تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني8%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77635 / تحميل: 10064
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

القارئ يضجر ويتبرم مِن مثل هذا البحث التاريخي الذي كانت حوادثه متقطعة غير مرتبطة بصلة، وقد بذلنا غاية المستطاع في ربطها وفي رجوع مَن أفرد التأليف لهم إلى نسبهم الكتامي، وهذا ما يشفع للإسهاب والإطالة، ويعذرني من الوقوع في الخطأ، فما أخذت ذلك عن كتابٍ مؤلّف منفرد، وما أضمن لنفسي أنّني قد استوفيت ذكر كلّ الرجال الكتاميين المساهمين في الدولة الفاطميّة، فقد يكون قد فاتني منهم رجال ولكنّني قد أسّست تاريخاً لهم، فإن لم أفِ به كلّ أخبارهم فقد فتحت باباً للباحثين المولعين بدقائق التاريخ فلعلّهم يتمّون ما لعلّه نقص ولم يصل إليّ علمه، فإنّ المصادر التي اعتمدتها محصورة، وقد يكون هناك مصادر أُخرى يعثر عليها غيري فيتمّ ما نقص من بحثي، وبيده تعالى التسديد والتأييد وهو نعم المعين والنصير.

٣٦١

عهد سكنى بني عمّار طرابلس وولايتهم إمارتها وقضاءها

ليس لدينا مصدر تاريخي يمكننا الرجوع إليه في تحديد العهد الذي سكن فيه بنو عمّار طرابلس، والعهد الذي تولّوا به إمارتها وقضاءها، وذلك ما أغفله كما أغفل كلّ ما يتعلّق بهم مؤرخو عصرهم، وهم لم تُذكر أسماء مَن ذُكر منهم إلاّ عرضاً، فكان المهم عند مؤرّخي أزمانهم ذكر الحوادث فحسب.

ومع ما للأشخاص من المكانة في المجتمع والتأثير في السياسة من علاقة في تاريخ الحوادث، فلم يكن ذلك ممّا يُعنى به أولئك المؤرّخون، فلم يتركوا لمَن كتب بعدهم تاريخ تلك الأيّام إلاّ رسوماً عافية لا تبلغ غرضاً ولا تخرج بهم عن الرجم في الظن، وهو لا يُغني من الحق شيئاً، ولا هو من مصادر التاريخ الذي من أقصى أهدافه: تقييد الوقائع الحادثة المتجدّدة وتسجيل أسماء رجالها وعلاقتهم بها وبحال مجتمعاتهم، ولكنّ ذلك إن درج عليه مؤرّخو عصرنا الحاضر ودعاهم ذلك الإهمال السابق إلى الإهمال اللاحق لبطل التاريخ.

وحسب المؤرّخ أن يكون في مثل هذا الموقف معتمداً على الاستنتاج ممّا يمرّ به من المدوّنات وما لا يبعد عن الواقع، بعرضه على أُمور تجعل لذلك الاستنتاج قيمةً تاريخيّةً.

إنّ البحث عن قضاة طرابلس يرجع إلى أمرين بل إلى ثلاثة:

الأوّل: تحديد زمن سكناهم لها.

الثاني: ولا يتهم قضاءها.

الثالث: ولاية الإمرة مع القضاء.

أمّا تحديد زمن سكناهم، فإن لم يعرض له المؤرّخون، فإنّا نستنتج من تأليف العلاّمة الرحّالة أبي الفتح محمد بن علي الكُراجكي المتوفّى سنة (٤٤٩) كتباً بأسماء رجال من بني عمّار، أنّهم كانوا في طرابلس قبل هذا التاريخ بمدّة، فقد ألّف كتاباً باسم أبي الكاتب بطرابلس، وكتاباً

٣٦٢

باسم القاضي الجليل أبي طالب عبد الله بن محمد بن عمّار، وكتاباً آخر باسم أبي الكتائب.

وأمّا ولايتهم القضاء فيستدلّ - أيضاً - من ذكر الكراجكي لأبي طالب موصوفاً بالقاضي الجليل، أنّ منهم مَن ولي قضاء طرابلس قبل تاريخ وفاة الكراجكي بمدّة.

وأمّا الإمرة، فيظهر أنّ أوّل مَن وليها منهم مع القضاء هو أبو طالب في سنة ٤٦٣ ؛ حيث يقول المؤرّخون إنّه استولى على طرابلس قاضيها أبو طالب، كما استولى غيره على غيرها، وإنّما كانت ولايتهم على ما بأيديهم كانت بطريق الغلبة لا بطريق الانتداب، وإنّما كان ذلك في عهد ضعف الدولة العلويّة، وغلبة المستبدّين على الأطراف، وفي عهد استيلاء وزراء الدولة على مقاليد الحكم، ونزع كلّ سلطة من الخليفة المصري العلويّ، كما كان الأمر في الخلافة العبّاسية والخلفاء العبّاسيّين، الذين لم يكن لهم من الحكم والسلطان شيء، بل كانوا أنفسهم محكومين للسلطان المتغلّب أو الوزير النافذ.

وممّا يدلّ على أنّ ولايتهم في طرابلس كانت محصورةً في القضاء: أنّه في سنة ٤٥٩ لمّا بعث المستنصر إلى محمود بن الروقلية المتغلّب على حلب، يطالبه بحمل المال وغزو الروم وصرف ابن خاقان ومَن معه مِن الغز، فلم يجبه، وقال: إنّه لا مال له وإنّه هادن الروم وأعطى ولده رهينة على مالٍ اقترضه منهم، فندب المستنصر بدراً الجمالي أمير الجيوش إلى محاربته، فدخل ابن عمّار صاحب طرابلس بينهما وأصلح الحال.

وبعد هذا البحث والتمهيد نعود إلى سرد أسماء مَن عرفنا من قضاة بني عمّار.

١ - أبو طالب بن عمّار:

هكذا ردّد اسمه المؤرّخون، واسمه كما عند الكراجكي عبد الله بن محمد بن عمّار، ومثل ذلك ذكر في ديوان ابن الخيّاط الشاعر المعروف المتوفى سنة ٥٩٧، وذكر اسمه في قصيدةٍ أنشدها شمس الملك أبا الفرج محمد بن أمين الدولة أبي طالب في طرابلس، حيث قال:

وكـأنّ عبد الله عبد الله في حركات همّته وفضل سكونه

أي: كأنّ عبد الله ابن الممدوح عبد الله أبو الممدوح وهو أبو

٣٦٣

طالب، وفي خطط الشام: أبو طاب الحسن بن عمّار.

