تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 486
المشاهدات: 73100
تحميل: 9203


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73100 / تحميل: 9203
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

ذكر وفاة سعد الدولة بن حمدان:

(وفي هذه السنة (٣٨١): لمّا برز سعد الدولة ليسير إلى دمشق لحقه (قُولنج)، فعاد إلى حلب ليتداوى، فزال ما به وعُوفي، وعزم على العود إلى معسكره، وحضر عند إحدى سراريه فواقعها فسقط عنها وقد فُلِج وبطل نصفه، فاستدعى الطبيب، فقال له: أعطني يدك لآخُذ مجسّك ؛ فأعطاه اليُسرى، فقال: أعطني اليمين، فقال: لا تركت لي اليمين يميناً، يعني نكثه بأولاد بكجور هو الذي أهلكه، وقد ذُكر ذلك، وندم عليه حيث لم تنفعه الندامة، وعاش بعد ذلك ثلاثة أيّام ومات بعد أن عهد إلى ولده أبي الفضائل، ووصّى إلى لؤلؤ به وبسائر أهله.

فلمّا تُوفّي قام أبو الفضائل، وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد، وتراجعت العساكر إلى حلب.

وكان الوزير أبو الحسن المغربيُّ قد سار من مشهد علي (عليه السلام) إلى العزيز بمصر، وأطمعه في حلب، فسيّر جيشاً وعليهم منجوتكين أحد أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيشٍ كثيفٍ فحصرها، وبها أبو الفضائل ولؤلؤ، فكتبا إلى (بَسِيل) ملك الروم يستنجدانه، وهو يقاتل البلغار، فأرسل بسيل إلى نائبه بأنطاكية يأمره بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسين ألفاً، حتّى نزل على الجسر الجديد بالعاصي، فلمّا سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل، وعبر إليهم العاصي، وأوقعوا بالروم فهزموهم وولّوا الأدبار إلى أنطاكية، وكثر القتل فيهم.

وسار منجوتكين إلى أنطاكية، فنهب بلدها وقُراها وأحرقها، وأنفذ أبو الفضائل إلى بلد حلب، فنقل ما فيه من الغلال، وأحرق الباقي إضراراً بعساكر مصر، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربيّ وغيره، وبذل لهم مالاً ليردّوا منجوتكين عنهم، هذه السنة ؛ بعلّة تعذّر الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق.

ولمّا بلغ الخبر إلى العزيز غضب وكتب بعود العسكر إلى حلب، وإبعاد المغربيّ، وأنفذ الأقوات من مصر في البحر إلى طرابلس، ومنها إلى العسكر، فنازل العسكر حلب، وأقاموا عليها ثلاثة عشر شهراً، فقلّت الأقوات بحلب.

١٤١

وعاد إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به، وقال له: متى أُخذت حلب أُخذت أنطاكية وعظم عليك الخطب.

وكان قد توسّط بلاد البلغار، فعاد وجدّ في السير، وكان الزّمان ربيعاً، وعسكر مصر قد أرسل إلى منجوتكين يعرّفه الحال، وأتته جواسيسه بمثل ذلك، فأخرب ما كان بناه من سوقٍ وحمّامٍ وغير ذلك، وسار كالمنهزم عن حلب، ووصل ملك الروم فنزل على باب حلب، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ، وعاد إلى حلب، ورحل بَسيل إلى الشام، ففتح حمص وشيزر ونهبهما، وسار إلى طرابلس فنازلها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيّفاً وأربعين يوماً، فلمّا أيس منها عاد إلى بلاد الروم.

ولمّا بلغ الخبر إلى العزيز عظم عليه، ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم، وبرز من القاهرة، وحدثت به أمراض منعتْه، وأدركه الموت)(١) .

(وفي حوادث سنة ٤٠٢):

أسر صالح بن مرداس وملكه حلب وملك أولاده

(ثمّ إنّ لؤلؤاً من موالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان قوي على ولد سعد الدولة، وأخذ البلد منه، وخطب للحاكم صاحب مصر، ولقّبه الحاكم مرتضى الدولة، ثمّ فسد ما بينهما، فطمع فيه ابن مرداس، وبنو كلاب)(٢) ، واستولوا على حلب، (وتنقَّلتْ فيهم وفي غيرهم إلى أن صارت بيد إنسان من الحمدانيَّة يُعرف بعزيز الملك، فقدّمه الحاكم واصطنعه وولاّه حلب، فلمّا قُتل الحاكم ووليَ الظاهر عصى عليه)(٣) ، وقُتل بسعيٍ أخت الحاكم.

(وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقّب بمعزّ الدولة بالرحبة، فلمّا بلغه موت (الدزبريّ) جاء إلى حلب فملكها تسليماً من أهلها سنة ٤٣٤، وبقي فيها إلى سنة ٤٤٠، فأنفذ المصريّون إلى محاربته أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان، فخرج أهل حلب إلى حربه، فهزمهم، ثمّ

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٨٥ - ٨٦ - ٨٧ - ٨٨ - ٨٩ - ٩٠.

(٢) م ٩ ص ٢٢٧ - ٢٢٨.

(٣) م ٩ ص ٢٣٠.

١٤٢

رحل عنها وعاد إلى مصر، ثمّ أنفذ المصريّون إلى قتال معزّ الدولة خادماً يُعرف برِفْق فخرج إليه في أهل حلب، فقاتلوه، فانهزم المصريّون، وأُسر رِفْق ومات عندهم.

ثمّ إنّ معزّ الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين، وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب، فأنفذوا إليها أبا عليّ الحسن بن عليّ بن ملهم ولقّبوه مكين الدولة، فتسلّمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وأربعمئة.

وسار ثمال إلى مصر، وأقام ابن ملهم بحلب، فجرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب.

وسمع ابن ملهم أنّ بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح يستدعونه ليسلّموا البلد إليه، فقبض على جماعةٍ منهم....

ثمّ اجتمع أهل البلد، واشتدّوا، وراسلوا محموداً فجاء إلى حلب سنة ٤٥٢.

ووصلت الأخبار إلى مصر، فسيّروا ناصر الدولة أبا عليّ بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكرٍ بعد اثنين وثلاثين يوماً من دخول محمود حلب، فلمّا قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرّيّة، واختفى الأحداث جميعهم، وكان عطية بن صالح نازلاً بقرب البلد، وقد كره فعل محمود ابن أخيه، فقبض ابن ملهم على مئةٍ وخمسين من الأحداث، ونهب وسط البلد، وأخذ أموال الناس.

وأمّا ناصر الدولة فلم يمكّن أصحابه من دخول البلد ونهْبه، وسار في طلب محمود فالتقيا بالغُنَيْدق في رجب، فانهزم ابن حمدان، وثبت هو فجُرح وحُمل إلى محمد أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها، وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمئة، وأطلق ابن حمدان، فسار هو وابن ملهم إلى مصر)(١) .

