تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 486
المشاهدات: 73125
تحميل: 9203


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73125 / تحميل: 9203
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

حمدان على حلب، وأخرج منها أبا المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان، فسار أبو المعالي إلى حرّان، فمنعه أهلها من الدخول إليهم، فطلب منهم أن يأذنوا لأصحابه أن يدخلوا فيتزوّدوا منها يومين، فأذنوا لهم، ودخل إلى والدته بميّافارقين، وهي ابنة سعيد بن حمدان، وتفرّق عنه أكثر أصحابه ومضوا إلى أبي تغلب بن حمدان.

فلمّا وصل إلى والدته بلغها أنّ غلمانه وكتّابه قد عملوا على القبض عليها وحبْسها، وكما فعل أبو تغلب بأبيه ناصر الدولة، فأغلقت أبواب المدينة ومنعت ابنها من دخولها ثلاثة أيّام، حتّى أبعدت من تحبّ إبعاده، واستوثقت لنفسها، وأذنت له ولمن بقي معه في دخول البلد، وأطلقت لهم الأرزاق، وبقيت حرّان لا أمير عليها، ولكنّ الخطبة فيها لأبي المعالي بن سيف الدولة، وفيها جماعة من مقدّمي أهلها يحكمون فيها، ويصلحون من أُمور الناس.

ثمّ إنّ أبا المعالي عب الفرات إلى الشام، وقصد حماة فأقام بها)(١) .

(وفي هذه السنة (٢٥٨): سار أبو البركات بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكره إلى ميّارفارقين، فأغلقت زوجة سيف الدولة أبواب البلد في وجهه، ومنعته من دخوله، فأرسل إليها يقول: إنّني ما قصدتُ إلاّ الغزاة. ويطلب منها ما يستعين به، فاستقرّ بينها أن تحمل إليه مئتيْ ألف درهم، وتسلّم إليه قرايا كانت لسيف الدولة بالقرب من نصيبين.

ثمّ ظهر لها أنّه عمل سرّاً في دخول البلد، فأرسلت إلى مَن معه من غلمان سيف الدولة تقول لهم: ما من حق مولاكم أن تفعلوا بحُرَمه وأولاده هذا ؛ فنكلوا عن القتال والقصد لها، ثمّ جمعت رجّالةً وكبست أبا البركات ليلاً، فانهزم ونُهب سوادُه وعسكره، وقُتل جماعة من أصحابه وغلمانه، فراسلها: إنّني لم اقصد لسوء ؛ فردّت ردّاً جميلاً، وأعادت إليه بعض ما نُهب منه، وحملت إليه مئة ألف درهم، وأطلقت الأسرى، فعاد عنها.

وكان ابنها أبو المعالي بن سيف الدولة على حلب يقاتل قرغويه غلام أبيه)(٢) .

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٥٩٧ - ٥٩٨.

(٢) الكامل، م ٨ ص ٥٩٩ - ٦٠٠.

١٢١

(وفي حوادث سنة ٣٥٩)

(وفي هذه السنة: لمّا ملك الروم أنطاكية أنفذوا جيشاً كثيفاً إلى حلب، وكان أبو المعالي شريف بن سيف الدولة محاصراً لها، وبها قرغويه السيفيّ متغلّباً عليها. فلمّا سمع أبو المعالي خبرهم فارق حلب وقصد البرّيّة ليبعد عنهم، وحصروا البلد، وفيه قرغويه وأهل البلد قد تحصّنوا بالقلعة، فملك الروم المدينة، وحصروا القلعة، فخرج إليهم جماعةٌ مِن أهل حلب، وتوسّطوا بينهم وبين قرغويه، وتردّدت الرسل، فاستقرّ الأمر بينهم على هدنةٍ مؤبّدةٍ على مالٍ يحمله قرغويه إليهم، وأن يكون للروم إذا أرادوا الغزاة أن لا يمكّن قرغويه أهل القرايا من الجلاء عنها ليبتاع الروم ما يحتاجون إليه منها.

وكان مع حلب حماة وحمص وكفرطاب والمعرّة وأفامية وشيزر، وما بين ذلك من الحصون والقرايا، وسلّموا الرهائن إلى الروم، وعادوا عن حلب وتسلّمها المسلمون)(١) .

(وفي هذه السنة (٣٥٩): سار أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان إلى حرّان، فرأى أهلها قد أغلقوا أبوابها، وامتنعوا منه، فنازلهم وحصرهم، فرعى أصحابه زروع تلك الأعمال، وكان الغلاء في العسكر كثيراً، فبقي كذلك إلى ثالث عشر جمادى الآخرة، فخرج إليه نفران من أعيان أهلها ليلاً وصالحاه، وأخذا الأمان لأهل البلد وعادا.

فلمّا أصبحا أعلما أهل حرّان ما فعلاه، فاضطربوا، وحملوا السلاح وأرادوا قتلهما، فسكّنهم بعض أهلها، فكنوا، واتّفقوا على إتمام الصلح، ورجوا جميعهم إلى أبي تغلب، وفتحوا أبواب البلد ودخله أبو تغلب وإخوته وجماعةٌ مِن أصحابه، وصلّوا به الجمعة، وخرجوا إلى معسكرهم، واستعمل عليهم سلامة البرقعيديّ ؛ لأنّه طلبه أهله لحُسن سيرته، وكان إليه أيضاً عمل الرَّقّة، وهو من أكابر أصحاب بني حمدان، وعاد أبو تغلب إلى الموصل ومعه جماعة من أحداث حرّان، وسبب سرعة عوده أنّ بني نُمير عاثوا في بلد الموصل، وقتلوا العامل برقعيد، فعاد إليهم ليكفّهم)(٢) .

____________________

(١) م ٨ ص ٦٠٤.

(٢) الكامل، م ٨ ص ٦٠٨ - ٦٠٩.

١٢٢

(وفي هذه السنة (٣٥٩)، في ربيع الآخر: اصطلح قرغويه وأبو المعالي، وخُطب لأبي المعالي بحلب، وكان بحمص، وخطب هو وقرغويه في أعمالها للمعزّ لدين الله العلويّ صاحب المغرب ومصر)(١) .

(وفي حوادث سنة ٣٠٦)

(وفي هذه السنة: تزوّج أبو تغلب بن حمدان ابنة عزّ الدولة بختيار، وعمرها ثلاث سنين، على صداق مئة ألف دينار ؛ وكان الوكيل في قبول العقد أبا الحسن عليّ بن عمرو بن ميمون صاحب أبي تغلب بن حمدان)(٢) .