قد استبدّ كما عرفت بإمرة طرابلس مع القضاء في سنة ٤٦٣، وكان ذلك في عهد ولاية أمير الجيوش بدر الجمالي على ديار الشام.

وقد جاء عنه في تاريخ ابن عساكر بترجمة الأمير أبي الحسن علي بن المقلد بن منقذ، صاحب حصن شيزر المتوفّى سنة ٤٧٩ أو ٤٧٥ ما ملخّصه: كانت بينه وبين ابن عمّار صاحب طرابلس مودّة وكيدة ومكاتبات.

وسببه أنّه كان له مملوك يُسمّى رسلان، وكان زعيم عكسره، فبلغه عنه ما يكره ؛ فقال له: اذهب عنّي وأنت آمن على نفسك.

فقصد ابن عمّار إلى طرابلس، وسأله أن يسأل أبا الحسن في ماله وحرمه، فسأله، فأمر بإطلاقهم وكان قد اقتنى مالاً كثيراً.

فلمّا خرج الرسول بالمال والحريم لحقه أبو الحسن فظنّ أنّه قد بدا له.

فقال: غدرت بعبدك ورغبت في ماله، فقال له: لا والله ولكن لكلّ أمرٍ حقيقة، حطّوا عن الجمال والبغال أحمالها، فحطّوا، فقال: أبصروا ما عليها، فنظروا فإذا في قدور النحاس خمسة وعشرون ألف دينار، ومن المتاع ما يساوي مثلها وزيادة، فقال أبو الحسن للرسول: أبلغ ابن عمّار سلامي وعرّفه بما ترى ؛ لئلاّ يقول رسلان إنّني أخذت ماله.

ثمّ إنّ أبا الحسن زار ابن عمّار وأقام عنده مدّةً.

تقريبه للعلماء ومحبّته العلم

جاء في ترجمة العلاّمة أبي الفتح الكراجكي المتوفّى سنة ٤٤٩ أنّه أقام مدّةً في طرابلس، فقد ألّف فيها وباسم بعض قضاتها الذين عاصرهم وعاصروه ستّة كتب، ومنها: كتاب سمّاه البستان في الفقه، وهو معنى لم يُطرق وسبيل لم يُسلك، قسّم فيه أبواباً من الفقه وفرّع كلّ فنٍّ منها، حتّى حصل كل باب شجرة كاملة، يكون نيّفاً وثلاثين شجرة، صنّفه للقاضي الجليل أبي طالب عبد الله بن محمد بن عمّار أدام الله سلطانه وكبت شانيه وأعداءه، توفّي سنة ٤٦٤ بعد استبداده بالأمر في طرابلس بسنة، وخلفه في القضاء والإمارة ابن أخيه.

٢ - جلال الملك أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن عمار الكتامي.

٣٦٤

قال ابن الأثير - بعد ذكر وفاة أبي طالب وقيام ابن أخيه هذا بالأمر في طرابلس -: فضبط البلد أحسن ضبط، ولم يظهر لفقد عمّه أثرٌ لكفايته.

ويدلّ على منعته وجلالة قدره وتفكّكه من سلطة الدولة الفاطميّة حمايته لمعلّى بن حيدرة بن منزو - الذي سبقت ترجمته - حين فرّ إليه هارباً من بانياس بعد إقامته بها مدّة.

وقد هرب من دمشق، وكان والياً عليها إلى بانياس، فرّ من المعسكر المصري خوفاً أن يدركه في بانياس، فأقام عنده مدّة، وكان زوّج أخته ثمّ أطلع إلى مصر، فهلك فيها في الاعتقال في سنة ٤٨١.

ملك في سنة ٤٧٣ حصن جبلة، وكان قد غلب على تلك البلاد سنين، وعجز بدر الجمالي أمير الجيوش عن مقاومته(١) (٢) .

قال ابن خلدون:

(كانت جبلة من أعمال طرابلس، وكان الروم قد ملكوها وولّوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم، فلمّا صارت للمسلمين، رجع أمرها لجمال الدولة أبي الحسن علي بن عمّار المستبد بطرابلس، وبقي منصور بن صليحة على عادته فيها، ثمّ توفّي منصور، فقام ابنه أبو محمد عبد الله مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمّار وأراد القبض عليه، فعصى هو في جبلة وأقام بها الخطبة العبّاسية، واستنجد عليه ابن عمّار دقاق بن تتش، فجاءه ومعه أتابك طغرتكين فامتنع عليهم، ورجعوا، ثمّ جاء الإفرنج فحاصروها، فامتنعت عليهم أيضاً، وشاع أنّ بركيارق جاء إلى الشام، فرحلوا ثمّ عادوا وأظهروا أنّ المصريّين جاؤوا لإنجاده، فرحلوا ثمّ عادوا فتقدّم للنصارى الذين عنده أن يداخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره، فجهّزوا إليهم ثلاثمئة من أعيانهم، فرفعهم بالحبال واحداً بعد واحد وهو قاعد على السور، حتّى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه ثمّ عادوا إليه، فهزمهم وأسر ملكهم كندا صطيل، وفادى نفسه منه بمالٍ عظيم.

____________________

(١) عن خطط الشام.

(٢) في خطط المقريزي ج ٢ ص ٢١١ أمر الجيوش أبو النجم بدر الجمالي، كان مملوكاً أرمنيّاً لجلال الدولة بن عمّار، فلذلك عُرف بالجمالي، ارتقت به الحال إلى أن ولّي دمشق من قِبَل المستنصر سنة ٤٦٥، ووليها ثانياً فيما بعد.

٣٦٥

ولمّا جهد ابن صليحة الحصار، أرسل إلى طغرتكين صاحب دمشق وبعث ابن عمّار في طلبه إلى الملك دقاق، على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله، ويعطيه ثلاثين ألف دينار، فلم يفعل.

وسار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحله من الأنبار، فبعث الوزير مَن استولى عليها، فوجد فيها ما لا يُحصى من الملابس والعمائم والمتاع وانتزع ذلك كلّه.

ولمّا ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة، وآل أمرها إلى ما سيُذكر في ترجمة فخر الدولة بن عمّار.

