تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 486
المشاهدات: 73124
تحميل: 9203


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73124 / تحميل: 9203
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

فأحسن قبوله وشكر له ما فعله من بُعده عن الخالفين عليه، وقدّمه وتخصّص به، ونقم سيف الدولة على شيوخ أنطاكية بسبب إخراجهم فتح غلامه، وتسليمهم المدينة إلى رشيق النسيمي، وقبض عليهم وصادرهم، وتشفّع البطريرك إليه في بعضهم وتواسط أمرهم معه، فأجاب مسألته فيهم، وتولّد في نفوسهم ممّا شاهدوه من تمكّن حاله عند سيف الدولة حسد له وحقد عليه.

في سنة خمس وخمسين وثلاثمئة: أوقع تقي الدين السيفي بسريّة للروم فاصطلمها، ثمّ خرج الطاغية من الدروب وذهب.

ثمّ جاء الخبر بأن نائب أنطاكية محمد بن موسى الصلحي أخذ الأموال التي في خزائن أنطاكية، وخرج بها كأنّه متوجّه إلى سيف الدولة، فدخل بلد الروم مرتدّاً، وقيل إنّه عزم على تسليم أنطاكية إلى الروم، فلم يمكنه ذلك لاجتماع أهل البلد على ضَبْطِه، فخشي أن يُنَمَّ خبره إلى سيف الدولة فيقتله، فرب بالأموال.

مات سيف الدولة بن عبد الله بن حمدان يوم الجمعة لخمس بقين من صفر سنة ستّ وخمسين وثلاثمئة، وسار غلامه تقي المقيم بأنطاكية إلى حلب، وأخذ تابوت سيف الدولة إلى ميّافارقين.

ولمّا خرج تقي من أنطاكية اجتمع رأي أهلها على أن لا يمكِّنوا أحداً من الحمدانيّة من الدخول إليها، وولّوا أمرهم علوش الكردي)(١) .

ثمّ ذكر مقتل البطريرك - المارّ ذكره - بسعي ابن مانك الذي استجار به، وأنّ قاتليه هم أهل خراسان الذين جاؤوا نجدة لسيف الدولة، وقائدهم محمد بن عيسى.

(قيل: وفي يوم الجمعة، على أربع ساعات من النهار، وقيل: ثلاث ساعات لخمس بقين من صفر سنة ستّ وخمسين وثلاثمئة توفّي الأمير سيف الدولة أبو الحسن علي بن حمدان، وكان الثامن من شباط، ومات بحلب، وكان مرضه عسر البول، وكان عمره أربعاً وخمسين سنة قمريّة، وثلاث وخمسين شمسيّة، وتولّى أمره أبو الهيثم ابن القاضي أبي حصين،

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ٢٧١ إلى ص ٢٧٣.

٢٢١

وكان صديقه ؛ وغسله عبد الحميد بن سهل المالكي قاضي الكوفة، وغسله ثمان غسلات بالماء أوّلاً، ثمّ بالسِدْر، ثمّ بالصَنْدَل، ثمّ بالذُريرة، ثمّ بالعنبر، ثمّ بالكافور، ثمّ بماء الورد، ثمّ بماء القَراح أخراً غسلين، ونُشفَ بثوب دَبيقِيّ سَعِيديّ ثمنه نيّف وخمسمئة دينار، وأخذ الغاسل مع ما أخذ منه، وصُبِّرَ برطلين صَبر ورطل مُرّ ومنّين كافور، وجعل في لحيته ونحره مئة مثقال كافور، وكُفِّن في تسعة أثواب تساوي ألف دينار، منها قميص قَصَب أُدْرجَ فيه بالكافور، ورداءان مُغمدان خزّ يَمانيّ وثوب شَرْب(١) وعمامة شَرْب، وجعل في التابوت مُضَرَّبَة دَبيقيّة سَعيديّة ومخدّتان، وجعل في الفراش كافور، وحُمل، وصلّى عليه أبو عبد الله النسائي إمام الشام وكان من الكوفة، وكبّر عليه خمساً، وحمل فراشه إلى الأفطس العلوي بوصيّة.

قيل: واجتمع الناس بحلب إلى أبي الحسن علي بن عَمْرو الحاجب، وعقدوا الأمر والإمارة للأمير أبي المعالي شريف بن سيف الدولة، ويُلقّب سعد الدولة.

قيل: وتسلّم تابوت سيف الدولة غلام له اسمه تَقِي، وحمله وسار به إلى ميّافارقين، في شهر ربيع الآخر من السنة، فوصلها ودخل به إلى البلد، ومضى به ونزل إلى التربة التي بناها، وأخرجه من التابوت ووضعه في القبر بوصيّة أوصى بها، وترك تحت خدّه في قبره لبنة صغيرة من ترابٍ كان جمعه من نفض غبار درعه عند عودته من الغزاة، فاجتمع وجعل لبنة بقدر الكفّ، وجُعلت تحت رأسه، وقيل تحت خدّه، ودُفن عند أُمّه وأُخته.

قيل: واجتمع عند سيف الدولة من أهله جماعة كثيرة، وكانوا عنده في جملته، وتحت كنفه، بحيث يُقال إنّ أخت سيف الدولة صعدت يوماً إلى برج علي بن وهب، وكان قد أُضيف إلى القصر، فاطلعت على الميدان الذي هو الآن بستان الميدان، فرأت بالميدان من أهلها ما يقارب عشرين ألف فارس، فقالت: لا إله إلاّ الله، يوشك أن تقوم الساعة على آل حمدان، هذا سوى ما كان عند ناصر الدولة من أهله وأولاده، ومَن كان بالشام مقيماً منهم.

قيل: فما مرّ بهم غير ستّين أو سبعين سنة حتّى ماتوا

____________________

(١) شرب: نوع من القماش.

٢٢٢

بأسرهم، ولم يبق منهم مَن يقول: (أنا من آل حمدان) في هذا الزمان.

وبقي منهم جماعة من أولاد ناصر الدولة انتقلوا إلى الساحل، وملكوا صور وما حولها، فانقرضوا فلم يبق منهم إلى الآن أحد)(١) .

(اجتمع لسيف الدولة بن حمدان ما لم يجتمع لغيره من الملوك، كان خطيبه ابن نُباتة الفارقي، ومعلّمه ابن خالَوَيْه، ومطربه الفارابي، وطبّاخه كُشاجِم، وخُزّان كتبه الخالِدِيّان والصَّنَوْبرِي، ومُدَّاحه: المُتَنَبّي والسَلامِي والوَأْوَاء الدمشقي والرفّاء والناميّ وابن نُباتة السعدي والصنوبري وغير ذلك)(٢) .

متفرّقات عن أخبار بني حمدان مختارة من هذا الكتاب

من ترجمة أبي فراس الحمداني:

(وكانت الروم قد أسرت أبا فراس في بعض وقائعها، وهو جريح قد أصابه سهمٌ بقي نصله في فخذه، ونقلته إلى خَرْشَنَة ثمّ منها إلى قسطنطينية، وذلك في سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة. وفداه سيف الدولة في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، قلت: هكذا قال أبو الحسن علي بن الزرّاد الديلمي، وقد نسبوه في ذلك إلى الغط، وقالوا:

أُسر أبو فرس مرّتين، فالمرّة الأُولى بمغارة الكُحْل في سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة، وما تعدّوا به خرشنة وهي قلعة ببلاد الروم والفرات تجري من تحتها، وفيها يُقال إنّه ركب فرسه وركضه برجله فأوى به من أعلى الحصن إلى الفرات والله أعلم، والمرة الثانية أسره الروم على منبج في شوّال سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة، وحملوه إلى قسطنطينية، وأقام في الأسر أربع سنين، وكانت مدينة منبج إقطاعاً له.

في سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة خرج ابن أعور في جيش الروم يريد الغارة على نواحي مَنْبِج، فوافق خروج أبي فراس الحارث بن سعيد في عدّة يسيرة من غلمانه، وكان العدو في لف وثلاثمائة فارس، وقد

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ٢٧٦ إلى ص ٢٨٠.

(٢) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... ص ٢٨٣.

٢٢٣

استاقوا مواشي من ضيعةٍ يُقال لها بترك، فهمهم أبو فراس واستنقذ ما بأيديهم، وتبعهم، ثمّ انصرف عنهم وقد أجهد خيله وأعطشها، فنزل أصحابه وتفرّقوا يسقون، وتبعهم الروم، فانهزموا(١) ، وركب أبو فراس وقصد البلد إدلالاً بنفسه وفرسه، فسلكت غير طريق أصحابه، فأسره الروم.

كان سيف الدولة قلّده مَنْبِج وحرّان وأعمالهما، فجاء خلق من الروم فخرج إليهم في سبعين نفساً من غلمانه وأصحابه يقاتلهم، ففتك فيهم وقتل، وقدّر أنّ الناس يلحقونه، فما اتبعوه. وحملت الروم بعددها عليه فأُسر، فأقام في أيديهم أسيراً سنين يكاتب سيف الدولة أن يفديه بقوم كانوا عنده من عظماء الروم، منهم: البطريق المعروف باغورج، وابن أخت الملك، وغيرهم، فيأبى سيف الدولة ذلك مع وجده عليه ومكانه من قلبه، ويقول: لا أفدي ابن عمّي خصوصاً وأدع باقي المسلمين، ولا يكون الفداء إلاّ عامّاً للكافّة، والأيّام تتدافع، إلى أن وقع الفداء قُبيل موت سيف الدولة في سنة خمس وخمسين وثلاثمئة، فخرج فيه أبو فراس ومحمد بن ناصر الدولة ؛ لأنّه كان أسيراً - أيضاً - في أيديهم، والقاضي أبو الهيثم عبد الرحمان ابن القاضي أبي حصين علي بن عبد الملك ؛ لأنّهم كانوا أسروه - أيضاً - من حرّان قبل ذلك بسنين، وخرج من المسلمين عدد عظيم.

قال: ولأبي فراس كلّ شيءٍ حسن من الشعر في معنى أسره، فمِن ذلك أنّ كتب سيف الدولة تأخّرت عنه، وبلغه أنّ بعض الأُسراء قال: إنّ ثقل هذا المال على الأمير سيف الدولة كاتبنا فيه صاحب خراسان، فاتّهم أبا فراس في هذا القول ؛ لأنّه كان ضمن للروم وقوع الفداء وأداء ذلك المال العظيم. فقال سيف الدولة: ومن أين يعرفه أهل خراسان، فكتب إليه قصيدة أوّلها:

أسيف الهُدى وقريعَ العرب إِلامَ الـجفاء وفيمَ الغضب

وأُخرى:

ألا مَن مُبلِغٌ سَرَوات قومي وسيف الولة الملكَ الهُماما(٢)

____________________

(١) انهزم.

(٢) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ٣١٢ إلى ص ٣١٦.

٢٢٤

(وذكر (الافليلي) أنّ المتنبّي أنشد سيف الدولة بن حمدان في الميدان القصيدة التي أوّلها:

لـكلّ امـرئٍ مـن دهره ما تعوّدا وعادة سيف الدولة الطعن في العِدَى

فلمّا عاد سيف الدولة إلى داره استعاده إيّاها فأنشدها قاعداً، فقال بعض الحاضرين (يريد أن يكيد أبا الطيّب): لو أنشدها قائماً لأسمع، فإنّ أكثر الناس لا يسمعون ؛ فقال أبو الطيّب: أما سمعت أوّلها: (لكلّ امرئٍ من دهره ما تعوّدا) .

وهذا من مستحسن الأجوبة، وبالجملة: فسموّ نفسه، وعلوّ همّته وأخباره وماجريّاته كثيرة، والاختصار أولى)(١) .

(حُكي أنّ سيف الدولة لمّا ورد إلى بغداد وقت تُوزُون، اجتاز وهو راكب فرسه وبيده رمحه وبين يديه عبد له صغير، وقصد الفرجة وأن لا يُعرف، فاجتاز بشارع دار الرقيق على دور بني خاقان وفيها فتيان، فدخل وسمع وشرب معهم وهم لا يعرفونه وخدموه، ثمّ استدعى عند خروجه الدواة فكتب رُقْعةً وتركها فيها ثمّ انصرف، ففتحوا الدواة فإذا في الرقعة ألف دينار على بعض الصيارف فتعجّبوا، وحملوا الرقعة وهم يظنّونها ساذجة، فأعطاهم الصيرفي الدنانير في الحال والوقت، فسألوه عن الرجل، فقال: ذاك سيف الدولة بن حمدان)(٢) .

(أخبرني طلحة بن عبيد الله بن قناش، قال:

كنت يوماً على مجلس حديث وأُنس، بحضرة سيف الدولة أنا وجماعة من ندمائه فأُدخل عليه رجل وخاطبه، ثمّ أمر بقتله، فقُتل في الحال. فالتفت إلينا فقال: ما هذا الأدب السَيِّئ وما هذه المعاشرة القبيحة التي نعاشر ونجلس بها!!! كأنّكم ما رأيتم الناس، ولا سمعتم أخبار الملوك، ولا عشتم في الدنيا، ولا تأدّبتم بأدب دين ولا مروءة. قال: فتوهّمنا أنّه قد شاهد من بعضنا حالاً يوجب هذه ؛ فقلنا: كلّ الأدب، إنّما يُستفاد من مولانا (أطال الله بقاءه) - وهكذا كان يُخاطب في وجهه - وما علمنا أنّا عملنا ما يوجب هذا، فإن رأى أن ينعم بتبيينها، فعل.

فقال: ما رأيتموني وقد

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... ص ٣٣٧، ٣٣٨.

(٢) نفسه: ص ٣٤٥، ٣٤٦.

٢٢٥

أمرتُ بقتل رجلٍ مسلم لا يجب عليه القتل، وإنّما حملتني السطوة والسياسة لهذه الدنيا النكرة على الأمر به طمعاً في أن يكون فيكم رشيد، يسألني العفو عنه فأعفو، وتقوم الهيبة عنده وعند غيره، فأمسكتم حتّى أُهرق دم الرجل وذهب هدراً. قال: فأخذنا نعتذر إليه وقلنا: لم نتجاسر على ذلك. وقال: ولا في الدماء، ليس هذا بعذر. فقلنا: لا نعاود. واعتذرنا حتّى أمسك).

عاد الإخشيد من الرقّة إلى حلب، وصار إلى مصر، وولّى بحلب من قِبَله أبا الفتح عثمان بن سعيد بن العبّاس بن وليد الكلابي، وولّى أخاه أنطاكية، فحسد أبا الفتح أخوته الكلابيّون، وراسلوا سيف الدولة بن حمدان ليسلّموا إليه حلب، وقد كان طلب سيف الدولة من أخيه ناصر الدولة ولاية، فقال له ناصر الدولة: الشام أمامك وما فيه أحد يمنعك منه.

