تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77568 / تحميل: 10059
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ويقول الحق : قد أزلت المطل واللّي ، وفصل هذا الأمر إليّ ، وانتصار(١) المظلوم من ظالمه عليّ ، لا تختصموا لديّ وقد قدمت لديكم بالوعيد ، أما أنذرتكم فيما مضى من الأيّام ؟ أما حذّرتكم بعواقب المعاصي والآثام ؟! أما وعدتكم بهذا اليوم من سائر الأيام ؟!( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ ) .

فالعياذ بالله من هذا الأمر المهول الذي يحار فيه الغافل الجهول ، وتذهل منه ذوي الألباب والعقول ، قد أعد للكافر اللعين ابن ملجم وللكافر يزيد ،( يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) .

فيا حسرة على العاصين حسرة لا يملك(٢) تلافيها ، ويا نصرة للمخلصين قد تكامل صافيها ، ادخلوا الجنّة( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) ، انظروا عباد الله فرق ما بين الفريقين بحضور القلب ، واغتنموا الصحّة قبل أن ينخلع القلب ، فاللذات تفنى ويبقى العار والثلب ،( إنّ في ذلك لذكرى لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما أصاب أحد همٌّ أو غمٌّ فقال : ( اللّهمّ إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، نفسي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضائك ، أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتبك ، أو علّمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور بصري ، وشفاء صدري ، وذهاب غمّي ، وجلاء حزني يا أرحم الراحمين ) إلاّ أذهب الله همّه وغمّه ، ونفّس كربه وقضى حوائجه .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو فيقول :( اللّهمّ اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما يبلغنا به جنّتك ، ومن اليقين ما يهوّن علينا

____________

(١) في ( ب ) : انتصاف .

(٢) في ( ب ) : يمكن .

١٦١

مصائب الدنيا ، ومتّعنا بأسماعنا ، وانصرنا على مَن عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ، ولا تسلّط علينا مَن لا يرحمنا ، اللّهمّ لك الحمد وإليك المشتكى ، وأنت المستعان وفيما عندك الرغبة ولديك غاية الطلبة .

اللّهمّ آمن روعتي ، واستر عورتي ، اللّهمّ أصلح ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح آخرتنا التي إليها منقلبنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والوفاة راحة لنا من كل سوء .

اللّهمّ إنّا نسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والغنيمة من كل برٍّ ، والسلامة من كل إثم ، يا موضع كل شكوى ، وشاهد كل نجوى ، وكاشف كل بلوى ، [فإنّك](١) تَرى ولا تُرى ، وأنت بالمنظر الأعلى ، أسألك الجنّة وما يقرّب إليها من قول أو فعل ، وأعوذ بك من النار وما يقرّب إليها من فعل أو قول .

اللّهمّ إنّي أسألك خير الخير رضوانك والجنّة ، وأعوذ بك من شر الشر سخطك والنار ، اللّهمّ إنّي أسألك خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، إنّك أنت علاّم الغيوب ) .

وروي عن ذي النون المصري أنّه قال : وجدت على صخرة في بيت المقدس مكتوب : ( كل خائف هارب ، وكل راج طالب ، وكل عاص مستوحش ، وكل طائع مستأنس ، وكل قانع عزيز ، وكل طالب ذليل ) ، فنظرت فإذا هذا الكلام أصل لكل شيء ، وكان يقول : يقدّر المقدّرون والقضاء يضحك منهم .

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٦٢

الباب الثاني والعشرون : في الذكر والمحافظة عليه

قال الله تعالى :( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) (١) .

وقال سبحانه في بعض كتبه :أهل ذكري في ضيافتي ، وأهل طاعتي في نعمتي ، وأهل شكري في زيادتي ، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن مرضوا فأنا طبيبهم ، أداويهم بالمحن والمصائب لأطهّرهم من الذنوب والمعايب (٢) .

وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام :إنّ بين الليل والنهار روضة يرتقي (٣) في نورها الأبرار ، ويتنعّم في حدائقها المتقون ، فذابوا سهراً من الليل وصياماً من النهار ، فعليكم بتلاوة القرآن في صدره ، والتضرّع والاستغفار في آخره وإذا ورد النهار فأحسنوا مصاحبته بفعل الخيرات وترك المنكرات ، وترك ما يرديكم (٤) من

____________

(١) البقرة : ١٥٢ .

(٢) راجع عدة الداعي : ٢٥٢ ، عنه البحار ٧٧ : ٤٢ ح١٠ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٣) في ( ج ) : يرتع .

(٤) في ( الف ) : يؤذيكم .

١٦٣

محقّرات الذنوب ، فإنّها مشرفة بكم إلى قبائح العيوب ، وكأنّ الموت قد دهمكم ، والساعة قد غشيتكم ، فإنّ الحادي قد حدا بكم مجدّاً لا يلوي دون غايتكم ، فاحذروا ندامة التفريط حيث لا تنفع الندامة إذا زلّت الأقدام .

وقالعليه‌السلام :[قال الله سبحانه :] (١) إذا عصاني مَن يعرفني سلّطت عليه مَن لا يعرفني (٢) .

وقالعليه‌السلام :المؤمن نطقه ذكر ، وصمته فكر ، ونظره اعتبار .

وقالعليه‌السلام :إنّ عدوّي يأتيني في الحاجة فأُبادر إلى قضائها خوفاً أن يسبقني أحد إليها وأن يستغني عنّي فتفوتني فضيلتها .

وسُئل عن الزاهد فقال :هو المبتلغ (٣) بدون قوته ، المستعد ليوم موته .

وقال :الدنيا سبات ، والآخرة يقظة ، ونحن بينهما أضغاث أحلام .

وقال :أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ، ومن طاعة الشيطان إذا حرد (٤) .

وخطب عمر بن عبد العزيز فقال : أيّها الناس إنّكم لم تخلقوا عبثاً ، ولم تتركوا سدى ، وأنّ لكم معاداً يجمعكم الله فيه ليوم الفصل والحكم بينكم ، وقد خاب وخسر مَن أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنّته التي عرضها السماوات والأرض بسوء عمله ، وإنّ الأمان غداً لمَن باع قليلاً بكثير ، وفانياً بباق ، وشقاوة بسعادة .

ألا ترون أنّكم أخلاف الماضين ويستخلفكم الله قوماً آخرون ، يأخذون تراثكم ، ويبوّء بكم أجداثكم ، وفي كل يوم تجهزون غادياً ورائحاً قد قضى نحبه

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) الكافي ٢ : ٢٧٦ ح٣٠ ، عنه البحار ٧٣ : ٣٤٣ ح٢٧ .

(٣) في ( ج ) : المتبلّغ .

(٤) حرد : غضب (القاموس) .

١٦٤

ولقى ربه ، فتجعلونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد ، قد خلع الأسلاب(١) ، وسكن التراب ، وفارق الأحباب ، وواجه الحساب ، أصبح فقيراً إلى ما قدم ، غنيّاً عمّا خلّف ، ولا يزيد من حسنة ولا ينقص من سيّئة .

واعلموا أنّ لكل سفر زاداً لابد منه ، فتزوّدوا لسفركم التقوى ، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه لترغبوا وترهبوا ، ولا يغرّنّكم الأمل ، ولا يطولنّ عليكم الأمد ، فإنّه والله ما بسط أمل مَن لا يدري إذا أصبح أنّه يمسي ، وإذا أمسى أنّه يصبح ، وبين ذلك خطفات المنايا ، وخطرات الأمل من الشيطان الغرور .

يزيّن لكم المعصية لتركبوها ، ويمنّيكم التوبة لتسوّفوها(٢) حتّى تأتي المنيّة أغفل ما يكون عنها ، فلا تركنوا إلى غروره فيصيدكم بشركه ، واعلموا إنّما يغتبط ويطمئنّ مَن وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة ، فأمّا مَن لا يدري ربّه ساخط عليه أم راض عنه كيف يطمئن ، أعوذ بالله من أن آمركم أو أنهاكم بما أخالفكم فيه فتخسر صفقتي ، وتعظم عولتي(٣) يوم لا ينجي منه إلاّ الحق والصدق ، ولا يفوز إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أيّها الناس استقيموا إلى ربّكم كما قال تعالى : ( فاستقيموا إليه واستغفروه ) (٤) وقال سبحانه :( إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ) (٥) .

أيّها الناس لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم ، واعلموا أنّ من لم يكن مستقيماً في صفته لم يرتق من مقام إلى

____________

(١) في ( ج ) : الأسباب .

(٢) في ( ج ) : لتنسوها .

(٣) في ( ب ) و )ج ) : لوعتي .

(٤) فصلت : ٦ .

(٥) فصلت : ٣٠ .

١٦٥

غيره ، ولم يتبيّن سلوكه على صحّة ، ولا تخرجوا عن عز التقوى إلى ذل المعصية ، ولا من أُنس الطاعة إلى وحشة الخطيئة ، ولا تسرّوا لإخوانكم غشاً فانّه مَن أسرّ لأخيه غشاً أظهره الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه ، فأورثه به الذلّ في الدنيا والخزي والعذاب والندامة في الآخرة فأصبح من الخاسرين أعمالاً .

وقال الصادقعليه‌السلام : ثلاثة لا يضرّ معهم شيء :الدعاء عند الكربات ، والاستغفار عند الذنب ، والشكر عند النعمة (١) .

وقالعليه‌السلام : في حكمة آل داود :يا ابن آدم كيف تتكلّم بالهدى وأنت لا تفيق عن الردى ، يا ابن آدم أصبح قلبك قاسياً ، ولعظمة الله ناسياً ، ولو كنت بالله عالماً وبعظمته عارفاً لم تزل منه خائفاً ، ولموعده راجياً ، فيا ويحك كيف لا تذكر لحدك ، وانفرادك فيه وحدك (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد السيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : لا تعجل وانظره سبع ساعات [لعلّه يستغفر] ، فإذا مضى سبع ساعات ولم يستغفر قال : اكتب فما أقلّ حياء هذا العبد (٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام :إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على سعد بن معاذ وقال : لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك وفيهم جبرئيل يصلّون عليه ، فقلت : يا جبرئيل بما استحق صلاتكم عليه ؟ قال : بقراءته ( قل هو الله أحد ) قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائيا ً(٤) .