ثمّ جرت هنالك عدّة معارك انتهت بتسلّم ثمال حلب، ثمّ أخيراً بخروجها من ملك بني مرداس.

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٢٣١ - ٢٣٢ - ٢٣٣.

١٤٣

(وفي حوادث سنة ٤٥٢): ملك محمود بن شبل الدولة حلب

(لمّا حصر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكلابيُّ مدينةً حلب، كتب أهلها إلى مصر يستنجدون عليه المستنصر بالله، فأمر ناصر الدولة أبا محمّد الحسين بن الحسن بن حمدان الأمير بدمشق، أن يسير بمَن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود، فسار إلى حلب)(١) .

وانتهى الأمر بانهزام ناصر الدولة.

(وفي حوادث سنة ٤٦٥): ذكر قتل ناصر الدولة بن حمدان

(في هذه السنة قُتل ناصر الدولة أبو عليّ الحسن بن حمدان، وهو من أولاد ناصر الدولة بن حمدان، بمصر، وكان قد تقدّم فيها تقدّماً عظيماً)(٢) .

(والأسباب الموجبة لقتله تُلخص عن الكامل بأُمور:

أ - انحلال أمر الخلافة، وفساد أحوال المستنصر بالله، وسببه غلبة والدته على أمره، وقد اصطنعت أبا سعيد إبراهيم التُّستَريّ اليهوديّ، وصار وزيراً لها، فأشار عليها بوزارة أبي نصر الفلاحيّ، فولته الوزارة، واتّفقا مدّةً، ثمّ صار الفلاحيُّ ينفرد بالتدبير، فوقع بينهما وحشة، فخاف الفلاحيّ أن يفسد أمره مع أمّ المستنصر، فاصطنع الغلمان الأتراك، واستمالهم، وزاد في أرزاقهم، فلمّا وثق بهم وضعهم على قتل اليهوديّ، فقتلوه، فعظم الأمر على أمّ المستنصر، وأغرت به ولدها، فقبض عليه، وأرسلت من قتله تلك الليلة)(٣) .

وأخذت تـنقل الوزارة من رجلٍ إلى آخر، واستكثرت من العبيد لتضرب بهم الأتراك، حتّى أدّى الحال ببعضهم أن ضرب المستنصر فجرحه، فعظم ذلك على الأتراك، ونشبت بينهم وبين العبيد الحرب، واستحكمت بين الفريقين العداوة، ونشطهم على الأتراك الوزير أبو عبد الله

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ١١ - ١٢.

(٢) ص ١٠ ص ٨٠.

(٣) م ١٠ ص ٨٠ - ٨١.

١٤٤

الحسين بن البابليّ ؛ فاجتمع الأتراك إلى مقدّميهم، وقصدوا ناصر الدولة بن حمدان، وهو أكبر قائد بمصر، وشكوا إليه، واستمالوا المصامدة، وكتامة، وتعاهدوا وتعاقدوا فقوي الأتراك وضعف العبيد المحدثون، فخرجوا من القاهرة إلى الصعيد ليجتمعوا هناك، فانضاف إليهم خلقٌ كثير يزيدون على خمسين ألف فارسٍ وراجل، فخاف الأتراك وشكوا إلى المستنصر، فأعاد الجواب أنّه لا علم له بما فعل العبيد، وأنّه لا حقيقة له، فظنّوا قوله حيلة عليهم.

ثمّ قوي الخبر بقرب العبيد منهم بكثرتهم، فأجفل الأتراك وكتامة والمصامدة، وكانت عدّتهم ستّة آلاف، فالتقوا بموضعٍ يُعرف بكَوْمِ الرّيش، واقتتلوا فانهزم الأتراك ومَن معهم إلى القاهرة، وكان بعضهم قد كمن في خمسمئة فارس، فلمّا انهزم الأتراك خرج الكمين على ساقة العبيد ومَنْ معهم، وحملوا عليهم حملةً منكرة، وضُربت البوقات، فارتاع العبيد، وظنّوها مكيدةً من المستنصر، وأنّه قد ركب في باقي العسكر، فانهزموا، وعاد عليهم الأتراك وحكّموا فيهم السيوف، فقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفاً، وكان يوماً مشهوداً.

وقويت نفوس الأتراك، وتجمّعوا وحشدوا، فتضاعفت عدّتهم، وزادت واجباتهم للإنفاق فيهم، فخلت الخزائن، واضطربت الأُمور، وتجمّع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد، فاجتمعوا مع العبيد فصاروا خمسة عشر ألف فارسٍ وراجل، وساروا إلى الجيزة، فخرج عليهم الأتراك ومَنْ معهم، واقتتلوا في الماء عدّة أيّام، ثمّ عبر الأتراك النّيل إليهم مع ناصر الدولة بن حمدان، فاقتتلوا، فانهزم العبيد إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والأتراك منصورين.

ثمّ إنّ العبيد اجتمعوا بالصعيد في خمسة عشر ألف فارسٍ وراجل، فقلق الأتراك لذلك، فحضر مقدّموهم دار المستنصر لشكوى حالهم، فأمرت أمّ المستنصر مَنْ عندها من العبيد بالهجوم على المقدّمين والفتك بهم، ففعلوا ذلك، وسمع ناصر الدولة بالخبر، فهرب إلى ظاهر البلد، واجتمع الأتراك إليه، ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد، ومَن تبعهم من مصر، والقاهرة، وحلف الأمير ناصر الدولة بن حمدان أنّه لا ينزل عن فرسه ولا يذوق طعاماً، حتّى ينفصل الحال بينهم، فبقيت الحرب ثلاثة

١٤٥

أيّام، ثمّ ظفر بهم ناصر الدّولة، وأكثر القتل فيهم، ومن سلم هرب، وزالت دولتهم من القاهرة.

وكان بالإسكندرية جماعةٌ كثيرةٌ من العبيد، فلمّا كانت هذه الحادثة طلبوا الأمان، فأُمّنوا وأُخذت منهم الإسكندريّة، وبقي العبيد الذين بالصعيد.

فلمّا خلت الدولة للأتراك طمعوا في المستنصر، وقلّ ناموسه عندهم، وطلبوا الأموال، فخلت الخزائن، فلم يبق فيها شيءٌ البتّة، واختلّ ارتفاع الأعمال، وهم يطالبون، واعتذر المستنصر بعدم الأموال عنده، فطلب ناصر الدولة العروض، فأُخرجت إليهم، وقوِّمت بالثمن البخس، وصُرفت إلى الجند، قيل إنّ واجب الأتراك كان في الشهر عشرين ألف دينار، فصار الآن في الشهر أربعمئة ألف دينار.