وعرف سيف الدولة اختلاف الكلابيّين وضعف أبي الفتح عن مقاومته، فسار إلى حلب، فلمّا وصل إلى الفرات، خرج إخوة أبي الفتح عثمان بن سعد بأجمعهم للقاء سيف الدولة، فرأى أبو الفتح أنّه مغلوب إن جلس عنهم وعلم حسدهم له، فخرج معهم، فلمّا قطع سيف الدولة الفرات أكرم أبا الفتح دون إخوته، وأركبه معه في العمارية، وجعل سيف الدولة يسأله عن كلّ قرية يجتاز بها ما اسمها؟

فيقول أبو الفتح: هذه الفلانية، حتّى عبروا بقريةٍ يُقال لها أَبْرَم، وهي قريبة من الغايا. فقال له سيف الدولة: ما اسم هذه القرية؟

فقال أبو الفتح: أَبْرَم. فظنّ سيف الدولة أنّه قد أكربه بالسؤال، فقال له: أَبْرَم من الإبرام. فسكت سيف الدولة عن سؤاله، فلمّا عبروا بقرى كثيرة ولم يسأله عنها علم أبو الفتح بسكوت سيف الدولة ؛ فقال له أبو الفتح: يا سيدي يا سيف الدولة، وحقّ رأسك إنّ القرية التي عبرنا عليها اسمها أبرم، واسأل عنها غيري، فعجب سيف الدولة من ذكائه.

فلمّا وصل حلب أجلسه معه على السرير، ودخل سيف الدولة حلب يوم الإثنين لثمانٍ خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمئة، وكان القاضي بها أحمد بن محمد بن ماثل، فعزله وولّى أبا حُصَيْن علي بن عبد الملك بن بدر بن الهيثم الرقّي، وكان ظالماً، فكان إذا مات إنسان أخذ ترْكَته لسيف الدولة، وقال: كلّ مَن هلك فلسيف الدولة ما ترك، وعلى أبي حصين الدرك.

٢٢٦

ثمّ إنّ الإخشد سيّر عسكراً إلى حلب مع كافور ويانس المؤنسي، وكان الأمير سيف الدولة غازياً بأرض الروم، قد هتك بلد الصفصاف وعَرْبَسُوس، فغنم ورجع، فسار لطيّته إلى الإخشيديّة، فلقيهم بالرَسْتَن، فحمل سيف الدولة على كافور، فانهزم وازدحم أصحابه في جسر الرستن ؛ فوقع في النهر منهم جماعة، ورفع سيف الدولة السيف فأمر غلمانه أن لا يقتلوا أحداً منهم وقال: (الدم لي والمال لكم). فأسر منهم نحو أربعة آلاف من الأُمراء وغيرهم، واحتوى على جميع سواده، ومضى كافور هارباً إلى حمص، وسار منها إلى دمشق، وكتب إلى الإخشيد يعلمه بهزيمته، وأطلق سيف الدولة الأُسارى جميعهم، فمضوا وشكروا فعله.

ورحل سيف الدولة بعد هزيمتهم إلى دمشق، ودخلها في شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمئة، وأقام بها ؛ فكاتبه الإخشيد يلتمس منه الموادعة والاقتصار على ما في يده، فلم يفعل.

وخرج سيف الدولة إلى الأعراب، فلمّا عاد منعه أهل دمشق من دخولها، فبلغ الإخشيد ذلك، فسار إلى الرَمْلَة وتوجّه يطلب سيف الدولة، فلمّا وصل طَبَريَّة عاد سيف الدولة إلى حلب بغير حرب ؛ لأنّ أكثر أصحابه وعسكره استأمنوا إلى الإخشيد، فاتّبعه الإخشيد إلى أن نزل مَعَرة النُعمان في جيشٍ عظيم، فجمع سيف الدولة ولقيه بأرض قنّسرين في شوّال سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمئة.

وكان الإخشيد قد جعل مطارده وبوقاته في المقدّمة، وانتقى من عسكره نحو عشرة آلاف وسمّاهم الصابريّة، فوقف بهم في الساقة، فحمل سيف الدولة على مقدّمة الإخشيد فهزمها، وقصد قبّته وخيمه وهو يظنّه في المقدمة. فحمل الإخشيد ومعه الصابريّة، فاستخلص سواده، ولم يقتل من العسكرين غير مُعاذ بن سعيد والي معرّة النعمان من قِبَل الإخشيد، فإنّه حمل على سيف الدولة ليأسره، فضربه سيف الدولةِ بمُسْتوفيّ(١) كان معه فقتله.

وهرب سيف الدولة فلم يتبعه أحد من عسكر الإخشيد، وسار على حاله إلى الجزيرة فدخل الرقّة، وقيل إنّه أراد دخول حلب فمنعه أهلها.

ودخل الإخشيد، حلب، وأفسد أصحابه في جميع النواحي، وقُطعت الأشجار التي كانت في ظاهر حلب، وكانت عظيمةً جدّاً، وقيل إنّها كانت

____________________

(١) عمود حديد طول ذراعين، مربّع الشكل له مقبض مدوّر.

٢٢٧

من أكثر المدن شجراً، وأشعار الصَّنَوْبَري تدلّ على ذلك.

ونزل عسكر الإخشيد على الناس بحلب، وبالغوا في أذى الناس لميلهم إلى سيف الدولة، وعاد الإخشيد إلى دمشق بعد أن تردّدت الرسل بينه وبين سيف الدولة، واستقرّ الأمر على أن أفرج الإخشيد له عن حلب وحمص وأنطاكية، وقرّر عن دمشق مالاً يحمله إليه في كلّ سنة.

وتزوّج سيف الدولة بابنة أخي الإخشيد عبيد الله بن طُغْج، وانتظم هذا الأمر على يد الحسن بن طاهر العَلَوِيّ وسفارته، في شهر ربيع الأوّل سنة أربع وثلاثين وثلاثمئة، فسار الإخشيد إلى دمشق وعاد سيف الدولة إلى حلب، وتوفّي الإخشيد بدمشق في ذي الحجّة من سنة أربع وثلاثين، وقيل في المحرّم من سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، وملك بعده ابنه أبو القاسم أنجور، واستولى على التدبير أبو المسك كافور الخادم، وكان سيف الدولة فيما ذكر قد عمل على تخلية الشام.

فلمّا مات الإخشيد سار كافور بعساكر مولاه إلى مصر من دمشق، وكان قد استولى على مصر رجل مَغْرِبيّ، فحاربه كافور وظفر به، وخلت دمشق من العساكر، فطمع فيها سيف الدولة، وسار إليها فملكها، واستأمن إليه يانس المؤنسي في قطعة من الجيش، وأقام سيف الدولة بدمشق، وجبى خراجها، ثمّ أتته والدته نُعْم أم سيف الدولة إلى دمشق ؛ وسار سيف الدولة إلى طبريّة، وكان في بعض الأيّام يساير الشريف العقيقي بدمشق في الغوطة بظاهر البلد، فقال سيف الدولة للعقيقي: ما تصلح هذه الغوطة أن تكون إلاّ لرجل واحد.

فقال له الشريف العقيقي: هي لأقوام كثيرة.

فقال له سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين ليتبرؤون منها.

