حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204582 / تحميل: 8464
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٢ ـ( هَلْ كُنتُ إلّا بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلّا بإذنه سبحانه، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر، وإن كنتم تطلبون مني بما أنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى:( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / ١١١ ).

والمراد من قوله:( إلّاأَن يَشَاءَ اللهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة(١) .

* * *

٤ ـ طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقال: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ) (٢) .

__________________

(١) لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز، لاحظ: ص ٩٥ ـ ١٥٤ من ذلك الجزء.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ٣٠٥.

١٨١

قال ابن هشام: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب وعمّار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصّهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ *وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / ٥٢ ـ ٥٤ )(١) .

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / ٢٨ ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة، وإليك النص الدال على ذلك:

روى السيوطي في الدر المنثور: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنّا نحب أن تجعل

__________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام: ج ١ ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

١٨٢

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول الله الصحيفة من يده، فأتيناه وهو يقول:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال: فكان رسول الله يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣ ص ١٣، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.

(٢) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٣

ويضيف قائلاً: « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى الله سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّتهعليه‌السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى:( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / ٢٧ و ٢٩ و ٣٠ )(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٤

د ـ تعذيب النبيّ وأصحابه

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك:

١ ـ نزل الوحي مسلّياً بقوله:( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / ٣٤ ) وقوله:( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / ١٢٧ ).

٢ ـ ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / ٣٥ ).

٣ ـ وثالثة داعياً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفويض الأمر إلى الله والتريّث حتى يأتي موعده بقوله:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

٤ ـ ورابعاً مروّضا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبال ما يكال إليه من

١٨٥

صنوف الايذاء بقوله:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / ١٠ ).

٥ ـ وخامساً منبّهاً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه:( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / ٤٨ ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول: إصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة فيمر بهم رسول الله فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة(١) .

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٨٦

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون، فقال: صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد: أوّل من أظهر الإسلام سبعة، فعدّ منهم عمّار وسميّة ـ اُمّ عمّار ـ.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل ـ لعنه الله ـ ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم(١) .

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول الله فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية: أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا: أكفر بمحمّد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي، فقال النبي: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإن عادوا فعد، فنزل قوله سبحانه:( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / ١٠٦ ).

فأخبر الله سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب أليم، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم(٢) .

__________________

(١) حلية الأولياء: ج ١ ص ١٤٠.

(٢) تفسير الطبري: الجزء ١٤، ص ١٢٢.

١٨٧

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر، فقال النبي: إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال: ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام(١) .

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لـمّا أضحت فاشلة، إضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر، وأنّ له لحلاوة وأنّ عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه(٢) .

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / ٢٦ ). حتى يصدّوا بذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة، راجع مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٨٧، والسيرة النبويّة: ج ٥ ص ٣٨٢.

١٨٨

من اَراد استماعه، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً(١) . فأوعدهم الله سبحانه بقوله:( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر، فنالوا جزاء أعمالهم، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه:( ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / ٢٧ و ٢٨ ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام، فقالوا: لو اعتنقنا دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفضنا الأصنام والأوثان، لثار الجميع علينا، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) ( القصص / ٥٧ ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حقٌّ ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم(٢) .

فردّه الوحي بأنّ الله سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين الله يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى الله سبحانه من حالة الكفر، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين، وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ٢٤ ص ٧٢.

(٢) التخطّف: أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

١٨٩

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / ٥٧ ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (١) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥٨ ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ، غير أنّ هذه القصة لـمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك‍ « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٣٤، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلّا من أخذته العصبية العمياء فإنّها داء لا علاج له، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال، والرجل

__________________

(١) البطر: الطغيان عن النعمة.

١٩٠

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار، وإليك القصّة على وجه الإجمال:

« جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) فقرأه رسول الله حتى إذا بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) ألقى عليه الشيطان كلمتين:

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيباً، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ): فلمّا أمسى أتاه جبرئيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إفتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل !! فأوحى الله عليه:( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ )، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة: إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما يلقي الشيطان »(١) .

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ١٧، ص ١٣١.

١٩١

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين:

الأوّل: إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

من أمثال:

١ ـ محمد بن كعب القرظي ٢ ـ محمد بن قيس ٣ ـ أبو العالية ٤ ـ سعيد بن جبير ٥ ـ الضحّاك ٦ ـ ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم:

الف ـ محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر: قال العجلي: مدني تابعي ...، وقال البخاري: إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده، هو أبوه، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة ١٠٨ ه‍ ق وقيل: ١١٧ ه‍ ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وجاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق أنّه قال: يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة: فكنّا نقول: هو محمد بن كعب، والكاهنان قريظة والنضير ـ إلى أن يقول ـ:

١٩٢

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة معه(١) .

ب ـ محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز، روى عن أبي هريرة وجابر، ويقال: مرسل، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر ـ قال ابن معين: ليس بشيء لا يروى عنه(٢) .

ج ـ ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري ـ كان يدلّس في النادر ـ وهو أحد التابعين بالمدينة، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ابن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين(٣) .

د ـ أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر حتى قيل: إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه(٤) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٢١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤١٤.

(٣) ميزان الإعتدال: ج ٤ ص ٤٠، وتقريب التهذيب: ج ٢ ص ٢٠٧، ووفيات الاعلام: ج ٤ برقم ٥٦٣.

(٤) تهذيب التهذيب: ج ٣ ص ٣٨٤.

١٩٣

ه‍ ـ سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره، قتله الحجّاج صبراً سنة ٩٥(١) .

و ـ الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين(٢) .

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ـ مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني: إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ١١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ٤٤٧.

١٩٤

أمّا الأوّل فهو مشترك بين ١٩ شخصاً لم يرو واحد منهم عن النبي فالجلّ لولا الكل تابعون(١) .

وأمّا الثاني فهو أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ولد في خلافة عمر(٢) .

وأمّا الثالث فهو محمد بن مروان تابعي. قال ابن معين: ليس بثقه، قال ابن نمير: ليس بشيء وكان كذّاباً(٣) .

نعم رواه أيضاً عن سعيد بن جبير وابن عباس وقد عرفت حالهما، ورواه عن السدي وهو أيضاً تابعي.

مضافاً إلى إشتمال الإسناد على رجال ضعاف، وأمّا ما ذكره السيوطي من أنّه أخرج الطبراني والبزاز وابن مردويه والضياء في المختار بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ المرسل والمقطوع لا يوصفان بالصحة على الإطلاق ولو وصفا بالصحّة فالمراد هو الصحّة النسبية، فلا يحتج بها.

إنّ علماء الإسلام وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد أشبعوا هذه الرواية نقضاً وردّاً وإبراماً فوصفها السيد مرتضى: بأنّها خرافة وضعوها(٤) .

وقال النسفي عند القول بها: غير مرضي. وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متّصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٥) .

__________________

(١) راجع تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣٣.

(٣) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٣٦ برقم ٧١٩.

(٤) تنزيه الأنبياء: ص ١٠٩.

(٥) الهدى إلى دين المصطفى: ج ١ ص ١٣٠.

١٩٥

وقال القاضي عياض: إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسنده سليم متصل، وإنّما أولع به المفسّرون، والمؤرّخون، المولعون بكل غريب، والمتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلا المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلّق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته(١) .

وقال أمين الإسلام الطبرسي: أمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعّفة عند أصحاب الحديث، وقد تضمّنت ما ينزّه الرسل عنه، فكيف يجوز ذلك على النبي وقد قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقال:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ) .

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) علمت قريش من عادته أنّه كان يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين: ( تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى ) فظنّ الجهّال أن ذلك من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وقال السيّد الطباطبائي: إنّ الأدلّة القطعيّة على عصمته تكذّب متنها، وإن فرضت صحّة سندها، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة، مضافاً إلى أنّ الرواية تنسب إليه أشنع الجهل وأقبحه فقد تلا « تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى » وجهل أنّه ليس من كلام الله، ولانزل به جبرئيل، وجهل أنّه كفر صريح يوجب الإرتداد، ودام على جهله، حتى سجد وسجدوا في آخر السورة، ولم يتنبّه ثمّ دام على جهله حتى نزل عليه جبرئيل، وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو مصرّ على جهله، حتى أنكره عليه جبرئيل، ثمّ أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفاضحة لجميع الأنبياء

__________________

(١) الشفاء: ج ٢ ص ١٢٦.

