تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 486
المشاهدات: 73114
تحميل: 9203


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73114 / تحميل: 9203
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

يرجع، ومن بقي تحتها لم يكن فيه نَصْرَة.

وتخاذل الناس وكانوا قد ملّوا السفر فأمر سيف الدولة بقتل البطارقة والزَراوِرَة وكلّ من كان في السلاسل، وكان فيها مئات.

وانصرف سيف الدولة، واجتاز أبو الطيّب آخر الليل بجماعةٍ من المسلمين بعضهم نام بين القتلى من التعب وبعضهم يحرّكونهم فيُجهِزون على من تُرك ؛ فلذلك قال:

وجدتموهم نِياماً في دمائكُم كـأنّ قتلاكُمُ إِيّاهم فَجَعوا

توقّف سيف الدولة في الغزاة الصائفة في جمادى الأُولى من سنة أربعين وثلاثمئة ببقعة (عَرْبَسُوس) على إحراق القرى، ثمّ أصبح صافّاً يريد (سَمَنْدُو)، وقد اتّصل أنّ العدوّ جامع معدّ في أربعين ألفاً، فتهيّب جيش سيف الدولة الإقدام عليها، وأحبّ سيف الدولة المسير إليها، فاعترضه أبو الطيّب فأنشده فلمّا بلغ قوله:

وإنْ كنتَ سيف الدولة العَضْبَ فيهم فدَعْنا نكُنْ قبلَ الضِّراب القَنا اللَّدنا

قال له سيف الدولة: قل لهؤلاء، وأومأ بيده إلى مَن حوله مِن العرب والعجم يقولون كما تقول حتّى لا ننثني عن الجيش، فما تجمّل أحدٌ منهم بكلام الخ....

(رَعْبان) مدينة بالثغور بين حلب وسُمَيْساط قرب الفرات معدودة في العواصم، وهي قلعة تحت جبل ضربتها الزلزلة سنة أربعين وثلاثمئة، فأنفذ سيف الدولة أبا فراس بن حمدان في قطعةٍ من الجيش، فأعاد عمارتها في سبعة وثلاثين يوماً، فقال أحد شعرائه يمدحه:

أرضيت ربَّك وابن عمّك والقنا وبَـذلْتَ نـفساً لم تزل بَذَّالَها

ونزلتَ (رَعْباناً) بما أَوْلَيْتَها تُـثْني عـليك سُهولها وجبالها

أوّل الثغور ممّا يلي جبل اللُّكان (مَرعش) أخْربتها الروم سنة سبع وثلاثين، فبناها سيف الدولة بن حمدان في سنة إحدى وأربعين وثلاثمئة.

وجاء الدمستق ليمنع من بنائها، فقصده سيف الدولة، فولّى هارباً، وتمّم سيف الدولة عمارتها.

١٨١

وفي سنة ٣٤٢ هـ (٩٥٣ - ٩٥٤م): رحل سيف الدولة من حلب إلى ديار مضر لاضطراب البلاد بها، فنزل حرّان، فأخذ رهائن بني عُقَيل وقَشَيْر وعَجْلان، وحدث له بها رأيٌ في الغزو، فعبر الفُرات إلى (دُلوك) إلى قنطرة صَنْجَة إلى درب القلة، فشنّ الغارة على أرض عَرْقة وَمَلَطْيَة، وعاد ليعبر الفرات من درب (مَوْزار)، فوجد العدوّ قد ضبطه عليه، فرجع، وتبعه العدوّ، فعطف عليه، فقتل كثيراً من الأرمن، ورجع إلى مَلَطْية، وعبر قُباقِب وهو نهر، حتّى ورد المخاض على الفرات تحت حصن يُعرف بالمِنْشار، فعبر إلى نهر (هِنْزِيط) و(سُمْنِين)، ونزل بحصن (الران)، ورحل إلى سُمَيْساط، فورد عليه بها من خبره أنّ العدوّ في بلد المسلمين، فأسرع إلى دُلوك وعبرها، فأدركه راجعاً على (جَيْحان)، فهزمه، وأسر قسطنطين ابن الدمستق وجرح الدمستق في وجهه، وكان الإيقاع به يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأوّل، فقال أبو الطيّب يصف ما كان في جمادى الآخرة من هذه السنة:

لياليّ بعد الظاعنين شُكولُ طوالٌ وليل العاشقين طويلُ(١) )

(قال ابن شدّاد في الأَعْلاق الخطرة):

(وفي سنة اثنتين وأربعين وثلاثمئة: غزا سيف الدولة مَلَطْية وشاطئ الفرات، وقتل من الروم وسبى وأسر قسطنطين بن الدمستق، ولم يزل عنده إلى أن مات في أسره، وكان كتب إلى أبيه الدمستق، ولم يزل عنده إلى أن مات في أسره، وكان كتب إلى أبيه الدمستق بإكرام سيف الدولة، وهو الذي كان يخدمه في مرضه، فرأى منه الشفقة واللطف الذي فعله، وقيل إنّ قسطنطين المأسور كان في غاية الحسن، فبذل أبوه فيه ثمانمئة ألف دينار وثلاثة آلاف أسير، فاشتطّ سيف الدولة، فسيّر الدمستق إلى عطّارٍ نصرانيّ بحلب، وأمره أن يسقي ولده سمّاً ففعل ومات، وعُدّت هذه من غلطات سيف الدولة).

سار سيف الدولة نحو ثغر الحدث لبنائها، وقد كان أهلها أسلموها إلى الدمستق بالأمان سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة، فنزل سيف الدولة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ٧١ إلى ص ٩٩.

١٨٢

وثلاثمئة، وبدأ في يومه فحطّ الأساس وحفر أوّله بيده ابتغاء ما عند الله تعالى ذكره، فلمّا كان في يوم الجمعة نازله ابن الفُقاس دمستق النصرانيّة في نحو خمسين ألف فارس وراجل من جموع الروم والأرمن والروس والصَقْلَب والبلغر والخَزَرِيَّة، ووقعت المصافّة يوم الاثنين انسلاخ جمادى الآخرة، من أوّل النهار إلى وقت العصر، وإنّ سيف الدولة حمل عليه بنفسه في خمسمئة من غلمانه ورجاله، فقصد موكبه وهزمه، وأظفره الله تعالى به، وقتل نحو ثلاثة آلاف رجل من مقاتلته وأسر خلقاً من أسْخَلارِيَّتهِ وأَراخِيَتِه، فقتل أكرهم، واستبقى بعضهم، وأسر (تُودِس) الأعور بطريق سَمَنْدُوا ولُقَنْدُوا وهو صهر الدمستق، وأسر ابن ابنة الدمستق، وأقام على الحدث إلى أن بناها ووضع آخر شرافة منها بيده في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، فقال أبو الطيب المتنبّي، وأنشده إيّاها بعد الوقعة بالحدث:

على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتـأتي على قدر الكرام المكارمُ

قال السري في بناء الحدث:

رفعتَ بالحَدَث الحصن الذي خَفَضَتْ مـنه الـحوادثُ حـتّى ذلّ جـانبُه

أَعـدتـه عَـدَويّـاً فـي مـناسبة مـن بـعد مـا كـان روميّاً مناسبه

فـقد وَفَى عرضُه بالبيدِ واعترضت طـولاً عـلى مَنْكِب الشِعْرَى مناكبه

مُـصغٍ إلـى الجوّ أعلاه فإن خَفَقَت زهـر الـكواكب خِـلناها تخاطبه

كـأنّ أبـراجه مـن كـلِّ نـاحيةٍ أبـراجها والـدّجى وَحْـفٌ غياهبه

ووصفها أبو الطيّب في قصيدته التي مر مستهلّها فلا نذكر ما ورد منها في الكتاب.

