تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77614 / تحميل: 10063
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ذكر وفاة سعد الدولة بن حمدان:

(وفي هذه السنة (٣٨١): لمّا برز سعد الدولة ليسير إلى دمشق لحقه (قُولنج)، فعاد إلى حلب ليتداوى، فزال ما به وعُوفي، وعزم على العود إلى معسكره، وحضر عند إحدى سراريه فواقعها فسقط عنها وقد فُلِج وبطل نصفه، فاستدعى الطبيب، فقال له: أعطني يدك لآخُذ مجسّك ؛ فأعطاه اليُسرى، فقال: أعطني اليمين، فقال: لا تركت لي اليمين يميناً، يعني نكثه بأولاد بكجور هو الذي أهلكه، وقد ذُكر ذلك، وندم عليه حيث لم تنفعه الندامة، وعاش بعد ذلك ثلاثة أيّام ومات بعد أن عهد إلى ولده أبي الفضائل، ووصّى إلى لؤلؤ به وبسائر أهله.

فلمّا تُوفّي قام أبو الفضائل، وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد، وتراجعت العساكر إلى حلب.

وكان الوزير أبو الحسن المغربيُّ قد سار من مشهد علي (عليه السلام) إلى العزيز بمصر، وأطمعه في حلب، فسيّر جيشاً وعليهم منجوتكين أحد أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيشٍ كثيفٍ فحصرها، وبها أبو الفضائل ولؤلؤ، فكتبا إلى (بَسِيل) ملك الروم يستنجدانه، وهو يقاتل البلغار، فأرسل بسيل إلى نائبه بأنطاكية يأمره بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسين ألفاً، حتّى نزل على الجسر الجديد بالعاصي، فلمّا سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل، وعبر إليهم العاصي، وأوقعوا بالروم فهزموهم وولّوا الأدبار إلى أنطاكية، وكثر القتل فيهم.

وسار منجوتكين إلى أنطاكية، فنهب بلدها وقُراها وأحرقها، وأنفذ أبو الفضائل إلى بلد حلب، فنقل ما فيه من الغلال، وأحرق الباقي إضراراً بعساكر مصر، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربيّ وغيره، وبذل لهم مالاً ليردّوا منجوتكين عنهم، هذه السنة ؛ بعلّة تعذّر الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق.

ولمّا بلغ الخبر إلى العزيز غضب وكتب بعود العسكر إلى حلب، وإبعاد المغربيّ، وأنفذ الأقوات من مصر في البحر إلى طرابلس، ومنها إلى العسكر، فنازل العسكر حلب، وأقاموا عليها ثلاثة عشر شهراً، فقلّت الأقوات بحلب.

١٤١

وعاد إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به، وقال له: متى أُخذت حلب أُخذت أنطاكية وعظم عليك الخطب.

وكان قد توسّط بلاد البلغار، فعاد وجدّ في السير، وكان الزّمان ربيعاً، وعسكر مصر قد أرسل إلى منجوتكين يعرّفه الحال، وأتته جواسيسه بمثل ذلك، فأخرب ما كان بناه من سوقٍ وحمّامٍ وغير ذلك، وسار كالمنهزم عن حلب، ووصل ملك الروم فنزل على باب حلب، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ، وعاد إلى حلب، ورحل بَسيل إلى الشام، ففتح حمص وشيزر ونهبهما، وسار إلى طرابلس فنازلها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيّفاً وأربعين يوماً، فلمّا أيس منها عاد إلى بلاد الروم.

ولمّا بلغ الخبر إلى العزيز عظم عليه، ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم، وبرز من القاهرة، وحدثت به أمراض منعتْه، وأدركه الموت)(١) .

(وفي حوادث سنة ٤٠٢):

أسر صالح بن مرداس وملكه حلب وملك أولاده

(ثمّ إنّ لؤلؤاً من موالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان قوي على ولد سعد الدولة، وأخذ البلد منه، وخطب للحاكم صاحب مصر، ولقّبه الحاكم مرتضى الدولة، ثمّ فسد ما بينهما، فطمع فيه ابن مرداس، وبنو كلاب)(٢) ، واستولوا على حلب، (وتنقَّلتْ فيهم وفي غيرهم إلى أن صارت بيد إنسان من الحمدانيَّة يُعرف بعزيز الملك، فقدّمه الحاكم واصطنعه وولاّه حلب، فلمّا قُتل الحاكم ووليَ الظاهر عصى عليه)(٣) ، وقُتل بسعيٍ أخت الحاكم.

(وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقّب بمعزّ الدولة بالرحبة، فلمّا بلغه موت (الدزبريّ) جاء إلى حلب فملكها تسليماً من أهلها سنة ٤٣٤، وبقي فيها إلى سنة ٤٤٠، فأنفذ المصريّون إلى محاربته أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان، فخرج أهل حلب إلى حربه، فهزمهم، ثمّ

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٨٥ - ٨٦ - ٨٧ - ٨٨ - ٨٩ - ٩٠.

(٢) م ٩ ص ٢٢٧ - ٢٢٨.

(٣) م ٩ ص ٢٣٠.

١٤٢

رحل عنها وعاد إلى مصر، ثمّ أنفذ المصريّون إلى قتال معزّ الدولة خادماً يُعرف برِفْق فخرج إليه في أهل حلب، فقاتلوه، فانهزم المصريّون، وأُسر رِفْق ومات عندهم.

ثمّ إنّ معزّ الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين، وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب، فأنفذوا إليها أبا عليّ الحسن بن عليّ بن ملهم ولقّبوه مكين الدولة، فتسلّمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وأربعمئة.

وسار ثمال إلى مصر، وأقام ابن ملهم بحلب، فجرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب.

وسمع ابن ملهم أنّ بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح يستدعونه ليسلّموا البلد إليه، فقبض على جماعةٍ منهم....

ثمّ اجتمع أهل البلد، واشتدّوا، وراسلوا محموداً فجاء إلى حلب سنة ٤٥٢.

ووصلت الأخبار إلى مصر، فسيّروا ناصر الدولة أبا عليّ بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكرٍ بعد اثنين وثلاثين يوماً من دخول محمود حلب، فلمّا قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرّيّة، واختفى الأحداث جميعهم، وكان عطية بن صالح نازلاً بقرب البلد، وقد كره فعل محمود ابن أخيه، فقبض ابن ملهم على مئةٍ وخمسين من الأحداث، ونهب وسط البلد، وأخذ أموال الناس.

وأمّا ناصر الدولة فلم يمكّن أصحابه من دخول البلد ونهْبه، وسار في طلب محمود فالتقيا بالغُنَيْدق في رجب، فانهزم ابن حمدان، وثبت هو فجُرح وحُمل إلى محمد أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها، وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمئة، وأطلق ابن حمدان، فسار هو وابن ملهم إلى مصر)(١) .

ثمّ جرت هنالك عدّة معارك انتهت بتسلّم ثمال حلب، ثمّ أخيراً بخروجها من ملك بني مرداس.

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٢٣١ - ٢٣٢ - ٢٣٣.

١٤٣

(وفي حوادث سنة ٤٥٢): ملك محمود بن شبل الدولة حلب

(لمّا حصر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكلابيُّ مدينةً حلب، كتب أهلها إلى مصر يستنجدون عليه المستنصر بالله، فأمر ناصر الدولة أبا محمّد الحسين بن الحسن بن حمدان الأمير بدمشق، أن يسير بمَن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود، فسار إلى حلب)(١) .

وانتهى الأمر بانهزام ناصر الدولة.

(وفي حوادث سنة ٤٦٥): ذكر قتل ناصر الدولة بن حمدان

(في هذه السنة قُتل ناصر الدولة أبو عليّ الحسن بن حمدان، وهو من أولاد ناصر الدولة بن حمدان، بمصر، وكان قد تقدّم فيها تقدّماً عظيماً)(٢) .

(والأسباب الموجبة لقتله تُلخص عن الكامل بأُمور:

أ - انحلال أمر الخلافة، وفساد أحوال المستنصر بالله، وسببه غلبة والدته على أمره، وقد اصطنعت أبا سعيد إبراهيم التُّستَريّ اليهوديّ، وصار وزيراً لها، فأشار عليها بوزارة أبي نصر الفلاحيّ، فولته الوزارة، واتّفقا مدّةً، ثمّ صار الفلاحيُّ ينفرد بالتدبير، فوقع بينهما وحشة، فخاف الفلاحيّ أن يفسد أمره مع أمّ المستنصر، فاصطنع الغلمان الأتراك، واستمالهم، وزاد في أرزاقهم، فلمّا وثق بهم وضعهم على قتل اليهوديّ، فقتلوه، فعظم الأمر على أمّ المستنصر، وأغرت به ولدها، فقبض عليه، وأرسلت من قتله تلك الليلة)(٣) .

وأخذت تـنقل الوزارة من رجلٍ إلى آخر، واستكثرت من العبيد لتضرب بهم الأتراك، حتّى أدّى الحال ببعضهم أن ضرب المستنصر فجرحه، فعظم ذلك على الأتراك، ونشبت بينهم وبين العبيد الحرب، واستحكمت بين الفريقين العداوة، ونشطهم على الأتراك الوزير أبو عبد الله

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ١١ - ١٢.

(٢) ص ١٠ ص ٨٠.

(٣) م ١٠ ص ٨٠ - ٨١.

١٤٤

الحسين بن البابليّ ؛ فاجتمع الأتراك إلى مقدّميهم، وقصدوا ناصر الدولة بن حمدان، وهو أكبر قائد بمصر، وشكوا إليه، واستمالوا المصامدة، وكتامة، وتعاهدوا وتعاقدوا فقوي الأتراك وضعف العبيد المحدثون، فخرجوا من القاهرة إلى الصعيد ليجتمعوا هناك، فانضاف إليهم خلقٌ كثير يزيدون على خمسين ألف فارسٍ وراجل، فخاف الأتراك وشكوا إلى المستنصر، فأعاد الجواب أنّه لا علم له بما فعل العبيد، وأنّه لا حقيقة له، فظنّوا قوله حيلة عليهم.

ثمّ قوي الخبر بقرب العبيد منهم بكثرتهم، فأجفل الأتراك وكتامة والمصامدة، وكانت عدّتهم ستّة آلاف، فالتقوا بموضعٍ يُعرف بكَوْمِ الرّيش، واقتتلوا فانهزم الأتراك ومَن معهم إلى القاهرة، وكان بعضهم قد كمن في خمسمئة فارس، فلمّا انهزم الأتراك خرج الكمين على ساقة العبيد ومَنْ معهم، وحملوا عليهم حملةً منكرة، وضُربت البوقات، فارتاع العبيد، وظنّوها مكيدةً من المستنصر، وأنّه قد ركب في باقي العسكر، فانهزموا، وعاد عليهم الأتراك وحكّموا فيهم السيوف، فقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفاً، وكان يوماً مشهوداً.

وقويت نفوس الأتراك، وتجمّعوا وحشدوا، فتضاعفت عدّتهم، وزادت واجباتهم للإنفاق فيهم، فخلت الخزائن، واضطربت الأُمور، وتجمّع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد، فاجتمعوا مع العبيد فصاروا خمسة عشر ألف فارسٍ وراجل، وساروا إلى الجيزة، فخرج عليهم الأتراك ومَنْ معهم، واقتتلوا في الماء عدّة أيّام، ثمّ عبر الأتراك النّيل إليهم مع ناصر الدولة بن حمدان، فاقتتلوا، فانهزم العبيد إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والأتراك منصورين.