وأمّا العبيد بالصعيد فإنّهم أفسدوا، وقطعوا الطريق، وأضاقوا السبيل، فسار إليهم ناصر الدولة في عسكرٍ كثير، فمضى العبيد من بين يدَيْه إلى الصعيد الأعلى، فأدركهم، فقاتلهم، وقاتلوه، فانهزم ناصر الدولة منهم وعاد إلى الجيزة بمصر، واجتمع إليه مَن سلم من أصحابه، وشغبوا على المستنصر، واتّهموه بتقوية العبيد والميل إليهم، ثمّ جهّزوا جيشاً وسيّروه إلى طائفةٍ من العبيد بالصعيد، وقاتلوهم، فقُتلت تلك الطائفة من العبيد، فوهن الباقون، وزالت دولتهم.

وعظم أمر ناصر الدولة، وقويت شوكته، وتفرّد بالأمر دون الأتراك، فامتنعوا من ذلك، وعظم عليهم، وفسدت نيّاتهم له، فشكوا ذلك إلى الوزير، وقالوا: كلّما خرج من الخليفة مالٌ أخذ أكثره له ولحاشيته، ولا يصل إلينا منه إلاّ القليل.

فقال الوزير: إنّما وصل إلى هذا وغيره بكم، فلو فارقتموه لم يتمّ له أمر، فاتّفق رأيهم على مفارقة ناصر الدولة، وإخراجه من مصر، فاجتمعوا، وشكوا إلى المستنصر، وسألوه أن يخرج عنهم ناصر الدولة، فأرسل إليه يأمره بالخروج، ويتهدّده إن لم يفعل، فخرج من القاهرة إلى الجيزة، ونُهبت داره ودور حواشيه وأصحابه.

فلمّا كان الليل دخل ناصر الدولة مستخفياً إلى القائد المعروف بتاج الملوك (شاذي)، فقبّل رجله، وقال: اصطنعني! فقال: أفعل، فحالفه على

١٤٦

قتل مقدّم من الأتراك اسمه (الدكز)، والوزير الخطير، وقال ناصر الدولة لشاذي: تركب في أصحابك، وتسير بين القصرَيْن، فإذا أمكنتك الفرصة فيهما فاقتلهما.

وعاد ناصر الدولة إلى موضعه إلى الجيزة. وفعل شاذي ما أمره، فركب الدكز إلى القصر، فرأى شاذي في جمعه، فأنكره، وأسرع فدخل القصر، ففاته، ثمّ أقبل الوزير في موكبه، فقتله شاذي، وأرسل إلى ناصر الدولة يأمره بالركوب، فركب إلى باب القاهرة، فقال الدكز للمستنصر: إن لم تركب، وإلاّ هلكت أنت ونحن. فركب، ولبس سلاحه، وتبعه خلقٌ عظيمٌ من العامّة والجند، واصطفّوا للقتال، فحمل الأتراك على ناصر الدولة فانهزم، وقُتل من أصحابه خلقٌ كثير، ومضى منهزماً على وجهه لا يلوي على شيء، وتبعه فلُّ أصحابه، فوصل إلى (بني سِنبِس)، فأقام عندهم وصاهرهم فقوي بهم.

وتجهّزت العساكر إليه ليبعدوه، فساروا حتّى قربوا منه، وكانوا ثلاث طوائف، فأراد أحد المقدّمين أن يفوز بالظّفر وحده دون أصحابه، فعبر فيمن معه إلى ناصر الدولة، وحمل عليه فقاتله، فظفر به ناصر الدولة، فأخذه أسيراً، وأكثر القتل في أصحابه، وعبر العسكر الثاني، ولم يشعروا بما جرى على أصحابهم، فحمل ناصر الدولة عليهم، ورفع رؤوس القتلى على الرّماح، فوقع الرعب في قلوبهم، فانهزموا وقُتل أكثرهم، وقويت نفس ناصر الدولة.

وعبر العسكر الثالث، فهزمه وأكثر القتل فيهم وأسر مقدّمهم، وعظم أمره ونهب الرّيف فأقطعه، وقطع الميرة عن مصر برّاً وبحراً، فغلت الأسعار بها، وكثر الموت بالجوع، وامتدّت أيدي الجند بالقاهرة إلى النهب والقتل، وعظم الوباء حتّى إنّ البيت الواحد كانوا يموتون كلّهم في ليلةٍ واحدة)(١) .

إلى أن قال:

(وقطع ناصر الدولة الطريق برّاً وبحراً، فهلك العالم، ومات أكثر

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ٨١ - ٨٢ - ٨٣ - ٨٤ - ٨٥.

١٤٧

أصحاب المستنصر، وتفرّق كثيرٌ منهم، فراسل الأتراك من القاهرة ناصر الدولة في الصّلح، فاصطلحوا على أن يكون تاج الملوك شاذي نائباً عن ناصر الدولة بالقاهرة، يحمل المال إليه، ولا يبقى معه لأحدٍ حكم.

فلمّا دخل تاج الملوك إلى القاهرة تعيّر عن القاعدة، واستبدّ بالأموال دون ناصر الدولة، ولم يرسل إليه منها شيئاً، فسار ناصر الدولة إلى الجيزة، واستدعى إليه شاذي وغيره من مقدّمي الأتراك، فخرجوا إليه إلاّ أقلّهم، فقبض عليهم كلّهم، ونهب ناحيتَيْ مصر، وأحرق كثيراً منهما، فسيّر إليه المستنصر عسكراً فكبسوه، فانهزم منهم ومضى هارباً، فجمع جمعاً، وعاد إليهم فقاتلهم فهزمهم، وقطع خطبة المستنصر بالإسكندريّة ودمياط، وكانا معه، وكذلك جميع الرّيف، وأرسل إلى الخليفة ببغداد يطلب خِلعاً ليخطب له بمصر.

واضمحلّ أمر المستنصر، وبطل ذكره، وتفرّق الناس من القاهرة، وأرسل ناصر الدولة إليه - أيضاً - يطلب المال، فرآه الرسول جالساً على حصير، وليس حوله غير ثلاثة خدم، ولم ير الرسول شيئاً من آثار المملكة، فلمّا أدّى الرسالة قال: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير؟... فبكى الرسول، وعاد إلى ناصر الدولة فأخبره الخبر، فأجرى له كلّ يومٍ مئة دينار، وعاد إلى القاهرة، وحكم فيها، وأذلّ السلطان وأصحابه.

وكان الذي حمله على ذلك أنّه كان يُظهر التسنّن من بين أهله، ويعيب المستنصر، وكان المغاربة كذلك فأعانوه على ما أراد، وقبض على أمّ المستنصر، وصادرها بخمسين ألف دينار، وتفرّق عن المستنصر أولاده وكثيرٌ من أهله إلى الغرب، وغيره من البلاد، فمات كثيرٌ منهم جوعاً.