(٢) الطبرسي مجمع البيان: ج ٤ ص ٦١ و ٦٢.

١٩٦

والمرسلين وهي قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) .

لو جاز مثل هذا التصرّف من الشيطان في لسانه بالقائه جملة أو جملتين، في ثنايا الوحي، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي، فكان من الجائز حينئذ أن تكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان فيلقي نفس هذه الآية( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) فيضعه في لسان النبي وذكره، فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبرئيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك ـ إلى أن قال ـ وبذلك يرتفع الإعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهة، وتلغى الرسالة والدعوة النبويّة بالكليّة جلّت ساحة الحق من ذلك(١) .

هذا كلّه راجع إلى اسناد الرواية وكلمات العلماء بشأنه، وأمّا ما يرجع إلى متنها فنشير إلى أمرين كل واحد كاف لإبطال الرواية:

تحليل متن الرواية

١ ـ إنّ هذه الروايات أجمعت على أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ سورة والنجم فلمّا بلغ إلى قوله( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) وسوس إليه الشيطان بهاتين الجملتين ثمّ مضى في التلاوة حتى إذا بلغ آية السجدة في آخر السورة، سجد وسجد معه المشكرون.

فنقول: إنّ الذين كانوا في المسجد كانوا على قدر من الوعي والدراية فكيف يعقل منهم أنّهم سمعوا هاتين الجملتين، اللتين تتضمّنان مدح أصنامهم وأوثانهم، وغاب عن سمعهم ما يتضمّن التنديد والازراء بشأن آلهتهم، فإنّه قد جاء بعد هاتين الجملتين المدّعيتين قوله سبحانه:( إِنْ هِيَ إلّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن

__________________

(١) الطباطبائي، الميزان: ج ١٤ ص ٤٣٥ و ٤٣٦.

١٩٧

رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ ) ( النجم / ٢٣ ).

فهل يتعقّل أن ينسب إلى أوتاد الفصاحة والبلاغة أنّهم أقنعوا بهاتين الجملتين، وفاتهم ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي أعقبتها.

فهذه حجة بالغة على أنّ واضع القصة كان غافلاً عن تلك الآيات التي ترد على هاتين الجملتين بصلابة.

٢ ـ إنّ وجود التناقض في طيّات الرواية من جهات شتّى دليل واضح على كونها مختلقة حاكتها أيدي القصّاصين.

وأمّا بيان ذلك التناقض فمن وجوه:

أ ـ تروي الروايات أنّ النبي والمسلمين والمشركين سجدوا إلّا الوليد ابن المغيرة فإنّه لم يتمكّن من السجود لشيخوخته، وقيل: مكانه سعيد بن العاص، وقيل: كلاهما، وقيل: اُميّة بن خلف، وقيل: أبو لهب، وقيل: المطّلب.

ب ـ تضمّن بعضها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها وهو قائم يصلّي، وتضمّن البعض الآخر أنّه قرأها بينما هو جالس في نادي قومه.

ج ـ يقول بعضها: حدّث بها نفسه، وآخر: جرت على لسانه.

د ـ يقول بعضها: انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تنبّه لها حين تلاوتها، والآخر: انّه لم يتنبّه إلى المساء حتى جاء إليه جبرئيل فعرضها عليه ثمّ تبيّن له الخطأ، إلى غير ذلك من وجوه التناقض التي يقف عليها المتتبع عند التأمّل وامعان النظر في متون الروايات المختلفة التي جمعها ابن جرير والسيوطي في تفسيرهما.

فحصيلة الكلام: إنّ الرواية بشتّى طرقها وصورها لا تصحّ الإحتجاج بها لكون إسنادها مراسيل ومقاطيع من جانب، وكونها متضاربة المضمون من جانب آخر، والذي يسقط الرواية عن الحجّية أنّها تنتهي إلى قصّاصين نظير محمد بن كعب

١٩٨

القرظي ومحمد بن قيس، وهما مولعان بذكر كل صحيح وسقيم في أنديتهم ومجالسهم، لأنّ لكل غريب لذّة، ليس في غيره، خصوصاً أنّ محمد بن كعب ابن بيت يهودي أباد النبي قبيلته، ولم يبق منه إلّا نفراً قليلاً، فمن المحتمل جداً أنّه حاكها على نول الوضع لينتقم من النبي الأكرم وليشوِّه عصمته، والآفة كل الآفة من هؤلاء المستسلمين مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه.

ثمّ إنّ الآية التي زعمت الرواية أنّها نزلت في تلك الواقعة أعني قوله سبحانه:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ ). وقد فرغنا من تفسيره في هذه الموسوعة عند البحث عن عصمة الأنبياء فلا نعيد(١) .

__________________

(١) مفاهيم القرآن: ج ٤ ص ٣٤٨ ـ ٤٥٠.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

إحساساً...

ولنستمع إلى فصل آخر من رسالته يقول:

(وأمّا ما ذكرتم من العثرة كانت في أبي الحسن نوّر الله وجهه، فلعمري إنّها عندي للنهضة والاستقلال الذي أرجو به قطع الصراط، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر، ولا أظن عملاً هو عندي أفضل من ذلك إلاّ أن أعود بمثلها إلى مثله، وأين لي بذلك وأين لكم بتلك السعادة...).

لقد رد المأمون على أسرته التي عابت عليه عقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وأنّه قد عثر بذلك عثرة لا تغفر، فأجابهم أنّه قد خطا بذلك خطوة كبرى لنهضة الأمّة واستقلالها، فقد رشّح لزعامتها أفضل إنسان على وجه الأرض يقيم الحق، وينشر العدل، ويعيد للإسلام كرامته...

وهذا فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا قولكم: إنّي سفهت آراء آبائكم، وأحلام أسلافكم، فكذلك قال مشركو قريش:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) ويلكم إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء، فافقهوا، وما أراكم تعقلون).

وردّ المأمون بهذا الكلام على ما زعمته أسرته من أنّه سفه آراء آبائه، وأفسد أحلام أسلافه، وذلك ببرّه وإحسانه إلى آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ هذا المنطق الهزيل قد تمسك به المشركون من قبل حينما دعاهم الرسول الأعظم إلى كلمة التوحيد فرفضوا ذلك فقالوا: (انا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)...

ولنستمع إلى الفصل الأخير من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا تعييركم إياي: بسياسة المجوس، وإيّاكم فما أذهبكم (الأنفة) في ذلك، ولو ساستكم القردة والخنازير، وما أردتم إلاّ أمير المؤمنين، ولعمري لقد كانوا مجوساً فأسلموا كآبائنا وأمهاتنا في القديم، فهم المجوس الذين أسلموا، وأنتم المسلمون الذين ارتدوا، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد فهم يتناهون عن المنكر، ويأمرون بالمعروف، ويتقربون من الخير، ويتباعدون من الشر، ويذبون عن حرم المسلمين، يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر، ويتباشرون بما نال الإسلام وأهله من الخير... منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

٣٠١

وليس منكم إلاّ لاعب بنفسه، مأفون في عقله، إمّا مغن، أو ضارب دف، أو زامر، والله لو أنّ بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها لما زادوا على ما صيّرتموه لكم شعاراً ودثاراً، وصناعة وأخلاقاً.

ليس منكم إلاّ مَن إذا مسّه الشر جزع، وإذا مسّه الخير منع، ولا تأنفون، ولا ترجون إلاّ خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوباً، ويصبح بإثمه معجباً، كأنّه قد اكتسب حمداً، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرّب، أحب الناس مَن زيّن له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة، وتربده المطمورة، مشتّت الأحوال، فإن ارتدعتم ممّا أنتم فيه من السيئات والفضائح، وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم وإلاّ فدونكم تعلو بالحديد، ولا قوّة إلاّ بالله، وعليه توكّلي وهو حسبي...)(١) .