ثمّ إنّ العبيد اجتمعوا بالصعيد في خمسة عشر ألف فارسٍ وراجل، فقلق الأتراك لذلك، فحضر مقدّموهم دار المستنصر لشكوى حالهم، فأمرت أمّ المستنصر مَنْ عندها من العبيد بالهجوم على المقدّمين والفتك بهم، ففعلوا ذلك، وسمع ناصر الدولة بالخبر، فهرب إلى ظاهر البلد، واجتمع الأتراك إليه، ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد، ومَن تبعهم من مصر، والقاهرة، وحلف الأمير ناصر الدولة بن حمدان أنّه لا ينزل عن فرسه ولا يذوق طعاماً، حتّى ينفصل الحال بينهم، فبقيت الحرب ثلاثة

١٤٥

أيّام، ثمّ ظفر بهم ناصر الدّولة، وأكثر القتل فيهم، ومن سلم هرب، وزالت دولتهم من القاهرة.

وكان بالإسكندرية جماعةٌ كثيرةٌ من العبيد، فلمّا كانت هذه الحادثة طلبوا الأمان، فأُمّنوا وأُخذت منهم الإسكندريّة، وبقي العبيد الذين بالصعيد.

فلمّا خلت الدولة للأتراك طمعوا في المستنصر، وقلّ ناموسه عندهم، وطلبوا الأموال، فخلت الخزائن، فلم يبق فيها شيءٌ البتّة، واختلّ ارتفاع الأعمال، وهم يطالبون، واعتذر المستنصر بعدم الأموال عنده، فطلب ناصر الدولة العروض، فأُخرجت إليهم، وقوِّمت بالثمن البخس، وصُرفت إلى الجند، قيل إنّ واجب الأتراك كان في الشهر عشرين ألف دينار، فصار الآن في الشهر أربعمئة ألف دينار.

وأمّا العبيد بالصعيد فإنّهم أفسدوا، وقطعوا الطريق، وأضاقوا السبيل، فسار إليهم ناصر الدولة في عسكرٍ كثير، فمضى العبيد من بين يدَيْه إلى الصعيد الأعلى، فأدركهم، فقاتلهم، وقاتلوه، فانهزم ناصر الدولة منهم وعاد إلى الجيزة بمصر، واجتمع إليه مَن سلم من أصحابه، وشغبوا على المستنصر، واتّهموه بتقوية العبيد والميل إليهم، ثمّ جهّزوا جيشاً وسيّروه إلى طائفةٍ من العبيد بالصعيد، وقاتلوهم، فقُتلت تلك الطائفة من العبيد، فوهن الباقون، وزالت دولتهم.

وعظم أمر ناصر الدولة، وقويت شوكته، وتفرّد بالأمر دون الأتراك، فامتنعوا من ذلك، وعظم عليهم، وفسدت نيّاتهم له، فشكوا ذلك إلى الوزير، وقالوا: كلّما خرج من الخليفة مالٌ أخذ أكثره له ولحاشيته، ولا يصل إلينا منه إلاّ القليل.

فقال الوزير: إنّما وصل إلى هذا وغيره بكم، فلو فارقتموه لم يتمّ له أمر، فاتّفق رأيهم على مفارقة ناصر الدولة، وإخراجه من مصر، فاجتمعوا، وشكوا إلى المستنصر، وسألوه أن يخرج عنهم ناصر الدولة، فأرسل إليه يأمره بالخروج، ويتهدّده إن لم يفعل، فخرج من القاهرة إلى الجيزة، ونُهبت داره ودور حواشيه وأصحابه.

فلمّا كان الليل دخل ناصر الدولة مستخفياً إلى القائد المعروف بتاج الملوك (شاذي)، فقبّل رجله، وقال: اصطنعني! فقال: أفعل، فحالفه على

١٤٦

قتل مقدّم من الأتراك اسمه (الدكز)، والوزير الخطير، وقال ناصر الدولة لشاذي: تركب في أصحابك، وتسير بين القصرَيْن، فإذا أمكنتك الفرصة فيهما فاقتلهما.

وعاد ناصر الدولة إلى موضعه إلى الجيزة. وفعل شاذي ما أمره، فركب الدكز إلى القصر، فرأى شاذي في جمعه، فأنكره، وأسرع فدخل القصر، ففاته، ثمّ أقبل الوزير في موكبه، فقتله شاذي، وأرسل إلى ناصر الدولة يأمره بالركوب، فركب إلى باب القاهرة، فقال الدكز للمستنصر: إن لم تركب، وإلاّ هلكت أنت ونحن. فركب، ولبس سلاحه، وتبعه خلقٌ عظيمٌ من العامّة والجند، واصطفّوا للقتال، فحمل الأتراك على ناصر الدولة فانهزم، وقُتل من أصحابه خلقٌ كثير، ومضى منهزماً على وجهه لا يلوي على شيء، وتبعه فلُّ أصحابه، فوصل إلى (بني سِنبِس)، فأقام عندهم وصاهرهم فقوي بهم.

وتجهّزت العساكر إليه ليبعدوه، فساروا حتّى قربوا منه، وكانوا ثلاث طوائف، فأراد أحد المقدّمين أن يفوز بالظّفر وحده دون أصحابه، فعبر فيمن معه إلى ناصر الدولة، وحمل عليه فقاتله، فظفر به ناصر الدولة، فأخذه أسيراً، وأكثر القتل في أصحابه، وعبر العسكر الثاني، ولم يشعروا بما جرى على أصحابهم، فحمل ناصر الدولة عليهم، ورفع رؤوس القتلى على الرّماح، فوقع الرعب في قلوبهم، فانهزموا وقُتل أكثرهم، وقويت نفس ناصر الدولة.

وعبر العسكر الثالث، فهزمه وأكثر القتل فيهم وأسر مقدّمهم، وعظم أمره ونهب الرّيف فأقطعه، وقطع الميرة عن مصر برّاً وبحراً، فغلت الأسعار بها، وكثر الموت بالجوع، وامتدّت أيدي الجند بالقاهرة إلى النهب والقتل، وعظم الوباء حتّى إنّ البيت الواحد كانوا يموتون كلّهم في ليلةٍ واحدة)(١) .

إلى أن قال:

(وقطع ناصر الدولة الطريق برّاً وبحراً، فهلك العالم، ومات أكثر

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ٨١ - ٨٢ - ٨٣ - ٨٤ - ٨٥.

١٤٧

أصحاب المستنصر، وتفرّق كثيرٌ منهم، فراسل الأتراك من القاهرة ناصر الدولة في الصّلح، فاصطلحوا على أن يكون تاج الملوك شاذي نائباً عن ناصر الدولة بالقاهرة، يحمل المال إليه، ولا يبقى معه لأحدٍ حكم.

فلمّا دخل تاج الملوك إلى القاهرة تعيّر عن القاعدة، واستبدّ بالأموال دون ناصر الدولة، ولم يرسل إليه منها شيئاً، فسار ناصر الدولة إلى الجيزة، واستدعى إليه شاذي وغيره من مقدّمي الأتراك، فخرجوا إليه إلاّ أقلّهم، فقبض عليهم كلّهم، ونهب ناحيتَيْ مصر، وأحرق كثيراً منهما، فسيّر إليه المستنصر عسكراً فكبسوه، فانهزم منهم ومضى هارباً، فجمع جمعاً، وعاد إليهم فقاتلهم فهزمهم، وقطع خطبة المستنصر بالإسكندريّة ودمياط، وكانا معه، وكذلك جميع الرّيف، وأرسل إلى الخليفة ببغداد يطلب خِلعاً ليخطب له بمصر.

واضمحلّ أمر المستنصر، وبطل ذكره، وتفرّق الناس من القاهرة، وأرسل ناصر الدولة إليه - أيضاً - يطلب المال، فرآه الرسول جالساً على حصير، وليس حوله غير ثلاثة خدم، ولم ير الرسول شيئاً من آثار المملكة، فلمّا أدّى الرسالة قال: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير؟... فبكى الرسول، وعاد إلى ناصر الدولة فأخبره الخبر، فأجرى له كلّ يومٍ مئة دينار، وعاد إلى القاهرة، وحكم فيها، وأذلّ السلطان وأصحابه.

وكان الذي حمله على ذلك أنّه كان يُظهر التسنّن من بين أهله، ويعيب المستنصر، وكان المغاربة كذلك فأعانوه على ما أراد، وقبض على أمّ المستنصر، وصادرها بخمسين ألف دينار، وتفرّق عن المستنصر أولاده وكثيرٌ من أهله إلى الغرب، وغيره من البلاد، فمات كثيرٌ منهم جوعاً.

وانقضت سنة أربع وستّين وأربعمئة، وما قبلها بالفتن، وانحطّ السعر سنة خمس وستّين وأربعمئة، ورخصت الأسعار، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر، وفرّق عنه عامّة أصحابه، وكان يقول لأحدهم: إنّني أُريد أن أولّيك عمل كذا ؛ فيسير إليه، فلا يمكّنه من العمل ويمنعه من العود، وكان غرضه بذلك أن يخطب لخليفة القائم بأمر الله، ولا يمكنه مع وجودهم، ففطن لفعله قائدٌ كبيرٌ مِن الأتراك اسمه (الدكز)، وعلم أنّه متى

١٤٨

ما تمّ له ما أراد تمكّن منه ومن أصحابه، فأطْلع على ذلك غيره من قوّاد الأتراك، فاتّفقوا على قتل ناصر الدولة، وكان قد أمن لقوّته، وعدم قُوّةٍ عدوّه، فتواعدوا ليلةً على ذلك، فلمّا كان سَحَر الليلة التي تواعدوا فيها على قتله جاؤوا إلى باب داره، وهي التي تُعرف بمنازل العزّ، وهي على النيل، فدخلوا مِن غير استئذان، إلى صحن داره، فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء ؛ لأنّه كان آمناً منهم، فلمّا دنا منهم ضربوه بالسيوف، فسبّهم وهرب منهم يريد الحرم، فلحقوه فضروه حتّى قتلوه، وأخذوا رأسه.

ومضى رجلٌ منهم، يُعرف بكوكب الدولة، إلى فخر العرب، أخي ناصر الدولة، وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه، فقال للحاجب:

استأذن لي على فخر العرب، وقُل صنيعتك فلان على الباب، فاستأذن له ؛ فأذن له وقال: لعلّه قد دهمه أمر.

فلمّا دخل عليه أسرع نحوه كأنّه يريد السلام عليه. وضربه بالسيف على كتفه، فسقط إلى الأرض، فقطع رأسه، وأخذ سيفه، وكان ذا قيمةٍ وافرة، وأخذ جاريةً له أردفها خلفه، وتوجّه إلى القاهرة، وقُتل أخوهما تاج المعالي، وانقطع ذكر الحمدانيّة بمصر بالكلّيّة)(١) .

ما جاء عن بني حمدان في كتاب:

نخب تاريخية وأدبيّة جامعة لأخبار سيف الدولة الحمداني.