وانقضت سنة أربع وستّين وأربعمئة، وما قبلها بالفتن، وانحطّ السعر سنة خمس وستّين وأربعمئة، ورخصت الأسعار، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر، وفرّق عنه عامّة أصحابه، وكان يقول لأحدهم: إنّني أُريد أن أولّيك عمل كذا ؛ فيسير إليه، فلا يمكّنه من العمل ويمنعه من العود، وكان غرضه بذلك أن يخطب لخليفة القائم بأمر الله، ولا يمكنه مع وجودهم، ففطن لفعله قائدٌ كبيرٌ مِن الأتراك اسمه (الدكز)، وعلم أنّه متى

١٤٨

ما تمّ له ما أراد تمكّن منه ومن أصحابه، فأطْلع على ذلك غيره من قوّاد الأتراك، فاتّفقوا على قتل ناصر الدولة، وكان قد أمن لقوّته، وعدم قُوّةٍ عدوّه، فتواعدوا ليلةً على ذلك، فلمّا كان سَحَر الليلة التي تواعدوا فيها على قتله جاؤوا إلى باب داره، وهي التي تُعرف بمنازل العزّ، وهي على النيل، فدخلوا مِن غير استئذان، إلى صحن داره، فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء ؛ لأنّه كان آمناً منهم، فلمّا دنا منهم ضربوه بالسيوف، فسبّهم وهرب منهم يريد الحرم، فلحقوه فضروه حتّى قتلوه، وأخذوا رأسه.

ومضى رجلٌ منهم، يُعرف بكوكب الدولة، إلى فخر العرب، أخي ناصر الدولة، وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه، فقال للحاجب:

استأذن لي على فخر العرب، وقُل صنيعتك فلان على الباب، فاستأذن له ؛ فأذن له وقال: لعلّه قد دهمه أمر.

فلمّا دخل عليه أسرع نحوه كأنّه يريد السلام عليه. وضربه بالسيف على كتفه، فسقط إلى الأرض، فقطع رأسه، وأخذ سيفه، وكان ذا قيمةٍ وافرة، وأخذ جاريةً له أردفها خلفه، وتوجّه إلى القاهرة، وقُتل أخوهما تاج المعالي، وانقطع ذكر الحمدانيّة بمصر بالكلّيّة)(١) .

ما جاء عن بني حمدان في كتاب:

نخب تاريخية وأدبيّة جامعة لأخبار سيف الدولة الحمداني.

- لجامعه الشيخ ماريوس كانار الأستاذ بكلية الآداب بالجزائر - طبع بالجزائر سنة ١٩٣٤.

لمّا رأى الراضي وقوف الحال عنده، قلّد أبا بكر محمد بن رائق إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء، وولاّه الخراج والمعاون في جميع البلاد، والدواوين، وأمر بأن يُخطب له على المنابر، فأصعد ابن رائق إلى بغداد، وخلع الخليفة عليه أواخر ذي الحجّة، وبطلت الدواوين من ذلك الوقت، وبطلت الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيءٍ من الأُمور، إنّما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأُمور جميعها، وكذلك كل مَن تولّى إمرة

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ٨٥ - ٨٦ - ٨٧.

١٤٩

الأمراء بعده. وصارت الأموال تُحمل إلى خزائنهم فيتصرّفون فيها كما يريدون، وبطلت بيوت الأموال وتغلّب أصحاب الأطراف، وزالت عنهم الطاعة، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم في جميعها لابن رائق، ليس للخليفة حكم، وأمّا باقي الأطراف، فكانت البصرة في يد ابن رائق، وخوزستان في يد البريدي)(١) .

إلى غير ذلك من تغلّب عمّال الدولة على ما بأيديهم ممّا تقدّم ذكره.

(قال في سنة ٣٣٠:

سار البريديّون من واسط إلى بغداد، وبها المتّقي لله وابن رائق، فكتب المتّقي كتاباً، وأنفذ رسولاً إلى ناصر الدولة يعرّفه ما أظلّه من البريديين، ويسأله الانحدار لنصرته، فكتب ناصر الدولة إلى سيف الدولة وهو بنصيبين يحثّه على المسير، وإلى أن وافى بغداد وافى ابن البريدي وقد نشبت الحرب بينه وبين ابن رائق، وانهزم ابن رائق، وتحصّن في دار الخليفة، ثمّ خرج منها ومعه الخليفة وابنه على أقبح صورةٍ على دابّتين بغير غلام، وخرج عامّة الكتّاب والقوّاد على أقبح من هذه الصّورة.

وملك البريدي بغداد، وتحكّم فيها بما أراد من القتل والسلب واستخراج الأموال والتشفّي من الأعداء، واحتوى على دار الخلافة وجميع ما فيها.

وسار الخليفة وجماعةٌ من أرباب الدولة إلى تكريت عراةً بأسوأ حال، وأكثرهم رجّالة. فلمّا سار سيف الدولة ببعض الطريق، واتّصل به ما حلّ بالسلطان، أغذّ السير، وخرج ابن رائق إليه فتلقاه وسار معه حتّى وصل إلى الخليفة، فشكا إليه ما ناله، واستخبره عن ناصر الدولة فعرفه أنّه بالأثر، ولمّا خرج سيف الدولة من عند الخليفة حمل إليه من أصناف الأموال والثياب والدواب والطيب ما يَجلّ خطره ويعظم أمره، وكذلك إلى سائر القوّاد والجند والكتّاب حتّى استقلّوا وحسنت أحوالهم، وحمل إليهم من الدقيق والشعير والتبن وجميع آلات الدوابّ والسلاح ما كفاهم وفضل عنهم.

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني - لجامعه الشيخ ماريوس كانار - طُبع بالجزائر سنة ١٩٣٤ - ص ٩ و ١٠.

١٥٠

واجتمعت الألسن على شكره، وأمر الخليفة له ولناصر الدولة مع التكْنية والتلقيب أن تكتب أسماؤهم على الدنانير والدراهم، وهذه فضيلة لم يسبقهما أحدٌ إليها. ثمّ سارا مع الخليفة متوجّهين إلى بغداد، فلمّا سمع البريدي ذلك، انحدر عن بغداد، ثمّ كانت له مع سيف الدولة وقعة هزمه سيف الدولة فيها، واستبشر الناس بما وهب الله تعالى لهم على يديه من الراحة من فتنة البريدي، وأمنوا على أنفسهم وحرمهم وأموالهم، وأكثروا الدعاء له في المساجد والطرقات.