ورد على سيف الدولة الخبر آخر النهار، يوم الثلاثاء لستّ خلون من جمادى الأُولى سنة أربع وأربين وثلاثمئة بأنّ الدمستق وجيوش النصرانيّة قد نازلت ثغر الحدث في يوم الأحد، ونصبت مكايد الحصون عليه، وقدّرت أنّها فرصة لما تداخلها من القلق والانزعاج والوصم في تمام بنائه على يد سيف الدولة ؛ ولأنّ ملكهم ألزمهم قصدها وأنجدهم بأصناف الكفر من البُلْغَر والروس والصَقْلَب وغيرهم، وأنفذ معهم العدد ؛ فركب سيف

١٨٣

الدولة لوقته نافراً، وانتقل إلى غير الموضع الذي كان فيه، ونظر فيما يجب النظر فيه في ليلته، وسار عن حلب غداة يوم الأربعاء لسبع خلون، فنزل (رَعْبَان) وأخبار الحدث مستعجمة عليه لضبطهم الطرق وتقديرهم أن يخفى عليه خبرهم.

فلمّا أسحر، لبس سلاحه، وأمر أصحابه بمثل ذلك، وسار زحفاً، فلمّا قرب من الحدث عادت إليه الطلائع بأنّ عدوّ الله لمّا أشرفت عليه خيول سيف الدولة على عقبة تُسمّى العبراني رحل ولم يستقرّ به دار، وامتنع أهل الحدث من البدار بالخبر خوفاً من كمين يعترض للرسل.

فنزل سيف الدولة بظاهرها، وذكر خليفته بها أنّهم نازلوه وحاصروه فلم يُخْلِه الله (عزّ وجلّ) من نصرة عليهم إلاّ في نقوب نقبوا في فصيلٍ كان قديماً للمدينة، وأتتهم طلائعهم بخبر سيف الدولة في إشرافه على ثغر (رَعْبان)، فوقعت الضجّة فيهم وظهر الاضطراب، وولّى كل فريق على وجهه.

وخرج أهل الحدث، فأوقعوا ببعضم وأخذوا آلة حربهم، فأعدّوها في حصنهم فقال أبو الطَيِّب:

ذي المعالي فَلْيَعْلُوَنْ مَن تَعالَى هـكـذا هـكذا وإلاّ فَـلاَ لاَ

وفي سنة خمس وأربعين وثلاثمئة: غزا الأمير سيف الدولة ووطئ من أرض الروم موطئاً لم يطأه المسلمون منذ ثلاثين سنة، وكان قد أخذ معه سفناً مُخلعة وأطوافاً تعبر عليها نهر (أَرْسَناس)، وقصد مدينة تلّ بطريق فأحرقها، وبلغ من الروم مبلغاً عظيماً، وقتل منهم نحو أربعة آلاف رجل، وغنم ما يفوت الإحصاء من الدوابّ والديباج، وعاد سالماً إلى آمد فدخلها، وأنشد في ذلك أبو الطيّب قصيدته التي أوّلها:

الرأي قبل شجاعة الشجعانِ هو أوّلٌ وهي المحلّ الثاني

غزا سيف الدولة إلى بَطْن (هِنْزِيط) في سنة خمس وأربعين وثلاثمئة، ونزل شاطئ نهر أرْسَناس وعبر إلى الجانب الآخر في الزواريق، وكان يأنِس بن الشُمُشْقِيق في تلّ بِطْرِيق، فكبسه سيف = هكذا هكذا وإلاّ فَلاَ لاَ

وفي سنة خمس وأربعين وثلاثمئة: غزا الأمير سيف الدولة ووطئ من أرض الروم موطئاً لم يطأه المسلمون منذ ثلاثين سنة، وكان قد أخذ معه سفناً مُخلعة وأطوافاً تعبر عليها نهر (أَرْسَناس

١٨٤

وكان سيف الدولة قد خلّف بدلُوك أبا العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان ورسم له النزول على حصن (عرمدا) وبناه، وخرج لاوُن البطريق ابن الدمستق، ولقيه أبو العشائر، فأسره لاوُن وحمله إلى القسطنطينية ومات في الأسر.

وغزا سيف الدولة في سنة خمس وأربعين وثلاثمئة، وأنفذ سريّته إلى سمندو، فوجدوا (أَسْتَراتِيغُوس بن البَلَنْطَس) وأسروه، وقتل وأحرق وأسر وعاد.

وقصد سيف الدولة حصن زياد وحاصره، واتّصل به أنّ الدمستق متوجّه إلى الشام، فتسرّع إلى لقائه ودفعه.

وفي هذه السنة في رجب، سار سيف الدولة في جيوشٍ إلى بلاد الروم، وغزاها حتّى بلغ خَرْشَنَة وصارِخة، وفتح عدّة حصون، وسبى وأحرق وخرّب وأكثر القتل فيهم، ورجع إلى أذنة فأقام بها حتّى جاءه رئيس طَرَسُوس، فخلع عليه وأعطاه شيئاً كثيراً، وعاد إلى حلب. فلمّا سمع الروم بما فعل جمعوا وساروا إلى ميّافارقين، وأحرقوا سوادها ونهبوه وخرّبوا وسبوا أهله ونهبوا أموالهم وعادوا.

وفي هذه السنة في جمادى الآخرة، سار الروم في البحر فأوقعوا بأهل طرسوس وقتلوا منهم ألفاً وثمانمئة رجل، وأحرقوا القرى التي حولها.

قال أبو الطيّب، وقد تُحُدِّث بحضرة سيف الدولة أنّ البطريق أقسم عند ملكه أنّه يعارض سيف الدولة في الدرب، وسأله أن ينجده ببطارقته وعدَده وعُدَده ففعل، فخاب ظنّه، أنشده إياها سنة خمس وأربعين وثلاثمئة وهي آخر ما أنشده بحلب:

عُقْبَى اليَمين على عُقْبَى الوَغى نَدمُ مـاذا يَـزيدُك فـي إقدامك القَسَمُ(١) )

(نزل الدمستق على حصن الحدث وفتحه صلحاً، في شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وأربعين وثلاثمئة وآمن أهله، وانصرفوا إلى حلب، وأخرب الدمستق حصن الحدث، وسار يانِس بن الشُمُشْقيق إلى ناحية آمِد وأَرْزن

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ١٠٥ إلى ص ١١٨.

