تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 486
المشاهدات: 73139
تحميل: 9203


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73139 / تحميل: 9203
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

شفيرها وسيفها، كان يسكنه عمر بن عبد العزيز، صالحة في قدرها مغوثة للمجتازين عليها في وقتنا ؛ لأنّ الطريق انقطع من بطن الشام بإتيان الروم عليه وهلاك ولاته، فلجأ الناس إلى طريق البادية وبالأَدِلاّء والخفراء.

و (العواصم) اسم الناحية وليس بمدينةٍ تُسمّى بذلك، وقصبتها (أنطاكية) وهي بعد دمشق أنزه بلدٍ بالشام، وعليها إلى هذه الغاية سورٌ من صخرٍ يحيط بها وبجبل مشرف عليها، لهم فيه مزارع وأجنّة وأرحية، وما يستقلّ به أهلها من مرافقتها.

ويُقال إنّ دَور سورها يوم تجري مياههم في أسواقهم ودورهم وسككهم ومسجد جامعهم، وكان لهم ضياع وقرى ونواحٍ خصبة حسنة استولى عليها العدو فملكها، وكانت قد اختلّت قبيل افتتاحها في أيدي المسلمين، وهي أيضاً في أيد الروم أشدّ اختلالاً. وفتحها الروم في أوّل سنة تسع وخمسين وثلاثمئة.

و(باليس) مدينة على شطّ الفرات من غربيّه، صغيرة، وهي أوّل مدن الشام من العراق، وكان الطريق إليها عامراً، ومنها سابلاً، وكانت فرضة لأهل الشام على الفرات.

و(مَنْبِج) بالقرب منها، وهي خصيبة، كثيرة الأسواق، قديمة الآثار، عظيمة الأسوار في برّيّة، الغالب عليها وعلى مزارعها الأعذاء، وهي حصينة عليها سورٌ أزليّ روميّ.

و(سَنْجَة) تقع قرب منبج، وهي مدينة صغيرة بقربها قنطرة حجار تُعرف بقنطرة سنجة، ليس في الإسلام قنطرة أحسن منها، ويُقال إنّها من عجائب الزّمان.

و(سُمَيْساط) مدينة على الفرات، وكذلك (جسر مَنْبِج) وهما مدينتان صغيرتان حصينتان، لهما زرع سقي ومباخس، وماؤهما من الفرات.

و(مَلَطْية) كانت مدينة كبيرة من أكبر الثغور وأكثرها سلاحاً ورجالاً، دون جبال اللّكام إلى ما يلي الجزيرة، ويحفّ بها جبال كثيرة فيها الجوز والكروم واللوز وسائر الثمار الشتويّة والصيفيّة، مباحة لا مالك لها. وهي من أقوى بلد الروم في هذا الوقت، يسكنها الأرمن، وفُتحت في سنة تسع عشرة وثلاثمئة، وكانت المدينة المعروفة بحصن منصور، صغيرة حصينة،

١٦١

فيها منبر، وبها رستاق، وقرى برسمها أعذاء، فاستأثر القضاة بهلاكها على أيدي الروم وبني حمدان.

و(الحَدَث) و(مَرْعَش) مدينتان صغيرتان افتتحهما الروم من قبل يومنا هذا، فأعادهما سيف الدولة علي بن عبد الله، وعاد الروم فانتزعوهما ثانيةً من المسلمين.

وكان لهما زروع وأشجار كثيرة وفواكه، وكانتا ثغرين يرابط فيهما المسلمون ويجاهدون، ففسدت النيّات وافتتحت الأعمال وارتفعت البركات، وفسدت المذاهب، ولجّ الملوك في الظّلم والاستئثار بالأموال، والعامّة في الإصرار على المعاصي والطغيان، فهلك العباد، وتلاشت البلاد، وانقطع الجهاد.

وكانت (الهارونيّة) من غربيّ جبل اللكام في بعض شعابه، حصناً صغيراً بناه هارون الرّشيد، أدركته عامراً حسناً فأهلكته الروم.

وكانت (الإِسْكَنْدريّة) أيضاً حصناً على ساحل بحر الروم، ذا نخيلٍ وزرعٍ كثير، وغلة وخصب، فأتى عليه العدوّ.

وكذلك (التينات) حصن كان على شطّ البحر فيه مقطع لخشب الصنوبر الذي كان ينقل إلى الشام ومصر والثغور، وكان فيه رجالٌ فُتّاك أجلاد لهم علم بمضارّ بلد الروم ومعرفة بمخائضهم.

وكانت (الكَنِيسَة) حصناً فيه منبر، وهو ثغر في معزل من ساحل البحر يقارب حصن (المُثَقَّب) الذي استحدثه عمر بن عبد العزيز وعمّره، وكان فيه منبره ومصحفه بخطّه، وكان فيه قومٌ سراة من عبد شمس اعتزلوا الدنيا ورفضوا المكاسب، وكان لهم ما يقيم بهم من المباح.

وكانت (عين زَرْبَة)(١) بلداً يشبه مدن الغور، بها نخيل وخصب، واسعة الثمار والزّرع والمرعى، وهي المدينة التي كان وصيف الخادم همّ بالدخول منها إلى بلد الروم، فأدكه المُعْتَضِد بها.

وكانت حسنة الداخل والخارج نزهة داخل سورها، جليلة في جميع أُمورها.

____________________

(١) عين زَرْبَة: عين زَرْبَى (في معجم البلدان لياقوت) يجوز أن يكون من زَرْب الغنم وهو مأواها، وهو بلد بالثغر من نواحي مصّيصة.

١٦٢

وكانت (المِصِّيصَة) مدينتين، إحداهما تُسمّى (المِصّيصة) والأُخرى تُسمّى (كَفْرَبَيَّا)، على جانبَيْ جَيْحان، وبينهما قنطرة حجارة، وكانتا حصينتين جدّاً على شرف من الأرض، ينظر منها الجالس في مسجد جامعها نحو البحر أربعة فراسخ كالبقعة بين يديه خضرة نضرة، جليلة الأهل نفيسة القدر، كثيرة الأسواق، حسنة الأحوال.

و(جَيْحان) نهر يخرج من بلد الروم حتّى ينتهي إلى المِصّيصة، ثمّ إلى رستاق، يُعرف بالمَلُّون، فيقع في بحر الروم، وكان كثير الضياع غزير الكراع.

وكانت (أَذَنة) مدينة كأحد جانَبيْ المِصّيصة على نهر (سَيْحان) في غربي النهر، وسَيْحان دون جَيْحان في الكبر، عليه قنطرة عجيبة البناء، طويلة جدّاً.

ويخرج هذا النهر من بلد الروم أيضاً.

وكانت أذنة جليلة الأهل حسنة المحل في كلّ أصل وفصل، وعلى أصل طريق طرسوس.