- لجامعه الشيخ ماريوس كانار الأستاذ بكلية الآداب بالجزائر - طبع بالجزائر سنة ١٩٣٤.

لمّا رأى الراضي وقوف الحال عنده، قلّد أبا بكر محمد بن رائق إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء، وولاّه الخراج والمعاون في جميع البلاد، والدواوين، وأمر بأن يُخطب له على المنابر، فأصعد ابن رائق إلى بغداد، وخلع الخليفة عليه أواخر ذي الحجّة، وبطلت الدواوين من ذلك الوقت، وبطلت الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيءٍ من الأُمور، إنّما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأُمور جميعها، وكذلك كل مَن تولّى إمرة

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ٨٥ - ٨٦ - ٨٧.

١٤٩

الأمراء بعده. وصارت الأموال تُحمل إلى خزائنهم فيتصرّفون فيها كما يريدون، وبطلت بيوت الأموال وتغلّب أصحاب الأطراف، وزالت عنهم الطاعة، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم في جميعها لابن رائق، ليس للخليفة حكم، وأمّا باقي الأطراف، فكانت البصرة في يد ابن رائق، وخوزستان في يد البريدي)(١) .

إلى غير ذلك من تغلّب عمّال الدولة على ما بأيديهم ممّا تقدّم ذكره.

(قال في سنة ٣٣٠:

سار البريديّون من واسط إلى بغداد، وبها المتّقي لله وابن رائق، فكتب المتّقي كتاباً، وأنفذ رسولاً إلى ناصر الدولة يعرّفه ما أظلّه من البريديين، ويسأله الانحدار لنصرته، فكتب ناصر الدولة إلى سيف الدولة وهو بنصيبين يحثّه على المسير، وإلى أن وافى بغداد وافى ابن البريدي وقد نشبت الحرب بينه وبين ابن رائق، وانهزم ابن رائق، وتحصّن في دار الخليفة، ثمّ خرج منها ومعه الخليفة وابنه على أقبح صورةٍ على دابّتين بغير غلام، وخرج عامّة الكتّاب والقوّاد على أقبح من هذه الصّورة.

وملك البريدي بغداد، وتحكّم فيها بما أراد من القتل والسلب واستخراج الأموال والتشفّي من الأعداء، واحتوى على دار الخلافة وجميع ما فيها.

وسار الخليفة وجماعةٌ من أرباب الدولة إلى تكريت عراةً بأسوأ حال، وأكثرهم رجّالة. فلمّا سار سيف الدولة ببعض الطريق، واتّصل به ما حلّ بالسلطان، أغذّ السير، وخرج ابن رائق إليه فتلقاه وسار معه حتّى وصل إلى الخليفة، فشكا إليه ما ناله، واستخبره عن ناصر الدولة فعرفه أنّه بالأثر، ولمّا خرج سيف الدولة من عند الخليفة حمل إليه من أصناف الأموال والثياب والدواب والطيب ما يَجلّ خطره ويعظم أمره، وكذلك إلى سائر القوّاد والجند والكتّاب حتّى استقلّوا وحسنت أحوالهم، وحمل إليهم من الدقيق والشعير والتبن وجميع آلات الدوابّ والسلاح ما كفاهم وفضل عنهم.

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني - لجامعه الشيخ ماريوس كانار - طُبع بالجزائر سنة ١٩٣٤ - ص ٩ و ١٠.

١٥٠

واجتمعت الألسن على شكره، وأمر الخليفة له ولناصر الدولة مع التكْنية والتلقيب أن تكتب أسماؤهم على الدنانير والدراهم، وهذه فضيلة لم يسبقهما أحدٌ إليها. ثمّ سارا مع الخليفة متوجّهين إلى بغداد، فلمّا سمع البريدي ذلك، انحدر عن بغداد، ثمّ كانت له مع سيف الدولة وقعة هزمه سيف الدولة فيها، واستبشر الناس بما وهب الله تعالى لهم على يديه من الراحة من فتنة البريدي، وأمنوا على أنفسهم وحرمهم وأموالهم، وأكثروا الدعاء له في المساجد والطرقات.

وكتب المتّقي لله رقعةً إلى الأمير سيف الدولة عند خروجه إلى حرب البريدي نسختها:

بسم الله الرحمن الرحيم

عرفت - لا أخلاني الله منك - ما تقرّر عليه العزم في رواحك، قرنه الله بالخيرة التامّة، والمعونة الشاملة، والكافية الجامعة، ووصله بالنصر والفلح والظفر والفتح، فتعجّلت الاستيحاش لبعدك، والتحسّر لما يفوت من قربك، لا خلوت منك، وكنت أحبّ أن ألقاك وأُسرّ برؤيتك قبل نفوذك، ولمّا تعذّر ذلك دعوت الله لك بجميل الصحابة ولي عليك بحسن الخلافة، وأن يسعدنا بذلك سعادةً محمودة البدء والعاقبة ؛ إنّه سميع الدعاء لطيفٌ لما يشاء، ولا يزال قلبي متطلعاً لمعرفة خبرك إلى أن يَرِدَ عليَّ من مستقرك بما تَرُبُّه وتُمْضيه، وتُدَبِّرُه وتُمْشِيه ؛ فتعمل - لا أخلاني الله منك - على ملاحظتي من ذلك في كلِّ وقتٍ وساعةٍ بما تعلم حسن موقعه مني، والسلام.

وكتب إليه رقاعاً عدّة أمثالها.

لمّا وصل المتّقي لله وابناه ومحمّد بن رائق ومَن معهم إلى تَكْريت، وجدوا هناك، وهم مصعدون إلى الموصل بعد، أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان ؛ وذلك أنّ ابن رائق لمّا قرب البريدي من بغداد كتب إلى أبي محمّد بن حمدان يسأله مدداً ومعاونة على قتاله، فأنفذ أبو محمّد أخاه، فلم يلحقهم إلاّ بتكريت، وقد انهزموا وأخذوا طريق الموصل.

فخلع عليه المتّقي وعقد له لواءً، ولقّبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وكنّاه، وكان ذلك مستهلّ شعبان.

وخلع على أخيه علي وعلى

١٥١

أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، ودخل المتّقي بغداد مع ناصر الدولة أبي محمّد وأخيه علي وجميع الجيوش، وعملت لهم العامّة القباب.

ونزل ناصر الدولة وأخوه في البستان الشفيعي، وخلع المتّقي لله على ناصر الدولة وأخيه، وطُوِّقا وسُوِّرا بطوقين طوقين، وأربعة إسورة ذهباً، وعلى أبي عبد الله الحسين بن حمدان، وطُوِّق بطوقٍ واحدٍ وسوارين ذهباً.

ورد الخبر بأنّ أبا الحسين علي بن محمّد البريدي قد أصعد من واسط يريد الحضرة، فاضطرب الناس ببغداد، وعبر المتّقي إلى الزبيديّة ليكون مع ناصر الدولة، وقد حرمه إلى (سُرّ مَنْ رأى)، وهرب جماعةٌ من وجوه أهل بغداد، وعبر جيش ناصر الدولة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي منها.

وسار أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان في الجيش، وكان مع أبي الحسن البريدي لمّا أصعد من واسط أبو جعفر بن شيرزاد وأبو بكر بن قرابة والديلم وجيش عظيم، فكانت الوقعة بين أبي الحسن علي بن حمدان وبين البريدي يوم الثلاثاء انسلاخ ذي القعدة ويوم الأربعاء مستهل ذي الحجّة، ويوم الخميس ويوم الجمعة لثلاث وأربع خلون من ذي الحجّة في القرية المعروفة بـ (كِيل) أسفل المدائن بفرسخَيْن، ومع ابن حمدان توزُون وحَجْمج والأتراك، فكانت أوّلاً على علي بن عبد الله بن حمدان، وانهزم أصحابه فردّهم ناصر الدولة، وكان ناصر الدولة بالمدائن.

ثمّ صارت على أبي الحسين البريدي، فانهزم واستُؤسر من أصحابه يانس غلام البريدي أبي عبد الله، وأبو افتح بن أبي طاهر، ومحمد بن عبد الصمد، ومذكّر البريدي، والفرج كاتب جيش البريدي، واستأمن إلى ابن حمدان محمد بن يَنال الترجمان، وإبراهيم بن أحمد الخراساني، وحصل له جميع الديلم الذين كانوا في عسكر البريدي.

وقتل جماعة من قوّاد البريدي، وعاد البريدي إلى واسط مهزوماً مغلولاً، ولم يبق في علي ابن حمدان وأصحابه فضل لأتباعه لعظيم ما مرّ بهم ولكثرة الجراح فيهم.

ولسبع خلون من ذي الحجّة عاد المتّقي لله من الزُبَيْدِيَّة إلى دار الخلافة على ثلاث ساعات ونصف، وعاد الحرم من (سُرّ مَنْ رأى) ومَن كان هرب إليها من بغداد.

ودخل ناصر الدولة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة بغداد، وبين يديه يانِس غلام البريدي، وأبو الفتح بن أبي طاهر، والمذكّر البريدي مشهرين على جمال، وعلى رؤوسهم برانس،

١٥٢

وكُتب عن المتّقي كتاب الفتح إلى الدنيا، ولقّب المتّقي لله أبا الحسن علي ابن عبد الله بن حمدان، لمّا فتح هذا الفتح سيف الدولة، وأنفذ إليه خلعاً، وكتب فيه كتاباً.

وانحدر سيف الدولة إلى واسط، فوجد البريديين قد انحدروا منها إلى البصرة، وأقام بها ومع الديلم والأتراك وسائر الجيش.

كان سيف الدولة أبو الحسن مقيماً بواسط مفكّراً في أن يسير بالجيش والأتراك إلى البصرة ليفتحها، وكان أخوه ناصر الدولة يدافعه بحمل المال، ويضايق الأتراك خاصّة.

وكان تُوزُون وحجمج يُسيئان الأدب على سيف الدولة بواسط، ويتحكّمان عليه حتّى ضاق ذرعاً بهما.

وكان ناصر الدولة قد أنفذ أبا عبد الله الكوفيّ إلى سيف الدولة أخيه، ومعه ألفا ألف درهم وخمسون ألف دينار لينفق في الأتراك، فوثب توزون وحجمج به بحضرة سيف الدولة، وأسمعاه مكروهاً، فضمّه سيف الدولة إلى نفسه، ثمّ ستره في بيتٍ، وقال لهما: أما تستحيان منّي فتجاملاني في كاتبي. ثمّ وافق سيف الدولة كاتب حجحج أن يسير حجحج إلى المَذار ويسوغه ارتفاعها إذا حماها، ووافق أبا علي المسيحي كاتب توزون على المسير بتوزون إلى الجامدة، ويوهب له ارتفاعها، وعليه حمايتها.

وانتظم هذا التدبير، وعاد الكوفيّ إلى مجلسه بحضرة سيف الدولة، ورهب أن يعود إلى منزله، وعبر حجمج إلى غربيّ واسط للمسير.

واستعدّ توزون أيضاً للمسير إلى الجامدة، فوافى أبو عمرو المسيحيّ وقت الظهر لثلاث بقين من شوّال هارباً من ناصر الدولة إلى أخيه أبي علي المسيحيّ، وكان معه توقيع من ناصر الدولة بخطّه إليه يقول فيه:

(قد اتّصل طمعك فيّ وانبساطك عليّ، وأنا مُحتمل، وأنت مُغترّ، وبلغني إدخالك يدك في وقف فلان، ووالله إن لم تخلّصها وتقصِرعن فعلك المذموم لأقطعنّ يديك ورجليك).