وانتهت هذه الرسالة، وقد أدلى المأمون في أواخرها بعيوب أسرته وفضائحها، ولا أعلم أنّ أسرة عربية قد وصمت بمثل الفضائح التي ذكرها المأمون، والتي انتهت بهذه الأسرة إلى مستوى سحيق ماله من قرار.

____________________

(١) البحار ٤٩ / ٢٠٨ - ٢١٤ الطبعة الحديثة، حياة الإمام الرضا (ص ٤٥٣ - ٤٦٠) وقد نقلناها منه.

٣٠٢

شؤون الإمام في (خراسان)

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الإمام الرضاعليه‌السلام حينما كان مقيماً في (خراسان)، وفيما يلي ذلك:

وفادة الشعراء على الإمام:

وبادرت كوكبة من أعلام الشعر العربي في ذلك العصر نحو الإمام الرضاعليه‌السلام تقدّم له تهانيها، وتبريكاتها لتولّيه ولاية العهد، كان منهم: الشاعر الكبير دعبل الخزاعي، الثائر على الظلم والجور، والمعبّر عن آلام المظلومين والمضطهدين، ومنهم: الشاعر الملهم إبراهيم بن العباس الصولي نابغة عصره في الأدب نظماً ونثراً(١) ، ومنهم: الأديب الكبير الشاعر رزين بن علي شقيق دعبل الخزاعي.

وقبل سفرهم إلى (خراسان) قال دعبل لإبراهيم:

إنّي أريد أن أصحبك إلى خراسان؟ فقال له إبراهيم:

(حبذا أنت صاحباً ومصحوباً، إن كنّا على شريطة بشار...).

____________________

(١) عرضنا لترجمته في البحث عن أصحاب الإمام ورواة حديثه.

٣٠٣

وبادر دعبل قائلاً:

(ما شريطته؟...).

قال قوله:

أخ خير من آخيت أحمل ثقله

ويحمل عنّي إذا حملته ثقلي

أخ إن نبا دهر بنا كنت دونه

وإن كان كون كان لي ثقة مثلي

أخ ماله لي لست أرهب بخله

ومالي له لا يرهب الدهر من بخلي(١)

وفي أثناء سفرهم قطع عليهم الطريق فاضطرّوا إلى ركب حمير تحمل الشوك، فقال إبراهيم:

أعيدت بعد حمل الشوك أحمالاً من الخزف

نشاوى لا من الخمر بل من شدّة الضعف

وقال: لرزين أجز هذا، فقال:

فلو كنتم على هذا تصيرون إلى النصف

تساوت حالكم فيه ولم تبقوا على الخصف

ثم قال لدعبل: أجز هذا يا أبا علي، فقال:

إذا فات الذي فات فكونوا من ذوي الظرف

وخفوا نقصف اليوم فإنّي بايع خفي(٢)

وانتهت قافلة هؤلاء الأعلام تطوي البيداء لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى خراسان، وفور وصولهم، بادروا إلى مقابلة الإمامعليه‌السلام فأنشده دعبل تائيته الخالدة التي سنذكرها، وأنشده إبراهيم بن العباس قصيدته التي لم يرو المؤرّخون منها إلاّ هذا البيت:

أزالت عناء القلب بعد التجلّدِ

مصارع أولاد النبي محمّدِ

واحتفى بهم الإمام، وقابلهم بمزيد من الحفاوة والتكريم.

جائزة الإمام لدعبل:

ووهب الإمام إلى دعبل صرّة فيها عشرة آلاف درهم من الدراهم المضروبة باسمه(٣) ، ولم تكن تلك الدراهم قد وقعت في يد أحد قبل دعبل، فرفض دعبل

____________________

(١) تأريخ ابن عساكر ٥ / ٣٣١.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤١ - ١٤٢.

(٣) الأغاني ١٨ / ٢٩، معجم الأدباء ٤ / ١٩٤، وفي رجال الكشي (ص ٣١٤) أنّه أعطاه ست مائة دينار، وفي الإتحاف أنّه أعطاه مائة دينار وهو بعيد عمّا عرف به الإمام من الكرم والسخاء.

٣٠٤

أخذها، وقال: لا والله ما هذا أردت، ولا له خرجت، وإنّما جئت للتشرّف به، والنظر إلى وجهه، وطلب من خادم الإمام أن يهب الإمام له ثوباً من ثيابه، فأنفذ إليه الإمام بجبّة خز(١) مع الدراهم، وقال له: خذ هذه الصرة فإنّك ستحتاج إليها.

وانصرف دعبل حتى انتهى إلى (قم)، وقد أذيع فيها حديث جبّة الإمامعليه‌السلام فسارع القميّون إلى دعبل، وسألوه أن يبيع إليهم الجبّة بثلاثين ألف درهم(٢) فأبى وسار عن (قم) فلحقه قوم من القميّين، وقالوا له: إن شئت أن تأخذ المال، وإلاّ فأنت أعلم، فقال لهم: إنّي والله لا أعطيكم إيّاها طوعاً، ولا تنفعكم غصباً، فإنّها إنّما تراد لله عزّ وجل، وهي محرّمة عليكم، وحلف أن لا يبيعها إليهم إلاّ أن يعطوه بعضها لتكون في كفنه فأعطوه كمّاً واحداً فكان في أكفانه(٣) ، ويقول الرواة:

إنّ جارية لدعبل كانت أثيرة عنده قد مرضت فعصبها دعبل بما عنده من جبّة الإمامعليه‌السلام فبرأت(٤) .

وأمّا الدراهم فقد باع دعبل كل درهم منها بعشرة دراهم إلى أهالي (قم) فبلغت حصّته مائة ألف درهم(٥) .

جائزة إبراهيم من الإمام:

ومنح الإمامعليه‌السلام إبراهيم الصولي عشرة آلاف درهم من الدراهم التي ضُرب عليها اسمه الشريف، ولم يبعها إبراهيم وإنّما بقيت عنده(٦) فتصرّف في بعضها، وبقي الآخر عنده حتى توفّي.

القصيدة الخالدة لدعبل:

وتعد قصيدة دعبل التي ألقاها على الإمام الرضاعليه‌السلام من ذخائر

____________________

(١) مقدمة ديوان دعبل (ص ٥٢).

(٢) في رجال النجاشي (ص ١٩٧) وفي البحار ١٢ / ٧١ أنّ الإمام خلع عليه قميصاً أخضر، وخاتماً فصّه عقيق، وقال له: احتفظ بهذا القميص فقد صلّيت فيه ألف ليلة بألف ركعة، وختمت فيه القرآن ألف ختمة.

(٣) الأغاني ١٨ / ٢٩. معجم الأدباء ٤ / ١٩٤.

(٤) البحار ١٢ / ٧١.

(٥) أمالي المرتضى ١ / ٤٨٤.

(٦) أمالي المرتضى ١ / ٤٨٤.

٣٠٥

الأدب العربي، ومن مناجم التراث الإسلامي، وهي من أشهر قصائد دعبل، وقد أثرّت في نفس الإمام تأثيراً بالغاً، حتى بكى، وأغمى عليه ثلاث مرات(١) ؛ لأنّه عرض فيها الفجائع القاسية التي حلّت بأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد كتبها دعبل في ثوب وأحرم فيه وأوصى أن يكون في أكفانه(٢) .

وقد انتشرت قصيدة دعبل انتشاراً هائلاً في ذلك العصر، وقد سمعها المأمون فأعجب بها، وطلب من دعبل أن يقرأها عليه، وقال له: لا بأس عليك ولك الأمان من كل شيء فيها، وقد رويتها إلاّ إنّي أحب أن أسمعها من فيك، فأنشدها والمأمون يبكي حتى اخضلّت لحيته من دموعه(٣) .

