حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)10%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 205108 / تحميل: 8475
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة: الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، والإبن إله، والروح إله، وهو ثلاثة وهو واحد، ويمثّلون لذلك بقولهم: إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد، وابن عمرو والإنسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه: أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة(١) .

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله:( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ببيان أنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية، الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله:( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ، أنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلّا إنّه عبد الله ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

__________________

(١) الميزان: ج ٤ ص ٧٠.

٢٤١

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث:

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً، وهذان لا يجتمعان إلّا أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين، ولأجل ذلك أصبحت عندهم: ١ = ٣ وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة: « برهما »: « الموجد »، و « فيشفو »: « الحافظ »، و « سيفا »: « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة، ولـمـّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين:

الأوّل: تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة ١ = ٣ وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني: إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

٢٤٢

ثلاثة، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٧١ ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقّه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس:

١ ـ عيسى بن مريم ٢ ـ رسول الله ٣ ـ كلمته ٤ ـ ألقاها إلى مريم ٥ ـ روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها:

٢٤٣

١ ـ عيسى بن مريم: وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و لدليل واضح على بشريّته.

٢ ـ رسول الله: ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

٣ ـ كلمة الله: وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / ١٠٩ ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات الله سبحانه.

٤ ـ ألقاها إلى مريم: إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم، الآية ١٦ إلى ٣٦ واختتمها بقوله:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / ٣٤ ).

٥ ـ وروح منه: إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون أنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / ١٣ ) والمعنى أنّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده، ومبتدأ منه، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى:( اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / ١١ ).

أضف إلى ذلك أنّ ذلك التعبير لا يفوق في حقّ آدم حيث قال:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / ٢٩ ).

٢٤٤

فقد وصف آدمعليه‌السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح:

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة:

١ ـ كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

٢ ـ طبيعة عيشهما في المجتمع.

٣ ـ تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة، فيقول سبحانه:

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُمٍّ ووالد، قال سبحانه:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / ٥٩ ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة، قال سبحانه:( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

٢٤٥

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / ٧٥ ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه:( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٧٢ ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق، قال الإمام: يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد وما ننقم على عيسى شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلّا أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا: وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق: من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قطّ وما نام بليل قطّ وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا: فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع(١) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه:

( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١١٦ ).

__________________

(١) الاحتجاج: ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٤.

٢٤٦

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

ج ـ المسيح ابن الله:

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة إناثاً، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض:

١ ـ الجن:( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / ١٥٨ ).

وأمّا ما هذا النسب، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن، كما ورد في قوله سبحانه:( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ) ( سبأ / ٤١ ).

٢ ـ الملائكة:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / ٤٠ ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / ١٩ ).

٣ ـ المسيح: وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر، اشتهاراً بهذه النسبة، غير نافين عن أنفسهم هذا العار، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

٢٤٧

عقلية محتاجة إلى التوضيح، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها:

١ ـ البقرة / ١١٦ ـ ١١٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى الله ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية:

١ ـ سبحانه. ٢ ـ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

٣ ـ بديع السموات والأرض. ٤ ـ وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ ـ « سبحانه »: وهذه الكلمة تفيد تنزيه الله سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة، قال تعالى:( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / ٦٨ ).

واللفظة تفيد أنّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على الله تعالى، يجب تنزيهه عنه، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين والله سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

٢٤٨

ب ـ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د ـ( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة الله تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال:

إنّ قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

٢٤٩

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام(١) .

٢ ـ الأنعام / ١٠٠ ـ ١٠٢:

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / ١٠٠ ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / ١٠١ ).

( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم، وإليك بيانها:

أ ـ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج ـ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة والله

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٦١.

٢٥٠

سبحانه منزّه، عن أن تكون له زوجة.

د ـ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان، والمفروض خلافه.

٣ ـ يونس / ٦٨:

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ ـ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية، والله غني عن الجميع.

ب ـ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج ـ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

٤ ـ الكهف / ٤ و ٥:

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا *مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا ) .

٢٥١

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

٥ ـ مريم / ٣٥:

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله( سُبْحَانَهُ ) والثاني( إِذَا قَضَىٰ ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

٦ ـ مريم / ٨٨ ـ ٩٥:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين:

أحدهما قولهُ:( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما: قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

٢٥٢

مسخّر لله سبحانه، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

٧ ـ الأنبياء / ٢٦ و ٢٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

٨ ـ المؤمنون / ٩١:

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله، والمفروض أنّه ليس معه إله.

٩ ـ الزمر / ٤:

( لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة:

أ ـ( سُبْحَانَهُ ) .

٢٥٣

ب ـ( الْوَاحِدُ ) .

ج ـ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل: فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني: أعني كونه واحداً، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث: أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق الله العليّ العظيم حيث قال:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / ٨٢ ).

قسمة ضيزي:

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى الله عزّ وجلّ الإناث من الملائكة، قال سبحانه:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / ٤٠ ).

٢٥٤

وقال تعالى:( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ ـ ٢٢ ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / ١٩ ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

حطّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رحاله بالمدينة، والتفّ حوله الأوس والخزرج، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية، ولكنّ تلك المفخرة أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

٢٥٥

إدارة التجارة، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج، والنزاعات القبلية بينهما، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضىٰ كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود وأطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة الله الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه:

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / ٥١ ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة:

١ ـ إفشاء علائم النبوّة:

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله:

١ ـ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / ٧٦ ).

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لاتخبروهم بما

٢٥٦

في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجّوكم به عند ربّكم(١) .

وردّ سبحانه عليهم بقوله:( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / ٧٧ ) فالله سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه فلمّا بعثه الله من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور: يا معشر اليهود اتّقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل الشرك، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى قوله:

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٨٩ ).

٢ ـ السؤال عن الروح الأمين:

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وآمنّا بك، فقال لهم رسول الله: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا: نعم، قال: فسألوا عمّا بدا لكم وممّا سألوا عنه نوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: كيف نومك ؟ فقال: تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال: حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين، ثمّ قالوا له: فأخبرنا عن الروح ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٢٨٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٧

قال: أنشدكم بالله وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: أللّهم نعم، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٧ و ٩٨ )(١) .

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / ٨٥ ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أيّ تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة:( لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / ٦ ).