و(طَرَسُوس) مدينة مشهورة كبيرة، عليها سوران من حجارة، كانت تشتمل على خيلٍ ورجالٍ وعدّة وعتاد وكراع. وكانت من العمارة والخصب بالغاية إلى رخصٍ عامّ على مرّ الأيّام وتعاقب الأعوام.

وكان بينها وبين حدّ الروم جبال متشعّبة من اللّكام كالحاجز بين العملين، ورأيت غير عاقل مميّز وسيّد حصيف مبرّز يُشار إليه بالدراية والفهم واليقظة والعلم، يذكر أنّ بها مئة ألف فارس، وكان ذلك عن قريب عهد من الأيّام التي أدركتُها وشاهدتُها، وكان السبب في ذلك أنّه ليس من مدينة عظيمة مِن حدّ سجستان وكِرْمان وفارس وخُوزِسْتان والجبال وطَبَرِسْتان والجزيرة وأَذَرْبيجان والعراق والحجاز واليمن والشامات ومصر والمغرب، إلاّ وبها لأهلها دار ينزلها غزاة تلك البلدة ويرابطون بها إذا وردوها، وتكثر لديهم الصلات وتَرِد عليهم الأموال والصدقات العظيمة الجسيمة إلى ما كان السلاطين يتكلّفونه وأرباب النعم يعانونه وينفذونه متطوعين متبرعين، ولم يكن في ناحيةٍ ذكرتها رئيس ولا نفيس إلاّ وله عليه وقف من ضيعة ذات مزارع وغلاّت أو مسقَّف من فنادق، فهلكوا فكأنهم لم يقطنوها، وعفوا فكأنهم لم يسكنوها، حتّى لظننتم كما قال الله تعالى:( هل تُحسّ منهم من أحدٍ أو تسمع لهم رِكْزا ) .

١٦٣

وكانت (أوْلاس) حصناً على ساحل البحر فيه قوم متعبّدون، وكان في آخر ما على بحر الروم من العمارة، فكانت ممّا بدأ به العدوّ.

و(بَفْراس) كان فيها منبر على طريق الثغور، وكانت فيها دار لِزُبَيْدة، ولم يكن بالشام دار ضيافةٍ كبيرة غيرها.

فأمّا المسافات بالشام فإنّ طولها من حدّ ملطية إلى رفَح، والطريق من ملطية على مَنبِج وبينهما ٤ أيّام، ومن مَنْبِج إلى حلب يومان، ومن حلب إلى حمص ٥ أيّام، ومن حمص إلى دمشق ٥ أيّام.

وعرضها في بعض المواضع أكبر من بعض، وذلك أنّ أعرضها طرفاها، وأحد طرفيها من الفرات من جسر مَنْبِج على منبج ثمّ على قُورس في حدّ قِنَّسرين، ثمّ على العواصم في حدّ أنطاكية، ثمّ يقطع جبل اللكام إلى (بَيَاس)، ثمّ إلى (التينات)، ثمّ إلى المُثَقَّب، ثمّ على المِصِّيصة، ثمّ على أذنة، ثمّ طَرَسُوس، وذلك نحو عشر مراحل، وإن سلكت من بالس إلى حلب ثمّ إلى أنطاكية ثمّ إلى الإسكندرونة، ثمّ إلى بَياس، حتّى تنتهي إلى طرسوس، فالمسافة أيضاً نحو ١٠ مراحل، غير أنّ السمت المستقيم هو الطريق الأوّل.

وجند قنّسرين، قنّسرين مدنتها ؛ غير أنّ دار الإمارة والأسواق ومجمع ناسها والعمارات بحلب، فمِن حلب إلى بالس يومان، ومن حلب إلى (الأَثارِب) يوم، ومن حلب إلى قُورُس يوم، ومن حلب إلى منبج يومان، ومن حلب إلى (الخُناصِرَة) يومان.

والعواصم قصبتها أنطاكية، وكان منها إلى أذَنة ٣ مراحل، ومنها إلى بَفْراس يوم، وإلى الأَثارِب يومان، وإلى حمص ٤ مراحل، ومنها إلى مَرْعَش يومان، وإلى الحدث ٣ مراحل.

وأمّا الثغور فلا قصبة لها، وكلّ مدينةٍ قائمة بنفسها، ومنبج مدينة قريبة من الثغور، ومن منبج إلى الفرات مرحلة خفيفة، ومن منبج إلى قُورس مرحلتان، ومن منبج إلى ملطية ٤ أيّام، ومن منبج إلى (سُمَيْساط) يومان، ومن منبج إل الحدث يومان، ومن سميساط إلى (شِمشاط) مرحلتان، ومن سُمَيْساط إلى حصن منصور يوم، ومن حصن منصور إلى ملطية يومان، ومن منصور إلى (زِبَطرة) يوم، ومن حصن منصور إلى

١٦٤

الحدث يوم، ومن ملطية إلى مرعش ٣ مراحل كبار، ومن مرعش إلى الحدث يوم.

فهذه مسافات الثغور الجزرية.

وأمّا الثغور الشاميّة، فمن الاسكندرية إلى بَيَاس مرحلة خفيفة، ومن بياس إلى المِصِّيصة مرحتان، ومن المِصِّيصة إلى عين زَربة مرحلة، ومن المِصِّيصة إلى أذَنة مرحلة، ومن أذَنَة إلى طَرَسوس مرحلة، ومن طرسوس إلى (أولاس) على بر الروم يومان، ومن طَرسوس إلى الحوزات مرحلتان، ومن طرسوس إلى بياس على بحر الروم فرسخان، ومن بياس إلى الكَنِيسة والهارونيّة أقلّ من يوم، ومن الهارونية إلى مرعش من ثغور الجزيرة مرحلة، فهذه جملة مسافات الثغور)(١) .

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ٣٧ إلى ص ٥١.

١٦٥

الجزيرة

(وأمّا الجزيرة التي بين دجلة والفرات، وتشتمل على ديار ربيعة ومُضَر، فمخرج الفرات من داخل بلد الروم على ما سلكته من مَلَطْيَة على يومين، ويجري بينها وبين المدينة المعروفة بِسُمَيْساط، وكانت للمسلمين، ويمرّ عليها وعلى جسر منبج وبالِسَ إلى الرّقّة وقَرْقيسيا والرَّحْبة وهيت والأَنْبار، وينقطع حدّ الفرات ممّا يلي الجزيرة، ممّا يعود حدّ الجزيرة في سمت الشمال إلى تكْريت، وهي مدينة على دجلة، حتّى ينتهى عليها مصعداً إلى السِنّ ممّا يلي الجزيرة، وإلى الحَديثة والموصل.