ومن طريف ما ينقل عن هذه القصيدة الغرّاء أنّ دعبل لـمّا سار من (مرو) في قافلة قطع عليهم اللصوص الطريق، وأخذوا كل ما معهم، واتفق أنّ لصّاً كان ينهب ما عند دعبل وينشد بيتاً من قصيدته التي ألقاها على الإمام وهو:

أرى فيئهم في غيرهم متقسماً

وأيديهم من فيئهم صفرات

فقال له دعبل: لـمَن هذا البيت؟ فقال له لرجل من خزاعة يقال له دعبل، فقال له: أنا دعبل، ثم أنشده القصيدة فذهل ونادى ببقية اللصوص أن يردوا على القافلة ما أخذوه منها تكريماً لشاعر أهل البيت فردّوه عليهم(٤) .

ونظراً لأهمية هذه القصيدة فقد انبرى جمع من الأعلام إلى شرحها، ومن بين هذه الشروح:

١ - شرح السيد نعمة الله الجزائري.

٢ - شرح كمال الدين محمد بن محمد الشيرازي.

٣ - شرح الحاج ميرزا علي التبريزي(٥) .

نصّ القصيدة:

ونقل المغفور له الفاضل عبد الصاحب الدجيلي نصّ القصيدة في ديوان دعبل

____________________

(١) الأغاني ١٨ / ٤٢.

(٢) معجم الأدباء ٤ / ١٩٤.

(٣) الأغاني ١٨ / ٤٢.

(٤) نور الأبصار (ص ١٤٧)، الإتحاف (ص ١٦٣) البحار ١٢ / ٧١، مقدمة ديوان دعبل (ص ٥٣).

(٥) الذريعة.

٣٠٦

عن جمهرة من المصادر المخطوطة والمطبوعة ونحن ننقلها عنه، وهذا نصها:

١ - تجاوبن بالإرنان والزفرات = نوائح عجم اللفظ والنطقاتِ

٢ - يخبرن بالأنفاس عن سرّ أنفسٍ = أسارى هوى ماضٍ وآخر آتِ

٣ - فأسعدن أو أسعفن حتى تقوّضت = صنوف الدجى بالفجر منهزماتِ

٤ - على العرصات الخاليات من المها = سلام شجٍ صبٍّ على العرصاتِ

٥ - فعهدي بها خضر المعاهد مألفاً = من العطرات البيض والخفراتِ

٦ - ليالي يعدّين الوصال على القلى = وبعد تدانينا على الغرباتِ

٧ - وإذ هنّ يلحظن العيون سوافراً = ويسترن بالأيدي على الوجناتِ

٨ - وإذ كل يوم لي بلحظي نشوة = يبيت لها قلبي على نشواتِ

٩ - فكم حسراتٍ هاجها بمحسّر = وقوفي يوم الجمع من عرفاتِ(١)

١٠ - ألم تر للأيام ما جرّ جورها = على الناس من نقصٍ وطول شتاتِ

١١ - ومن دول المستهترين ومن غدا = بهم طالباً للنور في الظلمات(٢)

١٢ - فكيف ومن أنّى يطالب زلفةً = إلى الله بعد الصوم والصلواتِ

١٣ - سوى حبّ أبناء النبي ورهطه = وبغض بني الزرقاء والعبلاتِ(٣)

١٤ - وهند وما أدّت سمية وابنها = أولو الكفر في الإسلام والفجراتِ(٤)

١٥ - همُ نقضوا عهد الكتاب وفرضه = ومحكمه بالزور والشبهاتِ(٥)

١٦ - ولم تك إلاّ محنة كشفتهم = بدعوى ضلالٍ من هن وهناتِ

١٧ - تراثٌ بلا قربى وملكٌ بلا هدى = وحكمٌ بلا شورى بغير هداتِ(٦)

١٨ - رزايا أرتنا خضرة الأفق حمرةً = وردّت أُجاجاً طعم كل فراتِ

١٩ - وما سهلت تلك المذاهب فيهم = على الناس إلاّ بيعة الفلتاتِ(٧)

____________________

(١) محسّر وعرفات: اسمان لموضعين في مكة المكرّمة.

(٢) دول المستهترين: هي دول بني أمية، ودول بني العباس، الذين استهانوا بجميع الأعراف والقيم الإسلامية.

(٣) بنو الزرقاء: هم أبناء مروان طريد رسول الله (ص)، والزرقاء أمّه، وهي من النساء الفاجرات في الجاهلية، والعبلات إحدى قبائل قريش.

(٤) هند: أم معاوية الصحابي المزعوم صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام، وسمية: اسم لام زياد الإرهابي المجرم.

(٥) يشير إلى الحكم الأموي الذي نقض عهد الله، وخاس بجميع القيم الإسلامية.

(٦) يشير إلى أنّ الحكم الأموي لم يستند إلى الشورى ولا إلى القربى.

(٧) يشير إلى بيعة أبي بكر التي وصمها عمر بقوله: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها.

٣٠٧

٢٠ - وما نال أصحاب السقيفة إمرة = بدعوى تراثٍ، بل بأمر تراتِ(١)

٢١ - ولو قلّدوا الموصى إليه زمامها = لزمت بمأمون من العثراتِ(٢)

٢٢ - أخا خاتم الرسل المصفّى من القذى = ومفترس الأبطال في الغمراتِ(٣)

٢٣ - فإن جحدوا كان الغدير شهيده = وبدر وأحد شامخ الهضباتِ(٤)

٢٤ - وآي من القرآن تتلى بفضله = وإيثاره بالقوت في اللزباتِ(٥)

٢٥ - وغرُّ خلالٍ أدركته بسبقها = مناقب كانت فيه مؤتنفاتِ

٢٦ - مناقب لم تدرك بكيدٍ ولم تنل = بشيء سوى حد القنا الذرباتِ

٢٧ - نجيٌّ لجبريل الأمين وأنتمُ = عكوف على العزى معاً ومناةِ(٦)

٢٨ - بكيت لرسم الدار من عرفات = وأذريت دمع العين بالعبراتِ

٢٩ - وفك عرى صبري وهاجت صبابتي = رسوم ديارٍ أقفرت وعراتِ

٣٠ - مدارس آياتٍ خلت من تلاوةٍ = ومنزل وحيٍ مقفر العرصاتِ(٧)

٣١ - لآل رسول الله بالخيف من منى = وبالركن والتعريف والجمراتِ(٨)

٣٢ - ديار عليٍّ والحسين وجعفرٍ = وحمزة والسجّاد ذي الثفناتِ(٩)

____________________

(١) السقيفة: التي أرادها دعبل هي سقيفة بني ساعدة التي تآمروا فيها على الخلافة، والنبي مسجّى لم يدفن، وقد أسفر هذا المؤتمر عن إقصاء الإمام أمير المؤمنين عن مركز الخلافة الأمر الذي جرّ للمسلمين الويلات والدمار.

(٢) الوصي: هو الإمام أمير المؤمنين وصي رسول الله وباب مدينة علمه، ولو تقلّد الخلافة لصان المسلمين من العثرات.

أخو خاتم الرسل: وهو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فقد قال له النبي: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة.

(٤) الغدير: هو الموضع المعروف الذي عقد فيه النبي (ص) البيعة للإمام أمير المؤمنين، وبيعة الغدير جزء من الإسلام فمَن أنكرها فقد أنكر الإسلام كما يقول بعض أعلام العصر.

(٥) الآيات الواردة في الإمام علي منها: آية المباهلة، وآية المودّة، وآية التطهير، وآية التصدّق بالخاتم، وغيرها من الآيات التي أشادت بعملاق الإسلام.

(٦) العزى ومناة: صنمان لقريش كانوا يعبدونهما من دون الله.

(٧) يشير إلى بيوت السادة أبناء النبي الذين حصدتهم سيوف الأمويين والعباسيين حتى أقفرت بيوتهم من تلك الكواكب المشرقة بنور الإيمان والتوحيد.

(٨) هذه المواضع المقدّسة التي ذكرها دعبل هي التي كان يقيمون فيها السادة العلويون فيحيون لياليهم فيها بالعبادة إلى الله وتلاوة كتابه.

(٩) ذو الثفنات: هو لقب لسيّد الساجدين والعابدين الإمام زين العابدين فقد كانت له ثفنات كثفنات البعير في مواضع سجوده من كثرة سجوده لله.

