تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77500 / تحميل: 10054
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مستصحبا» في السفر «و المستصحب» مع المسافر «لا يكون مستخلفا» في أهله،

لاستحالة كون جسم في مكانين، و أمّا اللَّه تعالى فالسماء و الأرض و المشرق و المغرب عنده سواء فأينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه( ١ ) ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم و لا خمسة إلاّ هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلاّ هو معهم أين ما كانوا ثم ينبّئهم بما عملوا يوم القيامة ان اللَّه بكلّ شي‏ء عليم( ٢) .

قول المصنف: «و ابتداء هذا الكلام» من أوّله إلى «و أنت الخليفة في الأهل» «مروي عن رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » لكن مع زيادة و نقصان، ففي (مجازات) المصنف: و من ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللّهم إنّا نعوذ بك من وعثاء السفر، و كآبة المنقلب، و الحور بعد الكور، و سوء المنظر في الأهل و المال» و قال المصنف ثمة: و الحور بعد الكور أي انتشار الامور بعد انضمامها و انفراجها بعد التيامها، و ذلك مأخوذ من حور العمامة بعد كورها، و هو نقضها بعدليّها و نشرها بعد طيّها( ٣ ) ، قالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في (السيرة) في رجوعه من غزوة بني لحيان لمّا خرج إليهم لطلب ثأر أصحاب الرجيع( ٤) .

«و قد قفّاهعليه‌السلام » أي: أتبعه «بأبلغ كلام و تمّمه بأحسن تمام، من قوله لا يجمعهما غيرك إلى آخر الفصل» «و المستصحب لا يكون مستخلفا».

لكن روى الكلام عنهعليه‌السلام في ذهابه إلى صفين، و فيه قفّاهعليه‌السلام بما قال و في إيابه من صفين، و فيه زاد قبله شيئا، ففي (صفين نصر بن مزاحم): قال عبد الرحمن بن جندب لما أقبل عليّعليه‌السلام من صفين أقبلنا معه، فأخذ طريقا

____________________

(١) البقرة: ١١٥.

(٢) المجادلة: ٧.

(٣) المجازات النبوية: ١٤١.

(٤) سيرة ابن هشام ٣: ١٧٥.

٢١

غير طريقنا الذي أقبلنا فيه، فقال «آئبون عائدون، لربّنا حامدون، اللّهم إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر و كآبة المنقلب و سوء المنظر في المال و الأهل»( ١) .

٥ - الخطبة (٢٢٥) و من دعاء لهعليه‌السلام :

اَللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ اَلْآنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ وَ أَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَ تَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ اَلْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ وَ إِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى اَلاِسْتِجَارَةِ بِكَ عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ اَلْأُمُورِ بِيَدِكَ وَ مَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ اَللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي وَ خُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ مِنْ هِدَايَاتِكَ وَ لاَ بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ اَللَّهُمَّ اِحْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ وَ لاَ تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِكَ قول المصنف: «و من دعائه» هكذا في (المصرية)، و الصواب: «و من دعاء لهعليه‌السلام » كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٢) .

قولهعليه‌السلام «اللّهم إنك آنس الآنسين لأوليائك» كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حضر وقت الصلاة يقول لبلال: اذّن و أرحني من غير اللَّه تعالى( ٣) .

و في التاسعة من مناجات الصحيفة: إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة

____________________

(١) وقعة صفين: ٥٢٨.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١١: ٢٦٧، و شرح ابن ميثم ٤: ٩٣.

(٣) رواه الهروي في غريبه، عنه النهاية ٢: ٢٧٤ و غيره.

٢٢

محبّتك فرام منك بدلا، و من ذا الذي آنس بقربك فابتغى عنك حولا( ١) .

و في الثالثة عشرة: أستغفرك من كلّ لذّة بغير ذكرك، و من كلّ راحة بغير أنسك، و من كلّ سرور بغير قربك، و من كلّ شغل بغير طاعتك( ٢) .

هذا، و الظاهر أنّ «الآنسين» محرّف «الأنيسين»، لأن أولياء اللَّه مستأنسون باللَّه تعالى و بذكره لا انّه تعالى مستأنس بهم.

و في (وقعة صفين): لما قدم عليّعليه‌السلام الكوفة سأل عن رجل من أصحابه كان ينزل الكوفة، فقال قائل: استأثر اللَّه به. فقالعليه‌السلام : إنّ اللَّه لا يستأثر بأحد من خلقه، إنّما أراد اللَّه بالموت إعزاز نفسه و إذلال خلقه( ٣) .

و مما ذكرنا يظهر لك ما في قول ابن أبي الحديد: أنّ الرواية الصحيحة «بأوليائك»، أي: أنت أكثرهم انسا بأوليائك( ٤ ) . و ما في قول الخوئي: ان اللام في «لأوليائك» لتبيين الفاعل من المفعول، فإن قلت ما أحبّني لفلان فأنت فاعل الحبّ و فلان مفعوله، و إن قلت ما أحبني إلى فلان فالأمر بالعكس( ٥) .

«و أحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليك» و في السير: إن ذا القرنين لمّا فرغ من عمل السدّ انطلق على وجهه، فبينا يسير هو و جنوده إذ مرّ على شيخ يصلّي، فوقف عليه بجنوده حتى انصرف من صلاته فقال له ذو القرنين: كيف لم يرعك ما حضرك من جنودي؟ قال: كنت اناجي من هو أشدّ جنودا منك و أعزّ سلطانا و أشدّ قوّة، و لو صرفت وجهي إليك لم أدرك حاجتي قبله. فقال له ذو القرنين: هل لك في أن تنطلق معي فأواسيك بنفسي و أستعين بك على

____________________

(١) ملحقات الصحيفة السجادية: ٣٥٦.

(٢) ملحقات الصحيفة السجادية: ٣٦٤.

(٣) وقعة صفين: ٦، و النقل بتصرف في العبارة.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١١: ٢٦٧.

(٥) شرح الخوئي ٧: ١٢٧.

٢٣

بعض أمري. قال: نعم إن ضمنت لي أربع خصال: نعيما لا يزول، و صحّة لا سقم فيها، و شبابا لا هرم فيه، و حياة لا موت فيها. فقال له ذو القرنين: و أيّ مخلوق يقدر على هذه الخصال. فقال: فإنّي مع من يقدر عليها و يملكها و إيّاك( ١) .

«تشاهدهم في سرائرهم» يعلم السرّ و أخفى( ٢) .

«و تطّلع عليهم في ضمائرهم» إنّ اللَّه عليم بذات الصّدور( ٣) .

«و تعلم مبلغ بصائرهم» عن الصادقعليه‌السلام : إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول:

يا رب ارزقني حتّى أفعل كذا و كذا من البرّ و وجوه الخير، فإذا علم اللَّه تعالى ذلك منه بصدق نيّته كتب اللَّه له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إنّ اللَّه واسع كريم( ٤) .

«فأسرارهم لك مكشوفة، و قلوبهم إليك ملهوفة» في المناجاة الثامنة: «فأنت لا غيرك مرادي، و لك لا لسواك سهري و سهادي، و لقاؤك قرّة عيني، و وصلك منّي نفسي، و إليك شوقي، و في محبّتك و لهي، و إلى هواك صبابتي، و رضاك بغيتي، و رؤيتك حاجتي، و جوارك طلبي، و قربك غاية سؤلي، و في مناجاتك روحي و راحتي، و عندك دواء علّتي، و شفاء غلّتي، و برد لوعتي، و كشف كربتي، فكن أنيسي في وحشتي، و مقيل عثرتي، و غافر زلّتي، و قابل توبتي،

و مجيب دعوتي، و وليّ عصمتي، و مغني فاقتي، و لا تقطعني عنك و لا تبعدني منك يا نعيمي و جنّتي و يا دنياي و آخرتي»( ٥) .

____________________

(١) رواه الصدوق في أماليه: ١٤٤ ح ٦، المجلس ٣٢، و في العلل ٢: ٤٧٢ ح ٣٤.

(٢) طه: ٧.

(٣) آل عمران: ١١٩ و المائدة: ٧ و لقمان: ٢٣.

(٤) أخرجه الكليني في الكافي ٢: ٨٥ ح ٣.

(٥) ملحقات الصحفة السجادية: ٣٥٥.

٢٤

«ان أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك» في الخبر: لما طرح يوسف في الجبّ أخوته أتاه جبرئيلعليه‌السلام فقال: يا غلام ما تصنع ههنا؟ فقال: إن إخوتي ألقوني.

قال: أفتحبّ أن تخرج منه؟ قال: ذاك إلى اللَّه تعالى إن شاء أخرجني، فقال له جبرئيل: إنّ اللَّه عزّ و جلّ يقول لك ادعني بهذا الدعاء «اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلا أنت الحنّان المنّان بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام، صلّ على محمّد و آل محمّد و اجعل لي من أمري فرجا و مخرجا»( ١ ) ثم كان من قصته ما ذكره اللَّه تعالى في كتابه من مجي‏ء السيارة( ٢) .

«و ان صبّت عليهم المصائب لجأوا إلى الاستجارة بك علما بأنّ أزمة الامور بيدك و مصادرها عن قضائك» في (العقد): قال المدائني: لما حجّ المنصور مرّ بالمدينة فقال لربيع: عليّ بجعفر بن محمد قتلني اللَّه إن لم أقتله فمطل به ثم ألحّ عليه، فحضر فلمّا كشف الستر بينه و بينه و مثل بين يديه همس جعفر بشفتيه ثم تقرّب و سلّم فقال: لا سلّم اللَّه عليك يا عدوّ اللَّه تعمل عليّ الغوائل في ملكي قتلني اللَّه إن لم أقتلك إلى أن قال قال المنصور: يا ربيع عجّل لأبي عبد اللَّه كسوته و جائزته. قال ربيع: فلمّا حال الستر بيني و بينه أمسكت بثوبه فقلت له: إنّي منذ ثلاث أدفع عنك، و رأيتك إذ دخلت همست بشفتيك ثم رأيت الأمر انجلى عنك، و أنا خادم سلطان و لا غنى لي عنه. قال: قلت «اللّهم احرسني بعينك التي لا تنام، و اكنفني بحفظك الذي لا يرام، و لا أهلك و أنت رجائي، فكم من نعمة قد أنعمتها عليّ قلّ لك عندها شكري فلم تحرمني، و كم من بليّة ابتليتني بها قلّ عندها صبري فلم تخذلني، بك أدرأ في نحره، و استعيذ بخيرك

____________________

(١) رواه القمي في تفسيره ١: ٣٥٤ و العياشي في تفسيره ٢: ١٧ ح ٦، و الراوندي في قصص الأنبياء، عنه البحار ١٢:

٢٤٨ ح ١٣.

(٢) يوسف: ١٩.

٢٥

من شرّه، فانّك على كلّ شي‏ء قدير، و صلّى اللَّه على سيّدنا محمّد و آله و سلّم»( ١) .

و في (مروج المسعودي): أتي بعلي بن الحسينعليه‌السلام إلى مسلم بن عقبة و هو مغتاظ عليه، فتبرأ منه و من آبائه، فلمّا رآه و قد أشرف عليه ارتعد و قام له و أقعده إلى جانبه و قال له: سلني حوائجك فلم يسأله في أحد ممّن قدم إلى السيف إلا شفّعه فيه، ثم انصرف عنه فقيل لعليّعليه‌السلام رأيناك تحرّك شفتيك فما الذي قلت؟ قال: قلت «اللّهم ربّ السماوات السبع و ما أظللن، و الأرضين السبع و ما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّد و آله الطاهرين، أعوذبك من شرّه و أدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره و تكفيني شرّه». و قيل لمسلم رأيناك تسبّ هذا الغلام و سلفه، فلما أتي به إليك رفعت منزلته. فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد ملى‏ء قلبي منه رعبا( ٢) .