فأسرّها الشريف في نفسه وأعلم أهل دمشق بذلك، وجعل سيف الدولة يطالب أهل دمشق بودائع الإخشيد وأسبابه ؛ فكاتبوا كافوراً، فخرج في العساكر المصريّة ومعه أنوجور بن الإخشيد، فخرج سيف الدولة إلى اللجون، وأقام أيّاماً قريباً من عسكر الإخشيد باكْسال، فتفرّق عسكر سيف الدولة في الضياع لطلب العلوفة، فعلم به الإخشيديّة، فزحفوا إليه، وركب سيف الدولة يتشرّف، فرآهم زاحفين في تعبئة، فعاد إلى عسكره فأخرجهم، فنشبت الحرب، فقُتل من أصحابه خلق وأُسر كذلك، وانهزم سيف الدولة إلى دمشق، فأخذ والدته ومَن كان بها من أهله وأسبابه، وسار من حيث لم يعلم أهل دمشق بالوقعة، وكان ذلك في

٢٢٨

جمادى الآخرة من سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة.

وجاء سيف الدولة إلى حمص وجمع جمعاً لم يجتمع له قط مثله من بني عُقَيْل وبني نُمَيْر وبني كلب وبني كلاب، وخرج من حمص، وخرجت عساكر ابن طُغْح من دمشق، فالتقوا بمرج عذراء(١) ، وكانت الوقعة أوّلاً لسيف الدولة ثمّ آخرها عليه، فانهزم وملكوا سواده، وتقطّع أصحابه في ذلك البلد فهلكوا، وتبعوه إلى حلب، فعبر إلى الرقّة وانحاز يانس المؤنسي من عساكر سيف الدولة إلى انطاكية، ووصل ابن الإخشيد حلب في ذي الحجّة من سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، فأقام بها وسيف الدولة في الرقّة، فراسل أنوجور يانس المؤنسي وهو بأنطاكية، وضمن هو وكافور ليانس أن يجعلاه بحلب، ويعطيهم ولده رهينة على ذلك، فأجابوه.

وانصرف كافور وأنوجور بالعسكر عن حلب إلى القبلة، وأتاها يانس فتسلّمها.

وقيل إنّ الاخشيدية عادوا، وأقام سيف الدولة بحلب، فخالف عليه يانس والسَاجِيّة وأرادوا القبض عليه، فهرب وكتّابه وأصحابه إلى الرقّة، وملك يانس حلب، ولم يقم يانس بحلب إلاّ شهراً حتّى أسرى عليه سيف الدولة إلى حلب في شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين وثلاثمئة، فكبسه، فانهزم يانس إلى سَرْمِين يريد الاخشيد، فأنفذ سيف الدولة في طلبه سَريّة مع إبراهيم بن البارد العُقَيْلي، فأدركته عند ذاذيخ، فانهزم وخلّى عياله وسواده وأولاده وانهزم إلى أخيه بميافارقين، وكان ابن البارد قد وصل إلى سيف الدولة في سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، وكان في خدمة أخيه ناصر الدولة ففارقه وقَدِم على سيف الدولة.

ثمّ إنّ الرسل ترددت بين سيف الدولة وابن الاخشيد، وتجدد الصلح بينهما على القاعدة التي كانت بينه وبين أبيه دون المال المحمول عن دمشق، وعمّر سيف الدولة داره بالحلبة، وقلّد أبا فراس ابن عمّه منبج وما حولها من القلاع، واستقرت ولاية سيف الدولة لحلب من سنة ستّ وثلاثين وثلاثمئة، وهذه هي الولاية الثالثة.

وجرى بينه وبين الروم وقائع أكثرها له وبعضها عليه، فمنها أنّه فتح حصن بَرْزُويه في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة من ابن أخت أبي الحجر الكردي، ووقعت بينه وبين الروم وقعة فكانت الغلبة للروم، وملكوا مرعش

____________________

(١) في الغوطة، على بعد ٢٥ كلم شمالي شرقي دمشق قرب طريق دمشق - حمص.

٢٢٩

ونهبوا طرسوس وسار إلى ميافارقين واستخلف على حلب ابن أخيه محمد بن ناصر الدولة، وخرج لاوُن الدُمُسْتُق إلى بُوقا من عمل أنطاكية، وخرج إليه محمد فكسره الدمستق وقتل من عسكره خلقاً في سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمئة.

ومنها أنّه غزا سنة تسع وثلاثين وثلاثمئة ومعه خلقٌ عظيمٌ فظفر فيها وغنم غنيمة كثيرة، فلمّا رجع إلى درب الجوزات وفارقه أهل الثغور، فاجتمع الروم في الدرب على سيف الدولة فقُتل خلقٌ عظيمٌ من المسلمين وأُسر كذلك، وما سلم إلاّ سيف الدولة على ظهر فرسه فطلبوه ولزّوه إلى جبل عظيم وتحته وادٍ، فخاف أن يأسروه إن وقف أو رجع فضرب فرسه بالمِهْماز وقبله الوادي لكي يقتل نفسه ولا يأسروه، فوقع الفرس قائماً وخرج سيف الدولة سالماً.

وسُمّيت هذه الغزاة غزاة المُصِيبَة، وأخذ له من الآلات والأموال ما لا يُحصى حتّى أنّه ذكر أنّه هلك منه من عُرض ما كان معه في صحبته خمسة آلاف ورَقة بخطّ أبي عبد الله بن مُقْلَة (ره)، وكان منقطعاً إلى بني حمدان، وكان قد بلغ سيف الدولة إلى سَمَنْدو وأحرق صارِخَة وخَرْشَنَة.

ومنها أنّ سيف الدولة بنى مرعش في سنة إحدى وأربعين وثلاثمئة، وأتاه الدمستق بعساكر الروم لمنعه منها، فأوقع به سيف الدولة الوقعة العظيمة المشهورة.

ومنها أنّ سيف الدولة دخل بلاد الروم في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمئة، وأغار على زِبَطْرة، والتقاه قُسْطَنْطِين بن بَرْدَس الدمستق على درب مَوْزار وقُتل من الفريقين خلق، ثمّ قام سيف الدولة إلى الفرات وعبره وقصد بَطْن هِنْزِيط، ودخل سيف الدولة سُمَيْساط، فخرج الدمستق إلى ناحية الشام، فرجع سيف الدولة وراء مرعش، فأوقع به وهزم جيشه وقتل لاون البطريق في الحرب، وأسر قسطنطين ولد الدمستق وحمّله الإبريق إلى بيت الماء وكان أمرد، فخرج فوجده قائماً يبكي، ولم يزل عنده حتّى مات من علّةٍ اعتلّها، وكان الدمستق استتر في تلك الوقعة في القناة ورحل(١) فترهّب ولبس المسوح ؛ ففي ذلك يقول المتنبي:

فإن كان يُنْجِي من عليّ تَرَهُّبُ تَرَهَّبتِ الأملاكُ مَثْنى ومَوْحَدا

فقال أبو العبّاس أحمد بن محمد النامي:

____________________

(١) وفي روايةٍ أُخرى (دخل).

٢٣٠

لكنّه طلب التَرَهُّب خيفةً ممّن له تتقاصرُ الأعمارُ

فـمكان قائم يفه عكّازه ومكان ما يتمنطق الزنّارُ

وبنى سيف الدولة الحدث، وقصده الدمستق بردس، فاقتتلا سحابة يومهما، وكان النصر للمسلمين، وذلك في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمئة، وأسر صهر الدمستق على ابنته (اعورجوم) بعد أن سلّمها أهلها إلى الدمستق.