(وفي حوادث سنة ٣٦١)

(في هذه السنة، في المحرّم: أغار ملك الروم على الرُّها ونواحيها، وسار في ديار الجزيرة حتّى بلغوا نصيبين، فغنموا وسبوا وأحرقوا وخرّبوا البلاد، وفعلوا مثل ذلك بديار بكر، ولم يكن مِن أبي تغلب بن حمدان في ذلك حركة، ولا سعي في دفعه، لكنّه حمل إليه مالاً كفّه به عن نفسه.

فسار جماعةٌ من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين، وقاموا في الجوامع والمشاهد، واستنفروا المسلمين، وذكروا ما فعله الروم من النهب والقتل والأسر والسبي، فاستعظمه الناس، وخوّفهم أهل الجزيرة من انفتاح الطريق وطمع الروم، وأنّهم لا مانع له عندهم، فاجتمع معهم أهل بغداد، وقصدوا دار الخليفة الطائع لله، وأرادوا الهجوم عليه، فمُنعوا من ذلك، وأُغلقت الأبواب، فأُسمعوا ما يقبح ذكره.

وكان بختيار حينئذٍ يتصيّد بنواحي الكوفة، فخرج إليه وجوه أهل بغداد مستغيثين، منكرين عليه اشتغاله بالصيد، وقتال عمران بن شاهين وهو مسلم، وترك جهاد الروم، ومنعهم عن بلاد الإسلام حتّى توغّلوها، فوعدهم التجهّز للغزاة، وأرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجهّز للغزو وأن يستنفر العامّة، ففعل سبكتكين ذلك، فاجتمع من العامّة عددٌ كثير لا

____________________

(١) م ٨ ص ٦١١.

(٢) م ٨ ص ٦١٧.

١٢٣

يُحصون كثرة، وكتب بختيار إلى أبي تغلب بن حمدان، صاحب الموصل، يأمره بإعداد الميرة والعلوفات، ويعرّفه عزمه على الغزاة، فأجابه بإظهار الفرح، وإعداد ما طلب منه)(١) .

(وفي هذه السنة (٣٦١): أنفذ بختيار، بعد وقوع فتنة ببغداد، إلى المطيع لله يطلب منه مالاً يخرجه في الغزاة ؛ فقال المطيع:

إنّ الغزاة والنّفقة عليها، وغيرا من مصالح المسلمين، تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتُجبى إليّ الأموال، وأمّا إذا كانت حالي هذه فلا يلزمني شيءٌ مِن ذلك، وإنّما يلزم مَن البلاد في يده، وليس لي إلاّ الخطبة، فإن شئتم أن أعتزل فعلت.

وتردّدت الرسائل بينهما، حتّى بلغوا التّهديد، فبذل المطيع لله أربعمئة ألف درهم، فاحتاج إلى بيع ثيابه، وأنقاض داره، وغير ذلك، وشاع بين الناس من العراقيّين وحجّاج خراسان وغيرهم أنّ الخليفة قد صودر، فلمّا قبض بختيار المال صرفه في مصالحه، وبطل حديث الغزاة)(٢) .

وفي هذه السنة (٣٦١)، في شوّال: ملك أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين، سلّمها إليه نائب أخيه حمدان، فأخذ أبو تغلب كلّ ما كان لأخيه فيها من أهلٍ ومالٍ وأثاثٍ وسلاح، وحمل الجميع إلى الموصل)(٣) .

(وفي حوادث سنة ٣٦٢)

(وفي هذه السنة: كانت وقعة بين هبة الله بن ناصر الدولة بن حمدان وبين الدُّمُسْتُق بناحية ميّافارقين.

وكان سببها ما ذكرناه من غزو الدُّمستق بلاد الإسلام، ونهبه ديار ربيعة وديار بكر، فلمّا رأى الدُّمسق أنّه لا مانع له عن مراده قوي طمعه على أخذ آمد، فسار إليها، وبا هزارمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان،

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٦١٨ - ٦١٩.

(٢) الكامل، م ٨ ص ٦١٩ - ٦٢٠.

(٣) م ٨ ص ٦٢٦.

١٢٤

فكتب إلى أبي تغلب يستصرخه ويستنجده، ويعلمه الحال، فسيّر إليه أخاه أبا القاسم هبة الله بن ناصر الدولة، واجتمعا على حرب الدُّمستق، وسارا إليه فلقياه سلخ رمضان، وكان الدُّمستق في كثرة، لكن لقياه في مضيق لا تجول فيه الخيل، والروم على غير أُهبة، فانهزموا، وأخذ المسلمون الدُّمستق أسيراً، ولم يزل محبوساً، إلى أن مرض سنة ثلاث وستّين وثلاثمئة، فبالغ أبو تغلب في علاجه، وجمع الأطباء له، فلم ينفعه ذلك ومات)(١) .

(وفي هذه السنة في ذي الحجّة: أرسل عزُّ الدولة بختيار الشريف أبا أحمد الموسويّ، والد الرضي والمرتضى، في رسالةٍ إلى أبي تغلب بن حمدان بالموصل، فمضى إليه، وعاد في المحرّم سنة ثلاث وستّين وثلاثمئة)(٢) .

(وفي حوادث سنة ٣٦٣)

(وفي هذه السنة، في ربيع الأوّل: سار بختيار إلى الموصل ليستولي عليها وعلى أعمالها وما بيد أبي تغلب بن حمدان.

وكان سبب ذلك ما ذكرناه من مسير حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان وأخيه إبراهيم إلى بختيار، واستجارتهما به، وشكواهما إليه من أخيهما أبي تغلب، فوعدهما أن ينصرهما وخلّص أعمالهما وأموالهما منه، وينتقم لهما، واشتغل عن ذلك بما كان منه في البطيحة وغيرها، فلمّا فرغ من جميع أشغاله عاود حمدان وإبراهيم الحديث معه، وبذل له حمدان مالاً جزيلاً، وصغّر عنده أمر أخيه أبي تغلب، وطلب أن يضمِّنه بلاده ليكون في طاعته، ويحمل إليه الأموال ويقيم له الخطبة.

ثمّ إن الوزير أبا الفضل حسّن ذلك، وأشار به ظنّاً منه أنَّ الأموال تكثر عليه فتمشي الأُمور بين يديه، ثمّ إنّ إبراهيم بن ناصر الدولة هرب من عند بختيار، وعاد إلى أخيه أبي تغلب، فقوي عزم بختيار على قصد الموصل أيضاً، ثمّ عزل أبا الفضل الوزير واستوزر ابن بقيّة، فكاتبه أبو

____________________

(١) م ٨ ص ٦٢٧.

(٢) م ٨ ص ٦٣٠.