و في (تأريخ الطبري): لما صبّحت الخيل الحسينعليه‌السلام رفع يديه فقال «اللّهم أنت ثقتي في كلّ كرب و رجائي في كلّ شدّة، و أنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة و عدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، و تقلّ فيه الحيلة، و يخذل فيه الصديق، و يشمت فيه العدوّ، أنزلته بك و شكوته إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك ففرّجته و كشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة و صاحب كلّ حسنة و منتهى كلّ رغبة»( ٣) .

و في (اللهوف): لما رمي رضيع الحسينعليه‌السلام بسهم فذبحه في حجره تلقّى الدّم بكفيه، فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ثم قال: هوّن عليّ ما نزل

____________________

(١) العقد الفريد ٢: ٢٨ و النقل بتصرف يسير.

(٢) مروج الذهب ٣: ٧٠.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٣٢١ سنة ٦١.

٢٦

بي أنّه بعين اللَّه( ١) .

و في (اعتقادات الصدوق): و لما اشتدّ الأمر بالحسينعليه‌السلام نظر إليه من كان معه و إذا هو بخلافهم، لأنّهم كانوا إذا اشتدّ بهم الأمر تغيّرت ألوانهم و ارتعدت فرائصهم و وجلت قلوبهم، و كان الحسينعليه‌السلام و بعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم و تهدأ جوارحهم و تسكن قلوبهم و نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا إليه لا يبالي بالموت فقالعليه‌السلام لهم: يا بني الكرام، فما الموت إلا أنّها قنطرة تعبر بكم عن البؤس و الضرّ إلى الجنان الواسعة و النعيم الدائم، فأيّكم يكره ذلك. الخ( ٢) .

و لنعم ما قيل بالفارسية على لسان حالهعليه‌السلام :

گفت اگر بر سر من تير چه باران بارد

يا فلك داغ عزيزان بدلم بگذارد

باده از مصطبه عشق مرا خوش دارد

غم و شادى بر عاشق چه تفاوت دارد

«اللّهم ان فههت» أي: عييت «عن مسألتي أو عميت عن طلبتي فدلّني على مصالحي و خذ بقلبي إلى مراشدي» فأنت العالم بصلاحي و نادى نوح ربّه فقال ربّ إنّ ابني من أهلي و إنّ وعدك الحقّ و أنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنّه ليس من أهلك انّه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين قال ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم و إلاّ تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين( ٣) .

____________________

(١) اللهوف: ٥٠.

(٢) الاعتقادات: ١٤ و النقل بتصرف يسير.

(٣) هود: ٤٥ ٤٧.

٢٧

و في (مكارم الصحيفة): «اللّهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمنّي و التظنّي و الحسد ذكرا لعظمتك و تفكّرا في قدرتك و تدبيرا على عدوّك،

و ما أجري على لساني من لفظة فحش أو هجر أو شتم عرض أو شهادة باطل أو اغتياب مؤمن غائب أو سبّ حاضر و ما أشبه ذلك، نطقا بالحمد لك و إغراقا في الثناء عليك و ذهابا في تمجيدك و شكرا لنعمتك و اعترافا بإحسانك و احصاء لمننك»( ١) .

«فليس ذلك بنكر من هداياتك» لعبادك «و لا ببدع من كفاياتك» لأوليائك.

«اللهم احملني على عفوك و لا تحملني على عدلك» و إلاّ هلكت و لو يؤاخذ اللَّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة( ٢ ) و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير( ٣ ) و يخافون سوء الحساب( ٤ ) أي: عدله تعالى.

هذا، و في (مناقب الكنجي) عن زر بن حبيش قال: قرأت القرآن من أوّله إلى آخره في جامع الكوفة على عليّعليه‌السلام ، فلما بلغت الحواميم قال: بلغت عرائس القرآن. فلما بلغت رأس العشرين من حمسق و الذين آمنوا و عملوا الصالحات في روضات الجنّات لهم ما يشاؤن عند ربّهم ذلك هو الفضل الكبير( ٥ ) بكى حتى ارتفع نحيبه، ثم رفع رأسه الى السماء و قال: آمن على دعائي ثم قال «اللّهم إنّي أسألك إخبات المخبتين، و إخلاص الموقنين،

و مرافقة الأبرار، و استحقاق حقوق الإيمان، و الغنيمة من كلّ برّ، و السلامة من

____________________

(١) الصحيفة السجادية: ١٠٦ دعاء ٢٠.

(٢) فاطر: ٤٥.

(٣) الشورى: ٣٠.

(٤) الرعد: ٢١.

(٥) الشورى: ٢٢.

٢٨

كلّ عيب، و وجوب رحمتك و عزائم مغفرتك، و الفوز بالجنّة و النّجاة من النّار» قال: و إذا ختمت القرآن فادع به، فان حبيبي أمرني أدعو بهن عند ختم القرآن.

٦ - الحكمة (٢٧٦) و قالعليه‌السلام :

اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تَحْسُنَ فِي لاَمِعَةِ اَلْعُيُونِ عَلاَنِيَتِي وَ تَقْبُحَ فِيمَا أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتِي مُحَافِظاً عَلَى رِيَاءِ اَلنَّاسِ مِنْ نَفْسِي بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِنِّي فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي وَ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي تَقَرُّباً إِلَى عِبَادِكَ وَ تَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ «اللّهم إنّي أعوذبك من أن» هكذا في (المصرية) أخذا من (ابن أبي الحديد)،

و لكن في نسخة (ابن ميثم) «ان»( ١ ) «تحسّن في لامعة العيون علانيتي، و تقبّح فيما أبطن لك سريرتي».

في (الكافي): عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به،

فإذا صعد بحسناته يقول تعالى: إجعلوه في سجّين( ٢) .

«محافظا على رئاء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطلّع عليه منّي» عن الصادقعليه‌السلام : من أظهر للناس ما يحبّ اللَّه و بارز اللَّه بما كرهه لقى اللَّه و هو ماقت له( ٣) .

«فابدي للناس حسن ظاهري و أفضي إليك بسوء عملي» عن الصادقعليه‌السلام :

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١٦٧، و شرح ابن ميثم ٥: ٣٨٥.

(٢) الكافي ٢: ٢٩٤ ح ٧.

(٣) الكافي ٢: ٢٩٥ ح ١٠.

٢٩

ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يسرّ سيئا أليس يرجع إلى نفسه، فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك، و اللَّه تعالى يقول: بل الإنسان على نفسه بصيرة( ١) .

و عنهعليه‌السلام : ما من عبد يسرّ خيرا إلاّ لم تذهب الأيام حتّى يظهر اللَّه له خيرا، و ما من عبد يسر شرّا إلاّ لم تذهب الأيام حتّى يظهر اللَّه له شرّا.

و عنهعليه‌السلام : من أراد اللَّه بالقليل من عمله أظهر اللَّه له أكثر مما أراد، و من أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه و سهر من ليله أبى اللَّه تعالى إلاّ أن يقلّله في عين من سمعه( ٢) .

«تقرّبا إلى عبادك و تباعدا من مرضاتك» «تقربا» و «تباعدا» مفعول لهما لأبدي و أفضي.

و روي في (الكافي) عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم و تحسن فيه علانيتهم طمعا في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربّهم، يكون دينهم رياء، لا يخالطهم خوف، يعمّهم اللَّه بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجاب لهم.

و عن الصادقعليه‌السلام : إيّاك و الرّياء، فإنّ من عمل لغير اللَّه و كله اللَّه إلى من عمل له، و كلّ رياء شرك، إنّه من عمل للنّاس كان ثوابه على النّاس.

و عنهعليه‌السلام : قال تعالى: أنا خير شريك، من أشرك بي غيري في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصا( ٣) .

هذا، و شهد اللَّه تعالى لهعليه‌السلام و لعترته بالاخلاص في قوله عزّ و جلّ:

و يطعمون الطعام على حبّه مسكينا و يتيما و أسيرا. انّما نطعمكم لوجه اللَّه

____________________

(١) القيامة: ١٤.

(٢) الكافي ٢: ٢٩٥ و ٢٩٦ ح ١١ ١٣.

(٣) هذه الاحاديث أخرجها الكليني في الكافي ٢: ٢٩٣ ٢٩٦ ح ١ و ٢ و ٩ و ١٤.

٣٠

لا نريد منكم جزاء و لا شكورا. إنّا نخاف من ربّنا يوما عبوسا قمطريرا.

فوقاهم اللَّه شرّ ذلك اليوم و لقّاهم نضرة و سرورا. و جزاهم بما صبروا جنّة و حريرا. متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا إلى إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا( ١ ) . و مع ذلك، نسب الثاني إليهعليه‌السلام الرياء، جرأة على ردّ اللَّه تعالى ففي (أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب) و قد نقله (ابن أبي الحديد) في موضع آخر قال ابن عبّاس دخلت يوما على عمر فقال: يا ابن عباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء، قلت: من هو؟ قال: هذا ابن عمك يعنيهعليه‌السلام فقلت: و ما يقصد بالرياء؟ قال: يرشّح نفسه بين الناس للخلافة.

قلت: و ما يصنع بالترشيح، قد رشّحه لها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصرفت عنه الخبر( ٢) .

لكن لا غرو في نسبته الرياء إليهعليه‌السلام بعد نسبته الهجر إلى نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد استخلافهعليه‌السلام .

٧ - الخطبة (٨٩) في الخطبة المعروفة بالاشباح بعد ذكره صفاته تعالى و خلقة السّماء و الملائكة و الأرض و إرساله الرّسل من آدم إلى الخاتم و بيان إحاطة علمه تعالى بكلّ شي‏ء:

اَللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ اَلْوَصْفِ اَلْجَمِيلِ وَ اَلتَّعْدَادِ اَلْكَثِيرِ إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَأَكْرَمُ مَرْجُوٍّ اَللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لاَ أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ وَ لاَ أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ وَ لاَ أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ اَلْخَيْبَةِ

____________________

(١) الانسان: ٨ ٢٢.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٢: ٨٠.

٣١

وَ مَوَاضِعِ اَلرِّيبَةِ وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ اَلْآدَمِيِّينَ وَ اَلثَّنَاءِ عَلَى اَلْمَخْلُوقِينَ اَلْمَرْبُوبِينَ اَللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلاً عَلَى ذَخَائِرِ اَلرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ اَلْمَغْفِرَةِ اَللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ اَلَّذِي هُوَ لَكَ وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ اَلْمَحَامِدِ وَ اَلْمَمَادِحِ غَيْرَكَ وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لاَ يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلاَّ فَضْلُكَ وَ لاَ يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلاَّ مَنُّكَ وَ جُودُكَ فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا اَلْمَقَامِ رِضَاكَ وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ اَلْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٢٤ ٢٨ ٣: ٢٦ «اللّهم أنت أهل الوصف الجميل» العليم الكريم الرحيم، إلى غير ذلك من صفات الكمال و نعوت الجلال و الجمال.

«و التعداد الكثير» في أوصاف كمالك حتّى أنّها لا تحصى.

«إن تؤمّل فخير مؤمل» هكذا في (المصرية)، و الصواب: (مأمول) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخوئي و الخطية)( ١ ) ، و كونه تعالى خير مأمول لأنّه القادر على إعطاء كلّ أمل دون غيره.

«و إن ترج فأكرم مرجوّ» لأنّه الذي لا يخيب رجاء راجيه.

«اللّهم و قد بسطت لي» بقوّة البيان.

«فيما لا أمدح به غيرك» لعدم اتصاف غيره بما مدحه.

«و لا اثني به على أحد سواك» لفقدان سواه لما به أثنى عليه، فتقول:

إنّ اللَّه على كلّ شي‏ء قدير( ٢ ) و إنّ اللَّه بكلّ شي‏ء عليم( ٣) ،

____________________

(١) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٧: ٣١، و شرح الخوئي ٣: ١٣١، لكن في شرح ابن ميثم ٢: ٣٦٨ «مؤمل».