٣٠٨

٣٣ - ديار لعبد الله والفضل صنوه = نجي رسول الله في الخلواتِ

٣٤ - منازل وحي الله ينزل بينها = على أحمد المذكور في السوراتِ

٣٥ - منازل قوم يهتدي بهداهم = فتؤمن منهم زلّة العثراتِ

٣٦ - منازل كانت للصلاة وللتقى = وللصوم والتطهير والحسناتِ

٣٧ - منازل جبريل الأمين يحلّها = من الله بالتسليم والرحماتِ

٣٨ - منازل وحي الله معدن علمه = سبيل رشادٍ واضح الطرقاتِ

٣٩ - ديار عفاها جور كل منابذٍ = ولم تعف للأيام والسنواتِ

٤٠ - فيا وارثي علم النبي وآله = عليكم سلام دائم النفحاتِ

٤١ - قفا نسأل الدار التي خفّ أهلها = متى عهدها بالصوم والصلواتِ

٤٢ - وأين الألى شطّت بهم غربة النوى = أفانين في الآفاق مفترقاتِ

٤٣ - هم أهل ميراث النبي إذا اعتزوا = وهم خير ساداتٍ وخير حماةِ

٤٤ - مطاعيم في الإعسار في كل مشهدٍ = لقد شرفوا بالفضل والبركاتِ(١)

٤٥ - وما الناس إلاّ حاسدٌ ومكذِّبٌ = ومضطغنٌ ذو إحنةٍ وتراتِ

٤٦ - إذا ذكروا قتلى ببدرٍ وخيبرٍ = ويم حنينٍ أسبلوا العبرات(٢)

٤٧ - فكيف يحبون النبي ورهطه = وهم تركوا أحشاءهم وغراتِ(٣)

٤٨ - لقد لاينوه في المقال وأضمروا = قلوباً على الأحقاد منطوياتِ(٤)

٤٩ - فإن لم تكن إلاّ بقربى محمّدٍ = فهاشم أولى من هن وهناتِ

٥٠ - سقى الله قبراً بالمدينة غيثه = فقد حلّ فيه الأمن بالبركاتِ

٥١ - نبي الهدى صلّى عليه مليكه = وبلّغ عنه روحه التحفاتِ

٥٢ - وصلّى عليه الله ما ذرّ شارق = ولاحت نجوم الليل مبتدراتِ

٥٣ - أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً = وقد مات عطشاناً بشطّ فراتِ

٥٤ - إذن للطمت الخدّ فاطم عنده = وأجريت دمع العين في الوجناتِ

____________________

(١) يشير دعبل إلى كرم أهل البيت، وأنّهم مطاعيم في الإعسار للفقراء والمحرومين.

(٢) يشير دعبل إلى القوى المعادية لأهل البيت الذين وترهم سيف علي وسيوف المؤمنين، فإنّهم إذا ذكروا قتلاهم بكوا عليهم أحرّ البكاء.

(٥) إنّ القوى المنحرفة عن أهل البيت كيف يحبون النبي وأهله.

(٤) أراد دعبل أنّ المعادين للإسلام لاينوا النبي بكلامهم ولكنّ قلوبهم قد انطوت على عدائه.

٣٠٩

٥٥ - أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي = نجوم سماواتٍ بأرض فلاةِ

٥٦ - قبورٌ بكوفانٍ وأخرى بطيبةٍ = وأخرى بفخٍّ نالها صلواتِ(١)

٥٧ - وأخرى بأرض الجوزجان محلّها = وقبر بباخمرى لدى الغرباتِ(٢)

٥٨ - وقبرٌ ببغدادٍ لنفسٍ زكيّةٍ = تضمّنها الرحمن في الغرفاتِ(٣)

٥٩ - فأما الممضات التي لست بالغا = مبالغها مني بكنه صفات

٦٠ - قبورٌ لدى النهر من أرض كربلا = معرّسهم فيها بشطِّ فراتِ

٦١ - توفّوا عطاشا بالفرات فليتني = توفّيت فيهم قبل حين وفاتي

٦٢ - إلى الله أشكوا لوعةً عند ذكرهم = سقتني بكأس الذلِّ والفظعاتِ

٦٣ - أخاف بأن أزدارهم فيشوقني = مصارعهم بالجزع فالنخلاتِ

٦٤ - تقسّمهم ريب الزمان كما ترى = لهم عفرة مغشية الحجراتِ

٦٥ - سوى أنّ منهم بالمدينة عصبة = - مدى الدهر - أنضاءً من الأزماتِ

٦٦ - قليلة زوار سوى بعض زور = من الضبع والعقبان والرخمات

٦٧ - لهم كل حين نومة بمضاجعٍ = ثوت في نواحي الأرض مختلفاتِ

٦٨ - وقد كان منهم بالحجاز وأهلها = مغاوير يختارون في السرواتِ

٦٩ - تنكّب لأواء السنين جوارهم = فلا تصطليهم جمرة الجمراتِ(٤)

٧٠ - حمى لم تزره المذنبات وأوجه = تضئ لدى الأستار في الظلماتِ

____________________

(١) أشار دعبل إلى مراقد السادة العلويين، وأوّل مرقد لهم قبر الإمام علىعليه‌السلام في النجف التي هي في ظهر الكوفة، وقبر الشهيد مسلم بن عقيل، وفي طيبة قبور أئمّة البقيععليهم‌السلام ، وفي فخ قبر الحسين بن علي بن الحسن وغيره من العلويين.

(٢) الجوزجان: فيها قبر الشهيد العظيم يحيى بن زيد الذي استشهد أيام الوليد الأموي، وباخمرى: هي موضع بين الكوفة وواسط فيها استشهد إبراهيم بن عبد الله بن الحسن في أيام الطاغية الدوانيقي.

(٣) أمّا القبر الذي ببغداد فهو قبر باب الحوائج الإمام الكاظم وقبر حفيده الإمام الجواد، ونعت كثير من المصادر أنّ دعبل لـمّا انتهى إلى هذا البيت قال له الإمام الرضا أفلا الحق لك بهذا الموضع بيتين، فقال: بلى يا بن رسول الله فقالعليه‌السلام .

وقبر بطوس يا لها من مصيبة

ألحّت على الأحشاء بالزفراتِ

إلى الحشر حتى يبعث الله قائماً

يفرّج عنّا الغمِّ والكرباتِ

فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبر مَن؟ قال الإمامعليه‌السلام : هو قبري. جاء ذلك في المناقب ٣ / ٤٥٠ وغيره.

(٤) اللأواء: الشدّة.

٣١٠

٧١ - إذا أوردوا خيلاً تسعّر بالقنا = مساعر جمر الموت والغمراتِ

٧٢ - وإن فخروا يوماً أتوا بمحمّدٍ = وجبريل والفرقان والسوراتِ

٧٣ - وعدوا عليّاً ذا المناقب والعلا = وفاطمة الزهراء خير بناتِ

٧٤ - وحمزة والعبّاس ذا الهدي والتقى = وجعفر الطيّار في الحجباتِ

٧٥ - أولئك لا منتوج هند وحزبها = سمية من نوكى ومن قذراتِ(١)

٧٦ - ستسأل تيم عنهم وعديّها = وبيعتهم من أفخر الفجراتِ(٢)

٧٧ - هم منعوا الآباء من أخذ حقّهم = وهم تركوا الأبناء رهن شتاتِ(٣)

٧٨ - وهم عدلوها عن وصي محمّدٍ = فبيعتهم جاءت على الغدراتِ(٤)

٧٩ - ملامك في أهل النبي فإنّهم = أحباي ما عاشوا وأهل ثقاتي

٨٠ - تخيّرتهم رشداً لأمري فإنّهم = على كل حالٍ خيرة الخيراتِ

٨١ - نبذت إليهم بالمودّة صادقاً = وسلّمت نفسي طائعاً لولاتي

٨٢ - فيا ربّ زدني من يقيني بصيرةً = وزد حبّهم يا ربّ في حسناتي

٨٣ - سأبكيهم ما حجّ لله راكب = وما ناح قُمْريٌّ على الشجراتِ

٨٤ - بنفسي أنتم من كهولٍ وفتيةٍ = لفك عناةٍ أو لحمل دياتِ

٨٥ - وللخيل لـمّا قيّد الموت خطوها = فأطلقتم منهن بالذرباتِ(٥)

٨٦ - أحبّ قصيّ الرحم من أجل حبكم = وأهجر فيكم أسرتي وبناتي(٦)

٨٧ - وأكتم حبيكم مخافة كاشحٍ = عنيدٍ لأهل الحق غير مواتِ

٨٨ - فيا عين بكّيهم وجودي بعبرة = فقد آن للتسكاب والهملاتِ(٧)

____________________

(١) النوكي: الحمق.