٣ ـ إنكار نبوّة سليمانعليه‌السلام :

إنّ رسول الله لـمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبارهم: ألا تعجبون من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً، والله ما كان إلّا ساحراً، فأنزل الله تعالى في ذلك:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / ١٠٢ )(٢) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٣. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٢٤ ( طبع بيروت ).

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٠. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٣٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٨

٤ ـ كتابه إلى يهود خيبر:

كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم بالله، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمّد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فادعوكم إلى الله وإلى نبيّه(١) .

٥ ـ إنكار أخذ الميثاق منهم:

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول الله: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي، فأنزل الله سبحانه في ردّهم:( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلّا الْفَاسِقُونَ *أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / ٩٩ و ١٠٠ ).

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٥٩

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم(١) .

٦ ـ الإقتراحات التعجيزيّة:

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزل قوله سبحانه:( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / ١٠٨ ).

وقال رافع بن حريملة لرسول الله: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه، فنزل قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

٧ ـ تنازع اليهود والنصارى عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

لـمـّا قدم أهل نجران من النصارى على رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسىٰ وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارىٰ لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك قولهم:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / ١١٣ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٣٢٧.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بصلاحيات واسعة النطاق، فقد سيطر على جميع أجهزة الدولة فكان دوره في حكومة المأمون كدور البرامكة أيام هارون الرشيد وكان ماهراً في الشؤون السياسية، ويقول فيه إبراهيم بن العباس:

وإذا الحروب غلت بعثت لها

رأياً تفل به كتائبها

رأياً إذا نبت السيوف مضى

عزم به فشفى مضاربها

أجرى إلى فئة بدولتها

وأقام في أخرى نوادبها(١)

وحكى هذا الشعر عن مهارة الفضل في الشؤون السياسية، وأنّه برأيه يستطيع أن يقضي على دولة ويقيم أخرى كما فعل في إسقاط دولة الأمين، وإقامة دول المأمون.

وعلى أيّ حالٍ فقد كان الفضل أحد المفاوضين للإمام الرضاعليه‌السلام في قبوله لولاية العهد، وقد هدّد الإمام، وتوعّده إن رفض ذلك، ونعرض فيما يلي إلى بعض شؤون الإمامعليه‌السلام معه.

عرض كاذب لاغتيال المأمون:

وقام الفضل بن سهل وهشام بن إبراهيم بعملية لخداع الإمام الرضاعليه‌السلام والقضاء عليه، فقد طلبا منه أن يخلّي مجلسه من كل أحد، ليفوضاه في

سر، وأخلى الإمام مجلسه، فاخرج الفضل يميناً مكتوبة بالعتق والطلاق، وما لا كفارة له، وقالا له:

(إنّما جئناك لنقول كلمة الحق والصدق، وقد علمنا أنّ الإمرة أمرتكم، والحق حقّكم يا بن رسول الله، والذي نقوله بألسنتنا عليه ضمائرنا، إلاّ ينعتق ما نملك، والنساء طوالق، وعلينا ثلاثون حجّة راجلين، على أن نقتل المأمون، ونخلص لك الأمر، حتى يرجع الحق إليك...).

____________________

(١) الأغاني ٩ / ٣١ - ٣٢.

٣٤١

ولم يخف على الإمام خداعيهما، وزيف قوليهما، فلو كانا صادقين في القول لقاما بذلك، قبل أن يفاوضا الإمام، وهما يعلمان انهعليه‌السلام يرفض كل محاولة لا يقرّها الإسلام، والتي منها عملية الاغتيال، فزجرهما، وقال لهما: (كفرتما النعمة، فلا تكون لكما السلامة، ولا لي إن رضيت بما قلتما...).

وبادرا نحو المأمون فاخبراه بمقالة الإمام فجزاهما خيراً، وسارع الإمام نحو المأمون، وأعلمه بالأمر، وذلك لتبرير ساحته، وتبيّن للمأمون أن الإمام لا يضمر له سوءاً(١) وأكبر الظن أنّ هذه العملية كانت بتدبير من المأمون للاطلاع على نوايا الإمام تجاهه.

وشاية بالإمام:

وعرضت البحوث الواعية في دراسة التأريخ الإسلامي إلى أنّ الفضل بن سهل لم يكن علوي الفكر(٢) ، فقد قام بخطوات رهيبة معادية للإمام الرضاعليه‌السلام ، والتي كان منها وشايته بالإمام إلى المأمون، فقد قال له: (إنّك جعلت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك والعامة، والعلماء، والفقهاء، وآل عباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك...)(٣) .

أرأيتم كيف حرّض الفضل على النكاية بالإمام، والوشاية به فقد ملأ قلب المأمون حقداً وكراهية للإمامعليه‌السلام .

معارضته للإمام:

وكان الفضل شديد المعارضة للإمام، فإذا ذهب الإمام إلى رأي عاكسه، ودعا المأمون إلى نقضه، وكان ذلك ما نقله الرواة أنّ المأمون دخل على الإمام، وقرأ عليه كتاباً، فيه أنّ بعض قوّاته فتحت بعض قرى (كابل)، فقال له الإمام:

(أو سرّك فتح قرية من قرى الشرك؟...).

وسارع المأمون قائلاً:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٧.

(٢) يراجع في ذلك إلى كتاب الإمام الرضا للسيد جعفر مرتضى، فقد نفى عن الفضل نسبة التشيّع بصورة جازمة خلافاً لما ذهب إليه ابن خلكان في وفيات الأعيان ٣ / ٢٠٩ وغيره من أنّه كان شيعياً.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٠.

٣٤٢

(أو ليس في ذلك سرور؟...).

والتفت إليه فأرشده إلى موضع السرور الذي ينبغي أن يسلكه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين اتق الله في أمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ولاّك الله من هذا الأمر، وخصّك به، فإنّك قد ضيّعت أمور المسلمين، وفوّضت ذلك إلى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله، وقعدت في هذه البلاد - يعني (خراسان) - وتركت بيت الهجرة، ومهبط الوحي، وإنّ المهاجرين والأنصار يظلمون دونك، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، ويأتي على المظلوم دهر يتعب فيه نفسه، ويعجز عن نفقته، ولا يجد مَن يشكو إليه حاله ولا يصل إليك.

فاتق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين، وارجع إلى بيت النبوّة ومعدن المهاجرين والأنصار، أما علمت أنّ والي المسلمين مثل العمود في وسط الفسطاط، من أراده أخذه؟...).