____________

(١) مشكاة الأنوار : ٣٠ ، عنه البحار ٧١ : ٥٥ ح٨٦ .

(٢) أمالي الطوسي : ٢٠٣ ح٣٤٦ ، عنه البحار ١٤ : ٣٦ ح١٠ .

(٣) أمالي الطوسي : ٢٠٧ ح٣٥٥ ، عنه البحار ٧١ : ٢٤٧ ح٥ .

(٤) أمالي الطوسي : ٤٣٧ ح٩٧٥ ، عنه البحار ٢٢ : ١٠٨ ح٧٢ ، وأمالي الصدوق : ٣٢٣ ح٥ مجلس : ٦٢ ، وفي مجموعة ورام ٢ : ١٦٩ .

١٦٦

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة ، فرأيت فيها قصراً من ياقوت أحمر ، يرى باطنه من ظاهره لضيائه ونوره وفيه قبّتان من درٍّ وزبرجد ، فقلت : يا جبرئيل لمَن هذا القصر ؟ قال : هو لمَن أطاب الكلام ، وأدام الصيام ، وأطعم الطعام ، وتهجّد بالليل والناس نيام .

قال عليعليه‌السلام : وفي أمّتك مَن يطيق ذلك يا رسول الله ؟ قال : أتدري ما إطابة الكلام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن قال : ( سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر ) ، أتدري ما إدامة الصيام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن صام شهر الصبر شهر رمضان ولم يفطر يوماً .

أتدري ما إطعام الطعام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن طلب لعياله ما يكف به وجوههم عن الناس ، أتدري ما التهجّد بالليل والناس نيام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن لم ينم حتّى يصلّي العشاء الآخرة ، والناس من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين نيام بينهما(١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة ، فرأيت فيها قيعاناً بقعاً (٢) من مسك ، ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضّة وربما أمسكوا ، فقلت لهم : ما بالكم ربّما بنيتم وربّما أمسكتم ؟ فقالوا : حتّى تجيئنا النفقة ، قلت : وما نفقتكم ؟ قالوا : قول المؤمن ( سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر ) فإذا قالهنّ بنينا ، وإذا سكت وأمسك أمسكنا (٣) .

____________

(١) أمالي الطوسي : ٤٥٨ ح١٠٢٤ ، عنه البحار ٦٩ : ٣٨٨ ح٥٨ ، معالم الزلفى : ٢٨١ .

(٢) في أمالي الطوسي : يققاً ، أي بيضاً .

(٣) أمالي الطوسي : ٤٧٤ ح١٠٣٥ ، عنه البحار ٩٣ : ١٦٩ ح٧ ، معالم الزلفى : ٢٨١ .

١٦٧

الباب الثالث والعشرون : في فضل صلاة الليل

قال الله تعالى :( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون ) (١) .

وقال :( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون ) (٢) .

وقال سبحانه :( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه ) (٣) .

وقال :( والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً ) (٤) .

وقال :( ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً

____________

(١) الذاريات : ١٧ و١٨ .

(٢) السجدة : ١٦ .

(٣) الزمر : ٩ .

(٤) الفرقان : ٦٤ .

١٦٨

محموداً ) (١) .

وقال سبحانه :( يا أيّها المزمّل * قم الليل إلاّ قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلاً ) (٢) .

وما كان الله ليدعو نبيّه إلاّ لأمر جليل وفضل جزيل ، فقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :شرف المؤمن صلاته بالليل ، وعزّه استغناؤه عن الناس (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى مناد : ليقم الذين كانوا تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً ، فيقومون وهم قليل ، فيحاسب الله الناس من بعدهم .

[(٤) وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ في جنّة عدن شجرة تخرج منها خيل بلق مسرّجة بالياقوت والزبرجد ، ذوات أجنحة لا تروث ولا تبول ، يركبها أولياء الله ، فتطير بهم في الجنّة حيث شاؤوا .

قال : فيناديهم أهل الجنّة : يا إخواننا ما أنصفتمونا ، ثم يقولون : ربّنا بماذا أنال عبادك منك هذه الكرامة الجليلة دوننا ؟ فيناديهم ملك من بطان العرش : إنّهم كانوا يقومون الليل وكنتم تنامون ، وكانوا يصومون وكنتم تأكلون ، وكانوا يتصدّقون بمالهم لوجه الله تعالى وأنتم تبخلون(٥) ، وكانوا يذكّرون الله كثيراً لا يفترون ، وكانوا يبكون من خشية ربّهم وهم مشفقون(٦) .

____________

(١) الإسراء : ٧٩ .

(٢) المزمل : ١ـ٤ .

(٣) الكافي ٢ : ١٤٨ ح١ ، عنه البحار ٧٥ : ١٠٩ ح١٤ .

(٤) من هنا إلى ص ١٨١ لم يكن في ( ألف ) و ( ب ) ، وأثبتناه من ( ج ) و ( د ) .

(٥) في ( د ) : تمسكون .

(٦) أمالي الصدوق : ٢٣٩ ح١٤ مجلس ٤٨ ، عنه البحار ٨٧ : ١٣٩ ح٧ .

١٦٩

وكان ممّا ناجى به الباري تعالى داود عليه‌السلام : يا داود عليك بالاستغفار في دلج الليل والأسحار ، يا داود إذا جنّ عليك الليل فانظر إلى ارتفاع النجوم في السماء وسبّحني ، وأكثر من ذكري حتّى أذكرك .

يا داود إنّ المتقين لا ينامون ليلهم إلاّ بصلاتهم إليّ ، ولا يقطعون نهارهم إلاّ بذكري ، يا داود إنّ العارفين بي كحلوا أعينهم بمرود السهر ، وقاموا ليلهم يسهرون ، يطلبون بذلك مرضاتي(١) ، يا داود إنّه مَن يصلّي بالليل والناس نيام يريد بذلك وجهي ، فإنّي آمر ملائكتي أن يستغفروا له وتشتاق إليه جنّتي ، ويدعو له كل رطب ويابس .

يا داود اسمع ما أقول والحق أقول : إنّي أرحم بعبدي المذنب من نفسه لنفسه ، وأنا أحب عبدي ما لا يحبني ، واستحي منه ما لا يستحي منّي .

وصيّة : واعلم يا أخي أنّ الليل والنهار لا يفتران من سيرهما ، وإنّما يسيران بنقص عمر ابن آدم وهما ساعات ولحظات ، فإذا لهوت مع سرعة سيرهما لحظة ، واشتغلت عن الصلاة والذكر لحظة أُخرى ، ذهبت ساعات النهار كلها في غفلة ، ثم جاء الليل فإن نمته كلّه كنت ممّن لا خير فيه ليلاً ولا نهاراً ، ومَن كان هذا حاله فموته خير له من حياته ؛ لأنّه قد مات قلبه ولا خير في حياة جسد(٢) قد مات قلبه .

ولله درّ القائل :

أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم

وكيف يلذّ النوم حيران هائم

فلو كنت يقظان الغداة لحرقك (٣)

مدامع عينيك الدموع السواجم

نهارك يا مغرور لهو وغفلة

وليلك نوم والردى لك لازم

____________

(١) في ( د ) : قاموا بأرجلهم يطلبون . .

(٢) في ( د ) : حيّ .

(٣) في ( د ) : لحرقت .

١٧٠

وسعيك ممّا سوف تكره عنده

وعيشك في الدنيا كعيش البهائم

تسر بما يفنى وتفرح بالمنى

كما سرّ باللذات في النوم حالم

فلا أنت في اليقظان يقظان ذاكر

ولا أنت في النوم ناجٍ وسالم

ثم قال : يا جيفة بالليل بطالة بالنهار ، تعمل عمل الفجّار وأنت تطلب منازل الأبرار ، هيهات هيهات كم تضرب في حديد بارد .

وقد ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليس (١) من بني آدم إلاّ وفي غفلة ونقص ، ألا ترى إذا نمى له مال بالزيادة فيسر بذلك ، وهذا الليل والنهار يجريان بطيّ عمره فلا يهمّه ذلك ولا يحزنه ، وما يغني عنه مال يزيد وعمر ينقص ، [ودين يذهب] (٢) .

وقد قيل لرجل : إنّ فلاناً استفاد مالاً ، فقال له : فهل استفاد أيّاماً يتفقّه(٣) فيها ؟ .

وقيل : إنّ لله ملكاً ينادي : يا أبناء الخمسين زرع قد دنا حصاده ، ويا أبناء الستين ماذا قدمتم لأنفسكم من العمل الصالح ، وماذا أخّرتم من أموالكم لمَن لا يترحّم عليكم ، ويا أبناء السبعين عدوا أنفسكم من الموتى .

ليت الخلائق لم يخلقوا ، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا ، فاعرف يا أخي ذلك وبادر لعمل الخير ، ثم بادر قبل أن ينزل بك ما تحاذر ، ولا يلهيك أحد من الناس عن صلاتك ودعائك وذكرك ربّك ، فيرفعان الملكان رقيب وعتيد دون ما كان يرفعان من عملك من قبل ، والله لا يرضى منك بذلك بل يريد من عبده أن يزيد كل يوم في طاعته أكثر ممّا كانت .

____________

(١) في ( ج ) : قليل .

(٢) أثبتناه من ( د ) .

(٣) في ( د ) : ينفعه .

١٧١

وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومَن كان غده شراً فهو ملعون ، ومَن لم يتفقّد النقصان في عمله (١) كان النقصان في عقله ، ومَن كان نقصان في عمله (٢) وعقله فالموت خير له من حياته (٣) .

واعلم يا أخي أنّ العقلاء العارفين بالله المجتهدين في تحصيل رضى الله ، تراهم عامة ليلهم بذكر ربهم يتلذّذون ، وفي عبادته يتقلّبون ما بين صلاة نافلة ، وقرآءة سورة ، وتسبيح واستغفار ، ودعاء وتضرّع ، وابتهال وبكاء من خشيته ، لا ينامون من ليلهم إلاّ ما غلبوا عليه وما أراحوا به أبدانهم ، فهم الرجال الأخيار ، ووصفك وصف اغترار(٤) ، جيفة بالليل بطّال بالنهار ، تعتذر في ترك القيام بالليل بأعذار كاذبة .