١٢٥

تغلب، فقصر في خطابه، فأغرى به بختيار، وحمله على قصده. فسار عن بغداد، ووصل إلى الموصل تاسع عشر ربيع الآخر ونزل بالدير الأعلى.

وكان أبو تغلب بن حمدان قد سار عن الموصل لما قرب منه بختيار، وقصد سِنجار، وكَسر العروب، وأخلى الموصل من كلّ ميرة، وكاتب الديوان، ثمّ سار من سِنجار يطلب بغداد، ولم يعرض إلى أحد من سوادها بل كان هو وأصحابه يشترون الأشياء بأوفى الأثمان.

فلمّا سمع بختيار بذلك أعاد وزيره ابن بقيّة، والحاجب سبكتكين إلى بغداد، فأمّا ابن بقيّة فدخل إلى بغداد، وأمّا سبكتكين فأقام بحربى، وكان أبو تغلب قد قارب بغداد، فثار العيّارون بها، وأهل الشرّ بالجانب الغربيّ، ووقعت فتنة بين السنّة والشّيعة)(١) .

وكان الجانب الشرقيّ آمناً، والجانب الغربيّ مفتوناً، فأُخذ جماعة من رؤساء العيّارين وقُتلوا، فسكن الناس بعض السّكون.

وأمّا أبو تغلب فإنّه لمّا بلغه دخول ابن بقيّة بغداد، ونزول سبكتكين الحاجب بحربى، عاد عن بغداد، ونزل بالقرب منه، وجرى بينها مطاردة يسيرة، ثمّ اتّفقا في السرّ على أن يُظهرا الاختلاف إلى أن يتمكّنا من القبض على الخليفة والوزير ووالدة بختيار وأهله، فإذا فعلوا ذلك انتقل سبكتكين إلى بغداد، وعاد أبو تغلب إلى الموصل، فيبلغ من بختيار ما أراد، ويملك دولته.

ثمّ إنّ سبكتكين خاف سوء الأحدوثة، فتوقّف وسار الوزر ابن بقيّة إلى سبكتكين، فاجتمع به، وانفسخ ما كان بينهما وتراسلوا في الصلح على أنّ أبا تغلب يضمن البلاد على ما كانت معه، وعلى أن يطلق لبختيار ثلاثة آلاف كرّ غلّة عوضاً عن مؤونة سفره، وعلى أن يردّ على أخيه حمدان أملاكه وأقطاعه، إلاّ ماردين.

ولمّا اصطلحوا أرسلوا إلى بختيار بذلك ليرحل عن الموصل، وعاد أبو تغلب إليها، ودخل سبكتكين بغداد، وأسلم بختيار. فلمّا سمع بختيار بقرب أبي تغلب منه خافه ؛ لأنّ عسكره كان قد عاد أكثره مع سبكتكين، وطلب الوزير ابن بقيّة من سبكتكين أن يسير نحو بختيار، فتثاقل، ثم فكّر

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٦٣١ - ٦٣٢.

١٢٦

في العواقب، فسار على مضض، وكان أظهر للناس ما كان همّ به.

وأمّا بختيار، فإنّه جمع أصحابه وهو بالدير الأعلى، ونزل أبو تغلب بالحصباء تحت الموصل، وبينهما عرض البلد، وتعصّب أهل الموصل لأبي تغلب، وأظهروا محبّته لما نالهم مِن بختيار من المصادرات وأخذ الأموال، ودخل الناس بينهما في الصلح، فطلب أبو تغلب من بختيار أن يلقّب لقباً سلطانيّاً وأن يسلّم إليه زوجته ابنة بختيار، وأن يحطّ عنه من ذلك القرار. فأجابه بختيار خوفاً منه، وتحالفا، وسار بختيار عن الموصل عائداً إلى بغداد، فأظهر أهل الموصل السرور برحيله ؛ لأنّه كان قد أساء معهم السيرة وظلمهم.

فلمّا وصل بختيار إلى الكُحَيْل بلغه أنّ أبا تغلب قد قتل قوماً كانوا من أصحابه، وقد استأمنوا إلى بختيار، فعادوا إلى الموصل ليأخذوا ما لهم بها مِن أهلٍ ومالٍ فقتلهم.

فلمّا بلغه ذلك اشتدّ عليه، وأقام بمكانه، وأرسل إلى الوزير أبي طاهر بن بقيّة والحاجب سبكتكين يأمرهما بالإصعاد إلي، وكان قد أرسل إليهما يأمرهما، بالتوقّف، ويقول لهما إنّ الصلح قد استقرّ، فلمّا أرسل إليهما يطلبهما أصعدا إليه في العساكر، فعادوا جميعهم إلى الموصل، ونزلوا بالدير الأعلى أواخر جمادى الآخرة، وفارقها أبو تغلب إلى تلّ (يَعْفَر)، وعزم عزُّ الدولة على قصده وطلبه أينَ سلَك، فأرسل أبو تغلب كاتبه وصاحبه أبا الحسن عليّ بن أبي عمرو إلى عزّ الدولة فاعتقله، واعتقل معه أبا الحسن ابن عرس، وأبا أحمد بن حوقل.

وما زالت المراسلات بينهما، وحلف أبو تغلب أنّه لم يعلم بقتل أولئك، فعاد الصلح واستقرّ، وحمل إليه ما استقرّ من المال، فأرسل عزُّ الدولة الشريفَ أبا أحمد الموسويّ، والقاضي أبا بكر محمّد بن عبد الرحمان، فحلَّفا أبا تغلب، وتجدّد الصلح، وانحدر عزُّ الدولة عن الموصل سابع عشر رجب، وعاد أبو تغلب إلى بلده.

ولمّا عاد بختيار عن الموصل جهّز ابنته وسيّرها إلى أبي تغلب، وبقيت معه إلى أن أُخذت منه، ولم يُعرف لها بعد ذلك خبر)(١) .

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٦٣٢ - ٦٣٣ - ٦٣٤.

١٢٧

(ولمّا كانت الإدارة في ذلك العهد مختلّة معتلّة، والولاة وطلاّب الإمرة والسلطان منصرفين إلى تغلّب كلّ منهم على الآخر، بكلّ وسائل التغلّب، ومنها الاستظهار بالجند، الذي كاد يكون من الأتراك والديلم.

وكان مَنْ هو أبصر بطرق جمع الأموال - والمال كلّ شيء - هو القابض على زمام شؤون الدولة، وعلى ناصية الخليفة العباسي الاسمي.

وبغداد هي النقطة المركزيّة التي تتلاقى عندها قوّة الطّامعين بالاستيلاء على زمام السلطة، فإذا قلّ مال المتسلّط شغب عليه الجند، وإذا شدّد في تحصيل الأموال من الولاة الإقطاعيين ثاروا به، وكأنما هو في سلطانه غير المستقرّ بين عدوّين داخليّ وخارجيّ.