وحكت هذه الكلمات الصراحة والنصيحة الخالصة، وليس فيها أيّ محاباة للمأمون ولا مجاراة لعواطفه وميوله، والتفت إلى الإمام فقال له:

(يا سيدي فما ترى؟...).

وأشار الإمام عليه بالحق الذي فيه نجاته قائلاً:

(أرى أن تخرج من هذه البلاد، وتتحوّل إلى موضع آبائك وأجدادك وتنظر في أمور المسلمين، ولا تكلهم إلى غيرك، فإنّ الله تعالى سائلك عمّا ولاّك...).

واستجاب المأمون لرأي الإمام وقال له:

(نعم ما قلت: يا سيدي، هذا هو الرأي...).

وأمر أن تقدم النوائب(١) للخروج إلى (يثرب)، وبلغ ذلك الفضل فغمّه الأمر، وسارع نحو المأمون فقال له:

(ما هذا الرأي الذي أمرت به؟...).

وعرض المأمون بما أشار عليه الإمامعليه‌السلام ، من اتخاذ المدينة المنورة عاصمة للملك، وانبرى الفضل يفند هذه الفكرة، ويشير عليه بعكس ما أشار عليه الإمام قائلاً:

____________________

(١) النوائب: هي الجيوش والعساكر المعدة للنوائب.

٣٤٣

(يا أمير المؤمنين ما هذا الصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وجميع أهل العراق، وأهل بيتك والعرب، ثم أحدثت هذا الحدث الثاني، إنّك ولّيت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك، والعامة والفقهاء والعلماء وآل العباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك.

فالرأي أن تقيم بخراسان حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسون ما كان من أمر محمّد أخيك، وها هنا مشايخ قد خدموا الرشيد، وعرفوا الأمر فاستشرهم في ذلك، فإن أشاروا بذلك فامضه).

فقال المأمون:

(مَن هم؟...).

فقال الفضل:

مثل علي بن أبي عميران وأبي يونس، والجلودي - هؤلاء الذين نقموا بيعة أبي الحسن، ولم يرضوا بها...).

وأخيراً استجاب المأمون لرأي الفضل، وأعرض عمّا أشار عليه الإمام من اتخاذ (يثرب) عاصمة للملك(١) .

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٠.

٣٤٤

نهاية المطاف

ولم يمض قليل من الوقت على تقليد الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد حتى تنكّر له المأمون كأشد ما يكون التنكّر، وأضمر له السوء والغدر، وأخذ يبغي له الغوائل، ويكيده في غلس الليل، وفي وضح النهار، ففرض عليه الرقابة الشديدة، وحبسه في بيته ومنع العلماء والفقهاء من الاتصال به، والانتهال من غير علومه كما منع سواد شيعته من التشرّف بمقابلته.

وقد ورم أنف المأمون، وتميّز غضباً وغيظاً بما يتمتّع به الإمامعليه‌السلام من المكانة العظمى في نفوس المسلمين، وقد ترسّخت وازدادت حينما أُسندت إليه ولاية العهد، فقد رأوا ترسّله، وعدم تكلّفه، وبعده عن مغريات الحياة، وزهده في الدنيا، ومشاركته للناس في آلامهم، وحنوّه على الضعفاء، وعطفه على البؤساء، وسعة علومه، وإحاطته بما تحتاج إليه الأمّة في جميع شؤونها، وشدّة إنابته إلى الله تعالى وتقواه إلى غير ذلك من معالي أخلاقه التي يحار الفكر فيها، والتي هي امتداد ذاتي إلى أخلاق جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي طوّر الحياة، وقضى على جميع التخلّف والانحراف في دنيا العرب والمسلمين.

رأى الناس الأخلاق العلوية الماثلة في الإمام الرضاعليه‌السلام فهاموا

٣٤٥

بحبّه، وآمنوا بإمامته، في حين أنّ المأمون وسائر ملوك بني العباس قد اتصفوا بضد ما اتصف به الإمام فإنّهم من حين أن تقلّدوا الخلافة لم يؤثر عن أي أحد منهم مكرمة أو فضيلة فقد انسابوا وراء شهواتهم وملذاتهم، وأنفقوا الملايين من أموال المسلمين على لياليهم الحمراء، ورحم الله أبا فراس الحمداني الشاعر الملهم والثائر على الظلم والجور فقد قارن في رائعته الخالدة بين الحياة الرفيعة التي عاشها السادة العلويون، وبين الحياة الوضيعة المليئة بالإثم والمنكرات التي عاشها العباسيون يقول:

تمسي التلاوة في أبياتهم سحراً

وفي بيوتكم الأوتار والنغمُ

إذا تلوا آيةً غنّى إمامكم:

(قف بالديار التي لم يعفها قدمُ)

ومنكم عليه أم منهم وكان لكم

شيخ المغنّين إبراهيم، أم لهمُ؟

ما في بيوتهم للخمر معتصر

ولا بيوتهم للشر معتصمُ

ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم

ولا يرى لهم قرد له حشمُ

الركن والبيت والأستار منزلهم

وزمزم والصفا والحجر والحرمُ

إنّ سيرة العلويين مشرقة كالشمس بنور الإيمان، وسيرة خصومهم العباسيين مظلمة قاتمة لا بصيص فيها بنور الإيمان، وهدى الإسلام وعلى أي حال فقد جهد المأمون أن يظهر للمجتمع الإسلامي عدم زهد الإمام الرضاعليه‌السلام في تقليده لولاية العهد إلاّ أنّه باء بالفشل فقد ظهر الإمام عليه كألمع شخصية عرفها العلم الإسلامي في تقواه وورعه، وإقباله على طاعة الله وعبادته، وعدم إشتراكه بأيّ منحى من المناحي السياسية.

ومهما يكن الأمر فإنّ هذا البحث هو الفصل الأخير من هذا الكتاب، ونعرض فيه إلى الشؤون الأخيرة من حياة الإمامعليه‌السلام ، وفيما يلي ذلك:

نصيحة الإمام للمأمون:

وقدّم الإمامعليه‌السلام نصيحة خالصة للمأمون، نقيّة من كثير من المشاكل السياسية، فقد أشار عليه أن يعفيه من ولاية العهد ويعفي الفضل بن سهل

من الوزارة، وبذلك يتخلّص من كيد العباسيين وبغيهم عليه(١) إلاّ أن المأمون لم يعفهما، وإنّما قام باغتيالهما كما سنعرض ذلك.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤٥.

