حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 204495 / تحميل: 8458
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

القذارة المعنوية، فأذهب الله عنها الرجس وطهَّرها تطهيراً.

وهاك طائفة من الأحاديث الصحيحة التي تصرّح بهذا المعنى:

1 - روى القندوزي في ينابيع المودّة ص260 عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما سمِّيت فاطمةُ البتول لأنّها تبتَّلت في الحيض والنفاس.

2 - روى محمد صالح الكشفي الحنفي في (المناقب) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: وسُمّيت فاطمة بتولاً لأنّها تبتّلت وتقطَّعت عمّا هو معتاد العورات في كل شهر.

3 - روى الأمرتسري في (أرجح المطالب): أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سُئل عن بتول وقيل: إنَّا سمعناك - يا رسول الله - تقول: مريم بتول وفاطمة بتول؟ فقال: البتول التي لم تر حمرة قط، أي لم تحض، فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء. أخرجه الحاكم.

4 - وروى الحافظ أبو بكر الشافعي في (تاريخ بغداد ج13 ص331) عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ابنتي حوراء آدميّة لم تحض ولم تطمث... الخ ورواه النسائي أيضاً.

5 - وروى ابن عساكر في (التاريخ الكبير ج1 ص391) عن أنس بن مالك عن أم سليم قالت: لم تر فاطمةرضي‌الله‌عنها دماً في حيض ولا في نفاس.

6 - الحافظ السيوطي: ومن خصائص فاطمةرضي‌الله‌عنها أنّها كانت لا تحيض، وكانت إذا ولدت طهرت من نفاسها بعد ساعة حتى لا تفوتها صلاة.

7 - وروى الرافعي في التدوين عن أم سلمةرضي‌الله‌عنها قالت: ما رأت فاطمةرضي‌الله‌عنها في نفاسها دماً ولا حيضاً.

١٠١

8 - روى الطبري في (ذخائر العقبى) عن أسماء بنت عُميس قالت: قبلت (أي ولدت) فاطمة بالحسن فلم أر لها دماً في حيض ولا نفاس، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أما علمت أنّ ابنتي طاهرة مطهّرة، لا يُرى لها دمٌ في طمث ولا ولادة.

ورواه الصفوري في (نزهة المجالس) ص227.

9 - عن أبي بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: حرَّم الله عزّ وجل على علي النساء ما دامت فاطمة حيَّة (في قيد الحياة) قلت: وكيف؟ قال: لأنّها طاهرة لا تحيض.

قال شيخنا المجلسي: هذا التعليل يحتمل وجهين:

الأول: أن يكون المراد أنّها لما كانت لا تحيض حتى يكون له عذر في مباشرة غيرها؛ فلذا حرَّم الله عليه غيرها رعاية لحرمتها.

الثاني: أنّ جلالتها منعت من ذلك، وعبَّر عن ذلك ببعض ما يلزمه من الصفات التي اختصت بها.

أقول: ونزاهة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام عن هذه الدماء تُعتبر من مصاديق آية التطهير التي تُصرِّح بإذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيراً.

١٠٢

العَذْرَاء

لقد مرّ عليك أنّ من جملة أسمائها: العذراء أي أنّها كانت عذراء دائماً، وقد مرّت عليك أحاديث كثيرة تصرِّح بأنَّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام خُلقت من طعام الجنّة، وصرَّح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّها حوراء إنسيّة، وليس في هذا التعبير شيء من المجاز أو الغلوّ، بل هي الحقيقة والحق، ونجد إلى جانب تلك الأحاديث قوله تعالى:( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ) ومعنى ذلك أنَّ الحور العين أبكار دائماً، وفي مجمع البيان في تفسير الآية: لا يأتيهنّ أزواجهن إلاّ وجدوهنّ أبكاراً.

وهذا حديث يفسِّر الموضوع تفسيراً كاملاً، فقد سأل رجل من الإمام الصادقعليه‌السلام في ضمن مسائل - قال: فكيف تكون الحوراء في كل ما أتاها زوجها - عذراء؟ قال: لأنّها خُلقت من الطيب، لا يعتريها عاهة ولا تخالط جسمها آفة... ولا يدنسها حيض، فالرحم ملتزقة... إلى آخره(1) .

____________________

(1) البرهان في تفسير القرآن ج 4 / 281.

١٠٣

حَيَاتها وَنَشْأَتُهَا

لقد فتحت السيدة فاطمة الزهراء عينها في وجه الحياة، وفي وجه أبيها الرسول ترتضع من أمِّها السيدة خديجة اللبن المزيج بالفضائل والكمال.

وكانت تنمو في بيت الوحي نموًّا متزايداً، وتنبت في مهبط الرسالة نباتاً حسناً، يزقّها أبوها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله العلوم الإلهيّة، ويفيض عليها المعارف الربّانية، ويعلّمها أحسن دروس التوحيد، وأرقى علوم الإيمان وأجمل حقائق الإسلام.

ويربّيها أفضل تربية وأحسنها؛ إذ وجد الرسول في ابنته المثالية كامل الاستعداد لقبول العلوم ووعيها، ووجد في نفسها الشريفة الطيّبة كل الروحانية والنورانية، والتهيّؤ لصعود مدارج الكمال.

إلى جانب هذا شاءت الحكمة الإلهيّة للسيّدة فاطمة الزهراء أن تكون حياتها ممزوجة بالمكاره، مشفوعة بالآلام والمآسي منذ صغر سنّها، فإنّها فتحت عينها في وجه الحياة وإذا بها ترى أباها خائفاً، يحاربه الأقربون والأبعدون ويناوئه الكفّار والمشركون.

فربّما حضرت فاطمة في المسجد الحرام فرأت أباها جالساً في حِجر إسماعيلعليه‌السلام يتلو القرآن، وترى بعض المشركين يوصلون إليه أنواع الأذى، ويحاربونه محاربة نفسيّة.

وحضرت يوماً فنظرت إلى بعض المشركين وهو يُفرغ سلا الناقة(1)

____________________

(1) هو الكيس الذي يتكوّن فيه الجنين.

١٠٤

على ظهر أبيها الرسول وهو ساجد.

كانت الزهراء تشاهد ذلك المنظر المؤلم، وتمسح ذلك عن ظهر أبيها وثيابه وتوسعهم سبّاً وشتماً، وهم يضحكون من سبابها وشتائمها، شأن السفلة الأوباش.

وعن ابن عباس: إنّ قريشاً اجتمعوا في الحجر، فتعاقدوا باللات والعزّى ومناة: لو رأينا محمداً لقمنا مقام رجل واحد، ولنقتلنّه، فدخلت فاطمةعليها‌السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باكية، وحكت مقالهم... إلى آخر كلامه.

واشتدّت الأزمة وزادت المحنة حتى اضطرّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يختفي في شعب أبي طالب، ورافقته عائلته، وآل أبي طالب إلى ذلك المكان، وكانوا يعيشون في جوٍّ من الإرهاب والإرعاب. ففي كل ليلة يتوقّعون هجوم المشركين عليهم وخاصة بعد أن كتب المشركون الصحيفة القاطعة، وحاصروا بني هاشم حصاراً اقتصادياً فلا يَدَعونهم يبيعون ولا يشترون شيئاً حتى المواد الغذائية، بل ومنعوا إيصال الطعام إليهم، فاستولى الجوع عليهم، وأثَّر في الأطفال أكثر وأكثر، فلا عجب إذا كانت أصوات بكاء الأطفال تصل إلى مسامع أهل مكّة، فبين شامت بهم مسرور، وبين متألِّم حزين.

وطالت المدّة ثلاث سنين وشهوراً، وكانت السيدة فاطمة من الذين شملتهم هذه المأساة.

وهذه المآسي أيقظت في السيدة فاطمة روح الجهاد والاستقامة والمثابرة، وكأنّها كانت فترة التمرين والتدريب للمستقبل القريب.

وممّا كان يهوِّن الخطب، ويجبر خاطر السيّدة فاطمة الزهراء، ويقرّ عينها أنّها كانت ترى البطل الشهم أبا طالب يقف ذلك الموقف المشرِّف في نصرة أبيها الرسول؛ فكان تارة يحمل سيفه ويرافقه أخوه حمزة ويمشيان

١٠٥

خلف الرسول نحو المسجد الحرام ليعلن مؤازرته ومناصرته للرسول، وكأنّهما جنديان مسلّحان في حالة الإنذار، وربّما انضمّ إلى أبي طالب بعض عبيده ومواليه يمشون خلف الرسول وكأنّهم مفرزة عسكرية أو سَرِيّة جيش.

وتارة أخرى كان يصرّح بتجاوبه وانحيازه إلى الرسول، فكان يعلن إسلامه إظهاراً للحقيقة، فينظم القصائد التي كان لها أحسن أثر في ذلك اليوم في دعم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنها:

ما رواه الطبري بإسناده أنّ رؤساء قريش لما رأوا دفاع أبي طالب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعوا إليه، وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالاً وجوداً وشهامة: عمارة بن الوليد، ندفعه إليك وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرّق جماعتنا، وسفّه أحلامنا فنقتله!!