تقول : أنا ضعيف القوى ، أنا تاعب بكدر الدنيا ، بي مرض وصداع ، وتجمع بالبرد في الشتاء والحر في الصيف وهذه أعذار كاذبة ، ولو أنّ سلطاناً أعطاك ديناراً أو كسوة وأمرك أن تقف ببابه تحرسه بالليل لبادرت إلى ذلك ، لا بل لو قال لك : خذ سلاحك واخرج قدّامي تحارب عدوي ، لبذلت روحك العزيزة دونه وإن قتلت .

وكم من إنسان يأخذ درهماً أجرة له على حراسة زرع غيره ، أو ثمرة غيره ، ويسهر الليل كله في برد شديد وحرّ عظيم ، ولو أنّك أردت سفراً أو عملاً من أعمال الدنيا لسهرت عامة الليل في تعبية أشغالك(٥) ، وتحفظ تجارتك ، ولم تعتذر بتلك الأعذار عن خدمة ربّك .

وهذا يدل على كذبك ، وضعف يقينك بما وعد الله العاملين(٦) بالثواب والجنّة على الطاعة ، فإنّك قد أطعت في ذلك نفسك الأمّارة بالسوء ، وأطعت إبليس وقد

____________

(١) في ( د ) : في جسده .

(٢) في ( د ) : في جسده .

(٣) البحار ٧١ : ١٧٣ ح٥ ، عن أمالي الصدوق نحوه .

(٤) في ( د ) : يوصفك بوصف الاختيار .

(٥) في ( د ) : بقية أسفارك .

(٦) في ( د ) : العالمين .

١٧٢

حذّرك الله من طاعته ، فقال تعالى :( إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) (١) .

وقال تعالى :( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ) (٢) ، فاحذر(٣) نفسك يا أخي من طول الرقاد ، واعبد ربّك حتّى تبلغ منه المراد .

ولله درّ بعض الزهّاد حيث قال :

حبيبي تجاف من المهاد

خوف من الموت والمعاد

مَن خاف من سكرة المنايا

لم يدر ما لذّة الرقاد

قد بلغ الزرع منتهاه

لابدّ للزرع من حصاد

فاستيقظ يا أخي من رقدتك ، فقد مضى من عمرك أكثره في غفلة ونوم ، ولا تنس نصيبك من قيام الليل فيما بقي من عمرك لتكون خاتمتك خاتمة خير ، فاغتنمها تغنم ، ولا تغفل عنها فتندم ، فقد سمّى الله تعالى يوم القيامة يوم الحسرة والندامة ، وسمّاها في موضع آخر يوم التغابن .

وروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : ما من مخلوق يوم القيامة إلاّ ويندم ولكن لا تنفعه الندامة ، فأمّا السعيد إذا رأى الجنّة وما أعد الله فيها لأوليائه المتقين يندم حيث لا عمل له مثل عملهم ، ويريد من العبادة أكثر منهم لينال درجتهم العليا في الفردوس الأعلى ، وإن كان من الأشقياء إذا رأى النار وزفيرها وما أعدّ الله فيها من العذاب الأليم ، صرخ وندم حيث لم يكن أقلع من ذنوبه ومعاصيه ليسلم ممّا هو فيه .

____________

(١) الفاطر : ٦ .

(٢) البقرة : ٢٦٨ .

(٣) في ( د ) : فازجر .

١٧٣

فهذه هي الطامة الكبرى ، فاستدرك يا أخي ما فرّطت من أمرك ، واسكب الدمع بكاءً على نفسك حيث لم تكن صالحاً للقيام بباب ربّك فأنامك ، ولو علم انّك صالح للقيام لأقامك بالبدار قبل نفاد(١) الأعمار ، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة وعلى قدر ما تزرعه في الدنيا تحصده في الآخرة ، وقد أمر الباري عزّ وجل عباده بالمسارعة إلى الطاعات والاستباق إليها ، فقال تعالى :( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) (٢) .

ومَن نام عن العبادات سائر ليله لم يمتثل ما أمره الله به من المسارعة إلى المغفرة ، ودخول الجنّة العريضة التي أعدها للعاملين(٣) ، واعلم أنّ مَن نام عامة ليله كان ذلك دليل على أنّه عمل في نهاره ذنباً عظيماً فعاقبه الله ، فطرده عن بابه ومرافقة العابدين الذين هم أحباؤه ، ولو علم النائم عن صلاة الليل ما فاته من الثواب العظيم والأجر المقيم لطال بكائه عليه .

وعن ابن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :حسب الرجل من الخيبة أن يبيت ليله لا يصلّي فيها ركعتين ، ولا يذكر الله فيها حتّى يصبح .

وقيل : يا رسول الله إنّ فلاناً نام البارحة عن ورده حتّى أصبح ، قال :ذلك الرجل بال الشيطان في أذنه فلم يستيقظ .

وكان بعض العباد يصلّي عامة الليل فإذا كان السحر أنشد يقول :

ألا يا عين ويحك أسعديني

بطول الدمع في ظلم الليالي

لعلّك في القيامة أن تفوزي

بحور العين في قصر اللئالي

وقال بعض العابدين : رأيت في منامي كأنّي على شاطئ نهر يجري بالمسك الأذفر ، وعلى حافته شجر من اللؤلؤ وقصب الذهب ، وإذا بجوار مزينات لابسات

____________

(١) في ( د ) : انقضاء .

(٢) الحديد : ٢١ .

(٣) في ( د ) : أعدها الله للعابدين .

١٧٤

ثياب السندس ، كأنّ وجوههنّ الأقمار ، وهنّ يقلن : سبحان المسبّح بكل لسان سبحانه ، سبحان الموجود في كل مكان سبحانه ، سبحان الدائم في كل الأزمان سبحانه ، فقلت لهنّ : مَن أنتنّ ؟ فقلن :

ذرأنا إله النّاس ربّ محمّد

لقوم على الأطراف بالليل قوّم (١)

يناجون ربّ العالمين إلههم

وتسري حمول القوم والناس نوّم

فقلت : بخ بخ لهؤلاء القوم ، مَن هم ؟ فقلن : هؤلاء المتهجّدون بالليل بتلاوة القرآن ، الذاكرون الله كثيراً في السر والإعلان ، المنفقين والمستغفرين بالأسحار .

فعاتب يا أخي نفسك ، ولا تقبل منها اعتذارها في ترك القيام ، فتلك معاذير كاذبة ، فقوّام الليل تحمّلوا السهر والقيام والقعود ، وصبروا صبراً جميلاً ، أعقبهم ذلك راحة طويلة في نعمة لا انقطاع لها .

وأنت يا مسكين لو صبرت صبرهم وعملت مثل عملهم فزت بما فازوا ، ولكنّك آثرت لذّات الرقاد على تحصيل الزاد ، ولم تجد الزاد ولم تَجُد بمالك على المساكين من العباد ، فآثر الله عليك العباد الزهاد ، فقرّبهم وأبعدك ، وأدناهم من بابه وطردك .

واعلم أنّك إذا لم تنشط(٢) لأفعال الخير وعبادة الله ، فاعلم أنّك مكبّل مقيّد قد قيّدتك ذنوبك وخطاياك ، فسابق يا أخي العابدين بسهر الليل لتسبقهم إلى جنّات العلى ، فالليل أسبق جواد ركبه الصالحون إلى رفيع الدرجات من الجنّات ، فتكون ممّن مدحهم الله في كتابه العزيز ، فقال تعالى :( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون ) (٣) .

____________

(١) في ( د ) : ساجد .

(٢) في ( د ) : تمشي .

(٣) السجدة : ١٦ .

١٧٥

فانظروا إلى ما مدحه الله به المصلّين بالليل ، المنفقين ممّا رزقهم الله على المستحقين ، وإن خفت ألاّ تستيقظ للصلاة بعد النوم فخذ حظّك من الصلاة قبل النوم ، وإيّاك أن تغفل عن الاستغفار في وقت الأسحار ، فذلك وقت لا تنام فيه الأطيار بل ترفع أصواتها بالتسبيح والأذكار ، وعليك بتلاوة الأدعية والمناجاة فإنّ الدعاء مخ العبادة .

وإن كنت ولابد من النوم(١) فاستيقظ منه ساعة للتوبة والبكاء والدعاء ، فإن غفلت ونمت الليل كله حتّى ساعة الدعاء فقد مات قلبك ، ومَن مات قلبه أبعده الله عن قربه .

قلت : وأقلّ حالات المؤمن أن يصلّي في ليله أربع ركعات من صلاة الليل ، وأدنى من ذلك أن يقرأ مائة آية من كتاب الله العزيز ، ثم يسبّح الله تعالى ويدعو لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ، ثم يستغفر الله تعالى حتّى لا يكتب في ديوان الغافلين .

اعلم أنّ الصلاة بين المغرب والعشاء لها فضل عظيم ، وهي صلاة الأوّابين ، وروي أنّها تسمّى ساعة الغفلة ، وهي ركعتين بين المغرب والعشاء ، يُقرأ في الأُولى ( الحمد ) و( ذا النون إذ ذهب مغاضب ) ، وفي الثانية ( الحمد ) و( وعنده مفاتح الغيب ) وهي أفضل عند الله من صوم النهار .

واعلم يا أخي إنّك إذا عملت الطاعات وواظبت على العبادات ، من صيام أو صدقة أو بر أو صلة رحم ، فاقصد به وجه الله تعالى خالصاً مخلصاً من الرياء المحبط للأفعال ، واتبع فيه قول الله تعالى :( ولدار الآخرة خير ) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله تعالى يقول : لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل مخلصاً لي حتّى أُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي

____________

(١) في ( د ) : فإن كنت غافلاً بعض الليل للنوم .

(٢) يوسف : ١٠٩ .