(٢) البقرة: ٢٠ و مواضع اخرى.

(٣) النساء: ٩٧ و مواضع اخرى.

٣٢

فهل يكون أحد غيره كذلك.

«و لا أوجّهه» أي: مدحي و ثنائي، و أفرد الضمير لاتحادهما في المصداق «إلى معادن الخيبة» ممّن رجاهم غيره «و مواضع الرّيبة» باحتمال كونهم على ضدّ ما يمدحون به.

«و عدلت بلساني عن مدائح الآدميين» إلى مدحك «و» عن «الثناء على المخلوقين المربوبين» إلى الثناء عليك، لأنّك اللَّه خالق الخلق و ربّ العالمين.

«اللّهم و لكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة من جزاء» فأثبني جزاء ثنائي «أو عارفة» أي: معروف «من عطاء» فأعطني عطاء معروفا على ثنائي.

«و قد رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة» و للَّه خزائن السماوات و الأرض( ١ ) و إن من شي‏ء إلاّ عندنا خزائنه و ما ننزّله إلاّ بقدر معلوم( ٢) .

«و كنوز المغفرة» أي: كنوز أسبابها، كقوله تعالى: و سارعوا إلى مغفرة من ربّكم( ٣) .

«اللّهمّ و هذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك» أي: بالإقرار بواحدانيتك المختصّة بك «و لم ير مستحقا لهذه المحامد و الممادح» جمعا المحمدة و المدحة،

و جاء جمع الثاني بلفظ الأماديح أيضا، قال الشاعر:

لو كان مدحة حيّ منشرا أحدا

أحيا أبا كن يا ليلى الأماديح(٤)

و الأصل في الحمد الارتضاء، يقال أحمدت الأرض ارتضيت سكناها،

و قال قراد بن حنش:

____________________

(١) المنافقون: ٧.

(٢) الحجر: ٢١.

(٣) آل عمران: ١٣٣.

(٤) أورده أساس البلاغة: ٤٣٣، مادة (مدح)، و لسان العرب ٢: ٥٨٩ مادة (مدح).

٣٣

لهفي عليك إذا الرعاة تحامدوا

بحزيز أرضهم الدرين الأسودا(١)

«غيرك» لعدم صدقها في سواه تعالى «و بي فاقة» أي: حاجة «اليك لا يجبر مسكنتها إلاّ فضلك» لا استحقاقي.

«و لا ينعش» أي: لا يرفع «من خلتها» بالفتح أي: فاقتها «إلاّ منّك و جودك» على عبادك.

«فهب لنا في هذا المقام» مقام حمدك و ثنائك «رضاك» عنّا.

«و أغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك» لأنّك الرّزّاق «إنّك على كلّ شي‏ء قدير» على إغنائنا و إصلاح جميع شؤوننا.

هذا، و روى (أمالي الشيخ) فيما رواه عن الغضائري أنّهعليه‌السلام كان إذا رأى الهلال قال: اللّهم ارزقنا خيره و نصره و بركته و فتحه، و نعوذبك من شرّه و شرّ ما بعده( ٢) .

و روى (الكافي) عنهعليه‌السلام قال: الدعاء مفتاح النّجاح، و مقاليد الفلاح،

و خير الدعاء ما صدر عن صدر نقيّ و قلب تقيّ، و في المناجاة سبب النجاة،

و بالاخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتدّ الفزع فإلى اللَّه المفزع.

أيضا: الدعاء ترس المؤمن، و متى تكثر قرع الباب يفتح لك( ٣) .

و في (المحاسن و الأضداد للجاحظ): يقال أنّ عليّاعليه‌السلام لمّا اتصل به مسير معاوية قال: لا أرشد اللَّه قائده، و لا أسعد رائده، و لا أصاب غيثا، و لا سار إلاّ ريثا، و لا رافق إلاّ ليثا، أبعده اللَّه و أسحقه، و أوقد على أثره و أحرقه، لا حطّ اللَّه رحله، و لا كشف محلّه، و لا بشّر به أهله، لا زكّى له مطلب و لا رحب له

____________________

(١) أورده أساس البلاغة: ٩٤، مادة (حمد).

(٢) أمالي ابن جعفر الطوسي ٢: ٢٦٠ المجلس ١٥.

(٣) الكافي ٢: ٤٦٨ ح ٢ و ٤.

٣٤

مذهب، و لا يسّر له مراما، لا فرّج اللَّه له غمّه، و لا سرّى همّه، لا سقاه اللَّه ماء، و لا حل عقده، و لا أروى زنده، جعله اللَّه سفر الفراق، و عصا الشقاق و أنشد:

بأنكد طائر و بشرّ فال

لأبعد غاية و أخسّ حال

بحدّ السدّ حيث يكون منّي

كما بين الجنوب إلى الشمال

غريبا تمتطي قدميك دهرا

على خوف تحنّ إلى العيال(١)

٨ - الكتاب (١٥) و كانعليه‌السلام يقول إذا لقي العدو محاربا:

اَللَّهُمَّ أَفْضَتِ إِلَيْكَ اَلْقُلُوبُ وَ مُدَّتِ اَلْأَعْنَاقُ وَ شَخَصَتِ اَلْأَبْصَارُ وَ نُقِلَتِ اَلْأَقْدَامُ وَ أُنْضِيَتِ اَلْأَبْدَانُ اَللَّهُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ اَلشَّنَآنِ وَ جَاشَتْ مَرَاجِلُ اَلْأَضْغَانِ اَللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا وَ كَثْرَةَ عَدُوِّنَا وَ تَشَتُّتَ أَهْوَائِنَا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ ٣٥ ٤٥ ٧: ٨٩ قول المصنف: «و كانعليه‌السلام إذا لقي العدوّ محاربا» رواه نصر ابن مزاحم في (صفينه) في ثلاث روايات:

إحداها: ما رواه مسندا عن سلام بن سويد: كان عليّعليه‌السلام إذا أراد أن يسير إلى الحرب و قعد على دابّته قال: الحمد للَّه ربّ العالمين على نعمه علينا و فضله العظيم سبحان الذي سخّر لنا هذا و ما كنّا له مقرنين و إنّا إلى ربّنا لمنقلبون( ٢ ) ثم يوجّه دابته الى القبلة ثم يرفع يديه الى السماء ثم يقول: اللّهم إليك نقلت الأقدام، و أفضت القلوب، و رفعت الأيدي، و شخصت الأبصار،

____________________

(١) المحاسن و الأضداد: ٩٩.

(٢) الزخرف: ١٣ و ١٤.

٣٥

نشكو إليك غيبة نبيّنا، و كثرة عدوّنا، و تشتّت أهوائنا ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحقّ و أنت خير الفاتحين( ١ ) سيروا على بركة اللَّه( ٢) .

الثانية: مسندا عن تميم: كان عليعليه‌السلام إذا سار الى القتال ذكر اسم اللَّه حين يركب، ثم يقول: الحمد للَّه على نعمه علينا و فضله العظيم سبحان الّذي سخّر لنا هذا و ما كنّا له مقرنين و إنّا إلى ربّنا لمنقلبون( ٣ ) ثم يستقبل القبلة ثم يرفع يديه إلى اللَّه ثم يقول: اللّهم إليك نقلت الأقدام، و أتعبت الأبدان، و أفضت القلوب، و رفعت الأيدي، و أشخصت الأبصار ربّنا افتح بيننا و بين قومنا بالحقّ و أنت خير الفاتحين( ٤ ) سيروا على بركة اللَّه، ثم يقول: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلاّ اللَّه و اللَّه أكبر، يا اللَّه يا أحد يا صمد، يا ربّ محمّد، بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لا حول و لا قوّة إلاّ باللَّه العليّ العظيم، إيّاك نعبد و إيّاك نستعين، اللّهمّ كفّ عنّا بأس الظالمين فكان هذا شعاره بصفين( ٥) .

الثالثة: عن قيس بن الربيع عن عبد الواحد بن حسان عمّن حدّثه عن عليعليه‌السلام سمعه يقول يوم صفين «اللّهم إليك رفعت الأبصار، و بسطت الأيدي،

و دعيت الألسن، و أفضت القلوب، و تحوكم إليك في الأعمال، فاحكم بيننا و بينهم بالحقّ و أنت خير الفاتحين. اللّهم إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا، و قلّة عددنا،

و كثرة عدوّنا و تشتّت أهوائنا، و شدّة الزمان، و ظهور الفتن، أعنّا عليهم بفتح تعجّله، و نصر تعزّ به سلطان الحقّ و تظهره»( ٦) .

____________________

(١) الأعراف: ٨٩.

(٢) وقعة صفين: ٢٣١.

(٣) الزخرف: ١٣ ١٤.

(٤) الاعراف: ٨٩.

(٥) وقعة صفين: ٢٣٠.

(٦) وقعة صفين: ٢٣١.

٣٦

و الخبر الأوّل مطلق في كونه أيّ حرب، و الأخيران صرّح فيهما بكونه في صفين، لكن لم يذكر فيهما وقته.

و روى خبرا آخر انّهعليه‌السلام قاله يوم الهرير، فروى عن جابر بن عمير الأنصاري قال: و اللَّه لكأني أسمع عليّاعليه‌السلام يوم الهرير و ذلك بعد ما طحنت رحى مذحج فيما بينها و بين عك و لخم و جذام و الأشعريين بأمر عظيم تشيب منه النواصي، حتى استقلت الشمس و قام قائم الظهر يقول لأصحابه متى نخلّي بين هذين الحيين قد فنينا و أنتم وقوف تنظرون، أما تخافون مقت اللَّه.

ثم انفتل إلى القبلة و رفع يديه و نادى «يا اللَّه يا رحمن يا رحيم، يا واحد يا أحد يا صمد، يا اللَّه يا إله محمّد، اللّهم إليك نقلت الأقدام و أفضت القلوب و رفعت الأيدي و مدّت الأعناق و شخصت الأبصار و طلبت الحوائج، إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا و كثرة عدوّنا و تشتّت أهوائنا، ربّنا افتح بيننا و بين الحقّ و أنت خير الفاتحين» سيروا على بركة اللَّه، ثم نادى «لا إله إلاّ اللَّه و اللَّه أكبر كلمة التقوى».

قال جابر: لا و الذي بعث محمّدا بالحقّ نبيّا ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق اللَّه السماوات و الأرض، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب، إنّه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب يخرج بسيفه منحنيا فيقول «معذرة إلى اللَّه عزّ و جلّ و إليكم من هذا، لقد هممت أن أفلقه و لكن حجزني عنه أنّي سمعت الرسول يقول كثيرا «لا سيف إلاّ ذو الفقار و لا فتى إلاّ علي» و أنا قاتل به دونه.

قال جابر: فكنّا نأخذه فنقوّمه ثم يتناوله من أيدينا فيتقحم به في عرض الصف، و لا و اللَّه ما ليث بأشدّ نكاية في عدوّه منهعليه‌السلام ( ١) .

و روى (صفين عبد العزيز الجلّودي) كما في (مهج علي بن طاوس)

____________________

(١) وقعة صفين: ٤٧٧، و النقل بتصرف يسير.

٣٧

إنّه كان في أوّل القتال، ففيه: فلمّا زحفوا باللواء قال عليّعليه‌السلام : بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لا حول و لا قوّة إلاّ باللَّه العلّي العظيم، اللّهم إيّاك نعبد و إيّاك نستعين،

يا اللَّه يا رحمن يا رحيم يا أحد يا صمد يا إله محمّد، إليك نقلت الأقدام و أفضت القلوب و شخصت الأبصار و مدّت الأعناق و طلبت الحوائج و رفعت الأيدي،

اللّهمّ افتح بيننا و بين قومنا بالحقّ و أنت خير الفاتحين. ثم قال «لا إله إلاّ اللَّه و اللَّه أكبر» ثلاثا( ١ ) . قلت: و حيث انّه كان دعاء يكرّر أمكن دعاؤهعليه‌السلام به في كلّ ما روى، فعن جمل المفيد دعا به يوم الجمل أيضا( ٢) .