فقال أبو طالب: ما أنصفتموني! تعطوني ابنكم فأغذوه، وأعطيكم ابني فتقتلونه؟ بل، فليأت كل امرئ بولده فأقتله، وقال:

منعنا الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ كلمع البروق

أذود وأحمي رسول المليك

حماية حامٍ عليه شفيق

وأقواله وأشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة لا تُحصى، فمن ذلك قوله:

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً

نبيّاً كموسى خطَّ في أوّل الكتبِ؟

أليس أبونا هاشم شدَّ أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالحربِ؟

وقوله من قصيدة:

وقالوا لأحمد: أنت امرؤ

خلوف اللسان ضعيف السبب

ألا إنّ أحمد قد جاءهم

بحقٍّ، ولم يأتهم بالكذب

وقوله في حديث الصحيفة، وهو من معجزات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

١٠٦

وقد كان أمر الصحيفة عبرة

متى ما يخبِّر غائب القوم يعجبِ

محا الله منها كفرهم وعقوقهم

وما نقموا من ناطق الحقّ معربِ

وأمسى ابن عبد الله فينا مصدِّقاً

على ساخطٍ من قومنا غير معتبِ

وقوله من قصيدة يخصّ أخاه حمزة على اتباع النبي والصبر في طاعته:

صبراً أبا يعلى على دين أحمدٍ

وكن مظهراً للدين وُفّقت صابرا

فقد سرني إذ قلت إنّك مؤمن

فكن لرسول الله في الله ناصرا

وقوله يحض النجاشي (ملك الحبشة) على نصر النبي:

تعلَّم(1) مليك الحبش أنّ محمداً

نبيٌّ كموسى والمسيح ابن مريمِ

أتى بهدىً مثل الذي أتيا به

وكلٌّ بأمر الله يهدي ويعصمِ

وإنّكمُ تتلونه في كتابكم

بصدق حديث، لا حديث المرجّمِ

فلا تجعلوا لله نداً، وأسلموا

وإنّ طريق الحق ليس بمظلمِ

وقال أيضاً:

لقد أكرم الله النبيَّ محمّداً

فأكرم خلق الله في الناس أحمد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود، وهذا محمد(2)

وقال أيضاً:

كذبتم وبيتِ الله نبزي محمّداً

ولما نطاعن دونه ونناضلِ

ونُسلمه حتى نُصرَّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائلِ

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأراملِ

يلوذ به الهلاّك من آل هاشم

فهم عنده في رحمةٍ وفواضلِ

____________________

(1) تعلَّم أي إعلم.

(2) وقد ضمنّ حسان بن ثابت هذا البيت في قصيدته في مدح الرسول.

١٠٧

ألم تعلموا أنّ ابننا لا مكذَّبٌ

لدينا، ولا نعبأ بقول الأباطلِ

فأيَّده ربُّ العباد بنصره

وأظهر ديناً حقّه غير باطلِ

أُقيمُ على نصر النبيّ محمّدٍ

أُقاتل عنه بالقنا والقنابلِ(1)

إلى غير ذلك من مواقفه وتصريحاته ومساندته للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ولولا إيمانه بالله واعتقاده بالإسلام لما وقف تلك المواقف، ولما غامَرَ بنفسه وبأولاده في سبيل نصرة النبي وتقوية دينه.

ولم يكن ذلك التفادي والمخاطرة بدافع القرابة، فلقد كان للرسول ثمانية أعمام (غير أبي طالب) فلماذا لم يسجِّل التاريخ لهم تلك المواقف المشرِّفة، بل سجّل التاريخ عن بعض أعمام النبي مواقف مخزية كمواقف عمِّه أبي لهب.

____________________

(1) القنابل: جمع قنبلة - الطائفة من الناس أو الخيل - وفي الاصطلاح الحديث هي القذيفة المحشوّة بمواد متفجّرة أو حارقة.

١٠٨

وَفَاةُ السيِّدَة خَديجَة الكُبْرى

كانت الأعوام تَمرّ، والسنوات تنقضي، وحياة الزهراء مشفوعة بالحوادث والمآسي، وقد بلغت السابعة من عمرها أو قاربت الثامنة وإذا بفاجعة تطلُّ على حياتها، وتخيِّم الهموم وتتراكم الأحزان على قلبها، وهي وفاة أُمّها السيدة خديجة، تلك الأُمّ البارَّة الحنون التي كانت تنظر إلى ابنتها الصغيرة فاطمة العزيزة نظرة حزن وتألّم وتأثّر؛ لأنّها تعلم أنّ الزهراء ستفجع بأُمّها العطوفة الرؤوفة.

كانت السيدة خديجة طريحة الفراش، وقد خيَّم عليها شبح الموت، فدخل عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تعالج سكرات الموت فقال لها: بالرغم منَّا ما نرى بك يا خديجة، فإذا قدمت على ضرائرك فاقرئيهنّ السلام! قالت: مَن هنَّ يا رسول الله؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : مريم بنت عمران، وكلثم أُخت موسى، وآسية امرأة فرعون. فقالت: بالرفاء يا رسول الله(1) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: أُمرت أن أُبشِّر خديجة ببيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب(2) .

قال ابن الأثير في (النهاية): القصب - في هذا الحديث -: لؤلؤ

____________________

(1) البحار ج 19 / 24 عن من لا يحضره الفقيه.

(2) مسند أحمد.

١٠٩

مجوَّف واسع كالقصر المنيف. والصخب: الضجّة واضطراب الأصوات للخصام.

كانت السيدة خديجة تتأوّه وتبكي فقالت لها أسماء بنت عميس: أتبكين وأنت سيّدة نساء العالمين؟ وأنت زوجة النبي؟ مبشَّرة على لسانه بالجنّة؟ فقالت: ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لا بدَّ لها من امرأة تفضي إليها بسرِّها وتستعين بها على حوائجها، وفاطمة حديثة عهد بصبا، وأخاف أن لا يكون لها مَن يتولّى أمرها حينئذ!

فقالت أسماء: يا سيّدتي لك عهد الله إن بقيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مقامك في هذا الأمر.. إلخ.

وفارقت السيدة خديجة الحياة، وعمرها ثلاث وستون سنة (على قول) فكانت وفاتها ضربة مؤلمة على قلب الرسول، وخاصةً وأنّ النبي قد فُجع بعمِّه أبي طالب بعد أيام أو شهور من وفاة السيدة خديجة فازداد حزناً، حتى سمَّى تلك السنة (عام الحزن)؛ لأنّه أُصيب بمصيبتين عظيمتين على قلبه البار:

مصيبة زوجته خديجة، لا لأنّها زوجته فقط، بل لأنّها أَول مَن صدَّقته بالنبوّة، ولأنّها كانت زوجة ومعاضدة ومساعدة ومحامية لزوجها، لأنّها وهبت الآلاف المؤلّفة من أموالها في سبيل الإسلام، ولأنّها كانت تحمل شخصية فريدة من نوعها في مكّة، بل في نساء العرب.

ودُفنت في الحَجون، فنزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبرها. وكانت السيدة فاطمةعليها‌السلام تلوذ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتدور حوله وتسأله: يا رسول الله أين أُمي؟ فجعل النبي لا يجيبها، وهي تدور على مَن تسأله، فهبط عليه جبرئيل فقال: إنّ ربّك

١١٠

يأمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها: أُمّك في بيت من قصب، كعابه من ذهب، وأعمدته من ياقوت أحمر، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران.

فقالت فاطمة: إنّ الله هو السلام ومنه السلام، وإليه يعود السلام.

والمصيبة الأخرى مصيبة عمِّه أبي طالب الذي كفل النبي من يوم وفاة جدّه عبد المطلب، وهو ابن ثمان سنوات، واستمرّت الكفالة حتى بلغ النبي من العمر ثلاثاً وخمسين سنة، وهي السنة التي مات فيها أبو طالب.

ولأبي طالب حقوق وخدمات ومواقف تجاه النبي طيلة هذه السنوات تعتبر في قمّة فضائله وفواضله، ولولاه لمات الدين الإسلامي وهو في المهد:

ولولا أبو طالبٍ وابنه

لَما مَثُل الدين شخصاً فقاما

فهذا بمكّة آوى وحام

وهذا بيثرب جسَّ الحِماما

ولله ذا فاتحاً للهدى

ولله ذا للمعالي ختاما

وكان لهاتين الفاجعتين أكبر الأثر في حياة الرسول وتغيير مجراها، لولا موت أبي طالب لما هاجر من مكّة؛ لأنَّه حينذاك شعر بفقدان الناصر والكفيل والمحامي ولم يكن في أعمامه مَن يقوم مقام أبي طالب حتى عمّه حمزة يومذاك.

وقد رثاه ابنه الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام بأبيات:

أبا طالبٍ عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظُّلَم

لقد هدَّ فقدك أهل الحفاظ

فصلَّى عليك ولي النعم

ولقَّاك ربّك رضوانه

فقد كنت للطهر من خير عم (1)

____________________

(1) كتاب الكنى والألقاب للقمّي.

١١١

فَاطِمَةُ الزّهْرَاءعليها‌السلام والهِجْرَة

ولمّا أُصيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوفاة السيدة خديجة وعمّه أبي طالب عزم على الهجرة من مكّة، وأمر عليّاً أن يبيت على فراشه تلك الليلة، وسُمّيت تلك الليلة: (ليلة المبيت) وهي الليلة التي اجتمع فيها حوالي أربعين أو أربعة عشر رجلاً من المشركين، وطوَّقوا بيت الرسول، وهم يريدون الهجوم على النبي ليقتلوه في بيته، فخرج النبي إلى الغار، وبقيت السيدة فاطمة في البيت، وهي تتوقّع هجوم الأعداء على دارها في كل ساعة وتستمع إلى هتافات الكفر والإلحاد ضد الرسول، ويعلم الله مدى الخوف والقلق المسيطر عليها طيلة تلك الليلة، وهي تعلم خشونة طباع المشركين وقساوة قلوبهم، فيكون أسوأ الاحتمالات عندها أقرب الاحتمالات.

وإلى أن أصبح الصباح من تلك الليلة، وهجم القوم في الدار شاهرين سيوفهم كأنّهم ذئاب ضارية أو كلاب مستسبعة تطلب فريستها، وقصدوا نحو فراش النبي فلم يجدوه بل وجودوا عليّاًعليه‌السلام راقداً في فراش النبي، ملتحفاً بردة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخابت ظنونهم، وخرجوا من الدار فاشلين، وكادوا أن يتفجَّروا حقداً وغيظاً وغضباً.

فكانت تلك الساعات من أحرج الساعات وأكثرها خوفاً وفزعاً على قلب السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

ويا ليت الأمر كان ينتهي هنا، ولكنّ أحقاد الكفر كانت كامنة في

١١٢

الصدور كأنّها جمرة تحت رماد.

ولمّا خرج أمير المؤمنينعليه‌السلام بالفواطم من مكّة وهُنَّ: فاطمة الزهراء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة بنت أسد (أُمّ أمير المؤمنين) وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، فلحقهم العدو، واعترضهم في أثناء الطريق للحيلولة دون الهجرة، وكان الموقف حرجاً، واستولى الرعب والفزع على قلوب الفواطم من الأعداء، وكادت أن تقع هناك كارثة أو كوارث لولا حفظ الله وعنايته، ثم بسالة الإمام علي وبطولته المشهورة، وكفاهم الله شرّ الأعداء، ونجا علي والفواطم بقدرة الله تعالى.