١٧٦

يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، إن سألني أعطيته وإن استعاذني أعذته (١) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا قام العبد من مضجعه والنعاس في عينيه ليرضي ربّه بصلاة الليل ، باهى الله به ملائكته فيقول : أما ترون عبدي هذا قام من مضجعه ، وترك لذيذ منامه إلى ما لم أفرضه عليه ، اشهدوا أنّي قد غفرت له (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :استعينوا بطعام السحر على صيام النهار ، وبالقيلولة على قيام الليل ، وما نام الليل كله أحد إلاّ بال الشيطان في أُذنه (٤) ، وجاء يوم القيامة مفلساً ، وما من أحد إلاّ وله ملك يوقظه من نومه كل ليلة مرّتين ، يقول : يا عبد الله اقعد لتذكر ربّك ، ففي الثالثة إن لم ينتبه يبول الشيطان في أُذنه .

روت عائشة قالت : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم من فراشه ويصلّي ويقرأ القرآن ويبكي ، ثم يجلس يقرأ ويدعو ويبكي حتّى إذا فرغ اضطجع وهو يقرأ ويبكي حتّى بلّت الدموع خدّيه ولحيته ، قلت : يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ قال :بلى ، أفلا أكون عبداً شكوراً .

وقال :الشتاء ربيع المؤمن ، قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه (٥) .

وقال :مَن خاف أن ينام عن صلاة الليل فليقرأ عند منامه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٦) .

ويقول : اللّهمّ أنبهني لأحبّ الساعات إليك ، فأدعوك فتجيبني ، وأسألك

____________

(١) البحار ٨٧ : ٣١ ح١٥ ، عن المحاسن .

(٢) إلى هنا تمّ ما نقلناه من نسخة ( ج ) و ( د ) .

(٣) روضة الواعظين : ٣٢٠ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٦ ح٤٠ ، معالم الزلفى : ٤٥ .

(٤) في ( ج ) : أُذنيه .

(٥) معاني الأخبار : ٢٢٨ ، عنه البحار ٨٣ : ١٣٣ ح١٠٢ .

(٦) الكهف : ١١٠ .

١٧٧

فتعطيني ، واستغفرك فتغفر لي ويقول : اللّهمّ ابعثني من مضجعي لذكرك (١) وشكرك وصلاتك واستغفارك ، وتلاوة كتابك ، وحسن عبادتك يا أرحم الراحمين (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ البيوت التي يُصلّى فيها بالليل ويُتلى فيها القرآن تضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض (٣) .

واعلموا علماً يقيناً أنّه ما تقرّب المؤمن بقربان أعظم عند الله سبحانه وأفضل من صلاة الليل ، والتسبيح والتهليل بعدها ومناجات ربّه العزيز الحميد ، والاستغفار من ذنوبه ، وأدعية صلاة الليل ببكاء وخشوع ، ثم قرآءة القرآن إلى طلوع الفجر وإيصال صلاة الليل بصلاة النهار ، فإنّي أُبشّره بالرزق الواسع بالدنيا من غير كدٍّ ولا تعب ولا نصب ، وبعافية شاملة في جسده ، وأُبشّره إذا مات بالنعيم في قبره من الجنّة ، وضياء قبره بنور صلاته تلك إلى يوم محشره .

وأُبشّره بأنّ الله تعالى لا يحاسبه ، وأن يأمر الملائكة تدخله الجنّة في أعلى عليين في جوار محمد وأهل بيته الطاهرين ، فيا لها من فرصة ما أحسن عاقبتها إذا سلمت من الرياء والعجب .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيّته لأمير المؤمنينعليه‌السلام :وعليك بصلاة الليل ـ وكرّر ذلك ثلاثاً(٤) .

وقال :ألا ترون إلى المصلّين بالليل وهم أحسن الناس وجوهاً ؛ لأنّهم خلوا بالليل لله سبحانه فكساهم من نوره (٥) .

وسُئل الباقرعليه‌السلام عن وقت صلاة الليل فقال :هو الوقت الذي جاء

____________

(١) في ( ب ) : أيقظني لذكرك .

(٢) عنه البحار ٨٧ : ١٧٣ ح٢ .

(٣) روضة الواعظين : ٣٢١ .

(٤) البحار ٨٧ : ١٥٧ ح٤٢ ، عن روضة الواعظين .

(٥) علل الشرائع : ٣٦٥ ح١ باب٨٧ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٩ ح ٤٨ .

١٧٨

عن جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ لله تعالى منادياً ينادي في السحر : هل من داع فأُجيبه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من طالب فأعطيه ؟ .

ثم قال :هو الوقت الذي وَعَدَ فيه يعقوب بنيه أن يستغفر لهم ، وهو الذي مدح فيه المستغفرين فقال : ( والمستغفرين بالأسحار ) (١) إنّ صلاة الليل في آخره أفضل من أوّله ، وهو وقت الإجابة ، والصلاة فيه هدية المؤمن إلى ربّه ، فأحسنوا هداياكم إلى ربّكم يحسن الله جوائزكم ، فإنّه لا يواظب عليها إلاّ مؤمن صدّيق (٢) .

واعلم أيّدك الله أنّ صلاة الليل من أوّل نصفه الأخير لمَن يطول في قراءته ودعائه أفضل ، وهي في آخره لمن يقتصر أفضل .

وقال الصادقعليه‌السلام :لا تعطوا العين حظّها من النوم فإنّها أقلّ شيء شكراً (٣) .

وروي أنّ الرجل يكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل ، فإذا حرم صلاة الليل حرم بذلك الرزق(٤) .

وقالعليه‌السلام :كذب مَن زعم أنّه يصلّي صلاة الليل ويجوع بالنهار (٥) .

وفيما أوحى الله إلى موسى بن عمران :لو رأيت الذين يصلّون لي في [ظلم] (٦) الدياجي وقد مثّلت نفسي بين أعينهم (٧) وهم يخاطبوني وقد جليت عن المشاهدة ، ويكلّموني وقد تعزّزت عن الحضور ، يا ابن عمران ! هب لي من عينيك الدموع ، ومن قلبك الخشوع ، ومن بدنك الخضوع ، ثم ادعني في ظلم الليالي تجدني قريباً

____________

(١) آل عمران : ١٧ .

(٢) عنه البحار ٨٧ : ٢٢٢ ح٣٢ .

(٣) البحار ٨٧ : ١٥٦ ح٣٩ ، عن عدّة الداعي .

(٤) عنه معالم الزلفى : ٤٥ .

(٥) روضة الواعظين : ٣٢١ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٧ ح٤٢ ، والمحاسن ١ : ١٢٥ ح١٤١ .

(٦) أثبتناه من ( ب ) .

(٧) في ( ب ) : أيديهم .

١٧٩

مجيباً ، يا ابن عمران ! كذب مَن يقول (١) إنّه يحبّني وإذا جنّه الليل نام عنّي (٢) .

وروي عن المفضل بن صالح قال : قال لي مولاي الصادقعليه‌السلام :يا مفضل إنّ لله تعالى عباداً عاملوه بخالص من سرّهم فقابلهم (٣) بخالص من برّه ، فهم الذين تمرّ صحفهم يوم القيامة فرغاً ، فإذا وقفوا بين يديه ملأها لهم من سرّ ما أسرّوا إليه ، فقلت : وكيف ذلك يا مولاي ؟ فقال :أجلّهم أن تطّلع الحفظة على ما بينه وبينهم (٤) .

وفي هذا دلالة على أنّ الإخفاء بها أفضل من الإجهار بها ، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( خير العبادة أخفاها ، وخير الذكر الخفي ) وقولهعليه‌السلام :( صلاة السر تزيد على الجهر بسبعين ضعف ) ، ومدح الله تعالى زكريا إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً ، وقال سبحانه :( واذكر ربّك تضرّعاً وخيفة ودون الجهر من القول ) (٥) وهذا صريح في فضل إخفائها .

وسمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوماً يرفعون أصواتهم بالدعاء ، فقال :على رسلكم إنّما تدعون سميعاً بصيراً حاضراً معكم (٦) .

وما ورد من استحباب الجهر في صلاة الليل فإنّه يختصّ بالقراءة دون الدعاء ، واعلم أنّ كيفيّة رفع اليدين في الصلاة أن تكونا مبسوطتين تحاذي صدر الإنسان .

[وعن سعد بن يسار قال :](٧) قال الصادقعليه‌السلام :هكذا الرغبة ـ وأبرز

____________

(١) في ( ج ) : زعم .

(٢) البحار ١٣ : ٣٦١ ح٧٨ ، عن عدّة الداعي .

(٣) في ( ج ) : فعاملهم .

(٤) عنه البحار ٧٠ : ٢٥٢ ح٧ ، ومعالم الزلفى : ٢٤٧ .

(٥) الأعراف : ٢٠٥ .

(٦) البحار ٩٣ : ٣٤٣ ح١٢ نحوه .