٣٤٦

عزم المأمون على الرجوع إلى بغداد:

وأخذ المأمون يطيل التفكير، ويقلّب الرأي على وجوهه في الرجوع إلى (بغداد)، عاصمة آبائه، وزينة الشرق، ولكن يصدّه عن تحقيق هذه الأمنية الغالية أمران:

الأول: وجود الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ولي عهده الذي تحقد عليه الأسرة العباسية كأشد ما يكون الحقد، فقد خلعت بيعة المأمون، وبايعت ابن شكلة شيخ المغنّين انتقاماً منه لتقليده للإمام بولاية العهد.

الثاني: وجود وزيره الفضل بن سهل على المسرح السياسي فقد نقم عليه العباسيون، معتقدين أنّه هو الذي حبّذ للمأمون عقد ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام .

ورأى المأمون أن يتخلّص من الإمام والفضل، ويصفّيهما جسدياً ليخلو له الجو، وينال بذلك رضى العباسين، ويزيل عنه سخطهم وانتقامهم، وهذا ما سنعرضه.

حمّام سرخس:

ورأى المأمون أن يتخلّص من الإمام الرضاعليه‌السلام ، ومن الفضل بن سهل دفعة واحدة حتى تخلص له الأسرة العباسية فأوعز إلى عصابة مجرمة من عملائه القيام باغتيال الإمام والفضل في حمّام (سرخس)، وطلب منهما الدخول في الحمّام في وقت واحد، ويكون هو معهما، وذلك لتغطية الأمر، وعدم انكشافه لأيّ أحد، وكان الإمامعليه‌السلام يقظاً حسّاساً فلم تخف عليه هذه المكيدة فرفض إجابته، فكتب المأمون إليه ثانياً يلتمسه، ويترجّاه فأجابه الإمام:

(لست بداخل غداً الحمّام، فإنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام في هذه الليلة يقول لي: يا علي لا تدخل الحمّام غداً، فلا أرى لك يا أمير المؤمنين، ولا للفضل أن تدخلا الحمّام غداً...).

فأجابه المأمون:

(صدقت يا سيدي، وصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لست بداخل الحمّام غداً، والفضل فهو أعلم وما يفعله...).

وتتضح مكيدة المأمون بالنسبة إلى الفضل فقد خلاّه وشأنه ليلاقي مصرعه على

٣٤٧

أيدي عصابته.

مصرع الفضل:

وبادر الفضل إلى الحمّام، فحينما دخل فيه تناهبت جسمه سيوف العصابة فخرّ على الأرض صريعاً يتخبّط بدمه، وما هي إلاّ لحظات وإذا به جثّة هامدة لا حراك فيها، وبذلك فقد حقّق المأمون شطراً من مهمّته.

وحينما قتل الفضل سارع أصحابه نحو المأمون ليأخذوا الثأر منه، فقد علموا أنّه هو الذي أوعز بقتله، وبادر حرّاس قصر المأمون إلى غلق أبوابه خوفاً من هجوم الثوّار على المأمون إلاّ أنّ الثوّار حملوا أقبسة من النار لحرق أبواب القصر، ولـمّا علم المأمون بذلك فزع، والتجأ إلى الإمام الرضاعليه‌السلام فاحتمى به، وخرج الإمامعليه‌السلام إلى الثوار، وأمرهم بالانصراف فاستجابوا له، ونجا المأمون ببركة الإمامعليه‌السلام (١) ، أمّا الذين قتلوا الفضل فكانوا خمسة أشخاص من حاشية المأمون كان من بينهم غالب خاله، وقد قبضت عليهم الشرطة، وجاءت بهم إلى المأمون، فقالوا له: أنت أمرتنا بقتله، فقال لهم: أنا أقتلكم بإقراركم، وأمّا ما ادعيتموه من أني أنا أمرتكم بذلك فدعوى ليس لها بينة، ثم أمر بهم فضربت أعناقهم، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل، وأظهر عليه الحزن الكاذب(٢) .

اغتيال الإمام:

وقام المأمون باغتيال إمام المسلمين، سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الرضاعليه‌السلام ، فدس له سمّاً قاتلاً في العنب، أو الرمّان، كما سنذكره، وبذلك فقد قضى المأمون على ألمع شخصية في العالم الإسلامي، كانت مصدر الوعي والفكر في دنيا الإسلام.

أقوال شاذّة:

وحاول بعض المؤرّخين تنزيه المأمون من اقتراف هذه الجريمة النكراء، وأنّه لم يقدم على اغتيال الإمامعليه‌السلام ، وهذه بعض أقوالهم:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٤.

(٢) تأريخ أبن خلدون ٣ / ٢٤٩، الكامل ٥ / ١٩١ حكيا ذلك قولاً، الآداب السلطانية والدول الإسلامية (ص ٢١٨) بحر الأنساب (ص ٢٨).

٣٤٨

١ - موته حتف أنفه:

ذهب (ابن خلدون) إلى أنّ الإمامعليه‌السلام مات حتف أنفه فجأة على أثر عنب أكله(١)، وكذا ذهب غيره إلى هذا القول(٢) .

٢ - اغتيال العباسيين للإمام:

قال ابن الجوزي: لـمّا رأى العباسيون أنّ الخلافة قد خرجت من أيديهم إلى أولاد علي بن أبي طالب سمّوا علي بن موسى الرضا فتوفّى في قرية من قرى (طوس) يقال لها (سناباد)... وقد زعم قوم أنّ المأمون سمّه، وليس كما ذكر، فإنّ المأمون حزن عليه حزناً لم يحزنه على أحد، وكتب إلى الآفاق يعزّونه(٣) .

٣ - موته بالسم:

وذكر فريق من المؤرّخين أنّ الإمامعليه‌السلام توفّي مسموماً(٤) ولم يذكروا غير ذلك.

هذه بعض الأقوال التي ذكرت وهي شاذة لا نصيب لها من الواقع، فإنّ من المقطوع به هو أنّ المأمون هو الذي اغتال الإمام لا الأسرة العباسية، ولا غيرها، ولم يمت الإمام حتف أنفه، ولقد قدم المأمون على اقتراف هذه الجريمة للتخلّص من الإمام الذي شاع ذكره في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد ظهرت للعيان دلائل إمامته، وهام المسلمون بحبّه؛ وذلك لما يتمتّع به من معالي الأخلاق، وسموا الآداب، والإقبال على الله، والزهد في الدنيا، وغير ذلك من صفاته العظيمة في حين أن المأمون وسائر ملوك بني العباس كانوا خالين من كل نزعة كريمة، وصفة رفيعة.