وصلت الفواطم إلى المدينة، وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد سبقهم إليها، وكان ينتظرهم، ولمّا وصلوا دخل النبي المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري، والتحقت به ابنته فاطمة الزهراء، ونزلت على أُمّ أبي أيوب الأنصاري.

كانت السيدة الزهراء تعيش تحت ظل والدها الرسول في المدينة بعد أن مرَّت بها عواصف شديدة وحوادث مؤلمة: من موت أُمّها خديجة، وهجرة أبيها الرسول من وطنه ومسقط رأْسه، وهجوم الأعداء على الدار، وهجرتها من مكّة إلى المدينة، ومطاردة الأعداء لها

فهل انتهت تلك الحوادث والمصائب؟

كلاّ، بل كانت تلك القضايا بداية مآسي أخرى، وكوارث متسلسلة متعاقبة، إذ ما مضت سنة واحدة على الهجرة وإذا بالمشركين يجتمعون في مكّة ويقصدون التوجّه إلى المدينة لمحاربة الرسول والمسلمين.

فنزل جبرئيل وأخبر النبي بالمؤامرة، فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمسلمين من أهل المدينة وبمَن التحق به من المهاجرين من أهل مكّة، خرج بهم ليستقبل العدو في أثناء الطريق قبل وصولهم المدينة، فوصلوا

١١٣

إلى منطقة بين المدينة ومكّة يُقال لها: (بدر).

وهناك التقوا بالمشركين، وكان عدد المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، ولكن كانت الغلبة والانتصار للمسلمين والهزيمة والاندحار للمشركين، فرجع النبي إلى المدينة مظفَّراً منصوراً.

١١٤

فَاطِمَةُ الزّهْرَاءُعليها‌السلام يَوْم أُحُد

وبعد سنة واحدة وشهر وقعت غزوة أُحد، وقُتل فيها من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبعون رجلاً كانوا هم الصفوة والزبدة من أصحابه، وفي طليعتهم عمّه سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وأُصيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحجر انكسرت منه جبهته الشريفة، وحجر أصاب فمه الطاهر وانكسرت منه ثناياه، وتخثَّر الدم على لحيته كأنّه حنّاء أو خضاب.

وفي تلك الآونة صاح إبليس صيحة سمعها المسلمون في أُحد، وسمعها أهل المدينة، صاح: (قُتل محمد).

اضطربت القلوب في جبهة القتال، وانهزم المنهزمون، وثبت المؤمنون حقّاً، ولم يكن اضطراب العوائل في المدينة بأقل من اضطراب المسلمين في ساحة القتال.

وقد خرجت صفية بنت عبد المطلب (عمّة النبي) وفاطمة الزهراء إلى أحد، فصاحت فاطمة، ووضعت يدها على رأسها، وخرجت تصرخ، وخرجت كل هاشمية وقرشية، واضعة يدها على رأسها.

وكان وصول فاطمة الزهراء وصفية إلى أُحد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أن قُتل مَن قُتِل، وجُرحَ مَن جُرح، وكان النبي يتفقّد القتلى ويبحث عن المفقودين من أصحابه.

وهو إذ ذاك قد وصل إلى مصرع حمزة، فوجده بحالة لا تُوصف،

١١٥

فقد مثّلوا به أقبح وأبشع مُثلة، فقد قطعوا أصابع يديه ورجليه، وجدعوا أنفه وأذنيه وشقّوا بطنه، وأخرجوا كبده، وقطعوا عورته، وتركوه بهذه الحالة.

كان هذا المنظر المشوَّه مؤلماً ومخدشاً لقلب الرسول، إذ هو نكاية وتنكيل من المشركين لعمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وناصره والمدافع عنه.

كان الحزن والغيظ قد أخذ من الرسول كل مأْخذ، فبينما هو كذلك وإذا به يرى عمَّته صفية وابنته فاطمة قد توجَّهتا نحو تلك المنطقة، فغطى الرسول جثمان حمزة بردائه، وستَرَه من القرن إلى القدم كي لا يُرى شيء من مواضع المثلة.

وأقبلت صفية وفاطمة تعدُوان، وجلستا عند مصرع حمزة، وشرعتا بالبكاء والنحيب، ورسول الله يساعدهما على البكاء، ويشاركهما في الأنين والنحيب، ثم نظرت فاطمة إلى جراحة جبهة الرسول، وإلى الدماء المتخثّرة على وجهه الطاهر ولحيته الشريفة، فصاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتدّ غضب الله على مَن أَدمى وجه رسول الله.

فغسلت الدماء عن وجه أبيها، وكان علي يصبّ الماء بالمجنّ(1) .

فلمّا رأت فاطمة أنَّ الماء لا يزيد الدم إلاَّ كثرة عمدت إلى قطعة حصيرة فأحرقتها، وجعلت رمادها ضماداً على جبهة أبيها، وألزمته الجرح، فاستمسك الدم.

أترى كيف انقضت تلك الساعات على قلب فاطمة؟ فقد تداخلها الحزن العظيم والخوف الشديد وهي البنت البارَّة بأبيها، العارفة بحقّه.

ولمّا رجع عليعليه‌السلام من أُحد ناولَ فاطمة سيفه، وقال:

____________________

(1) المجنّ: التُرس.

١١٦

خذي هذا السيف، فلقد صدقني اليوم، وأنشأ يقول:

أفاطم هاكِ السيف غير ذميمِ

فلستُ برعديدٍ، ولا بلئيمِ

لعمري لقد أعذرتُ في نصر أحمدٍ

وطاعة ربٍّ بالعباد عليمِ

أُريد ثواب الله لا شيء غيره

ورضوانه في جنّة ونعيمِ

وكنتُ امرأً يسمو إذ الحرب شمُّرت

وقامت على ساقٍ بغير مليمِ

أممت بن عبد الدار حتى جرحته

بذي رونقٍ يفري العظام صميمِ

فغادرته بالقاع فارفضَّ جمعه

عباديد ممّا قانط وكليمِ

وسيفي بكفّي كالشهاب أهزُّه

أحزُّ به من عاتقٍ وصميمِ

فما زلت حتى فضَّ ربي جموعهم

وأشفيت منهم صدر كل حليمِ

أَميطي دماء القوم عنه فإنّه

سقى آل عبد الدار كأْس حميمِ

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : خذيه يا فاطمة فقد أدَّى بعلك ما عليه، قتل الله صناديد قريش بيديه(1) .

لقد مرَّ عليك أنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام حضرت في أُحد، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ولمّا نظرت إلى جراحة أبيها غسلت الدماء بالماء، وأحرقت قطعة حصيرة وجعلت رمادها على جبهة أبيها الرسول.

هذه الواقعة كما ذكرها المؤرّخون، ولكن في زماننا - هذا - جاءت طائفة من الناس، واعتبروا هذه الواقعة ساحة لمسرحياتهم الشاذة، فكتبوا بكل إصرار وإلحاح وتكرار أنّ فاطمة كانت تحضر جبهات القتال وتضمِّد الجرحى، وتداويهم وتسعفهم!!!

أنا ما أدري ما يقصد هؤلاء الشواذ من اختلاق هذه الأكذوبة؟

إذا قامت سيّدة بتضميد جراحة أبيها فقط وفقط في العمر مرة واحدة بعد انتهاء القتال هل يقال عنها: إنّها كانت تحضر جبهات القتال وتضمِّد

١١٧

الجرحى وتداويهم؟؟

أنا ما أدري ما هدف هؤلاء من ترويج هذا الباطل وإشاعة هذا الافتراء؟

هل يريدون المسَّ بقدسيَّة السيدة فاطمة الزهراء ونزاهتها؟

أم يريدون فتح الطريق للاختلاط بين الجنسين؟

ولنفرض أنّ نسيبة بنت كعب حضرت يوم أُحد لتضميد الجرحى، فهل معنى ذلك أن نعتبر السيدة فاطمة الزهراء، وهي سيّدة نساء العالمين في العفاف والحياء والحشمة والنزاهة والعصمة، نعتبرها كالموظفات في المستشفيات والمستوصفات ومؤسَّسات الإسعاف الدولية؟؟

أنا ما أدري ولعلّهم يدرون ويعرفون ما يبرِّر لهم هذه الأكذوبة!.

١١٨

مَشَاكِلُ السيّدَة فَاطِمَة في دَارِ أبيها

ومن المشاكل التي عكَّرت - على السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام - حياتها أنّها ابتليت ببعض زوجات أبيها الرسول، من اللواتي قد تكوَّنت عندهنَّ عقدة نفسية، فكنَّ يحسدن السيدة فاطمة الزهراء على مواهبها وفضائلها، وخاصة وأنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغمر السيدة فاطمة بألطافه ويمطر عليها عواطفه، ويحبّها حبّاً عجيباً يهيِّج في قلوب بعض نسائه الحسد الكامن.

فقد روى شيخنا المجلسي (عليه الرحمة) في السادس من البحار، عن كتاب الخصال، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منزله، فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها، وهي تقول: والله يا بنت خديجة ما ترين إلا أنّ لأُمُّك علينا فضلاً، وأي فضل كان لها علينا؟ وما هي إلاَّ كبعضنا!!

فسمع النبي مقالتها لفاطمة، فلما رأت فاطمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بكت، فقال: ما يبكيك يا بنت محمد؟

قالت: ذكرت عائشة أُمّي فنقّصتها فبكيتُ.

فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال: مَه يا حميراء! فإنّ الله تبارك وتعالى باركَ في الودود الولود وإن خديجة (رحمها الله) ولدت منّي طاهراً (وهو عبد الله) وهو المطهّر، ووَلدت مني القاسم ورقية وأُمّ كلثوم وزينب، وأنت ممّن أعقم الله رَحِمها. فلم تلدي شيئاً (1) .

____________________

(1) الخصال للشيخ الصدوق.