ويصعد دجلة إلى جزيرة ابن عمر، ثمّ يتجاوز إلى آمِد، فينقطع حينئذ حدّ الجزيرة، وتصعد دجلة على أقلّ من يومين في حدّ أرمينية، ثمّ يعود الحدّ مغرّباً إلى سُمَيْساط، ثمّ ينتهي إلى مخرج ماء الفرات في حدّ الإسلام من حيث ابتداؤه، ومخرج دجلة، وإن كان في بلد الروم، فطالما كان في يد الإسلام، وعلى يسار دجلة وغربيّ الفرات مدن وقرى تُنسب إلى الجزيرة، وهي خارجة منها وبائنة عنها.

وأمّا حدودها ومسافاتها، فمن مخرج الفرات في حدّ مَلَطْية إلى سُمَيْساط يومان، ومن سُميساط إلى جسر منبج ٤ أيّام، ومن الجسر إلى بالِس ٤ أيّام، ومن بالِس إلى الرَّقّة يومان، ومن الرَّقّة إلى الأَنْبار ٢٠ يوماً، ومن الأنبار إلى تَكْريت يومان في نفس البرّيّة، ومن تكريت إلى الموصل ٦ أيّام، ومن الموصل إلى آمِد ١٤ يوماً، ومن آمِد إلى سُمَيْساط ٣ أيّام، ومن سُمَيْساط إلى مَلَطْية ٣ أيّام، ومن الموصل إلى (بَلَد) مرحلة، ومن بَلَد إلى نصيبين ٥ مراحل، ومن نصيبين إلى رأس عين ٣ مراحل، ومن رأس عين إلى الرَّقَّة ٤ أيّام، ومن رأس عين إلى حَرّان ٣ أيّام، ومن حرّان إلى جسر

١٦٦

منبج يومان، ومن حرّان إلى الرُّها يوم، ومن الرُّها إلى سُمَيْساط يوم، ومن حرّان إلى الرَّقّة ٣ أيّام.

ومدينة (آمِد) على جبلٍ من غربيّ دجلة مطلّ عليها نحو مئة قامة، وعليها سورٌ أسودٌ من حجارة الأرحية، ويُسمّى ذلك السور ميموناً من شدّة سواده، وذلك أنّه من حجارة أرحية الجزيرة، وليس لهذه الحجارة على وجه الأرض نظير، ومنها ما يساوي الخمسين ديناراً وأقلّ وأكثر بالعراق.

وآمِد كثيرة الشجر، ولها مُزْدَرَع بداخل سورها، ومياه وطواحين على عيون تنبع منها ؛ وكان لها ضياع ورساتيق وقصور ومزارع برسمها، هلكت لضعفهم، واقتدار الروم عليهم، وقلّة المغيث الناصر.

وأجلّ مدينةٍ لديار مُضَر الرَّقّة، وفي غربيّ الفرات بين الرَّقّة وبالس أرض صفّين، وبها قبر عمّر بن ياسر (رض) وأكثر أصحاب أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

ومدينة (حرّان) تليها في الكبر، وهي مدينة الصابئين، وبها سدنتهم، ولهم بها تلّ عليه مصلّى الصابئين يعظّمونه وينسبونه إلى إبراهيم، وهي من بين تلك المدن قليلة الماء والشجر، وكانت زروعها مباخس، وكان لها غير رستاق عظيم وكورة جليلة، فافتتح الروم أكثرها، وأناخت بنو نُمير وبنو عُقيل بِعَقْوتِها وبقعتها، فلم تبق بها باقية، ولا في رساتيقها ثاغية ولا راغية.

وهي مدينة في بقعة يحفّ بها جبل مسيرة يومين في مثلها مستواة.

ومدينة (الرُّها) في شمال هذه البقعة، وكانت وسطة من المدن، والغالب على أهلها النصارى، وبها زيادة على ثلاثمئة بيعة ودير وصوامع، فيها ربانهم، ولهم فيها بيعة ليس للنصرانيّة أعظم ولا أبدع صنعةً منها، ولها مياه وبساتين وزروع كثيرة نزهة، وهي أصغر من (كَفَرْثُوثا)، وكان بها منديل لعيسى بن مريم (عليه السلام)، فخرج ملك الروم في بعض خرجاته ونزل بهم وحاصرهم وطالبهم به، فسلّموه إليه على هدنةٍ وافقوه على مدّتها.

و(جِسر مَنْبِج) و(سُمَيْساط) مدينتان نزهتان، فيهما مياه وبساتين ومباخس وأشجار، وهما عن قرب من الفرات في حال اختلال ورزوح حال)(١) .

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية... من ص ٥١ إلى ص ٥٥.

١٦٧

أرْمِينية

(كانت أرمينة في قديم الأيّام لِـ (سَنْباط بن أَشُوط) ملك الأرمن وأجداده، ولم تزل في أيدي الكبراء منهم، فأزالها أبو القاسم يوسف بن أبي الساج عنهم، وأخرجها من أيدهم، وبأيديهم عهودٌ للصدر الأوّل بإقرارهم على حالهم وأخذ الجزية منهم على ما جرت به مقاطعتهم.

وكان بنو أميّة وبنو العبّاس قد أقرّوهم على سكنهم، ويقبضون الرسوم عليها من جباياتهم، فتحيّفهم وقصدهم، فلم يفلح مَنْ بعدهم ولا ارتفعت له راية.

والغالب على أرمينية النصرانيّة، وللسلطان عليهم كالخراج في كلّ سنة، وكأنّهم اليوم في عهد على حسب ما كانوا بغير حقيقة تطرَّقهم السلاطين المجاورون لهم فيسبّونهم ويؤذونهم وهم في ذمّة، وكان رقيقهم لا يُباع في بغداد، أدركته كذلك إلى سنة خمس وعشرين وثلاثمئة، ولا يجيزه أحد لأنّهم في بعض ذمةٍ معروفة ومعهم غير عهد.

وهما أرمينيتان، إحداهما تُعرف بالداخلة، والأخرى بالخارجة.

وفي بعض الخارجة مدن للمسلمين، وفي أيديهم لم تزل يلونها المسلمون، وقد قطع عليها الأرمن في غير وقت، وهي لملوك الإسلام، كأَرْجيش وخِلاَط ومنازْجِرد وقاليقلا ؛ وحدودها ظاهرة، فحدُّها من المشرق إلى بَرذَعَة، ومن المغرب إلى الجزيرة، ومن الجنوب إلى (أَذربيجان )، ومن الشمال إلى نواحي بلاد الروم من جهة (قالِيقَلا )، وكانت قاليقلا في وسط بلاد الروم ثغراً عظيماً لأهل أذربيجان والجبال والرّيّ وما والاها.

والداخلة: دَبِيل ونَشَوَى وقاليقلا وما إلى ذلك من الشمال.