وفي سنة ٤٨٥ سار تاج الدولة تُتُش - صاحب دمشق - إلى طرابلس فنازلها، فرأى صاحبها جلال الملك بن عمّار جيشاً لا يدفع إلاّ بحيلة ؛ فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعاً، وكان مع قسيم الدولة أقسنقر وزير له اسمه زرين كمر، فراسله ابن عمّار، فرأى عنده ليناً فأتحفه وأعطاه، فسعى مع صاحبه قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار وتحفاً بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد والتقدّم إلى النوّاب بتلك البلاد بمساعدته والشدّ معه، والتحذير من محاربته ؛ فقال أقسنقر لتاج الدولة تتش: لا أقاتل مَن هذه المناشير بيده ؛ فأغلظ له تاج الدولة، وقال: هل أنت إلاّ تابعٌ لي؟

فقال أقسنقر: أنا أتابعك إلاّ في معصية السلطان، ورحل من الغد عن موضعه، فاضطرّ تاج الدولة إلى الرحيل، فرحل غضبان وعاد بوزان - أيضاً - إلى بلاده، فانتقض هذا الأمر.

وإليك ما جاء في تاريخ كامل ابن الأثير عن حال قاضي جبلة وجلال الملك بن عمّار في حوادث ٤٩٤ قال:

(هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة، وكان والده رئيساً بها، أيّام كان الروم مالكين لها على المسلمين، يقضي بينهم، فلمّا ضعف أمر الروم وملكها المسلمون وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمّار - صاحب طرابلس - كان منصور على عادته في الحكم فيها.

فلمّا توفّي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه، وأحبّ الجنديّة واختار الجند، فظهرت شهامته، فأراد ابن عمر أن يقبض عليه فاستشعر منه وعصى عليه وأقام الخطبة العباسيّة، فبذل ابن عمّار لدقاق بن تُتُش مالاً ليقصد ويحصره، ففعل وحصره فلم يظفر منه بشيء، وأُصيب صاحبه

٣٦٦

أتابك طغتكين بنشّابةٍ في ركبته وبقي أثرها وبقي أبو محمد بها مطاعاً إلى أن جاء الفرنج فحصروها، فأظهر أنّ السلطان بركيارق قد توجّه إلى الشام، وشاع هذا فرحل الفرنج.

فلمّا تحقّقوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره، فأظهر أنّ المصريّين قد توجّهوا لحربهم، فرحلوا ثانياً ثمّ عادوا فقرّر مع النصارى الذين بها أن يراسلوا الفرنج، ويواعدوهم إلى برجٍ من أبراج البلد ليسلّموه إليهم ويملكوا البلد.

فلمّا أتتهم الرسالة جهّزوا نحو ثلاثمئة رجل من أعيانهم وشجعانهم، فتقدّموا إلى ذلك البر، فلم يزالوا يرقون في الحبال واحداً بعد واحد، وكلّما صار عند ابن صليحة وهو على السور رجل منهم قتله، إلى أن قتلهم أجمعين.

فلمّا أصبحوا رمى الرؤوس إليهم، فرحلوا عنه وحصروه مرّةً أُخرى، ونصبوا على البلد برج خشبٍ وهدموا برجاً من أبراجه، وأصبحوا وقد بناه أبو محمد، ثمّ نقب في السور نقوباً وخرج من الباب وقاتلهم، فانهزم منهم وتبعوه فخرج أصحابه من تلك النقوب، فأتوا الفرنج من ظهورهم فولّوا منهزمين، وأسر مقدّمهم المعروف بكندا صطيل، فافتدى نفسه بمالٍ جزيل.

ثمّ علم أنّهم لا يقعدون عن طلبه، وليس له مَن يمنعهم عنه ؛ فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ مَن يثق به ليسلّم إليه ثغر جبلة، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله، فأجابه إلى ما التمس وسيّر إليه ولده تاج الملوك بوري فسلّم إليه البلد ورحل إلى دمشق، وسأله أن يسيّره إلى بغداد ففعل، وسيّره ومعه مَن يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار. ولمّا صار بدمشق أرسل ابن عمّار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق، وقال: سلّم إليّ ابن صليحة عرياناً وخذ ماله أجمع، وأنا أعطيك ثلاثمئة ألف دينار، فلم يفعل.

وهذا ما جاء في ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي في حوادث هذه السنة.

وفي شعبان منها أرسل القاضي ابن صُلَيحة المتغلّب على ثغر جبلة إلى الأمير ظهير الدين أتابك يلتمس منه إنفاذ مَن يراه من ثقاته ليسلّم إليه ثغر جبلة، ويصل إلى دمشق بماله وحاله ويسيّره إلى بغداد تحت الحوطة والأمان والحماية وجميل الرعاية ؛ فأجابه إلى ما اقترحه ووعده بتحقيق أمله، وندب لولاية الثغر المذكور ولده الأمير تاج الملوك بوري، وكان الملك شمس الملوك دقاق غائباً عن دمشق في ديار بكر، فعاد منها ودخل إلى دمشق في أوّل شوّال من السنة، وتقرّرت الحال على ما التمس ابن صليحة

٣٦٧

عنها، ووصل إلى دمشق بأصحابه وأسبابه وكراعه ودوابّه وكلّ ما تحويه يده من مالٍ وأثاثٍ وحال، فأكرم مثواه وأحسن لُقياه، وأقام ما أقام بدمشق، وسُيِّر إلى بغداد مع فرقةٍ وافرةٍ من الأجناد بجميع ما يملكه وحصل بها، واتفق له مَن وشى بماله وعظَّم سعة حاله إلى السلطان ببغداد، فنهب واشتمل على ما كان يملك.

وفي معجم البلدان لياقوت الحموي في التعليق على جبلة: قلعة مشهورة بساحل الشام من أعمال حلب قرب اللاذقيّة، ولم تزل بأيدي المسلمين بعد فتحها سنة ١٧ على أحسن حال حتّى قوي الروم وافتتحوا ثغور المسلمين، فكان فيما أخذوا جبلة في سنة ٣٥٧ بعد وفاة سيف الدولة بسنة، ولم تزل بأيديهم إلى سنة ٤٧٣، فإنّ القاضي أبا محمد عبد الله بن منصور بن الحسين التنوخي المعروف بابن ضليعة قاضي جبلة وثب عليها، واستعان بالقاضي جلال الدين بن عمّار - صاحب طرابلس - فتقوّى بها على مَن بها مِن الروم، فأخرجهم منها ونادى بشعار المسلمين، وانتقل مَن كان بها مِن الروم إلى طرابلس، فأحسن ابن عمّار إليهم، وصار إلى ابن ضليعة منها مالٌ عظيم القدر، وبقيت بأيدي المسلمين.

ثمّ ملكها الفرنج سنة ٥٠٢ في الثاني والعشرين من ذي القعدة من يد فخر الملك، إلى أن استردّها الملك صلاح الدين يوسف بن أيّوب في سنة ٥٨٤، تسلّمها بالأمان.