١٨٥

وميّافارقين، ونزل على حصنٍ يُقال له اليَمَاني من عمل آمِد في سنة سبع وأربعين وثلاثمئة.

وسيّر إليه سيف الدولة غلامه (نجا الكاسكيّ) في عشرة آلاف، والتقاهم ابن الشمشقيق، وانهزم نجا، وقتل الروم من عسكره زهاء خمسة آلاف وأسروا نحو ثلاثة آلاف، واستولوا على جميع سواد نجا، وسار أيضاً (بَسِيل البارَكِمومِنس) ويانِس بن الشمشقيق ونزلا على سُمَيْساط وفتحاها في بعض يوم، ورحلا عنها إلى رعبان وحاصرها، فسار سيف الدولة وتبعه ابن الشمشقيق فأوقع بعسكره وقتل وأسر من أهله وأصحابه ووجوه غلمانه ما يكثر عدده وذلك في شعبان سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، وأدخل إلى القسطنطينية من الأسرى ألف وسبعمائة فارس، وطُوِّف بهم وهم ركّاب خيولهم ولابسون سلاحهم.

وغارت الروم على قُوُرس وسبوا خلقاً من أهلها، وأسرى إليهم سيف الدولة واستخلص الأسرى(١) .

وسار لاوُن بن بردس الفقاس إلى نحو طرسوس وسبى وقتل، وفتح الهارونيّة في أوّل شوّال سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة.

وورد لاون الدمستق إلى ناحية ديار بكر في سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة.

وتوجّه سيف الدولة من حلب إلى هناك، ورحل الدمستق إلى ناحية الشام، وقتل من أهله عدداً متوافراً، وأخرب حصوناً كثيرة، وأسر محمد بن ناصر الدولة(٢) ).

(وتهيأ المسلمون للغزو إلى بلاد الروم، وركب كافور الإخشيدي إلى دار الصناعة، ووقف ليطرح مركباً حربيّاً عظيماً كان بها إلى البحر، وكان على الشطّ مركبٌ آخر مرسى، فاجتمع الناس فيه وجلسوا على حافّته وتزاحموا عليه لينظروا إلى نزول المركب إلى البحر، فانقلب ذلك المركب الذي كانوا مجتمعين فيه بهم ومال عليهم فقتلهم بأجمعهم، وغرق عدّة من المراكب الملاصقة له في البحر مملوءة ناساً، وهلك جميع مَن كان فيها، ومات من الناس زهاء خمسمئة رجل، وذلك يوم السبت لتسع خلون من صفر سنة تسع وأربعين وثلاثمئة، ولم يبق بمصر سكّة إلاّ وكان فيها مأتم(٣) ).

____________________

(١) نُخب تاريخية وأدبيّة... ص ١٢٦ و ١٢٧.

(٢) نفسه ص ١٢٨.

(٣) نفسه ص ١٣٤.

١٨٦

(وفي سنة ٣٤٩ هـ غزا سيف الدولة بلاد الروم في جمعٍ كثير، فأثّر فيها آثاراً كثيرةً، وأحرق وفتح عدّة حصون، وأخذ من السبي والأسرى شيئاً كثيراً، وبلغ إلى خرشنة.

ثمّ إنّ الروم أخذوا عليه المضايق، فلمّا أراد الرجوع قال له مَن معه من أهل طَرسُوس:

إنّ الروم قد ملكوا الدرب خلف ظهرك فلا تقدر على العود منه، والرأي أن ترجع معنا. فلم يقبل منهم، وكان معجباً برأيه يحب العود منه، والرأي أن ترجع معنا.

فلم يقبل منهم، وكان معجباً برأيه يحب أن يستبدّ ولا يشاور أحداً ؛ لئلاّ يُقال إنّه أصاب برأي غيره، وعاد في الدرب الذي دخل منه، فظهر الروم عليه واستردّوا ما كان معه من الغنائم، وأخذوا أثقاله، ووضعوا السيف في أصحابه، فأتوا عليه قتلاً وأسراً.

وتخلّص هو في ثلاثمئة رجل بعد جهدٍ ومشقّة، وهذا من سوء رأي كلّ من يجهل آراء الناس العقلاء، والله أعلم بالصواب.

سار نجا من حضرة سيف الدولة في جيشٍ كيف، فنزل على حصن ذي القرنين محاصراً لأهله، ووافى ميخائيل بطريق بطن هِنْزيط وترنيق وغيرهم في جمعٍ عظيمٍ قيل إنّهم في عشرة أمثال المسلمين، فلقيهم نجا، فقتل أكثرهم وهزم باقيهم، وأسر تُرنيق وغيره، والتجأ جماعةٌ منهم إلى جبلٍ ليس له طريق، فمضى إليهم وطلعه وقتلهم فيه، ورمى أكثرهم نفسه، وطلب بعضهم الأمان فلم يؤمنهم نجا، ونظروا غرّة فخرجوا هاربين، وركبوا عليهم فقتلوا منهم وأسروا مئة وخمسين، ونجا الباقون.

وفي سنة ٣٥٠ هـ سار نجا غلام سيف الدولة إلى هِنْزِيط، فلقيه عبد الله المَلَطِيّ والروم، فهزمهم وقتل منهم مقتلةً عظيمة، وانصرف سالماً ومعه من السبي ستمئة رأس ومئتا فرس، ثمّ سار إلى بلد ابن مَسْلَمة، فسبى وقتل وانصرف، فأخذ عليه الروم الدرب، فقتل كلّ مَن معه من الأُسارى، واستقبل هو ومَن معه، وقاتل على الدرب حتّى ملكه وهزم من عليه، وخرج ومن معه سالمين.

ثمّ سار إلى قاليقلا، فأسر خمسمئة فارس وسبى وأخذ من الأبقار والأغنام ما أعجز المسلمين سَوقه، ورجع إلى حلب.

وفي هذه السنة ورد الروم عين زَرْبَة في مئة وستّين ألفاً وهي في سفح جبل، والجبل مطلّ عليها، فلمّا جاءه الدمستق في هذا الجمع العظيم، أنفذ قطعةً من جيشه إلى

١٨٧

الجبل، ونزل هو على بابها، فملك جيشه الجبل، فلمّا رأى أهل عين زربة أنّ الجبل قد مُلِك عليهم، وأنّ جيشاً آخر قد ورد إلى باب المدينة، وأنّ مع الدمستق دبّابات كثيرة، وأنّه قد أخذ في نقب السور، طلبوا منه الأمان، فآمنهم، وفتحوا له باب المدينة، فدخلها، فوجد خيله الذين في الجبل قد نزلوا إلى المدينة، فندم على إعطائهم الأمان، فنادى في البلد من أوّل الليل بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع، وأنّ من تأخّر في منزله قُتل.

فخرج مَن أمكنه الخروج، فلمّا أصبح أنفذ رجّالته في المدينة، وكانوا ستّين ألف رجل وكلّ مَن وجدوا في منزله قتلوه، فقتلوا عالَماً من الرجال والنساء والصبيان والأطفال، وأمر بجمع ما في البلد من السلاح، فجُمع منه أمر عظيم، وكان في جملته أربعون ألف رمح.