١١٩

ولعائشة مواقف غير مشكورة تجاه السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تدل على جانب كبير من انحرافها العميق العريق المتواصل، بحيث لم يُعهد تلك المواقف المتطرّفة من بقيّة زوجات الرسول تجاه سيّدة العالمين.

فمنها: ما ستقرأه - عند البحث عن فدك - بأنّ عائشة شهدت عند أبيها أبي بكر أنّ الأنبياء لا يورِّثون؛ وذلك لكي تحرم السيدة فاطمةعليها‌السلام عن إرث أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومنها: لما بلغ عائشة خبرُ وفاة الزهراءعليها‌السلام تبسّمت!!

وسوف تقرأ أنّ السيدة فاطمة أوصت أسماء بنت عميس بعدم السماح لعائشة أن تحضر عند جنازتها ساعة الوفاة، وهذا يدلّ على سخطها على عائشة وعدم رضاها عنها، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها).

هذا... وفي هذا الحديث الأول تصريح بأنّ بنات السيدة خديجة الكبرى كلهنّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا من زوج آخر، وليس هذا الحديث هو الدليل الوحيد على ذلك بل توجد أدلَّة وبراهين قطعيّة على أنَّهن كنَّ بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حقيقة، ومن صلبه، إلاّ أنّ المجال - في هذا الكتاب - لا يسع للشرح والتفصيل أكثر من هذا، ولعلّنا نلتقي - إن شاء الله - بالقرّاء في غير هذا الكتاب حول هذا الموضوع، ونؤدّي بعض ما يتطلّبه البحث والتحقيق.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وبهر المأمون، وقال: ما أحسن هذا؟ من قاله: فقالعليه‌السلام : لبعض فتياننا، ثم قال المأمون: أنشدني: أحسن ما رويته في استجلاب العدو وحتى يكون صديقاً، فأنشده الإمام هذه الأبيات:

وذي غلّة سالمته فقهرته

فأوقرته منّي لعفو التحمّلِ

ومن لا يدافع سيئات عدوه

باحسانه لم يأخذ الطول من علِ

ولم أر في الأشياء أسرع مهلكاً

لغمر قديم من وداد معجل(١)

فقال المأمون:

- ما أحسن هذا مَن قاله؟

- قاله بعض فتياننا.

- أنشدني أحسن ما رويته في كتمان السر.

فأنشده:

وإنّي لأنسى السر كي لا أذيعه

فيا مَن رأى سرّاً يصان بأن ينسى

مخافة أن يجري ببالي ذكره

فينبذه قلبي إلى ملتوى الحشا

فيوشك من لم يفش سرّاً وجال في

خواطره أن لا يطيق له حبسا(٢)

وراح المأمون يبدي اعجابه بما حفظه الإمامعليه‌السلام من روائع الشعر

رسالة الإمام إلى ولده الجواد:

وأرسل الإمام الرضاعليه‌السلام من (خراسان) إلى ولده الإمام الجواد هذه الرسالة وقد جاء فيها بعد البسملة:

(فدتك نفسي بلغني أنّ الموالي إذا ركبت أخرجوك من باب البستان الصغير،

وإنّما ذاك من بخل بهم لئلا ينال أحد منك خيرا، فأسألك بحقي عليك، لا يكن

مدخلك ومخرجك إلاّ من الباب الكبير، وإذا ركبت إن شاء الله فليكن معك ذهب وفضة لا يسألك أحد شيئاً إلاّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً، والكثير إليك، ومَن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقل من خمسين ديناراً، والكثير إليك، ومَن سألك من قريش فلا تعطه أقل من خمسة

____________________

(١) الغمر: الحقد.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٧٤ - ١٧٥.

٣٢١

وعشرين ديناراً، والكثير إليك، إنّي إنّما أريد أن يوفقك الله، فاتق الله، واعط ولا تخف من ذي العرش إقتارا...)(١) .

أرأيتم هذه النفس الملائكية التي طبعت على البر والمعروف والإحسان إلى الناس... لقد كان الكرم عنصراً من عناصر الإمام ومقوماً من مقوّماته، فقد حثّ ولده الجواد على صلة أرحامه، والبرّ بالبؤساء.

لقد حكت هذه الرسالة لوناً من ألوان التربية الرفيعة لأهل البيتعليهم‌السلام فقد كانوا يربون أبنائهم على الشرف والفضيلة، ويغرسون في نفوسهم مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، ليكونوا أمثلة للخير، وقدوة حسنة لهذه الأمّة.

كتاب الحباء والشرط:

نسب هذا الكتاب إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفل بالثناء على الفضل بن سهل، والإشادة بجهوده الجبارة في إقامة ملك المأمون، ودحر الناهضين له من أخيه الأمين وأبي السرايا وغيرهما، فقد بذل جميع طاقاته حتى قضى على تلك الثورات العارمة، وقد جزاه المأمون فمنحه الثراء العريض، ووهبه الأموال الطائلة، كما وهب مثل ذلك لأخيه الحسن بن سهل مجازاة لهما على عظيم إخلاصهما للمأمون، وها هو نص الكتاب بعد البسملة: (أمّا بعد: فالحمد لله البادئ الرفيع، القادر، القاهر، الرقيب على عباده المقيت على خلقه، الذي خضع كل شيء لملكه، وذل كل شيء لعزته واستسلم كل شيء لقدرته، وتواضع كل شيء لسلطانه، وعظمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصى عدده، فلا يؤوده كبير، ولا يعزب عنه صغير، الذي لا تدركه أبصار الناظرين، ولا تحيط به صفة الواصفين، له الخلق والأمر والمثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم.

والحمد لله الذي شرع للإسلام ديناً، ففضله، وعظمه، وشرفه، وكرمه، وجعله الدين القيم الذي لا يقبل غيره، والصراط المستقيم الذي لا يضل من لزمه، ولا يهتدي من صرف عنه، وجعل فيه النور والبرهان، والشفاء والبيان، وبعث به من

____________________

(١) الدر النظيم ورقة ٢١٥ - ٢١٦.

٣٢٢

اصطفى من ملائكته إلى من اجتبى من رسله في الأمم الخالية، والقرون الماضية حتى انتهت رسالته إلى محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) فختم به النبيين وقفّى به على آثار المرسلين، وبعثه رحمة للعالمين، وبشيراً للمؤمنين المصدقين، ونذيراً للكافرين المكذّبين لتكون له الحجّة البالغة، وليهلك من هلك عن بينة، وان الله لسميع عليم.

والحمد لله الذي أورث أهل بيته مواريث النبوّة واستودعهم العلم والحكمة، وجعلهم معدن الإمامة والخلافة، وأوجب ولايتهم، وشرف منزلتهم، فأمر رسوله أمّته بمسألة مودّتهم إذ يقول:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) (١) وما وصفهم به من إذهاب الرجس عنهم، وتطهيره إيّاهم في قوله:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) .

ثم أن المأمون بر برسول الله (صلى الله عليه وآله) في عترته، ووصل أرحام أهل بيته، فردّ ألفتهم، وجمع فرقتهم، ورأب صدعهم، ورتق فتقهم، وأذهب الله به الضغائن والإحن بينهم، وأسكن التناصر، والتواصل والمودة والمحبة قلوبهم، فأصبحت بيمنه وحفظه وبركته وبرّه وصلته أيديهم واحدة، وكلمتهم جامعة، وأهواؤهم متفقة، ورعى الحقوق لأهلها، ووضع المواريث مواضعها، وكافأ إحسان المحسنين، وحفظ بلاء المبتلين، وقرّب وباعد على الدين، ثم اختص بالتفضيل، والتقديم والتشريف من قدمته مساعيه، فكان ذلك ذا الرياستين الفضل بن سهل، إذ رآه له مؤازرا، وبحقه قائماً، وبحجّته ناطقاً، ولنقبائه نقيباً، ولخيوله قائداً، ولحروبه مدبّراً ولرعيّته سائساً، وإليه داعياً، ولـمَن أجاب إلى طاعته مكافياً، ولـمَن عدل عنها منابذاً، وبنصرته متفرداً، ولمرض القلوب والنيات مداوياً، لم ينهه عن ذلك قلة مال ولا عواز رجال ولم يمل به الطمع، ولم يلفته عن نيته وبصيرته وجل، بل عندما يهول المهولون، ويرعد ويبرق له المبرقون والمرعدون وكثرة المخالفين والمعاندين، من المجاهدين والمخاتلين أثبت ما يكون عزيمة، وأجرأ جناناً، وأنفذ مكيدة، وأحسن

____________________

(١) سورة الشورى: آية ٢٠ قال العلامة: روى الجمهور في الصحيحين وأحمد بن حنبل في مسنده والثعلبي في تفسيره عن ابن عباس رحمه الله قال: لما نزلت:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين أوجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما.

(٢) سورة الأحزاب: آية ٣٣، قال العلاّمة: أجمع المفسّرون وروى الجمهور كأحمد بن حنبل وغيره أنّها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام .

٣٢٣

تدبيراً، وأقوى في تثبيت حق المأمون، والدعاء إليه حتى غصم أنياب الضلالة، وفلّ حدهم، وقلم أظفارهم، وحصد شوكتهم، وصرعهم مصارع الملحدين في دينهم، والناكثين لعهده، الوانين في أمره، والمستخفّين بحقّه الآمنين لما حذر من سطوته وبأسه مع آثار ذي الرياستين في صنوف الأمم من المشركين، وما زاد الله به في حدود دار المسلمين، ممّا قد وردت أنباؤه عليكم، وقرئت به الكتب على منابركم، وحملة أهل لآفاق إليكم إلى غيركم فانتهى شكر ذي الرياستين بلاء أمير المؤمنين عنده، وقيامه بحقه، وابتذاله مهجته، ومهجة أخيه أبي محمد الحسن بن سهل الميمون النقيبة، المحمود السياسة إلى غاية تجاوز بها الماضيين، وفاز بها الفائزون.

وانتهت مكافأة أمير المؤمنين إياه إلى ما حصل له من الأموال والقطايع، والجواهر، وإن كان ذلك لا يفي بيوم من أيامه، ولا بمقام من مقاماته، فتركه زهداً فيه، وارتفاعاً من همته عنه، وتوفيراً له على المسلمين، واطراحاً للدنيا، واستصغاراً لها، وإيثاراً للآخرة ومنافسة فيها.