قال القلقشندي في كتابه صبح الأعشى: وأمّا أطرابلس فكان قد تغلّب عليها قاضيها أبو علي بن عمّار وملكها وطالت مدّته فيها.

وهو (كما جاء في خطط الشام) الذي جدّد في طرابلس دار العلم ودار الحكمة، وذلك في سنة ٤٧٢ ؛ لتكون مركزاً من مراكز التشيّع، وإنّنا لندع البحث عن مكتبة طرابلس وما جرى فيها بعد استيلاء الصليبيّين عليها من التحريق والتمزيق إلى فصلٍ مخصوص، سيكون إن شاء الله ختام تاريخ بني عمّار.

أمّا وفاة المترجَم له فلم نقف - في كتب التاريخ التي اتّخذناها مصدراً لتاريخ بني عمّار - على تاريخها، ولعلّها كانت بعد التسعين والأربعمئة، وكذلك لم يتبيّن بالتحديد بدء ولاية القاضي فخر الملك أبي علي بن عمّار بن محمد بن عمّار الكتامي.

٣٦٨

في سنة ٤٩٤ في شعبان، أرسل القاضي ابن صليحة المتغلّب على ثغر جبلة إلى الأمير ظهير الدين أتابك يلتمس منه إنفاذ مَن يراه من ثقاته ليسلّم إليه ثغر جبلة، ويصل إلى دمشق بماله وحاله، ويسيَّره إلى بغداد تحت الحوطة والأمان والحماية وجميل الرعاية، فأجابه إلى ما اقترحه ووعده بتحقيق أمله، وندب لولاية الثغر المذكور ولده الأمير تاج الملوك بوري، وكان الملك شمس الملوك دقاق غائباً عن دمشق في ديار بكر، فعاد منها ودخل إلى دمشق في أوّل شوّال من السنة، وتقرّرت الحال على ما التمس ابن صليحة، وتوجّه تاج الملوك في أصحابه إلى جبلة فتسلّمها وانفصل ابن صليحة عنها، ووصل إلى دمشق بأصحابه وأسبابه وكراعه ودوابّه، وكلّ ما تحويه يده من مالٍ وأثاثٍ وحال، فأكرم مثواه وأحسن لقياه وأقام ما أقام بدمشق وسيّر إلى بغداد، مع فرقةٍ وافرةٍ من الأجناد بجميع ما يملكه وحصل بها.

واتّفق له مَن وشى بماله وعظم سعة حاله إلى السلطان ببغداد، فنهب واشتمل على ما كان يملك.

وأمّا تاج الملوك، فإنّه لمّا ملك ثغر جبلة وتمكّن هو وأصحابه فيها، أساؤوا إلى أهله وقبحوا السيرة فيهم، وجروا على غير العادة المرضية من العدل والإنصاف، فشكوا حالهم فيما نزل بهم إلى القاضي فخر الملك أبي علي بن محمد بن عمّار المتغلّب على ثغر طرابلس لقربها منهم، فوعدهم المعونة على مرادهم وإسعادهم بالإنفاذ لهم، وأنهض إليهم عدّة وافرة من عسكره فدخلت الثغر واجتمعت مع أهله على الأتراك، فقهروهم وأخرجوهم منه وملكوه، وقبضوا على تاج الملوك وحملوه إلى طرابلس، فأكرمه فخر الملك وأحسن إليه وسيّره إلى دمشق، وكتب إلى والده أتابك يعرِّفه صورة الحال ويعتذر إليه ممّا جرى.

وفي سنة ٤٩٥ هـ وردت مكاتبات فخر الملك بن عمّار، صاحب طرابلس يلتمس فيها المعونة على دفع ابن صنجيل النازل في عسكره من الإفرنج على طرابلس، ويستصرخ بالعسكر الدمشقي ويستغيث بهم، فأجيب إلى ما التمس ونهض العسكر نحوه، وقد استدعى الأمر جناح الدولة صاحب حمص فوصل أيضاً في عسكره. فاجتمعوا في عددٍ كبيرٍ وقصدوا ناحية انطرسوس، ونهد الإفرنج إليهم في جمعهم وحشدهم، وتقارب الجيشان والتقيا هناك، فانتقم عسكر المسلمين من عسكر المشركين، وقتل

٣٦٩

منهم الخلق الكثير، وقفل مَن سلم إلى دمشق وحمص بعد فقد مَن فُقد منهم، ووصلوا في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة.

وفي رجب سنة ٤٩٧ وردت الأخبار بوصول الإفرنج في البحر من بلادهم إلى ظاهر اللاذقيّة مشحونة بالتجّار والأجناد والحجّاج وغير ذلك، وأنّ صنجيل المنازل لطرابلس استنجد بهم عليها في مضايقتها والمعونة على ملكها، وأنّهم وصلوا إليه فاجتمعوا معه على منازلتها ومضايقتها، فقاتلوها أيّاماً ورحلوا عنها.

وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية طرابلس بظهور فخر الملك بن عمّار صاحبها في عسكره وأهل البلد وقصدهم الحصن الذي بناه صنجيل، وأنّهم هجموا عليه على غرّة ممّن فيهم، فقتل مَن به ونهب ما فيه وأحرق وأخرب، وأخذ منه السلاح والمال والديباج والفضّة الشيء الكثير، وعاد إلى طرابلس سالماً غانماً في التاسع عشر من ذي الحجّة.

وفي سنة ٤٩٨ وردت الأخبار بهلاك صنجيل مقدّم الإفرنج النازلين على ثغر طرابلس في رابع جمادى الأُولى، بعد أن كان استقرّ الأمر بينه وبين فخر الملك بن عمّار صاحب طرابلس من المهادنة، على أن يكون ظاهر طرابلس لصنجيل، بحيث لا يقطع الميرة عنها ولا يمنع المسافرين منها.

وفي رجب خرج الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب وجمع خلقاً كثيراً، وعزم على قصد طرابلس لمعونة فخر الملك بن عمّار على الإفرنج النازلين عليه.

وكان الأرمن الذين في حصن ارتاح قد سلّموا إليه الحصن لمّا شملهم من جور الإفرنج وتزايد ظلمهم، فلمّا عرف طنكري ذلك خرج من انطاكية لقصد ارتاح واستعادتها، وجمع مَن في أعماله من الإفرنج، ونزل عليها وتوجّه نحو فخر الملك في عسكره لإبعاده عنها.