وقُطع ما في البلد من النخل، فقطع نحو خمسين ألف نخلة، ونادى فيمن حصل في المسجد الجامع من الناس بأن يخرجوا من البلد إلى حيث شاؤوا وأنّ مَن أمسى ولم يخرج قُتل.

فخرج الناس مبادرين، وتزاحموا في الأبواب، فمات بالضغط جماعةٌ من الرجال والنساء والصبيان، ومرّوا على وجوههم حفاة عراة لا يدرون إلى أين يتوجّهون، فماتوا في الطرقات، ومن وُجد في المدينة آخر النهار قُتل.

وأُخذ كلّ ما خلّفه الناس من أمتعتهم وأموالهم، وهُدم السوران اللذين على المدينة، وهُدمت المنازل وبقي الدمستق مقيماً في بلدان الإسلام أحد وعشرين يوماً، وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصناً، منها بالسيف ومنها بالأمان. فكان في بعض الحصون التي فُتحت بالأمان حصن أمر أهله بالخروج منه فخرجوا، فتعرّض بعض الأَرْمَن للنساء اللواتي خرجن منه، فلحق رجالهن غيرة عليهن، فجرّدوا سيوفهم، فاغتاظ الدمستق منهم وأمر بقتل الجميع، وكانوا أربعمئة رجل، وقتل النساء والصبيان ولم يترك إلاّ كلّ جارية حدثة ومَن يصلح أن يسترقّ.

فلمّا أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد الفطر، وزعم أنّه يخلف جيشه بقَيْساريّة.

وكان ابن الزيّات صاحب طرسوس خرج في أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين، فأوقع بهم الدمستق وقتل جميع مَن كان معه، وقتل أخاه.

وكان ابن الزيّات قد قطع الخطبة لسيف الدولة، فلمّا أصابهم هذا الوهن أعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة وراسلوه بذلك، فلمّا وقف ابن الزيّات على ذلك لبس سلاحه واعتمّ وخرج إلى رَوْشَن داره، وكانت داره على

١٨٨

شاطئ نهر، فرمى بنفسه من داره إلى النهر فغرق.

وفي هذه السنة أيضاً فتح الروم حصن دلوك وثلاثة حصون مجاورة له بالسيف.

وفيها في جمادى الآخرة، أعاد سيف الدولة بناء عَيْن زَرْبَة، وسيّر حاجبه في جيشٍ مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم، فغنموا وقتلوا وسبوا، وعادوا، فقصد الروم حصن (سِيسِيَّة) فملكوه.

وفيها سار نجا غلام سيف الدولة في جيش إلى حصن زياد، فلقيه جمعٌ من الروم، فهزمهم، واستأمن إليه من الروم خمسمئة رجل.

وفيها في شوّال أسرت الروم أبا فراس بن سعيد بن حمدان من مَنبج، وكان متقلّداً لها.

(فصل يذكر فيه وقع نجا فتى سيف الدولة (رحمه الله) بالروم على باب حصن زياد وظفره بهم بعد خمسين حملة كانت بينهم في يوم السبت لستّ بقين من شعبان سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة)

(أيّها الناس وجب شكر مَن لم يزل شكر نعمه واجباً، وغلب حزب مَن كان حزبه أبداً غالباً، فليكن كلُّ امرئٍ منكم لربّه حامداً، وليبعث إليه من إخلاصه وافداً، على ما أنعم به عليكم من بركة هذا الشهر، وأيّد به أولياءه من جميل الصبر، ومنحهم من جليل الفتح والنصر، وأدال لهم من الكفرة أهل العناد والعذر، بعد تفاقم الأمر، وتطاول الكرّ والفرّ، وتراسل الرمي السعر، وتشاجر الطعن النَتْر، وتلاحم الضرب الهبر، واختيار الموت في حلله الحُمْر. حتى إذا أدارت رحى الحرب دوائرها، وبلغت قلوب الأبطال حناجرها، وظنّ المؤمنون أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه، وبذلوا نفوسهم ابتغاء ما لديه ؛ اطّلع الله على صدق نيّاتهم فثبّتهم وأيّدهم، وعلى خبث طويّات أعدائه فشتّتهم وبدّدهم، وأمكن إخوانكم المسلمين من نواصيهم، وألجأ من أخّره القضاء منهم إلى صياصيهم(١) نعمةً من الله عليكم تامّة، ورحمة على الإسلام والمسلمين عامّة. فأديموا رحمكم الله حمد الله يُدِم لكم مواصلة نعمه. والجأوا إليه يصرف عنكم قوارع نقمه. وابتهلوا إليه بالدعاء في حراسة من شمر في

____________________

(١) صياصي مفردها صيصية، الصياصي كلّ ما يمتنع به وهي الحصون.

١٨٩

حراستكم، وتمكين مَن بذل مهجته في صيانتكم، الليث الممارس، والكمي المداعس، الراغب في الجهاد المناقس، الأمير المؤيّد أبي الفوارس. تمَّم الله له ولمن معه السلامة، وهنأهم الظفر والكرامة، وجمع بهم أُلْفَة الإسلام وشمله، وشتت بهم كلمة الكفر وأهله(١) ).

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ١٣٤ إلى ص ١٤.

١٩٠

واقعة حلب

(قال علي بن محمد الشِمْشَاطي في تاريخه:

في ذي القعدة سنة ٣٥١ هـ أقبلت الروم، فخرجوا من الدروب، فخرج سيف الدولة من حلب، فتقدّم إلى عَزَازَ في أربعة آلاف فارس وراجل، ثمّ تيقّن أنّه لا طاقة له بلقاء الروم لكثرتهم، فردّ إلى حلب، وخيّم بظاهرها ليكون المصافّ هناك.

ثمّ جاءه الخبر بأنّ الروم مالوا نحو القَمْق، فجهّز فتاه نجا في ثلاثة آلاف لقصدهم، ثمّ لم يصبر سيف الدولة فسار بعد الظهر بنفسه.

ونادى في الرعيّة: من لحق بالأمير فله دينار، فلمّا سار فرسخاً لقيه بعض العرب فأخبره أنّ الروم لم يَبْرَحوا من (جِبْرين)، وأنّهم على أن يصبحوا في حلب، فردّ إلى حلب ونزل على نهر قُوَيْق، ثمّ تحوّل من الغد فنزل على باب اليهود وبذل خزائن السلاح للرعيّة.

وأشرف العدوّ في ثلاثين ألف فارس، فوقع القتال في أماكن شتّى، فلمّا كان العصر وافى ساقة العدو في أربعين ألف راجل بالرماح، وفيهم ابن الشمشقيق، وامتدّ الجيوش على النهر، وأحاطوا بسيف الدولة، فحمل عليهم، فلمّا ساراهم لوى رأس فرسه وقصد ناحية بالِس، وساق وراءه ابن الشمشقيق في عشرين ألفاً، فانكفأ أصحابه، وانهزمت الرعيّة الذين كانوا على النهر عندما انصرف سلطانهم وأطلّهم السيف، وازدحموا في الأبواب، وتعلّق طائفة من السور بالجبال، فقُتل منهم فوق الثلاثمئة، وقُتل من الكبار أبو طالب بن داود بن حمدان وابنه، وداود بن علي، وأُسر كاتب سيف الدولة الفيّاضي وأبو نصر إلى ابن حسن ابن حمدان.