وسأل أمير المؤمنين ما لم يزل له سائلاً، وإليه فيه راغباً من التخلّي والتزاهد، فعظم ذلك عنده وعندنا، لمعرفتنا بما جعل الله عزّ وجل في مكانه الذي هو به من العز للدين والسلطان، والقوة على صلاح المسلمين، وجهاد المشركين، وما أرى الله به من تصديق نيته، ويمن نقيبته، وصحة تدبيره، وقوّة رأيه، ونجح طلبته، ومعاونيه على الحق والهدى، والبر والتقوى، فلمّا وثق أمير المؤمنين وثقنا منه، بالنظر للدين، وإيثار ما فيه صلاحه، وأعطيناه سؤاله الذي يشبه قدره، وكتبنا له كتاب حباء وشرط، قد نسخ في أسفل كتابي هذا، وأشهدنا الله عليه، ومن حضرنا من أهل بيتنا والقواد، والصحابة، والقضاة والفقهاء والخاصة والعامة.

وأمر أمير المؤمنين بالكتاب إلى الآفاق ليذيع، ويشيع في أهلها ويقرأ على منابرها، ويثبت عند ولاتها وقضاتها، فسألني أن أكتب بذلك، وأشرح معانيه وهي على ثلاثة أبواب:

ففي الباب الأول:

البيان عن كل آثاره التي أوجب الله بها حقّه علينا، وعلى المسلمين.

الباب الثاني:

البيان عن مرتبته في إزاحة علته في كل ما دبر، ودخل فيه ولا سبيل عليه، فيما

٣٢٤

ترك وكره؛ وذلك لما ليس لخلق ممن في عنقه بيعة إلا له وحده ولأخيه، ومن إزاحة العلّة تحكيمها في كل من بغى عليهما وسعى بفساد علينا وعليهما وعلى أوليائنا لئلاّ يطمع طامع في خلاف عليهما، ولا معصية لها، ولا احتيال في مدخل بيننا وبينهما.

الباب الثالث:

البيان عن عطائنا إيّاه ما أحب من ملك التخلي وحلية الزهد، وحجّة التحقيق لما سعى فيه من ثواب الآخرة بما يتقرر في قلب مَن كان شاكاً في ذلك منه، وما يلزمنا له من الكرامة والعز والحباء الذي بذلناه له ولأخيه في منعهما ما نمنع منه أنفسنا؛ وذلك محيط بكل ما يحتاط فيه محتاط في أمر دين ودنيا...).

وانتهت هذه الكلمة، وقد أشادت بالجهود الجبارة التي بذلها الفضل بن سهل في توطيد حكومة المأمون، وإقامة دولته، كما أشادته بنزاهته، ورفضه للجوائز والهبات الكثيرة، وطلبه للتقاعد، وقد رفض ذلك، وكانت هذه الكلمة مقدمة لكتاب الحباء والشرط، وهذا نصه بعد البسملة:

(هذا كتاب حباء وشرط من عبد الله المأمون أمير المؤمنين وولي عهده علي بن موسى الرضا لذي الرياستين الفضل بن سهل في يوم الاثنين لسبع ليال خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وهو اليوم الذي تمم الله فيه دولة أمير المؤمنين، وعقد لولي عهده، والبس الناس اللباس الأخضر، وبلغ أمله في إصلاح وليه، والظفر بعدوه، إنّا دعوناك إلى ما فيه بعض مكافأتك، على ما قمت به من حق الله، تبارك وتعالى، وحق رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحق أمير المؤمنين، وولي عهده على بن موسى، وحق هاشم التي بها يرجى صلاح الدين، وسلامة ذات البين بين المسلمين، إلى أن يثبت النعمة علينا وعلى العامة بذلك، وبما عاونت عليه أمير المؤمنين من إقامة الدين والسنة، وإظهار الدعوة الثانية وإيثار الأولى، مع قمع المشركين، وكسر الأصنام، وقتل العتاة وساير آثارك الممثلة للأمصار في المخلوع - وهو الأمين - وقابل، وفي المسمّى بـ‍ (الأصفر) المكنّى بأبي السرايا، وفي المسمّى بالمهدي محمد بن جعفر الطالبين، والترك الحوليه، وفي طبرستان وملوكها إلى بندار هرمز بن شروين، وفي الديلم وملكها (مهورس) وفي كابل وملكها هرموس ثم ملكها الأصفهيد، وفي ابن البرم، وحبال بدار بنده، وعرشستان، والغور وأصنافها، وفي خراسان وبلون صاحب جبل التبت، وفي كيمان والتغرغر، وفي أرمينية والحجاز،

٣٢٥

وصاحب السرير، وصاحب الخزر وفي المغرب وحروبه، وتفسير ذلك في ديوان السيرة.

وكان ما دعواك إليه وهو معونة لك الف ألف درهم، وغلّة عشرة ألف ألف درهم جوهر أسواماً أقطعك أمير المؤمنين قبل ذلك، وقيمة مائة ألف ألف درهم جوهراً يسيراً عندنا ما أنت له مستحق فقد تركت مثل ذلك حين بذله لك المخلوع، وآثرت الله ودينه، وإنّك شكرت أمير المؤمنين وولي عهده، وآثرت توفير ذلك كلّه على المسلمين، وجدت لهم به.

وسألتنا أن نبلّغك الخصلة التي لم تزل لها تائقاً من الزهد والتخلّي ليصح عند مَن شك في سعيك للآخرة دون الدنيا وتركك الدنيا، وما عن مثلك يستغني في حال، ولا مثلك رد عن طلبه، ولو أخرجتنا طلبتك عن شطر النعيم علينا فكيف نأمر؟ رفعت فيه المؤنة، وأوجبت به الحجّة، على مَن كان يزعم أنّ دعاك إلينا للدنيا لا للآخرة، وقد أجبناك إلى ما سألت به، وجعلنا ذلك لك مؤكّداً بعهد الله وميثاقه اللذين لا تبديل لهما، ولا تغيير، وفوّضنا الأمر في وقت ذلك إليك، فما أقمت فعزيز مزاح العلّة، مدفوع عنك الدخول فيما تكرهه، من الأعمال، كائناً ما كان، نمنعك ممّا نمنع به أنفسنا في الحالات كلها، وإذا أردت التخلي فمكرم، مزاح البدن، وحق لبدنك بالراحة والكرامة ثم نعطيك مما تتناوله، ممّا بذلناه لك في هذا الكتاب، فتركته اليوم.

وجعلنا للحسن بن سهل مثل ما جعلناه لك، فنصف ما بذلناه من العطية، وأهل ذلك هو لك، وبما بذل من نفسه في جهاد العتاة، وفتح العراق مرتين، وتفريق جموع الشيطان بيده حتى قوى الدين، وخاض نيران الحروب، ووقانا عذاب السموم بنفسه وأهل بيته، ومن ساس من أولياء الحق، وأشهدنا الله وملائكته وخيار خلقه، وكل من أعطانا بيعته، وصفقة يمينه في هذا اليوم وبعده على ما في هذا الكتاب، وجعلنا الله علينا كفيلاً، وأوجبنا على أنفسنا الوفاء بما اشترطنا من غير استثناء بشيء ينقصه في سر ولا علانية، والمؤمنون عند شروطهم، والعهد فرض مسؤول، وأولى الناس بالوفاء مَن طلب من الناس الوفاء، وكان موضعا للقدرة، قال الله تعالى:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاّ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) (١) .

____________________

(١) سورة النحل: آية ٩١.

٣٢٦

وانتهت هذه الوثيقة التي عرفت بوثيقة الحباء والشرط وقد وقع عليها المأمون، والإمام الرضاعليه‌السلام .

توقيع المأمون:

وقد جاء فيه بعد البسملة: (قد أوجب أمير المؤمنين على نفسه جميع ما في هذا الكتاب، وأشهد الله تعالى، وجعله عليه داعياً وكفيلاً) وكتب بخطّه في صفر سنة (٢٠٢) تشريفاً للحباء، وتوكيداً للشروط.

توقيع الإمام الرضا:

وجاء في توقيع الإمامعليه‌السلام بعد البسملة (قد ألزم علي بن موسى الرضا نفسه بجميع ما في هذا الكتاب، على ما أكّد فيه، في يومه وغده ما دام حيّاً، وجعل الله تعالى عليه داعياً وكفيلاً، وكفى بالله شهيداً).

وكتب بخطّه في هذا الشهر - أي صفر - وفي هذه السنة - أي سنة (٢٠٢ ه‍) والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله وسلّم، وحسبنا الله، ونعم الوكيل(١) .

وانتهت هذه الوثيقة، وقد حكت صوراً رهيبة من لاضطراب السياسي الذي مُنيت به البلاد الإسلامية، فقد انتشرت فيها الثورات الشعبية، وعمّت فيها الفتن، وهذا ممّا يؤكّد بعض المصادر من أنّ عصر المأمون كان عصر فتن، واضطراب وقد أخمد هذه الثورات، واستأصل جذورها الفضل بن سهل، فقد كان خبيراً، ومضطلعاً بإخماد الثورات وقد أريقت أنهار من الدماء، وانتشر الحزن والحداد في معظم الأقطار الإسلامية، ومن الطبيعي أنّ تلك الثورات كانت ناجمة عن الظلم والجور، السائدين في ذلك العصر، فقد ساس العباسيون العالم الإسلامي سياسة قائمة لا بصيص فيها من نور العدل والحق.

وعلى أيّ حال فإنّ هذه الوثيقة بقسيمتها لم تكن من إنشاء الإمام الرضاعليه‌السلام ، وإنّما كانت من إنشاء الجهاز الحاكم وأعوانه، ونسبت إلى الإمام الرضا، لتكسب الجهة الشرعية، وتكون غير قابلة للنقض ويدعم ذلك ما يلي:

أوّلاً: إنّ هذه الوثيقة قد منحت الملايين من الأموال إلى الفضل بن سهل، ووهبته

____________________

عيون أخبار الرضا ٢/١٥٤ - ١٥٩.