وقد انتهى أمر بختيار، وقد قلّ عنده المال، أن استظهر عليه حاجبه سبكتكين بجند الأتراك، ووقعت الفتنة بين الأتراك والديلم بالأهواز، ثمّ عمّ العراق واشتدّت، وكان سببها قلّة المال عند بختيار، وكثرة إدلال جنده عليه وما إلى ذلك من الأُمور، وقد تعذّر عليه المال الذي يرضي جنده الكثيف، وقد رأى سبكتكين الفرصة سانحة، فاستعان بجنده من قومه الترك، وبالشغب بين السنّة والشيعة، وله من عصبيّة إحدى الفرقتين ما يشدّ أزره، فكان من الأمور أن حصر الأتراك دار بختيار، وفيها والدته، ثمّ أحرقوا الدار وصادروا كلَّ ما فيها.

فعظم ذلك عليه وضعفت قوّته تجاه قوّة خصمه سبكتكين، وكانت والدة بختيار، بعد محاصرتها وإحراق دار ولدها ومصادرة ما فيها، طلبت إلى سبكتكين أن يأذن لها بالذهاب إلى واسط، فأذن لها.

(ثمّ إنّ بختيار سار إلى والدته وإخوته بواسط، وكتب إلى عمّه ركن الدولة وإلى ابن عمّه عضد الدولة يستنجدهما، وكتب إلى أبي تغلب بن حمدان يطلب منه أن يساعده بنفسه، وأنّه إذا فعل ذلك أسقط عنه المال الذي عليه، وأرسل إلى عمران بن شاهين بالبطيحة خِلعاً، وأسقط عنه باقي المال الذي اصطلحا عليه، وخطب إليه إحدى بناته، وطلب منه أن يسيّر إليه عسكراً)(١) .

(وأمّا أبو تغلب بن حمدان فإنّه أجاب إلى المسارعة، وأنفذ أخاه أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان إلى تكريت في عسكر، وانتظر انحدار الأتراك عن بغداد، فإن ظفروا ببختيار دخل بغداد مالكاً لها، فلمّا

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٦٤٣ - ٦٤٤.

١٢٨

انحدر الأتراك عن بغداد سار أبو تغلب إليها ليوجب على بختيار الحجّة في إسقاط المال الذي عليه، ووصل إلى بغداد والناس في بلاءٍ عظيمٍ مع العيّارين، فحمى البلد، وكفَّ أهل الفساد)(١) .

ثمّ اشتدّت الحال، (ولم تزل الحرب بين الأتراك وبختيار متّصلة، والظّفر للأتراك في كلّ ذلك، وحصروا بختيار، واشتدّ عليه الحصار، وأحدقوا به، وصار خائفاً يترقّب، وتابع إنفاذ الرّسل إلى عضد الدولة بالحثّ والإسراع إليه)(٢) .

وجرى من الأُمور ما ليس هذا مكانه، وتراه مبسوطاً في أخبار دولة بني بويه من هذا الكتاب إن شاء الله.

(وفي حوادث سنة ٣٦٤)

(وفي هذه السنة: وصل عضد الدولة واستولى على العراق، وقبض على بختيار ثمّ عاد فأخرجه)(٣) لسبب لا حاجة لنا بذكره، وليس هذا موضعه.

(فلمّا سمع (الفتكين) بخبر وصول (عضد الدولة)، رجع إلى بغداد، وعزم على أن يجعلها وراء ظطهره، ويقاتل على دَيَالَى)(٤) .

(ولمّا بلغ الخبر إلى أبي تغلب بقرب الفتكين منه عاد عن بغداد إلى الموصل ؛ لأنّ أصحابه شغبوا عليه، فلم يمكنه المقام، ووصل الفتكين إلى بغداد، فحصل محصوراً من جميع جهاته، وذلك أنّ بختيار كتب إلى (ضبّة) بن محمد الأسديّ، وهو مِن أهل عين التّمر، فأمره بالإغارة على أطراف بغداد، ويقطع الميرة عنها، وكتب بمثل ذلك إلى بني شيبان.

وكان أبو تغلب بن حمدان من ناحية الموصل منع الميرة وينفذ سراياه، فغلا السعر ببغداد)(٥) .

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٦٤٥.

(٢) م ٨ ص ٦٤٥.

(٣) م ٨ ص ٦٤٨.

(٤) م ٨ ص ٦٤٨.

(٥) الكامل، م ٨ ص ٦٤٨ - ٦٤٩.

١٢٩

وانتهى الأمر بانكسار الفتكين والأتراك.

ثمّ انتهى الأمر بعد ذلك إلى أن وقع الخلاف بين عضد الدولة وبختيار، وكانت بينهم حروب ووقائع ستراها في أخبار بني بويه، فلا نتعرّض لها هنا إلاّ ما له علاقة بأخبار بني حمدان.

(وفي حوادث سنة ٣٦٦)

(وفي هذه السنة: عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان إلى ملك حلب)(١) ؛ وذلك بعد أن قبض بكجور مولى سيف الدولة على قرغويه، وسجنه بقلعة حلب، (فكتب مَن بحلب مِن أصحاب قرغويه إلى أبي المعالي بن سيف الدولة ليقصد حلب ويملكها، فسار إليها وحصرها أربعة أشهر، وملكها)(٢) .

ثم سلّمه بكجور القلعة بعد حصار وعلى شروط.

(وفي حوادث سنة ٣٦٧)

(في هذه السنة: سار عضد الدولة إلى بغداد، وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته، وأن يسير عن العراق إلى أيّ جهةٍ أراد، وضمن مساعدته بما يحتاج إليه من مالٍ وسلاحٍ وغير ذلك)(٣) .

وأجابه إلى ما طلب عضدُ الدولة بعد اختلافٍ في الرأي بينه وبين أصحابه.

(ثمّ سار بُختيار عن بغداد عازماً على قصد الشام، ومعه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان، فلمّا صار بختيار بعُكبرا حسّن له حمدان قصد الموصل، وأطمعه فيها، وقال إنّها خير من الشام وأسهل.

فسار بختيار نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلّفه أنّه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان ؛ لمودّةٍ ومكاتبةٍ كانت بينهما، فنكث وقصدها،

____________________

(١) م ٨ ص ٦٨٢.

(٢) م ٨ ص ٦٨٣.

(٣) م ٨ ص ٦٨٩.