فزعم أبو عمرو المسيحيّ أنّه قرأه وانحدر، وذكر أنّه قال قبل ذلك بأيّام: يا مسيحيّ، أنت مجتهد في أن تجعل توزون أميراً، وعلى رأسك تحثو التراب. إن بلغ ما تؤمّله له لم يرضك كاتباً لنفسه، وطلب ابن شيرزاد أو مثله وشبهَه، فاستكتبه وأنفَ منك فصادرك، فتلافى سيف الدولة أبا عمرو

١٥٣

المسيحي وداراه، وراسل توزون وسكنه ؛ وكان سيف الدولة كثيراً يزهّد الأتراك في العراق ويحملهم على قصد الشام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر، ويخرّب بينهم وبين أخيه، فكانوا يصدّقونه في أخيه، ويأبون عليه في البعد من العراق، وكانوا يتسحبون على سيف الدولة ويطالبونه باستحقاقاتهم، وينصّون على أن يوفيّهم يوم الستّين من أيّام استحقاقهم، ويستصغرونه وأخاه. فلمّا وافى أبو عمرو المسيحي قالوا له: نحتاج أن تحمل مال قائد ورجال وتوفّينا ذلك بالقَبّان وزنةً مالاً مالاً. فأجاب إلى ذلك قطعاً للحُجَّة، وساموه أن يكون الوزن بالليل والنهار، فصبر على ذلك كلِّه وأذن فيه.

وأخرج سيف الدولة أبا عبد الله الكوفيّ ليلاً، وضمّ إليه ابن عمّه أبا وليد في جماعةٍ من العرب، وأصعد معه بنفسه إشفاقاً عليه، ثمّ وصّى العرب حتّى بلغوا به المدائن، فلمّا كان ليلة الأحد انسلاخ شعبان، كبس الأتراك سيف الدولة بالليل، وهرب من معسكره، ولزم نهراً بقرب معسكره فأدّاه إلى قريةٍ تُعرف (ببُرقة)، ولزم البرّيّة حتّى وافى بغداد، وأضرم الأتراك النار في معسكره، وقد كان باقياً من المال المحمول إليه مع الكوفيّ من عند أخيه شيء لم يفرّق فيهم فنهبوه، ونهب جميع سواده)(١) .

(لمّا بلغ سيف الدولة خلاف توزون وحجحج بواسط، طمع في بغداد، فوافى (المِزْرَفَة)، وظهر المستترون من أصحابه من الجند، وخرجوا إليه.

وانحدر أبو عمرو المسيحيّ كاتب توزون إلى واسط مستتراً هارباً إلى صاحبه، وانحدر أيضاً الترجمان.

وأرجف الناس بانحدار المتّقي، واضطرب الناس وأصبحوا على خوفٍ شديد.

وجاء سيف الدولة في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان إلى باب حرب، فنزل في المضارب، وعليه وعلى أصحابه أثر الضرّ الشديد لما لحقهم في البرّيّة. وخرج إليه أصحابه ومن يريد الإثبات، وجرت بينه وبين المتّقي لله رسائل على يد أبي زكرياء السوسي، وطالب بأن يُحملَ إليه مال، ووعد أن يقاتل توزون إن ورد الحضرة، فحمل إليه المتّقي أربعمئة

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية... من ص ١١ إلى ص ٢١.

١٥٤

ألف درهم في دفعات، وانضمّ إليه كلُّ مَن بقي بالحضرة من القوّاد، وما زال يقول في مجلسه:

ما أنصفنا أبو الوفاء توزون حيث كبسنا في الليل ونحن نيام، وإلاّ فَلْيحضرْ نهاراً ونحن مستيقظون! ونحو هذا الكلام.

ولمّا بلغ توزون وصول سيف الدولة إلى بغداد خلّف بواسط (كَيْغَلَغ) في ثلاثمئة غلام، وأصعد مبادراً من واسط إلى بغداد، ولمّا اتّصل بسيف الدولة خبر إصعاده رحل من باب حرب مع مَن انضمّ إليه من قوّاد الحضرة، ومضى على وجهه.

كان المتّقي قد أنفذ إلى ناصر الدولة يطلب منه إنفاذ جيشٍ إليه ليصحبوه إلى الموصل، فأنفذهم مع ابن عمّه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فلمّا وصلوا إلى بغداد نزلوا بباب حرب، واستتر ابن شِيرْزَاد، وخرج إليهم المتّقي في حرمه وأهله ووزيره وأعيان بغداد.

وانحدر سيف الدولة وحده إلى المتّقي لله بتكريت، فأرسل المتّقي إلى ناصر الدولة يستدعيه، ويقول له:

(لم يكن الشرط معك إلاّ أن تنحدر إلينا).

فانحدر، فوصل إلى تكريت في الحادي والعشرين من ربيع الآخر.

وركب المتّقي إليه فلقيه بنفسه، وأكرمه، وأصعد الخليفة إلى الموصل، وأقام ناصر الدولة بتكريت، وصار توزون نحو تكريت، فالتقى هو وسيف الدولة بن حمدان تحت تكريت بفرسخَيْن، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثمّ انهزم سيف الدولة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ربيع الآخر، وغنم توزون والأعراب سواده وسواد أخيه ناصر الدولة، وعادا من تكريت إلى الموصل ومعهما المتّقي لله.

وشغب أصحاب توزون فعاد إلى بغداد، وعاد سيف الدولة وانحدر فالتقى هو وتوزون بِحَرْبَى في شعبان، فانهزم سيف الدولة مرّةً ثانية، وتبعه توزون.

ولمّا بلغ سيف الدولة إلى الموصل، سار عنها هو وأخوه ناصر الدولة والمتّقي لله ومَن معه إلى نصيبين، ودخل توزون الموصل، فسار المتّقي إلى الرَّقّة، ولحقه سيف الدولة.

ولمّا انصرف الإخشيد من حضرة المتّقي، سار سيف الدولة بن

١٥٥

حمدان إلى حلب وقنّسرين والثغور الشاميّة وحمص وأنطاكية وسائر الأعمال، فأخذها وأقام الدعوة فيها للمستكفي ولأخيه ولنفسه، ثمّ عزل وولّى واستخرج الأموال، وكتب الإخشيد إلى المستكفي يخبره بما سارع من إقامة الدعوة وأخذ البيعة، ويعرّفه ما عمله سيف الدولة بن حمدان، فكتب إليه المستكفي ومع الكتاب خلع الإخشيد ولابنه (أنور جور).

وبلغ الإخشيد أن سيف الدولة سار إلى حمص يريد دمشق، فجرّد الإخشيد عسكراً كبيراً، وجعل عليه أربعة، فساروا إلى دمشق وعبَّئوا عساكرهم، ثمّ ساروا إلى حمص، فالتقوا مع سيف الدولة بالرَّسْتَن من أرض حمص، فهزمهم سيف الدولة، فعادوا إلى دمشق يريدون الرملة ثمّ إلى مصر.

ثمّ سار سيف الدولة في أثرهم يريد دمشق، وكتب إلى أهل دمشق كتاباً قُرئ على منبر جامع دمشق، وحُملت نسخته إلى الإخشيد، وهو:

(بسم الله الرحمن الرحيم - من سيف الدولة أبي الحسن إلى جماعة الأشراف والعلماء والأعيان والمستورين بمدينة دمشق، أطال الله بقاكم وأدام عزّكم وسعادتكم وكفايتكم ونعمتكم، كتابنا إليكم من المعسكر المنصور بظاهر عين الجرّ عن سلامة وجميل كفاية لمولاها خالص الدعاء والشكر، وقد علمتم - أسعدكم الله - تشاغلي بجهاد أعدائي وأعداء الله الكفرة وسبيلهم، وقتلي فيهم، وأخذي أموالهم، وتخريبي ديارهم، وقد بلغكم خبر القوانين في هذه السنة، وما أولانا الله وخوَّلنَاه، وأظفرنا به، واستعملت فيهم السنّة في قتال أهل الله، فما اتّبعت مدبراً، ولا داففت على جريح، حتّى سلم من قد رأتم، وقد تقدّمنا إلى وَشّاح بن تمّام بصيانتكم وحفظكم، وحوط أموالكم، وفتح الدكاكين، وإقامة الأسواق، والتصرّف في المعاش، إلى حين موافاتنا إن شاء الله).

فلمّا وصلت نسخة هذا الكتاب للإخشيد قلق لذلك، واستخلف على مصر ابنه أبا القاسم، واستخلف له عمّه أبا المظفّر، ثمّ سار الإخشيد لا يلوي على شيء.

وحصل سيف الدولة بدمشق، ودخلها معه سائر أهله من شيخٍ وكهل، وكتب الإخشيد من الرّملة إلى عيسى كِيل وهو بدمشق مع سيف الدولة، يعده الأموال والتقليد والخلع وأضعاف الرزق، ومع الرسول خاتم الإخشيد، فوصل الرسول إلى عيسى كِيل وهو مع سيف الدولة

١٥٦

بالشَّماسِيَّة، فاستأذنه في الركوب إلى دمشق لدخول الحمّام، فأذن له ؛ وشرب وسكر وثار مع العصر بدمشق، ودعا الناس إلى الإخشيد، وخاتم الإخشيد في يده، وغلّق أبواب دمشق، وأفاق عيسى كِيل من سكره بالليل، وتبيّن أمره، فهرب في جوف الليل إلى الإخشيد وهو بِطبريَّة، فخلع عليه وجازاه وحمله وقاد إليه فرساً أدهم وعليه سرج ولجام مطلّىً فيه أربعة عشر ألف درهم، ما يقدر الفرس يتحرّك من ثقل ما عليه.

وسار عيسى كِيل بين يدي الإخشيد، فلمّا قرب من دمشق رفع سيف الدولة وحرق أخصاصاً كانت قد عُملت، وسار إلى نواحي حمص، ودخل الإخشيد إلى دمشق، والأمراء والقوّاد بين يديه، ثمّ سار إلى حمص، ثمّ سار غلى قنّسرين، والتقى مع سيف الدولة واقتتلا، واستظهر عليه سيف الدولة، فحسده ابن عمّه الحسين بن أبي العلاء، فانهزم، فاستظهر الإخشيد وقتل وأسر جماعةً من وجوه العجم، ولم ينصرف سيف الدولة، بل عسكر مواجهاً للإخشيد، فاختار الإخشيد المسالمة، وراسله بالحسن بن طاهر على مالٍ يحمله إليه وأن يكون لسيف الدولة من (جُوسِيَّة) إلى حمص إلى سائر أعمالها وما وراءه، ويكون للإخشيد من دمشق وما بين يدها إلى آخر أعمالها، وزوّجه ابنته فاطمة، وكان الوليّ الحسن بن طاهر بتوكيل الإخشيد ؛ فسرّ سيف الدولة بذلك، وأجاب إلى السلم، وعقد النكاح، ونثر سيف الدولة، في مضربه للحاضرين ثلاثين ألف دينار، ونثر خارج المضرب أربعمئة ألف درهم، وحمل إلى الحسن بن طاهر مالاً كثيراً وخِلَعاً.