(٧) أثبتناه من ( ب ) .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ومنها:

تـبوح بفضلك الدنيا لتحظى بـذاك وأنت تكره أن تبوحا

ومـا للمسك في أَن فاح حظٌّ ولـكن حـظّنا في أن يفوحا

وقـد بـلغ الضراح وساكنيه ثناك وزار من سكن الضريحا

وقـد شرَّفتني ورفعت إسمي بـه وأنـلتني الحظّ الربيحا

أجل ولو أنّ علم الغيب عندي لـقلت أفـدتني أجلاً فسيحا

وكون جوابه في الوزن ذنب ولـكن لم تزل مولى صفوحا

وذلك أنّ شعرك طال شعري فـما نلت النسيب ولا المديحا

ومن لم يستطع أعلام رضوى لـينزل بعضها نزل السفوحا

شـققت البحر من أدبٍ وفهمٍ وغرَّق فكرك الفكر الطموحا

لـعبت بسحرنا والشعر سحرٌ فـتبنا مـنه توبتنا النصوحا

فلو صحّ التناسخ كنت موسى وكـان أبوك إسحاق الذبيح

اوفي سقط الزند قصائد أُخرى، لا أستبعد أنّها في ممدوحه فتركت الاختيار منها ؛ لأنّها لم تعنون باسمه ولم يلقّب بالمرتجم بممدوح أبي العلاء إلاّ لمدحه له بأكثر من القصيدتين اللتين اخترنا منهما ما اخترناه. وبعد فإنّا نختم هذا الفصل بإيراد ما يتّسع له المجال من قصيدته التي رثاه بها، قال:

بني الحسب الوضّاح والشرف الجمِّ لـسانيَ إن لم أرثِ والدكم خصمي

شـكوت مـن الأيّـام تبديل غادرٍ بـوافٍ ونـقلاً من سرورٍ إلى همِّ

وحـالاً كـريش النسر بينا رأيته جـناحاً لشهم آض ريشاً على سهمِ

فـيا دافـنيه فـي الثرى إنّ لحده مـقرّ الـثريّا فـادفنوه عـلى علمِ

ويـا حـاملي أعـواده إنّ فـوقها سـماوي سـر فاتقوا كوكب الرجمِ

ومـا نـعشه إلاّ كـنعشٍ وجـدته أبـاً لـبناتٍ لا يـخفن مـن اليتمِ

ومنها:

فـيا قـلب لا تـلحق بـثكل محمد سـواه لـيبقى ثـكله بـيّن الـوسمِ

فـإنّي رأيـت الحزن للحزن ماحياً كما خُطّ في القرطاس رسمٌ على رسمِ

٢٨١

كـريم حـليم الجفن والنفس لا يرى إذا هو أغفى ما يرى الناس في الحلمِ

فـتـىً عـشـقته الـبابلية حـقبةً فـلم يـشفها مـنه بـرشفٍ ولا لثمِ

كـأنّ حـباب الـكأس وهي حبيبة إلى الشرب ما ينفي الحباب من السمِّ

تـسـور إلـيه الـراح ثـمّ تـهابه كـأنّ الـحميّا لـوعة في ابنة الكرمِ

دعـا حـلباً أخـت الغريّين مصرع بـسيف قـويق لـلمكارم والـحزمِ

أبـي الـسبعة الشهب التي قيل إنّها مـنفّذة الأقـدار فـي العرب والعجمِ

فـإن كـنت مـا سـمّيتهم فـنباهة كـفتني فـيهم أن أعـرّفهم باسمي

فـهذا وقـد كـان الـشريف أبوهم أمـير الـمعاني فارس النثر والنظمِ

إذا قـيل نـسك فـالخليل ابن آزر وإن قـيل فـهم فـالخليل أخو الفهمِ

أقـامت بـيوت الـشعر تحكم بعده بـناء المراثي وهي صور إلى الهدمِ

فـيا مـزمع الـتوديع إن تمس نائياً فـإِنّك دان فـي الـتخيّل والـوهمِ

تـقرّب جـبريل بـروحك صاعداً إلـى الـعرش يـهديها لجدّك والأمِّ

فلا تنسني في الحشر والحوض حوله عـصائب شـتّى بـين غرٍّ إلى بهمِ

لـعلّك فـي يـوم الـقيامة ذاكـري فـتسأل ربّـي أن يـخفف من اثمي

أعقابه:

قال في عمدة الطالب: وعقب أبي إبراهيم المذكور المعروف الآن من رجلين: أبي عبد الله جعفر نقيب حلب، وأبي سالم محمد ابني إبراهيم ولأعقابهما توجّه وعلم وسيادة، فمن بني أبي سالم محمد بنو زهرة، ومن أبي عبد الله جعفر بن إبراهيم بنو حاجب الباب، وهو شرف الدين أبو القاسم الفضل بن يحيى بن أبي علي بن عبد الله نقيب حلب ابن جعفر بن أبي تراب زيد بن جعفر المذكور، وهو السيّد العالم حافظ كتاب الله كان حاجباً لباب الفتوى(١) بدار الخلافة ببغداد.

والذي ظهر من قول أبي العلاء المعرّي في القصيدة الأولى:

(وجرت في الأنام أولاده السبعة جري الأرواح في الأبدان)

ومن قوله في مرثيّته:

____________________

(١) في الأصل الفنوني.

٢٨٢

أبي السبعة الشهب التي قيل إنّها منفّذة الأقدار في العرب والعجمِ

إنّه تخلّف بسبعة، ولكنّ المعقّبين منهم اثنان، كما ورد في عمدة الطالب.

عمود نسبهم الثالث زهرة

هو أبو المحاسن زهرة بن أبي المواهب علي بن أبي سالم محمد بن أبي إبراهيم محمد النقيب بن أبي علي أحمد بن أبي جعفر محمد بن أبي عبد الله الحسين بن أبي إبراهيم إسحاق المؤتمن ابن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق (عليه السلام).

هكذا أورد نسبه صاحب لؤلؤتي البحرين، عن العلاّمة جمال الملّة والدين الحسن بن المطهّر الحلّي في المنقول من إجازته لبني زهرة.

وفيها بعض الاختلاف عن رواية عمدة الطالب، فقد جاءت كنيته فيه (بأبي الحسن) لا بأبي المحاسن.

وفي عمدة الطالب ابن أبي سالم محمد بن (إبراهيم) بإسقاط (أبي) والصواب ما جاء عن العلاّمة ؛ لأنّه لا يوجد في سلسلة آبائه اسم إبراهيم.

وقد رأينا فيما سبق من هذا المقال(١) أنّ شهرة هذا القبيل الفاطمي ببني زهرة هي منه، أمّا ترجمة أحواله فلم نقف على شيءٍ منها في المعاجم وكتب الرجال التي نعوّل عليها في كتابة هذا المقال ؛ فوقفنا عند ما نعلم.

وبعد، فلمّا كان من المستصعب بل المتعذّر علينا ربط رجال العلم وذوي الأقدار من أعقابه بسلسلته، وضمّ كلّ فرع منهم إلى أصله المتحدّر منه مثل تعذّر تنسيق أسمائهم وتراجمهم مرتّبةً على السنين، رأينا الاقتصار على سردها خلواً من الترتيب، ولئن فاتنا في ذلك رواء العقد منظوماً، فلن يفوتنا رواء درّه منثوراً.

____________________

(١) العرفان م ٧ ج ٨ ص ٤٥٧.

٢٨٣

١ - الشريف زهرة (١)

هو الشريف زهرة بن علي بن إبراهيم الإسحاقي الحسيني، لم يذكره صاحب أمل الآمل ولا صاحب روضات الجنات، وأعتمد في ترجمته على ما كتبه العالم الأديب الشيخ محمد راغب طباخ الحلبي المعروف في جريدة الحقيقة(٢) تحت عنوان (حول افتتاح المدرسة الخسروانية)، قال:

وأوّل مدرسة بُنيت في مدينة حلب هي المدرسة الزجاجيّة، أنشأها بدر الدولة أبو الربيع سليمان بن عبد الجبّار أرتق صاحب حلب، ابتدأ في عمارتها سنة عشر وخمسمئة، وعلى حائطها مكتوب سنة سبع عشرة(٣) .

ولمّا أراد بناءها لم يمكنّه الحلبيّون إذ كان الغالب عليهم التشيّع ؛ فكان كلّما بُني فيها شيء نهاراً أخربوه ليلاً، إلى أن أعياه ذلك ؛ فأحضر الشريف زهرة بن علي بن إبراهيم الإسحاقي الحسيني، والتمس منه أن يباشر بناءها فيكفّ العامّة عن هدم ما يُبنى ؛ فباشر الشريف البناء ملازماً له حتّى فرغ منها.

أمّا خبر معارضة الشيعة بناء هذه المدرسة فقد رويناه في القسم الأوّل من هذا المقال عن مجلّة المقتبس بغير هذا التفصيل.

٢ - علي بن الحارث بن زهرة

أورد صاحب الروضات اسمه نقلاً عن ابن شهراشوب، ونسب له كتاب قبس الأنوار.

وقد عد هذا الكتاب في مصنفات السيّد أبي المكارم حمزة بن زهرة، كما سترى ذلك قريباً.

____________________

(١) العدد ١٥٤٥.

(٢) الشريف بن زهرة بن علي بن إبراهيم الإسحاقي الحسيني، كما قال الشيخ محمد راغب طباخ الحلبي في جريدة الحقيقة.

(٣) إذا كان باني المدرسة بدر الدولة وهو لم يستنب من عمّه إيلغازي على حلب إلاّ سنة ٥١٥، وسنة ٥١٧ انتزعها منه ابن عمّه يلك بن بهرام بن أرتق، كما ترى خبر ذلك مبسوطاً في كامل ابن الأثير، ومختصر أبي الفداء، فكيف يصحّ القول بعد هذا بأنّه ابتدأ في عمارتها سنة ٥١٠ هـ.

٢٨٤

٣ - السيّد أبو المكارم حمزة بن زهرة الحلبي

هو عزّ الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن أبي المحاسن زهرة بن الحسن بن زهرة الحسيني الحلبي.

قال في الروضات: ينتهي نسبه إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) باثنتي عشرة واسطة، سادات أجلاّء.

وهو من كبار فقهائنا الأصفياء النبلاء، وكذا أبوه الفاضل الكامل الذي يروي هو عنه. وجدّه السيّد أبو المحاسن وأخوه الفقيه الكامل الأديب السيّد أبو القاسم عبد الله وكذا ابن أخيه السيّد محيي الدين محمد بن عبد الله، بل وسائر أولاده وأحفاده وبنو عمومته الذين من جملتهم السيّد الفاضل الفقيه الكامل علاء الدين، إلى أن قال:

فالسيّد أبو المكارم المعظّم من أجلاّء علمائنا المشار إلى خلافاته في كلمات الأصحاب، وأكثر أهل ذلك البيت المكرّم فقهاً وعلماً وشهرةً بين الطائفة، وغيرها بالسيّد ابن زهرة بحيث لا ينصرف الإطلاق منه إلاّ إليه(١) .

روى عنه ابن أخيه محمد بن عبد الله بن زهرة ومحمد بن إدريس.

وهو الذي أجاب صاحب حلب مقترح الشيعة بتفويض عقودهم ونكحتهم إليه، وإعادة حيّ على خير العمل في الأذان ؛ حيث اشترطوا ذلك عليه يوم استنفرهم لمقاومة صلاح الدين حين جاء حلب فاتحاً، وقد ذكرنا ذلك في تضاعيف هذا المقال.

وقال صاحب أمل الآمل في حقّه: فاضل عالم ثقة جليل القدر عظيم المنزلة، له مصنّفات كثيرة.