وقد جمع وحشد مَن أمكنه مِن عمل حلب، والأحداث الحلبيّين لقصد الجهاد، فلمّا تقاربا نشبت الحرب بين الفريقين فثبت راجل المسلمين وانهزمت الخيل، ووقع القتل في الرجّالة، ولم يسلم منهم إلاّ من كتب الله سلامته، ووصل الفلّ إلى حلب، وأحصي المفقود من الخيل والرجال فكان تقدير ثلاثة آلاف نفس.

وحين عرف ذلك مَن كان في ارتاح من المسلمين هربوا بأسرهم منها، وقصد الإفرنج بلد حلب فأجفل أهله منه ونُهب مَن نُهب وسُبي مَن سُبي.

٣٧٠

وفي سنة ٥٠٠ هـ تتابعت المكاتبات إلى السلطان غياث الدين والدنيا محمد بن ملكشاه من ظهير الدين أتابك وفخر الملك بن عمّار صاحب طرابلس، بعظيم ما ارتكبه الإفرنج من الفساد في البلاد، وتملّك المعاقل والحصون بالشام والساحل، والفتك في المسلمين ومضايقة ثغر طرابلس، والاستغاثة إليه والاستصراخ والحضّ على تدارك الناس بالمعونة ؛ فندب السلطان لمّا عرف هذه الحال الأمير چاولي سقاوة وأميراً من مقدّمي عسكره كبيراً في عسكرٍ كثيفٍ من الأتراك. وكتب إلى بغداد وإلى الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد، وإلى جكرمش صاحب الموصل بتقويته بالمال والرجال على الجهاد والمبالغة في إسعاده وإنجاده، وأقطعه الرحبة وما على الفرات فثقل أمره على المكانين، ولكنّ اشتغاله بالمحاربة مع أمراء جواره واختلافهم لم يُجدِ المستصرخين نفعاً.

وفي شعبان سنة ٥٠١ اشتدّ الأمر بفخر الملك بن عمّار، من حصار الإفرنج، وتطاول أيّامه، وتمادي الترقّب لوصول الأنجاد، وتمادي تأخّر الأسعاد، فأنفذ إلى دمشق يستدعي وصول الأمير ارتق بن عبد الرزّاق أحد أمراء دمشق إليه ليتحدث معه بما في نفسه، فأجابه إلى ذلك واستأذن ظهير الدين في ذلك، فأذن له وتوجّه نحوه.

وكان فخر الملك خرج من طرابلس في البرّ في تقدير خمسمئة فارسٍ وراجلٍ، ومعه هدايا وتحف أعدّها للسلطان عند مضيّه إليه إلى بغداد، فلمّا وصل ارتق إليه واجتمع معه تقرّرت الحال بينهما على وصوله إلى دمشق في صحبته، فوصل إليها وأنزل في مرج باب الحديد بظاهرها، وبالغ ظهير الدين في إكرامه وتناهى في احترامه وحمل إليه أمراء العسكريّة ومقدّموه من الخيل والبغال والجمال، وغير ذلك ما أمكنهم حمله وإتحافه به.

وكان فخر الملك المذكور قد استناب عنه في حفظها أبا المناقب ابن عمّه ووجوه أصحابه وغلمانه، وأطلق لهم واجب ستّة أشهر، واستحلفهم وتوثّق منهم، فأظهر عمّه الخلاف له والعصيان عليه، ونادى بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش بمصر، فلمّا عرف فخر الملك ما بدا منه كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي، ففعل ذلك. وتوجّه فخر الملك إلى بغداد ومعه تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك، وقد كان أتابك عرف أنّ جماعةً ممّن يحسده في باب السلطان، ويقع فيه بالسعاية ويقصده بالأذيّة وإفساد الحال عند السلطان،

٣٧١

فأصحب ولده المذكور من الهدايا والتحف من الخيول والثياب، وغير ذلك ممّا يحسن إنفاذ مثله، واستوزر له أبا النجم هبة الله بن محمد بن بديع، الذي كان مستوفياً للسلطان الشهيد تاج الدولة، وجعله مدبّراً لأمره وسفيراً بينه وبين مَن أنفذ إليه، وتوجّه في الثامن من شهر رمضان سنة ٥٠١، فلمّا وصل إلى بغداد لقي فخر الملك مِن السلطان مِن الإكرام والاحترام ما زاد على أمله، وتقدّم إلى جماعةٍ مِن أكابر الأمراء بالمسير معه لمعونته، وإنجاده على طرد محاصري بلده والإيقاع بهم والإبعاد لهم، وقرّر مع العسكر المجرد معه الإلمام بالموصل وانتزاعها من يد جاولي سقوة، ثمّ المسير بعد ذلك إلى طرابلس، ولكنّه جرى ما جرى من الخلاف بين الأُمراء ما أخفقت معه به مهمّة ابن عمّار وطال مقامه طولاً ضجر معه، وعاد إلى دمشق في نصف المحرّم سنة ٥٠٢.

وأقام فخر الملك في دمشق بعد وصوله إليها أيّاماً، وتوجّه منها مع خيل من عسكر دمشق، جردت معه إلى جبلة فدخلها وأطاعه أهلها.

وأنفذ أهل طرابلس إلى الأفضل بمصر يلتمسون منه إنفاذ والٍ يصل إليهم في البحر ومعه الغلّة والميرة في المراكب لتسلّم إليه البلد ؛ فوصل إليهم شرف الدولة بن أبي الطيّب والياً من قِبَل الأفضل، ومعه الغلّة، فلمّا وصل إليها وحصل فيها قبض على جماعة فخر الملك بن عمّار وأصحابه وذخائره وآلاته وأثاثه، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.

وفي سنة ٥٠٢ في شعبان، نزل الإفرنج بمجموعهم وحشدهم على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها، منذ أوّل شعبان إلى الحادي عشر من ذي الحجّة، وشاء الله أن تعاكس الريح السفن المصريّة الحاملة إليها الميرة والنجدة وتضعف عزيمة حاميتها عن الدفاع، فيملكها الإفرنج عنوة، في يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة، ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر علمها، وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يُحد عدده ولا يُحصر فيُذكر(١) .

وتقرّر بين الإفرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلث من البلد وما نُهب منه والثلثان لريمند بن صنجيل، وأفردوا للملك بغدوين من

____________________

(١) عن القلانسي.

٣٧٢

الوسط ما رضي به وكان طنكري لمّا لم ينل ما أراد من نصرة الرواني قد عاد ونزل بانياس (ص: ١٦٣ القلانسي). وجرى على أهلها منهم البلاء العظيم، وسُلّم الوالي بها وجماعة من جنده كانوا التمسوا الأمان، والله غالبٌ على أمره.