وكتب المتّقي لله رقعةً إلى الأمير سيف الدولة عند خروجه إلى حرب البريدي نسختها:

بسم الله الرحمن الرحيم

عرفت - لا أخلاني الله منك - ما تقرّر عليه العزم في رواحك، قرنه الله بالخيرة التامّة، والمعونة الشاملة، والكافية الجامعة، ووصله بالنصر والفلح والظفر والفتح، فتعجّلت الاستيحاش لبعدك، والتحسّر لما يفوت من قربك، لا خلوت منك، وكنت أحبّ أن ألقاك وأُسرّ برؤيتك قبل نفوذك، ولمّا تعذّر ذلك دعوت الله لك بجميل الصحابة ولي عليك بحسن الخلافة، وأن يسعدنا بذلك سعادةً محمودة البدء والعاقبة ؛ إنّه سميع الدعاء لطيفٌ لما يشاء، ولا يزال قلبي متطلعاً لمعرفة خبرك إلى أن يَرِدَ عليَّ من مستقرك بما تَرُبُّه وتُمْضيه، وتُدَبِّرُه وتُمْشِيه ؛ فتعمل - لا أخلاني الله منك - على ملاحظتي من ذلك في كلِّ وقتٍ وساعةٍ بما تعلم حسن موقعه مني، والسلام.

وكتب إليه رقاعاً عدّة أمثالها.

لمّا وصل المتّقي لله وابناه ومحمّد بن رائق ومَن معهم إلى تَكْريت، وجدوا هناك، وهم مصعدون إلى الموصل بعد، أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان ؛ وذلك أنّ ابن رائق لمّا قرب البريدي من بغداد كتب إلى أبي محمّد بن حمدان يسأله مدداً ومعاونة على قتاله، فأنفذ أبو محمّد أخاه، فلم يلحقهم إلاّ بتكريت، وقد انهزموا وأخذوا طريق الموصل.

فخلع عليه المتّقي وعقد له لواءً، ولقّبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وكنّاه، وكان ذلك مستهلّ شعبان.

وخلع على أخيه علي وعلى

١٥١

أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، ودخل المتّقي بغداد مع ناصر الدولة أبي محمّد وأخيه علي وجميع الجيوش، وعملت لهم العامّة القباب.

ونزل ناصر الدولة وأخوه في البستان الشفيعي، وخلع المتّقي لله على ناصر الدولة وأخيه، وطُوِّقا وسُوِّرا بطوقين طوقين، وأربعة إسورة ذهباً، وعلى أبي عبد الله الحسين بن حمدان، وطُوِّق بطوقٍ واحدٍ وسوارين ذهباً.

ورد الخبر بأنّ أبا الحسين علي بن محمّد البريدي قد أصعد من واسط يريد الحضرة، فاضطرب الناس ببغداد، وعبر المتّقي إلى الزبيديّة ليكون مع ناصر الدولة، وقد حرمه إلى (سُرّ مَنْ رأى)، وهرب جماعةٌ من وجوه أهل بغداد، وعبر جيش ناصر الدولة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي منها.

وسار أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان في الجيش، وكان مع أبي الحسن البريدي لمّا أصعد من واسط أبو جعفر بن شيرزاد وأبو بكر بن قرابة والديلم وجيش عظيم، فكانت الوقعة بين أبي الحسن علي بن حمدان وبين البريدي يوم الثلاثاء انسلاخ ذي القعدة ويوم الأربعاء مستهل ذي الحجّة، ويوم الخميس ويوم الجمعة لثلاث وأربع خلون من ذي الحجّة في القرية المعروفة بـ (كِيل) أسفل المدائن بفرسخَيْن، ومع ابن حمدان توزُون وحَجْمج والأتراك، فكانت أوّلاً على علي بن عبد الله بن حمدان، وانهزم أصحابه فردّهم ناصر الدولة، وكان ناصر الدولة بالمدائن.

ثمّ صارت على أبي الحسين البريدي، فانهزم واستُؤسر من أصحابه يانس غلام البريدي أبي عبد الله، وأبو افتح بن أبي طاهر، ومحمد بن عبد الصمد، ومذكّر البريدي، والفرج كاتب جيش البريدي، واستأمن إلى ابن حمدان محمد بن يَنال الترجمان، وإبراهيم بن أحمد الخراساني، وحصل له جميع الديلم الذين كانوا في عسكر البريدي.

وقتل جماعة من قوّاد البريدي، وعاد البريدي إلى واسط مهزوماً مغلولاً، ولم يبق في علي ابن حمدان وأصحابه فضل لأتباعه لعظيم ما مرّ بهم ولكثرة الجراح فيهم.

ولسبع خلون من ذي الحجّة عاد المتّقي لله من الزُبَيْدِيَّة إلى دار الخلافة على ثلاث ساعات ونصف، وعاد الحرم من (سُرّ مَنْ رأى) ومَن كان هرب إليها من بغداد.

ودخل ناصر الدولة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة بغداد، وبين يديه يانِس غلام البريدي، وأبو الفتح بن أبي طاهر، والمذكّر البريدي مشهرين على جمال، وعلى رؤوسهم برانس،

١٥٢

وكُتب عن المتّقي كتاب الفتح إلى الدنيا، ولقّب المتّقي لله أبا الحسن علي ابن عبد الله بن حمدان، لمّا فتح هذا الفتح سيف الدولة، وأنفذ إليه خلعاً، وكتب فيه كتاباً.

وانحدر سيف الدولة إلى واسط، فوجد البريديين قد انحدروا منها إلى البصرة، وأقام بها ومع الديلم والأتراك وسائر الجيش.

كان سيف الدولة أبو الحسن مقيماً بواسط مفكّراً في أن يسير بالجيش والأتراك إلى البصرة ليفتحها، وكان أخوه ناصر الدولة يدافعه بحمل المال، ويضايق الأتراك خاصّة.

وكان تُوزُون وحجمج يُسيئان الأدب على سيف الدولة بواسط، ويتحكّمان عليه حتّى ضاق ذرعاً بهما.

وكان ناصر الدولة قد أنفذ أبا عبد الله الكوفيّ إلى سيف الدولة أخيه، ومعه ألفا ألف درهم وخمسون ألف دينار لينفق في الأتراك، فوثب توزون وحجمج به بحضرة سيف الدولة، وأسمعاه مكروهاً، فضمّه سيف الدولة إلى نفسه، ثمّ ستره في بيتٍ، وقال لهما: أما تستحيان منّي فتجاملاني في كاتبي. ثمّ وافق سيف الدولة كاتب حجحج أن يسير حجحج إلى المَذار ويسوغه ارتفاعها إذا حماها، ووافق أبا علي المسيحي كاتب توزون على المسير بتوزون إلى الجامدة، ويوهب له ارتفاعها، وعليه حمايتها.

وانتظم هذا التدبير، وعاد الكوفيّ إلى مجلسه بحضرة سيف الدولة، ورهب أن يعود إلى منزله، وعبر حجمج إلى غربيّ واسط للمسير.

واستعدّ توزون أيضاً للمسير إلى الجامدة، فوافى أبو عمرو المسيحيّ وقت الظهر لثلاث بقين من شوّال هارباً من ناصر الدولة إلى أخيه أبي علي المسيحيّ، وكان معه توقيع من ناصر الدولة بخطّه إليه يقول فيه:

(قد اتّصل طمعك فيّ وانبساطك عليّ، وأنا مُحتمل، وأنت مُغترّ، وبلغني إدخالك يدك في وقف فلان، ووالله إن لم تخلّصها وتقصِرعن فعلك المذموم لأقطعنّ يديك ورجليك).