ومنها أنّ سيف الدولة غزا سنة خمسة وأربعين وثلاثمئة بطن هِنْزِيط، ونزل شاطئ ارسناس، وكبس يانس بن شُمُشْقيق على تل بطريق، فهزمه وفتحها وقتل في هذه الوقعة رومانوس بن البلنطس صهر ابن شمشقيق، وأسر ابن قلموط، وانثنى سيف الدولة قافلاً إلى درب الخيّاطين فوجد عليه كذو بن الدمستق، فأوقع به وهزمه، وخلّف ابن عمّه أبا العشائر الحسين بن علي عمارة عرنداس، فقصده ليون بن الدمستق فهزمه وأسره وحمله إلى القسطنطينية، فمات بها. وغزا في هذه السنة في جمادى الآخرة مع أهل الثغور، وضرب مواضع من بلاد الروم مثل خرشنة وصارخة، وأسر الرست بن البلنطس، وأسر لاون بن الأسْطَرَطِيغوس وابن غُزال بطريق مقدونية ؛ وهرب الدمستق وبركيل بطريق الخالديات، فلمّا قفل سيف الدولة فكّ قيود الأُسارى وخلع عليهم وأحسن إليهم.

وفي جمادى الأُولى من سنة ستّ وأربعين وثلاثمئة كاتَبَ الرومُ جماعةً من غلمان سيف الدولة للقبض عليه وحمله إلى الدمستق عند شخوصه لمحاربته، وبذل لهم مالاً عظيماً على ذلك، فخرج سيف الدولة عن حلب، وقد عزموا على ذلك فصار بعض الفرّاشين إلى ابن كَيْغَلَغ فأخبره بما عزموا عليه، فأعلم سيف الدولة، فجمع الأعراب والديلم وأمرهم بالإيقاع بهم، عند إعلامه إيّاهم بذلك فأوقعوا بهم وقُتل منهم مئة وثمانون غلاماً وقُبض على زُهاء مئتي غلام، فقطع أيديهم وأرجلهم وألسنتهم، وهرب بعضهم.

وعاد إلى حلب وقتل مَن بها من الأسرى وكانوا زهاء أربعمائة أسير، وضيّق على ابن الدمستق وزاد في قيده وصيّره في حجرةٍ معه في داره وأحسن إلى ذلك الفرّاش وقلّد ابن كيغلغ أعمالاً، وتنكّر على سائر غلمانه.

ومنها أنّ يانس بن شمشقيق خرج إلى ديار بكر، ونزل على حصن

٢٣١

اليماني ؛ وعرف سيف الدولة خبره، فسيّر إليه نجا الكاسكي في عشرة آلاف فارس، فالتقاه فانهزم نجا، وقتل من أصحابه خمسة آلاف فارس وأسر مقدار ثلاثة آلاف راجل واستولى على سواد نجا كله.

وسار ابن شمشقيق والبراكموس إلى حُصن سُميساط وفتحاه، ثمّ سارا إلى رعبان وحاصراها.

وسار سيف الدولة إليهما ولقيهما، فاستظهر الروم عليه استظهاراً كثيراً، وعاد سيف الدولة منهزماً، وتبعه الروم وقتلوا وسبوا من عشيرته وقوّاده ما يكثر عدده، وذلك في سنة سبع وأربعين وثلاثمئة.

وفي هذه السنة قدم ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان أخو سيف الدولة، مستنجداً بأخيه سيف الدولة إلى حلب ومعه جميع أولاده، عندما قصد مُعِزّ الدولة الموصل، وتلقّاه سيف الدولة على أربع فراسخ من حلب، ولمّا رآه ترجّل له، وأنفق سيف الدولة عليه وعلى حاشيته وقدّم لهم من الثياب الفاخرة والجوهر ما قيمته ثلاثمئة ألف دينار، وكان يجلس ناصر الدولة على السرير ويجلس سيف الدولة دونه.

ولمّا دخل دار سيف الدولة وجلس على السرير ؛ جاء سيف الدولة لينزع خفّه من رجله فمدّهما إليه فنزعهما بيده، وصعب على سيف الدولة ؛ لأنّه قدّر أنّه إذا خفّض له نفسه إلى ذلك رفعه عنه فلم يفعل ذلك ؛ إظهاراً لمن حضر أنّه وإن ارتفعت حاله فهو كالولد والتبع.

وكان يعامله بأشياء نحو ذلك قبيحة كثيرة فيحتملها على دغل، وتحمّل عنه سيف الدولة لمعزّ الدولة مئتي ألف درهم حتى انصرف عنه.

وفي هذه السنة مات قسطنطين بن لاوي ملك الروم، وصيّر نقفور ابن الفقاس دمستقاً على حرب المغرب، وأخاه ليون بن الفقاس دمستقاً على حرب المشرق، فتجهّز ليون إلى نواحي طرسوس وسبى وقتل وفتح الهارونية ؛ وسار إلى ديار بكر، وتوجّه إليه سيف الدولة، فرحل الدمستق راجعاً إلى الشام، وقتل من أهله عدداً متوافراً، وأخرب حصوناً كثيرةً من حصون المسلمين، وأسر محمد بن ناصر الدولة.

ومنها غزوة مغارة الكحل، غزا سيف الدولة في سنة ثمانٍ وقيل تسع وأربعين وثلاثمئة بلاد الروم، فقتل وسبى وعاد غانماً يريد درب مغارة

٢٣٢

الكحل، فوجد ليون بن الفقاس الدمستق قد سبقه إليه، فتحاربا، فغُلب سيف الدولة وارتجع الروم ما كان أخذه المسلمون، وأخذوا خزانة سيف الدولة وكُراعه، وقُتل فيها خلقٌ كثيرٌ، وأُسر أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان، ونُزل بخرشنة، وأُسر علي بن منقذ بن نصر الكناني فلم يوجد له خبر، وأُسر مطر بن البلدي وقاضي حلب أبو حُصَيْن الرقّي، وقيل إنّ أبا حُصين قُتل في المعركة فداسه سيف الدولة بحصانه، وقال: لا رضي الله عنك، فإنّك كنت تفتح لي أبواب الظلم، وقيل إنّهم لمّا أخذوا الطرق على سيف الدولة وثب به حصانه عشرين ذراعاً وقيل أربعين، فنجا في نفرٍ قليل. وولّى سيف الدولة بعد قتل أبي حُصين أحمد بن محمد بن ماثل قضاء حلب، وكان قد عزله بأبي حصين حين ملك ؛ وذلك أنّه لمّا قدم حلب خرج للقائه أبو طاهر بن ماثل فترجل له أهل حلب ولم يترجل القاضي لأحد، فاغتاظ سيف الدولة وعزله، ثم قَدِم سيف الدولة من بعض غزواته فترجّل له ابن ماثل مع الناس، فقال له: ما الذي منعك أوّلاً وحملك ثانياً؟ فقال له: تلك المرّة لقيتك وأنا قاضي المسلمين، وهذه الدفعة لقيتك وأنا أحد رعاياك.

فاستحسن منه ذلك، فلمّا قُتل أبو حُصين أعاده إلى القضاء، وولّى سيف الدولة - أيضاً - قضاء حلب أبا جعفر أحمد بن إسحاق بن محمد بن يزيد الحلبي المعروف بالجرذ، وكان حنفي المذهب.

ونقل الملك رومانوس إلى حرب المشرق نقفور بن الفقاس الدمستق، فسار إليه نقفور، فقاتله، وانهزم رشيق، وقتل من المسلمين زهاء تسعة آلاف رجل.

وعاد نقفور فضايق عين زربة وفتحها بالأمان في ذي القعدة سنة خمسين وثلاثمئة، وهدم سورها ؛ فانهزم أهلها إلى طرَسُوس، وفتح حصن دُلُوك ومَرْعَش ورَعْبان في سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة.