(٢) أراد بتيم: أبو بكر، وأراد بعدي عمر بن الخطاب، ويرى دعبل أنّهما مسؤولان عمّا لحق بأهل البيت من المآسي والنكبات فهما اللذان أقصيا الإمام أمير المؤمنين عن الخلافة وسببا للعترة الطاهرة ألوانا مريرة من المصائب.

(٣) أشار دعبل إلى أنّ الملوك السابقين هم الذي منعوا السادة العلويين من أخذ حقهم، وتركوا السادة من أبنائهم رهن شتات.

(٤) الوصي هو الإمام أمير المؤمنين وصي رسول الله وباب مدينة علمه وقد شجب دعبل تحوّل الخلافة عنه، وتقليدها لغيره.

(٥) الذربات: الداهيات.

(٦) يريد دعبل أنّه يحب ويخلص لـمَن أحب وأخلص لأهل البيت عليهم، وإن كانوا بعاداً عنه في النسب، ويعادي مَن عاداهم، وإن كانوا أُسرته وبناته.

(٧) الهملات: هي الدموع.

٣١١

٨٩ - لقد حفّت الأيام حولي بشرّها = وإنّي لأرجو الأمن بعد وفاتي(١)

٩٠ - ألم تر أنّي من ثلاثين حجّة = أروح وأغدو دائم الحسراتِ

٩١ - أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً = وأيديهم من فيئهم صفراتِ(٢)

٩٢ - فكيف أداوي من جوى بي والجوى = أميّة أهل الفسق والتبعاتِ

٩٣ - فآل رسول الله نحف جسومهم = وآل زياد حفل القصراتِ(٣)

٩٤ بنات زيادٍ في القصور مصونةٌ = وآل رسول الله في الفلواتِ

٩٥ - سأبكيهم ما ذرّ في الأرض شارقٌ = ونادى منادى الخير بالصلواتِ

٩٦ - وما طلعت شمسٌ وحان غروبها = وبالليل أبكيهم وبالغدواتِ

٩٧ - ديار رسول الله أصبحن بلقعاً = وآل زيادٍ تسكن الحجراتِ

٩٨ - وآل رسول الله تدمى نحورهم = وآل زيادٍ آمنوا السرباتِ

٩٩ - وآل رسول الله تُسبى حريمهم = وآل زيادٍ ربّة الحجلاتِ

١٠٠ - إذا وتروا مدّوا إلى واتريهم = أكفّاً عن الأوتار منقضبات(٤)

١٠١ - فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غدٍ = تقطّع نفسي إثرهم حسراتِ

١٠٢ - خروج إمام لا محالة خارجٌ = يقوم على اسم الله والبركات(٥)

١٠٣ - يميّز فينا كلَّ حقٍ وباطلٍ = ويجزي على النعماء والنقمات

١٠٤ - سأقصر نفسي جاهداً عن جدالهم = كفاني ما ألقى من العبراتِ

١٠٥ - فيا نفس طيبي ثم يا نفس أبشري = فغير بعيدٍ كل ما هو آتٍ

١٠٦ - ولا تجزعي من مدّة الجور إنّني = أرى قوّتي قد آذنت بشتاتِ

١٠٧ - فإن قرّب الرحمن من تلك مدّتي = وأخّر من عمري لطول حياتي

١٠٨ - شفيت ولم أترك لنفسي رزيّة = وروّيت منهم منصلي وقناتي(٦)

____________________

(١) في رواية: لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها، وفي رواية أنّ دعبل لـمّا أنشد هذا البيت رفع الإمامعليه‌السلام يديه بالدعاء، وقال له: آمنك الله يا خزاعي يوم الفزع الأكبر.

(٢) في رواية أنّ دعبل لـمّا بلغ إلى هذا البيت جعل الإمام الرضا يقلب كفّه ويقول: (أجل والله منقبضات).

(٣) القصرات: جمع مفرده قصرة، وهي أصل العنق.

(٤) في رواية أنّ دعبل لـمّا فرغ من إنشاد هذا البيت جعل الإمام الرضاعليه‌السلام يقلب كفّيه ويقول: أجل والله منقبضات.

(٥) عندما انتهى دعبل من إنشاد هذا البيت، والبيت الذي بعده قال له الإمام: (يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك) المناقب ٣ / ٤٥٠.

(٦) المنصل: حديدة السهم والرمح والسكّين.

٣١٢

١٠٩ - فإنّي من الرحمن أرجوا بحبّهم = حياةً لدى الفردوس غير بتاتِ(١)

١١٠ - عسى الله أن يأوي لذا الخلق إنّه = إلى كل قومٍ دائم اللحظاتِ

١١١ - فإن قلت عرفاً أنكروه بمنكرٍ = وغطّوا على التحقيق بالشبهاتِ

١١٢ - أحاول نقل الشمس عن مستقرّها = وأسمع أحجاراً من الصلداتِ

١١٣ - فمن عارفٍ لم ينتفع ومعاندٍ = يميل مع الأهواء والشهواتِ

١١٤ - قصارى منهم أن أموت بغصّةٍ = تردّد في صدري وفي اللهواتِ

١١٥ - كأنّك بالأضلاع قد ضاق رحبها = لِمَا ضُمّنت من شدّة الزفراتِ(٢)

وانتهت هذه القصيدة العصماء التي نالت رضا الإمام ودعاءه لدعبل بالفوز يوم الفزع الأكبر.

وقد تأثّر الإمام كأشدّ ما يكون التأثّر في الأبيات التي رثى بها دعبل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقد بكى الإمام أمرّ البكاء، وأغمي عليه غير مرة، فقد نخبت قلبه فاجعة كربلاء، وكان يقول: إنّ أمر الحسين أسهر جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، يا أرض كرب وبلاء أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحط الذنوب والعظام(٣) .

ويشتد حزن الإمام ويتضاعف أساه إذا حلّ شهر المحرم، وقد قال: كان أبي صلوات الله عليه إذا دخل شهر محرّم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكارثة تغلبه حتى تمضي منه عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، وكان يقول: (هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين)(٤) .

وقالعليه‌السلام : إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وانتهكت فيه حرمتنا، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهبت ما فيه من ثقلنا، ولم يرعوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حرمة في أمرنا(٥) .

____________________

(١) غير بتات: أي غير منقطعة، وإنّما هي حياة خالدة ودائمة.

(٢) ديوان دعبل.

(٣) الأنوار النعمانية ٣ / ٢٣٨.

(٤) الأنوار النعمانية ٣ / ٢٣٨.

(٥) الأنوار النعمانية ٣ / ٢٣٨.

٣١٣

وروى الريان بن شبيب قال: دخلت على الرضا في أول يوم من المحرم فقال لي:

(يا بن شبيب أصائم أنت؟).

(لا...).

وأخذ الإمام يعرفه حرمة ذلك اليوم قائلاً:

(هذه اليوم الذي دعا فيه زكريا ربّه عزّ وجل، فقال: يا رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، إنّك سميع الدعاء، فاستجاب الله له وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلّي في المحراب: إنّ الله يبشرك بيحيى، فمَن صام هذا اليوم، ثم دعا الله عزّ وجل استجاب له، كما استجاب لزكريا.

يا بن شبيب إنّ المحرّم هو الشهر الذي كان فيه أهل الجاهلية - فيما مضى - يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها، ولا حرمة نبيّها، لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله ذلك لهم أبداً.

يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك الحسين بن علي بن أبي طالب، فإنّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السماوات السبع، والأرضون لقتله، ولقد نزلت إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصرته فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائمعليه‌السلام فيكونون معه من أنصاره وشيعته، وشعارهم: (يا لثارات

الحسين)(١) .