فزعم أبو عمرو المسيحيّ أنّه قرأه وانحدر، وذكر أنّه قال قبل ذلك بأيّام: يا مسيحيّ، أنت مجتهد في أن تجعل توزون أميراً، وعلى رأسك تحثو التراب. إن بلغ ما تؤمّله له لم يرضك كاتباً لنفسه، وطلب ابن شيرزاد أو مثله وشبهَه، فاستكتبه وأنفَ منك فصادرك، فتلافى سيف الدولة أبا عمرو

١٥٣

المسيحي وداراه، وراسل توزون وسكنه ؛ وكان سيف الدولة كثيراً يزهّد الأتراك في العراق ويحملهم على قصد الشام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر، ويخرّب بينهم وبين أخيه، فكانوا يصدّقونه في أخيه، ويأبون عليه في البعد من العراق، وكانوا يتسحبون على سيف الدولة ويطالبونه باستحقاقاتهم، وينصّون على أن يوفيّهم يوم الستّين من أيّام استحقاقهم، ويستصغرونه وأخاه. فلمّا وافى أبو عمرو المسيحي قالوا له: نحتاج أن تحمل مال قائد ورجال وتوفّينا ذلك بالقَبّان وزنةً مالاً مالاً. فأجاب إلى ذلك قطعاً للحُجَّة، وساموه أن يكون الوزن بالليل والنهار، فصبر على ذلك كلِّه وأذن فيه.

وأخرج سيف الدولة أبا عبد الله الكوفيّ ليلاً، وضمّ إليه ابن عمّه أبا وليد في جماعةٍ من العرب، وأصعد معه بنفسه إشفاقاً عليه، ثمّ وصّى العرب حتّى بلغوا به المدائن، فلمّا كان ليلة الأحد انسلاخ شعبان، كبس الأتراك سيف الدولة بالليل، وهرب من معسكره، ولزم نهراً بقرب معسكره فأدّاه إلى قريةٍ تُعرف (ببُرقة)، ولزم البرّيّة حتّى وافى بغداد، وأضرم الأتراك النار في معسكره، وقد كان باقياً من المال المحمول إليه مع الكوفيّ من عند أخيه شيء لم يفرّق فيهم فنهبوه، ونهب جميع سواده)(١) .

(لمّا بلغ سيف الدولة خلاف توزون وحجحج بواسط، طمع في بغداد، فوافى (المِزْرَفَة)، وظهر المستترون من أصحابه من الجند، وخرجوا إليه.

وانحدر أبو عمرو المسيحيّ كاتب توزون إلى واسط مستتراً هارباً إلى صاحبه، وانحدر أيضاً الترجمان.

وأرجف الناس بانحدار المتّقي، واضطرب الناس وأصبحوا على خوفٍ شديد.

وجاء سيف الدولة في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان إلى باب حرب، فنزل في المضارب، وعليه وعلى أصحابه أثر الضرّ الشديد لما لحقهم في البرّيّة. وخرج إليه أصحابه ومن يريد الإثبات، وجرت بينه وبين المتّقي لله رسائل على يد أبي زكرياء السوسي، وطالب بأن يُحملَ إليه مال، ووعد أن يقاتل توزون إن ورد الحضرة، فحمل إليه المتّقي أربعمئة

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية... من ص ١١ إلى ص ٢١.

١٥٤

ألف درهم في دفعات، وانضمّ إليه كلُّ مَن بقي بالحضرة من القوّاد، وما زال يقول في مجلسه:

ما أنصفنا أبو الوفاء توزون حيث كبسنا في الليل ونحن نيام، وإلاّ فَلْيحضرْ نهاراً ونحن مستيقظون! ونحو هذا الكلام.

ولمّا بلغ توزون وصول سيف الدولة إلى بغداد خلّف بواسط (كَيْغَلَغ) في ثلاثمئة غلام، وأصعد مبادراً من واسط إلى بغداد، ولمّا اتّصل بسيف الدولة خبر إصعاده رحل من باب حرب مع مَن انضمّ إليه من قوّاد الحضرة، ومضى على وجهه.

كان المتّقي قد أنفذ إلى ناصر الدولة يطلب منه إنفاذ جيشٍ إليه ليصحبوه إلى الموصل، فأنفذهم مع ابن عمّه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فلمّا وصلوا إلى بغداد نزلوا بباب حرب، واستتر ابن شِيرْزَاد، وخرج إليهم المتّقي في حرمه وأهله ووزيره وأعيان بغداد.

وانحدر سيف الدولة وحده إلى المتّقي لله بتكريت، فأرسل المتّقي إلى ناصر الدولة يستدعيه، ويقول له:

(لم يكن الشرط معك إلاّ أن تنحدر إلينا).

فانحدر، فوصل إلى تكريت في الحادي والعشرين من ربيع الآخر.

وركب المتّقي إليه فلقيه بنفسه، وأكرمه، وأصعد الخليفة إلى الموصل، وأقام ناصر الدولة بتكريت، وصار توزون نحو تكريت، فالتقى هو وسيف الدولة بن حمدان تحت تكريت بفرسخَيْن، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثمّ انهزم سيف الدولة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ربيع الآخر، وغنم توزون والأعراب سواده وسواد أخيه ناصر الدولة، وعادا من تكريت إلى الموصل ومعهما المتّقي لله.

وشغب أصحاب توزون فعاد إلى بغداد، وعاد سيف الدولة وانحدر فالتقى هو وتوزون بِحَرْبَى في شعبان، فانهزم سيف الدولة مرّةً ثانية، وتبعه توزون.

ولمّا بلغ سيف الدولة إلى الموصل، سار عنها هو وأخوه ناصر الدولة والمتّقي لله ومَن معه إلى نصيبين، ودخل توزون الموصل، فسار المتّقي إلى الرَّقّة، ولحقه سيف الدولة.

ولمّا انصرف الإخشيد من حضرة المتّقي، سار سيف الدولة بن

١٥٥

حمدان إلى حلب وقنّسرين والثغور الشاميّة وحمص وأنطاكية وسائر الأعمال، فأخذها وأقام الدعوة فيها للمستكفي ولأخيه ولنفسه، ثمّ عزل وولّى واستخرج الأموال، وكتب الإخشيد إلى المستكفي يخبره بما سارع من إقامة الدعوة وأخذ البيعة، ويعرّفه ما عمله سيف الدولة بن حمدان، فكتب إليه المستكفي ومع الكتاب خلع الإخشيد ولابنه (أنور جور).