وعلى أي حال فقد أجمع معظم المؤرّخين والرواة أنّ المأمون هو الذي دسّ السم إلى الإمام لا غيره، فقد اغتال بهذه الطريقة كوكبة من أعلام عصره خاف منهم(٥) .

____________________

(١) تأريخ ابن خلدون ٣ / ٢٥٠.

(٢) وفيات الأعيان تأريخ الإسلام للذهبي ٨ / ورقة ٣٥.

(٣) تذكرة الخواص (ص ٣٦٤) المنتظم ١٠ / ورقة ٦٧.

(٤) البحار.

(٥) ذكرنا أسماء الذي اغتالهم المأمون في البحوث السابقة.

٣٤٩

إلى جنّة المأوى:

وامتحن الإمام امتحاناً عسيراً في تقلده لولاية العهد، فقد ضيق عليه المأمون غايد التضييق، ففرض عليه الرقابة الشديدة، وأحاطه بقوى مكثفة من الأمن، وقد سئم الإمام من الحياة، وراح يدعوا الله تعالى أن ينقله من دار الدنيا إلى دار الخلود قائلاً: (اللّهمّ إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة...).

واستجاب الله دعاء وليه العظيم فنقله من دار الدنيا المحفوفة بالمكاره والآلام إلى دار الحق، ونعرض إلى كيفية وفاته، فقد دعا الإمامعليه‌السلام في غلس الليل البهيم هرثمة بن أعين، فلمّا مثل عنده قال له: (يا هرثمة هذا آوان رحيلي إلى الله تعالى، ولحوقي بجدي وآبائيعليهم‌السلام ، وقد بلغ الكتاب أجله، وقد عزم هذا الطاغي - يعني المأمون - على سمّي في عنب ورمّان مفروك، فأمّا العنب فإنّه يغمس السلك في السم ويجذبه بالخيط بالعنب، وأمّا الرمان فإنه يطرح السم في كف بعض غلمانه، ويفرك الرمان بيده ليتلطّخ حبّه في ذلك السم، وإنّه سيدعوني في اليوم المقبل، ويقرب إلى الرمان والعنب،، ويسألني أكلها، فآكلها ثم ينفذ الحكم، ويحضر القضاء.

فإذا أنا مت فسيقول: أنا أغسله بيدي، فإذا قال: ذلك، فقل له عنّي: بينك وبينه، أنّه قال لي: لا تتعرّض لغسلي، ولا لتكفيني ولا لدفني، فإنّك إن فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخّر عنك، وحلّ بك اليم ما تحذر فإنّه سينتهي.

وأضاف الإمام قائلاً:

فإذا خلّى بينك وبين غسلي حتى ترى، فيجلس في علو من أبنيته مشرفاً على موضع غسلي لينظر، فلا تتعرّض يا هرثمة لشيء من غسلي حتى ترى فسطاطاً أبيض قد ضرب في جانب الدار، فإذا رأيت ذلك فاحملني في أثوابي التي أنا فيها، وضعني من وراء الفسطاط، وقف وراءه، ويكون مَن معك دونك ولا تكشف عني الفسطاط حتى تراني فتهلك.

وإنّه - أي المأمون - سيشرف عليك، ويقول لك: يا هرثمة أليس زعمتم أنّ

٣٥٠

الإمام لا يغسّله إلاّ إمام مثله، فمَن يغسّل أبا الحسن علي بن موسى، وابنه محمد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بـ‍ (طوس)؟

فإذا قال ذلك: فقل له: إنّا نقول: إنّ الإمام لا يجب أن يغسله إلا إمام مثله، فإن تعدّى متعد فغسل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدي غاسله، ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده، بأن غلب على غسله أبيه، ولو ترك أبو الحسن على بن موسى الرضا (ع) بالمدينة لغسّله ابنه محمد ظاهراً مكشوفاً، ولا يغسله الآن أيضاً إلاّ هو من حيث يخفى، فإذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مدرجاً في أكفاني، فضعني على نعشي، واحملني، فإذا أراد أن يحفر قبري، فإنّه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلة لقبري، ولا يكون ذلك أبداً، فإذا ضربت المعاول ينب عن الأرض(١) ولم يحفر لهم منها شيء، ولا مثل قلامة ظفر، فإذا اجتهدوا في ذلك وصعب عليهم، فقل لهم عني: إنّي أمرتك أن تضرب معولاً واحداً في قبلة قبر أبيه هارون الرشيد، فإذا ضربت تقذفه في الأرض إلى قبر محفور، وضريح قائم، فإذا انفرج القبر فلا تنزلني حتى يفور من ضريحه الماء الأبيض فيملئ منه ذلك القبر... فإذا غار الماء فأنزلني في ذلك القبر وألحدني في ذلك الضريح(٢) .

وأمر الإمامعليه‌السلام هرثمة بحفظ ما قاله، فأجابه هرثمة إلى ما أراد، وفي اليوم الثاني بعث المأمون خلف الإمام، فلمّا حضر عنده قام إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه إلى جانبه، وأقبل عليه يحادثه، وأمر بعض غلمانه أن يأتيه بعنب ورمّان، قال هرثمة: فلم أستطع الصبر وأصابتني رعدة.

وناول المأمون الإمام العنقود من العنب، وقال له: (يا بن رسول الله ما رأيت عنبا أحسن من هذا؟...).

فرد عليه الإمام:

(ربّما كان عنبا حسناً منه في الجنة...).

وطلب من الإمام أن يتناول منه شيئاً فامتنععليه‌السلام منه، فصاح المأمون:

____________________

(١) ينسب عن الأرض أي يمتنع ولا يؤثر فيها.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤٧، وقريب منه في نور الأبصار (ص ١٤٥).

٣٥١

(لعلّك تتهمنا بشيء؟...).

وتناول المأمون ثلاث حبّات، ثم رمى به، وقام، فقال له المأمون:

(إلى أين؟...).

فنظر إليه الإمام، وقال له بنبرات خافته:

(إلى حيث وجهتني...)(١) .

وسارع الإمام إلى الدار، وقد تفاعل السم في جميع أجزاء بدنه، وقد أيقن بنزول الرزء القاصم، وبعث إليه المأمون يطلب منه وصيته ونصيحة له، فقالعليه‌السلام لرسوله:

(قل له: يوصيك أن لا تعطي أحداً ما تندم عليه...)(٢).