ثمّ نزل طنكري على ثغر جبيل في شوّال، وفيه فخر الملك بن عمّار، والقوت فيه نزر قليل.

فلم يزل مضايقاً له ولأهله إلى يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجّة، فراسلهم وبذل لهم الأمان فأجابوه إلى ذلك، فتسلّمه بالأمان وخرج منه فخر الملك بن عمّار سالماً، وقد وعده بإحسان النظر والإقطاع.

وفي سنة ٥٠٣ لمّا تأخّرت العساكر السلطانيّة من بغداد، لنجدة الديار الشاميّة على غزوات الإفرنج وأفاعيلهم العجيبة في المسلمين، حملت ظهير الدين أتابك الحميّة الإسلامية على التأهّب للمسير بنفسه إلى بغداد ولخدمة الدار العزيزة النبويّة المستظهرية والمواقف السلطانية الغياثيّة، والمثول بها والشكوى لما نزل بالمسلمين، وتأهّب للمسير واستصحب معه فخر الملك ابن عمّار وخواص أصحابه وما أمكنه من الخيول العربية السبق، وطرف مصر من أجناس اللباس وما يصلح لتلك الجهات من التحف والهدايا من كلّ فنٍ له قيمة وافرة.

وتوجّه في البريّة على طريق السماوة، فاستناب في دمشق ولده تاج الملوك بوري ووصّاه بما يجب عمله من استعمال اليقظة في الذب والحماية وإحسان السيرة في الرعيّة.

فلمّا سار وحصل في الوادي المعروف بوادي المياه من البريّة، وافى الخبر بما شاع من المرجفين ببغداد من الحديث بتقليد السلطان بلاد الشام لأمراء عيّن عليهم، ووقعت الإشارة في ذلك إليهم، فأحدث هذا الخبر وحشة أوجبت عوده من طريقه، واعتمد على فخر الملك بن عمّار، ومَن عوّل عليه مِن ثقاته في الإتمام إلى بغداد بما صحبه من التحف والهدايا، والمناب عنه في إنهاء ما دعاه إلى العود من طريقه، فوصل فخر الملك إلى بغداد بما صحب، فصادف من الابتهاج بمقدمه والتأسّف على عود أتابك، ولم يصل ويشاهد ما زاد على الأمل وظهور بطلان تلك الأراجيف بالمجال الذي لا حقيقة له(١) .

____________________

(١) عن ابن القلانسي ص ١٦٦.

٣٧٣

وفي الجزء الخامس من تاريخ ابن خلدون ص ٣٨ و ٣٩، يذكر قدوم ابن عمّار صاحب طرابلس على السلطان محمد شاه بن ملكشاه، قال: كان فخر الدولة أبو علي بن عمّار - صاحب طرابلس - استبدّ بها على العبيديّين، فلمّا ملك الإفرنج سواحل الشام ردّدوا عليها الحصار فضاقت أحوالها، فلمّا انتظم الأمر للسلطان محمد واستقام ملكه، قصده فخر الملك بن عمّار صريخاً للمسلمين، بعد أن استخلف على طرابلس ابن عمّه ذا المناقب، وفرّق في الجند عطاءهم لستّة أشهر، ورتّب الجامكية في مقاعدهم للقتال، وسار إلى دمشق، فلقيه طغتكين أتابك، وخيّم بظاهرها أيّاماً، ورحل إلى بغداد، فأركب السلطان الأمراء لتلقّيه، ولم يدّخر عنه بِرّاً ولا كرامةً وكذلك الخليفة، وأتحف السلطان بهدايا وذخائر نفيسة، وطلب النجدة وضمن النفقة على العسكر، فوعده بالنصر وأقام، ثمّ لقي الأمر حسين بن أتابك طغتكين ليسير بالعساكر إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال صدقة وچاولي، ثمّ يسير معه إلى الشام.

ثمّ رحل السلطان عن بغداد سنة إحدى وخمسمئة لقتال صدقة، واستدعى ابن عمّار وهو بالنهروان فودّعه وسار معه الأمير حسين إلى دمشق. وكان ابن عمار لمّا سار عن طرابلس استخلف ابن عمّه ذا المناقب، فانتقض واجتمع مع أهل طرابلس على إعادة الدولة العلويّة، وبعثوا إلى الأفضل ابن أمير الجيوش المستبدّ على الدولة بمصر بطاعتهم ويسألون الميرة ؛ فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيّب والياً معه الزاد من الأقوات، فدخل البلد وقبض على أهل ابن عمّار وأصحابه واستصفى ذخائرهم، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.

وفي هذا الجزء: ثمّ سار طغركين سنة ٥٠٢ إلى طبريّة، ووصل إليها ابن أخت بقدوين (بغدوين) ملك القدس من الإفرنج فاقتتلوا، فانهزم المسلمون أوّلاً، فنزل طغركين ونادى بالمسلمين فكرّوا، وانهزم الإفرنج وأُسر ابن أخت بغدوين، وعرض عليه طغركين الإسلام فامتنع فقتله بيده، إلى أن قال:

وسار بعدها طغركين إلى حصن غزّة في شعبان من السنة، وكان بيد مولى القاضي فخر الملك بن علي بن عمّار صاحب طرابلس، فعصى عليه، وحاصره الإفرنج وانقطعت عنه الميرة، فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق أن يمكّنه من الحصن ؛ فأرسل إليه إسرائيل من أصحابه، فملك الحصن وقتل صاحبه مولى ابن عمّار غيلة ليستأثر بمخلفه، فانتظر طغركين دخول الشتاء

٣٧٤

وسار إلى الحصن لينظر في أمره، وكان أسرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس، فلمّا سمع بوصول طغركين حصن الأكمة وأغذّ السير إليه فهزمه وغنم سواده، ولحق طغركين بحمص ونازل أسرداني غزّة فاستأمنوا إليه، وملكها وقبض على إسرائيل فادى به أسيراً كان لهم بدمشق منذ سبع سنين.

وفيه: كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين، قيل قد لازم حصار طرابلس، وزحف إليه قلج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به، وعاد صنجيل مهزوماً، فأرسل فخر الدولة بن عمّار صاحب طرابلس إلى أميرٍ آخر جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تُتُش يدعوه إلى معالجته، فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مدداً من عند دقاق واجتمعوا على طرابلس، وفرّق صنجيل الفلّ الذي معه على قتالهم، فانهزموا كلّهم وفتك هو في أهل طرابلس، وشدّ حصارها وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها، ثمّ صالحوه على مالٍ وخيل.