وكان عسكر الملاعين ثمانين ألف فارس والسواد فلا يحصى.

١٩١

ثمّ تقدّم من الغد مُنْتَصر حاجب الدمستق إلى السور، فقال: أخرجوا إلينا شيخين تعتمدون عليهما، فخرج شيخان إلى الدمستق فقرّبهما، وقال:

إنّي أحببت أن أحقن دماءكم فتخيّروا إمّا أن تشتروا البلد أو تخرجوا عنه بأهلكم.

وإنّما كان ذلك حيلة منه، فاستأذناه في مشاورة الناس، فلمّا كان من الغد أتى الحاجب، فقال:

لتخرج إلينا عشرة منكم لنعرف ما عمل عليه أهل البلد.

وكان رأي أهل البلد على الخروج بالأمان، فخرج العشرة وطلبوا الأمان، وتدخّل الروم.

فقال الدمستق: صحّ ما بلغني عنكم. قالوا: ما هو؟

قال: بلغني أنّكم قد أقمتم مقالتكم في الأزقّة مختفين، فإذا خرج الحرم والصبيان ودخل أصحابي للنهب اغتالوهم. فقالوا: ليس في البلد من يقاتل.

قال: فاحلفوا... فحلفوا له، وإنّما أراد أن يعرف صورة البلد، فحينئذٍ تقدّم بجيوشه إلى قبالة السور، ولجأ الناس إلى القلعة، ونصبت الروم سلالم على باب أربعين، وعند باب اليهود، وصعدوا فلم يروا مقاتلة.

فنزلوا البلد ووضعوا السيف وفتحوا الأبواب، وقُضي الأمر، وعمّ القتل والسَّبي والحريق طول النهار ومن الغد، وبقي السيف يعمل بها ستّة أيّامٍ إلى يوم الأحد لثلاث بقين من ذي القعدة، فزحف الدمستق وابن شمشقيق على القلعة، ودام القتال إلى الظهر، فقُتل ابن الشمشقيق من عظمائهم ونحو مئة وخمسين من الروم، وانصرف الدمستق إلى مخيّمه ونودي: مَن كان معه أسير فليقتله، فقتلوا خلقاً كثيراً.

ثمّ عاد إلى القلعة فإذا طلائع قد أقبلت من نحو قِنَّسرين، وكانت نجدة لهم، فتوهّم الدمستق أنّهم نجدة لسيف الدولة، فترحّل خائفاً.

وفي هذه السنة، ورد الخبر بأن الدمستق ورد إلى حلب وملكها، وكان الدمستق وافاها ومعه ابن أخت الملك، ولم يعلم سيف الدولة ولا أحد بخبره لأنها كانت كبسة ؛ فلمّا علم سيف الدولة به أعجله الأمر فخرج نحوه وحاربه قليلاً، فقتل أكثر من معه، وقُتل جميع ولد داود بن حمدان وابن للحسين بن حمدان، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير، وظفر الدمستق بداره، وهي خارج مدينة حلب، فوُجد لسيف الدولة من الورق ثلاثمئة وتسعون بدرة، فأخذها، ووُجد له ألف وأربعمئة بغل فتسلّمها، ووجد له من خزائن السّلاح ما لا يُحصى كثرةً، فقبض جميعها وأحرق الدار والربض، وقاتل أهل حلب من وراء السور، فقُتل من الروم جماعة

١٩٢

بالحجارة، وسقطت ثلمة من السور على قوم من أهل حلب فقتلتهم، وطمع الروم في تلك الثلمة، فأكبّوا عليها، ودفعهم أهل البلد عنها، فلمّا جنّهم الليل اجتمع المسلمون عليها فبنوها، وأصبحوا وقد فرغوا وعلوا عليها وكبّروا، وبعد الروم قليلاً إلى جبل هناك يُعرف بجبل (جوشن).

وذهب رجال الشرطة بحلب إلى منازل الناس، وخانات التجّار ينهبونها، وقيل للناس: الحقوا بمنازلكم فإنّها قد نُهبت. فنزلوا عن السور وأخلوه ومضوا إلى منازلهم مبادرين ليدفعوا عنها، فلمّا رأى الروم السور خالياً وطالت المدّة تجاسر الروم وصعدوا وأشرفوا على البلد، ورأوا الفتنة فيه والنهب، فنزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا، فوضعوا السيف في الناس، فقتلوا كلّ مَن لقيهم، ولم يرفعوا السيف إلى أن كلّوا وضجروا. وكان في البلد من أسارى الروم ألف ومائتا رجل، فتخلّصوا وحملوا السلاح على المسلمين.

وكان سيف الدولة قد أعدّ من الروم سبعمئة رجل ليفادي بهم، فأخذهم الدمستق، وسبى من البلد من المسلمين والمسلمات بضعة عشر ألف صبيّ وصبيّة، وأخذ من خزائن سيف الدولة وأمتعة التجّار ما لا يُحدّ ولا يُوصف كثرةً، فلمّا لم يبق معه شيءٌ يحمل عليه أحرق الباقي بالنار، وعمد إلى الحِباب(١) التي يُحرَز فيا الزيت فصبّ فيها الماء حتّى فاض الزيت على وجه الأرض، وأخرب المساجد، وأقام فيها تسعة أيّام.

وكان بذلك لأهل البلد قبل أن يفتحه الأمان على أن يسلّموا إليه ثلاثة آلاف صبيّ وصبيّة، ويحملوا إليه مالاً وأمتعةً حدّها، وينصرف عنهم، فلم يستجيبوا له إلى ذلك.

وذُكر أنّ عدّة رجاله كانت مئتي ألف رجل، وأنّ عدّة أصحاب الجواشن(٢) فيهم ثلاثون ألف رجل، وفيهم ثلاثون ألف صانع للهدم ولتطريق الثلج، وأربعة آلاف بغل عليها حسك الحديد، يطرحه حول عسكره بالليل وخَرْكاهات(٣) عليها لبود مغربيّة.

فمَن صعد قلعة حلب تخلّص بحشاشته.

____________________

(١) الحِباب: مفردها الحُبّ: الجرّة الكبيرة أو الخابية.

(٢) الجواشن: مفردها الجَوْشَن: الدّرع، الصدر.

(٣) خركاه: نوع من الخِيم.

١٩٣

فلمّا كان بعد تسعة أيّام، أراد الدمستق أن ينصرف بما فاز به وحصل في يده، فقال له ابن أخت الملك: هذا بلد قد حصل في أيدينا، وليس بإزائنا من يدفعنا عنه، ومَن كان فيه من العلويّة وبني هاشم والوزراء والكتّاب، ومَن لهم أموال مقيمون في القلعة، فبأيّ سببٍ ننصرف عنه قبل فتح القلعة؟...