حدّثني بعض شيوخ دمشق ممّن كان الإخشيد يأنس به ويحادثه، قال:

(سألني جماعةٌ من وجوه غلمان الإخشيد توبيخ الإخشيد على ما عمله من الصلح والمصاهرة.

فقلت له: أيّها الإخشيد؟ أيش(١) حملك على مصالحة ابن حمدان ومسالمته ومصاهرته؟... فقال: الغلمان، سألوك مسألتي.

فقلت: نعم.

قال: عليهم لعنة الله، أتراهم يعلمون من الأمر أكثر ممّا أعلم.

اعلم أنّ عليّ بن حمدان كاتبناه من الرّملة، فبذلنا له، فلم يفعل، وكاتبناه من طبريّة، فامتنع، ثمّ سرنا إليه ورزقنا الله تعالى النصر عليه وعلى أصحابه الظفر، فلم ينصرف، وخيّم حذاءنا بوجهٍ صفيق وقلّة حياء،

____________________

(١) هكذا وردت في النص.

١٥٧

فتوقفت عنه. فقال لي الغلمان: دعنا نمضي تلقاءه، ففكرت في قولهم، ولم أخلُ من أحد وجهين، إمّا أن يهزمنا ويُرزق علينا النصر فتكون الفضيحة، وإمّا أن نُرزق عليه النصر فنأخذه، فأيش(١) أعمل به! هلاّ هو أكثر من أن أُنزله في مضرب يشبهه، وأُنفق عليه ما يصلح له، ثمّ أُجهّزه وأردّه لأخيه وأهله ؛ لأنّهم لا يتركونه، وأقلّ ما كان يكفينا له مئتا ألف دينار. ثمّ لا أُطيق غلماني من إدلالهم والتسحّب عليّ بما عمله، ويطلبون منّي الأعمال والولايات، فرأيت أنّ مسالمته ومصالحته أفضل وأصلح ؛ وأرسلت إليه الحسن بن طاهر أعده بالأموال والخروج من أعماله ؛ فلمّا رأوا الحسن بن طاهر قد مضى ازدحموا عليه يسبّوني ويشتموني، ويسألون الله الراحة منّي).

في هذه السنة، في ذي الحجّة(٢) : مات الإخشيد أبو بكر محمّد بن طُغْج صاحب ديار مصر، وكان مولده سنة ثمانٍ وستين ومئتين ببغداد، وكان موته بدمشق، وقيل مات سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم أُنوجور، فاستولى على الأمر كافور الخادم الأسود، وهو من خدم الإخشيد، وغلب أبا القاسم واستضعفه، وتفرّد بالولاية، وكان أبو القاسم صغيراً، وكان كافور أَتابَكه، فلهذا استضعفه وحكم عليه ؛ فسار كافور إلى مصر. فقصد سيف الدولة دمشق فملكها، وأقام بها، فاتّفق أنّه كان يسير هو والشريف العقيقيّ بنواحي دمشق، فقال سيف الدولة:

ما تصلح هذه الغوطة إلاّ لرجلٍ واحد.

فقال له العقيقيّ: هي لأقوام كثيرة.

فقال سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين السلطانيّة لتبرّأوا منها.

فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه، فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم سنة ستة وثلاثين وثلاثمئة. وكان أنوجور مع كافور، فتبعوا سيف الدولة إلى حلب، فخافهم سيف الدولة، فعبر إلى الجزيرة، وأقام أنوجور على حلب، ثمّ استقرّ الأمر بينهما، وعاد أنوجور إلى مصر، وعاد سيف الدولة إلى حلب)(٣) .

____________________

(١) هكذا وردت في النص.

(٢) في ٢١ ذي الحجّة سنة ٣٣٤ هـ.

(٣) نخب تاريخية وأدبية جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني، من ص ٢٢ إلى ص ٣٤.

١٥٨

أحوال الشّام

(أمّا (الشام) فإنّ غربيَّها بحر الروم، وشرقيّها البادية من أيْلة إلى الفرات، ثمّ من الفرات إلى حدّ الروم، وشماليّها بلاد الروم أيضاً، وجنوبيّها حدّ مصر وتيه بني إسرائيل، وآخر حدودها مِمّا يلي مصر رَفَح وممّا يلي الروم الثغور المعروفة، كانت قديماً بالجزيرة وهي:

مَلَطْية والحدث ومَرعش والهارونيّة والكَنِيسة وعين زَرْبة والمِصّيصة وأَذَنة وطَرَسُوس.

قد جمعت الثغور إلى الشام، وبعض الثغور يُعرف بثغور الشام، وبعضها يُعرف بثغور الجزيرة، وكلّها من الشام، وذلك أنّ كلّ ما كان وراء الفرات فمِن الشام ؛ وإنّما سُمّي من ملطية إلى مرعش ثغور الجزيرة ؛ لأنّ أهل الجزيرة بها كانوا يرابطون ويغزون منها، لا لأنّها من الجزيرة.

وكور الشام إنّما هي: جند فلسطين، وجند الأردنّ، وجند دمشق، وجند حمص، وجند قنّسرين، والعواصم والثغور. وبين ثغور الشام وثغور الجزيرة جبل اللُّكام وهو الفاصل بن الثّغرين، وجبل اللّكام جبل داخل في بلد الروم ويُقال إنّه ينتهي إلى حد مئتيْ فرسخ، ويظهر في الإسلام بين مرعش والهارونيّة وعين زربة فيُسمّى اللكام إلى أن يجاوز اللاذقيّة، ثمّ يُسمّى جبل بَهْراء وتَنوخ إلى حمص، ثمّ يُسمى جبل لبنان، ثمّ يمتدّ على الشام حتّى ينتهي إلى بحر (القُلْزُم) من جهة، ويتّصل بالمُقطَّم من جهةٍ أُخرى.

أمّا جند حِمص فإنّ مدينتها (حمص)، وهي مدينة في مستواة خصبة، صحيحة الهواء من أصح بلدان الإسلام، ودخلها الروم في وقتنا هذا، وأتوا على سوادها وأخربوها، وجميع طرق حمص من أسواقها، وسككها مفروشة بالحجارة والبلاط.

١٥٩

وأمّا (أَنْطَرْسُوس) فحصن على البحر ثغر لأهل حمص، وعليه سور من حجارةٍ يمنع أهلها من بادرة، ولقد أنجوا من الروم في حيننا هذا عند قصد نِقْفُور ساحل الشام.

وأمّا (شَيْزَر وحماة) فإنّهما مدينتان صغيرتان نزهتان كثيرتا المياه والشجر والزّروع والفواكه.

وأمّا جند قِنَّسرين فمدينتها (حلب)، وكانت عامرةً جدّاً غاصّةً بأهلها كثيرة الخيرات على طريق العراق إلى الثغور وسائر الشامات، فافتتحها الروم، وكان لها سورٌ من حجارةٍ لم يغن عنهم مِن العدوّ شيئاً، فخرّب جامعها، وسبى ذراري أهلها، وأحرقها.

وكان بها قلعةٌ غير طائلةٍ ولا حسنة العمارة، فلجأ إليها قومٌ من أهلها، فنجوا وهلك بها من المتاع والجهاز للغرباء وأهل البلد، وسبى بها وقتل من أهل سوادها ما في إعادته إرماض لمَن سمعه، ووهن على الإسلام وأهله.

وكان لها أسواق حسنة وحمّامات وفنادق ومحالّ وعِراص فسيحة، وهي الآن كالمتماسكة ولها وادٍ يعرف بأبي الحسن قوَيْق، وشرب أهلها منه، وفيه قليل طفس، ولم تزل أسعارهم في الأغذية وجميع المآكل قديماً واسعة رخيصة، وعليهم الآن للروم في كلِّ سنةٍ قانون يؤدّونه، وضريبة تُستخرج من كلّ دارٍ وضيعةٍ معلومة، وكأنّهم معهم في هدنةٍ وليست - وإن كانت أحوالها متماسكة وأمورها راضية - بحال جزءٍ من عشرين ممّا كانت عليه في قديم أوقاتها وسالف أيّامها.

(وقِنَّسرين) مدينة نسبت الكورة إليها، وهي من أضيق تلك النواحي بناءً، وإن كانت نزهة الظاهر، مغوثة في موضعها بما كان بها من الرخص، فاكتسحتها الروم، فكأنّها لم تكن إلاّ بقايا دِمَن فديتُها مِنْ دِمَن.

(ومَعَرَّةُ النُّعمان) مدينة هي وما حولها من القرى أعذاء(١) ليس بنواحيها ماءٌ جارٍ ولا عين، وكذلك جميع جند قنّسرين شربهم من السماء. وهي مدينة كثيرة الخير والسعة والتين والفستق وما شاكل ذلك من الكروم.

وأمّا (الخُناصِرة) فهي حصنٌ يُحاذي قنّسرين إلى ناحية البادية وعلى

____________________

(١) أعذاء: مفردها (عِذْيُ) الزّرع لا يسقيه إلاّ المطر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

يحيى عن سعيد بن المسيب قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر فسأله عن الذاريات الحديث، وفيه فأمر به عمر فضرب مائة سوط فلما برئ دعاه فضربه مائة أخرى ثمّ حمله على قتب وكتب إلى أبي موسى حرّم على النّاس مجالسته، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له أنّه لا يجد في نفسه شيئا، فكتب إلى عمر فكتب إليه خلّ بينه وبين النّاس. غريب تفرّد به ابن أبي سبرة. قلت: وهو ضعيف والراوي عنه أضعف منه ولكن أخرجه ابن السكن من وجه آخر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عن عمر بسند صحيح، وفيه فلم يزل صبيغ وضيعا في قومه بعد أن كان سيّدا فيهم. قلت وهذا يدلّ على أنّه كان في زمن عمر رجلا كبيرا. وأخرجه الإسماعيلي في حديث يحيى بن سعيد من هذا الوجه وأخرجه أبو زرعة الدمشقي من وجه آخر من رواية سليمان التميمي عن أبي عثمان ألنهدي به وأخرجه الدار قطني في الأفراد مطولا قال أبو أحمد العسكري أتّهمه عمر برأي الخوارج(1) .

هذا ما ذكره ابن حجر، وقد تناول القصّة كثيرون غيره بين مفصّل ومختصر(2) ، وقد اعتمد عليها الفقهاء والمفسّرون وغيرهم في استنباط أحكام يتوقّعون أن تكون مقبولة عند الله تعالى لأنها تستند إلى شخص حاكم، حجته الوحيدة فيما يقوم به هي أنه حاكم. قال السمعاني في معرض ذكر عبد الرحمن بن ملجم المرادي: ويقال هو أي عبد الرحمن بن ملجم الذي كان أرسل صبيغ بن عسل التّميمي إلى عمر بن الخطاب فسأله عما سأله من معجم القرآن، وقيل إن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه كتب إلى عمرو بن العاص أن قرّب دار عبد الرّحمن بن ملجم من المسجد ليعلّم الناس القرآن والفقه، فوسّع له مكان داره التي في الرّاية في الزيارتين إلى جانب دار ابن عديس البلوي قاتل

____________________

(1) الإصابة، ابن حجر، ج 3 ص 458، رقم 4127، دار الجيل بيروت 1412 هـ.