٣٢٧

الثراء العريض جزاءً لخدماته للمأمون وقمعه للثورات المعادية له، ومن الطبيعي أنّ تلك الأموال انما هي من الخزينة المركزية التي هي ملك لجميع المسلمين، ومما لا شبهة فيه أنه لا يجوز التفريط بأقل القليل من أموال المسلمين ولا يجوز أن تعطى مكافأة أو غير ذلك إلى أي شخص، وانما يجب انفاقها على صالح المسلمين وتطوير حياتهم، وانعاشهم ونشر الرخاء عليهم، فكيف جاز للامام ان يجيز ذلك ويقر منح هذه الأموال للفضل.

ثانياً: إنّ هذه الوثيقة قد حوت آيات من المدح والثناء على المأمون والفضل بن سهل، والطعن في ثورة أبي السرايا وثورة جعفر بن محمد الطالبين، وكل ذلك ليس من خلق الإمام الرضاعليه‌السلام ، فهو لا يمدح أحداً حتى يكون جديرا بالمدح والثناء، ولا يذم كذلك أحداً حتى يكون جديراً بالذم والتوهين، كانت هذه سيرته ومنهجه، فكيف يمنح المأمون هذا الثناء، وكيف يمدح هذا الفضل بهذا المدح؟ مع العلم أنّه سلام الله عليه كان يكن في أعماق نفسه ودخائل ذاته الكراهية والبغضاء لهما؛ وذلك لعلمه بما انطوت عليه نفوسهما من الشر، والحقد عليه، وإنّما قام المأمون بتكريم الإمام ومنحه ولاية العهد لمناورة سياسية لم تكن خافية عليه.

ثالثاً: إنّ هذه الوثيقة تتنافى مع ما اشترطه الإمامعليه‌السلام على المأمون في قبوله لولاية العهد أن لا يتدخّل في أي أمر من أمور الدولة، ويكون بمعزل عن جميع الأحداث السياسية، فكيف يتدخّل في أمر الفضل، ويجازيه على إخلاصه للمأمون، وعلى سعيه في إخماد الثورات الملتهبة التي اندلعت ضد المأمون؟!!.

هذه بعض المؤاخذات التي تواجه نسبة هذه الوثيقة للإمام الرضاعليه‌السلام .

مع أخيه زيد:

وانضم زيد إلى الثورة التي أعلنها أبو السرايا داعية محمد بن إبراهيم الحسني، وقد قلّد زيدا ولاية (الأهواز)، فسار إليها ليتولّى مهام منصبه، فاجتاز على (البصرة)، وكانت خاضعة للحكم العباسي فأحرق دور بني العباس، ومن أجل ذلك لقب بزيد النار، ولـمّا فشلت ثورة أبي السرايا، واستتر زيد فطلبه الحسن بن سهل فظفر به، فحبسه، ولم يزل في الحبس حتى ظفر إبراهيم شيخ المغنّيين المعروف بابن شكلة،

فهجم البغداديون على السجن، وأخرجوا زيداً من السجن، ومضى إلى يثرب، ودعا

٣٢٨

لبيعة محمد بن جعفر فبعث المأمون جيشاً فقضى على الثورة، وأسر زيد وجيء به مخفوراً إلى المأمون فقال له:

(يا زيد خرجت بالبصرة، وتركت أن تبدأ بدور أعدائنا من أمية وثقيف، وغنى، وباهلة، وآل زياد، وقصدت دور بني عمّك - يعني بني العباس -).

فقال له زيد بمرح:

(يا أمير المؤمنين أخطأت من كل جهة، وإن عدت للخروج بدأت بأعدائنا).

وضحك المأمون، وبعثه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام وقال له: وقد وهبت لك جرمه فأحسن أدبه(١) ، ولـمّا مثل أمام الإمامعليه‌السلام قال له:

ويلك يا زيد، فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت، وتزعم أنّك ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله لأشد الناس عليك رسول الله (ص) يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله أن يعطي به...).

ولـمّا انتهى كلام الإمام إلى المأمون بكى، وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله (ص)(٢).

مع أخته فاطمة:

وكتب الإمام الرضاعليه‌السلام وهو في (خراسان) إلى السيدة الزكية فاطمة المعروفة بالسيدة معصومة أن تلحق به، فقد كانت أثيرة عنده، عزيزة عليه، ولـمّا انتهى الكتاب إليها تجهّزت وسافرت إليه(٣) ولـمّا وصلت إلى (ساوه) مرضت فسألت عن المسافة بينها وبين (قم) فقيل لها: عشرة

فراسخ فأمرت بحملها إلى (قم)، فحملت إليها، ونزلت في بيت موسى بن خزرج بزمام ناقتها، وأقدمها إلى داره فبقيت عنده سبعة عشر يوماً ثم انتقلت إلى حظيرة القدس، فقام موسى بتجهيزها، ودفنها في أرض كانت له، وبنى على مرقدها الطاهر

____________________

(١) تنقيح المقال ١ / ٤٧١.

(٢) مرآة الجنان ٢ / ١٣.

(٣) جوهرة الكلام (ص ١٤٦).

٣٢٩

سقيفة من البواري إلى أن بنت عليها السيدة زينب بنت محمد بن علي الجواد قبّة(١) ، وأصبح مرقدها الطاهر من أعزّ أمكنة العبادة، والمراقد المطهّرة في الإسلام، كما أصبحت تلك المدينة المقدّسة جامعة من جوامع العلم، ومركزاً من مراكز الثقافة في الإسلام.

ويقول الحسن بن محمد القمّي: كنت عند الإمام الصادقعليه‌السلام فقال: (إنّ لله حرماً وهو مكّة، ولرسوله (ص) حرماً وهو المدينة، ولأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ولنا حرماً وهو (قم)، وستدفن فيه امرأة من ولدي تسمّى فاطمة، مَن زارها وجبت له الجنة)(٢) وقد أعلن الإمام الصادقعليه‌السلام ذلك قبل ولادتها.

صلاة العيد:

وطلب المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام أن يصلّي بالناس صلاة العيد، ويخطب بعد الصلاة، لتطمئن بذلك قلوب العامة، ويعرفوا فضله، فامتنع الإمام من إجابته، وقال له: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط، وهي عدم تدخّله في أي أمر من الأمور، فقال المأمون: إنّما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند، والشاكرية، هذا الأمر فتطمئن قلوبهم، ويقرّوا لما فضّلك الله به، وأصرّ المأمون عليه، فاضطرّ إلى إجابته، ولكنّه شرط عليه أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجدّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال له المأمون: اخرج كيف شئت، وأوعز المأمون إلى القوات المسلحة، والى سائر الناس باستقبال الإمام الرضاعليه‌السلام ، وخرجت الجماهير تنتظر خروج الإمام، وقد غصّت بهم الطرقات وأشرفوا من أعلى منازلهم، ولـمّا طلعت الشمس قام الإمام فاغتسل، ولبس عمامة بيضاء وألقى طرفاً منها على صدره الشريف، وطرفاً بين كتفه، وأمر مواليه أن يصنعوا مثل صنعه، ثم أخذ بيده عكّازة، وخرج بتلك الحالة التي تعنو لها الجباه، ورفع رأسه الشريف إلى السماء فكبّر أربع تكبيرات، وقد تهيأ الجيش، وتزين بأحسن زينة، ثم وقف على الباب فكبر أربعاً وقال: (الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام الحمد لله على ما أبلانا...).

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٣٩.

(٢) تحفة العالم (ص ٣٦) البحار.

٣٣٠

وضجّت الأرض بالتكبير، وماج الناس، وعلت أصواتهم بالتكبير وتذكّروا في صورة الإمامعليه‌السلام صورة جدّه الرسول (ص) الذي طوّر الحياة الفكرية في الأرض، وتبيّن لهم زيغ أولئك الملوك الذين حكموهم بالظلم والجور.

وكان الإمام العظيم سلام الله عليه يمشي على قدميه، ويقف في كل عشر خطوات، ويكبّر الله تعالى أربع مرات، وتخيّل الناس أنّ السماء والأرض، والحيطان تجاوبه، وصارت (مرو) ضجّة واحدة، وبلغ المأمون ذلك فارتاع، وفزع، وانبرى إليه الفضل بن سهل فقال له:

(يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع...).

وبعث المأمون بعض جلاوزته إلى الإمام فسأله الرجوع، فدعاعليه‌السلام بخفّه فلبسه ورجع من دون أن يصلّي بالناس(١) ، وقد أظهرت هذه البادرة روحانية الإمام، وزهده في الدنيا، ورفضه لمباهج الملك والسلطان، ويصف البحتري خروج الإمامعليه‌السلام إلى الصلاة بهذه الكيفية بقوله:

ذكروا بطلعتك النبي فهلّلوا

لـمّا طلعت من الصفوف وكبّروا

حتى انتهيت إلى المصلّى لابساً

نور الهدى يبدو عليك فيظهرُ

ومشيت مشية خاضعٍ متواضعٍ

لله لا يزهو ولا يتكبّرُ

ولو انّ مشتاقاً تكلّف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبرُ(٢)

ويقول الرواة: إنّ خروج الإمام إلى الصلاة بهذه الكيفية كانت من أهم العوامل التي أدّت إلى حقد المأمون على الإمام، وإقدامه على اغتياله.

استسقاء الإمام:

وحُبس المطر عن الناس، فعزى ذلك بعض الحاقدين على الإمامعليه‌السلام ذلك إلى تولّيه ولاية العهد، وأخذوا يذيعون ذلك وينشرونه في الأوساط الشعبية للطعن بشخصية الإمامعليه‌السلام وبلغ المأمون ذلك، فثقل

____________________

(١) أصول الكافي ١ / ١٨٩ - ١٩٠ عيون أخبار الرضا ٢ / ١٥٠ - ١٥١، المناقب ٤ / ٣٧١ - ٣٧٢، كشف الغمّة.

(٢) المناقب ٤ / ٣٧٢.

٣٣١

عليه، وعرض ذلك على الإمام وطلب منه أن يدعو الله تعالى لينزل المطر على الناس، فأجابه الإمام: إنّي أفعل ذلك يوم الاثنين، فقال له المأمون: ولم ذلك، فقالعليه‌السلام :

(إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتاني البارحة، ومعه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وقال: يا بني انتظر بوم الاثنين، فابرز إلى الصحراء واستسق، فإنّ الله تعالى سيسقيهم، وأخبرهم بما يريك الله ممّا لا يعلمون من حالهم ليزدادوا علماً بفضلك ومكانك من ربّك عزّ وجل...).