فقال له الدمستق: قد وصلنا إلى ما لم نكن نقدره ولا يقدره الملك، وقتلنا وسبينا وأسرنا وأحرقنا وهدمنا وخلّصنا أُسراءنا، وأخذنا مَن أردنا أن نُفادي به بلا فدية، وغنمنا غنيمةً ما سُمع بمثلها، ومَن حصل في القلعة فهم عراة، وإذا نزلوا هكلوا ؛ لأنّهم لا يجدون قوتاً، والرأي أن ننصرف عنهم، فإنّ طلب النهايات والغايات رديء.

فأقام ابن أخت الملك على أمره، ولحّ وقال: لا أنصرف أو أفتح القلعة.

فلمّا لحّ قال له الدمستق: فانزل عليها وحاصرها، فإنّ الصورة والضرورة تقود مَن فيها إلى فتحها ؛ فقال: لا أفتحها إلاّ بالسيف... فقال له: شأنك وما تريد، فإنّي مقيم في عسكري على باب المدينة، فلمّا كان من غدٍ ترجّل وأخذ سيفاً ودرقة(١) وصعد راجلاً، والمسلك إلى باب القلعة ضيّق لا يحمل أن يسلكه أكثر من واحد، فصعد وتبعه أصحابه واحداً واحداً. وقد كان حصل في القلعة الجماعة من الدَيْلَم، فتركوه حتّى إذا قرب فتحو الباب وأرسلوا عليه حجراً فوقع عليه وانقلب، ثمّ وثب وهو مدوخ، فرماه واحد من الديلم بخشْت(٢) فأنفذ صدره، وركب رأسه، فأخذه أصحابه وانصرفوا إلى الدمستق، فلمّا رآه مقتولاً أحضر مَن كان أسر من المسلمين فضرب أعناقهم بأجمعهم.

وسار إلى بلد الروم بما معه، ولم يعرض لسواد حلب والقرى التي حولها، وقال لأهلها: هذا البلد قد صار لنا فلا تقصّروا في العمارة، فإنّا بعد قليل نعود إليكم.

ملك الروم دار سيف الدولة بظاهر حلب، وذرعها ستّة آلاف ذراع، وأخذ له منها ما لا يُحصى من أموال، شرح ذلك ثلاثمئة بدرة، مئة عين ومئتين ورق، وثلاثمئة وحمل من البزّ الفاخر، ومن الديباج الفاخر ممّا كان ادّخره من عهد رومانوس خمسون حملاً من أواني الذهب والفضّة مالا

____________________

(١) دَرَقَة: الترس من جلود ليس فيه خَشَب ولا عَقَب.

(٢) خِشْت: حربة.

١٩٤

يُحصى، ومن الخيل ثمانمئة رأس، ومن السلاح والمناطق والتجافيف والسيوف مئة حمل، ومن الجمال نحو ألفي جمل، ونقل سقوف الدار معه ؛ لأنّها كانت مذهّبة(١) ).

(استنصرت الروم على الإسلام بكائنة حلب، فضعف أمر سيف الدولة بعد تلك الملاحم الكبار التي طيّر فيها لبّ العدوّ ومزّقهم، ولله الأمر وما شاء الله كان.

ففي سنة ٣٥٢ هـ ٩٦٣م: عبرت الروم الفرات لقصد الجزيرة، وأغلق أهل الموصل الأسواق، واجتمعوا في المسجد الجامع لذلك، ومضوا إلى ناصر الدولة، فضمن لهم الغزو. ووردت الكتب من بغداد: أنّ الرعيّة أغلقت الأسواق، وذهبوا إلى باب الخلافة ومعهم كتاب بشرح مصيبة حلب، وضجّوا فخرج إليهم الحاجب، وأوصل الكتاب إلى الخليفة فقرأه، ثمّ خرج إليهم فعرّفهم أنّ الخليفة بكى وأنّه يقول: قد غمّني ما جرى، وأنتم تعلمون أنّ سيفي معزّ الدولة، وأنا أرسله إلى هذا.

فقالوا: لا نقنع إلاّ بخروجك أنت، وأن تكتب إلى سائر الآفاق، وتجمع الجيوش، وإلاّ فانعزِل لنولّي غيرك. فغاظه كلامهم، ثمّ وجّه إلى دار معزّ الدولة، فركب ومعه الأتراك فصرفهم صرفاً قبيحاً.

ثمّ لطف الله وجاءت الأخبار بموت طاغية الروم، وأنّ الخلف واقع بينهم في مَن يملّكونه، فطمع عسكر طرسوس، ودخلوا أرض الروم في عدّة وافرة، وأوقعوا بالروم ونصروا عليهم، وعادوا بغنائم لَمْ يُرَ من دهرٍ مثلها، فلمّا ردّوا إلى الدرب إذا هم بابن الملائني على الدرب، فاقتتلوا طول النهار، ونُصر المسلمون.

وبلغ سيف الدولة - أيضاً - اختلاف الروم ؛ فبادر ودوّخ الأعمال، وأحرق، وحصل من السبي أكثر من ألفين، ومن المواشي مئة ألف رأس، وفرح المؤمنون بالنصر والاستظهار على العدوّ، ثمّ بعد شهر أو شهرين توجّه سيف الدولة غازياً، فسار على حرّان وعطف على ملطْيَة فملأ يديه سبياً وغنائم، ثمّ خرج إلى آمد.

كانت موافاتهم يوم الاثنين لعشرٍ خلون من ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة، وذلك لليلة بقيت من تشرين الآخر، وعدّتهم ثمانية

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ١٤٥ إلى ص ١٥٤.

١٩٥

آلاف فارس وراجل في أحسن ما يكون من العدّة والجهازات والبنود التي كان فيها ما طوله خمسون ذراعاً في الهواء والبخت والعدد التي لَمْ يُرَ مثلها، ونزل بعد ذلك في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر، وهو أوّل كانون الأوّل نجا فتى الأمير سيف الدولة في أربعة آلاف فارس وراجل في أعظم ما يكون من العدّة ؛ وذلك على فاقةٍ شديدةٍ من أهل ديار بكر إلى الغوث، وإشفاق وخوف من العدوّ(١) ) وخذله الله.

وفي سنة ٣٥٣ هـ ٩٥٤ م: ورد الخبر من حرّان بأنّه اجتاز بهم الغازي الوارد من خراسان، في نحو خمسة آلاف رجل ماضين إلى حلب إلى سيف الدولة.

وهذا الرجل وافى من خراسان على طريق أذربيجان، ثمّ إلى أرمينية، ثمّ إلى ميّافارقين، ثمّ إلى حرّان، ثمّ إلى حلب.