(2) إكمال الكمال لابن ماكولا، ج 5 ص 221: دار الكتاب الإسلامي القاهرة، و وج 6 ص 206، وهامش سير أعلام النبلاء الذهبي ج 10 ص 29 تحقيق شعيب الأرنؤط ومحمد نعيم العرقسوسي: والإصابة، 2 ج ص 198 ومعجم البلدان، ياقوت الحموي ج 4 ص 124 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 23 ص 408 والاشتقاق لابن دريد ص 228 والوافي بالوفيات ج 16 ص 283 والدر المنثور للسيوطي، ج 2 ص 152 ومسائل الإمام أحمد ج 1 ص 477.

٢٠١

عثمان(1) .

واستفاد المفسّرون من الواقعة على طريقة من يقدّس الحاكم، فأثنوا على عمر بن الخطّاب مبلغ ما استطاعوا، وتهجّموا على صبيغ جهد ما استطاعوا. قال الزرقاني بعد أن أورد قصة صبيغ: والدّبرة بفتحات ثلاث هي قرحة الدّابّة في أصل الوضع اللّغويّ والمراد هنا أنه صيّر في ظهره من الضّرب جرحا داميا كأنّه قرحة في دابّة [!]، ورضي الله عن عمر فإنّ هذا الأثر يدلّ على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها ويسأل الناس عنها(2) . وقال في مناهل العرفان أيضا: ثم إن كلامهم بهذه الصورة (الكلام في متشابه الصفات) فيه تلبيس على العامّة وفتنة لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمّة الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ وجعل مالكا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن الاستواء(3) . وقال السيوطي في الإتقان: وأخرج الدارمي عن عمر بن الخطّاب قال إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن فخذوهم بالسّنن فإنّ اصحاب السّنن أعلم بكتاب الله. فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله وأن الخوض فيه مذموم(4) .

وقال الآلوسيّ بعد أن أورد قصة صبيغ مع عمر: ويدلّ هذا أنّ الرّجل لم يكن سليم القلب، وأنّ سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلاّ لم يصنع به عمررضي‌الله‌عنه ما صنع(5) .

وأقول: بناء على قول الآلوسيّ يحق للمسلمين أن يحمدوا الله تعالى على أن أشرك معه عمر بن الخطّاب في علم النيّات والاطّلاع على القلوب! فقد اطلع عمر على قلب صبيغ وعلم أن نيّته لم تكن سليمة.

____________________

(1) الأنساب، السمعاني، ج 1 ص 451.

(2) مناهل العرفان في علوم القرآن، الزرقاني، ج 2 ص 207.

(3) مناهل العرفان ج 2 ص 210.

(4) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 2 ص 9.

(5) روح المعاني، الآلوسيّ، ج 27 ص 2.

٢٠٢

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى( أَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) : وهذه الآية تعمّ كلّ طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى:( فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) إن لم يكونوا الحروريّة وأنواع الخوارج فلا أدرى من هم. قلت: قد مرّ هذا التّفسير عن أبي أمامة مرفوعا وحسبك. السّادسة قوله تعالى( فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) قال شيخنا أبو العبّاس رحمة الله عليه: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتّبعوه ويجمعوه طلبا للتّشكيك في القرآن وإضلال العوامّ كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع تعالى الله عن ذلك، أو يتّبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال. فهذه أربعة أقسام.. (إلى أن قال).. أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء فبلغ ذلك عمررضي‌الله‌عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعدّ له عراجين من عراجين النّخل، فلمّا حضر قال له عمر: من أنت قال أنا عبد الله صبيغ فقال عمررضي‌الله‌عنه : وأنا عبد الله عمر. ثمّ قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ثمّ تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي قد اختلفت الروايات في أدبه وسيأتي ذكرها في الذّاريات ثمّ إن الله تعالى ألهمه التّوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته(1) .

هذا مع أنهم قد رووا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأل عن تفسير الآية فيفسرها، ومن السائلين عمر بن الخطّاب نفسه! قال السيوطي: وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاريّ في تاريخه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن

____________________

(1) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج 4 ص 13.

٢٠٣

المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والآجري في (الشريعة) وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه واللالكائي والبيهقي في (الأسماء والصفات) عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطّاب سئل عن هذه الآية( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ ) .. الآية، فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنّة حتّى يموت على عمل من أعمال أهل الجنّة فيدخله الله الجنة، وإذا خلق العبد للنّار استعمله بعمل أهل النّار حتّى يموت على عمل من أعمال أهل النّار فيدخله الله النار(1) .

إذا، سئل عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمحضر عمر ولم يعنف السائل ولا جلده بجريد النخل!

قال السيوطي: وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الإيمان عن عمر بن الخطّاب قال: الجبت السّاحر والطّاغوت الشّيطان(2) .

وهذه بعض أخبار عمر وهو يجيب السائلين عن آيات القرآن بغير ما أجاب به صبيغ بن عسل التميمي:

نقل السيوطي عن الطبري عن أبي محمد رجل من أهل المدينة قال سألت عمر بن الخطّاب عن قوله( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ ) قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سألتني فقال: خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه ثم أجلسه

____________________

(1) الدر المنثور، ج 3 ص 601.

(2) الدر المنثور ج 2 ص 564.

٢٠٤

فمسح ظهره بيده اليمنى فأخرج ذرا فقال: ذرء ذرأتهم للجنة. ثم مسح ظهره بيده الأخرى - وكلتا يديه يمين - فقال ذرء ذرأتهم للنار يعملون فيما شئت من عمل ثم أختم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار(1) . وهذا يعني أن عمر نفسه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ولم يضربه بجريد النخل؟!).

وفي تفسير الطبري: قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس وعمرو بن الحارث عن ابن شهاب أنّ أنس بن مالك حدّثه أنّه سمع عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه يقول: قال الله( وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ) كلّ هذا قد علمناه فما الأب؟ ثم ضرب بيده ثم قال: لعمرك إن هذا لهو التكلف. اتبعوا ما يتبين لكم في هذا الكتاب قال عمر: وما يتبين فعليكم به وما لا فدعوه. وقال آخرون: الأبّ الثّمار الرطبة(2) ..

قال الشّوكانيّ: وقد أخرج مالك في الموطّأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاريّ في تاريخه وأبو داود والتّرمذي وحسه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وأبو الشّيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في (الأسماء والصفات) والضياء في (المختارة): أنّ عمر بن الخطّاب سئل عن هذه الآية( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ ) الآية فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار(3) .

____________________

(1) الدر المنثور، ج 3 ص 600.

(2) تفسير الطبري ج 12 ص 451.

(3) فتح القدير، الشوكانيّ، ج 2 ص 383.

٢٠٥

قال الشّوكانيّ في تفسير قوله تعالى( وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ) : قرأ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه :( الّذِينَ اتّبَعُوهُم ) محذوف الواو وصفا للأنصار على قراءته برفع الأنصار فراجعه في ذلك زيد بن ثابت فسأل أبي بن كعب فصدق زيدا فرجع عمر عن القراءة المذكورة(1) .

أقول:

أليس هو القائل كما في تفسير القرطبي: من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت(2) ؟!

قال الشّوكانيّ: وأخرج وكيع وأبو سعيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يقرأ - صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالّين(3) .

قال السيوطي في الدّرّ المنثور(4) : وأخرج ابن جرير وأبو الشّيخ عن محمّد بن كعب القرظيّ قال مرّ عمر (برجل يقرأ: السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال أبيّ بن كعب. قال: لا تفارقني حتّى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال نعم. قال وسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال نعم. قال: لقد كنت أرى أنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا!! فقال أبيّ: تصديق ذلك في أوّل سورة الجمعة( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) ، وفي سورة الحشر( وَالّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ) ، وفي الأنفال( وَالّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنكُمْ ) . وأخرج أبو الشّيخ عن أبي أسامة ومحمّد بن إبراهيم التيميّ قالا: مرّ عمر بن الخطّاب برجل وهو يقرأ والسابقون الأوّلون... وأورد رواية الحاكم!

____________________

(1) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج 2 ص 577.

(2) تفسير القرطبي، ج 18 ص 20.

(3) فتح القدير، الشوكانيّ، ج 1 ص 38.

(4) الدر المنثور السيوطي، ج 3 ص 269.

٢٠٦

آيات منسوخة التلاوة!!

قالوا: لم يبين هنا هل جعل لهن سبيلا أو لا ولكنه بين في مواضع أخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما وقوله في الثّيب الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم، لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة(1) .

أقول:

ومنسوخ التّلاوة من أعجب ما يلاقيه الباحثون؛ وههنا كلام آخر في هذا المعنى، أوردوه تصحيحا منهم لما يذهب إليه عمر من نسخ التلاوة. قال القرطبي في تفسيره: فقد كان الكلام مباحا في الصلاة وقد روي في هذه القصة أنه كان مما يقرأ أفرأيتم اللاّت والعزى ومناة الثالثة الأخرى والغرانقة العلا وإنّ شفاعتهن لترتجى. روي معناه عن مجاهد. وقال الحسن أراد بالغرانيق العلا الملائكة، وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنّها الملائكة، وذلك أنّ الكفّار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله كما حكى الله تعالى عنهم وردّ عليهم في هذه السورة بقوله( أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى ) فأنكر الله كل هذا من قولهم ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس كما نسخ كثير من القرآن ورفعت تلاوته(2) .

قال الشّوكانيّ: وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: قرأ عمر بن الخطّاب هذه الآية( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ثم قال لي:

____________________

(1) أضواء البيان، ج 1 ص 229.

(2) تفسير القرطبي، ج 12، ص 85.

٢٠٧

ادع لي رجلا من بني مدلج قال عمر: ما الحرج فيكم؟ قال: الضيق(1) .

وقال: أخرج مالك والشافعي والبخاريّ ومسلم وابن حبّان والبيهقيّ في سننه عن عمر بن الخطّاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستمتعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكدت أساوره في الصلاة! فتصبّرت حتّى سلّم فلبّبته بردائه(2) فقلت: من أقرأك هذه السّورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: كذبت فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرسله، أقرئنا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذلك أنزلت، ثم قال: أقرئنا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه(3) .

وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن المغيرة قال: سئل عمر بن الخطّاب عن (نسبا وصهرا) فقال: ما أراكم إلا وقد عرفتم النّسب وأما الصّهر: فالأختان والصّحابة(4) .

وعن ابن عبّاس أنّ عمر بن الخطّاب قام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد أيّها الناس إنّ الله بعث محمّدا بالحقّ وأنزل عليه الكتاب فكان في ما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ورجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده فأخشى أن يطول بالنّاس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله(5) .

____________________

(1) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج 3 ص 673.

(2) قال ابن منظور في لسان العرب (ج 1 ص 734) يقال لببت الرجل ولببته إذا جعلت في عنقه ثوبا أو غيره وجررته به والتلبيب مجمع ما في موضع اللبب من ثياب الرجل وفي الحديث أنه أمر بإخراج المنافقين من المسجد فقام أبو أيوب إلى رافع بن وديعة فلببه بردائه ثم نتره نترا شديداً.

(3) فتح القدير الشّوكانيّ، ج 4 ص 86.

(4) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج 4 ص 118.