١٣٠

فلمّا صار إلى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان ويسلّمه إليه، وإذا فعل سار بنفسه وعساكره إليه، وقاتل معه عضد الدولة، وأعاده إلى ملكه بغداد، فقبض بختيار على حمدان وسلّمه إلى نوّاب أبي تغلب، فحبسه في قلعةٍ له، وسار بختيار إلى المدينة، واجتمع مع أبي تغلب، وسارا جميعاً نحو العراق، وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل.

وبلغ ذلك عضد الدولة، فسار عن بغداد نحوهما، فالتقوا بقصر الجصّ بنواحي تكريت، ثامن عشر شوّال، فهزمهما، وأُسر بختيار، وأُحضر عند عضد الدولة، فلم يأذن بإدخاله إليه، وأمر بقتله فقُتل)(١) .

(لمّا انهزم أبو تغلب وبختيار سار عضد الدولة نحو الموصل، فملكها ثاني عشر ذي القعدة، وما يتّصل بها، وظنّ أبو تغلب أنّه يفعل كما كان غيره يفعل، يقيم يسيراً، ثمّ يضطرّ إلى المصالحة، ويعود.

وكان عضد الدولة أحزم مِن ذلك، فإنّه لمّا قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات، ومَن يعرف ولاية الموصل وأعمالها، وأقام بالموصل مطمئنّاً، وبثّ السرايا في طلب أبي تغلب، فأرسل أبو تغلب يطلب أن يضمن البلاد، فلم يجبه عضد الدولة إلى ذلك، وقال: هذه البلاد أحبُّ إليّ من العراق.

وكان مع أبي تغلب المرزبان بن بختيار، وأبو إسحاق وأبو طاهر ابنا معزّ الدولة، ووالدتهما وهي أم بختيار، وأسبابهم، فسار أبو تغلب إلى نصيبين، فسيّر عضد الدولة سريّة عليها حاجبه أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر، وسيّر في طلب أبي تغلب سريّة، واستعمل عليها أبا الوفاء طاهر بن محمّد، على طريق سنجار، فسار أبو تغلب مجدّاً، فبلغ ميّافارقين، وأقام بها ومعه أهله، فلمّا بلغه مسير أبي الوفاء إليه سار نحو بدليس ومعه النساء وغيرهنّ من أهله، ووصل أبو الوفاء إلى ميّافارقين، فأُغلقت دونه، وهي حصينة منيعة من حصون الروم القديمة، وتركها وطلب أبا تغلب.

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٦٩١.

١٣١

وكان أبو تغلب قد عدل عن أرزن الروم إلى الحسنيّة من أعمال الجزيرة، وصعد إلى قلعة كَواشَى وغيرها من قلاعه، وأخذ ما له فيها من الأموال، وعاد أبو الوفاء إلى ميّافارقين وحصرها.

ولمّا اتّصل بعضد الدولة مجيء أبي تغلب إلى قلاعه سار إليه بنفسه، فلم يدركه، ولكنّه استأمن إليه أكثر أصحابه، وعاد إلى الموصل، وسيّر في أثر أبي تغلب عسكراً مع قائدٍ من أصحابه يُقال له طغان، فتعسّف أبو تغلب إلى بدليس، وظنّ أنّه لا يتبعه أحد، فتبعه طغان، فهرب من بدليس وقصد بلاد الروم ليتّصل بملكهم المعروف بورد الروميّ، وليس من بيت الملك، وإنّما تملّك عليهم قهراً، واختلف الروم عليه، ونصبوا غيره من أولاد ملوكهم، فطالت الحرب بينهم، فصاهر ورد هذا أبا تغلب ليتقوّى به، فقدّر أنّ أبا تغلب احتاج إلى الاعتضاد به.

ولمّا سار أبو تغلب من بدليس أدركه عسكر عضد الدولة، وهم حريصون على أخذ ما معه من المال، فإنّهم كانوا قد سمعوا بكثرته، فلمّا وقعوا عليه نادى أميرهم: لا تتعرّضوا لهذا المال، فهو لعضد الدولة ؛ ففتروا عن القتال.

فلمّا رآهم أبو تغلب فاترين حمل عليهم فانهزموا، فقتل منهم مقتلةً عظيمةً ونجا منهم، فنزل بحصن زياد، ويُعرف الآن بخرت برت، وأرسل ورد المذكور فعرّفه ما هو بصدده من اجتماع الروم عليه، واستمدّه، وقال: إذا فرغتُ عُدتُ إليك. فسيّر إليه أبو تغلب طائفةً من عسكره، فاتّفق أنّ ورداً انهزم، فلمّا علم أبو تغلب ذلك يئس من نصر، وعاد إلى بلاد الإسلام، فنزل بآمِد، وأقام بها شرين إلى أن فُتحت ميّافارقين)(١) .

(وفي حوادث سنة ٣٦٨)

(في هذه السنة: لمّا عاد أبو الوفاء من طلب أبي تغلب نازل ميّافارقين، وكان الوالي عليها (هزار مرد)، فضبط البلد، وبالغ في قتال أبي الوفاء ثلاثة أشهر، ثمّ مات هزارمرد، فكوتب أبو تغلب بذلك، فأمر أن يقام مقامه غلام من الحمدانية اسمه مؤنس فوليَ البلد، ولم يكن لأبي

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٦٩٢ - ٦٩٣.

١٣٢

الوفاء فيه حيلة، فعدل عنه، وراسل رجلاً من أعيان البلد اسمه أحمد بن عبيد الله، واستماله فأجابه، وشرع في استمالة الرعيّة إلى أبي الوفاء، فأجابوه إلى ذلك، وعظم أمره، وأرسل إلى مؤنس يطلب منه المفاتح، فلم يمكنه منعه لكثرة أتباعه، فأنفذها إليه، وسأله أن يطلب له الأمان، فأرسل أحمد بن عبيد الله إلى أبي الوفاء في ذلك فأمّنه، وأمّن سائر أهل البلد، ففتح له البلد وسلّمه إليه.

وكان أبو الوفاء مدّة مقامه على ميّافارقين قد بثّ سراياه في تلك الحصون المجاورة لها، فافتتحها جميعها، فلمّا سمع أبو تغلب بذلك سار عن آمد نحو الرّحبة، هو وأخته جميلة، وأمر بعض أهله بالاستئمان إلى أبي الوفاء، ففعلوا، ثمّ إنّ أبا الوفاء سار إلى آمد فحصرها، فلمّا رأى أهلها ذلك سلكوا مسلك أهل ميّافارقين، فسلّموا البلد بالأمان، فاستولى أبو الوفاء على سائر ديار بكر، وقصده أصحاب أبي تغلب وأهله مستأمنين إليه، فأمّنهم وأحسن إليهم، وعاد إلى الموصل.