كما انّه روى الكلام عنهعليه‌السلام في غير وقت الحرب، فروى (رسائل الكليني) كما في (المحجّة) فيما كتبهعليه‌السلام بعد منصرفه من النهروان لمّا سألوه عن أبي بكر و عمر و عثمان إلى أن قال فدعوني إلى بيعة عثمان فبايعت مستكرها و صبرت محتسبا، و علّمت أهل القنوت أن يقولوا: «اللّهمّ لك أخلصت القلوب، و إليك شخصت الأبصار، و أنت دعيت بالألسن، و إليك تحوكم الأعمال، فافتح بيننا و بين قومنا بالحقّ. اللّهم إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا،

و كثرة عدوّنا، و قلّة عددنا، و هو اننا على الناس، و شدّة الزمان، و وقوع الفتن بنا. اللّهم ففرّج ذلك بعدل تظهره، و سلطان حق تعرفه»( ٣) .

قال ابن أبي الحديد: كان سديف مولى المنصور يقول «اللّهم انّا نشكو إليك غيبة نبيّنا و كثرة عدوّنا، و تشتّت أهوائنا، و ما شملنا من زيغ الفتن،

و استولى علينا من عشوة الحيرة، حتى عاد فيئنا دولة بعد القسمة، و أمارتنا غلبة بعد المشورة، وعدنا ميراثا بعد الاختيار للامة، و اشتريت الملاهي

____________________

(١) مهج الدعوات: ٩٦.

(٢) الجمل: ١٨٢.

(٣) كشف المحجة: ١٧٩.

٣٨

و المعازف بمال اليتيم و الأرملة، و أرعي في مال اللَّه من لا يرعى له حرمة،

و حكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة، و تولّى القيام بأمورهم فاسق كلّ محلة،

فلا ذائد يذودهم عن هلكة، و لا راع ينظر إليهم بعين رحمة، و لا ذو شفقة يشبع الكبد الحرّى من مسغبة، فهم أولو ضرع وفاقة، و أسراء فقر و مسكنة، و حلفاء كآبة و ذلّة. اللّهم و قد استحصد زرع الباطل و بلغ نهايته، و استحكم عموده،

و استجمع طريده، و حذف وليده، و ضرب بجرانه فأتح له من الحقّ يدا حاصدة، تجذّ سنامه و تهشم سوقه و تصرع قائمه، ليستخفي الباطل بقبح حليته و يظهر الحقّ بحسن صورته».

و وجدت هذه الألفاظ في دعاء منسوب إلى علي بن الحسينعليه‌السلام ، و لعلّه من كلامه و قد كان سديف يدعو به( ١) .

قلت: ان كان أصل الكلام من السجادعليه‌السلام إلاّ أنّه لا بدّ أن يكون بعض فقراته من غيره، فهو لا يقول «عادت إمارتنا غلبة بعد المشورة وعدنا ميراثا بعد الاختيار للامّة»، فهل تلك المفاسد التي عدّت إلاّ نتيجة ذاك الاختيار يوم السقيفة و تلك المشورة يوم الدار؟

قولهعليه‌السلام «اللّهم أفضت اليك» هكذا في (المصرية)، و الصواب: «اللّهم إليك أفضت» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٢ ) «القلوب» أي: تظهر القلوب أسرارها لك.

«و مدّت الأعناق» أي: تتضرع لك «و شخصت الأبصار» شخص بصره: إذا فتحه و جعله لا يطرف.

«و نقلت الأقدام» أي: مسيرنا كان لك «و انضيت الأبدان» يقال: انضيت

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١١٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١١٢، و شرح ابن ميثم ٤: ٣٨٥.

٣٩

الثوب إذا ابليته، و انضى فلان بعيره أي: هزله، و تقديم الظرف للحصر، أي: ان وقوع جميع هذه الامور كان مختصا لك.

«اللّهم قد صرح» أي: انكشف و ظهر «مكتوم» هكذا في (المصرية)،

و الصواب: «مكنون» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم)( ١ ) «الشنآن» أي:

البغض.

«و جاشت» من جاشت القدر أي: غلت «مراجل» جمع المرجل قدر من نحاس «الأضغان».

و روى نصر بن مزاحم في (صفينه): لما أراد عليّعليه‌السلام الشخوص إلى صفين التفت عبد اللَّه بن بديل الخزاعي إلى الناس و قال: كيف يبايع معاوية عليّاعليه‌السلام و قد قتل أخاه حنظلة و خاله الوليد و جدّه عتبة في موقف واحد( ٢) .

«اللّهم إنّا نشكو إليك غيبة نبيّنا و كثرة عدوّنا» قالت سيدة النساء مخاطبة لأبيها أو صفية لابن أخيها كما في (بيان الجاحظ):

قد كان بعدك أنباء و هنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض و ابلها

فاحتل لقومك و اشهدهم و لا تغب(٣)

و قالت أروى بنت عبد المطلب كما في (طبقات كاتب الواقدي):

لعمرك ما أبكي النبي لموته

و لكن لهرج كان بعدك آتيا(٤)

و في (أنساب البلاذري): قالت امّ الفضل: كنت جالسة عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو مريض، فبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: أخشى عليك و لا أدري ما نلقى من

____________________

(١) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٥: ١١٢، لكن في شرح ابن ميثم ٤: ٣٨٥ نحو المصرية.

(٢) وقعة صفين: ١٠٢.

(٣) نقله عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) الطبرسي في الاحتجاج ١: ٩٢، و عن صفية الجاحظ في البيان ٣: ٣١٩ و عن هند بنت اثاثة ابن سعد في الطبقات ٢ ق ٢: ٩٧ بفرق يسير بين الألفاظ.

(٤) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢: ٩٣.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

شفيرها وسيفها، كان يسكنه عمر بن عبد العزيز، صالحة في قدرها مغوثة للمجتازين عليها في وقتنا ؛ لأنّ الطريق انقطع من بطن الشام بإتيان الروم عليه وهلاك ولاته، فلجأ الناس إلى طريق البادية وبالأَدِلاّء والخفراء.

و (العواصم) اسم الناحية وليس بمدينةٍ تُسمّى بذلك، وقصبتها (أنطاكية) وهي بعد دمشق أنزه بلدٍ بالشام، وعليها إلى هذه الغاية سورٌ من صخرٍ يحيط بها وبجبل مشرف عليها، لهم فيه مزارع وأجنّة وأرحية، وما يستقلّ به أهلها من مرافقتها.

ويُقال إنّ دَور سورها يوم تجري مياههم في أسواقهم ودورهم وسككهم ومسجد جامعهم، وكان لهم ضياع وقرى ونواحٍ خصبة حسنة استولى عليها العدو فملكها، وكانت قد اختلّت قبيل افتتاحها في أيدي المسلمين، وهي أيضاً في أيد الروم أشدّ اختلالاً. وفتحها الروم في أوّل سنة تسع وخمسين وثلاثمئة.

و(باليس) مدينة على شطّ الفرات من غربيّه، صغيرة، وهي أوّل مدن الشام من العراق، وكان الطريق إليها عامراً، ومنها سابلاً، وكانت فرضة لأهل الشام على الفرات.

و(مَنْبِج) بالقرب منها، وهي خصيبة، كثيرة الأسواق، قديمة الآثار، عظيمة الأسوار في برّيّة، الغالب عليها وعلى مزارعها الأعذاء، وهي حصينة عليها سورٌ أزليّ روميّ.

و(سَنْجَة) تقع قرب منبج، وهي مدينة صغيرة بقربها قنطرة حجار تُعرف بقنطرة سنجة، ليس في الإسلام قنطرة أحسن منها، ويُقال إنّها من عجائب الزّمان.

و(سُمَيْساط) مدينة على الفرات، وكذلك (جسر مَنْبِج) وهما مدينتان صغيرتان حصينتان، لهما زرع سقي ومباخس، وماؤهما من الفرات.

و(مَلَطْية) كانت مدينة كبيرة من أكبر الثغور وأكثرها سلاحاً ورجالاً، دون جبال اللّكام إلى ما يلي الجزيرة، ويحفّ بها جبال كثيرة فيها الجوز والكروم واللوز وسائر الثمار الشتويّة والصيفيّة، مباحة لا مالك لها. وهي من أقوى بلد الروم في هذا الوقت، يسكنها الأرمن، وفُتحت في سنة تسع عشرة وثلاثمئة، وكانت المدينة المعروفة بحصن منصور، صغيرة حصينة،

١٦١

فيها منبر، وبها رستاق، وقرى برسمها أعذاء، فاستأثر القضاة بهلاكها على أيدي الروم وبني حمدان.

و(الحَدَث) و(مَرْعَش) مدينتان صغيرتان افتتحهما الروم من قبل يومنا هذا، فأعادهما سيف الدولة علي بن عبد الله، وعاد الروم فانتزعوهما ثانيةً من المسلمين.

وكان لهما زروع وأشجار كثيرة وفواكه، وكانتا ثغرين يرابط فيهما المسلمون ويجاهدون، ففسدت النيّات وافتتحت الأعمال وارتفعت البركات، وفسدت المذاهب، ولجّ الملوك في الظّلم والاستئثار بالأموال، والعامّة في الإصرار على المعاصي والطغيان، فهلك العباد، وتلاشت البلاد، وانقطع الجهاد.

وكانت (الهارونيّة) من غربيّ جبل اللكام في بعض شعابه، حصناً صغيراً بناه هارون الرّشيد، أدركته عامراً حسناً فأهلكته الروم.

وكانت (الإِسْكَنْدريّة) أيضاً حصناً على ساحل بحر الروم، ذا نخيلٍ وزرعٍ كثير، وغلة وخصب، فأتى عليه العدوّ.

وكذلك (التينات) حصن كان على شطّ البحر فيه مقطع لخشب الصنوبر الذي كان ينقل إلى الشام ومصر والثغور، وكان فيه رجالٌ فُتّاك أجلاد لهم علم بمضارّ بلد الروم ومعرفة بمخائضهم.

وكانت (الكَنِيسَة) حصناً فيه منبر، وهو ثغر في معزل من ساحل البحر يقارب حصن (المُثَقَّب) الذي استحدثه عمر بن عبد العزيز وعمّره، وكان فيه منبره ومصحفه بخطّه، وكان فيه قومٌ سراة من عبد شمس اعتزلوا الدنيا ورفضوا المكاسب، وكان لهم ما يقيم بهم من المباح.

وكانت (عين زَرْبَة)(١) بلداً يشبه مدن الغور، بها نخيل وخصب، واسعة الثمار والزّرع والمرعى، وهي المدينة التي كان وصيف الخادم همّ بالدخول منها إلى بلد الروم، فأدكه المُعْتَضِد بها.

وكانت حسنة الداخل والخارج نزهة داخل سورها، جليلة في جميع أُمورها.

____________________

(١) عين زَرْبَة: عين زَرْبَى (في معجم البلدان لياقوت) يجوز أن يكون من زَرْب الغنم وهو مأواها، وهو بلد بالثغر من نواحي مصّيصة.

١٦٢

وكانت (المِصِّيصَة) مدينتين، إحداهما تُسمّى (المِصّيصة) والأُخرى تُسمّى (كَفْرَبَيَّا)، على جانبَيْ جَيْحان، وبينهما قنطرة حجارة، وكانتا حصينتين جدّاً على شرف من الأرض، ينظر منها الجالس في مسجد جامعها نحو البحر أربعة فراسخ كالبقعة بين يديه خضرة نضرة، جليلة الأهل نفيسة القدر، كثيرة الأسواق، حسنة الأحوال.

و(جَيْحان) نهر يخرج من بلد الروم حتّى ينتهي إلى المِصّيصة، ثمّ إلى رستاق، يُعرف بالمَلُّون، فيقع في بحر الروم، وكان كثير الضياع غزير الكراع.