والخارجة: بَرْكَرِي وخلاط وأرجيش وسَلْطان والزَوَزَان وما بين ذلك من

١٦٨

القلاع والنواحي والأعمال، ولهم مدخل إلى بلد الروم يُعرف بـ (أطَرابَزُنْدَة ) وهي مدينة يجتمع فيها التجّار من بلد الإسلام، فيدخلون إلى بلد الروم منها للتجارة، ويخرج إليها خليج من القُسطنطينيّة إلى البحر المحيط، ولملك الروم على صاحبه المقيم بأطرابزندة في وقتنا هذا مال جسيم، كان في الأوّل دونه كثيراً، وأكثر ما يخرج إلى بلد الإسلام من الديباج والبُزْيُون وثياب الكتّان الروميّ وثياب الصوف، والأكسية الروميّة، فمن أطرابزندة.

وليس بين نشوى وبركري وخلاط ومنازجرد وبَدْليس وقاليقلا وأَرْزن وميّافارقين كثير تفاوت ؛ لأنّ مقاديرها تتقارب، ولا يشبه دبيل في العظم والكبر منها شيء، وهي بأجمعها خصيبة كثيرة الخير عامرة، وقد نالها في وقتنا هذا ما نال سائر البلدان باختلال السلطان وتغيّر الزمان.

وأكثر العلماء بحدود النواحي يرون أنّ ميّافارقين من حدود أرمينية، وقومٌ يعدّونها من أعمال الجزيرة، وهي من شرقيّ دجلة على مرحلتين منها، فلذلك تُحسب من أرمينية.

وبهذه البلاد وأضعافها من التجارات والمجالب وأنواع المطلب من الدوابّ والأغنام والثياب المجلوبة إلى النواحي والأقطار معروفة لهم ومشهورة كالتِّكَك الأرمينيّة التي تعمل بسَلَماس (تُباع التِّكَّة من دينار إلى عشرة دنانير)، ولا نظير لها في سائر الأرض.

والأرمني المقدّم ذكره يعمل بِدَبيل ويعمل بنواحي أرمينية (مقاعد أرمني)، وأفخاخ تُعرف بالأرمني المحفور يقلّ نظيرها في جميع النواحي التي يشبهون أعمالهم بها، وكذلك السَّبَنِيّات(١) والمقارم(٢) والمنادل المعمولة بميّافارقين وبمواضع من أرمينية.

وفي جنوب بَرْكَرِي وخِلاط وأَرْجيش بحيرة آخذة من المشرق إلى المغرب تكون بضعة عشر فرسخاً، يخرج منها سمك صغار أشبار يُعرف بالطِرِّيخ يُملَّح ويُحمل إلى الجزيرة والموصل والرَّقّة وحرّان وحلب وسائر الثغور، وفي أطرافها مع البُورق المحمل إلى العراق والجزيرة للخبّازين،

____________________

(١) السّبنيّات: مفردها سبَنِيّة وهي أُزُرٌ سود للنساء منسوبة إلى سَبَن قرية في نواحي بغداد.

(٢) المقارم: مفردها قِرام السّتر الأحمر، ثوب خفيف.

١٦٩

وبالقرب منها مقالع الزرنيخ يُجلب إلى سائر الأرض منه الأحمر والأصفر.

ينبغي أن لا يكون المسلمون لصنوف أعدائهم أشدّ حذراً منهم للروم، فلمّا كانت الروم على ما وصفت، وجب أن نقدّم الكلام في الثغور المقابلة لبلدهم على الكلام في غيرها، فنقول:

إنّ هذه الثغور منها برّية تلقاها بلاد العدو، وتقاربه من جهة البرّ، ومنها بحرية تلقاه وتواجهه من جهة البحر، ومنها ما يجتمع فيه الأمران.

وتقع المغازي من أهله في البرّ والبحر الثغور البحرية على الإطلاق سواحل الشام ومصر كلّها، والمجتمع فيه الأمران غزو البر والبحر الثغور المعروفة بالشاميّة، فلنبدأ بذكرها وهي:

طَرَسوس وأَذَنَة والمِصِّيصة وعين زَرْبة والكَنيسة والهارونيَّة وبَياس ونقابُلس، وارتفاعها نحو المئة ألف دينار ينفق في مصالحها وسائر وجوه شأنها، وهي: المراقب والحرس والفواثير(١) والركّاضة والموكّلين بالدروب والمخائص والحصون وغير ذلك ممّا تجانس من الأُمور والأحوال، ويحتاج إلى شحنتها من الجند والصعاليك، وراتب مغازيها الصوائف والشواتي في البرّ والبحر في السنة على التقريب مئتي ألف دينار على المبالغة، وهي أن يتّسع ثلاثمئة ألف دينار، والذي تلقاها من بلاد العدوّ، ويتّصل بها إمّا من جهة البرّ فالقَبَادُق ويقرب منها الناطُلِيق، ومن جهة البحر سَلُوقِيَة.

وعواصم هذه الثغور وما وراءها إلينا من بلدان الإسلام، وإنّما سمّي كلّ واحدٍ منها عاصماً ؛ لأنّه يعصم الثغر ويمدّه في أوقات النفير، ثمّ ينفر إليه من أهل أنطاكية والجُوقة والقُورُس، ثمّ يلي هذه الثغور عن يمينها وجهة الشمال منها الثغور المعروفة بالجزريّة.

وأوّل ما يحادّ الثغور الشاميّة منها مَرْعَش، ويليها ثغر الحَدَث، وكان يلي هذه (زِبَطْرة) فخربت أيّام المُعْتصِم، وكان له عند النهوض إلى بلاد العدوّ حتّى فتح (عَمُّورية) الحديث المشهور، فلما انتهى إلى موضع زبطرة بنى مكانها وبالقرب منها حصوناً لتقوم مقامه، وهي الحصن المعروف بـ

____________________

(١) الفواثير: مفردا فاثور: الخوان من رخام، قرص الشمس، البساط، الجفنة، وعاء الخمر، الجاسوس.

١٧٠

(طَبارْجي)، والحصن المعروف بالحُسَينِيَّة، والحصن المعروف ببني المؤمن، والحصن المعروف بابن رَجْوان، ثمّ يلي هذه الحصون ثغر (كَيْسُوم)، ثمّ حصن منصور، ثمّ ثغر سُمَيْساط، ثمّ ثغر مَلَطْية وهو الخارج في بلد العدوّ من جميع هذه الحصون.

وكلّ واحدٍ بينه وبين بلد العدوّ درب وعقبة، وثغر ملطية مع بلد العدوّ في بقعة وأرض واحدة.

وكان يواجه هذه الثغور ويقابلها من بلد الروم خَرشَنة وعمل الخالديّة، فحدث في هذا الوقت بينهم وبين الروم والأرمن الذين في جملة مليح الأرمنيّ في بلدٍ كان يسكنه قوم يُسمّون (البَيَالِقة) وهم من الروم إلاّ أنّهم يخالفونهم في كثيرٍ من أديانهم.