وأمّا أبو تغلب فإنّه لمّا قصد الرحبة أنفذ رسولاً إلى عضد الدولة يستعطفه، ويسأله الصفح، فأحسن جواب الرسل، وبذل له إقطاعاً يرضيه، على أن يطأ بساطه، فلم يجبه أبو تغلب إلى ذلك، وسار إلى الشام، إلى العزيز بالله صاحب مصر)(١) .

فتح ديار مضر على يد عضد الدولة:

(كان متولّي ديار مُضر لأبي تغلب بن حمدان سلامة البرقعيديّ، فأنفذ في هذه السنة (٣٦٨) إليه سعد الدولة من حلب جيشاً، فجرت بينهم حروب، وكان سعد الدولة قد كاتب عضد الدولة، وعرض نفسه عليه، فأنفذ عضد الدولة النقيب أبا حمد، والد الرضي، إلى البلاد التي بيد سلامة، فتسلّمها بعد حربٍ شديدة، ودخل أهلها في الطاعة، فأخذ عضد الدولة لنفسه الرَّقّة حسب، وردّ باقيها إلى سعد الدولة فصارت له.

____________________

(١) م ٨ ص ٦٩٥ - ٦٩٦.

١٣٣

ثمّ استولى عضد الدولة على الرحبة، وتفرّغ بد ذلك لفتح قلاعه وحصونه، وهي قلعة كَواشَى، وكانت فيها خزائنه وأمواله، وقلعة هَرور والمَلاسي وبُرقَى والشِّعبانيّ وغيرها من الحصون، فلمّا استولى على جميع أعمال أبي تغلب استخلف أبا الوفاء على الموصل، وعاد إلى بغداد في سلخ ذي القعدة، ولقيه الطائع لله، وجمع من الجند وغيرهم)(١) .

وفي هذه السنة (٣٦٨): بعد أن غلب عضد الدولة على بلاد أبي تغلب، وانهزم إلى بلاد الشام، وصل إلى دمشق، وكان واليها للعزيز بالله العلويّ قسام، فمنعه من دخولها وخافه على البلد أن يتولاّه، وجرى بينه وبين أصحاب قسام شيءٌ من قتال، ثمّ رحل أبو تغلب إلى طبرية، ومنها إلى بعض أنحاء فلسطين، وانتهى الأمر بمقتله سنة ٣٦٩.

ما في الجزء التاسع من كامل ابن الأثيرمن أخبار بني حمدان

(وفي حوادث سنة ٣٧٢): ذكر ولاية بكجور دمشق

(وفي هذه السنة: وقعت وحشةٌ بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة وبين بكجور، فأرسل إليه سعد الدولة بأن يفارق بلده (حمص) - التي كان عاملاً له فيها، وكان قد عمّرها - فأرسل بكجور إلى العزيز بالله يطلب نجاز ما وعده من إمارة دمشق)(٢) ، وقد أُجيب إلى طلبه.

(وفي حوادث سنة ٢٧٤): ذكر عود الديلم إلى الموصل وانهزام (باذ)

(وفي هذه السنة: لمّا استولى باذ الكردي على الموصل اهتمّ صمصام الدولة ووزير ابن سعدان بأمره، فوقع الاختيار على إنفاذ (زيار بن شهراكويه)، وهو أكبر قوّادهم، فأمره بالمسير إلى قتاله، وجهّزه وبالَغ في أمره، وأكثر معه الرجال والعُدَد والأموال، وسار إلى (باذ) فخرج إليهم، ولقيهم في صفر من هذه السنة، فأجلت الوقعة عن هزيمة باذ وأصحابه وأُسر كثيرٌ من عسكره وأهله، وحُملوا إلى بغداد فشُهِّروا بها، وملك الديلم الموصل.

____________________

(١) الكامل، م ٨ ص ٦٩٦ - ٦٩٧.

(٢) الكامل، م ٩ ص ١٧.

١٣٤

وأرسل (زيار) عسكراً مع سعد الحاجب في طلب باذ، فسلكوا على جزيرة ابن عمر، وأرسل عسكراً آخر إلى نصيبين، فاختلفوا على مقدّميهم، فلم يطاوعوهم على المسير إليه، وكان باذ بديار بكر قد جمع خلقاً كثيراً، فكتب وزير صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، وبذل له تسليم ديار بكر إليه، فسيّر إليها جيشاً، فلم يكن لهم قوّة بأصحاب باذ، فعادوا إلى حلب، وكانوا قد حصروا ميّافارقين، فلمّا شاهد سعد ذلك من عسكره أعمل الحيلة في قتل باذ، فوضع رجلاً على ذلك، فدخل الرجل خيمة باذ ليلاً، وضربه بالسيف، وهو يظن أنّه يضرب رأسه، فوقعت الضربة على ساقه، فصاح، وهرب ذلك الرجل، فمرض باذ من تلك الضربة، وأشفى على الموت، وكان قد جمع معه من الرجال خلقاً كثيراً، فراسل زياراً وسعداً يطلب الصلح، فاستقرّ الحال بينهم، واصطلحوا على أن تكون ديار بكر لباذ، والنصف من (طور عبدين) أيضاً، وانحدر زيار إلى بغداد، وأقام سعد بالموصل)(١) .

(وفي حوادث سنة ٣٧٩):

ذكر عود بني حمدان إلى الموصل

(وفي هذه السنة: ملك أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان الموصل.

وسبب ذلك: أنّهما كانا في خدمة شرف الدولة في بغداد، فلمّا توفّي وملك بهاء الدولة استأذنا في الإصعاد إلى الموصل، فأذن لهما، فأصعدا، ثمّ علم القوّاد الغلط في ذلك، فكتب بهاء الدولة إلى (خواشاذه)، وهو يتولّى الموصل، يأمره بدفعهما عنها، فأرسل إليهما خواشاذه يأمرهما بالعود عنه، فأعادا جواباً جميلاً، وجدّا في السير حتّى نزلا بالدير الأعلى بظاهر الموصل.

وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك، فنهبوهم، وخرجوا إلى بني حمدان، وخرج الديلم إلى قتالهم، فهزمهم المواصلة وبنو حمدان، وقُتل منهم خلق كثير، واعتصم الباقون بدار الإمارة، وعزم أهل الموصل على قتلهم والاستراحة منهم، فمنعهم بنو حمدان عن ذلك، وسيّروا خواشاذه

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٣٨ - ٣٩.

١٣٥

ومَن معه إلى بغداد، وأقاموا بالموصل، وكثر العرب عندهم)(١) .

(وفي حوادث سنة ٣٨٠): ذكر قتل باذ

(في هذه السنة: قُتل باذ الكرديُّ، صاحب ديار بكر.