وبلغ الإخشيد أن سيف الدولة سار إلى حمص يريد دمشق، فجرّد الإخشيد عسكراً كبيراً، وجعل عليه أربعة، فساروا إلى دمشق وعبَّئوا عساكرهم، ثمّ ساروا إلى حمص، فالتقوا مع سيف الدولة بالرَّسْتَن من أرض حمص، فهزمهم سيف الدولة، فعادوا إلى دمشق يريدون الرملة ثمّ إلى مصر.

ثمّ سار سيف الدولة في أثرهم يريد دمشق، وكتب إلى أهل دمشق كتاباً قُرئ على منبر جامع دمشق، وحُملت نسخته إلى الإخشيد، وهو:

(بسم الله الرحمن الرحيم - من سيف الدولة أبي الحسن إلى جماعة الأشراف والعلماء والأعيان والمستورين بمدينة دمشق، أطال الله بقاكم وأدام عزّكم وسعادتكم وكفايتكم ونعمتكم، كتابنا إليكم من المعسكر المنصور بظاهر عين الجرّ عن سلامة وجميل كفاية لمولاها خالص الدعاء والشكر، وقد علمتم - أسعدكم الله - تشاغلي بجهاد أعدائي وأعداء الله الكفرة وسبيلهم، وقتلي فيهم، وأخذي أموالهم، وتخريبي ديارهم، وقد بلغكم خبر القوانين في هذه السنة، وما أولانا الله وخوَّلنَاه، وأظفرنا به، واستعملت فيهم السنّة في قتال أهل الله، فما اتّبعت مدبراً، ولا داففت على جريح، حتّى سلم من قد رأتم، وقد تقدّمنا إلى وَشّاح بن تمّام بصيانتكم وحفظكم، وحوط أموالكم، وفتح الدكاكين، وإقامة الأسواق، والتصرّف في المعاش، إلى حين موافاتنا إن شاء الله).

فلمّا وصلت نسخة هذا الكتاب للإخشيد قلق لذلك، واستخلف على مصر ابنه أبا القاسم، واستخلف له عمّه أبا المظفّر، ثمّ سار الإخشيد لا يلوي على شيء.

وحصل سيف الدولة بدمشق، ودخلها معه سائر أهله من شيخٍ وكهل، وكتب الإخشيد من الرّملة إلى عيسى كِيل وهو بدمشق مع سيف الدولة، يعده الأموال والتقليد والخلع وأضعاف الرزق، ومع الرسول خاتم الإخشيد، فوصل الرسول إلى عيسى كِيل وهو مع سيف الدولة

١٥٦

بالشَّماسِيَّة، فاستأذنه في الركوب إلى دمشق لدخول الحمّام، فأذن له ؛ وشرب وسكر وثار مع العصر بدمشق، ودعا الناس إلى الإخشيد، وخاتم الإخشيد في يده، وغلّق أبواب دمشق، وأفاق عيسى كِيل من سكره بالليل، وتبيّن أمره، فهرب في جوف الليل إلى الإخشيد وهو بِطبريَّة، فخلع عليه وجازاه وحمله وقاد إليه فرساً أدهم وعليه سرج ولجام مطلّىً فيه أربعة عشر ألف درهم، ما يقدر الفرس يتحرّك من ثقل ما عليه.

وسار عيسى كِيل بين يدي الإخشيد، فلمّا قرب من دمشق رفع سيف الدولة وحرق أخصاصاً كانت قد عُملت، وسار إلى نواحي حمص، ودخل الإخشيد إلى دمشق، والأمراء والقوّاد بين يديه، ثمّ سار إلى حمص، ثمّ سار غلى قنّسرين، والتقى مع سيف الدولة واقتتلا، واستظهر عليه سيف الدولة، فحسده ابن عمّه الحسين بن أبي العلاء، فانهزم، فاستظهر الإخشيد وقتل وأسر جماعةً من وجوه العجم، ولم ينصرف سيف الدولة، بل عسكر مواجهاً للإخشيد، فاختار الإخشيد المسالمة، وراسله بالحسن بن طاهر على مالٍ يحمله إليه وأن يكون لسيف الدولة من (جُوسِيَّة) إلى حمص إلى سائر أعمالها وما وراءه، ويكون للإخشيد من دمشق وما بين يدها إلى آخر أعمالها، وزوّجه ابنته فاطمة، وكان الوليّ الحسن بن طاهر بتوكيل الإخشيد ؛ فسرّ سيف الدولة بذلك، وأجاب إلى السلم، وعقد النكاح، ونثر سيف الدولة، في مضربه للحاضرين ثلاثين ألف دينار، ونثر خارج المضرب أربعمئة ألف درهم، وحمل إلى الحسن بن طاهر مالاً كثيراً وخِلَعاً.

حدّثني بعض شيوخ دمشق ممّن كان الإخشيد يأنس به ويحادثه، قال:

(سألني جماعةٌ من وجوه غلمان الإخشيد توبيخ الإخشيد على ما عمله من الصلح والمصاهرة.

فقلت له: أيّها الإخشيد؟ أيش(١) حملك على مصالحة ابن حمدان ومسالمته ومصاهرته؟... فقال: الغلمان، سألوك مسألتي.

فقلت: نعم.

قال: عليهم لعنة الله، أتراهم يعلمون من الأمر أكثر ممّا أعلم.

اعلم أنّ عليّ بن حمدان كاتبناه من الرّملة، فبذلنا له، فلم يفعل، وكاتبناه من طبريّة، فامتنع، ثمّ سرنا إليه ورزقنا الله تعالى النصر عليه وعلى أصحابه الظفر، فلم ينصرف، وخيّم حذاءنا بوجهٍ صفيق وقلّة حياء،

____________________

(١) هكذا وردت في النص.

١٥٧

فتوقفت عنه. فقال لي الغلمان: دعنا نمضي تلقاءه، ففكرت في قولهم، ولم أخلُ من أحد وجهين، إمّا أن يهزمنا ويُرزق علينا النصر فتكون الفضيحة، وإمّا أن نُرزق عليه النصر فنأخذه، فأيش(١) أعمل به! هلاّ هو أكثر من أن أُنزله في مضرب يشبهه، وأُنفق عليه ما يصلح له، ثمّ أُجهّزه وأردّه لأخيه وأهله ؛ لأنّهم لا يتركونه، وأقلّ ما كان يكفينا له مئتا ألف دينار. ثمّ لا أُطيق غلماني من إدلالهم والتسحّب عليّ بما عمله، ويطلبون منّي الأعمال والولايات، فرأيت أنّ مسالمته ومصالحته أفضل وأصلح ؛ وأرسلت إليه الحسن بن طاهر أعده بالأموال والخروج من أعماله ؛ فلمّا رأوا الحسن بن طاهر قد مضى ازدحموا عليه يسبّوني ويشتموني، ويسألون الله الراحة منّي).