وكانت (أَذَنة) مدينة كأحد جانَبيْ المِصّيصة على نهر (سَيْحان) في غربي النهر، وسَيْحان دون جَيْحان في الكبر، عليه قنطرة عجيبة البناء، طويلة جدّاً.

ويخرج هذا النهر من بلد الروم أيضاً.

وكانت أذنة جليلة الأهل حسنة المحل في كلّ أصل وفصل، وعلى أصل طريق طرسوس.

و(طَرَسُوس) مدينة مشهورة كبيرة، عليها سوران من حجارة، كانت تشتمل على خيلٍ ورجالٍ وعدّة وعتاد وكراع. وكانت من العمارة والخصب بالغاية إلى رخصٍ عامّ على مرّ الأيّام وتعاقب الأعوام.

وكان بينها وبين حدّ الروم جبال متشعّبة من اللّكام كالحاجز بين العملين، ورأيت غير عاقل مميّز وسيّد حصيف مبرّز يُشار إليه بالدراية والفهم واليقظة والعلم، يذكر أنّ بها مئة ألف فارس، وكان ذلك عن قريب عهد من الأيّام التي أدركتُها وشاهدتُها، وكان السبب في ذلك أنّه ليس من مدينة عظيمة مِن حدّ سجستان وكِرْمان وفارس وخُوزِسْتان والجبال وطَبَرِسْتان والجزيرة وأَذَرْبيجان والعراق والحجاز واليمن والشامات ومصر والمغرب، إلاّ وبها لأهلها دار ينزلها غزاة تلك البلدة ويرابطون بها إذا وردوها، وتكثر لديهم الصلات وتَرِد عليهم الأموال والصدقات العظيمة الجسيمة إلى ما كان السلاطين يتكلّفونه وأرباب النعم يعانونه وينفذونه متطوعين متبرعين، ولم يكن في ناحيةٍ ذكرتها رئيس ولا نفيس إلاّ وله عليه وقف من ضيعة ذات مزارع وغلاّت أو مسقَّف من فنادق، فهلكوا فكأنهم لم يقطنوها، وعفوا فكأنهم لم يسكنوها، حتّى لظننتم كما قال الله تعالى:( هل تُحسّ منهم من أحدٍ أو تسمع لهم رِكْزا ) .

١٦٣

وكانت (أوْلاس) حصناً على ساحل البحر فيه قوم متعبّدون، وكان في آخر ما على بحر الروم من العمارة، فكانت ممّا بدأ به العدوّ.

و(بَفْراس) كان فيها منبر على طريق الثغور، وكانت فيها دار لِزُبَيْدة، ولم يكن بالشام دار ضيافةٍ كبيرة غيرها.

فأمّا المسافات بالشام فإنّ طولها من حدّ ملطية إلى رفَح، والطريق من ملطية على مَنبِج وبينهما ٤ أيّام، ومن مَنْبِج إلى حلب يومان، ومن حلب إلى حمص ٥ أيّام، ومن حمص إلى دمشق ٥ أيّام.

وعرضها في بعض المواضع أكبر من بعض، وذلك أنّ أعرضها طرفاها، وأحد طرفيها من الفرات من جسر مَنْبِج على منبج ثمّ على قُورس في حدّ قِنَّسرين، ثمّ على العواصم في حدّ أنطاكية، ثمّ يقطع جبل اللكام إلى (بَيَاس)، ثمّ إلى (التينات)، ثمّ إلى المُثَقَّب، ثمّ على المِصِّيصة، ثمّ على أذنة، ثمّ طَرَسُوس، وذلك نحو عشر مراحل، وإن سلكت من بالس إلى حلب ثمّ إلى أنطاكية ثمّ إلى الإسكندرونة، ثمّ إلى بَياس، حتّى تنتهي إلى طرسوس، فالمسافة أيضاً نحو ١٠ مراحل، غير أنّ السمت المستقيم هو الطريق الأوّل.

وجند قنّسرين، قنّسرين مدنتها ؛ غير أنّ دار الإمارة والأسواق ومجمع ناسها والعمارات بحلب، فمِن حلب إلى بالس يومان، ومن حلب إلى (الأَثارِب) يوم، ومن حلب إلى قُورُس يوم، ومن حلب إلى منبج يومان، ومن حلب إلى (الخُناصِرَة) يومان.

والعواصم قصبتها أنطاكية، وكان منها إلى أذَنة ٣ مراحل، ومنها إلى بَفْراس يوم، وإلى الأَثارِب يومان، وإلى حمص ٤ مراحل، ومنها إلى مَرْعَش يومان، وإلى الحدث ٣ مراحل.

وأمّا الثغور فلا قصبة لها، وكلّ مدينةٍ قائمة بنفسها، ومنبج مدينة قريبة من الثغور، ومن منبج إلى الفرات مرحلة خفيفة، ومن منبج إلى قُورس مرحلتان، ومن منبج إلى ملطية ٤ أيّام، ومن منبج إلى (سُمَيْساط) يومان، ومن منبج إل الحدث يومان، ومن سميساط إلى (شِمشاط) مرحلتان، ومن سُمَيْساط إلى حصن منصور يوم، ومن حصن منصور إلى ملطية يومان، ومن منصور إلى (زِبَطرة) يوم، ومن حصن منصور إلى

١٦٤

الحدث يوم، ومن ملطية إلى مرعش ٣ مراحل كبار، ومن مرعش إلى الحدث يوم.

فهذه مسافات الثغور الجزرية.

وأمّا الثغور الشاميّة، فمن الاسكندرية إلى بَيَاس مرحلة خفيفة، ومن بياس إلى المِصِّيصة مرحتان، ومن المِصِّيصة إلى عين زَربة مرحلة، ومن المِصِّيصة إلى أذَنة مرحلة، ومن أذَنَة إلى طَرَسوس مرحلة، ومن طرسوس إلى (أولاس) على بر الروم يومان، ومن طَرسوس إلى الحوزات مرحلتان، ومن طرسوس إلى بياس على بحر الروم فرسخان، ومن بياس إلى الكَنِيسة والهارونيّة أقلّ من يوم، ومن الهارونية إلى مرعش من ثغور الجزيرة مرحلة، فهذه جملة مسافات الثغور)(١) .

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ٣٧ إلى ص ٥١.

١٦٥

الجزيرة

(وأمّا الجزيرة التي بين دجلة والفرات، وتشتمل على ديار ربيعة ومُضَر، فمخرج الفرات من داخل بلد الروم على ما سلكته من مَلَطْيَة على يومين، ويجري بينها وبين المدينة المعروفة بِسُمَيْساط، وكانت للمسلمين، ويمرّ عليها وعلى جسر منبج وبالِسَ إلى الرّقّة وقَرْقيسيا والرَّحْبة وهيت والأَنْبار، وينقطع حدّ الفرات ممّا يلي الجزيرة، ممّا يعود حدّ الجزيرة في سمت الشمال إلى تكْريت، وهي مدينة على دجلة، حتّى ينتهى عليها مصعداً إلى السِنّ ممّا يلي الجزيرة، وإلى الحَديثة والموصل.

ويصعد دجلة إلى جزيرة ابن عمر، ثمّ يتجاوز إلى آمِد، فينقطع حينئذ حدّ الجزيرة، وتصعد دجلة على أقلّ من يومين في حدّ أرمينية، ثمّ يعود الحدّ مغرّباً إلى سُمَيْساط، ثمّ ينتهي إلى مخرج ماء الفرات في حدّ الإسلام من حيث ابتداؤه، ومخرج دجلة، وإن كان في بلد الروم، فطالما كان في يد الإسلام، وعلى يسار دجلة وغربيّ الفرات مدن وقرى تُنسب إلى الجزيرة، وهي خارجة منها وبائنة عنها.

وأمّا حدودها ومسافاتها، فمن مخرج الفرات في حدّ مَلَطْية إلى سُمَيْساط يومان، ومن سُميساط إلى جسر منبج ٤ أيّام، ومن الجسر إلى بالِس ٤ أيّام، ومن بالِس إلى الرَّقّة يومان، ومن الرَّقّة إلى الأَنْبار ٢٠ يوماً، ومن الأنبار إلى تَكْريت يومان في نفس البرّيّة، ومن تكريت إلى الموصل ٦ أيّام، ومن الموصل إلى آمِد ١٤ يوماً، ومن آمِد إلى سُمَيْساط ٣ أيّام، ومن سُمَيْساط إلى مَلَطْية ٣ أيّام، ومن الموصل إلى (بَلَد) مرحلة، ومن بَلَد إلى نصيبين ٥ مراحل، ومن نصيبين إلى رأس عين ٣ مراحل، ومن رأس عين إلى الرَّقَّة ٤ أيّام، ومن رأس عين إلى حَرّان ٣ أيّام، ومن حرّان إلى جسر

١٦٦

منبج يومان، ومن حرّان إلى الرُّها يوم، ومن الرُّها إلى سُمَيْساط يوم، ومن حرّان إلى الرَّقّة ٣ أيّام.

ومدينة (آمِد) على جبلٍ من غربيّ دجلة مطلّ عليها نحو مئة قامة، وعليها سورٌ أسودٌ من حجارة الأرحية، ويُسمّى ذلك السور ميموناً من شدّة سواده، وذلك أنّه من حجارة أرحية الجزيرة، وليس لهذه الحجارة على وجه الأرض نظير، ومنها ما يساوي الخمسين ديناراً وأقلّ وأكثر بالعراق.

وآمِد كثيرة الشجر، ولها مُزْدَرَع بداخل سورها، ومياه وطواحين على عيون تنبع منها ؛ وكان لها ضياع ورساتيق وقصور ومزارع برسمها، هلكت لضعفهم، واقتدار الروم عليهم، وقلّة المغيث الناصر.

وأجلّ مدينةٍ لديار مُضَر الرَّقّة، وفي غربيّ الفرات بين الرَّقّة وبالس أرض صفّين، وبها قبر عمّر بن ياسر (رض) وأكثر أصحاب أمير المؤمنين علي (عليه السلام).

ومدينة (حرّان) تليها في الكبر، وهي مدينة الصابئين، وبها سدنتهم، ولهم بها تلّ عليه مصلّى الصابئين يعظّمونه وينسبونه إلى إبراهيم، وهي من بين تلك المدن قليلة الماء والشجر، وكانت زروعها مباخس، وكان لها غير رستاق عظيم وكورة جليلة، فافتتح الروم أكثرها، وأناخت بنو نُمير وبنو عُقيل بِعَقْوتِها وبقعتها، فلم تبق بها باقية، ولا في رساتيقها ثاغية ولا راغية.

وهي مدينة في بقعة يحفّ بها جبل مسيرة يومين في مثلها مستواة.

ومدينة (الرُّها) في شمال هذه البقعة، وكانت وسطة من المدن، والغالب على أهلها النصارى، وبها زيادة على ثلاثمئة بيعة ودير وصوامع، فيها ربانهم، ولهم فيها بيعة ليس للنصرانيّة أعظم ولا أبدع صنعةً منها، ولها مياه وبساتين وزروع كثيرة نزهة، وهي أصغر من (كَفَرْثُوثا)، وكان بها منديل لعيسى بن مريم (عليه السلام)، فخرج ملك الروم في بعض خرجاته ونزل بهم وحاصرهم وطالبهم به، فسلّموه إليه على هدنةٍ وافقوه على مدّتها.

و(جِسر مَنْبِج) و(سُمَيْساط) مدينتان نزهتان، فيهما مياه وبساتين ومباخس وأشجار، وهما عن قرب من الفرات في حال اختلال ورزوح حال)(١) .

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية... من ص ٥١ إلى ص ٥٥.