وكان هؤلاء مع المسلمين يعينونهم في غزواتهم، ويتوفّر على المسلمين المعونة بهم، إلى أن رحلوا دفعةً واحدةً عن هذا الموضع ؛ بإساءة أهل الثغور معاشرتهم، وقلّة إشراف المدبّرين على أمرهم، فتفرّقوا في البلاد، وسكن مكانهم هؤلاء الأرمن، وابتنوا الحصون المنيعة.

ثمّ صارت لهم العدّة الكثيفة والمعرّة الشديدة، وارتفاع هذه الثغور مع ملطية سبعون ألف دينار، يُصرف منها في مصالحها أربعون ألف دينار، ويبقى ثلاثون ألف دنار، ويحتاج لنفقة الأولياء والصعاليك على التجزئة مئة وعشرون ألف دينار تنضاف إلى البقيّة وعلى المبالغة مئة وسبعون ألف دينا تنضاف إليها تتمّة مئتي ألف دينار سوى نفقات المغازي في أوقاتها.

وهذه الثغور هي الواسطة، ومنها كانت تقع المغازي، فإن احتيج إلى الغزو منها كانت النفقة حسب الغزاة.

وعواصم هذه الثغور (دُلوك) و(رَعْبان) و(مَنْبِج)، ويلي هذه الصغور عن يمينها أيضاً وفي جهة الشمال الثغور المسمّاة بالبكرية، وهي:

(شِمْشاط) و(حاني) و(مَلْكين)، وحصون منها (جُمح) ومنها (حوران) ومنها (الكلس) وغيرها، ثمّ ثغر (قاليقلا) في جهة الشمال عن هذه الثغور زيادة، إلاّ أنّه كالمنفرد لما بينه وبينها من المسافة البعيدة.

والذي يقابله هذه الثغور من أعمال الروم: عمل (الأرْمِنِياق) وبعض عمل (الخالدية)، ويقرب منها عمل (أَفلاغُونِيَة) المتّصل ببلاد الخَزَر، وارتفاع هذه الثغور في السنة ألف ألف وثلاثمئة ألف درهم، تحتاج نفقاتها في مصالحها وحصونها وأرزاق شحنها إلى هذا المقدار، وزيادة ألف ألف وسبعمئة ألف درهم تتمّة ثلاثة آلاف ألف درهم.

١٧١

وأمّا الثغور البحريّة وهي سواحل جند حمص (أَنْطَرطُوس) و(بُلُنْياس) و(اللاذقيّة) و(جبلة) و(الهرياذة) دون الخليج أحد عشر عملاً أحدها عمل أفلاغونية وجنده عشرة آلاف رجل، ثمّ يليه نحو الغرب عمل (الأَبْطِماط) وتفسير هذه اللفظة بالعربيّة الأذن والعين ؛ لأنّ هذا العمل سرة بلاد الروم، وليس أهلها أصحاب حرب ؛ لأنّه لا يبلغ إليهم مغازي المسلمين ولا غيرهم، وحدّه الغربيّ الخليج، والشماليّ بحر الخزر، والشرقيّ عمل أفلاغونية، والجنوبيّ عمل (الأَبْسيق)، وجنده أربعة آلاف رجل ؛ ثمّ يلي (الأبطماط) عمل الأبسيق وحدّه الغربيّ الخليج، والشماليّ الأبطماط، والجنوبيّ عمل الناطُليق، والشرقيّ عمل (الطَرْقَسِيس) وجنده ستة آلاف رجل.

ثمّ يلي الأبسيق عمل الطرقسيس، وحدّه من جهة الغرب الخليج، ومن الشمال الأبسيق، ومن المشرق الناطُليق، ومن الجنوب بحر الشام، وجنده ستّة آلاف رجل.

ثمّ يليه عمل الناطُليق وتفسيره المشرقيّ، وهو أكبر أعمال الروم، له حدّ إلى الأبسيق في الغرب، ومن الجهة الجنوبية سلوقية عند بحر الشام، ومن جهة المشرق عمل (القَبادُق)، ومن الشمال (البُقُلاَّر).

وجنده خمسة عشر ألف رجل، وفيه مدينة عمّورية التي فتحها المعتصم. ويليه عمل (سلوقية) ناحية بحر الشام، وأحد حدوده من المغرب الناطُليق، ومن جنوب البحر ومن الشمال الطَرْقَسيس، ومن المشرق درب طرسوس ناحية (قَلَمِيَة) و(اللاَمِس) وجنده خمسة آلاف رجل.

ثمّ يليه عمل القبادُق، وحدّه من جهة الجنوب جبل طرسوس وأَذَنه والمِصِّيصة، ومن جهة المغرب أعمال سلوقية، ومن الشمال الناطُليق، ومن المشرق أعمال (خرشنة)، وجنده أربعة آلاف رجل.

ثمّ يلي ذلك عمل خرشنة، وأحد حدوده وهو الجنوبيّ يلي القبادق، وحدّ يلي دروب ملطية وهو الشرقيّ، وحدّ يلي عمل الأرمِنياق وهو الشماليّ، وحدّ يلي عمل البُقُلاّر وهو الغربيّ، وجنده أربعة آلاف رجل.

ثمّ يليه عمل البقلاّر فحدّ منه عمل الناطُليق والأَبْطِمالي، والثاني القبادق، والثالث خرشنة، والرابع الأرمِنياق، وجنده ثمانية آلاف رجل.

وعمل الأَرمِنياق فحدٌّ منه يلي الأفلاغونية، والثاني عمل البقلاّر، والثالث عمل خرشنة، والرابع عمل الخالدية وبحر الخزر، وجنده أربعة آلاف رجل.

ثمّ عمل الخالدية وحدٌّ منه بلاد أرمينية، والثاني بحر الخزر، والثالث أرمنياق، والرابع أيضاً من عمل الأرمنياق،

١٧٢

وجنده أربعة آلاف رجل. فجميع جيش الأحد عشر عملاً التي مقابلتنا سوى مَنْ لا معوّل عليه، وإنّما هو ممّن يجيش فارساً وراجلاً سبعون ألف تُسمّى الرّبيعيّة لعشرة أيّام تخلو من أيّار بعد أن يكون الناس قد أربعوا دوابّهم وحسنت أحوال خيولهم، فيقيمون ثلاثين يوماً وهي بقيّة أيّار وعشرة من حَزيران، فإنّهم يجدون الكلأ في بلد الروم ممكناً، وكأنّ دوابّهم ترتبع ربيعاً ثانياً، ثمّ يقفون فيقيمون إلى خمسة وعشرين يوماً، وهي بقيّة حزيران وخمسة من تمّوز حتّى يقوى ويسمن الظهر، ويجتمع الناس لغزوة الصائفة، ثمّ يغزون لعشر تخلو من تمّوز، فيقيمون إلى وقت قفولهم ستّين يوماً.