ثمّ ورد بأنّ هذا الغازي اجتمع مع نجا غلام سيف الدولة، فلم يلتفت نجا إلى حديث الغزو ولا إلى الخراساني. ومضى الغازي الخراساني إلى سيف الدولة، فلمّا اجتمع معه نفر إلى المِصِّيصة، وقد ورد الخبر بنزول الروم على المِصِّيصة في جيش ضخم، وفيه الدمستق، وأنّه أقام عليها سبعة أيّام، ونقب في سورها نيّفاً وستّين نقباً، ولم يصل إليها، ودفعه أهلها عنها، ثمّ انصرف لمّا ضاقت به المِيَر(٢) وغلا السعر، وبعد أن أقام في بلاد الإسلام خمسة عشر يوماً، وأحرق رستاق المِصِّيصة وأذنة وطرسوس ؛ وذلك لمعاونتهم أهل مصِّيصة فظفر بهم الروم، وقُتل منهم خمسة آلاف رجل، وقتل أهل أذنة من الروم عدداً قليلاً، وكذلك أهل طرسوس.

ولمّا مضى سيف الدولة والخراساني إلى المِصِّيصة وجدَ جيش الروم قد انصرف عنها، وتفرّقت جموع الخراساني لشدّة الغلاء في الثغور وبحلب، ورجع أكثرهم إلى بغداد، وعادوا منها إلى خراسان، وقبل انصراف الدمستق من المِصِّيصة وجّه إلى أهلها: بأني منصرف عنكم، لا لعجزٍ عنكم وعن فتح مدينتكم ولكن لضيق العلوفة، وأنا عائد إليكم بعد هذا الوقت، فمَن أراد منكم الانتقال إلى بلدٍ آخر قبل رجوعي فلينتقل، ومَن وجدته بعد عودي قتلته.

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ١٦٥ إلى ص ١٦٧.

(٢) المير: مفردها: ميرة: الطعام الذي يدّخره الإنسان.

١٩٦

وفي هذه السنة أيضاً (٣٥٣ هـ): نزل ملك الروم على طرسوس وحصرها، وجرى بينهم وبين أهلها حروبٌ كثيرةٌ، سقط في بعضها الدمستق ابن الشمشقيق إلى الأرض وكاد يُؤسر، فقاتل عليه الروم وخلّصوه، وأسر أهل طرسوس بطريقاً كبيراً من بطارقة الروم، ورحل الروم عنهم، وتركوا عسكراً على المصِّيصة مع الدمستق، فحصرها ثلاثة أشهر لم يمنعهم منها أحد، فاشتدّ الغلاء على الروم وكان شديداً قبل نزولهم ؛ فلهذا طمعوا في البلاد لعدم الأقوات عندهم، فلمّا نزل الروم زاد شدّةً، وكثر الوباء أيضاً، فمات من الروم كثير، فاضطرّوا إلى الرحيل(١) ).

(وفي سنة ٣٥٤ هـ ٩٦٥ م: ورد الخبر بأنّ نِقْفور ملك الروم، بنى بقيساريّة مدينة، وهي تقرب من بلدان الإسلام، وأنّ أهل المصِّيصة وطرسوس أنفذوا إليه رسولاً يسألونه أن يقبل منهم أتاوةً يؤدّونها إليه، على أن ينفذ إليهم صاحباً له ليقيم فيهم، فعمل على إجابتهم إلى ذلك، فورد عليه الخبر بأنّ أهل هذه البلدان قد ضعفوا جدّاً، وأنّه لا ناصر لهم ولا دافع له عنها، وأنّه لم تبق أقوات، وأنّه قد آل الأمر بأهل طرسوس إلى أكل الكلاب والميتة، وأنّه يخرج منها في كل يوم ثلاثمئة جنازة، فانصرف رأيه عمّا كان عمل عليه، وأحضر رسولهم وضرب له مثلاً، وقال:

مَثَلُكم مثل الحيّة في الشتاء، إذا لحقها البرد وذبلت وضعفت حتّى يقدّر من رآها أنّها قد ماتت، فإن أخذها إنسان وأحسن إليها وأدفأها انتعشت ولدغته، وأنتم إنّما بخَعْتُم بالطاعة لمّا ضعفتم، وإن تركتكم حتّى تستقيم أحوالكم تأذّيت بكم.

وأخذ الكتاب الذي أورده فأحرقه على رأسه فاحترقت لحيته، وقال:امضِ إليهم وعرّفهم أنّه ليس عندي إلاّ السيف. فانصرف، وجمع الملك جيوشه وعمل على أن ينفذ جيشاً إلى الشام، وجيشاً إلى الثغور، وجيشاً إلى ميّافارقين. وكان سيف الدولة بميّافارقين قد تخلّص البطارقة الذين في يد نجا، وكان بميّافارقين نحو ألف كُرّ حنطة فمزّقها وفرّقها لئلاّ تأخذها الروم.

ثمّ إنّ ملك الروم أنفذ إلى المصِّيصة قائداً من قوّاده، فأقام عليها يحارب أهلها، ثمّ جاء الملك بنفسه، فأقام عليها وفتحها عنوةً بالسيف،

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ١٧٣ إلى ص ١٧٦.

١٩٧

ووضع السيف في أهلها فقتل منهم مقتلةً عظيمةً، ثمّ رفع السيف، وأمر أن يساق مَن بقي في المدينة من الرجال والنساء والصبيان إلى بلد الروم، وكانوا نحو مئتي ألف إنسان، ثمّ سار عنها إلى طرسوس فحاصرها، فأذعن أهلها بالطاعة، فأعطاهم الملك الأمان، وفتحوا له أبوابها، فدخلها ولقي أهلها بالجميل، ودعا رؤوسهم إلى طعامه، فأكلوا معه، وأمرهم بالانتقال عنها، وأن يحمل كلّ واحدٍ من ماله وسلاحه ما أطاق حمله، ويخلّف الباقي، ففعلوا، وساروا، وسيّر معهم ثلاثة نفرٍ من البطارقة يحمونهم ؛ فعرض لهم قومٌ من الأرمن، فأوقع الملك بهم وعاقبهم، وقطع آنافهم لمخالفتهم أمره، ولم يزل طول طريقهم يتعّرف أخبارهم بكتبه ورسله، إلى أن عرف سلامتهم وحصولهم بأنطاكية، وحُمل بعضهم في البحر في (شَلَنْديَّات)(١) له إلى حيث أرادوا.

ثمّ جعل الملك المسجد الجامع بطرسوس اصطبلاً لدوابه، ونقل ما كان فيه من قناديل إلى بلده، وأحرق المنبر، وقلّد البلد بطريقاً من بطارقته في خمسة آلاف رجل، وقلّد المصّيصة بطريقاً آخر، وتقدّم بعمارة طرسوس وتحصينها، وجلب الميرة إليهم من كلّ جهة، فعُمّرت، ورخص السعر بها حتّى صار الخبز بها رطلين بدانق، فتراجع أهلها إليها، ودخلوا في طاعة الملك، وتنصّر بعضهم، وعمل الملك على أن يجعلها حصناً، ومعقلاً له لحصانتها، وليقرّب عليه ما يريد من بلدان الإسلام.