ورحل عنهم إلى طرسوس من أعمال طرابلس، فحاصرها وملكها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار، ومقدّمه ابن العريض فامتنع عليهم، وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره وأسروا زعيماً من زعماء الإفرنج، بذل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم يعاوده، وذلك كان سنة خمس وتسعين وأربعمئة.

وجاء في غير تاريخ ابن خلدون عن هذه الموقعة: في هذه السنة (٤٩٥) ما يلي:

لمّا دخل صنجيل ببعض فلوله بعد تنكيل قلج ارسلان بن قتلمش صاحب قونية به وبجيشه البالغ عدده مئة ألف مقاتل إلى الشام، وفلوله تبلغ ثلاثمئة، أرسل فخر الملك بن عمّار صاحب طرابلس إلى الأمير ياخز جناح الدولة على حمص فإلى الملك دقاق بن تُتُش، يقول:

من الصواب أن عاجل صنجل إذ هو في العدّة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسيّر دقاق ألفي مقاتل وأتتهم الامداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس وصافوا صنجيل هناك فأخرج مئة من عسكره إلى أهل طرابلس، ومئة إلى عسكر دمشق وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين، فأنكر عسكر حمص وعسكر دمشق عند ملاقاة عسكر صنجيل لهم، وأمّا أهل طرابلس فإنّهم قاتلوا المئة الذين قاتلوهم، فلمّا شاهد ذلك صنجيل حمل في المئتين الباقية، فكسروا أهل طرابلس وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل، ونازل صنجل طرابلس وحصرها، وأتاه أهل الجبل فأعانوه على

٣٧٥

حصارها، وكذلك أهل السواد وأكثرهم نصارى فقاتل مَن بها أشدّ قتال فقتل من الإفرنج ثلاثمئة، ثمّ إنّه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة انطرسوس وهي من أعمال طرابلس، فحصرها وفتحها وقتل مَن بها من المسلمين، ثمّ ما زال صنجيل محاصراً طرابلس إلى سنة ٤٩٦، وكانت تأتي طرابلس المواد، وبها فخر الدولة بن عمّار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الإفرنج ويقتلون مَن وجدوا، وقصد بذلك أن يخلوا السواد ممّن يزرع لتقلّ المواد عن الفرنج فيرحلوا عنه.

شدّد صنجيل الحصار على طرابلس، وقد استعان بقوّات الفرنج المحمولة على مراكبهم إلى اللاذقيّة برّاً وبحراً، وضايقها بجنده أيّاماً فلم يروا فيها مطمعاً، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل فحصروها وقاتلوا عليها قتالاً شديداً، ولمّا رأى المحاصرون عجزهم عن الفرنج سلّموهم البلد أماناً بعد أن أعطوه، ولكنّ الفرنج لم يفوا لهم بذلك وأخذوا أموالهم واستنفدوها بالعقوبات وأنواع العذاب.

وكان فخر الملك بن عمّار قد كاتب، لمّا شدّد عليه الفرنج الحصار، سقمان بن ارتق يستدعيه إلى نصرته على الفرنج، وبذل له المعونة بالمال والرجال، فبينما هو يتجهّز للمسير أتاه كتاب طغتكين - صاحب دمشق - يخبره أنّه مريض قد أشرف على الموت، وأنّه يخاف إن مات وليس بدمشق مَن يحميها أن يملكها الفرنج، ويستدعيه ليوصي إليه وبما يعتمده في حفظ البلد، فلمّا رأى ذلك أسرع في المسير عازماً على أخذ دمشق، وقصد الفرنج طرابلس وإبعادهم عنها.

وكان صنجيل قد أقام ابن أخته على حصار طرابلس، وقد أوقع بعسكره طغتكين المقيم بحصن رفتية، فملكه طغتكين وقتل به خمسمئة رجل من الفرنج.

وفي سنة ٤٩٩ شدّد صنجيل الحصار على طرابلس بعد امتلاكه جبلة، وحيث لم يقدّر أن يملكها بنى بالقرب منها حصناً وبنى تحته ربضاً وأقام راصداً لها ومنتظراً وجود فرصةٍ فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمّار فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المنحرقة ومعه جماعة من القمامصة والفرسان فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيّام ومات، وحُمل إلى القدس فدُفن فيه.

ثمّ إنّ ملك الروم أمر أصحابه باللاذقيّة ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس فحملوها في البحر،

٣٧٦

فأخرج إليها فخر الملك بن عمّار أسطولاً، فجرى بينهم وبين الروم قتالٌ شديد، فظفر المسلمون بقطعةٍ من الروم فأخذوها وأسروا مَن كان بها، ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات به وخاف أهله على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمّار صبرٌ عظيمٌ وشجاعةٌ ورأيٌ سديد، وممّا أضرّ بالمسلمين فيها: أنّ صاحبها استنجد سقمان بن ارتق فجمع العساكر وسار إليه فمات في الطريق.

وأجرى ابن عمّار الجرايات على الجند والضعفاء، فلمّا قلّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا إنّ صاحبنا صادرنا فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا له أن تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جمعاً على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيءٍ إلى البلد، فأرسل ابن عمّار وبذل للفرنج مالاً كثيراً ليسلّموا الرجلين إليه فلم يفعلوا، فوضع عليهما مَن قتلهما غيلة.

وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجمّلاً وثروة ؛ فباع أهلها من الحلي والأواني ما لا حدّ عليه حتّى بيع كلّ مئة درهم نقرة بدينار(١) .

وفي كامل ابن الأثير الجزء ١٠: في هذه السنة ٥٠١ في شهر رمضان ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمّار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد قاصداً باب السلطان محمد مستنفراً على الفرنج طالباً لتسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثّه على ذلك أنّه لمّا طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس ضاقت عليه الأقوات وقلت واشتدّ الأمر عليه وعلى أهل البلد ؛ فمنَّ الله عليهم سنة خمسمئة بميرة في البحر من جزيرة قبرس وانطاكية وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد بعد أن كانوا استسلموا، فلمّا بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كلّ مخالفٍ، رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به، فاستناب بطرابلس ابن عمّه ذا المناقب وأمره بالمقام بها، ورتّب معه الأجناد براً وبحراً، وأعطاهم جامكية ستّة أشهر سلفاً وجعل كلّ موضعٍ إلى مَن يقوم بحفظه، بحيث إنّ ابن عمّه لا يحتاج إلى فعل شيءٍ من ذلك، وسار إلى

____________________

(١) كامل ابن الأثير الجزء العاشر الصفحة ١٧٠.