١٦٧

أرْمِينية

(كانت أرمينة في قديم الأيّام لِـ (سَنْباط بن أَشُوط) ملك الأرمن وأجداده، ولم تزل في أيدي الكبراء منهم، فأزالها أبو القاسم يوسف بن أبي الساج عنهم، وأخرجها من أيدهم، وبأيديهم عهودٌ للصدر الأوّل بإقرارهم على حالهم وأخذ الجزية منهم على ما جرت به مقاطعتهم.

وكان بنو أميّة وبنو العبّاس قد أقرّوهم على سكنهم، ويقبضون الرسوم عليها من جباياتهم، فتحيّفهم وقصدهم، فلم يفلح مَنْ بعدهم ولا ارتفعت له راية.

والغالب على أرمينية النصرانيّة، وللسلطان عليهم كالخراج في كلّ سنة، وكأنّهم اليوم في عهد على حسب ما كانوا بغير حقيقة تطرَّقهم السلاطين المجاورون لهم فيسبّونهم ويؤذونهم وهم في ذمّة، وكان رقيقهم لا يُباع في بغداد، أدركته كذلك إلى سنة خمس وعشرين وثلاثمئة، ولا يجيزه أحد لأنّهم في بعض ذمةٍ معروفة ومعهم غير عهد.

وهما أرمينيتان، إحداهما تُعرف بالداخلة، والأخرى بالخارجة.

وفي بعض الخارجة مدن للمسلمين، وفي أيديهم لم تزل يلونها المسلمون، وقد قطع عليها الأرمن في غير وقت، وهي لملوك الإسلام، كأَرْجيش وخِلاَط ومنازْجِرد وقاليقلا ؛ وحدودها ظاهرة، فحدُّها من المشرق إلى بَرذَعَة، ومن المغرب إلى الجزيرة، ومن الجنوب إلى (أَذربيجان )، ومن الشمال إلى نواحي بلاد الروم من جهة (قالِيقَلا )، وكانت قاليقلا في وسط بلاد الروم ثغراً عظيماً لأهل أذربيجان والجبال والرّيّ وما والاها.

والداخلة: دَبِيل ونَشَوَى وقاليقلا وما إلى ذلك من الشمال.

والخارجة: بَرْكَرِي وخلاط وأرجيش وسَلْطان والزَوَزَان وما بين ذلك من

١٦٨

القلاع والنواحي والأعمال، ولهم مدخل إلى بلد الروم يُعرف بـ (أطَرابَزُنْدَة ) وهي مدينة يجتمع فيها التجّار من بلد الإسلام، فيدخلون إلى بلد الروم منها للتجارة، ويخرج إليها خليج من القُسطنطينيّة إلى البحر المحيط، ولملك الروم على صاحبه المقيم بأطرابزندة في وقتنا هذا مال جسيم، كان في الأوّل دونه كثيراً، وأكثر ما يخرج إلى بلد الإسلام من الديباج والبُزْيُون وثياب الكتّان الروميّ وثياب الصوف، والأكسية الروميّة، فمن أطرابزندة.

وليس بين نشوى وبركري وخلاط ومنازجرد وبَدْليس وقاليقلا وأَرْزن وميّافارقين كثير تفاوت ؛ لأنّ مقاديرها تتقارب، ولا يشبه دبيل في العظم والكبر منها شيء، وهي بأجمعها خصيبة كثيرة الخير عامرة، وقد نالها في وقتنا هذا ما نال سائر البلدان باختلال السلطان وتغيّر الزمان.

وأكثر العلماء بحدود النواحي يرون أنّ ميّافارقين من حدود أرمينية، وقومٌ يعدّونها من أعمال الجزيرة، وهي من شرقيّ دجلة على مرحلتين منها، فلذلك تُحسب من أرمينية.

وبهذه البلاد وأضعافها من التجارات والمجالب وأنواع المطلب من الدوابّ والأغنام والثياب المجلوبة إلى النواحي والأقطار معروفة لهم ومشهورة كالتِّكَك الأرمينيّة التي تعمل بسَلَماس (تُباع التِّكَّة من دينار إلى عشرة دنانير)، ولا نظير لها في سائر الأرض.

والأرمني المقدّم ذكره يعمل بِدَبيل ويعمل بنواحي أرمينية (مقاعد أرمني)، وأفخاخ تُعرف بالأرمني المحفور يقلّ نظيرها في جميع النواحي التي يشبهون أعمالهم بها، وكذلك السَّبَنِيّات(١) والمقارم(٢) والمنادل المعمولة بميّافارقين وبمواضع من أرمينية.

وفي جنوب بَرْكَرِي وخِلاط وأَرْجيش بحيرة آخذة من المشرق إلى المغرب تكون بضعة عشر فرسخاً، يخرج منها سمك صغار أشبار يُعرف بالطِرِّيخ يُملَّح ويُحمل إلى الجزيرة والموصل والرَّقّة وحرّان وحلب وسائر الثغور، وفي أطرافها مع البُورق المحمل إلى العراق والجزيرة للخبّازين،

____________________

(١) السّبنيّات: مفردها سبَنِيّة وهي أُزُرٌ سود للنساء منسوبة إلى سَبَن قرية في نواحي بغداد.

(٢) المقارم: مفردها قِرام السّتر الأحمر، ثوب خفيف.

١٦٩

وبالقرب منها مقالع الزرنيخ يُجلب إلى سائر الأرض منه الأحمر والأصفر.

ينبغي أن لا يكون المسلمون لصنوف أعدائهم أشدّ حذراً منهم للروم، فلمّا كانت الروم على ما وصفت، وجب أن نقدّم الكلام في الثغور المقابلة لبلدهم على الكلام في غيرها، فنقول:

إنّ هذه الثغور منها برّية تلقاها بلاد العدو، وتقاربه من جهة البرّ، ومنها بحرية تلقاه وتواجهه من جهة البحر، ومنها ما يجتمع فيه الأمران.

وتقع المغازي من أهله في البرّ والبحر الثغور البحرية على الإطلاق سواحل الشام ومصر كلّها، والمجتمع فيه الأمران غزو البر والبحر الثغور المعروفة بالشاميّة، فلنبدأ بذكرها وهي:

طَرَسوس وأَذَنَة والمِصِّيصة وعين زَرْبة والكَنيسة والهارونيَّة وبَياس ونقابُلس، وارتفاعها نحو المئة ألف دينار ينفق في مصالحها وسائر وجوه شأنها، وهي: المراقب والحرس والفواثير(١) والركّاضة والموكّلين بالدروب والمخائص والحصون وغير ذلك ممّا تجانس من الأُمور والأحوال، ويحتاج إلى شحنتها من الجند والصعاليك، وراتب مغازيها الصوائف والشواتي في البرّ والبحر في السنة على التقريب مئتي ألف دينار على المبالغة، وهي أن يتّسع ثلاثمئة ألف دينار، والذي تلقاها من بلاد العدوّ، ويتّصل بها إمّا من جهة البرّ فالقَبَادُق ويقرب منها الناطُلِيق، ومن جهة البحر سَلُوقِيَة.

وعواصم هذه الثغور وما وراءها إلينا من بلدان الإسلام، وإنّما سمّي كلّ واحدٍ منها عاصماً ؛ لأنّه يعصم الثغر ويمدّه في أوقات النفير، ثمّ ينفر إليه من أهل أنطاكية والجُوقة والقُورُس، ثمّ يلي هذه الثغور عن يمينها وجهة الشمال منها الثغور المعروفة بالجزريّة.

وأوّل ما يحادّ الثغور الشاميّة منها مَرْعَش، ويليها ثغر الحَدَث، وكان يلي هذه (زِبَطْرة) فخربت أيّام المُعْتصِم، وكان له عند النهوض إلى بلاد العدوّ حتّى فتح (عَمُّورية) الحديث المشهور، فلما انتهى إلى موضع زبطرة بنى مكانها وبالقرب منها حصوناً لتقوم مقامه، وهي الحصن المعروف بـ

____________________

(١) الفواثير: مفردا فاثور: الخوان من رخام، قرص الشمس، البساط، الجفنة، وعاء الخمر، الجاسوس.

١٧٠

(طَبارْجي)، والحصن المعروف بالحُسَينِيَّة، والحصن المعروف ببني المؤمن، والحصن المعروف بابن رَجْوان، ثمّ يلي هذه الحصون ثغر (كَيْسُوم)، ثمّ حصن منصور، ثمّ ثغر سُمَيْساط، ثمّ ثغر مَلَطْية وهو الخارج في بلد العدوّ من جميع هذه الحصون.

وكلّ واحدٍ بينه وبين بلد العدوّ درب وعقبة، وثغر ملطية مع بلد العدوّ في بقعة وأرض واحدة.

وكان يواجه هذه الثغور ويقابلها من بلد الروم خَرشَنة وعمل الخالديّة، فحدث في هذا الوقت بينهم وبين الروم والأرمن الذين في جملة مليح الأرمنيّ في بلدٍ كان يسكنه قوم يُسمّون (البَيَالِقة) وهم من الروم إلاّ أنّهم يخالفونهم في كثيرٍ من أديانهم.

وكان هؤلاء مع المسلمين يعينونهم في غزواتهم، ويتوفّر على المسلمين المعونة بهم، إلى أن رحلوا دفعةً واحدةً عن هذا الموضع ؛ بإساءة أهل الثغور معاشرتهم، وقلّة إشراف المدبّرين على أمرهم، فتفرّقوا في البلاد، وسكن مكانهم هؤلاء الأرمن، وابتنوا الحصون المنيعة.

ثمّ صارت لهم العدّة الكثيفة والمعرّة الشديدة، وارتفاع هذه الثغور مع ملطية سبعون ألف دينار، يُصرف منها في مصالحها أربعون ألف دينار، ويبقى ثلاثون ألف دنار، ويحتاج لنفقة الأولياء والصعاليك على التجزئة مئة وعشرون ألف دينار تنضاف إلى البقيّة وعلى المبالغة مئة وسبعون ألف دينا تنضاف إليها تتمّة مئتي ألف دينار سوى نفقات المغازي في أوقاتها.

وهذه الثغور هي الواسطة، ومنها كانت تقع المغازي، فإن احتيج إلى الغزو منها كانت النفقة حسب الغزاة.

وعواصم هذه الثغور (دُلوك) و(رَعْبان) و(مَنْبِج)، ويلي هذه الصغور عن يمينها أيضاً وفي جهة الشمال الثغور المسمّاة بالبكرية، وهي:

(شِمْشاط) و(حاني) و(مَلْكين)، وحصون منها (جُمح) ومنها (حوران) ومنها (الكلس) وغيرها، ثمّ ثغر (قاليقلا) في جهة الشمال عن هذه الثغور زيادة، إلاّ أنّه كالمنفرد لما بينه وبينها من المسافة البعيدة.

والذي يقابله هذه الثغور من أعمال الروم: عمل (الأرْمِنِياق) وبعض عمل (الخالدية)، ويقرب منها عمل (أَفلاغُونِيَة) المتّصل ببلاد الخَزَر، وارتفاع هذه الثغور في السنة ألف ألف وثلاثمئة ألف درهم، تحتاج نفقاتها في مصالحها وحصونها وأرزاق شحنها إلى هذا المقدار، وزيادة ألف ألف وسبعمئة ألف درهم تتمّة ثلاثة آلاف ألف درهم.

١٧١

وأمّا الثغور البحريّة وهي سواحل جند حمص (أَنْطَرطُوس) و(بُلُنْياس) و(اللاذقيّة) و(جبلة) و(الهرياذة) دون الخليج أحد عشر عملاً أحدها عمل أفلاغونية وجنده عشرة آلاف رجل، ثمّ يليه نحو الغرب عمل (الأَبْطِماط) وتفسير هذه اللفظة بالعربيّة الأذن والعين ؛ لأنّ هذا العمل سرة بلاد الروم، وليس أهلها أصحاب حرب ؛ لأنّه لا يبلغ إليهم مغازي المسلمين ولا غيرهم، وحدّه الغربيّ الخليج، والشماليّ بحر الخزر، والشرقيّ عمل أفلاغونية، والجنوبيّ عمل (الأَبْسيق)، وجنده أربعة آلاف رجل ؛ ثمّ يلي (الأبطماط) عمل الأبسيق وحدّه الغربيّ الخليج، والشماليّ الأبطماط، والجنوبيّ عمل الناطُليق، والشرقيّ عمل (الطَرْقَسِيس) وجنده ستة آلاف رجل.