لقد أخلدت كارثة كربلاء الحزن والأسى لأهل البيتعليهم‌السلام فهم وشيعتهم في حزن مستمر لا ينسون ما حلّ بسبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من عظيم المحن والرزايا، فقد انتهكت في يوم عاشوراء حرمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يرع في ذلك اليوم الخالد في دنيا الأحزان أيّ حرمة لله، ولا لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد عمد جيش ابن مرجانة إلى قتل سبط رسول الله (ص) بتلك القتلة المروعة...

ولنعد بعد هذا إلى متابعة شؤون الإمام في (خراسان).

____________________

(١) الأنوار النعمانية ٣ / ٢٣٩.

٣١٤

إنفاق جميع ما عنده:

وأنفق الإمامعليه‌السلام جميع ما يملك (بخراسان) على الفقراء والبؤساء فأنكر عليه الفضل بن سهل، وقال له:

(إنّ هذا المغرم...).

فرد عليه الإمام ببالغ الحجّة قائلاً:

(بل هو المغنم، لا تعدن مغرماً ما اتبعت به أجراً وكرماً)(١) .

إنّه ليس من المغرم في شيء إنفاق الإمام جميع ما عنده على الفقراء والمحرومين، وإنقاذهم من غائلة الفقر وويلات البؤس، وإنّما المغرم ما كان ينفقه ملوك العبّاسيين وإخوانهم الأمويون من الأموال الطائلة على شهواتهم ولياليهم الحمراء، ولم ينفقوا أي شيء على فقراء المسلمين.

خطبة الإمام في التوحيد:

وتعتبر هذه الخطبة من غرر خطب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن روائع ما أثر عنهم في قضايا التوحيد، ولو ولم يكن للإمام الرضاعليه‌السلام من تراث إلاّ هذه الخطبة لكفى بها للتدليل على إمامته، وبلوغه مرتبة سامية من العلم والفضل لم يبلغها إلاّ الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم... ونظراً لأهميتها البالغة فقد تصدى سماحة المغفور له يحيى بن محمد علي إلى شرحها، وقد جاء في مقدمتها:

(إنّ الخطبة المعروفة الواردة في التوحيد إلى جناب الحضرة المقدّسة والساحة المطهّرة... ثامن أئمّة الدين إمام الورى علي بن موسى الرضا عليه التحيّة والثناء، لما كانت بحراً عميقاً، محتوياً على فوائد ومعارف... جامعة من فنون العلم وصنوف المعروفة ما لا يجمعه سواها الخ...)(٢) .

أمّا سبب إنشاء الإمام لهذه الخطبة فهو أنّ المأمون لـمّا أراد أن يولّي الإمام ولاية العهد حسده بنو هاشم - وهم بنو العباس - وقالوا له:

أتولّي رجلاً جاهلاً ليس له بصر(٣) بتدبير الخلافة؟ فابعث إليه رجلاً يأتينا به

____________________

(١) بحار الأنوار ١٢ / ٢٩.

(٢) شرح خطبة الإمام الرضا في التوحيد مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام تسلسل (١٧٢٨).

(٣) في نسخة ليس له بصيرة.

٣١٥

فترى من جهله ما يستدل به عليه، فبعث إليه فأتاه فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن اصعد المنبر، وانصب لنا علماً نعبد الله عليه، فصعد المنبر، فقعد مليّاً لا يتكلّم، ثم انتفض واستوى قائماً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي وأهل بيته، ثم قال: (أوّل عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه، لشهادة العقول أنّ كل صفة وموصوف مخلوق(١) وشهادة كل مخلوق أنّ له خالقاً ليس بصفة، ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث، فليس الله عرف، من عرف بالتشبيه ذاته(٢) ولا إيّاه وحده من اكتنهه(٣) ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا به صدق مَن نهاه(٤) ، ولا صمد صمده مَن أشار إليه(٥) ولا إيّاه عنى من شبهه، ولا له تذلّل من بعضه، ولا إيّاه أراد من توهمه. كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجّته(٦) ، خلق الله الخلق حجاباً بينه وبينهم، ومباينته إيّاهم مفارقته إنّيتهم، وابتداؤه إيّاهم دليلهم على أن لا ابتداء له لعجز كل مبتدئ عن ابتداء غيره، وأدوات إيّاهم دليل على أن لا أداة فيه لشهادة الأدوات بفاقة المتأدين.

وأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغبوره تحديد لما سواه، فقد جهل الله مَن استوصفه، وقد تعدّاه مَن اشتمله(٧) وقد أخطأه مَن اكتنهه، ومَن قال: كيف فقد شبّهه، ومَن قال: لم؟ فقد علّله، ومَن قال:

____________________

(١) أراد كل صفة وموصوف متعددان ذاتاً أو اعتباراً فإنّهما من صفات الممكن، أمّا الواجب تعالى فإنّ صفاته عين ذاته، ولا تعدّد بينه وبين صفاته.

(٢) يريد أنّه لا يعرف الله، مَن يشبه ذات الله تعالى.

(٣) يريد: أنّ مَن يطلب كنهه تعالى وحقيقته فهو ليس من الموحّدين؛ لأنّه قد جعله من الممكنات التي يمكن معرفتها.

(٤) أراد أنّه لم يصدق بالله تعالى مَن جعل له نهاية.

(٥) يعنى أنّ مَن أشار إلى الله تعالى فقد ضلّ عن الطريق؛ لأنّ الله ليس له جهة خاصة حتى يشار؛ لأنّه أينما تولّوا فثمّ وجه الله تعالى.

(٦) أراد أن الله معروف ومعلوم بالفطرة الأصيلة وبالعقول النيّرة المستقيمة، فإنّ جميع الوجود تدلّل عليه.

(٧) المعنى: إنّه قد توهّم، وبعد عن الصواب مَن تصوّر أنّه أحاط بمعرفة الخالق العظيم.

٣١٦

متى؟ فقد وقّته، ومَن قال: فيم؟ فقد ضمّنه، ومَن قال: إلام؟ فقد نهاه، ومَن قال: حتام فقد غيّاه(١) ، ومَن غيّاه فقد غاياه، ومَن غاياه فقد جزّأه ومَن جزّأه وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، لا يتغيّر الله بانغيار المخلوق، كما لا يتحدّد بتحديد المحدود، أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلٍّ لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة، مبائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحول فكرة(٢) ، مدبِّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، شاء لا بهمة، مدرك لا بمجسّة(٣) ، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة.

لا تصحبه الأوقات، ولا تضمنه الأماكن، ولا تأخذه السنات(٤) ، ولا تحدّه الصفات، ولا تقيّده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده(٥) والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له(٦) ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والجلاية بالبهم، والجسو(٧) بالبلل، والصرد(٨) بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرّق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلفها، ذلك قوله عزّ وجل:( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (٩) ففرّق بها بين قبل وبعد، ليعلم أن لا قبل له ولا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، دالة بتفاوتها أن لا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبينها غيرها.

____________________

(١) المعنى: إنّه من سأل عن حد أو نهاية أو غاية ذلك فيما يتعلق بذات الخالق العظيم، فإنّه قد ضل ضلالاً بعيداً، وانحرف عن الحق إذ كيف يصل الإنسان المحدود فكره إلى معرفة الله تعالى.

(٢) لا بحول فكرة: أي لا بقوّة الفكر.

(٣) المجسّة: آلة الحس.

(٤) السنة: النعاس.

(٥) أي سبق وجوده العدم.

(٦) عرف أنّ لا مشعر له: يعني أنّه تعالى لعلوّه عن مرتبة المصنوع عرف أن لا مشعر له.

(٧) الجسو: المس.

(٨) الصرد: بفتح الصاد، وكسر الراء من يجد البرد سريعاً، ومنه رجل مصراد لـمَن يشتد عليه البرد ولا يطيقه، مجمع البحرين.

(٩) سورة الذاريات: آية ٤٩ والآية استشهاد للمضادة، والمعنى من كل شيء خلقنا ضدين كالأمثلة المذكورة بخلافة تعالى فإنّه لا ضدّ له.