وكان سبب قتله أنّ طاهر والحسين ابْنَي حمدان لمّا ملكا الموصل طمع فيها باذ، وجمع الأكراد فأكثر، وممّن أطاعه الأكراد البشنويّة أصحاب قلعة (فَنك) وكانوا كثيراً، ففي ذلك قول الحسين البشنويّ الشاعر لبني مروان يعتدُّ عليهم بنجدتهم خالهم باذاً من قصيدة:

الـبَـشْنَويّةُ أنـصـارٌ لـدولتِكم وليس في ذا خفا في العُجم والعربِ

أنـصارُ بـاذٍ بـأرجيشٍ وشيعته بظاهر الموصِل الحدباء في العطبِ

بـبـاجُلايا جـلونا عـنه غُـمَّتَهُ ونـحن في الروع جلاّؤون للكُرَبِ

وكاتب أهل الموصل فاستمالهم، فأجابه بعضهم فسار إليهم، ونزل بالجانب الشرقيّ، فضعُفا عنه، وراسلا أبا الذوّاد محمّد بن المسيّب، أمير بني عُقَيْل، واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر ونصيبين و(بلداً) وغير ذلك، فأجاباه إلى ما طلب، واتّفقوا، وسار إليه أبو عبد الله بن حمدان وأقام أبو طاهر بالموصل يحارب باذاً.

فلمّا اجتمع أبو عبد الله وأبو الذوّاد سارا إلى (بلد)، وعبرا دجلة، وصارا مع باذ على أرضٍ واحدةٍ وهو لا يعلم، فأتاه الخبر بعبورهما وقد قارباه، فأراد الانتقال إلى الجبل لئلاّ يأتيه هؤلاء من خلفه وأبو طاهر من أمامه، فاختلط أصحابه، وأدركه الحمدانيّة، فناوشوهم القتال، وأراد باذ الانتقال من فرسٍ إلى آخر، فسقط واندقّت تَرقُوَته، فأتاه ابن أخته أبو علي ابن مروان، وأراده على الركوب فلم يقدر، فتركوه وانصرفوا واحتموا بالجبل.

ووقع باذ بين القتلى فعرفه بعض العرب فقتله وحمل رأسه إلى بني حمدان وأخذ جائزةً سَنيّة، وصُلبت جثّته على دار الإمارة، فثار العامّة، وقالوا: رجل غازٍ، ولا يحلّ فعل هذا به ؛ وظهر منهم محبّة كثيرة له،

____________________

(١) م ٩ ص ٦٦ - ٦٧.

١٣٦

وأنزلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه)(١) .

ذكر ابتداء دولة بني مروان:

(وفي هذه السنة (٣٨٠): لمّا قُتل باذ، سار ابن أخته أبو عليّ بن مروان في طائفةٍ من الجيش إلى حصن كيفا، وهو على دجلة، وهو من أحصن المعاقل، وكان به امرأة باذ وأهله، فلمّا بلغ الحصن قال لزوجة خاله: أنفذني خالي إليك في مهمّ، فظنّته حقّاً، فلمّا صعد إليها أعلمها بهلاكه، وأطمعها في التزوّج بها، فوافقته على ملك الحصن وغيره، ونزل وقصد حصناً حصناً، حتّى ملك ما كان لخاله، وسار إلى ميّافارقين ؛ وسار إليه أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان طمعاً فيه، ومعهما رأس باذ، فوجدا أبا عليّ قد أحكم أمره، فتصافّوا واقتتلوا، وظفر أبو عليّ وأسر أبا عبد الله بن حمدان ؛ فأكرمه وأحسن إليه، ثمّ أطلقه فسار إلى أخيه أبي طاهر، وهو بآمد يحصرها، فأشار عليه بمصالحة ابن مروان، فلم يفعل، واضطرّ أبو عبد الله إلى موافقته، وسارا إلى ابن مروان فواقعاه، فهزمهما، وأسر أبا عبد الله أيضاً فأساء إليه وضيّق عليه، إلى أن كاتبه صاحب مصر وشفع فيه فأطلقه، ومضى إلى مصر وتقلّد منها ولاية حلب، وأقام بتلك الديار إلى أن توفّي.

وأمّا أبو طاهر فإنّه لمّا وصل إلى نصيبين قصده أبو الذوّاد فأسره وعليّاً ابنه، والمُزعفَر أمير بني نمير، وقتلهم صبراً.

وأقام ابن مروان بديار بكر وضبطها، وأحسن إلى أهلها)(٢)

وكان قد تزوّج (ستّ الناس) بنت سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فأتته مِن حلب، فعزم على زفافها بآمد)(٣) ، وتآمر عليه أهلها وقتلوه.

ذكر ملك آل المسيّب الموصل:

(وفي هذه السنة (٣٨٠): لمّا انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي عليّ

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٧٠ - ٧١.

(٢) الكامل، م ٩ ص ٧١ - ٧٢.

(٣) م ٩ ص ٧٢.

١٣٧

ابن مروان، سار إلى نصيبين في قلّةٍ من أصحابه، وكانوا قد تفرّقوا، فطمع فيه أبو الذوّاد محمّد بن المسيّب، أمير بني عُقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذٍ، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدّة من قوّادهم وقتلهم، وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها)(١) .

وفي هذه السنة (٣٨٠): لمّا مرض أبو الفرج يعقوب بن كلّس وزير العزيز صاحب مصر، (عاده العزيز وقال: وددتُ أنّك تُباع فأبتاعك بملكي، فهل من حاجة توصي بها؟... فبكى، وقبّل يده، ووضعها على عينه، وقال:

أمّا فيما يخصّني فإنّك أرعى لحقّي من أن أوصّيك بمخلّفي، ولكن فيما يتعلّق بدولتك: سالِم الحمدانيّة ما سالموك، واقنع منهم بالدّعَة، وإن ظفرتَ بالمفرّج فلا تُبقِ عليه)(٢) .

(وفي حوادث سنة ٣٨١)

عصيان بكجور على سعد الدولة بن حمدان وقتله

لمّا أخرج سعد الدولة بكجور من حمص، استنجز بكجور العزيز وعده له بولاية دمشق، فولاّه إيّاها، ولكنّه سرى فيها بالظلم والعسف، فمقتوه وأُخرج منها.

