ما لا يجمعه سواها الخ...)(٢) .

أمّا سبب إنشاء الإمام لهذه الخطبة فهو أنّ المأمون لـمّا أراد أن يولّي الإمام ولاية العهد حسده بنو هاشم - وهم بنو العباس - وقالوا له:

أتولّي رجلاً جاهلاً ليس له بصر(٣) بتدبير الخلافة؟ فابعث إليه رجلاً يأتينا به

____________________

(١) بحار الأنوار ١٢ / ٢٩.

(٢) شرح خطبة الإمام الرضا في التوحيد مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام تسلسل (١٧٢٨).

(٣) في نسخة ليس له بصيرة.

٣١٥

فترى من جهله ما يستدل به عليه، فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن اصعد المنبر، وانصب لنا علماً نعبد الله عليه، فصعد المنبر، فقعد مليّاً لا يتكلّم، ثم انتفض واستوى قائماً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي وأهل بيته، ثم قال: (أوّل عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه، لشهادة العقول أنّ كل صفة وموصوف مخلوق(١) وشهادة كل مخلوق أنّ له خالقاً ليس بصفة، ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث، فليس الله عرف، من عرف بالتشبيه ذاته(٢) ولا إيّاه وحده من اكتنهه(٣) ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا به صدق مَن نهاه(٤) ، ولا صمد صمده مَن أشار إليه(٥) ولا إيّاه عنى من شبهه، ولا له تذلّل من بعضه، ولا إيّاه أراد من توهمه. كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجّته(٦) ، خلق الله الخلق حجاباً بينه وبينهم، ومباينته إيّاهم مفارقته إنّيتهم، وابتداؤه إيّاهم دليلهم على أن لا ابتداء له لعجز كل مبتدئ عن ابتداء غيره، وأدوات إيّاهم دليل على أن لا أداة فيه لشهادة الأدوات بفاقة المتأدين.

وأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغبوره تحديد لما سواه، فقد جهل الله مَن استوصفه، وقد تعدّاه مَن اشتمله(٧) وقد أخطأه مَن اكتنهه، ومَن قال: كيف فقد شبّهه، ومَن قال: لم؟ فقد علّله، ومَن قال:

____________________

(١) أراد كل صفة وموصوف متعددان ذاتاً أو اعتباراً فإنّهما من صفات الممكن، أمّا الواجب تعالى فإنّ صفاته عين ذاته، ولا تعدّد بينه وبين صفاته.

(٢) يريد أنّه لا يعرف الله، مَن يشبه ذات الله تعالى.

(٣) يريد: أنّ مَن يطلب كنهه تعالى وحقيقته فهو ليس من الموحّدين؛ لأنّه قد جعله من الممكنات التي يمكن معرفتها.

(٤) أراد أنّه لم يصدق بالله تعالى مَن جعل له نهاية.

(٥) يعنى أنّ مَن أشار إلى الله تعالى فقد ضلّ عن الطريق؛ لأنّ الله ليس له جهة خاصة حتى يشار؛ لأنّه أينما تولّوا فثمّ وجه الله تعالى.

(٦) أراد أن الله معروف ومعلوم بالفطرة الأصيلة وبالعقول النيّرة المستقيمة، فإنّ جميع الوجود تدلّل عليه.

(٧) المعنى: إنّه قد توهّم، وبعد عن الصواب مَن تصوّر أنّه أحاط بمعرفة الخالق العظيم.

٣١٦

متى؟ فقد وقّته، ومَن قال: فيم؟ فقد ضمّنه، ومَن قال: إلام؟ فقد نهاه، ومَن قال: حتام فقد غيّاه(١) ، ومَن غيّاه فقد غاياه، ومَن غاياه فقد جزّأه ومَن جزّأه وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، لا يتغيّر الله بانغيار المخلوق، كما لا يتحدّد بتحديد المحدود، أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلٍّ لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة، مبائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحول فكرة(٢) ، مدبِّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، شاء لا بهمة، مدرك لا بمجسّة(٣) ، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة.

لا تصحبه الأوقات، ولا تضمنه الأماكن، ولا تأخذه السنات(٤) ، ولا تحدّه الصفات، ولا تقيّده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده(٥) والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له(٦) ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والجلاية بالبهم، والجسو(٧) بالبلل، والصرد(٨) بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرّق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، ذلك قوله عزّ وجل:( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (٩) ففرّق بها بين قبل وبعد، ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها.

____________________

(١) المعنى: إنّه من سأل عن حد أو نهاية أو غاية ذلك فيما يتعلق بذات الخالق العظيم، فإنّه قد ضل ضلالاً بعيداً، وانحرف عن الحق إذ كيف يصل الإنسان المحدود فكره إلى معرفة الله تعالى.