في هذه السنة، في ذي الحجّة(٢) : مات الإخشيد أبو بكر محمّد بن طُغْج صاحب ديار مصر، وكان مولده سنة ثمانٍ وستين ومئتين ببغداد، وكان موته بدمشق، وقيل مات سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم أُنوجور، فاستولى على الأمر كافور الخادم الأسود، وهو من خدم الإخشيد، وغلب أبا القاسم واستضعفه، وتفرّد بالولاية، وكان أبو القاسم صغيراً، وكان كافور أَتابَكه، فلهذا استضعفه وحكم عليه ؛ فسار كافور إلى مصر. فقصد سيف الدولة دمشق فملكها، وأقام بها، فاتّفق أنّه كان يسير هو والشريف العقيقيّ بنواحي دمشق، فقال سيف الدولة:

ما تصلح هذه الغوطة إلاّ لرجلٍ واحد.

فقال له العقيقيّ: هي لأقوام كثيرة.

فقال سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين السلطانيّة لتبرّأوا منها.

فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه، فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم سنة ستة وثلاثين وثلاثمئة. وكان أنوجور مع كافور، فتبعوا سيف الدولة إلى حلب، فخافهم سيف الدولة، فعبر إلى الجزيرة، وأقام أنوجور على حلب، ثمّ استقرّ الأمر بينهما، وعاد أنوجور إلى مصر، وعاد سيف الدولة إلى حلب)(٣) .

____________________

(١) هكذا وردت في النص.

(٢) في ٢١ ذي الحجّة سنة ٣٣٤ هـ.

(٣) نخب تاريخية وأدبية جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني، من ص ٢٢ إلى ص ٣٤.

١٥٨

أحوال الشّام

(أمّا (الشام) فإنّ غربيَّها بحر الروم، وشرقيّها البادية من أيْلة إلى الفرات، ثمّ من الفرات إلى حدّ الروم، وشماليّها بلاد الروم أيضاً، وجنوبيّها حدّ مصر وتيه بني إسرائيل، وآخر حدودها مِمّا يلي مصر رَفَح وممّا يلي الروم الثغور المعروفة، كانت قديماً بالجزيرة وهي:

مَلَطْية والحدث ومَرعش والهارونيّة والكَنِيسة وعين زَرْبة والمِصّيصة وأَذَنة وطَرَسُوس.

قد جمعت الثغور إلى الشام، وبعض الثغور يُعرف بثغور الشام، وبعضها يُعرف بثغور الجزيرة، وكلّها من الشام، وذلك أنّ كلّ ما كان وراء الفرات فمِن الشام ؛ وإنّما سُمّي من ملطية إلى مرعش ثغور الجزيرة ؛ لأنّ أهل الجزيرة بها كانوا يرابطون ويغزون منها، لا لأنّها من الجزيرة.

وكور الشام إنّما هي: جند فلسطين، وجند الأردنّ، وجند دمشق، وجند حمص، وجند قنّسرين، والعواصم والثغور. وبين ثغور الشام وثغور الجزيرة جبل اللُّكام وهو الفاصل بن الثّغرين، وجبل اللّكام جبل داخل في بلد الروم ويُقال إنّه ينتهي إلى حد مئتيْ فرسخ، ويظهر في الإسلام بين مرعش والهارونيّة وعين زربة فيُسمّى اللكام إلى أن يجاوز اللاذقيّة، ثمّ يُسمّى جبل بَهْراء وتَنوخ إلى حمص، ثمّ يُسمى جبل لبنان، ثمّ يمتدّ على الشام حتّى ينتهي إلى بحر (القُلْزُم) من جهة، ويتّصل بالمُقطَّم من جهةٍ أُخرى.

أمّا جند حِمص فإنّ مدينتها (حمص)، وهي مدينة في مستواة خصبة، صحيحة الهواء من أصح بلدان الإسلام، ودخلها الروم في وقتنا هذا، وأتوا على سوادها وأخربوها، وجميع طرق حمص من أسواقها، وسككها مفروشة بالحجارة والبلاط.

١٥٩

وأمّا (أَنْطَرْسُوس) فحصن على البحر ثغر لأهل حمص، وعليه سور من حجارةٍ يمنع أهلها من بادرة، ولقد أنجوا من الروم في حيننا هذا عند قصد نِقْفُور ساحل الشام.

وأمّا (شَيْزَر وحماة) فإنّهما مدينتان صغيرتان نزهتان كثيرتا المياه والشجر والزّروع والفواكه.

وأمّا جند قِنَّسرين فمدينتها (حلب)، وكانت عامرةً جدّاً غاصّةً بأهلها كثيرة الخيرات على طريق العراق إلى الثغور وسائر الشامات، فافتتحها الروم، وكان لها سورٌ من حجارةٍ لم يغن عنهم مِن العدوّ شيئاً، فخرّب جامعها، وسبى ذراري أهلها، وأحرقها.

وكان بها قلعةٌ غير طائلةٍ ولا حسنة العمارة، فلجأ إليها قومٌ من أهلها، فنجوا وهلك بها من المتاع والجهاز للغرباء وأهل البلد، وسبى بها وقتل من أهل سوادها ما في إعادته إرماض لمَن سمعه، ووهن على الإسلام وأهله.

وكان لها أسواق حسنة وحمّامات وفنادق ومحالّ وعِراص فسيحة، وهي الآن كالمتماسكة ولها وادٍ يعرف بأبي الحسن قوَيْق، وشرب أهلها منه، وفيه قليل طفس، ولم تزل أسعارهم في الأغذية وجميع المآكل قديماً واسعة رخيصة، وعليهم الآن للروم في كلِّ سنةٍ قانون يؤدّونه، وضريبة تُستخرج من كلّ دارٍ وضيعةٍ معلومة، وكأنّهم معهم في هدنةٍ وليست - وإن كانت أحوالها متماسكة وأمورها راضية - بحال جزءٍ من عشرين ممّا كانت عليه في قديم أوقاتها وسالف أيّامها.

(وقِنَّسرين) مدينة نسبت الكورة إليها، وهي من أضيق تلك النواحي بناءً، وإن كانت نزهة الظاهر، مغوثة في موضعها بما كان بها من الرخص، فاكتسحتها الروم، فكأنّها لم تكن إلاّ بقايا دِمَن فديتُها مِنْ دِمَن.

(ومَعَرَّةُ النُّعمان) مدينة هي وما حولها من القرى أعذاء(١) ليس بنواحيها ماءٌ جارٍ ولا عين، وكذلك جميع جند قنّسرين شربهم من السماء. وهي مدينة كثيرة الخير والسعة والتين والفستق وما شاكل ذلك من الكروم.

وأمّا (الخُناصِرة) فهي حصنٌ يُحاذي قنّسرين إلى ناحية البادية وعلى

____________________

(١) أعذاء: مفردها (عِذْيُ) الزّرع لا يسقيه إلاّ المطر.

١٦٠