وبعد إيراده أسماءها قال: ويروي عنه شاذان بن جبريل ومحمد بن إدريس وغيرهما.

وذكره ابن شهراشوب وقال: له قبس الأنوار في نصر العترة الأطهار وغنية النزوع، حسن.

____________________

(١) في آخر أمل الآمل أنّ ابن زهرة يطلق على حمزة المترجم ويأتي لمحمد بن عبد الله، ومحمد بن إبراهيم، وغيرهما.

٢٨٥

وقد عرفت آنفاً نسبة كتاب قبس الأنوار إلى علي بن الحارث بن زهرة.

ولد أبو المكارم سنة ٥١١ وتوفّي سنة ٥٨٥.

٤ - الشريف زهرة (١)

لم أجد له ذكراً في غير الخطط للمقريزي(٢) وهذا نصّ ما جاء فيه.

أنشد الشريف زهرة بن علي بن زهرة بن الحسن الحسيني وقد اجتاز به (المعشوق)(٣) يريد الحج:

قد رأيت المعشوق وهو من اله جـر بحالٍ تنبو النواظر عنه

أثَّـر الـدهر فـيه آثار سوءٍ قـد أدالـت يد الحوادث منه

والظاهر أنّه أخو الشريف أبي المكارم حمزة الآنف الذكر.

٥ - الشريف عبد الله

هو أبو القاسم عبد الله بن علي بن زهرة أخو أبي المكارم الشريف حمزة، قال في حقّه صاحب أمل الآمل:

فاضل عالم فقيه محقّق ثقة، يروي عنه ولده السيّد محيي الدين وجماعة جميع تصانيفه، ثمّ عدّ أسماءها وقد تقدّم ذكره في ترجمة أخيه أبي المكارم كما نقلناه عن الروضات.

٦ - ابن أخيه السيّد محمد

هو محمد بن عبد الله بن علي بن زهرة الحلبي.

قال في أمل الآمل: فاضل عالم جليل، يروي عنه المحقّق، ويروي هو عن أبيه، عن ابن شهراشوب أيضاً، وقد تقدّم أنّه روى هو وابن إدريس عن عمّه الشريف أبي المكارم.

____________________

(١) الشريف زهرة بن علي بن زهرة بن الحسن الحسيني، كما جاء في خطط المقريزي.

(٢) ج ٣ ص ٢٥٩.

(٣) اسم لمكان فيه أشجار بظاهر مصر.

٢٨٦

٧ - السيّد محمد بن زهرة

هو محيي الدين محمد بن زهرة أبو حامد الحسيني الحلبي الإسحاقي، هكذا نسبه صاحب أمل الآمل، وقال في وصفه: فاضل فقيه علاّمة يروي الشهيد عن الحسن بن نما عنه.

٨ - السيّد جمال الدين أبو الحسن علي بن زهرة الحلبي

هو كما في أمل الآمل علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسن بن زهرة بن علي بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن جعفر (عليه السلام).

كان عالماً ثقةً جليل القدر، استجاز العلاّمة فأجازه، وأجاز ولده وأخاه وولديه إجازةً طويلةً مفصّلةً كثيرة الفوائد، وأثنى عليهم ثناءاً بليغاً، وهذا ما جاء منها في لؤلؤتي البحرين مع كلمةٍ للمؤلّف:

وأمّا السيّد ابن زهرة فهو السيّد الأجلّ الأنبلّ علاء الملّة والحق والدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسن بن زهرة الحلبي، قال العلاّمة (رحمه الله تعالى) في إجازته له:

(وبلغنا في هذه الأعصار ورود الأمر الصادر عن المولى الكريم، والسيّد الجليل الحسيب النسيب نسل العترة الطاهرة، وسلالة الأنجم الزاهرة، المخصوص بالنفس القدسية، والرياسة الأُنسية، الجامع بين مكارم الأخلاق، وطيب الأعراق، أفضل أهل العصر على الإطلاق، علاء الملّة والحق والدين أبي الحسن علي بن إبراهيم بن محمد(١) بن أبي الحسن زهرة بن أبي المواهب علي بن أبي سالم محمد بن أبي إبراهيم محمد النقيب بن أبي علي أحمد بن أبي جعفر محمد بن أبي عبد الله الحسين بن إسحاق المؤتمن(٢) بن أبي عبد الله جعفر الصادق لبن أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) ابن أبي الحسن علي زين العابدين (عليه السلام) ابن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) السبط الشهيد ابن علي (عليه السلام):

نسبٌ تضاءلت المناسب دونه فـضياؤه كصباحه في فجرِهِ

____________________

(١) في الأصل إبراهيم محمد بحذف (ابن).

(٢) في الأصل ابن (إبراهيم) إسحاق.

٢٨٧

أيّده الله بالعنايات الإلهية، وأمدّه بالسعادات الربّانيّة، وأفاض على المستفيدين جزيل كماله، كما أنبع عليهم من فواضل نواله، تتضمّن طلب إجازة صادرة من العبد له ولأقاربه السادات الأماجد، المؤيّدين من الله تعالى في المصادر والموارد، وأجوبة عن مسائل دقيقة رقيقة لطيفة، ومباحث عميقة شريفة، فامتثلت أمره، رفع الله قدره، وبادرت إلى طاعته، وإن التزمت سوء الأدب المغتفر في جنب الاحتراز عن مخالفته، وإلاّ فهو معدن الفضل والتحصيل، وذلك عن حجّةٍ ودليل، وقد أجزت له أدام الله أيّامه ولولده المعظّم، والسيّد المكرّم، شرف الملّة والدين أبي عبد الله الحسين، ولأخيه الكبيرين المعظّمين أبي طالب أحمد شهاب الدين وأبي محمد عز الدين حسن عضدهم الله تعالى بدوام مولانا أن يروي هو وهم عنّي جميع ما صنّفته في العلوم العقليّة والنقليّة، أو أنشأته وأفتيت به، أو أُجيز لي روايته، أو سمعت من كتب أصحابنا السابقين وجميع ما أجازه لي المشايخ الذين عاصرتهم، واستفدت من أنفاسهم إلى آخره، ثمّ ساق طريقه إليهم.

٩ - ولده أبو عبد الله الحسين

قد عرفت أنّه من رجال إجازة العلاّمة، كان عالماً فاضلاً فقيهاً جليل القدر روى عن العلاّمة واستجازه فأجازه، كذا جاء في أمل الآمل.

١٠ - أخوه السيّد بدر الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن زهرة

هو من رجال إجازة العلاّمة، قال في أمل الآمل: كان من علماء السادات وسادات العلماء، من تلامذة العلاّمة.

١١ - ابن أخيه أبو طالب شهاب الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن زهرة

هو من رجال إجازة العلاّمة لعمّه وأبيه، قال في أمل الآمل: فاضل جليل، يروي عن العلاّمة وله منه إجازة مع أبيه وعمّه وأخيه وابن عمّه، وقد بالغ فيها في الثناء عليهم.

٢٨٨

١٢ - ابن أخيه أبو محمد عز الدين حسن بن محمد بن إبراهيم بن زهرة

هو من رجال تلك الإجازة، قال في أمل الآمل: كان عالماً فاضلاً فقيهاً جليل القدر، روى عن العلاّمة واستجازه فأجازه.

١٣ - أبو طالب أحمد بن القاسم بن زهرة الحسيني

عالم فاضل جليل يروي عن الشهيد. كذا في أمل الآمل.

١٤ - علي بن محمد بن زهرة الحسيني الحلبي

قال في أمل الآمل، ونقله عنه صاحب لؤلؤتي البحرين، فاضل فقيه جليل القدر روى عن الشيخ طمان بن أحمد العاملي.

١٥ - النقيب بدر الدين محمد بن زهرة

ذكره ابن الوردي في ذيل مختصر أبي الفداء في أخبار الأمير بدر الدين لولو القندشي حين دخل إلى حلب شادّاً(١) على المملكة وعلى يده تذاكر، وصادر المباشرين وغيرهم.

قال ومنهم النقيب بدر الدين جرى ذلك في حوادث سنة ٧٣٣ وقال في حوادث سنة ٧٣٦ فيها في المحرّم باشر السيّد النقيب الشريف بدر الدين محمد ابن السيّد شمس الدين بن زهرة الحسيني وكالة بيت المال بحلب مكان شيخنا القاضي فخر الدين أبي عمر وعثمان بن الخطيب زين الدين علي الجويني.

وقال في حوادث سنة ٧٣٩ وفيها في العشر الأوسط من ربيع الآخر تُوفّي السيّد الشريف بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني نقيب الأشراف وكيل بيت المال بحلب.

(ومن الاتفاق أنّه مات يوم ورد الخبر بعزل ملك الأُمراء علاء الدين الطنبغا عن نيابة حلب، وكان بينهما شحناء في الباطن ؛ قلت:

____________________

(١) الشادّ: العامل على المكوس.

٢٨٩

قد كان كلٌّ منهما يرجو شفا أضغانه

فـصار كلُّ واحدٍ مـشتغلاً بـشانه

وكان السيّد (رحمه الله) حسن الشكل، وافر النعمة، معظّماً عند الناس شهماً ذكيّاً، وجدّه الشريف أبو إبراهيم هو ممدوح أبي العلاء المعرّي.

١٦ - الأمير شمس الدين حسن بن السيّد بدر الدين محمد بن زهرة

كذا جاءت نسبته في ذيل المختصر لابن الوردي، ذكره مع ابن عمّه السيّد علاء الدين في حوادث سنة ٧٤٧، قال وفيها ورد البريد بتولية السيّد علاء الدين علي بن زهرة الحسيني نقابة الأشراف بحلب مكان ابن عمّه الأمير شمس الدين، وأُعطي هذا إمارة الطبلخانات بحلب.

أمّا السيّد علاء الدين فأظنّه صاحب إجازة العلاّمة والذي سبقت ترجمته.

هذا جلّ ما استطعنا تجريده في هذا المقال من أسماء مشهوري (بني زهرة)، ونعلم أنّنا لم نبلغ حاجةً في نفوس قرّاء العرفان الأدباء، ولا في نفسنا، وعذرنا انطماس آثارهم.