(٢) لا بحول فكرة: أي لا بقوّة الفكر.

(٣) المجسّة: آلة الحس.

(٤) السنة: النعاس.

(٥) أي سبق وجوده العدم.

(٦) عرف أنّ لا مشعر له: يعني أنّه تعالى لعلوّه عن مرتبة المصنوع عرف أن لا مشعر له.

(٧) الجسو: المس.

(٨) الصرد: بفتح الصاد، وكسر الراء من يجد البرد سريعاً، ومنه رجل مصراد لـمَن يشتد عليه البرد ولا يطيقه، مجمع البحرين.

(٩) سورة الذاريات: آية ٤٩ والآية استشهاد للمضادة، والمعنى من كل شيء خلقنا ضدين كالأمثلة المذكورة بخلافة تعالى فإنّه لا ضدّ له.

٣١٧

له معنى الربوبية إذ لا مربوب(١) ، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه(٢) ، ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع، ليس منذ خلق استحق معنى الخالق، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية، كيف ولا تغيبه من، ولا تدنيه قد، ولا تحجبه لعل، ولا توقّته متى، ولا تشمله حين، ولا تقارنه مع(٣) ، إنّما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها(٤) ، وفي الأشياء يوجد أفعالها(٥) ، منعتها قد الأزلية(٦) وجنبتها لولا التكملة افترقت فدلّت على مفرقها، وتباينت فأعربت عن مباينها لما تجلّى صانعها للعقول، وبها احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الأوهام،

وفيها أثبتت غيره(٧) ، ومنها أنيط الدليل، وبها عرفها الإقرار، وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الإيمان به، ولا ديانة إلاّ بعد المعرفة، ولا معرفة إلاّ بالإخلاص، ولا إخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع أثبات الصفات للتشبيه (٨) ، فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكل ما يمكن فيه من صانعه لا تجري عليه الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، أو يعود إليه ما هو ابتدأه إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه.

____________________

(١) المراد أنّ كل صفة كمالية في الوجود ثابته له تعالى بذاته إذ أنها حاصلة له من غيره وهذا مفاد (أنّ الواجب الوجود لذاته واجب لذاته من جميع الوجوه).

(٢) المراد أنّه تعالى هو المالك للتصرّف، والعبد مألوه له تعالى يتصرّف في شؤونه.

(٣) المراد أنّه كيف لا يستحق الخالق أن يكون قبل الخلق والحال أنّه تغيبه من التي هي لابتداء الزمان عن فعله أي يكون فعله متوقفاً على زمان حتى يكون غالياً عن فعله بسبب عدم الوصول بذلك الزمان، منتظراً لحضور ابتدائه، كما لا تقربه التي هي لتقريب زمان الفعل فلا يقال: قد قرب وقت فعله، لأنّه لا ينتظر وقتاً ليفعل فيه، بل كل الأوقات سواء بالنسبة إليه، ولعلّ لا تحجبه عن مراده، لعلّ التي هي للترجّي لأنّه إذ يترجّى شيئاً، وإنّما أمر إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، كما لا توقّته في مبادئ أفعاله متى، فلا يقال: متى علم متى قدر لان صفاته الكمالية ومبادئ أفعاله، أزلية كوجوده كما لا تشمله ولا تحدّده ذاتاً وصفة وفعلاً (حين) لأنّه فاعل الزمان، كما لا تقارنه بشيء (مع) إذ ليس معه شيء ولا في مرتبته شيء، ومَن كان كذلك فهو خالق بارئ قبل الخلق.

(٤) المراد إنّما يتقيد في الفعل والتأثير بالأدوات أمثالها في المحدودية والجسمانية.

(٥) الأمور الممكنة هي التي تتأثّر وتؤثّر بالآلات وأمّا الحق فمنزّه عن ذلك.

(٦) المراد أنّ أنصاف الأشياء بمعاني منذ وقد ولولا وتقييدها بها يمنعها من الاتصاف بالقِدم والأزلية.

(٧) أي في الأشياء أثبت الله التغيير والاختلاف وذلك بحسب حدودها الإمكانية.

(٨) أي لا نفي لتشبيهه تعالى بالمخلوق مع إثبات الصفات الزائدة له. أخذنا هذه التعاليق من هامش الكتاب وهي للسيد هاشم الحسيني الطهراني.