(5) صحيح البخاريّ ج 6 ص 2504، وصحيح مسلم ج 3 ص 1317 وصحيح ابن حبان ج 2 ص 154 وج 10 ص 273 وسنن النسائي الكبرى ج 4 ص 273 وج 4 ص 274 وسنن ابن ماجه ج 2 ص 853 وسنن البيهقي الكبرى ج 8 ص 210

٢٠٨

وعن مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: قال عمر إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرّجم أن يقول قائل لا أجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله ورجمنا والذي نفسي بيده لو لا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها(1) .

عن حذيفة قال: قال لي عمر بن الخطّاب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين أو ثلاث وسبعين قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة [!] وإن كان فيها لآية الرجم(2) .

وأخرج البخاريّ في تاريخه عن حذيفة قال: قرأت سورة الأحزاب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها(3) . وأخرج أبو بعيد في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقرّر منها إلا على ما هو الآن(4) .

قال الرازي: أما قوله تعالى( فَجاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) فقوله على استحياء في موضع الحال أي مستحيية قال عمر بن الخطّاب قد استترت بكم قميصها(5) .

قال الشّوكانيّ: وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي في دلائله عن بجالة قال: مرّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم فقال يا غلام حكّها فقال: هذا مصحف أبي؛ فذهب إليه فسأله فقال: إنّه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق(6) .

____________________

وج 8 ص 212 وتلخيص الحبير ج 4 ص 51 وسنن الدارمي ج 2 ص 234 وسنن أبي داود ج 4 ص 144 ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 40.

(1) اختلاف الحديث، ج 1 ص 533.

(2) فتح القدير ج 4 ص 259 وكنز العمال ج 2 ص 203.

(3) التاريخ الكبير ج 4 ص 241.

(4) فتح القدير ج 4 ص 259.

(5) التفسير الكبير، الرازي، ج 24 ص 206.

(6) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج 4 ص 372.

٢٠٩

أقول: ومع ذلك فإنّ قوله وهو أب لهم لا توجد في مصحف القرآن الكريم الذي بين أيدي النّاس اليوم!

قال البغويّ: روى هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية بكى عمررضي‌الله‌عنه فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنّه لم يكمل شيء قطّ إلاّ نقص قال: صدقت(1) .

أقول:

عجبا لهؤلاء المفسّرين أعماهم اسم عمر بن الخطّاب حتى غدوا يمجّدون الضّلال، وإلاّ فكيف يمكن أن ينقص شيء أكمله الله تعالى؟ وما هي هذه القوّة التي تتجاوز قوّة الله تعالى وقدرته وتنقص ما أكمله؟ وكيف يحتجّ الله تعالى على الخلائق يوم القيامة بدين ناقص؟!

قال الآلوسيّ: وأخرج مالك في الموطّأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاريّ في التاريخ وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وخلق كثير عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه سئل عن هذه الآية( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ.. ) الخ فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنها فقال: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرّيّة فقال: خلقت هؤلاء للجنّة وبعمل أهل الجنّة يعملون ثمّ مسح ظهره فاستخرج منه ذريّة فقال: خلقت هؤلاء للنّار وبعمل أهل النّار يعملون فقال الرّجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إذا خلق العبد للجنّة استعمله بعمل أهل الجنّة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنّة فيدخله الله الجنّة؛ وإذا خلق العبد للنّاراستعمله بعمل أهل النّار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النّار، فيدخله الله تعالى النّار(2) ..

أقول:

هذا هو الأدب النبوي الشريف في إجابة السائلين، وكان على عمر أن يجيب صبيغا

____________________

(1) تفسير البغوي، ج 1 ص 10.

(2) روح المعاني، الآلوسيّ، ج 9 ص 103.

٢١٠

كما أجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا السائل؛ بل كما أجاب عمر في هذه المرّة.

قال الآلوسيّ: ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن مردويه وغيرهم عن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه قال لما نزلت( فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ ) قلت: يا رسول الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كلّ ميسّر لما خلق له(1) .

قال الرازي: المسألة الثالثة روي أن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه كان يقرأ( وَالسّابِقُونَ الْأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ) فكان يعطف قوله الأنصار على قوله رحيم والسّابقون وكان يحذف الواو من قوله( وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ) ويجعله وصفا للأنصار. وروي أن عمر كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه، قال أبي: والله لقد أقرأنيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا الوجه وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة، فقال عمررضي‌الله‌عنه : صدقت؛ شهدتم وغبنا وفرغتم وشغلنا ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا. وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب والتفاوت أن على قراءة عمر يكون التعظيم الحاصل من قوله والسّابقون الأولون مختصا بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين والله أعلم وروي أن أبيّا احتجّ على صحّة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله( وَالّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا ) بعد تقدّم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى وبأواسط سورة الحشر وهو قوله( وَالّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ) وبأوّل سورة الجمعة وهو قوله( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) (2) .

وقال الغرناطيّ في التّسهيل: وقرأ عمر بن الخطّاب فامضوا إلى ذكر الله، وهذا تفسير للسعي فهو بخلاف السعي في قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نودي للصلاة فلا تأتونها وأنتم

____________________

(1) روح المعاني، الآلوسيّ، ج 12 ص 147.

(2) التفسير الكبير، الرازي، ج 16 ص 136.

٢١١

تسعون(1) . وقال: سأل عمر بن الخطّاب جماعة من الصّحابةرضي‌الله‌عنه عن معنى هذه السّورة فقالوا إن الله أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتسبيح والاستغفار عند النّصر والفتح وذلك على ظاهر لفظها، فقال لابن عبّاس بمحضرهم: يا عبد الله ما تقول أنت؟ قال: هو أجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلمه الله بقربه إذا رأى النصر والفتح. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما علمت(2) .

أقول: هذا حجّة على عمر بخصوص ما جرى بينه وبين صبيغ، فإنّه لا يمكن أن يجوز لعمر ما لا يجوز لصبيغ وهما تابعان لدين واحد؛ فكما جاز لعمر أن يسأل عن معنى الآية يجوز لغير عمر ذلك أيضا، والمسلمون سواسية كأسنان المشط. وفي هذا وأمثاله لا تنفع عمر بن الخطاب تأويلات المتأوّلين وتعديلات المعدّلين.

وينفرد عمر بن الخطاب في قراءة الفاتحة أيضا، علما أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرؤها مرات كل يوم، فمهما اختلف المسلمون لا يعقل أن يختلفوا في شيء يسمعونه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ست مرّات كل يوم(3) . أخرج وكيع وأبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي داود وابن الأنباري كلاهما في المصاحف من طرق عمر بن الخطّاب أنّه كان يقرأ: (صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين)(4) .

قال السّيوطيّ: وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر بن الخطّاب قال إن الله بعث محمّدا بالحقّ وأنزل معه الكتاب فكان في ما أنزل عليه آية الرّجم فرجم ورجمنا بعده؛ ثمّ قال: قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأخرج الطيالسي وأبو عبيد والطبراني عن عمر بن الخطّاب قال كنا نقرأ في ما نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ثم قال لزيد بن ثابت أكذلك يا زيد؟ قال نعم.

____________________

(1) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 4 ص 119.

(2) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 4 ص 221.

(3) ست مرات هي مواضع الجهر بالفاتحة يوميا، صلاة الصبح وصلاة المغرب وصلاة العشاء.

(4) قاله السيوطي في الدر المنثور، ج 1 ص 40..

٢١٢

وأخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق عدي بن عدي بن عمير بن قزوة عن أبيه عن جده عمير بن قزوة أن عمر بن الخطّاب قال لأبي: أوليس كنا نقرأ في ما نقرأ من كتاب الله غن انتفاءكم من آبائكم كفر بكم؟ فقال: بلى؛ ثم قال: أوليس كنا نقرأ الولد للفراش وللعاهر الحجر في ما فقدنا من كتاب الله؟ فقال أبي: بلى! وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرّحمن بن عوف: ألم تجد في ما أنزل علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة؟ فإنّا لا نجدها! قال: أسقطت من القرآن. وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عمر قال: لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه ما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير! ولكن ليقل قد أخذت ما ظهر منه(1) .

أقول:

اختلط على عمر ما كان يقرأه من التّوراة وما كان يسمعه من التّنزيل فانفرد بآيات لا هي قرآن محض ولا هي توراة صرفة، ولو صحّ شيء مما يقوله لما غاب ذلك عن باب مدينة العلم.

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطّاب أنه خطب فقال: إنّ من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنّه قد مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يبيّنه لنا! فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم(2) .

أقول: قال الله تعالى( أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) وقال عمر بن الخطّاب: مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يبيّنه لنا.

قال الآلوسي: قال عمر بن الخطّاب: قلت: يا رسول الله أي جمع يهزم؟ فلمّا كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله في آثارهم مصلتا بالسّيف وهو يقول: سيهزم الجمع ويولّون الدّبر، فكانت ليوم بدر(3) .

____________________

(1) الدر المنثور، السيوطي، ج 1 ص 258.

(2) الدر المنثور، السيوطي، ج 2 ص 104.

(3) روح المعاني، الآلوسي، ج 27 ص 73.

٢١٣

أقول:

إن صحّ كلام عمر فهو يعني أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن في العريش!

قالوا: واختلف في معنى الطاغوت فقال عمر بن الخطّاب وغيره: هو الشيطان وقيل هو الساحر وقيل الكاهن وقيل الأصنام(1) .

أقول: يحتاج قول عمر إلى مزيد من الدقّة في البيان، فغن الله تعالى يقول:( شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) .

وكان (أي عمر) لا يفهم معنى قوله تعالى( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى‏ تَخَوّفٍ ) فوقف به فتى فقال: إنّ أبي يتخوّفني حقّي؛ فقال عمر: الله أكبر(2) .

لماذا ينتظر عمر حتى يأتي هذا الفتى ويفهمه معنى التّخوف؟ لماذا لم يسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ لعلّه كان مشغولا عن ذلك بالصّفق في الأسواق كما شهد به هو على نفسه. وقد ذكر الثعالبي القصّة مرّة أخرى في موطن آخر من تفسيره فقال: روي أنّ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك فيروى أنه جاءه فتى من العرب فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أبي يتخوفنى مالي فقال عمر الله اكبر.

وأنت ترى أنّه يريد أن يكتب إلى الأمصار في معنى التخوف ويحاسب صبيغا على سؤاله الصّحابة عن قوله تعالى والذّاريات ذروا.

قال الداودي: بينما عمر بن الخطّاب بطريق مكّة ليلا إذا ركب مقبلين من جهة فقال لبعض من معه: سلهم من أين اقبلوا؛ فقال له أحدهم: من الفجّ العميق يريد البلد العتيق. فأخبر عمر بذلك فقال: أوقعوا في هذا قل لهم: فما أعظم آية في كتاب الله وأحكم آية في كتاب الله وأعدل آية في كتاب الله وأرجى آية في كتاب الله وأخوف آية في كتاب الله؟ فقال له قائلهم: أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي، وأحكم آية في كتاب الله (إن

____________________

(1) تفسير الثعالبي، ج 1 ص 203.

(2) تفسير الثعالبي، ج 1 ص 16.