وسرى السم في جميع أجزاء بدن الإمام، وأخذ يعاني من أقسى الآلام وقد علم أنّ لقاءه بربّه لقريب فأخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم، ويستغفر الله تعالى، ويدعو للمؤمنين، ويقول الرواة: إنّه لما ثقل حاله امتنع أهل بيته وأصحابه من الأكل والشرب، فالتفتعليه‌السلام إلى ياسر وقال له:

(هل أكل الناس شيئاً؟...).

فردّ عليه بصوت خافت حزين النبرات قائلاً: (مَن يأكل مع ما أنت فيه).

فانتصبعليه‌السلام ثم قال: هاتوا المائدة، ولم يدع أحداً من حشمه إلاّ أجلسه على المائدة، وجعل يتفقّد واحداً بعد واحد، ولـمّا فرغوا من تناول الطعام، أمر بحمله إلى النساء، ولـمّا فرغوا من الأكل أغمي عليه(٣) .

وفي غلس الليل البهيم كان الإمام يتلوا آيات من الذكر الحكيم، وكان آخر آية قرأها قوله تعالى:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (٤) ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) (٥) ثم فاضت نفسه الزكية إلى بارئها(٦)

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤٣.

(٢) عيون التواريخ ٣ / ٢٢٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤١.

(٤) سورة آل عمران: آية ١٥٤.

(٥) سورة الأحزاب: آية ٣٨.

(٦) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤١.

٣٥٢

تحفّها ملائكة الرحمن، وتستقبلها في رياض الخلد أرواح الأنبياء والأوصياء، لقد أظلمت الدنيا بفقده، وأشرقت الآخرة بقدومه، وكانت وفاته رزءاً على

العلماء والفقهاء ورجال الفكر الذين كانوا ينتهلون من نمير علومه، كما كانت وفاته رزءاً شعبياً عامّاً، فقد فقدت الأوساط الشعبية مَن كان يسهر على مصالحهم، ويناضل عن قضاياهم.

لقد انتقل الإمام إلى حضيرة القدس بعد ما أدى رسالة ربّه، فلم يشترك بأي عمل إيجابي في جهاز دولة المأمون، ورفض أي تعاون معه، وقد سلب بذلك شرعية حكومة المأمون وأنّها لم تكن قائمة على حكم الله تعالى، وقد عانى من أجل ذلك جميع ألوان الاضطهاد حتى قضى عليه المأمون.

رياء المأمون:

وأظهر المأمون الحزن، والجزع الكاذب، على وفاة الإمام فقد خرج حافياً، حاسراً، يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويبكي، وقد رفع عقيرته ليسمعه الناس قائلاً:

(ما أدري أي المصيبتين أعظم عليّ، فقدي لك، وفراقي إيّاك، أو تهمة الناس لي أنّي اغتلتك وقتلتك...)(١) .

لقد أظهر المأمون الأسى على وفاة الإمامعليه‌السلام لتبرير ساحته ودفع التهمة عنه بأنّه هو الذي اغتاله، ولكن سرعان ما انكشف رياؤه، واتضح للمجتمع بأنّه هو المسؤول عن اغتياله.

إخفاء موت الإمام:

وأخفى المأمون موت الإمامعليه‌السلام يوماً وليلة(٢) ، وفيما أحسب أنّه استعد لحالة الطوارئ، والخوف من الانتفاضة الشعبية عليه، فقد أوعز إلى رجال من أمنه، وقوّاته المسلحة بالاستعداد لكل حادث يحدث.

تشييع جثمان الإمام:

وشيّع جثمان الإمام تشييعاً حافلاً لم تشاهد مثله (خراسان) في جميع أدوار

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤١.

(٢) مقاتل الطالبيين (ص ٥٦٧)، إرشاد المفيد (ص ٣١٦).

٣٥٣

تأريخها، فقد أغلقت الدوائر الرسمية، والمحلاّت التجارية، وهرع الناس بجميع طبقاتهم إلى تشييع الجثمان المقدّس، وهم ما بين باكٍ وواجم، ورفعت الأعلام السود، وسالت الدموع كل مسيل، وتعالى الصراخ من كل جانب على الفقيد العظيم الذي كان ملاذاً لهم، ويتقدّم النعش المأمون وهو حاسر، وخلفه الوزراء وكبار رجال الدولة، وقادة الجيش، وهم يذكرون فضائل الإمام، وما مُنيت به الأمة من الخسارة العظمى بفقده.

في مقرّه الأخير:

وجيء بالجثمان المقدّس تحت هالة من التكبير والتعظيم إلى مقرّه الأخير، فحفر له قبر بالقرب من قبر هارون قاتل أبي الإمام فواراه المأمون فيه، وقد وارى معه كل ما تسمو به الإنسانية من الصفات الرفيعة، والنزعات الكريمة.

وأقبلت الجماهير تعزّي المأمون، وسائر العلويين والعباسيين على مصابهم الأليم، وقد نخر الأسى والحزن قلوب الجميع، فقد فقدوا إمام المسلمين، وسيّد المتقين والمنيبين، ومن الجدير بالذكر أنّ المأمون سئل عن السبب في دفن الإمام إلى جانب قبر أبيه؟ فأجاب: ليغفر الله لهارون بجواره للإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد فنّد ذلك الشاعر الملهم دعبل الخزاعي بقوله:

أربع بطوس على قبر الزكي بها

إن كنت تربع من دين على وطرِ

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا

على الزكي بقرب الرجس من ضررِ

هيهات كل امرئ رهن بما كسبت

له يداه فخذ ما شئت أو فذرِ

قبران في طوس خير الناس كلهم

وقبر شرهم هذا من العبرِ

إقامة المأمون على قبر الإمام:

وأقام المأمون عند القبر الشريف ثلاثة أيام صائماً نهاره، قارئاً للقرآن الكريم، ويترحّم على الإمامعليه‌السلام ؛ وذلك لتنزيهه من اقتراف هذه الجريمة، وإظهار إخلاصه وحبه للإمام، إلاّ أنّ ثوب الرياء يشف عمّا تحته، فقد ظهر للجميع زيف ذلك، وأنّه لا واقع لحزنه المزعوم.