٣١٨

ولـمّا كان للباري معنى غير المبروء، ولو حد له وراء إذاً حد له أمام، ولو التمس له التمام إذاً لزمه النقصان، كيف يستحق الأزل مَن لا يمتنع من الحدث، وكيف ينشيء الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء إذاً لقامت فيه آية المصنوع، ولتحوّل دليلاً بعد ما كان مدلولاً عليه، ليس في محال القول حجّة، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه له تعظيم، ولا في إباءته عن الخلق ضيم إلاّ بامتناع الأزلي أن يثني، وما لا بدء له أن يبدأ، لا إله إلاّ الله العلي العظيم، كذب العادلون بالله، وضلّوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً، وصلّى الله على محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين)(١) .

وحوت هذه الخطبة العظيمة غوامض البحوث الفلسفية والكلامية، وقد ظهرت فيها القدرات العلمية الهائلة للإمام الرضاعليه‌السلام ، وانكشف للعباسيين زيغ ما ذهبوا إليه من عجز الإمام وعدم قدرته على الخوض في البحوث العلمية، ومن المؤكّد أنّ معظم المستمعين لخطاب الإمام لم يفقهوا هذه المسائل الفلسفية التي عرضها الإمامعليه‌السلام ، والتي تناولت أهم قضايا التوحيد.

الخطبة التي كتبها الإمام للمأمون:

وطلب المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام أن يكتب له خطبة ليقرأها على الناس حينما يصلّي بهم، فكتبعليه‌السلام له هذه الخطبة الجليلة وقد جاء فيها بعد البسملة:

(الحمد لله الذي لا من شيء كان، ولا على صنع شيء استعان، ولا من شيء خلق، كما كون منه الأشياء، بل قال له: كن فيكون.

وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، الجليل عن منابذة الأنداد،

ومكابدة الأضداد، واتخاذ الصواحب والأولاد، وأشهد أنّ محمداً عبده المصطفى، وأمينه المجتبى، أرسله بالقرآن المفصّل، ووحيه، الموصل، وفرقانه المحصل، فبشّر بثوابه، وحذّر من عقابه،صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي يعلم سرّكم وجهركم ويعلم ما تكتمون، فإنّ الله لم يتركم سدى، ولم يخلقكم عبثاً، ولم يمكنكم هدى... الحذر، والحذر عباد الله فقد حذركم الله نفسه، فلا تعرضوا للندم، واستجلاب النقم، والمصير إلى

____________________

(١) التوحيد (ص ٣٤ - ٤١).

٣١٩

عذاب جهنّم، إنّ عذابها كان غراماً، إنّها ساءت مستقراً ومقاماً، لا تطفى، وعيون لا ترقى، ونفوس لا تموت، ولا تحيى في السلاسل والأغلال، والمثلات والنكال، كلمّا نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، إنّ الله كان عزيزاً حكيماً، نار أحاط بها سرادقها، فلا يسمع لهم نداء، ولا يجاب لهم دعاء ولا يرحم لهم بكاء، ففروا عباد الله إلى الله بهذه الأنفس الفانية، في الصيحة المتوالية، في الأيام الخالية، من قبل أن ينزل بكم الموت، فيغصبكم أنفسكم، ويفجعكم بمهجكم، ويحول بينكم وبين الرجعة هيهات حضرت آجالكم، وختمت أعمالكم، وجفّت أقلامكم، فلا للرجعة من سبيل، ولا إلى الإقامة من وصول عصمنا الله وإيّاكم بما عصم به أولياءه الأبرار، وأرشدنا وإياكم لما أرشد له عباده الأخيار...)(١) .

وحفلت هذه الخطبة بالدعوة إلى فعل الخير، واجتناب الحرام والزهد في الدنيا، والتحذير من عذاب الله وعقابه.

المأمون يطلب من الإمام محاسن الشعر:

وطلب المأمون من الإمامعليه‌السلام أن ينشده أحسن ما رواه في الحلم، فقالعليه‌السلام أحسن ما رويته هذه الأبيات:

إن كان دوني من بليت بجهله

أبيت لنفسي أن أقابل بالجهلِ

وإن كان مثلي في محلّي من النهى

هربت لحلمي كي أجل عن المثلِ

وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجى

عرفت له حق التقدّم والفضلِ

وأعجب المأمون بهذه الأبيات وانبرى يقول:

(مَن قائله؟...).

(بعض فتياننا...).

وقال المأمون: أنشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل، فقالعليه‌السلام هذه الأبيات:

إنّي ليهجرني الصديق تجنّباً

فأريه أنّ لهجره أسبابا

وأراه إن عاتبته أغريته

فأرى له ترك العتاب عتابا

وإذا ابتُليت بجاهلٍ متغافلٍ

يجد المحال من الأمور صوابا

أوليته منّي السكوت وربّما

كان السكوت عن الجواب جوابا

____________________

(١) الدر النظيم ورقة ٢١٥.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375