فأمّا الشواتي فإنّي رأيتهم جميعاً يقولون: إنْ كان لا بدّ منها فليكن ممّا لا يبعد فيه ولا يوغل، وليكن مسيره عشرين ليلة بمقدار ما يحمل الرجل لفرسه ما يكفيه على ظهره، وأن يكون ذلك في آخر شباط فيقيم الغزاة إلى أيّام تمضي من آذار، فإنّهم يجدون العدوّ في ذلك الوقت أضعف ما يكون نفساً ودوابّ، ويجدون مواشيهم كثيرة، ثمّ يرجعون ويربعون دوابّهم يتسابقون)(١) .

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية... من ص ٥٥ إلى ص ٧٠.

١٧٣

غزوات لسيف الدولة

(من جملة غزوات سيف الدولة غزاة سنة ستّ وعشرين وثلاثمئة خرج في ذي القعدة منها، حتّى صار إلى حصن (دادِم)، ووجّه الحسن بن علي القوّاس في سَريّةٍ إلى حصن التلّ. وسار سيف الدولة إلى حصن زياد فسار وفتحه، واقام عليه سبعة أيّام، ووفاه الدُمُسق في مئتي ألف، فانكفأ راجعاً يطلب شمشاط وخيول الروم تسايره، فنزل ضيعة تُعرف بـ (المُقَدَّمِيَّة)، وهمّ بمناجزة الروم، ثمّ تطير باسمها، فلمّا كان يوم النّحر، وصل إلى موضع بين حصنَيْ سَلاَم وزياد، فتفاءل بأسمائهما ووقف ؛ وأقبلت عساكر الروم، وانقطع عنها موكب قد أجاروه في نحو عشرين ألف بطريق.

ووقع القتال، وحمل سيف الدولة في غلمانه وغلامه (تمال) وعبد الأعلى بن مسلم، فهزم الله الروم، وأسر منهم سبعين بطريقاً، ولم يزل القتال والأسر فيهم إلى الليل، وأخذ سرير الدُمُستق وكرسيه.

وفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة خرج سيف الدولة من نَصِيبين غازياً، فنزل (مَنازْكَرْد) أو (تَنازْجَرْد) يريد مدينة قاليقلا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينةً سمّوها (هَفْجيج)، فلمّا علم الروم بمسيره أخربوا المدينة التي بنوها وهربوا، ففي ذلك يقول النّاميّ:

ونـادى الهُدى مُستصرخاً فَأَجَبْتَه بـقالِيقلاَ إذ أَنَّـتِ الـخَيْلُ سُهَّما

ولـم تَـتَّئِدْ هَـفْجيج أيدي بُناتِها أَبَـدْتَهُمُ تـحت الـسنابك رُغَّما

لئن حسنَتْ عذراء والبحر خدرها لـقد وجـدت فـيه ثكولاً وأَيّما

١٧٤

قال: ولمّا هدم الروم المدينة وهربوا، رجع سيف الدولة، فأقام بأرزن حتّى انحسر الثلج، وأمكن الغزو. ثمّ خرج إلى خِلاط بلاد الروم بعد أن جاءه ملك أرمينية وخزران، وما وطئ بساط ملك قط، فأحسن إليه وخلع عليه، وتسلّم منه حصوناً كانت ضرراً على المسلمين، وردّه إلى بلده سالماً بعد أن استحلفه على الطاعة وحماية السبل.

ووردت عليه كتب ملوك أرمينية وخزران بالطاعة والانقياد، ثمّ سار إلى ابن (طُرنيق)، وأناخ على مدينة (مُوش) فخرّبها، وهدم بيعة جليلة القدر عند النصرانيّة، ودخل إلى بلد الروم، فهدم لهم حصوناً كثيرةً وفتح قلاعاً منيعة، ووطئ مواطئ لم يطأها أحدٌ من المسلمين قبله.

وورد إليه كتاب ملك الروم بما أحفظه، فأجابه عنه جواباً شديداً وأنفذه إليه، فقال الملك لرسول سيف الدولة:

يُكاتبني هذه المكاتبة كأنّه قد نزل على (قَلُونِيَة) استعظاماً لذلك، فاتّصل قوله بسيف الدولة، فعزم على قصد قلونية أو يفتحها الله على يديه، فكأنّه رأى من بعض أصحابه استعظاماً للأمر، فقال: لست أقلع عن قصد هذه المدينة، فإمّا الظّفر وإمّا الشهادة.

فسار حتّى نزل عليها، وأحرق رساتيقها، وسلب ضياعها، وكتب إلى الدمستق وهو إلى الملك كتاباً من قلونية، فاستعظم الروم هذا الفعل وخافوه خوفاً عظيماً ؛ لأنّه بلدٌ ما وطئه أحدٌ من المسلمين، ثمّ رجع سيف الدولة منها فسايره الدمستق، فأوقع به سيف الدولة وقتل من الروم مقتلةً لا يحصيها إلاّ الله تعالى.

قيل: وفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة: سار سيف الدولة من ميّافارقين إلى أرمينية، ونزل بطَيطَوانة على البحيرة، واستدعى بابن جاجيق ابن الدَيْراني وأحمد بن عبد الرحمان أبي المعزّ صاحب خِلاَط وذات الجوز وأرجيش وبَرْكَرِي وعبد الحميد صاحب منازْجِرد ودَشْت الورك والهَرَك وأشُوط بن جرجور بطريق البطارقة بأرمينية ؛ وحضروا لديه، وأخذ من ابن الديراني حصن شَهْران والحامِد وبلدانها وما جاورها، وأخذ من أحمد بن عبد الرحمان بَدْليس وما جاورها وأخذ من أشُوط بلد السَناسُنة وفتحه، وملك قلعة قُلْب وحصن سُليمان وأعمالها، وردّ ملوك أرمينية فوصلوا تحت

١٧٥

حكمه، وفي خدمته، وسار إلى بلد ابن المَرزُبان وبلد الخالدية فنهبه وسبى منه خلقاً عظيماً، وفتح حصونهم أجمع وذلك في مدة خمسين يوماً وعاد.

وفي سنة ثلاثين وثلاثمئة في ربيع الآخر: وصل الروم إلى قريب حلب، ونهبوا وخرّبوا البلاد، وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان، وفيها دخل الثُمْلي من ناحية طَرسُوس إلى بلاد الروم، فقتل وسبى وغنم وعاد سالماً، وقد أسر عدّة من بطارقتهم المشهورين.

وفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة: وافت جيوش الروم إلى ديار بكر، وسبوا من أهلها جماعةً كثيرة، وفتحوا أرزن وأخربوا عامّة بلدها، وبلغوا قرب نصيبين، والتمسوا من أهل الرّها أن يدفعوا إليهم الأيقُونةَ المنديل الذي في كنيسة الرّها الذي كان سيدنا يسوع المسيح مسح به وجهه، فصارت صورة وجهه فيه، وبذل الروم لهم أنّهم إذا سلّموهم هذا المنديل أطلقوا من الأسرى المسلمين الذين في أيديهم عدداً ذكروه لهم، فكاتبوا المتَّقي بذلك، وعرض الوزير أبو الحسين بن مُقْلَة على المتّقي الوارد في هذا المعنى، واستأذنه فيما يعمله ؛ فأمره بإحضار القضاة والفقهاء واستبيانهم في ذلك والعمل بما يقولون.

واستحضرهم الوزير أبو الحسين بن مقلة واستحضر علي بن عيسى والوجوه من أهل المملكة، وعرّفهم ما ورد في هذا المعنى، وسألهم عمّا عندهم فيه، وجرى في ذلك خطبٌ طويلٌ ذكر فيه بعض مَن حضر حال هذا المنديل، وأنّه منذ الدهر الطويل في هذه البيعة لم يلتمسه ملكٌ من ملوك الروم، وأنّ في دفعه غضاضة على الإسلام، والمسلمون أحقّ بمنديل عيسى (عليه السلام)، وفيه صورته.

فقال علي بن عيسى: إنّ خلاص المسلمين من الأسر وإخراجهم من دار الكفر مع ما يقاسونه من الضرّ والضنك أوجب وأحقّ ؛ ووافقته جماعة مَن حضر على قوله، وأشار هو وغيره من قضاة المسلمين بتسليم الأُسارى منهم وتسليم المنديل إليهم، إذ لا طاقة للسلطان بهم ولا له حيلة في استنقاذ الأُسارى من أيديهم، وعمل في ذلك محضراً، وأخذ في ذلك خطوط الجماعة الذين حضروا، وعرض على المتّقي، وأمر بكتب الجواب بالعمل بذلك، واستقرّ الأمر بين أهل الرّها وبين الروم على أن يدفعوا

١٧٦

إليهم مئتي نفس من المسلمين ممّن كانوا أسروهم، وشرط أهل الرّها عليهم ألاّ يعبروا فيما بعد على بلدهم، وعقدوا بينهم هدنةً مؤبّدة.

وتسلّم الروم المنديل وحملوه إلى القسطنطينية ودُخل به إليها في اليوم الخامس عشر من آب، وخرج أصْطفان والبطريرك (ثاوْفيلَقْطُس) أخوه وقسطنطين أولاد (رومانوس) الملك إلى باب الذهب مستقبلين له، ومشى أهل الدولة بأجمعهم بين يديه بالشمع الكثير، وحُمل إلى الكنيسة (أجياصُوفْيا) ومنها إلى البلاط وذلك في السنة الرابعة والعشرين منذ ملك رومانوس الشيخ مع قسطنطين بن لاوُن، ولم تزل هذه الهدنة مستمرة بين الروم وبين أهل الرّها إلى أن نقضها سيف الدولة في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة، فإنّه ألزم أهل الرّها الغزو معه في سنة غزاة المِصّيصة فهلك فيها كثير منهم.

وعاد الروم إلى ديار بكر في هذه السنة، وفتحوا مدينة دارا يوم الخميس لعشر خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة، ورجعوا دفعةً أُخرى ودخلوا رأس عين يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمئة، وأقاموا فيها يومين، وسبوا من أهلها زهاء ألف نفس، وانصرفوا.

وفي سنة ٣٣٣: غزا سيف الدولة بلاد الروم، وردّ سالماً بعد أن بدع في العدوّ، وسبب هذه الغزاة أنّه بلغ الدمستق ما فيه سيف الدولة من الشغل بحرب أضداده، فسار في جيشٍ عظيم، وأوقع بأهل بَفْراس ومَرْعَش وقتل وأسر، فأسرع سيف الدولة إلى مضيق وشعاب، فأوقع بجيش الدمستق وبينهم، واستنقذ الأُسارى والغنيمة، وانهزم الروم أقبح هزيمة، ثمّ بلغ سيف الدولة أنّ مدينةً للروم تهدّم بعض سورها وذلك في الشتاء، فاغتنم سيف الدولة الفرصة وبادر فأناخ عليها وقتل وسبى، لكن أُصيب بعض جيشه.

الفداء الثاني عشر فداء ابن حمدان في خلافة المُطيع باللامس في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، والملك على الروم قسطنطين، وكان القيّم به نصر الثُّمْلي أمير الثغور الشاميّة من قِبَل أبي الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان صاحب جند حمص وجند قِنَّسرين وديار مُضر وديار بكر والثغور الشاميّة والجزريّة.

وكان عدّة من فودي به

١٧٧

من المسلمين ألفين وأربعمئة واثنين وثمانين من ذكرٍ وأنثى، وفضل للروم على المسلمين قرضاً مائتان وثلاثون لكثرة من كان في أيديهم، فوفّاهم أبو الحسن ذلك وحمله إليهم، وكان الذي شرع في هذا الفداء وابتدأ به الإخشيد محمد بن طُخْج أمير مصر والشام والثغور الشاميّة.

وكان أبو عُمير عَدِيّ بن أحمد بن عبد الباقي الأَذَنِيّ شيخ الثغر والمنظور إليه منهم، قدم إليه إلى دمشق في ذي الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلاثمئة، ونحن يومئذٍ بها، ومعه يُوَانِس الأَنْسِيبَطُوس البَطْرِيقُوس المُسْدِقُوس المُترِّهب رسول ملك الروم في إتمام هذا الفداء ؛ وكان ذا رأيٍ وفهمٍ بأخبار ملوك اليونانيّين والروم ومَن كان في أعصرهم من الفلاسفة، وقد اشرف على شيءٍ من آرائهم، والإخشيد حينئذٍ شديد العلّة فتوفّي يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجّة من هذه السنة.

وسار أبو المِسْك كافور الإخشيديّ بالجيش راجعاً إلى مصر، وحمل معه أبا عُميْر والمُسْدِقوس إلى بلاد فِلَسْطِين، فدفع إليها ثلاثين ألف دينار من مال هذا الفداء، وصار إلى مدينة صور فركبا في البحر إلى طَرَسُوس، فإلى ما(١) وصلا إليها ما كاتب نصر الثُّمْلِي أمير الثغور الشاميّة أبا الحسن بن حمدان ودعا له على منابر الثغور الشاميّة، فجدّ في إتمام هذا الفداء فعرف به ونُسب إليه.