وعجيب أن لا تفسح المعاجم مجالاً لذكرهم وأن لا يكون لهم حظ منها، وهي قد تعرّضت لترجمة كثيرين ممّن ينحطّون عنهم في مراتب العلم والشرف، ولا يوازونهم في موازين الفضل والجاه، ولا نرتاب بأنّ هناك رجالاً من تلك الأسرة الكريمة غير مَن سردنا أسماءهم في هذا القسم دَرَست آثارهم، وطُمست أخبارهم، وعميت علينا أنباؤهم.

وبعد، فأنّى لنا بإيفاء الموضوع حقّه من التمحيص، وأن نحيط بما لرجال تلك الأسرة الأعلام من الآثار، وكلّ ما نستمدّ به مادّتنا في الكتابة من المعاجم لا يعدو طريقة الفهارس، على أنّ في انقطاع العلم منهم بضعة قرون وبعد شقّة الاتصال بيننا وبين أعقابهم ما يحول دوننا ودون ما نتوخّاه من التحقيق.

وكيف كان، فقد جرينا فيما كتبناه مع قول الشاعر:

إذا لم تستطع أمراً فدعْه وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ

٢٩٠

أعقاب بني زهرة اليوم

لبني زهرة أعقاب متفرّقون في البلاد، وجمهرتهم في الفوعة، ونرى أن سياسة الغالب من غير أبناء مذهبهم أخرجتهم من حلب، وهم لا يُعرفون في هذه الأيّام ببني زهرة، ومنهم على ما روى لنا بعض الأعلام أسرة المرحوم نايف آغا الزعيم الشيعي في تلك الناحية، والمظنون أن أسرة بدر الدين في النبطيّة تتّصل نسبتها بسلسلة نسبهم الكريم، وفي قرية شحور أسرة تحمل نسباً كما أخبرني بعض العلماء الأجلاّء متّصلاً ببني زهرة.

وظنّ بعضهم أنّ نسبة الزهراوي أُسرة العلاّمة المرحوم الشهيد السيّد عبد الحميد الزهراوي إلى بني زهرة ولكن الذي يرويه ذلك العلاّمة أنّ النسبة إلى الزهراء (عليها السلام) وذلك الأصوب ؛ لأنّه أعرف بنسبه أوّلاً ؛ ولأنّ النسبة إلى زهرة الزهري لا الزهراوي ثانياً.

ولقد وقفت على صورة نسب لشريف فوعي يتّصل ببني زهرة ؛ ألمحت إليه في تضاعيف المقال.

والحمد لله في البدء والختام.

٢٩١

تاريخ بني عمار

أحمده تعالى على تواتر نعمائه وترادف آلائه، وأُصلي على صفوة أنبيائه والخيرة من أوليائه.

وبعد، فإنّي مُدوِّنٌ بهذه الصفحات ما بلغه علمي وأدركه جهدي من مظانّ كتبٍ تاريخيّةٍ من متناولي من تاريخ بني عمّار قضاة طرابلس الشام، من منتصف القرن الخامس الهجري إلى أوائل القرن الخامس، حيث غلب عليها الفرنج في غزواتهم الصليبيّة، وأصابها ما أصاب البلاد الشاميّة من التدمير والتنكيل بالسكّان الذين أوقعهم القدر في سلطانهم العاثر، وكانت نكبة هذا البلد التي تزيد على نكبة تقويض عمرانه وشامخ بنيانه، بالقضاء المجرم على دور العلم فيه ومكتبته الحافلة بنفائس الكتب التي ذهب بصنّاعها عصارة ما أنتجته الأدمغة العربية الإسلامية من علوم وآداب وفنون.

ندبت نفسي لهذا العمل الشاق القليلة مصادره خدمةً للتاريخ، وإقراراً بفضل بن عمّار على العلم، وبما أسدوه للإسلام من جميل، وعمل رافع في سبيل الوقوف بإتيّ الغزو الصليبي الجارف الحامل في ثناياه، إلى روح التعصّب الديني الممقوت، كلّ أدوات التخريب والقضاء على المدنيّة الإسلامية.

وأراني إن لم أفِ الموضوع حقّه فقصاراي أن قمت بالمستطاع، وفتحت باباً مغلقاً لمن يفتحه، ويكمل ما نقص من استيفاء الموضوع، والله من وراء القصد.

٢٩٢

٢٩٣

المقدّمة الأُولى

بنو عمّار قضاة طرابلس:

١ - أغفل التاريخ أخبار هؤلاء القضاة الذين كان لهم دورٌ مهمٌ في طرابلس وفي السياسة الفاطميّة، ولقبيلهم سعيٌ عظيمٌ في إنشاء دولتها في إفريقية، ولم يرد لهم ولقبيلهم فيما دوّنه من حوادث تلك الأيّام إلاّ نتف يسيرة مغمورة في التيّار الأعظم من تلك الحوادث، حتّى لا يكاد يبين لها شبح يشخص ما كان لهم من مكانةٍ في سياسة الدولة الفاطميّة، وعمل خطير في طرابلس أيّام ولايتهم عليها، التي سلخت زهاءَ قرن ونصف من مدّة تلك الأزمان الحافلة بالأحداث، سواء أكان ذلك في عملهم العمراني بطرابلس وما إليها، أم كان في خدمتهم الجلّى للعلم والعرفان، أم كان في مكتبتهم العظمة التي احتوت من الكتب ما اختلف المؤرّخون والرواة في تقديره بالملايين أو الألوف أو بمئة ألف كتاب.

وكنت في أثناء مراجعتي لتاريخ تلك القرون، وأنا أرى كيف تقتضب أخبارهم اقتضاباً، ولا تُذكر فيه إلاّ استطراداً على ما كان لهم من أثرٍ نافع وعمل رافع، آسف جدّ الأسف كيف لا تكون لهم فيه صفحة لامعة تليق بعملهم السياسي والعمراني والعلمي، وحدثتني نفسي أن أتولّى البحث عنهم، وأراجع مختلف الكتب التاريخية التي هي في متناولي، وأدوّن ما أبلغه من نتيجة بحثي في تضاعيف تلك الكتب، وما أظفر به من شذرات مبدّدات هنا وهناك، فأنظمها بعد التأليف ما بينها في سمط كتابٍ واحدٍ لعلّي أؤدّي به رسالة الاعتراف بما لهذا القبيل المبخوس حقّه التاريخي من الفضل، على أنّني لا أضمن لنفسي الإصابة في التنسيق التاريخي المنتظم، والمظانّ مفقودة والمراجع لا تكاد

٢٩٤

تفي ببعض الحاجة، والمصادر أعزّ من بيض الأنوق، ولكن ما على المجتهد حرج إن أخطأ الصواب إذا كان حسن النية حافزه، ونشدان الحقيقة دافعه، وفوق كلِّ ذي علمٍ عليم.

٢ - إن لم يؤدّ التاريخ رسالته في سرد أحوالهم وترجمة رجالهم ومبدأ أُمورهم إلى زمن ظهورهم ومشاركتهم ذوي السلطان في النفوذ والسلطان، ولم يُعن على الأقل بأصول أنسابهم، كما لم يُعن بأحسابهم، فإنه لم يسكت عما يستفزّ الباحث إلى استطلاع شؤونهم بذكره في عرض حوادثه الكبرى طرفاً من بلائهم، سواء أكان في تأسيس الخلافة الفاطمية في افريقية، ومصاحبة فريق منهم أوّل مستولٍ من الفاطميّين على الدار المصريّة ثمّ الديار الشاميّة، أم كان من بلاء آخرهم فخر الملك بن عمّار في الدفاع عن طرابلس وصدّ الغارات الصليبيّة عنها، أم كان فيما أسدوه إلى هذا البلد وما إليه من الأعمال: من نشر علم واستبحار عمران وبذل عناية في ترقية مرافق حياة هذا البلد، من حيث إتقان الزراعة وتفوّق الصناعة.

وذكر مثل هذا البلاء من بني عمّار ومثل تلك العناية، ممّا يزيد الباحث شوقاً إلى دراستهم والوقوف على تراجمهم.

وإليك طرفاً ممّا أجمل المؤرّخون من سيرتهم: ففي خطط الشام (وممّا يذكر في هذا القرن (الخامس) أنّ القاضي جلال الملك أبا الحسن علي بن محمد بن أحمد بن عمّار جدّد في طرابلس دار العلم ودار الحكمة، وذلك في سنة ٤٧٢ هـ لتكون مركزاً من مراكز التشيّع، فنُشرت العلوم والآداب وأصبحت طرابلس مباءة علمٍ ودرسٍ ومباراة في التعلّم. وجهّز هذه الجامعة الدينية بمئة ألف مجلّد، وربّما كانت على عهده قبل استيلاء الصليبين عليها أوّل بلدة علميّة في الشام على ما رأى (فان برشم)).

وفي مكانٍ آخر من الخطط:

(وكان لابن عمّار البلاء الحسن، بل الأحسن في دفع عادة الصليبيّين عن بلده. لم يترك باباً من أبواب الخلاص ليصدهم عن طرابلس إلاّ طرقه، حتّى دفعهم بعقله وحسن إدارته عن تملّكها عشر سنين.

وكان في طريق رجعتهم كالحسكة في الحلق، وفي معاملة ملوك الأطراف نموذج الدهاء السياسي، وهو على صغر جرم مملكته

٢٩٥

يطاول ويحاول وينازل ويصاول ويلين ويقسو ؛ لأنّ مع الكثرة تخاذلاً ومع القلّة تماسكاً).

وجاء فيها فيما يتعلّق بمكتبة بني عمّار:

(ومن أهم النكبات التي أُصيبت بها الكتب في الشام نكبة طرابلس لمّا فتحها الصليبيّون، وإحراق صنجيل أحد أمرائهم كتب دار العلم فيها.

وأخذ الصليبيّون بعض ما طالت أيديهم إليه من دفاترها وكتبها الخاصّة في بيوتهم.

واختلفت الروايات في عدد المجلّدات التي كانت في خزانة دار بني عمّار أو دار حكمتهم في طرابلس، وعلى أصح الروايات أنّها ما كانت تقلّ عن مئة ألف مجلّد، وأوصلها بعضهم إلى ألف ألف وبعضهم إلى أكثر.