ثمّ إنّ نقفور بن الفقاس الدمستق ويانس بن شمشقيق قصدا مدينة حلب في هذه السنة وسيف الدولة بها، وكان موافاتهما كالكبسة.

وقيل إنّ عدّة رجاله مئتا ألف فارس وثلاثون ألف راجلٍ بالجواشن، وثلاثون ألف صانعٍ للهدم وتطريق الثلج، وأربعة آلاف بغل عليها حسك الحديد يطرحه حول عسكره ليلاً.

ولم يشعر سيف الدولة بخبرهم حتّى قربوا منه، فأنفذ إليهم سيف الدولة غلامه نجا في جمهور عسكره بعد أن

٢٣٣

أشار عليه ثقاته ونصحاؤه بأن لا يفارق عساكره، فأبى عليهم، ومضى نجا بالعكسر إلى الأثارب، ثمّ توجّه منها داخلاً إلى أنطاكية، فخالفه عسكر الروم، ووصل إلى دُلُوك، ورحل منها إلى تلِّ حامِد ثمّ إلى تِبِّل، واتّصل خبره لسيف الدولة فعلم أنّه لا يطيقه مع بعد جمهور العسكر عنه، فخرج إلى ظاهر حلب وجمع الحلبيين وقال لهم:

عساكر الروم تصل اليوم، وعسكري قد خالفها، والصواب أن تغلقوا أبواب المدينة وتحفظوها، وأمضي أنا ألتقي عسكري وأعود إليكم وأكون من ظاهر البلد وأنتم من باطنه، فلا يكون دون الظفر بالروم شيء.

فأبى عامّة الحلبيين وغوغاؤهم، وقالوا: لا تحرمنا أيها الأمير الجهاد، وقد كان فينا من يعزّ عن المسير إلى بلد الروم للغزو، وقد قربت علينا المسافة.

فلمّا رأى امتناعهم عليه قال لهم: اثبتوا فإنّي معكم، وكان سيف الدولة على بانَقُوسا.

ووردت عساكر الروم إلى الهزّازة فالتقوا، فانهزم الحلبيون، وقُتل وأُسر منهم جماعة كثيرة، وقُتل أبو طالب بن داود بن حمدان وأبو محمد الفيّاض كاتب سيف الدولة، وبُشرَى الصغير غلام سيف الدولة، وكان أسند إليه الحرب ذلك اليوم وجعله تحت لوائه، ومات في باب المدينة المعروف: باب اليهود ناسٌ كثيرٌ لفرط الزحمة، وكان سيف الدولة راكباً على فرس له يُعرف بالفحيّ، فانهزم مشرقاً حتّى بعد عن حلب، ثمّ انحرف إلى قنّسرين فبات بها.

وأقام الروم على ظاهر البلدة أربعة أيام محاصرين لها، فخرج شيوخ حلب إلى نقفور يسألونه أن يهب لهم البلد، فقال لهم: تسلِّمون إليّ ابن حمدان.

فحلفوا أن ابن حمدان ما هو في البلد. فلمّا علم أنّ سيف الدولة غائب عنها طمع فيها وحاصرها.

وقيل إنّ نقفور خرج إليه شيوخ حلب باستدعاءٍ منه لهم يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة من السنة، وكان نزوله على المدينة يوم السبت العشرين من ذي القعدة، وجرى بينه وبينهم خطابٌ آخره على أن يؤمّنهم ويحملوا إليه مالاً ويمكنوا عسكره أن يدخل من باب ويخرج من آخر، وينصرف عنهم عن مقدرة، فقالوا له: تمهلنا الليلة حتّى نتشاور ونخرج غداً بالجواب، ففعل، ومضوا وتحدثوا وخرجوا بكرة الثلاثاء إليه فأجابوه إلى ما طلب، فقال لهم نقفور: أظنكم قد رتّبتم مقاتلتكم في أماكن مختفين بالسلاح، حتّى إذا دخل مِن أصحابي مَن يمكنكم أن تطبقوا عليه وتقتلوه فعلتم ذلك.

٢٣٤

فحلف له بعضهم من أهل الرأي الضعيف أنّه ما بقي بالمدينة مَن يحمل سلاحاً وفيه بطش.

فكشفهم نقفور عند ذلك، فقال لهم: انصرفوا اليوم وقال نقفور لأصحابه: قد علمتم أنّه ما بقي بالمدينة مَن يحمل سلاحاً وفيه بطش.

فكشفهم نقفور عند ذلك، فقال لهم: انصرفوا اليوم واخرجوا إليّ غداً.

فانصرفوا، وقال نقفور لأصحابه: قد علمتم أنّه ما بقي عندهم مَن يدفع فطوفوا البلد بالأسوار ومعكم الآلة، فأيّ موضعٍ رأيتموه ممكناً فتَسَوَّروا إليه فإنّكم تملكون الموضع ؛ فطافوا وكتموا أمرهم وأبصروا أقصر سورٍ فيها ممّا يلي الميدان بباب قنّسرين فركبوه وتجمّعوا عليه، وكان وقت السحر وصاحوا ودخلوا المدينة.

وقيل إنّ أهل حلب قاتلوا من وراء السور فقُتل جماعة من الروم بالحجارة والمقاليع، وسقطت ثلمة من السور على قومٍ من حلب فقتلتهم ؛ وطمع الروم فيها فأكبوا عليها ودفعهم الحلبيون عنها، فلمّا جنّهم الليل اجتمع عليها المسلمون فبنوها، فأصبحوا وقد فرغت فَعَلَوْا عليها وكبّروا ؛ فَبَعُدَ الروم عن المدينة إلى جبل جوشن، فمضى رجّالة الشرط وعوامّ الناس إلى منازل الناس وخانات التجّار لينهبوها، فاشتغل شيوخ البلد عن حفظ السور ولحقوا منازلهم، فرأى الروم السور خالياً فتجاسروا ونصبوا السلالم على السور وهدموا بعض الأبدان، ودخلوا المدينة من جهة برج الغنم، ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من ذي القعدة من سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة، وقيل يوم الثلاثاء آخر ذي القعدة في السحر، وأخذ الدمستق منها خلقاً من النساء والأطفال، وقتل معظم الرجال، ولم يسلم منه إلاّ مَن اعتصم بالقلعة من العلويّين والهاشميّين والكتّاب وأرباب الأموال، ولم يكن على القلعة يومئذٍ سورٌ عامرٌ فإنّها كانت قد تهدّمت وبقي رسومها ؛ فجعل المسلمون الأُكُف والبراذع بين أيديهم، وكان بها جماعة من الديلم الذين ينسب إليهم درب الديلم بحلب، فزحف إليها ابن أخت الملك فرماه ديلميٌّ فقتله، فطلبه من الناس فرموه برأسه ؛ فقتل عند ذلك من الأسرى اثني عشر ألف أسير، وقيل أكثر من ذلك وقيل أقل.

وأقام نقفور بحلب ثمانية أيّامٍ ينهب ويقتل ويسبي باطناً وظاهراً، وقيل إنّه أخرب القصر الذي أنشأه سيف الدولة بالحلبة وتناهى في حسنه وعمل له أَسْواراً وأجرى نهر قويق فيه من تحت الخناقية يمرّ من الموضع المعروف بالساقيات حتّى يدخل في القصر من جانب ويخرج من آخر فيصبّ في المكان المعروف بالفيض، وبنى حوله اصطبلاً ومساكن

٢٣٥

لحاشيته، فقيل إن ملك الروم وجد فيه لسيف الدولة ثلاثمئة وتسعين بدرة دراهم، ووجد له ألفاً وأربعمائة بغل فأخذها، ووجد له من خزائن السلاح ما لا يُحصى كثرة، فقبض جميعها وأحرق الدار فلم تعمّر بعد ذلك وآثارها إلى اليوم ظاهرة.