نزل سيف الدولة على حصن (بَرْزُوَيْه)، وحاصره في سنة ستّ وثلاثين وثلاثمئة، وفيه يومئذٍ أبو تَغْلِب الكُرْدِيّ، ونزل (لاوُن بن بَرْدَس) الدمستق الفوقاس على الحدث، وحاصره، ووافى نفير الحدث إلى سيف الدولة يستعينون به ؛ فأقسم أنّه لا رحل عن حصن برزُوَيه أو يفتحه، وفتح لاوُن حصن الحدث بالأمان، وأخرب سوره، وفتح سيف الدولة حصن برزويه في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة، وسار إلى ميّافارقين واستخلف بحلب محمد بن ناصر الدولة، ونزل لاوُن على بُوقا، وخرج محمد بن ناصر الدولة للقائه من حلب، فأوقع لاون لمحمد ولجماعة من أصحابه وقتل منهم زهاء أربعمئة رجل، وأسر خلقاً كثيراً، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة.

____________________

(١) فإلى ما: أي فإلى أن.

١٧٨

وفي شهر ربيع الأوّل من هذه السنة فتح الروم مدينة قالِيقَلاَ وملكوها، وهدموا سورها، وأعطوا أهلها الأمان، وانصرفوا عنها.

وفي سنة ٣٣٩ هـ و ٩٥٠م: غزا سيف الدولة... فسار في ربيع الأوّل، ووافاه عسكر طرسوس في أربعة آلاف عليهم القاضي أبو حصين، فسار إلى قَيْساريّة ثمّ إلى (القَبَدق)، ووغل في بلاد الروم وفتح عدّة حصون، وسبى وقتل، ثمّ سار إلى (سَمَنْدو) ثمّ إلى (خَرْشنة) يقتل ويسبي، ثمّ إلى بلد (صارِخَة)، وبينها وبين قسطنطينية سبعة أيّام. فلمّا نزل عليها واقع الدمستق مقدّمته، فظهرت عليه، فلجأ إلى الحصن وخاف على نفسه، ثمّ جمع والتقى سيف الدولة، فهزمه الله أقبح هزيمة، وأُسرت بطارقته، وكانت غزاة مشهورة، وغنم المسلمون ما لا يوصف وبقوا في الغزو أشهراً.

ثمّ إن الطرسوسيين قفلوا، ورجع العربان، ورجع سيف الدولة في مضيق صعب، فأخذت الروم عليه الدروب وحالوا بينه وبين المقدّمة وقطعوا الشجر وسدّوا به الطرق ودهدهوا(١) الصخور في المضائق على الناس، والروم وراء الناس مع الدمستق يقتلون ويأسرون، ولا منفذ لسيف الدولة، ولكن معه أربعمئة أسير من وجوه الروم فضرب أعناقهم، وعقر جماله وكثيراً من دوابّه وحرق الثقل، وقاتل قتال الموت، ونجا في نفرٍ يسير.

واستباح الدمستق أكثر الجيش وأسر أمراء وقضاة.

ووصل سيف الدولة إلى حلب ولم يَكد، ثمّ مالت الروم، فعاثوا وسبوا، وتزلزل الناس، ثمّ لطف الله تعالى وأرسل الدمستق إلى سيف الدولة يطلب الهدنة، فلم يجب سيف الدولة، وبعث يتهدّده، ثمّ جهّز جيشاً، فدخلوا بلد الروم من ناحية حرّان، فغنموا وأسروا خلقاً، وغزا أهل طرسوس أيضاً في البحر والبرّ، ثمّ سار سيف الدولة من حلب إلى آمِد، فحارب الروم وخرّب الضياع وانصرف سالماً.

وأمّا الروم فإنّهم احتالوا على أخذ آمِد، وسعى لهم في ذلك نصرانيّ على أن ينقب لهم نقباَ من مسافة أربعة أميال حتّى

____________________

(١) دهدهوا: من فعل دهده الحجر أي دحرجه.

١٧٩

وصل إلى سورها ففعل ذلك، وكان نقباً واسعاً فوصل إلى البلد من تحت السور، ثمّ عرف به أهلها فقتلوا النصرانيّ، وأحكموا ما نقبه وسدّوه.

قال أبو الطيّب: وقد ركب سيف الدولة في بلد الروم من نزلٍ يُعرف بالسنبوس في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وثلاثمئة، وأصبح وقد صفّ الجيش يريد (سَمَنْدُوا)، وكان أبو الطيّب متقدّماً، فالتفت فرأى سيف الدولة خارجاً من الصفوف يدير رمحاً فعرفه فردّ الفرس إليه فسايره، وأنشده:

لهذا اليوم بعد غدٍ أَريجُ ونار في العدوّ لها أَجيجُ

ومرّ سيف الدولة في هذه الغزاة بسَمَنْدُوا وعبر (آلِس) وهو نهرٌ عظيم، ونزل على صارِخَة فأحرق ربضها وكنائسها وربض خرشنة وما حولها، فأكثر القتل، وأقام بمكانه أيّاماً ثمّ رحل حتّى عبر آلِس راجعاً، فلمّا أمسى ترك السواد وأكثر الجيش وسرى حتّى جاز خرشنة، وانتهى إلى بطن اللُّقان في غدٍ ظهراً، فلقي الدمستق به، وكان الدمستق في ألفٍ من الخيل، فلمّا نظر إلى أوائل خيل المسلمين ظنّها سريّة فثبت لها وقاتل حتّى هزمهم، وأشرف عليه سيف الدولة، فانهزم الدمستق فقُتل من فرسانه خلقٌ كثير، وأُسر من بطارقته وزراوِرته وَوجوه رجاله ما يزيد على الثمانين. وأفلت الدمستق، وعاد سيف الدولة إلى عسكره وسواده، فقفل غانماً، فلمّا وصل إلى عقبةٍ تُعرف بِمَقْطَعَةِ الأنفال صافّه العدوّ على رأسها وأخذ ساقة الناس يحميهم، فلمّا انحدر بعد عبور الناس ركبه العدوّ ؛ فجرح من الفرسان جماعة، ونزل سيف الدولة على (بَرَدا) وهذا نهر، وضبط العدوّ عقبة الشِير وهي عقبة صعبة طويلة، فلم يقدر على صعودها لضيقها وكثرة العدوّ بها ؛ فعدل متياسراً في طريق وَصَفَه له بعض الأدلّة، وأخذ ساقة الناس، وكانت الإبل كثيرة مثقلة معييّة، وجاءه العدوّ آخر النهار من خلفه فقاتله إلى العشاء، وأظلم الليل وتسلّل أصحاب سيف الدولة... سوادهم(١) ، فلمّا خفّ عنه أصحابه سار حتّى لحق السواد تحت عقبة قريبة من بُحيرة الحدث، فوقف وقد أخذ العدو الجبلين من الجانبين، وجعل سيف الدولة يستنفر الناس ولا ينفر أحدٌ منهم، ومن نجا من العقبة نهاراً لم

____________________

(١) قاصدين سوادهم.

١٨٠