المأمون مع هرثمة:

ودعا المأمون هرثمة بن أعين، وطلب منه أن يحدثه بما سمع من الإمام وما قاله له في سمّه بالعنب والرمان، وجعل هرثمة يحدثه بذلك والمأمون يصفر وجهه مرة،

٣٥٤

ويحمر أخرى وهو يقول بنبرات تقطر أسى وحسرات على ما اقترفه في حق الإمام قائلاً: (ويل للمأمون من الله، ويل له من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويل له من علي بن أبي طالب، ويل للمأمون من فاطمة الزهراء، ويل للمأمون من الحسن والحسين، ويل للمأمون من علي بن الحسين، ويل للمأمون من محمد بن علي، ويل للمأمون من جعفر بن محمد، ويل له من موسى بن جعفر، ويل للمأمون من علي بن موسى الرضا... هذا والله الخسران المبين!

وأمر المأمون هرثمة بكتمان قول الإمام معه، وعدم إذاعته، وتلا قول الله تعالى:( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) (١) .

والويل للمأمون على ما اقترفه من عظيم الذنب، فقد اغتال سيد المسلمين، وإمام المتقين وفلذّة من كبد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

عمر الإمام:

أمّا عمر الإمامعليه‌السلام الحافل بالمكرمات والفضائل فقد اختلف المؤرّخون في مدّته، وهذه بعض الأقوال:

١ - ٤٧ سنة(٢) .

٢ - ٤٨ سنة(٣) .

٣ - ٤٩ سنة(٤) .

٤ - ٥٠ سنة(٥) .

٥ - ٥١ سنة(٦) .

٦ - ٥٥ سنة(٧) .

____________________

(١) أعيان أخبار الرضا ٢ / ٢٤٩.

(٢) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٣) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٤) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢٢٦ كشف الغمة ٣ / ٥٦.

(٥) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٦) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٧) أصول الكافي ١ / ٤٨٦ كفاية الطالب (ص ٤٥٨)، نور الأبصار (ص ١٤٤)، بحر الأنساب (ص ٢٨).

٣٥٥

٧ - ٥٧ - و ٤٩ يوماً أو ٧٩ يوماً(١) .

ومنشأ هذا الاختلاف هو الاختلاف في تأريخ ولادتهعليه‌السلام ويرى السيد الأمين أنّ منشأ هذا التضارب هو التسامح بعد السنة الناقصة سنة كاملة(٢) .

رثاء الإمام:

كان نبأ وفاة الإمام كالصاعقة على رؤوس المسلمين، فقد تلقوا النبأ المؤلم بأسى، وحزن عميق، فقد فقدوا بموته ما كانوا يأملونه، ويحلمون به من رجوع الخلافة الإسلامية إلى معدنها الأصيل، ويتخلّصون من ذئاب البشرية، وأئمّة الظلم والجور، ويقام في ربوعهم العدل السياسي والعدل الاجتماعي، لقد خابت الآمال بموت الإمام العظيم، وقد نخر الحزن القلوب، وسالت الدموع كل مسيل، وقد انبرت كوكبة من الشعراء فرثوا الإمام بذوب روحهم، وكان من بينهم ما يلي:

١ - أشجع بن عمرو السلمي:

ورثى أشجع بن عمرو السلمي الإمام بقصيدة عصماء حكت حزنه العميق على فقد إمام المسلمين، وصورت مدى الخسارة الكبرى التي مُني بها العالم الإسلامي، وهذا نصّها:

يا صاحب العيس يحدي في أزمّتها

اسمع وأسمع غداً يا صاحب العيسِ

إقر السلام على قبر بطوس ولا

تقر السلام، ولا النعمى على طوسِ

فقد أصاب قلوب المسلمين بها

روع وأفرخ فيها روع إبليسِ

وأخلست واحد الدنيا وسيّدها

فأيّ مختلس منّا ومخلوسِ

ولو بدا الموت حتى يستدير به

لاقى وجوه رجال دونه شوسِ

بؤساً لطوس فما كانت منازله

ممّا تخوّفه الأيام بالبؤسِ

معرّس حيث لا تعريس ملتبس

يا طول ذلك من نأي وتعريسِ

إنّ المنايا أنالته مخالبها

ودونه عسكر جمّ الكراديسِ

أوفى عليه الردى في خيس أشبله

والموت يلقى أبا الأشبال في الخيسِ

ما زال مقتبساً من نور والده

إلى النبي ضياء غير مقبوسِ

في منبت نهضت فيه فروعهم

بباسقٍ في بطاح الملك مغروسِ

____________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٢) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

٣٥٦

والفرع لا يرتقي إلاّ على ثقةٍ

من القواعد والدنيا بتأسيسِ

لا يوم أولى بتخريق الجيوب ولا

لطم الخدود ولا جدع المعاطيسِ

من يوم طوس الذي نادت بروعته

لنا النعاة وأفواه القراطيسِ

حقّاً بأنّ الرضا أودى الزمان به

ما يطلب الموت إلاّ كل منفوسِ

ذا اللحظتين وذا اليومين، مفترش

رمسا كآخر في يومين مرموسِ

بمطلع الشمس وافته منيّته

ما كان يوم الردى عنه بمحبوسِ

يا نازلاً جدثاً في غير منزله

ويا فريسة يوم غير مفروسِ

صلّى عليك الذي قد كنت تعبده

تحت الهواجر في تلك الأماليسِ

لولا مناقضة الدنيا محاسنها

لما تقايسها أهل المقاييسِ

أحلّك الله داراً غير زائلة

في منزل برسول الله مأنوسِ(١)

أرأيتم هذه الأحزان الموجعة التي حلت بالعالم الاسلامي على فقد واحد الدنيا وسيدها الامام العظيم؟!

لقد صور أشجع السلمي برائعته مدى الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون، والتي هي جديرة بشق الجيوب ولطم الخدود، فقد أودى الزمان بقائد الأمة، وسيدها وإمامها.

وقد ذاعت هذه القصيدة، وحفظها الناس فخاف أشجع فغير ألفاظها وجعلها في الرشيد(٢).

٢ - دعبل الخزاعي:

وبكي دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت الإمام الرضاعليه‌السلام أمر البكاء ورثاه بذوب روحه، وكان مما قاله في رثائه له هذه القصيدة:

هو النفس إلاّ أنّ آل محمّدٍ

لهم دون نفسي في الفؤاد كمين

أضرّ بهم إرث النبي فأصبحوا

يساهم فيه ميتة ومنون

دعتهم ذئاب من أميّة وانتحت

عليهم دراكاً أزمة وسنون

وعاثت بنو العباس في الدين عيثة

تحكّم فيه ظالم وظنين

وسمّوا رشيداً ليس فيهم لرشده

وها ذاك مأمون وذاك أمين

____________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٥٦٨ - ٥٧٠).

(٢) مقاتل الطالبيين (ص ٥٦٨).