ويُقال إنّ سيف الدولة رأى في المنام أنّ حيّةً تطوقت على داره، فعظم عليه ذلك، فقال له بعض المفسّرين: الحيّة في النوم ماء، فأمر بحفيرٍ يُحفر بين داره وبين قويق حتّى أدار الماء حول الدار، وكان في حمص رجلٌ ضرير من أهل العلم، يفسّر المنامات، فدخل على سيف الدولة، فقال له كلاماً معناه: أنّ الروم تحتوي على دارك.

فأمر به وأُخرج بعنف، وقضى الله سبحانه أنّ الروم خرجوا وفتحوا حلب واستولوا على دار سيف الدولة ؛ فذكر معبّر المنام أنّه دخل على سيف الدولة بعد ما كان من أمر الروم، فقال له ما كان من أمر ذلك المنام الملعَّن.

وكان المعتصمون بالقلعة والروم بالمدينة تحت السماء ليس لهم ما يظلّهم من الهواء والمطر ويتسلّلون في الليل إلى منازلهم فإن وجدوا شيئاً من قوتٍ أو غيره أخذوه وانصرفوا.

ثمّ إنّ نقفور أحرق المسجد الجامع وأكثر الأسواق والدار التي لسيف الدولة وأكثر دور المدينة، وخرج منها سائراً إلى القسطنطينية بعد أن ضرب أعناق الأُسارى من الرجال حين قتل ابن أخت الملك وكانوا ألفاً ومائتي رجل، وسار بجامعه ولم يعرض لسواد حلب والقرى التي حولها، وقال:

هذا البلد قد صار لنا فلا تُقصّروا في عمارته فإنّا بعد قليل نعود إليكم.

وكان عدّة من سبي من الصبيان والصبايا بضعة عشر ألف صبي وصبيّة وأخذهم معه.

وقيل إنّ جامع حلب كان يُضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفُسَيْفساء ذي الفصّ المذهّب إلى أن أحرقه الدمستق.

وإنّ سليمان بن عبد الملك اعتنى به كما اعتنى أخوه الوليد بجامع دمشق.

وسار الدمستق عنها يوم الأربعاء مستهلّ ذي الحجة من سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة.

واختلف في السبب الذي أوجب رحيل نقفور عن حلب، فقيل إنّه ورد إليه الخبر أنّ رومانوس الملك وقع عن ظهر فرسه في الصيد بالقسطنطينية، وأنّهم يطلبونه ليملّكوه عليهم، وقيل سبب رحيله أنّ نجا عاد بجمهور العسكر إلى الأمير سيف الدولة فاجتمع به وجعل يواصل الغارات

٢٣٦

على عسكر الروم، وتبلغ غاراته إلى السَعْدِي، وأنّه أخذ جماعةً من متعلقة الروم ؛ واستنجد سيف الدولة بأهل الشام، فسار نحوه ظالم بن السلال العقيلي في أهل دمشق، وكان يليها من قبل الاخشيدية، فكان ذلك سبباً لرحيله عن حلب، وكان هذا نقفور بن الفقاس الدمستق قد دوّخ بلاد الإسلام، وانتزع من أيدي المسلمين جملةً من المدن والحصون والمعاقل، فانتزع الهارونية وعين زربة كما ذكرناه وكذلك دُلوك وأذنة وغير ذلك من الثغور، ونزل على أذنة في ذي الحجة من سنة اثنتن وخمسين وثلاثمئة، ولقيه نفير طرسوس فهزمهم وقتل منهم مقدار أربعة آلاف، وانهزم الباقون إلى تل بالقرب من أذنة، فأحاط الروم بهم وقاتلوهم وقتلوهم بأسرهم، وهرب أهل أذنة إلى المصيصة.

وحاصرها نقفور مدّة فلم يقدر عليها بعد أن نقب في سورها نقوباً عدّة، وقلّت الميرة عندهم، فانصرف بعد أن أحرق ما حولها.

وورد في هذا الوقت إلى حلب إنسان من أهل خراسان، ومعه عسكرٌ لغزو الروم، فاتّفق مع سيف الدولة على أن يقصد نقفور، وكان سيف الدولة عليلاً، فحُمل في قبّةٍ فأَلْفَياه وقد رحل عن المصيصة وتفرّقت جموع الخراساني ؛ لشدّة الغَلاء في هذه السنة بحلب والثغور، وعظم الغلاء والوباء في المصيصة وطرسوس حتّى أكلوا الميتة.

وعاد نقفور إلى المصيصة وفتحها بالسيف في رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمئة، وفتح أيضاً كَفَرْبَيّا في هذه السنة ومرش وفتح طرسوس من أيدي المسلمين، في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمئة، وكان المسلمون يخرجون في كلِّ سنة، ويزرعون الزرع فيأتي بعساكره فيفسده، فضعفت وتخلّى ملوك الإسلام عن أهل الرباط بها، وكان فيها فيما ذُكر أربعون ألف فارس وفي عتبة بابها أثر الأسنّة إلى اليوم، فلمّا رأى أهلها ذلك راسلوا نقفور المذكور فوصل إليهم وأجابوه إلى التسليم، وقال لهم:

إنّ كافوراً الخادم قد أرسل إليكم غلّةً عظيمةً في المراكب، فإن اخترتم أن نأخذها وأنصرف عنكم في هذه السنة فعلتُ، فقالوا: لا، واشترطوا عليه أن يأخذوا أموالهم.

فأجابهم إلى ذلك إلاّ السلاح، ونصب رمحين جعل على أحدهما مصحفاً وعلى الآخر صليباً، ثمّ قال لهم: مَن اختار بلد الإسلام فليقف تحت المصحف، ومَن اختار بلد النصرانية فليقف تحت الصليب ؛ فخرج المسلمون فحزروا بمئة ألف ما بين رجلٍ وامرأة

٢٣٧

وصبي، وانحازوا إلى أنطاكية.

ودخل نقفور إلى طرسوس وصعد منبرها وقال لمن حوله: أين أنا؟

فقالوا: على منبر طرسوس.

فقال: لا، ولكنّي على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم من ذلك.

واستولى بعد موت سيف الدولة في سنة سبع وخمسين وثلاثمئة على كَفَرْ طَاب وشَيْزَر وحَماة وعِرْقة وجَبَلَة ومعرة النعمان ومعرة مصرين وتِيزين، ثمّ فتح أنطاكية في سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.

وصارت وقعاته للروم والنصارى كالنُزَه والأعياد، وحكم في البلاد حكم ملوك الروم.

ولمّا رجع عن حلب سار إلى القسطنطينية مُغِذّاً فدخلها في صفر سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة، فوجد رومانوس قد مات، وليس في الملك ولداه بَسِيل وقُسْطَنْطين وهما صبيّان ووالدتهما (تفانوا) تدبرهما.

فلمّا وصل نقفور سلّموا الأمر إليه فدبّرهما مدّةً، ثمّ رأى أنّ استيلائه على الملك أصوب وأبلغ في الهيبة ؛ فلبس الخف الأحمر ودعا لنفسه بالملك وتحدّث مع البطرك في ذلك، فأشار عليه أن يتزوج (تفانوا) أم الصبيّين وأن يكون مشاركاً لهما في الملك، فاتفقوا على ذلك وألبسوه التاج، ثمّ خافت على ولديها منه فأعملت الحيلة ورتبت مع يانس بن شمشقيق أن تتزوج به.