ثمّ يلي الأبسيق عمل الطرقسيس، وحدّه من جهة الغرب الخليج، ومن الشمال الأبسيق، ومن المشرق الناطُليق، ومن الجنوب بحر الشام، وجنده ستّة آلاف رجل.

ثمّ يليه عمل الناطُليق وتفسيره المشرقيّ، وهو أكبر أعمال الروم، له حدّ إلى الأبسيق في الغرب، ومن الجهة الجنوبية سلوقية عند بحر الشام، ومن جهة المشرق عمل (القَبادُق)، ومن الشمال (البُقُلاَّر).

وجنده خمسة عشر ألف رجل، وفيه مدينة عمّورية التي فتحها المعتصم. ويليه عمل (سلوقية) ناحية بحر الشام، وأحد حدوده من المغرب الناطُليق، ومن جنوب البحر ومن الشمال الطَرْقَسيس، ومن المشرق درب طرسوس ناحية (قَلَمِيَة) و(اللاَمِس) وجنده خمسة آلاف رجل.

ثمّ يليه عمل القبادُق، وحدّه من جهة الجنوب جبل طرسوس وأَذَنه والمِصِّيصة، ومن جهة المغرب أعمال سلوقية، ومن الشمال الناطُليق، ومن المشرق أعمال (خرشنة)، وجنده أربعة آلاف رجل.

ثمّ يلي ذلك عمل خرشنة، وأحد حدوده وهو الجنوبيّ يلي القبادق، وحدّ يلي دروب ملطية وهو الشرقيّ، وحدّ يلي عمل الأرمِنياق وهو الشماليّ، وحدّ يلي عمل البُقُلاّر وهو الغربيّ، وجنده أربعة آلاف رجل.

ثمّ يليه عمل البقلاّر فحدّ منه عمل الناطُليق والأَبْطِمالي، والثاني القبادق، والثالث خرشنة، والرابع الأرمِنياق، وجنده ثمانية آلاف رجل.

وعمل الأَرمِنياق فحدٌّ منه يلي الأفلاغونية، والثاني عمل البقلاّر، والثالث عمل خرشنة، والرابع عمل الخالدية وبحر الخزر، وجنده أربعة آلاف رجل.

ثمّ عمل الخالدية وحدٌّ منه بلاد أرمينية، والثاني بحر الخزر، والثالث أرمنياق، والرابع أيضاً من عمل الأرمنياق،

١٧٢

وجنده أربعة آلاف رجل. فجميع جيش الأحد عشر عملاً التي مقابلتنا سوى مَنْ لا معوّل عليه، وإنّما هو ممّن يجيش فارساً وراجلاً سبعون ألف تُسمّى الرّبيعيّة لعشرة أيّام تخلو من أيّار بعد أن يكون الناس قد أربعوا دوابّهم وحسنت أحوال خيولهم، فيقيمون ثلاثين يوماً وهي بقيّة أيّار وعشرة من حَزيران، فإنّهم يجدون الكلأ في بلد الروم ممكناً، وكأنّ دوابّهم ترتبع ربيعاً ثانياً، ثمّ يقفون فيقيمون إلى خمسة وعشرين يوماً، وهي بقيّة حزيران وخمسة من تمّوز حتّى يقوى ويسمن الظهر، ويجتمع الناس لغزوة الصائفة، ثمّ يغزون لعشر تخلو من تمّوز، فيقيمون إلى وقت قفولهم ستّين يوماً.

فأمّا الشواتي فإنّي رأيتهم جميعاً يقولون: إنْ كان لا بدّ منها فليكن ممّا لا يبعد فيه ولا يوغل، وليكن مسيره عشرين ليلة بمقدار ما يحمل الرجل لفرسه ما يكفيه على ظهره، وأن يكون ذلك في آخر شباط فيقيم الغزاة إلى أيّام تمضي من آذار، فإنّهم يجدون العدوّ في ذلك الوقت أضعف ما يكون نفساً ودوابّ، ويجدون مواشيهم كثيرة، ثمّ يرجعون ويربعون دوابّهم يتسابقون)(١) .

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية... من ص ٥٥ إلى ص ٧٠.

١٧٣

غزوات لسيف الدولة

(من جملة غزوات سيف الدولة غزاة سنة ستّ وعشرين وثلاثمئة خرج في ذي القعدة منها، حتّى صار إلى حصن (دادِم)، ووجّه الحسن بن علي القوّاس في سَريّةٍ إلى حصن التلّ. وسار سيف الدولة إلى حصن زياد فسار وفتحه، واقام عليه سبعة أيّام، ووفاه الدُمُسق في مئتي ألف، فانكفأ راجعاً يطلب شمشاط وخيول الروم تسايره، فنزل ضيعة تُعرف بـ (المُقَدَّمِيَّة)، وهمّ بمناجزة الروم، ثمّ تطير باسمها، فلمّا كان يوم النّحر، وصل إلى موضع بين حصنَيْ سَلاَم وزياد، فتفاءل بأسمائهما ووقف ؛ وأقبلت عساكر الروم، وانقطع عنها موكب قد أجاروه في نحو عشرين ألف بطريق.

ووقع القتال، وحمل سيف الدولة في غلمانه وغلامه (تمال) وعبد الأعلى بن مسلم، فهزم الله الروم، وأسر منهم سبعين بطريقاً، ولم يزل القتال والأسر فيهم إلى الليل، وأخذ سرير الدُمُستق وكرسيه.

وفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة خرج سيف الدولة من نَصِيبين غازياً، فنزل (مَنازْكَرْد) أو (تَنازْجَرْد) يريد مدينة قاليقلا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينةً سمّوها (هَفْجيج)، فلمّا علم الروم بمسيره أخربوا المدينة التي بنوها وهربوا، ففي ذلك يقول النّاميّ:

ونـادى الهُدى مُستصرخاً فَأَجَبْتَه بـقالِيقلاَ إذ أَنَّـتِ الـخَيْلُ سُهَّما

ولـم تَـتَّئِدْ هَـفْجيج أيدي بُناتِها أَبَـدْتَهُمُ تـحت الـسنابك رُغَّما

لئن حسنَتْ عذراء والبحر خدرها لـقد وجـدت فـيه ثكولاً وأَيّما

١٧٤

قال: ولمّا هدم الروم المدينة وهربوا، رجع سيف الدولة، فأقام بأرزن حتّى انحسر الثلج، وأمكن الغزو. ثمّ خرج إلى خِلاط بلاد الروم بعد أن جاءه ملك أرمينية وخزران، وما وطئ بساط ملك قط، فأحسن إليه وخلع عليه، وتسلّم منه حصوناً كانت ضرراً على المسلمين، وردّه إلى بلده سالماً بعد أن استحلفه على الطاعة وحماية السبل.

ووردت عليه كتب ملوك أرمينية وخزران بالطاعة والانقياد، ثمّ سار إلى ابن (طُرنيق)، وأناخ على مدينة (مُوش) فخرّبها، وهدم بيعة جليلة القدر عند النصرانيّة، ودخل إلى بلد الروم، فهدم لهم حصوناً كثيرةً وفتح قلاعاً منيعة، ووطئ مواطئ لم يطأها أحدٌ من المسلمين قبله.

وورد إليه كتاب ملك الروم بما أحفظه، فأجابه عنه جواباً شديداً وأنفذه إليه، فقال الملك لرسول سيف الدولة:

يُكاتبني هذه المكاتبة كأنّه قد نزل على (قَلُونِيَة) استعظاماً لذلك، فاتّصل قوله بسيف الدولة، فعزم على قصد قلونية أو يفتحها الله على يديه، فكأنّه رأى من بعض أصحابه استعظاماً للأمر، فقال: لست أقلع عن قصد هذه المدينة، فإمّا الظّفر وإمّا الشهادة.

فسار حتّى نزل عليها، وأحرق رساتيقها، وسلب ضياعها، وكتب إلى الدمستق وهو إلى الملك كتاباً من قلونية، فاستعظم الروم هذا الفعل وخافوه خوفاً عظيماً ؛ لأنّه بلدٌ ما وطئه أحدٌ من المسلمين، ثمّ رجع سيف الدولة منها فسايره الدمستق، فأوقع به سيف الدولة وقتل من الروم مقتلةً لا يحصيها إلاّ الله تعالى.

قيل: وفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة: سار سيف الدولة من ميّافارقين إلى أرمينية، ونزل بطَيطَوانة على البحيرة، واستدعى بابن جاجيق ابن الدَيْراني وأحمد بن عبد الرحمان أبي المعزّ صاحب خِلاَط وذات الجوز وأرجيش وبَرْكَرِي وعبد الحميد صاحب منازْجِرد ودَشْت الورك والهَرَك وأشُوط بن جرجور بطريق البطارقة بأرمينية ؛ وحضروا لديه، وأخذ من ابن الديراني حصن شَهْران والحامِد وبلدانها وما جاورها، وأخذ من أحمد بن عبد الرحمان بَدْليس وما جاورها وأخذ من أشُوط بلد السَناسُنة وفتحه، وملك قلعة قُلْب وحصن سُليمان وأعمالها، وردّ ملوك أرمينية فوصلوا تحت

١٧٥

حكمه، وفي خدمته، وسار إلى بلد ابن المَرزُبان وبلد الخالدية فنهبه وسبى منه خلقاً عظيماً، وفتح حصونهم أجمع وذلك في مدة خمسين يوماً وعاد.

وفي سنة ثلاثين وثلاثمئة في ربيع الآخر: وصل الروم إلى قريب حلب، ونهبوا وخرّبوا البلاد، وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان، وفيها دخل الثُمْلي من ناحية طَرسُوس إلى بلاد الروم، فقتل وسبى وغنم وعاد سالماً، وقد أسر عدّة من بطارقتهم المشهورين.

وفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة: وافت جيوش الروم إلى ديار بكر، وسبوا من أهلها جماعةً كثيرة، وفتحوا أرزن وأخربوا عامّة بلدها، وبلغوا قرب نصيبين، والتمسوا من أهل الرّها أن يدفعوا إليهم الأيقُونةَ المنديل الذي في كنيسة الرّها الذي كان سيدنا يسوع المسيح مسح به وجهه، فصارت صورة وجهه فيه، وبذل الروم لهم أنّهم إذا سلّموهم هذا المنديل أطلقوا من الأسرى المسلمين الذين في أيديهم عدداً ذكروه لهم، فكاتبوا المتَّقي بذلك، وعرض الوزير أبو الحسين بن مُقْلَة على المتّقي الوارد في هذا المعنى، واستأذنه فيما يعمله ؛ فأمره بإحضار القضاة والفقهاء واستبيانهم في ذلك والعمل بما يقولون.

واستحضرهم الوزير أبو الحسين بن مقلة واستحضر علي بن عيسى والوجوه من أهل المملكة، وعرّفهم ما ورد في هذا المعنى، وسألهم عمّا عندهم فيه، وجرى في ذلك خطبٌ طويلٌ ذكر فيه بعض مَن حضر حال هذا المنديل، وأنّه منذ الدهر الطويل في هذه البيعة لم يلتمسه ملكٌ من ملوك الروم، وأنّ في دفعه غضاضة على الإسلام، والمسلمون أحقّ بمنديل عيسى (عليه السلام)، وفيه صورته.