٣٥٧

فما قبلت بالرشد منهم رعاية

ولا لولي بالإمامة دين

رشيدهم غاو، وطفلاه بعده

لهذا رزايا دون ذاك مجون

ألا أيّها القبر الغريب محلّه

بطوس عليك الساريات هتون

شككت فما أدري أمسقى شربة

فأبكيك أم ريب الردى فيهون

وأيهما ما قلت: إن قلت شربة

وإن قلت موت إنّه لقمين

أتعجب للأجلاف أن يتخيّفوا

معالم دين الله وهو مبين

لقد سبقت فيهم بفضلك آية

لدي ولكن ما هناك يقين(١)

وقال في رثاء الإمام:

ألا ما لعيني بالدموع استهلّتِ

ولو فقدت ماء الشؤون لقرّتِ

على مَن بكته الأرض واسترجعت له

رؤوس الجبال الشامخات وذلّتِ

وقد أعولت تبكي السماء لفقده

وأنجمها ناحت عليه وكلّتِ

رزينا رضي الله سبط نبينا

فأخلفت الدنيا له وتولّتِ

فنحن عليه اليوم أجدر بالبكا

لمرزئة عزّت علينا وجلّتِ

وما خير دنيا بعد آل محمّدٍ

ألا لا نباليها إذا ما اضمحلّتِ

تجلت مصيبات الزمان ولا أرى

مصيبتنا بالمصطفين تجلّتِ(٢)

وممّا قاله في رثاء الإمام:

يا حسرة تتردد

وعبرة ليس تنفد

على علي بن موسى

بن جعفر بن محمّد

قضى غريباً بطوس

مثل الحسام المجرّد

يا طوس طوباك قد

صرت لابن أحمد مشهد

ويا جفوني استهلّي

ويا فؤادي توقّد(٣)

ومن رثائه للإمام هذه المقطوعة:

لقد رحل ابن موسى بالمعالي

وسار بسيره العلم الشريفُ

وتابعه والدين طرّاً

كما يتتبع الألف الأليفُ

____________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٥٧١).

(٢) ديوان دعبل (ص ٩٩).

(٣) ديوان دعبل (ص ١٠١).

٣٥٨

فيا وفد الندى عودوا خفاف ال‍

حقائب لا تليد ولا طريفُ

وقد كنّا نؤمّل أن سيبقى

إمام هدى له رأي حصيفُ

ترى سكناته فتقول: عز

وتحت سكونه الفضل المنيفُ

له سمحاء تغدو كل يومٍ

بنائلة وسارية تطوفُ

فأهدى ريحه قدر المنايا

مزار دونه نأي قذوفُ

فقل للشامتين به رويداً

فما تبقي امرأ يمشي الحتوفُ

سررتم بافتقاد فتىً بكاه

رسول الله والدين الحنيفُ(١)

وقال في رثائه:

يا نكبة جاءت من الشرق

لم تتركن منّي ولم تبقِ

موت علي بن موسى الرضا

من سخط الله على الخلقِ

وأصبح الإسلام مستعبراً

لثلمة باينة الرتقِ

سقى الغريب المبتنى قبره

بأرض طوس مسبل الودقِ

أصبح عيني مانعاً للكرى

وأولع الأحشاء بالخفقِ(٢)

وحكى هذا الرثاء لوعة دعبل، وحزنه العميق على وفاة إمام المسلمين وسيد المتقين الإمام الرضاعليه‌السلام الذي ترك فقده ثلمة في الإسلام.

٣ - ابن المشيع المدني:

وممّن اكتوى بنار الحزن على فقد الإمامعليه‌السلام ابن المشيع المدني قال في رثاء الإمام:

يا بقعة بها سيدي

ما مثله في الناس من سيّدِ

مات الهدى من بعده والندى

وشمر الموت به يقتدي(٣)

لا زال غيث الله يا قبره

عليك منه رائحاً مغتدي

كان لنا غيثاً به نرتوي

وكان كالنجم به نهتدي

إنّ عليّ بن موسى الرضا

قد حلّ والسودد في ملحدِ

____________________

(١) ديوان دعبل (ص ١٠٨).

(٢) ديوان دعبل (ص ١٠٨ - ١٠٩).

(٣) قال المجلسي: في البحار: (وشمر الموت) لعلّ المعنى أنّ الموت شمر ذيلة وتهيأ لإماتة سائر الأخلاق الحسنة، أو الخلائق.

٣٥٩

يا عين فابكي بدمٍ بعده

على انقراض المجد والسودد(١)

٤ - الخوافي:

ومن الشعراء الذي رثوا الإمامعليه‌السلام علي بن أبي عبد الله الخوافي قال:

يا أرض طوس سقاك الله رحمته

ماذا حويت من الخيرات يا طوس

طابت بقاعك في الدنيا وطيبها

شخص ثوى بسناآباد مرموس(٢)

شخص عزيز على الإسلام مصرعه

في رحمة الله مغمور ومغموس

يا قبره أنت قبر قد تضمّنه

حلم وعلم وتطهير وتقديس

فخراً فإنّك مغبوط بجثّته

وبالملائكة الأبرار محروس(٣)

٥ - الضبي:

ومن جيّد ما رثى به الإمام هذه القصيدة للشاعر الضبي قال الشيخ الصدوق وجدتها في كتاب لمحمد بن حبيب الضبي، وأكبر الظن أنّها له كما أعلن ذلك في آخر القصيدة:

قبر بطوس به أقام إمامُ

حتم إليه زيارة ولمامُ

قبر أقام به السلام وإن غدا

تهدى إليه تحية وسلامُ

قبر سنا أنواره تجلو العمى

وبتربه قد تدفع الأسقامُ

قبر يمثّل للعيون محمد

ووصيه والمؤمنون قيامُ

خشع العيون لذا وذاك مهابة

في كنهها تتحيّر الأفهامُ

قبر إذا حلّ الوفود بربعه

رحلوا وحطت عنهم الآثامُ

وتزوّدوا أمن العقاب وأومنوا

من أن يحل عليهم الإعدام

الله عنه به لهم متقبل

وبذاك عنهم جفّت الأقلامُ

إن يغن عن سقي الغمام فإنّه

لولاه لم تسق البلاد غمامُ

قبر علي بن موسى حلّه

بثراه يزهو الحل والإحرامُ

فرض إليه السعي كالبيت الذي

من دونه حق له الإعظامُ

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٣ / ٢٥٠.

(٢) المرموس: المدفون.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٥١.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375