وبات نقفور في البلاد في موضعه الذي جرت عادته به، فلمّا ثقل في نومه أدخلت يانس ومعه جماعة وشكلت رجل نقفور، فلما دخل يانس قام نقفور من نومه ليأخذ السيف فلم يستطع فقتله، ولم يتزوج بها يانس خوفاً منها.

ونعود إلى بقيّة أخبار سيف الدولة، فإنّه لمّا رحل الروم عن حلب عاد إليها، ودخلها في ذي الحجّة سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة، وعمّر ما خُرّب منها، وجدّد عمارة المسجد الجامع، وأقام سيف الدولة إلى سنة أربع وخمسين وثلاثمئة، وسار إلى ديار بكر بالبطارقة الذين كانوا في أسره ليفادي بهم، وأخذهم نجا وسار إلى ميافارقين فاستولى عليها، فلمّا وصل سيف الدولة، قال:

أروني نجا، فأروه إيّاه على برج، فوقف تحته وقال: يا نجا.

فقال: لبيك يا مولانا.

فقال: انزل.

فنزل في الوقت على رسمه، وخلع عليه وسلّم إليه البلد والبطارقة.

وقُتل نجا، قتله غلام سيف الدولة اسمه

٢٣٨

(قبجاج)(١) بحضرته، وكان سيف الدولة عليلاً فأمر به وقُتل قبجاج في الحال.

وسار سيف الدولة بالبطارقة إلى الفداء، ففدى بهم أبا فراس ابن عمّه وجماعةً من أهله وغلامه رقطاش ومَن كان بقي مِن شيوخ الحمصيين والحلبيين، ولمّا لم يبق معه من أسرى الروم أحد اشترى بقيّة المسلمين من العدوّ، كلّ رجلٍ باثنين وسبعين ديناراً حتّى نَفِدَ ما كان معه من المال، فاشترى الباقين ورهن عليهم بدَنَته الجوهر المعدومة المثل، وكاتبه أبو القاسم الحسين بن علي المغربي جدّ الوزير، وبقي في أيدي الروم إلى أن مات سيف الدولة، فحمل بقيّة المال وخلّص ابن المغربي.

ولمّا توجه سيف الدولة إلى الفداء ولّى في حلب غلامه وحاجبه قرعويه في سنة أربع وخمسين وثلاثمئة، فخرج على أعمال سيف الدولة مروان العُقَيْلي وكان من مستأمنة القرامطة، وكان مروان مع سيف الدولة حين توجّه إلى آمِد، وأقام سيف الدولة بكل ما يحتاج إليه عسكره، وأنفذ إليه ملك الروم هديّةً سَنيّة، فقتل مروان القرمطي رجلاً من أصحاب الرسول، فتلافى سيف الدولة ذلك وسيّر إلى ملك الروم هديّة سَنيّة وأفرد ديّة المقتول، واعتذر أنّ مروان فعل ذلك عن سُكر، فردّ الهديّة والتمس إنفاذ القاتل ليقيّده به أو يصفح عنه، فلم يفعل.

وانتقضت الهدنة وكان ذلك في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة.

وولّى بعد ذلك مروان السواحل، فلمّا توجّه سيف الدولة إلى الفداء، سار إلى ناحية حلب، فأنفذ إليه قرعويه غلاماً له اسمه بدر، فالتقيا غربي كفرطاب، فأخذه مروان أسيراً وقتله صبراً، وكسر العسكر، وملك حلب، وكتب إلى سيف الدولة بأنّه من قِبَله، فسكن إلى ذلك، وأخذ مروان في ظلم الناس بحلب ومصادرتهم فلم تطل مدّته وتوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمئة من ضربة ضربه بها بدر حين التقيا بِلَتٍّ في وجهه، وعاد الحاجب قرعويه إلى خلافة سيف الدولة.

وكان بأنطاكية رجلٌ يُقال له الحسن بن الأهوازي يضمن المستغَلاَّت لسيف الدولة، فاجتمع برجلٍ من وجوه أهل الثغر يُقال له رشيق النسيمي، وكان من القوّاد المقيمين بطرسوس، فاندفع إلى أنطاكية حين أخذ الروم

____________________

(١) نجاح كما جاء في (ابن الأزرق).

٢٣٩

طرسوس، وتولّى تدبير رشيق وأطمعه في أنّ سيف الدولة لا يعود إلى الشام، فطمع، فاتفق مع ملك الروم على أن يكون في حيّزه ويحمل إليه عن أنطاكية في كلّ سنةٍ ستمئة ألف درهم، وكان بأنطاكية من قبل سيف الدولة (تنج اليمكي) أو الثملي، فسار رشيق نحوه، فوثب أهل أنطاكية على تنج فأخرجوه وسلموا البلد إلى رشيق، فأطمع ابن الأهوازي رشيقاً بملك حلب لعلمه بضعف سيف الدولة واشتغاله بالفداء، وعمل له ابن الأهوازي كتاباً ذكر أنّه من الخليفة ببغداد، وبتقليده أعمال سيف الدولة، فقرئ على منبر أنطاكية، واجتمع لابن الأهوازي جملة من مال المُسْتَغَلّ، وطالب قوماً بودائع ذكر أنّها عندهم، واستخدم بتلك الأموال فرساناً ورجّالة، واستأمن إليه دِزْبَر بن أُوَيْنِم الديلمي وجماعة من الديلم الذين كانوا مع الحاجب قرعويه بحلب، فحصل مع رشيق نحو خمسة آلاف رجل، فسيّر إليه الحاجب غلامه يُمن في عسكر، فخرج إليه رشيق من أنطاكية، والتقوا بأرْتَاح، فاستأمن يُمن إلى رشيق، ومضى عسكره إلى حلب، وتوجّه رشيق إلى حلب ونازل حلب، وزحف على باب اليهود، فخرج إليه بشارة الخادم في جماعة، فقاتل إلى الظهر وانهزم بشارة، ودخل من باب اليهود، ودخلت خيل رشيق خلفه، واستولى رشيق على المدينة في اليوم الأوّل من ذي القعدة سنة أربع وخمسين وثلاثمئة، ونادوا بالأمان للرعيّة وقرأوا كتاباً مختلقاً عن الخليفة بتقليد رشيق أعمال سيف الدولة. وأقام رشيق يقاتل (بالقرب من باب القلعة) ثلاثة أشهر وعشرة أيّام، وفتح باب الفَرَج.

ونزل غلمان الحاجب من القلعة فحملوا على أصحاب رشيق فهزموهم وأخرجوهم من المدينة ؛ فركب رشيق ودخل من باب أنطاكية فبلغ إلى القلانسيين وخرج من باب قنّسرين ومضى إلى باب العراق، فنزل غلمان الحاجب وخرجوا من باب الفَرَج وهو الباب الصغير، ووقع القتال بينهم وبين أصحاب رشيق، فطعن ابن يزيد الشيباني رشيقاً فرماه، وكان ممّن استأمن من عسكر سيف الدولة إلى رشيق، وأخذ رأسه ومضى به إلى الحاجب قرعويه، وعاد الحاجب إلى حالته في خلافة الأمير سيف الدولة، وعاد عسكر رشيق إلى أنطاكية، فرأسوا عليهم دِزْبَر بن أُوَيْنِم الديلمي وعقدوا له الإمارة، واستوزر أبا علي بن الأهوازي، وقبل كلّ مَن وصل إليه من العرب والعجم.

وسار إليه الحاجب قرعويه إلى أنطاكية فأوقع به

٢٤٠