فقال علي بن عيسى: إنّ خلاص المسلمين من الأسر وإخراجهم من دار الكفر مع ما يقاسونه من الضرّ والضنك أوجب وأحقّ ؛ ووافقته جماعة مَن حضر على قوله، وأشار هو وغيره من قضاة المسلمين بتسليم الأُسارى منهم وتسليم المنديل إليهم، إذ لا طاقة للسلطان بهم ولا له حيلة في استنقاذ الأُسارى من أيديهم، وعمل في ذلك محضراً، وأخذ في ذلك خطوط الجماعة الذين حضروا، وعرض على المتّقي، وأمر بكتب الجواب بالعمل بذلك، واستقرّ الأمر بين أهل الرّها وبين الروم على أن يدفعوا

١٧٦

إليهم مئتي نفس من المسلمين ممّن كانوا أسروهم، وشرط أهل الرّها عليهم ألاّ يعبروا فيما بعد على بلدهم، وعقدوا بينهم هدنةً مؤبّدة.

وتسلّم الروم المنديل وحملوه إلى القسطنطينية ودُخل به إليها في اليوم الخامس عشر من آب، وخرج أصْطفان والبطريرك (ثاوْفيلَقْطُس) أخوه وقسطنطين أولاد (رومانوس) الملك إلى باب الذهب مستقبلين له، ومشى أهل الدولة بأجمعهم بين يديه بالشمع الكثير، وحُمل إلى الكنيسة (أجياصُوفْيا) ومنها إلى البلاط وذلك في السنة الرابعة والعشرين منذ ملك رومانوس الشيخ مع قسطنطين بن لاوُن، ولم تزل هذه الهدنة مستمرة بين الروم وبين أهل الرّها إلى أن نقضها سيف الدولة في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة، فإنّه ألزم أهل الرّها الغزو معه في سنة غزاة المِصّيصة فهلك فيها كثير منهم.

وعاد الروم إلى ديار بكر في هذه السنة، وفتحوا مدينة دارا يوم الخميس لعشر خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة، ورجعوا دفعةً أُخرى ودخلوا رأس عين يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمئة، وأقاموا فيها يومين، وسبوا من أهلها زهاء ألف نفس، وانصرفوا.

وفي سنة ٣٣٣: غزا سيف الدولة بلاد الروم، وردّ سالماً بعد أن بدع في العدوّ، وسبب هذه الغزاة أنّه بلغ الدمستق ما فيه سيف الدولة من الشغل بحرب أضداده، فسار في جيشٍ عظيم، وأوقع بأهل بَفْراس ومَرْعَش وقتل وأسر، فأسرع سيف الدولة إلى مضيق وشعاب، فأوقع بجيش الدمستق وبينهم، واستنقذ الأُسارى والغنيمة، وانهزم الروم أقبح هزيمة، ثمّ بلغ سيف الدولة أنّ مدينةً للروم تهدّم بعض سورها وذلك في الشتاء، فاغتنم سيف الدولة الفرصة وبادر فأناخ عليها وقتل وسبى، لكن أُصيب بعض جيشه.

الفداء الثاني عشر فداء ابن حمدان في خلافة المُطيع باللامس في شهر ربيع الأوّل سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، والملك على الروم قسطنطين، وكان القيّم به نصر الثُّمْلي أمير الثغور الشاميّة من قِبَل أبي الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان صاحب جند حمص وجند قِنَّسرين وديار مُضر وديار بكر والثغور الشاميّة والجزريّة.

وكان عدّة من فودي به

١٧٧

من المسلمين ألفين وأربعمئة واثنين وثمانين من ذكرٍ وأنثى، وفضل للروم على المسلمين قرضاً مائتان وثلاثون لكثرة من كان في أيديهم، فوفّاهم أبو الحسن ذلك وحمله إليهم، وكان الذي شرع في هذا الفداء وابتدأ به الإخشيد محمد بن طُخْج أمير مصر والشام والثغور الشاميّة.

وكان أبو عُمير عَدِيّ بن أحمد بن عبد الباقي الأَذَنِيّ شيخ الثغر والمنظور إليه منهم، قدم إليه إلى دمشق في ذي الحجّة سنة أربع وثلاثين وثلاثمئة، ونحن يومئذٍ بها، ومعه يُوَانِس الأَنْسِيبَطُوس البَطْرِيقُوس المُسْدِقُوس المُترِّهب رسول ملك الروم في إتمام هذا الفداء ؛ وكان ذا رأيٍ وفهمٍ بأخبار ملوك اليونانيّين والروم ومَن كان في أعصرهم من الفلاسفة، وقد اشرف على شيءٍ من آرائهم، والإخشيد حينئذٍ شديد العلّة فتوفّي يوم الجمعة لثمان خلون من ذي الحجّة من هذه السنة.

وسار أبو المِسْك كافور الإخشيديّ بالجيش راجعاً إلى مصر، وحمل معه أبا عُميْر والمُسْدِقوس إلى بلاد فِلَسْطِين، فدفع إليها ثلاثين ألف دينار من مال هذا الفداء، وصار إلى مدينة صور فركبا في البحر إلى طَرَسُوس، فإلى ما(١) وصلا إليها ما كاتب نصر الثُّمْلِي أمير الثغور الشاميّة أبا الحسن بن حمدان ودعا له على منابر الثغور الشاميّة، فجدّ في إتمام هذا الفداء فعرف به ونُسب إليه.

نزل سيف الدولة على حصن (بَرْزُوَيْه)، وحاصره في سنة ستّ وثلاثين وثلاثمئة، وفيه يومئذٍ أبو تَغْلِب الكُرْدِيّ، ونزل (لاوُن بن بَرْدَس) الدمستق الفوقاس على الحدث، وحاصره، ووافى نفير الحدث إلى سيف الدولة يستعينون به ؛ فأقسم أنّه لا رحل عن حصن برزُوَيه أو يفتحه، وفتح لاوُن حصن الحدث بالأمان، وأخرب سوره، وفتح سيف الدولة حصن برزويه في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة، وسار إلى ميّافارقين واستخلف بحلب محمد بن ناصر الدولة، ونزل لاوُن على بُوقا، وخرج محمد بن ناصر الدولة للقائه من حلب، فأوقع لاون لمحمد ولجماعة من أصحابه وقتل منهم زهاء أربعمئة رجل، وأسر خلقاً كثيراً، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة.

____________________

(١) فإلى ما: أي فإلى أن.

١٧٨

وفي شهر ربيع الأوّل من هذه السنة فتح الروم مدينة قالِيقَلاَ وملكوها، وهدموا سورها، وأعطوا أهلها الأمان، وانصرفوا عنها.

وفي سنة ٣٣٩ هـ و ٩٥٠م: غزا سيف الدولة... فسار في ربيع الأوّل، ووافاه عسكر طرسوس في أربعة آلاف عليهم القاضي أبو حصين، فسار إلى قَيْساريّة ثمّ إلى (القَبَدق)، ووغل في بلاد الروم وفتح عدّة حصون، وسبى وقتل، ثمّ سار إلى (سَمَنْدو) ثمّ إلى (خَرْشنة) يقتل ويسبي، ثمّ إلى بلد (صارِخَة)، وبينها وبين قسطنطينية سبعة أيّام. فلمّا نزل عليها واقع الدمستق مقدّمته، فظهرت عليه، فلجأ إلى الحصن وخاف على نفسه، ثمّ جمع والتقى سيف الدولة، فهزمه الله أقبح هزيمة، وأُسرت بطارقته، وكانت غزاة مشهورة، وغنم المسلمون ما لا يوصف وبقوا في الغزو أشهراً.

ثمّ إن الطرسوسيين قفلوا، ورجع العربان، ورجع سيف الدولة في مضيق صعب، فأخذت الروم عليه الدروب وحالوا بينه وبين المقدّمة وقطعوا الشجر وسدّوا به الطرق ودهدهوا(١) الصخور في المضائق على الناس، والروم وراء الناس مع الدمستق يقتلون ويأسرون، ولا منفذ لسيف الدولة، ولكن معه أربعمئة أسير من وجوه الروم فضرب أعناقهم، وعقر جماله وكثيراً من دوابّه وحرق الثقل، وقاتل قتال الموت، ونجا في نفرٍ يسير.

واستباح الدمستق أكثر الجيش وأسر أمراء وقضاة.

ووصل سيف الدولة إلى حلب ولم يَكد، ثمّ مالت الروم، فعاثوا وسبوا، وتزلزل الناس، ثمّ لطف الله تعالى وأرسل الدمستق إلى سيف الدولة يطلب الهدنة، فلم يجب سيف الدولة، وبعث يتهدّده، ثمّ جهّز جيشاً، فدخلوا بلد الروم من ناحية حرّان، فغنموا وأسروا خلقاً، وغزا أهل طرسوس أيضاً في البحر والبرّ، ثمّ سار سيف الدولة من حلب إلى آمِد، فحارب الروم وخرّب الضياع وانصرف سالماً.

وأمّا الروم فإنّهم احتالوا على أخذ آمِد، وسعى لهم في ذلك نصرانيّ على أن ينقب لهم نقباَ من مسافة أربعة أميال حتّى

____________________

(١) دهدهوا: من فعل دهده الحجر أي دحرجه.

١٧٩

وصل إلى سورها ففعل ذلك، وكان نقباً واسعاً فوصل إلى البلد من تحت السور، ثمّ عرف به أهلها فقتلوا النصرانيّ، وأحكموا ما نقبه وسدّوه.

قال أبو الطيّب: وقد ركب سيف الدولة في بلد الروم من نزلٍ يُعرف بالسنبوس في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وثلاثمئة، وأصبح وقد صفّ الجيش يريد (سَمَنْدُوا)، وكان أبو الطيّب متقدّماً، فالتفت فرأى سيف الدولة خارجاً من الصفوف يدير رمحاً فعرفه فردّ الفرس إليه فسايره، وأنشده:

لهذا اليوم بعد غدٍ أَريجُ ونار في العدوّ لها أَجيجُ

ومرّ سيف الدولة في هذه الغزاة بسَمَنْدُوا وعبر (آلِس) وهو نهرٌ عظيم، ونزل على صارِخَة فأحرق ربضها وكنائسها وربض خرشنة وما حولها، فأكثر القتل، وأقام بمكانه أيّاماً ثمّ رحل حتّى عبر آلِس راجعاً، فلمّا أمسى ترك السواد وأكثر الجيش وسرى حتّى جاز خرشنة، وانتهى إلى بطن اللُّقان في غدٍ ظهراً، فلقي الدمستق به، وكان الدمستق في ألفٍ من الخيل، فلمّا نظر إلى أوائل خيل المسلمين ظنّها سريّة فثبت لها وقاتل حتّى هزمهم، وأشرف عليه سيف الدولة، فانهزم الدمستق فقُتل من فرسانه خلقٌ كثير، وأُسر من بطارقته وزراوِرته وَوجوه رجاله ما يزيد على الثمانين. وأفلت الدمستق، وعاد سيف الدولة إلى عسكره وسواده، فقفل غانماً، فلمّا وصل إلى عقبةٍ تُعرف بِمَقْطَعَةِ الأنفال صافّه العدوّ على رأسها وأخذ ساقة الناس يحميهم، فلمّا انحدر بعد عبور الناس ركبه العدوّ ؛ فجرح من الفرسان جماعة، ونزل سيف الدولة على (بَرَدا) وهذا نهر، وضبط العدوّ عقبة الشِير وهي عقبة صعبة طويلة، فلم يقدر على صعودها لضيقها وكثرة العدوّ بها ؛ فعدل متياسراً في طريق وَصَفَه له بعض الأدلّة، وأخذ ساقة الناس، وكانت الإبل كثيرة مثقلة معييّة، وجاءه العدوّ آخر النهار من خلفه فقاتله إلى العشاء، وأظلم الليل وتسلّل أصحاب سيف الدولة... سوادهم(١) ، فلمّا خفّ عنه أصحابه سار حتّى لحق السواد تحت عقبة قريبة من بُحيرة الحدث، فوقف وقد أخذ العدو الجبلين من الجانبين، وجعل سيف الدولة يستنفر الناس ولا ينفر أحدٌ منهم، ومن نجا من العقبة نهاراً لم

____________________

(١) قاصدين سوادهم.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486