ووقفها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمّار، وجاء بعدهم الأمير علي بن محمد بن عمّار الذي جدّد دار العلم سنة ٤٧٢ هـ، ثمّ فخر الملك عمّار بن محمد، حتّى صارت طرابلس كما قال ابن الفرات في زمن آل عمّار جميعها دار علم، وكان في تلك مئة وثمانون ناسخاً ينسخون لها الكتب بالجراية والجامكية، فضلاً عمّا يُشترى لها من الكتب المنتخبة من البلاد.

وابن الفرات هو ممّن يقول بأنّ عدد ما كان في دار العلم هذه من الكتب نحو ثلاثة ملايين كتاب عندما أحرقها الصليبيّون سنة ٥٠٣ هـ.

والغالب أنّه كان في طرابلس من الكتب الموقوفة غير دار العلم، وقفت قبل بني عمّار، وأراد ابن الفرات بهذه الثلاثة آلاف الألف عدد الكتب التي كانت في مكاتب طرابلس كلها).

إنّ فيما جاء في الخطط لَدليلاً كبيراً ناصعاً على تفوّق طرابلس العلمي في عهد بني عمّار، وإليك دليلاً آخر على تفوّقها العمراني والاقتصادي في عهدهم الزاهر، جاء في تاريخ سورية للأستاذ المحقّق جرجي يني الطرابلسي ما يلي:

(وكانت طرابلس في ذلك الحين (الحروب الصليبيّة) مشهورة بغنى طبيعته وحسن رونقها ونجاحها، وكانت حاصلاتها غزيرة جدّاً، حتّى أنّ السهول والتلال والأكم المجاورة كانت مصدراً لكثير من الغلال الفاخرة والزيتون والحرير، فضلاً عمّا هنالك من قصب السكّر والكرم وأنواع

٢٩٦

الفاكهة والأشجار، وحسبنا بذلك شهادة المؤرّخ (ميسود) الذي تبع قوله بقوله:

(إنّ في المدينة أكثر من أربعة آلاف نول لنسج الأقمشة الصوفيّة والحريريّة والقطنيّة، غير أنّ قسماً كبيراً من هذا الغنى بات طعاماً لانتقام الإفرنج أو معطّلاً من جرّى حروبهم وحصارهم الطويل ؛ فإنّهم كانوا في زمان الحصار قد أضرّوا بجوار البلدة، ولما تملّكوها لم يعتنوا بما فيها من المعامل الصناعيّة، فانحطّت انحطاطاً عظيماً ولم يكن ما ذكر لكلّ ما اشتهرت به طرابلس من الغنى في ذلك الزمن، فإنّ خزائنها كانت مُلئت من الكتب المفيدة، التي أحالها الافرنج رماداً، فخسر العالم بفقدها كنزاً عظيماً.

(فإنّ بين مجلّداتها كثيراً من كتب الفرس والعرب واليونان، وكان فيها عديد من الكتبة يشتغلون على الدوام بنسخ كتب الخط.

وقال ابن طي المؤرّخ العربي: (إنّ عدد هذه الكتب كان ثلاثة ملايين من المجلّدات).

غير أنّ مؤرّخاً آخر يقول: إنّ عددها لم يتجاوز مئة ألف مجلّد، وإنّ جامعها القاضي أبو الحسن طالب وهو نفسه قد ألّف كثيراً، وإنّه كان متولّياً البلدة، وقد بعث برسائل إلى الأقطار مفتّشاً على الكتب النادرة مهما كان ثمنها عظيماً.

وقد ندب مؤرّخو العرب فقدان تلك المكتبة، على أنّ المؤرّخين الصليبيّين القدماء لم يذكروا عنها شيئاً ليستروا زلّة قومهم).

وإنك لتعلم مبلغ ما بلغه هذا البلد من الغنى والثروة، بذل ابن عمّار أبي الحسن علي ثلاثمئة ألف دينار للملك دقاق بن تُتُش على تسليمه له ابن مليحة صاحب جبلة عرياناً، كما سترى ذلك مبسوطاً في مكانه من هذا الكتاب.

وإليك دليلاً آخر على ما كان لهذا البلد من رُقي وتفوّق عمرانيّ وسابغ نعمة، ما ورد في تاريخ ابن القلانسي في حوادث سنة ٥٠٢ هـ لمّا امتلك الإفرنج طرابلس عنوة بعد حصارها الطويل:

(وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يُحدّ عدده ولا يُحصر فيذكر).

وفي كامل ابن الأثير في حوادث سنة ٥٠٣ هـ: وسدّ الفرنج القتال عليها (طرابلس) من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عنوة

٢٩٧

وقهراً يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة من السنة (٥٠٣ هـ)، ونهبوا ما فيها وأسروا الرجال وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة ودور كتب العلم الموقوفة ما لا يُحدّ ولا يُحصى، فإنّ أهلها كانوا أكثر أهل البلاد أموالاً وتجارة، وسلم الوالي الذي كان بها وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأُخذت دفائنهم وذخائرهم من مكامنها.

وما لنا والإكثار من التدليل على عظمة هذا البلد، وفي ثباته على مقاومة القوّات الصليبيّة الهائلة مدّة عشر سنين بإدارة ابن عمّار الرشيدة، ما يغني عن الإسهاب في هذا الباب، وستراه جليّاً في تضاعيف هذا الكتاب.

٢٩٨

المقدمة الثانية

نبذة وجيزة من تاريخ طرابلس

موقعها في طول شرقي ٢٠ ً ٤٤ َ ٣٥ ْ وعرض شمالي ٦٦ ً ٢٦ َ ٣٤ ْ على بعد ميل من البحر.

هي من مدن فينيقية وتُعرف باسمها اليوناني واسمها الفينيقي مجهول، وطرابلس أو أطرابلس مبدوءة بالألف تمييزاً لها عن طرابلس الغرب، وهي تعريب عن تريبوليس أي المدن الثلاث(١) سُمّيت بذلك ؛ لأنّ الأرواديّين سكّان جزيرة أرواد التي هي منها إلى الشمال على بضعة أميال، والصيداويّين والصوريّين (لا السوريّين) كما جاء في تاريخ سورية للمطران يوسف الدبس، بنوا هناك ثلاثة أحياء لكلّ فريق حيّاً منفصلاً عمّا سواه ؛ فسمّيت باليونانية تريبوليس أي المدن الثلاث، فنقلها العرب إلى طرابلس تمييزاً لها عن طرابلس الغرب و بالعكس، ويميّزها بعضهم عن تلك بطرابلس الشام.

وجاءت في شعر أبي الطيّب المتنبّي محذوفة الألف في قوله:

اكـارم تحسد الأرض السماء بها وقصرّت كلّ مصر عن طرابلس

قال القلقشندي في كتابه صبح الأعشى (وهي أَطْرابُلُس) بفتح الهمزة

____________________

(١) تاريخ لبنان. ونجد لأوّل مرّةٍ في أخبار هذه الحروب أسماء ثلاث مدن لبنانيّة هي (١) مخلات (٢) وميسة (٣) وكاية ذُكرت فيما بعد باسم (المدينة المثلثة) أو (المدن الثلاث) أو (طرابلس) ص ٢٠.

٢٩٩

وسكون الطاء وفتح الراء المهملتين ثمّ ألف وباء موحّدة ولامٍ مضمومتين وسين مهملة في الآخر.

قال السمعاني: وقد تسقط الألف فرقاً بينها وبين طرابلس التي في الغرب.

وأنكر ياقوت في المشترك سقوطها وعاب على المتنبّي حذفها منها في شعره.

قال في الروض المعطار: ومعنى أطرابلس فيما قيل ثلاث مدن.

وقيل مدينة الناس، وهي مدينة من سواحل حمص واقعة في الإقليم الرابع.

قال في كتابه الأطوال: طولها تسع وخمسون درجة وأربعون دقيقة، وعرضها أربع وثلاثون درجة.

وكانت في الأصل من بناء الروم، فلمّا فتحها المسلمون في سنة ثمان وستمئة في الأيّام الأشرفيّة (خليل بن قلاوون) خرّبوها وعمّروا مدينة على نحو ميلٍ منها وسمّوها باسمها وهي الموجودة الآن، إلى أن قال:

وهي الآن مدينة متمدّنة كثيرة الرخام، وبها مساجد ومدارس وزوايا وبيمارستان وأسواق جليلة وحمّامات حسان، وجميع بنائها بالحجر والكلس مبيّضاً ظاهراً وباطناً، وغوطتها محيطة بها، وتحيط بغوطتها مزروعاتها وهي بديعة المشرف ولها نهر يحكم على ديارها وطباقها، يتخرق الماء في مواضع من أعالي بيوتها التي لا يرقى إليها إلاّ بالدرج العليّة، وحولها جبال شاهقة صحيحة الهواء خفيفة الماء ذات أشجار وكروم ومروج ومواشٍ، وميناها مينا جليلة تهوى إليها وفود البحر الرومي، وترسو بها مراكبهم وتباع فيها بضائعهم، وهي بلد متجرٍ وزرعٍ كثيرة الفائدة.

وصفها:

وصفها المؤرّخ الأستاذ جرجي يني في تاريخه (سورية) بقوله: (فطرابلس الشام بلدة من أحسن مدن سورية جمالاً وأبهجها منظراً وأكثرها رياضاً، وهي قائمة على ضفتي نهر أبي علي المعروف عند الأقدمين بنهر قاديشا أي المقدس، وتحفّها البساتين والغياض، وتكثر فيها المياه والأثمار، فتزيدها نضارة وحسناً.

وتظهر طرابلس للرائي كالحمامة البيضاء فإنّ أكثر جدرانها وسطوحها مبيّضة بالكلس الأبيض، ناهيك عمّا يرى فيها من جمال الطبيعة، ذلك ما وصفه ابن مامية الرومي بقوله:

بـأربـعةٍ سـادت وسـاد مـقامها على سائر الأمصار في البحر والبرِّ

بـأبيض ثـلجٍ واحـمرار كـثيبها وخـضرة مرج قد جلا زرقة البحرِ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486