كان السبب في فتح المصِّيصة أنّهم هدموا سورها بالنقوب، فأشار عليهم رجل بحيث أن يخرجوا الأسارى ليعطف عليهم الملك نقفور، فأخرجوهم، فعرّفه الأُسارى بعدم الأقوات، وأطمعوه في فتحها، فزحف عليها، ولقد قاتل أهلها في الشوارع حتّى أبادوا من الروم أربعة آلاف، ثمّ غلبوهم بالكثرة وقتلوهم، وأخذوا من أعيانهم مئة ضربوا رقابهم بإزاء طرسوس، فأخرج أهل طرسوس مَن عندهم من الأُسارى، فضربوا أعناقهم على باب البلد، وكانوا ثلاثة آلاف.

وفيها اشتدّ الحصار كما ذكرنا على مدينة طرسوس، وتكاثرت عليهم

____________________

(١) شَلَنْدِيّات: سفن كبيرة مسطّحة لنقل البضائع.

١٩٨

جموع الروم، وضعفت عزائمهم بأخذ المصِّيصة، وبما هم فيه من القلّة والغلاء، وعجز سيف الدولة عن نجدتهم، وانقطعت الموادّ عنهم، وطال الحصار وخُذلوا، فراسلوا نِقْفور ملك الروم في أن يسلّموا إليه البلد بالأمان على أنفسهم وأموالهم، واستوثقوا منه بأيمان وشرائط.

ودخل طائفةٌ من وكلاء الروم، فاشتروا منهم من البزّ الفاخر والأواني المخروطة، واشتروا من الروم دوابّ كثيرةً تحملهم ؛ لأنّه لم يبق عندهم دابّةٌ إلاّ أكلوها، وخرجوا بحريمهم وسلاحهم وأموالهم، فوافى فتح الثَمَلي من مصر في البحر في مراكب، فاتّصل بملك الروم خبره، فقال لأهل طرسوس: غدرتم.

فقالوا: لا والله، ولو جاءت جيوش الإسلام كلّها.

فبعث إلى الثملي: يا هذا... لا تُفسد على القوم أمرهم، فانصرف، ثمّ عمل نقفور دعوةً لكبار أهل البلد، وخلع عليهم وأعطاهم جملةً، وخفرهم بجيشٍ حتّى وصلوا بِبَغْراس، وحصل منهم خمسة آلاف بأنطاكية، فأكرمهم أهلها، ثمّ دخلت الروم مدينة طرسوس، فأحرقوا المنبر وجعلوا المسجد إصطبلاً.

وأمّا سيف الدولة، فإنّه سار إلى أرزن وأرمنية، وحاصر بَدْليس وخِلاط وبها أخوا نجا غلامه، عصيا عليه، فتملّك المواقع وردّ إلى ميّافارقين، وعمد أهل أنطاكية فطردوا نائب سيف الدولة عنهم، وقالوا: نُداري ببَيْت المال ملك الروم أو نبرح عن أنطاكية، فلا مقام لنا بعد طرسوس ؛ ثمّ إنّهم أمّروا عليهم رشيق النسيمي الذي كان على طرسوس، فكاتب ملك الروم على عمل الخراج إليه عن أنطاكية، فتقرّر الأمر على حمل أربعمئة ألف درهم في السنة، وجعل على كلّ رأسٍ من المسلمين (النصارى) ثلاثين درهماً والأمر لله.

لم تزل [ طرسوس ] مع المسلمين في أحسن حال، وخرج منها جماعةٌ من أهل الفضل، إلى أن كان سنة أربع وخمسين وثلاثمئة، فإنّ نِقفور ملك الروم استولى على الثغور وفتح المصِّيصة، ثمّ رحل عنها ونزل على طرسوس، وكان بها من قبل سيف الدولة ابن الزيّات، ورشيق النسيمي مولاه، فسلّما إليه المدينة على الأمان والصلح، على أنّ مَن خرج منها من المسلمين وهو يحمل من ماله مهما قدر عليه، لا يعترض من عين وورق أو خُرْثِي(١) ، وما لم يُطق حمله فهو لهم مع الدّور والضياع، واشترط تخريب

____________________

(١) الخُرْثيّ: أردأ المتاع وسقطه.

١٩٩

الجامع والمساجد، وإنّه من أراد المقام في البلد على الذمّة وأداء الجزية، فعل، وإن تنصّر فله الحِباء والكرامة، وتقرّ عليه نعمته.

قال: تنصّر خلقٌ فأُقرّت نعمهم عليهم، وأقام نفر يسير على الجزية، وخرج أكثر الناس يقصدون بلاد الإسلام، وتفرّقوا فيها.

وملك نقفور البلد فأحرق المصاحف، وخرّب المساجد، وأخذ من خزائن السلاح ما لم يُسمع بمثله ممّا كان جُمع من أيّام بني أميّة إلى هذه الغاية.

وحدّث أبو القاسم التَنوخي، قال:

أخبرني جماعةٌ ممّن جلا عن ذلك الثغر: أنّ نقفور لمّا فتح طرسوس نصب في ظاهرها عَلَمَيْن، ونادى مناديه: مَن أراد بلد الملك الرحيم، وأحبّ العدل والنَّصَفَة، والأمن على المال والأهل والنفس والولد، وأمن السُبُل وصحّة الأحكام والإحسان في المعاملة، وحفظ الفروج وكذا وكذا - وعدّ أشياء جميلة - فلْيَصِر تحت هذا العَلَم ليقفل مع الملك إلى بلاد الروم.

ومَن أراد الزنا واللواط والجور في الأحكام والأعمال، وأخذ الضرائب وتملّك الضياع عليه، وغصْب الأموال - وعدّ أشياء من هذا النوع غر جميلة - فليحصل تحت هذا العلم إلى بلاد الإسلام، فصار تحت علم الروم خلقٌ من المسلمين ممّن تنصّر وممّن صبر على الجزية.

ودخل الروم إلى طرسوس، فأخذ كلّ واحدٍ منهم، دار رجل من المسلمين بما فيها، ثمّ يتوكّل ببابها ولا يطلب لصاحبها إلاّ حمل الخفّ، فإن رآه قد تجاوز منعه، حتّى إذا خرج منها صاحبها دخلها النصرانيّ فاحتوى على ما فيها، وتقاعد بالمسلمين أُمّهات أولادهم لمّا رأيْن أهاليهنّ، وقالت: أنا الآن حُرَّة لا حاجة لي في صحبتك، فمنهنّ من رمت بولدها على أبيه، ومنهنّ من منعت الأب من ولده فنشأ نصرانيّاً ؛ فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم فيُوَدّع ولده ويبكي ويصرخ وينصرف على أقبح صورة، حتّى بكى الروم رقّةً لهم، وطلبوا مَن يحملهم فلم يجدوا غير الروم، فلم يُكْرُوهم إلاّ بثُلث ما أخذوه على أكتافهم أُجْرَةً حتّى سيّروهم إلى أنطاكية.

هذا، وسيف الدولة حيٌّ يُرزق بميّافارقين، والملوك كلّ واحدٍ مشغول بمحاربة جاره من المسلمين، وعطّلوا هذا الفرض، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان، ونسأله الكفاية من عنده.

٢٠٠