وسار منها (إلى الرَّقّة منهزماً من عساكر مصر، واستولى على الرّحبة وما يجاور الرَّقّة، راسل الملكَ بهاء الدولة بن بويه بالانضمام إليه، وكاتب أيضاً باذ الكرديّ المتغلّب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه، وراسل سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، صاحب حلب، بأن يعود إلى طاعته على قاعدته الأولى، ويقطعه منه مدينة حمص كما كانت له، فليس فيهم مَن أجابه إلى شيءٍ ممّا طلب، فبقي في الرَّقّة يراسل جماعةً رفقاء من مماليك سعد الدولة، ويستميلهم، فأجابوه إلى الموافقة على قصد بلد سعد الدولة، وأخبروه أنّه مشغول بلذّاته وشهواته عن تدبير الملك ؛ فأرسل حينئذٍ بكجور إلى العزيز بالله، صاحب مصر، يطمعه في حلب، ويقول له إنّها دهليز العراق، ومتى أُخذت كان ما بعدها

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٧٥.

(٢) م ٩ ص ٧٧.

١٣٨

أسهل منها، ويطلب الإنجاد بالعساكر. فأجابه العزيز إلى ذلك وأرسل إلى نزّال والي طرابلس، وإلى وُلاة غيرها من البلاد الشاميّة يأمرهم بتجهيز العساكر مع نزّال إلى بكجور، والتصرّف على ما يأمرهم به من قتال سعد الولة وقصد بلاده.

وكتب عيسى بن نسطورس النصرانيّ وزير العزيز إلى نزّال يأمره بمدافعة بكجور، وإطماعه في المسير إليه، فإذا تورّط في قصد سعد الدولة تخلّى عنه.

وكان السبب في فعل عيسى هذا ببكجور أنّه كان بينه وبين بكجور عداوة مستحكمة، ووليَ الوزارة بعد وفاة ابن كلّس، فكتب إلى نزّال ما ذكرناه.

فلمّا وصل أمرُ العزيز إلى نزّال بإنجاد بكجور ؛ كتب إليه يعرّفه ما أُمر به من نجدته بنفسه وبالعساكر معه، وقال له بكجور: مسيرك عن الرَّقّة يوم كذا، ومسيري أنا عن طرابلس يوم كذا، ويكون اجتماعنا على حلب يوم كذا ؛ وتابع رسله إليه بذلك، فسار مغترّاً بقوله إلى (بالس) فامتنعت عليه، فحصرها خمسة أيّام فلم يظفر بها، فسار عنها.

وبلغ الخبر بمسير بكجور إلى سعد الدولة، فسار عن حلب ومعه لؤلؤ الكبير، مولى أبيه سيف الدولة، وكتب إلى بكجور يستميله ويدعوه إلى الموادعة، ورعاية حقّ الرقّ والعبوديّة، ويبذل له أن يقطعه من الرَّقّة إلى حمص، فلم يقبل منه ذلك.

وكان سعد الدولة قد كاتب الوالي بأنطاكية لملك الروم يستنجده، فسيّر إليه جيشاً كثيراً من الروم، وكاتب - أيضاً - مَن مع بكجور من العرب يرغّبهم في الإقطاع والعطاء الكثير، والعفو عن مساعدتهم بكجور، فمالوا إليه، ووعدوه الهزيمة بين يديه، فلمّا التقى العسكران اقتتلوا، واشتدّ القتال، فلمّا اختلط الناس في الحرب وشُغل بعضهم ببعض عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه، واستأمنوا إلى سعد الدولة، فلمّا رأى بكجور ذلك اختار من شجعان أصحابه أربعمئة رجل، وعزم على أن يقصد موقف سعد الدولة ويُلقي نفسه عليه، فإمّا له وإمّا عليه، فهرب واحد ممّن حضر الحال إلى لؤلؤ الكبير وعرّفه ذلك، فطلب لؤلؤ من سعد الدولة، أن يتحرّك من موقفه ويقف مكانه، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع. فحمل بكجور ومَن

١٣٩

معه، فوصولا إلى موقف لؤلؤ بعد قتالٍ شديدٍ عجب الناس منه واستعظموه كلّهم، فلمّا رأى لؤلؤاً ألقى نفسه عليه وهو يظنّه سعد الدولة، فضربه على رأسه، فسقط إلى الأرض، فظهر حينئذٍ سعد الدولة وعاد إلى موقفه، ففرح به أصحابه وقويت نفوسهم، وأحاطوا ببكجور وصدقوه القتال، فمضى منهزماً هو وعامّة أصحابه وتفرّقوا، وبقي منهم معه سبعة أنفس، وكثر القتل والأسر في الباقين.

ولمّا طال الشوط ببكجور ألقى سلاحه وسار، فوقف فرسه، فنزل عنه وسار راجلاً، فلحقه نفرٌ من العرب، فأخذوا ما عليه، وقصد بعضَ العرب فنزل عليه وعرّفه نفسه، وضمن له حِمل بعير ذهباً ليوصله إلى الرَّقّة، فلم يصدّقه لبُخْله المشهور عنه، فتركه في بيته وتوجّه إلى سعد الدولة فعرّفه أنّ بكجور عنده، فحكّمه سعد الدولة في مطالبه، فطلب مئَتَيْ فدّان ملكاً، ومئة ألف درهم، ومئة جمل تحمل له حنطة، وخمسين قطعة ثياباً، فأعطاه ذلك أجمع وزيادة، وسيّر معه سريّة، فتسلّموا بكجور وأحضروه عند سعد الدولة، فلمّا رآه أمر بقتله، فقُتل، ولقي عاقبة بَغْيه وكفره إحسان مولاه.

فلمّا قتله سعد الدولة سار إلى الرَّقّة فنازلها، وبها سلامة الرشيقيّ، ومعه أولاد بكجور وأبو الحسن عليُّ بن الحسين المغربيّ وزير بكجور، فسلّموا البلد إليه بأمان وعهود أكّدوها وأخذوها عليه لأولاد بكجور وأموالهم، وللوزير المغربيّ، ولسلامة الرشيقيّ، ولأموالهم، فلمّا خرج أولاد بكجور بأموالهم، رأى سعد الدولة ما معهم، فاستعظمه واستكثره.

وكان عنده القاضي ابن أبي الحصين، فقال سعد الدولة:

ما كنت أظنّ أنّ بكجور يملك هذا جميعه ؛ فقال له القاضي: لِمَ لا تأخذه؟ فهو لك لأنّه مملوك لا يملك شيئاً، ولا حَرَج عليك ولا حنث.

فلمّا سمع هذا أخذ المال جميعه وقبض عليهم، وهرب الوزير المغربيّ إلى مشهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وكتب أولاد بكجور إلى العزيز يسألونه الشفاعة فيهم، فأرسل إليه يشفع فيهم، ويأمره أن يسيّرهم إلى مصر ويتهدّده إن لم يفعل. فأهان الرسول، وقال له: قل لصاحبك أنا سائر إليك. وسيّر مقدّمته إلى حمض ليلحقهم.

١٤٠