٣١٧

له معنى الربوبية إذ لا مربوب(١) ، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه(٢) ، ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع، ليس منذ خلق استحق معنى الخالق، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية، كيف ولا تغيبه من، ولا تدنيه قد، ولا تحجبه لعل، ولا توقّته متى، ولا تشمله حين، ولا تقارنه مع(٣) ، إنّما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها(٤) ، وفي الأشياء يوجد أفعالها(٥) ، منعتها قد الأزلية(٦) وجنبتها لولا التكملة افترقت فدلّت على مفرقها، وتباينت فأعربت عن مباينها لما تجلّى صانعها للعقول، وبها احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الأوهام،

وفيها أثبتت غيره(٧) ، ومنها أنيط الدليل، وبها عرفها الإقرار، وبالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الإيمان به، ولا ديانة إلاّ بعد المعرفة، ولا معرفة إلاّ بالإخلاص، ولا إخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع أثبات الصفات للتشبيه (٨) ، فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكل ما يمكن فيه من صانعه لا تجري عليه الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، أو يعود إليه ما هو ابتدأه إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه.

____________________

(١) المراد أنّ كل صفة كمالية في الوجود ثابته له تعالى بذاته إذ أنها حاصلة له من غيره وهذا مفاد (أنّ الواجب الوجود لذاته واجب لذاته من جميع الوجوه).

(٢) المراد أنّه تعالى هو المالك للتصرّف، والعبد مألوه له تعالى يتصرّف في شؤونه.

(٣) المراد أنّه كيف لا يستحق الخالق أن يكون قبل الخلق والحال أنّه تغيبه من التي هي لابتداء الزمان عن فعله أي يكون فعله متوقفاً على زمان حتى يكون غالياً عن فعله بسبب عدم الوصول بذلك الزمان، منتظراً لحضور ابتدائه، كما لا تقربه التي هي لتقريب زمان الفعل فلا يقال: قد قرب وقت فعله، لأنّه لا ينتظر وقتاً ليفعل فيه، بل كل الأوقات سواء بالنسبة إليه، ولعلّ لا تحجبه عن مراده، لعلّ التي هي للترجّي لأنّه إذ يترجّى شيئاً، وإنّما أمر إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، كما لا توقّته في مبادئ أفعاله متى، فلا يقال: متى علم متى قدر لان صفاته الكمالية ومبادئ أفعاله، أزلية كوجوده كما لا تشمله ولا تحدّده ذاتاً وصفة وفعلاً (حين) لأنّه فاعل الزمان، كما لا تقارنه بشيء (مع) إذ ليس معه شيء ولا في مرتبته شيء، ومَن كان كذلك فهو خالق بارئ قبل الخلق.

(٤) المراد إنّما يتقيد في الفعل والتأثير بالأدوات أمثالها في المحدودية والجسمانية.

(٥) الأمور الممكنة هي التي تتأثّر وتؤثّر بالآلات وأمّا الحق فمنزّه عن ذلك.

(٦) المراد أنّ أنصاف الأشياء بمعاني منذ وقد ولولا وتقييدها بها يمنعها من الاتصاف بالقِدم والأزلية.

(٧) أي في الأشياء أثبت الله التغيير والاختلاف وذلك بحسب حدودها الإمكانية.

(٨) أي لا نفي لتشبيهه تعالى بالمخلوق مع إثبات الصفات الزائدة له. أخذنا هذه التعاليق من هامش الكتاب وهي للسيد هاشم الحسيني الطهراني.

٣١٨

ولـمّا كان للباري معنى غير المبروء، ولو حد له وراء إذاً حد له أمام، ولو التمس له التمام إذاً لزمه النقصان، كيف يستحق الأزل مَن لا يمتنع من الحدث، وكيف ينشيء الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء إذاً لقامت فيه آية المصنوع، ولتحوّل دليلاً بعد ما كان مدلولاً عليه، ليس في محال القول حجّة، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه له تعظيم، ولا في إباءته عن الخلق ضيم إلاّ بامتناع الأزلي أن يثني، وما لا بدء له أن يبدأ، لا إله إلاّ الله العلي العظيم، كذب العادلون بالله، وضلّوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً، وصلّى الله على محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين)(١) .

وحوت هذه الخطبة العظيمة غوامض البحوث الفلسفية والكلامية، وقد ظهرت فيها القدرات العلمية الهائلة للإمام الرضاعليه‌السلام ، وانكشف للعباسيين زيغ ما ذهبوا إليه من عجز الإمام وعدم قدرته على الخوض في البحوث العلمية، ومن المؤكّد أنّ معظم المستمعين لخطاب الإمام لم يفقهوا هذه المسائل الفلسفية التي عرضها الإمامعليه‌السلام ، والتي تناولت أهم قضايا التوحيد.

الخطبة التي كتبها الإمام للمأمون:

وطلب المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام أن يكتب له خطبة ليقرأها على الناس حينما يصلّي بهم، فكتبعليه‌السلام له هذه الخطبة الجليلة وقد جاء فيها بعد البسملة:

(الحمد لله الذي لا من شيء كان، ولا على صنع شيء استعان، ولا من شيء خلق، كما كون منه الأشياء، بل قال له: كن فيكون.

وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، الجليل عن منابذة الأنداد،

ومكابدة الأضداد، واتخاذ الصواحب والأولاد، وأشهد أنّ محمداً عبده المصطفى، وأمينه المجتبى، أرسله بالقرآن المفصّل، ووحيه، الموصل، وفرقانه المحصل، فبشّر بثوابه، وحذّر من عقابه،صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي يعلم سرّكم وجهركم ويعلم ما تكتمون، فإنّ الله لم يتركم سدى، ولم يخلقكم عبثاً، ولم يمكنكم هدى... الحذر، والحذر عباد الله فقد حذركم الله نفسه، فلا تعرضوا للندم، واستجلاب النقم، والمصير إلى

____________________

(١) التوحيد (ص ٣٤ - ٤١).

٣١٩

عذاب جهنّم، إنّ عذابها كان غراماً، إنّها ساءت مستقراً ومقاماً، لا تطفى، وعيون لا ترقى، ونفوس لا تموت، ولا تحيى في السلاسل والأغلال، والمثلات والنكال، كلمّا نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب، إنّ الله كان عزيزاً حكيماً، نار أحاط بها سرادقها، فلا يسمع لهم نداء، ولا يجاب لهم دعاء ولا يرحم لهم بكاء، ففروا عباد الله إلى الله بهذه الأنفس الفانية، في الصيحة المتوالية، في الأيام الخالية، من قبل أن ينزل بكم الموت، فيغصبكم أنفسكم، ويفجعكم بمهجكم، ويحول بينكم وبين الرجعة هيهات حضرت آجالكم، وختمت أعمالكم، وجفّت أقلامكم، فلا للرجعة من سبيل، ولا إلى الإقامة من وصول عصمنا الله وإيّاكم بما عصم به أولياءه الأبرار، وأرشدنا وإياكم لما أرشد له عباده الأخيار...)(١) .

وحفلت هذه الخطبة بالدعوة إلى فعل الخير، واجتناب الحرام والزهد في الدنيا، والتحذير من عذاب الله وعقابه.

المأمون يطلب من الإمام محاسن الشعر:

وطلب المأمون من الإمامعليه‌السلام أن ينشده أحسن ما رواه في الحلم، فقالعليه‌السلام أحسن ما رويته هذه الأبيات:

إن كان دوني من بليت بجهله

أبيت لنفسي أن أقابل بالجهلِ

وإن كان مثلي في محلّي من النهى

هربت لحلمي كي أجل عن المثلِ

وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجى

عرفت له حق التقدّم والفضلِ

وأعجب المأمون بهذه الأبيات وانبرى يقول:

(مَن قائله؟...).

(بعض فتياننا...).

وقال المأمون: أنشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل، فقالعليه‌السلام هذه الأبيات:

إنّي ليهجرني الصديق تجنّباً

فأريه أنّ لهجره أسبابا

وأراه إن عاتبته أغريته

فأرى له ترك العتاب عتابا

وإذا ابتُليت بجاهلٍ متغافلٍ

يجد المحال من الأمور صوابا

أوليته منّي السكوت وربّما

كان السكوت عن الجواب جوابا

____________________

(١) الدر النظيم ورقة ٢١٥.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375