وانتظر المأمون، وباقي حاشيته الاثنين، وقد أوعز إلى جميع الأوساط الشعبية بالخروج إلى الصحراء يوم الاثنين، ولـمّا حلّ هذا اليوم هرعت الناس إلى الصحراء، وخرج الإمامعليه‌السلام وعليه هيبة الأنبياء فلمّا انتهى إلى الصحراء نصب له منبر وقد حفّت به الجماهير، وقد علت أصواتهم بالتهليل والتكبير.

دعاء الإمام:

واعتلى الإمام المنبر فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: (اللّهمّ يا رب أنت عظمت حقّنا أهل البيت، فتوسّلوا بنا كما أمرت، وأملوا فضلك، ورحمتك، وتوقّعوا إحسانك، ونعمتك، فاسقهم سقياً نافعاً، عامّاً، غير رايث(١) ولا ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارهم...

وأضاف الإمام قائلاً:

(فوالذي بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحق نبياً، لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم، وأرعدت وأبرقت...).

ولـمّا سمعت الجماهير كلام الإمام أرادت الرجوع إلى أهلها لئلاّ يصيبهم المطر، فقالعليه‌السلام : ليست هذه السحابة التي أطلّت عليكم لكم، وإنّما هي لبلد وسمّاه لهم.

وهكذا أطلّت على الجماهير عشر سحب متوالية، ويخبر الإمام عن كل سحابة أنّها تهطل في بلد وسمّاه، وأطلّت السحابة الحادية عشر، فقالعليه‌السلام :

____________________

(١) غير رايث: أي غير بطئ.

٣٣٢

(أيّها الناس: هذه سحابة بعثها الله عزّ وجل لكم، فاشكروا الله على تفضّله عليكم، وقوموا إلى مقاركم، ومنازلكم، فإنّها مساقة لكم، ولرؤوسكم ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا إلى مقاركم، ثم يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله...).

ثم نزل من على المنبر، وسارعت الجماهير إلى بيوتها، فلمّا انتهت إليها هطلت السحابة بوابل من المطر لم يسبق له مثيل فملئت الأودية والحياض، والغدران، والفلوات.

وأيقن الناس بكرامة أهل البيت، وما لهم من المنزلة الوثيقة عند الله تعالى، وقالوا: هنيئاً لولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كرامات الله عزّ وجل لهم، وكانت هذه الكرامة من كرامات هذا الإمام العظيم.

خطاب الإمام:

وخطب الإمامعليه‌السلام في حفل كبير حاشد على أثر هذه الكرامة فقالعليه‌السلام :

(أيّها الناس: اتقوا الله في نعم الله عليكم، فلا تنفروها عنكم بمعاصيه بل استديموها بطاعته، وشكره على نعمه وأياديه، واعلموا أنّكم لا تشكرون الله تعالى بشيء بعد الإيمان بالله، وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أحب إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبر لهم إلى جنان ربّهم، فإنّ مَن فعل ذلك من خاصة الله تبارك وتعالى وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك قولاً ما ينبغي لقائل أن يزهد في فضل الله عليه فيه إن تأمّله وعمل عليه؟

قيل: يا رسول الله هلك فلان يعمل من الذنوب كيت، وكيت، فقال رسول الله: بل قد نجا، ولا يختم الله عمله إلاّ بالحسنى، وسيمحو الله عنه السيئات، ويبدلها حسنات، إنّه كان يمر مرة في طريق، عرض له مؤمن قد انكشفت عورته وهو لا يشعر فسترها عليه، ولم يخبره مخافة أن يخجل، ثم إنّ ذلك المؤمن عرفه في مهواه(١) فقال له: أجزل الله لك الثواب وأكرم لك المآب، ولا ناقشك في الحساب، فاستجاب الله له فيه، فهذا العبد لا يختم الله له إلاّ بخير بدعاء ذلك

____________________

(١) المهواة: المطمئن من الأرض ما بين جبلين.

٣٣٣

المؤمن، فاتصل قول رسول الله (ص) بهذا الرجل فتاب وأناب، وأقبل على طاعة الله عزّ وجل، فلم تأت سبعة أيام حتى أغير على سرح(١) المدينة، فوجّه رسول الله (ص) في أثرهم جماعة ذلك الرجل أحدهم فاستشهد...).

وانتهى خطاب الإمام، وقد حفل بالدعوة إلى تقوى الله تعالى والتعاون والتآلف بين المسلمين، واعتبر ذلك من أفضل الطاعات والقربات إلى الله تعالى.

عتاب وتحذير:

وتحدثت الأندية والمجالس عن استسقاء الإمامعليه‌السلام وهطول الأمطار الغزيرة بدعائه، وقد ورمت أنوف العباسيين وعملائهم، وتميّزوا غيظاً وغضباً فقد ظهر فضل العلويين، وما لهم من المنزلة العظيمة عند الله تعالى وقد اشتد وغد خبيث كالكلب نحو المأمون، وجعل يعاتبه، ويحذّره من عقده ولاية العهد للإمام وظهور هذه الكرامة له قائلاً:

(يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تكون تأريخ الخلفاء(٢) في إخراجك هذاالشرف العميم، والفخر العظيم من بيت ولد العباس إلى بيت ولد علي.

لقد أعنت على نفسك وأهلك، وجئت بهذا الساحر، ولد السحرة، وقد كان خاملاً فأظهرته، ومتضعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكرت به، ومستخفاً فنوّهت به، وقد ملا الدنيا مخرقة(٣) وتشوقاً بهذا المطر الوارد عند دعائه، وما أخوفني أن يخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي، بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره إلى إزالة نعمتك، والتواثب(٤) على مملكتك، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟...).

وحكى هذا منطق الجاهلية الرعناء التي حكمت على الرسول الأعظم أنّه ساحر، وذلك لظهور المعاجز والآيات على يده، وكذلك حكموا على حفيده بهذا

الحكم.... ولنستمع إلى جواب المأمون:

____________________

(١) السرح: المال السائم.

(٢) قوله: أن تكون تأريخ الخلفاء: كناية عن عظيم الواقعة وهي عقده بولاية العهد للإمام، وأنّها ستكون موضع تأريخ للناس، ويحتمل أن يكون المراد أنت آخر الخلفاء.

(٣) المخرقة: الشعبذة.

(٤) وفي نسخة البحار (الريث).

٣٣٤

(وقد كان هذا الرجل - يعني الإمام - مستتراً عنّا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، وليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به أنّه ليس ممّا ادعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه، والآن فإذ قد فعلناه، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه على ما أشرفنا فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوّره عند الرعايا بصورة مَن لا يستحق لهذا الأمر ثم ندبّر فيه بما يحسم عنّا مواد بلائه...)(١) .

لقد كشف المأمون الغطاء عن الدوافع التي دعته لعقد ولاية العهد للإمامعليه‌السلام وهي:

أولاً: إنّ الإمامعليه‌السلام كان يدعو الناس إلى نفسه سرّاً وبتقليده لولاية العهد يكون دعاؤه للمأمون، ويعترف بملكه وخلافته.

ثانياً: إنّه أراد أن يظهر للملأ أنّ الإمامعليه‌السلام لم يكن زاهداً في الحكم، ومبتغياً الدار الآخرة.

وقد اعترف أخيراً بالخطأ في ترشيحه لهذا المنصب، وانتدابه للقيام بالاستسقاء وغيره التي ظهرت روحانيته، وعظيم مكانته عند الله، ولكنّه سوف يبغي له الغوائل، ويكيده حتى يقضى عليه.

خشية المأمون من الإمام:

وخشي المأمون من الإمام، وفزع من التفاف الجماهير حوله، وخاف على ملكه من الزوال، فقد استبان للناس فضل الإمامعليه‌السلام وروحانيته، وأنّه هو القادر على أن يبسط العدل السياسي، والعدل الاجتماعي في ربوعهم، وأنّ بني العباس لا لايقة لهم لزعامة الأمة والتحكّم في سلطان المسلمين.

قرارات هامّة:

وأخذ المأمون يطيل التفكير، ويقلب الرأي على وجوهه مع مستشاريه للتخلّص من الإمام، فاتخذ من القرارات ما يلي:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٩ - ١٧٠.

٣٣٥

أولاً: عقد المؤتمرات العلمية التي تضم كبار علماء الدنيا لامتحان الإمام لعلّه يعجز عن الإجابة فيتخذ من ذلك وسيلة للطعن في شخصية الإمام، وإبطال مذهب التشيّع الذي ينص على أنّ الإمام لا بد أن يكون أعلم أهل عصره، كما أنه إذا عجز الإمام فإنّه يكون في فسحة من عزله عن ولاية العهد.

وقد فشلت هذه الخطة فشلاً ذريعاً، فقد حلّق الإمام، وارتفع صيته، وأقرّت جميع الوفود العلمية التي سألته بأنّه يملك طاقات هائلة من العلوم لا تحد، وأنّه فوق العلماء في مواهبه وعبقرياته، الأمر الذي أوجب أن يقر بإمامته طائفة من كبار العلماء الذين امتحنوه.

ثانياً: فرض الرقابة عليه، وإحاطته بقوى مكثّفة من الأمن تحصي عليه أنفاسه، وقد أسندت مديرية الرقابة التي تشرف عليه إلى هشام بن إبراهيم الراشدي الهمداني، وكان إبراهيم فيما يقول الرواة عالماً أديباً، وكانت أمور الإمام الرضاعليه‌السلام قبل أن يحمل إلى (خراسان) تجري من عنده وعلى يده، كما أنّ الأموال التي كانت ترسل إلى الإمام كانت تبعث على يده، ولـمّا حمل الإمام إلى (خراسان) اتصل إبراهيم بذي الرياستين فأغراه بالمنصب والأموال، فتغلب هواه على دينه فانحرف عن الحق،

فصار عيناً على الإمام فجعل ينقل جميع أخباره وشؤونه إلى الفضل والى المأمون، وقد أسند إليه المأمون حجابة الرضا، فكان لا يصل إليه إلاّ مَن أحب، وضيّق على الإمام غاية التضييق، وكان لا يتكلم بشيء قلّ أو كثر إلاّ أورده على المأمون وعلى وزيره الفضل(١) ؛ وبذلك فقد سيطر المأمون على جميع شؤون الإمام، وعرف جميع مَن يتصل به.