٢١٤

الله يأمر بالعدل والإحسان، وأعدل آية في كتاب الله (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وأرجى آية في كتاب الله( إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ) وأخوف آية في كتاب الله (من يعمل سواء يجز به) فأخبر عمر بذلك فقال لهم عمر: أفيكم ابن أمّ عبد؟ فقالوا: نعم، وهو الذي كلّمك. قال عمر كنيف(1) ملئ علما آثرنا به أهل القادسية على أنفسنا(2) !

يقول عمر بن الخطاب عن عبد الله بن مسعود كنيف والكنيف في لغة العربية معلوم(3) !!.

قال الثعالبي: قرأ عمر بن الخطّاب وغيره قل هو الله الواحد الصمد(4) .

وقال ابن كثير: وروى أنس عن عمر بن الخطّاب أنه قرأ على المنبر (وفاكهة وأبا) فقال: هذا الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثمّ رجع إلى نفسه فقال: إنّ هذا لهو التّكلّف يا عمر(5) .

هكذا تساءل صبيغ بن عسل فقال: ما هي الذاريات؟ تماما كما تساءل عمر بن الخطّاب فقال ما هو الأب؟ وما على عمر من بأس أن يتساءل ثم يتراجع عن تساؤله ويصفه بالتكلّف، أمّا صبيغ فيكلّفه تساؤله مائتا سوط بجريد النخل على القدر المتيقن وفق ما ذكرته الرّوايات.

قال البخاري: قال عمر بن الخطّاب يوما لأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في من ترون هذه

____________________

(1) لفظ الكنيف في لغة العرب يدل على مكان مستقذر، ولا يحقّ لمن يدافع عن عدالة جميع الصّحابة أن يسكت ههنا لمجرّد أن القائل هو عمر.

(2) تفسير الثعالبي، ج 4 ص 434.

(3) في المغرب في ترتيب المعرب ج 2 ص 235، الكنيف المستراح، وفي المعجم الوسيط ج 1 ص 381 المستراح: الكنيف أو بيت الخلاء. وفي تاج العروس ج 24 ص 336: ومنه سمّي المرحاض كنيفا وهو الذي تقضى فيه حاجة الإنسان كأنّه كنف في أستر النواحي. وفي المطلع على أبواب المقنع ج 1 ص 11: الخلاء ممدودا المكان الذي تقضي فيه الحاجة عن الجوهري وسمي بذلك لأنه يتخلى فيه أي ينفرد وقال أبو عبيد يقال لموضع الغائط الخلاء والمذهب والمرفق والمرحاض ويقال له أيضا الكنيف للاستشار فيه وكل ما ستر من بناء وغيره فهو كنيف وفي المصباح المنير ج 2 ص 542) والكنف الساتر ويسمى الترس كنيفا لأنه يستر قاضي الحاجة والجمع كنف.

(4) تفسير الثعالبي، ج 4 ص 450.

(5) مختصر ابن كثير، ج 1 ص 5.

٢١٥

الآية نزلت( أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) ؟ قالوا: الله أعلم فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم! فقال ابن عبّاس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. فقال ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه : ضربت مثلا بعمل قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عبّاس: لرجل غني يعمل(1) ..

وعن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطّاب (فقال: إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم(2) ..

أقول: نعم الآمر الناهي من كان كذلك!

ويكفي ألاّ يعجب السؤال عمر كيما يضرب السائل بالدرة. فعن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة فسأله آخر عن هذه الآية:( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً ) ثم قال: مثل هذا فاسألوا ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنّها في تزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز(3) .

وعن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطّاب سئل عن هذه الآية:( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى‏ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُوا بَلَى‏ ) الآية فقال عمر بن الخطّاب: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية(4) ..

لماذا لم يضرب عمر الرّجل السائل كما ضرب صبيغا؟ أليسا على دين واحد لهما

____________________

(1) صحيح البخاري ج 4 ص 1650 والمستدرك على الصحيحين ج 3 ص 625 وإعلام الموقعين ج 1 ص 185 و تفسير ابن كثير ج 1 ص 320 وتفسير البغوي ج 1 ص 253 وتفسير السمعاني ج 1 ص 271 وتفسير الطبري ج 3 ص 76 وتفسير القرطبي ج 3 ص 318 وروح المعاني ج 3 ص 38 ومعاني القرآن ج 1 ص 294 والإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 346.

(2) مختصر ابن كثير، ج 1 ص 191.

(3) مختصر ابن كثير، ج 1 ص 322.

(4) سنن أبي داود ج 4 ص 226 وصحيح ابن حبان ج 14 ص 37 وسنن الترمذي ج 5 ص 266 وسنن النسائي الكبرى ج 6 ص 347 والأحاديث المختارة ج 1 ص 407 والتفسير الكبير ج 15 ص 39 والدر المنثور ج 3 ص 601 وموارد الظمآن ج 1 ص 447.

٢١٦

نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات؟!

وقال سفيان الثوري عن عمر بن الخطّاب في قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً ) قال: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال: قال ابن عبّاس لعمر بن الخطّاب: يا أمير المؤمنين هذه الآية:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال: هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك. فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر وأما أعمامك فأملى الله لهم(1) .

قال ابن عاشور: وقد سأل عمر بن الخطّاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

وفي صحيح البخاريّ وغيره أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبّبته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله. فقلت: كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت(3) !

أقول:

كاد عمر يساوره في الصّلاة، وقال له كذبت، وتبيّن فيما بعد أن الرجل كان صادقا ولم يثبت أنّ عمر اعتذر إليه! وتراه يلبّب كلّ من يخالفه حتى لو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتصور أنّ كلّ ما غاب عنه باطل لا أصل له، ويتّهم الصّحابة في القرآن الكريم وكأنّه قيّم عليه، ومع ذلك فهو أحد الذين تنتهي إليهم القراءات العشر.

____________________

(1) مختصر ابن كثير، ج 2 ص 425.

(2) التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج 1 ص 14.

(3) صحيح البخاري ج 4 ص 1923 وصحيح البخاري ج 6 ص 2744 وصحيح مسلم ج 1 ص 561 وسنن الترمذي ج 5 ص 193 وسنن النسائي المجتبى ج 2 ص 151 والتمهيد لابن عبد البر ج 8 ص 272.

٢١٧

وفي صحيح البخاري وموطإ مالك وغيرهما عن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطّاب يسير معه فسأله عمر بن الخطّاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال: عمر ثكلت أمّ عمر نزرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال: لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ( إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) (1) .

هذا مبلغ ظن عمر بنفسه، يخشى أن ينزل فيه قرآن، وفيه إفحام لمن يحبّون أن يظهروا عمريّين أكثر من عمر نفسه.

في الصحيح عن ابن عبّاس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها(2) .

وروى عبدالرزاق عن ابن سيرين قال: كان عمر بن الخطّاب إذا قرأ (يبين الله لكم أن تضلوا) قال من بينت له في الكلاله فلم تبين لي(3) .

قال النحاس: وقرأ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه القيّام(4) .

وقال الزركشي: وقوى هذا الوجه عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال لما

____________________

(1) صحيح البخاري ج 4 ص 1531 وصحيح البخاري ج 4 ص 1829 وصحيح البخاري ج 4 ص 1915 و موطأ مالك ج 1 ص 203 وصحيح ابن حبان ج 14 ص 320 وسنن الترمذي ج 5 ص 385 ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 31 والتمهيد لابن عبد البر ج 3 ص 263 والاستذكار ج 2 ص 495.

(2) التحرير والتنوير، ج 1 ص 4475.

(3) تفسير الصنعاني، ج 1 ص 178.

(4) معاني القرآن، النحاس، ج 1 ص 260.

٢١٨

خرجنا إلى العراق خرج معنا عمر بن الخطّاب يشيعنا فقال إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تشغلوهم بالأحاديث فتصدوهم جرّدوا القرآن. قال فهذا معناه أي لا تخلطوا معه غيره(1) .

أقول:

أين الضّرر في أن يتعلم المسلمون حديث نبيّهم ويسجّلوه قبل أن يقدم العهد ويموت من المحدّثين من يموت وينسى من ينسى. وكيف يكون فقيها من يعرف القرآن الكريم ولا يعرف من الحديث شيئا؟! ولو أنّ الصّحابة رووا وحدّثوا كلّ ما سمعوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نسدّت الأبواب في وجوه الوضّاعين؛ لكن عمر بن الخطاب له نظرته الخاصة في كل شيء وهو دائما على حقّ.

قال المقري في الناسخ والمنسوخ: وأما ما نسخ خطّه وبقي حكمه فمثل ما روي عن عمر بن الخطّاب (أنّه قال لو لا أن أخشى أن يقول النّاس قد زاد عمر في القرآن ما ليس فيه لكتبت آية الرّجم وأثبتّها في المصحف و والله لقد قرأناها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ترغبوا عن آبائكم فانّ ذلك كفر بكم الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم(2) .

العجيب في هذه القصة هو إجماع الصحابة على ترك آية قرأوها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا بناء على قول عمر لقد قرأناها على عهد رسول الله؛ فإنّ يكونوا تركوها بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى لكلام عمر، وإن يكونوا تركوها بدون أمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينفتح عليهم باب واسع للنقد بخصوص نقل القرآن الكريم.

قال المقري: وأما ما نسخ خطه وبقي حكمه فمثل ما روي عن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه أنه قال لو لا أن أخشى أن يقول الناس قد زاد عمر في القرآن ما ليس فيه لكتبت آية الرجم وأثبتها في المصحف ووالله لقد قرأناها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ترغبوا

____________________

(1) البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ج 1 ص 480.

(2) الناسخ والمنسوخ، المقري، ج 1 ص 21.

٢١٩

عن آبائكم فان ذلك كفر بكم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فهذا منسوخ الخط ثابت الحكم(1) .

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه سمع عبد الله بن عباس يقول: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله قد بعث محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف(2) .

قال السيوطي: وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف ألم تجد فيما أنزل علينا إن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة فإنا لا نجدها قال أسقطت من القرآن(3) . وهذا يعني أن قرآن قريش أسقط منه شيء كثير؟ والخبر نفسه يرويه ابن عساكر بزيادة؛ قال: أخبرناه أعلى من هذا بأربع درجات أبوبكر بن المزرفي (نا) أبو الحسين بن المهتدي (نا) عيسى بن علي (أنا) عبد الله بن محمد نا دواد بن عمرو (نا) نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد في ما أنزل الله جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة؟ قال: بلى. قال: فإنّا لا نجدها. قال: أسقطت في ما أسقط من القرآن. قال: أتخشى أن يرجع الناس كفارا؟ قال: ما شاء الله! قال: لئن رجع الناس كفارا ليكوننّ أمراؤهم بني فلان ووزراؤهم بني فلان!

قالوا (في رواية عن عائشة): ثم جاء أبوبكر يستأذن فقال ما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا عائشة؟ فقلت: أغمي عليه منذ ساعة. فكشف عن وجهه فوضع فمه بين عينيه ووضع

____________________

(1) الناسخ والمنسوخ للمقري ج 1 ص 21.

(2) صحيح مسلم، ج 3 ص 1317.

(3) الدر المنثور، السيوطي، ج 1 ص 258. والإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 68 وكنز العمال ج 2 ص 240.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486