ثالثاً: طرد الشيعة من الحضور في مجالس الإمام والاستماع إلى حديثه، وقد عهد المأمون للقيام بذلك إلى حاجبه محمد بن عمرو الطوسي فطرد الشيعة، وزبرهم من الالتقاء بالإمامعليه‌السلام ، وقد قابل المأمون الإمام بشراسة فغضبعليه‌السلام ، وقام فصلّى ركعتين، وقال في قنوته:

(اللّهم يا ذا القدرة الجامعة والرحمة الواسعة، والمنن والمتتابعة والآلاء والمتوالية، والأيادي الجميلة، والمواهب الجزيلة، يا مَن لا يوصف بتمثيل، ولا يمثل بنظير، يا

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٥٣.

٣٣٦

مَن خلق فرزق، وألهم فأنطق وابتدع فشرع، وعلا فارتفع، وقدّر فأحسن، وصوّر فأتقن، وأجنح فأبلغ، وأنعم فأسبغ، وأعطى فأجزل، يا مَن سما في العز ففات خواطف الأبصار، ودنا في اللطف فجاز هواجس الأفكار.

يا مَن تفرّد بالملك فلا ندّ له في ملكوت سلطانه، وتوحّد بالكبرياء فلا ضدّ له في جبروت شأنه، يا مَن حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام، وحسرت دون إدراك عظمته خطايف أبصار الأنام، يا عالم خطرات قلوب العارفين وشاهد لحظات أبصار الناظرين، يا من عنت الوجوه لهيبته وخضعت الرقاب لجلالته، ووجلت القلوب من خيفته، وارتعدت الفرايض من فرقه، يا بدئ يا بديع، يا قوي يا منيع، يا علي، يا رفيع، صلّي على مَن شرفت الصلاة بالصلاة عليه، وانتقم لي ممّن ظلمني، واستخفّ بي، وطرد الشيعة عن بابي وأذاقه مرارة الذل والهوان كما أذاقنيها، واجعله طريد الأرجاس وشريد الأنجاس...)(١) .

واستجاب الله دعاء الإمامعليه‌السلام فقد ثارت الغوغاء على المأمون حتى كادت أن تقضى عليه ولاقى من الرعب والهوان ما لا يوصف.

وقام المأمون مرة أخرى بطرد الشيعة، وحاول النكاية بالإمام فلمّا علمعليه‌السلام بذلك قام فاغتسل وصلّى ركعتين ودعا في قنوته بهذا الدعاء:

(اللّهمّ أنت الله الحي، القيوم، الخالق، الرازق، المحي المميت، المبدئ، البديع، لك الكرم، ولك الحمد، ولك المن، ولك الأمر، وحدك لا شريك لك، يا واحد، يا أحد يا فرد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، صلِّ على محمد وآل محمد...).

ثم دعا الله بصرف ما أهمه، فكشف عنه كيد المأمون وبغيه(٢) .

عدم محاباة الإمام للمأمون:

ولم يجار الإمامعليه‌السلام المأمون، ولم يصانعه، وإنّما وقف منه موقفاً يتسم بالجد والصراحة، والنقد اللاذع لبعض أعماله وكان المأمون يتميز غيظاً، ويكتم ذلك، مجاراة للإمامعليه‌السلام وكان من بين مواقفه مع المأمون ما يلي:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٧٢ - ١٧٣.

(٢) هامش المصباح (ص ٢٩٣).

٣٣٧

١ - إنّ المأمون لما عرض الخلافة على الإمام، وقال له: (إنّي رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك، وأبايعك...).

وانظروا إلى صراحة الإمام في جوابه قالعليه‌السلام :

(إن كانت هذه الخلافة لك، والله جعلها لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك...)(١) .

أرأيتم هذا المنطق الفياض، والحجّة الدامغة الحافلة بالحق والصدق، وقد فقد المأمون إهابه، فلم يدر ماذا يقول فالتجأ إلى الصمت والسكوت.

٢ - ولـمّا امتنع الإمام عليه من قبول الخلافة عرض عليه المأمون ولاية العهد، فأجابه بهذا الجواب قائلاً:

(تريد بذلك - أي بتقليده لولاية العهد - أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد؟...).

والتاع المأمون، وورم أنفه، وصاح بالإمامعليه‌السلام قائلاً: (إنّك تتلقاني أبدا بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد، وإلاّ أجبرتك على ذلك، فان فعلت وإلا ضربت عنقك...)(٢) .

إنّ الإمامعليه‌السلام في جميع خطواته وأعماله قد آثر رضى الله تعالى، فلم يحاب أحداً، ولم يصانع مخلوقاً، ولو صانع المأمون وتقرّب إليه، وأرضى عواطفه لما قدم المأمون على اغتياله وقتله.

٣ - وكان من صراحة الإمامعليه‌السلام وعدم محاباته للمأمون أنّ المأمون قال له: (يا أبا الحسن إنّي فكرت في شيء، فنتج لي الفكر الصواب فيه، فكرت في أمرنا وأمركم، نسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولاً على الهوى والعصبية...).

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤٠.

٣٣٨

فقال له الإمام:

(إنّ لهذا الكلام جواباً، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت...).

وسارع المأمون قائلاً:

(إنّي لم أقله إلاّ لأعلم ما عندك منه...).

وانبرى يقيم له الحجّة على أنّ العلويين أحق بالنبي، وأقرب إليه من العباسيين قائلاً: (أنشدك بالله يا أمير المؤمنين، لو أنّ الله تعالى بعث نبيّه محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام يخطب إليك ابنتك كنت مزوّجه إيّاها؟

فقال المأمون: (يا سبحان الله!! وهل أحد يرغب عن رسول الله (ص)؟.

وبادر الإمام الرضا قائلاً:

(افتراه كان يحل له أن يخطب إلي؟...).

وأفحم المأمون ولم يجد منفذاً يسلك فيه لتبرير قربهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد أقام الإمام حجّة دامغة لا مجال لإنكارها والشك فهم أبناء بنته البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، وأبناؤها أبناؤه، وراح المأمون يقول:

(أنتم والله أمس برسول الله رحماً...)(١) .

وليس استحقاق أهل البيت للخلافة باعتبار أنّهم ألصق الناس برسول الله (ص) وأقربهم إليه، وإنّما لمواهبهم وعبقرياتهم ودراياتهم بما تحتاج إليه الأمة في جميع مجالاتها الإدارية والاقتصادية.

الإمام يرفض تعيين الولاة:

وعرض المأمون على الإمام الرضاعليه‌السلام تعيين مَن يشاء ويختار ليكون والياً على بعض الأقاليم الإسلامية، ورفض الإمامعليه‌السلام الاستجابة لهذا الطلب، وقال له:

(إنّي إنّما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر ولا أنهى، ولا أعزل ولا أشير حتى

____________________

(١) كنز الفوائد (ص ١٦٦).

٣٣٩

يقدمني الله قبلك، فوالله إنّ الخلافة لشيء ما حدثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي، وأنّ أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي وإنّ كتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني من نعمة هي عليّ من ربّي)(١) .

لقد رفض الإمامعليه‌السلام رفضاً تاماً التدخّل في أيّ شأن من شؤون الدولة، وذلك للتدليل على عدم شرعية دولة المأمون، وأنّه إنّما دخل فيها عن كره وإجبار.

الإمام يخبر بعدم دخوله بغداد:

وقال المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام ندخل بغداد، وعرض عليه ما يفعله فيها، فقالعليه‌السلام له: تدخل أنت بغداد، وسمع بعض الشيعة هذا الكلام ففزع لأنه يؤذن بعدم دخول الإمام إلى بغداد، واختلى بالإمام، وقال له: إنّي سمعت شيئا غمني، وذكر له ما قاله الإمام، فقالعليه‌السلام له: (ما أنا وبغداد، لا أرى بغداد، ولا تراني...)(٢) .

وكان ذلك من دلائل إمامته، فإنّه لم يفارق (خراسان)، حتى اغتاله المأمون، ولم ير بغداد.

الإمام والفضل بن سهل:

أمّا الفضل بن سهل(٣) ، فهو أقوى شخصية في دولة المأمون، ويتمتّع

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٦ - ١٦٧.                        (٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٢٤ - ٢٢٥.

(٣) الفضل بن سهل السرخسي أسلم على يد المأمون سنة (١٩٠ ه‍) وكان من أخبر الناس بعلم النجوم، وقد طلب المأمون من والدة الفضل أن ترسل إليه بما خلفه ابنها فأرسلت إليه صندوقاً صغيراً مختوماً ففضّه، فإذا فيه درج، وفي الدرج رقعة من حرير مكتوب فيها بخطّه بعد البسملة هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنّه يعيش ٤٨ سنة، ثم يقتل ما بين ماء ونار، وقد عاش هذه المدة، ثم قتله غالب خال المأمون بسرخس، ومن بديع ما قاله إبراهيم بن العباس الصولي في مدحه:

لفضل بن سهل يد

تقاصر عنها المثل

فنائلها للغني

وسطوتها للأجل

وباطنها للندى

وظاهرها للقبل

ويقول في مدحه أبو محمد عبد الله بن محمد:

لعمرك ما الأشراف في كل بلدةٍ

وإن عظموا للفضل إلاّ صنائعُ

ترى عظماء الناس للفضل خشّعاً

إذا ما بدا والفضل لله خاشعُ

تواضع لـمّا زاده الله رفعةً

وكل جليل عنده متواضعُ

وأصيب الفضل بابن يقال له العباس فجزع عليه جزعاً شديداً فدخل عليه إبراهيم نجل الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام فعزاه وأنشده.

خير من العباس أجرك بعده

والله خير منك للعباسِ

فقال له الفضل صدقت، وجاء ذلك في وفيات الأعيان ٣ / ٢٠٩ - ٢١١.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375