٣٧٧

دمشق فأظهر ابن عمّه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار المصريين، فلمّا عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي، ففعلوا ما أمرهم، وكان ابن عمّار قد استصحب معه من الهدايا ما لا يوجد عند ملكٍ مثله من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة والخيل الراضقة، فلمّا وصلها لقيه عسكرها وطغتكين أتابك وخيّم على ظاهر البلد، وسأله طغتكين الدخول إليه فدخل يوماً واحداً إلى الطعام وأدخله حمامه، وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيّعه، فلمّا وصل إلى بغداد أمر السلطان كافّة الأمراء بتلقّيه وإكرامه، وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها، فلمّا نزل إليه قعد بين يدي موضع السلطان، فقال له مَن بها من خواص السلطان:

قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان، فلمّا دخل على السلطان أجلسه وأكرمه وأقبل عليه يحدّثه. وسيّر الخليفة خواصّه وجماعة أرباب المناصي فلقوه، وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة، وكذلك فعل السلطان وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله.

وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا ولأجر الآخرة أكبر.

ولمّا اجتمع بالسلطان قدّم هديته، وسأله السلطان عن حاله وما يعانيه في مجاهدة الكفّار، ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله وقوّة عدوّه وطول حصره، وطلب النجدة، وضمن أنّه إذا سُيّرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وحضر دار الخلافة وذكر - أيضاً - نحواً ممّا ذكره عند السلطان، وحمل هديةً جميلةً نفيسةً، وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداد في شوّال، فأحضره عنده بالنهروان، وقد تقدّم إلى الأمر حسين بن اتابك قتلغتكين ليسيّر معه العساكر التي سيّرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال چاولي سقاوه، وليمضوا معه إلى الشام، وخلع عليه السلطان خلعاً نفيسة وأعطاه شيئاً كثيراً، وودّعه وسار ومعه الأمير حسين فلم يُجدِ ذلك نفعاً، ثمّ إنّ فخر الملك بن عمّار عاد إلى دمشق منتصف المحرّم سنة اثنتين وخمسمئة، فأقام بها أيّاماً وتوجّه منها مع العسكر من دمشق إلى جبلة، كما تقدّم ذلك سابقاً.

وفي هذه السنة في شعبان انهزم اتابك طغتكن من الفرنج، وسبب ذلك أنّ حصن عرقة وهو من أعمال طرابلس كان بيد غلامٍ للقاضي فخر

٣٧٨

الملك أبي علي بن عمّار صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعصى على مولاه فضاق به القوت وانقطعت عنه الميرة ؛ لطول مكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى اتابك طغتكين صاحب دمشق، وقال له:

أرسل مَن يتسلّم هذا الحصن منّي، قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحباً له اسمه إسرائيل في الأخلاط بسهمٍ فقتله، وكان قصده بذلك أن لا يطلع اتابك طغتكين على ما خلّفه بالقلعة من المال.

وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه وتقويته بالعساكر والأقوات وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدّة شهرين ليلاً ونهاراً فمنعه، فلمّا زال ذلك، سار في أربعة آلاف فارس ففتح حصوناً للفرنج منها حصن الأكمة، فلمّا سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين وهو على حصار طرابلس توجّه في ثلاثمئة فارس، فلمّا أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين، انهزموا وخلّوا ثقلهم ورحالهم ودوابّهم للفرنج، فغنموا وقووا به وزاد في تجمّلهم.

ووصل المسلمون إلى حمص على أقبح حالٍ من التقطّع، ولم يُقتل منهم أحد ؛ لأنّه لم تجر حرب.

وقصد السرداني إلى عرقة، فلمّا نازلها طلب مَن كان بها الأمان فأمنهم على نفوسهم، وتسلّم الحصن فلمّا خرج مَن فيه قبض على إسرائيل، وقال لا أطلق عنه إلاّ بإطلاق فلان - وهو أسير كان بدمشق من الفرنج منذ سبع سنين - ففُودي به وأُطلقا معاً.

ولمّا وصل طغتكين إلى دمشق بعد الهزيمة، أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنّني أنقض الهدنة للذي تمّ عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر ممّا نالك ثمّ تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة.

وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كلّ ما أراد.

وفي هذا الجزء في حوادث سنة ٥٠٣:

ملك الفرنج طرابلس وسواها من الشام

في حادي عشر ذي الحجّة ملك الفرنج طرابلس، وسبب ذلك: أنّ طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها، والمدد يأتي إليها منه، كما تقدّم ذكر ذلك سنة (٥٠١)، فلمّا كان هذه السنة أوّل شعبان

٣٧٩

وصل أسطولٌ كبيرٌ من بلاد الفرنج في البحر، ومقدّمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل، ومراكبه مشحونة بالرجال والسلاح والميرة، فنزل على طرابلس، وكان نازلاً عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل وليس بابن أخت ريمند هذا، بل هو قمص آخر، فجرت بينهما فتنةٌ أدّت إلى الشرّ والقتال ؛ فوصل طنكري صاحب انطاكية إليها معونةً للسرداني، ووصل الملك بغدوين صاحب القدس في عسكره فأصلح بينهم.

ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس، وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها، من أوّل شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها، فلمّا رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم، وذلّت نفوسهم، وزادهم ضعفاً تأخّر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة، وكان سبب تأخّره أنّهم فرغوا منه ومن البحث عليه واختلفوا فيه أكثر من سنة، وسار فردَّته الريح فتعذّر عليهم الوصول إلى طرابلس( ليقضيَ الله أمراً كان مفعولاً ) .

وسدّ الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عنوةً وقهراً، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة من السنة، ونهبوا ما فيها وأسروا الرجال وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يُحد ولا يُحصى ؛ فإنّ أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالاً وتجارة.

وسلم الوالي الذي كان بها وجماعةٌ من جندها، كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق.

وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم من مكامنهم.

٣٨٠

٣٨١

امتلاك الفرنج بعض أعمال طرابلس ومصير فخر الملك

لمّا فرغ الفرنج من طرابلس، سار طنكري صاحب أنطاكية إلى بانيس وحصرها وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك ابن عمّار الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجّة من السنة بالأمان.

وخرج فخر الملك بن عمّار سالماً، ووصل عقيب ملك طرابلس الأسطول المصري بالرجال والمال والغلال وغيرها ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيّام، للقضاء النازل بأهلها، وفرّقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور وصيداء وبيروت.

وأمّا فخر الملك ابن عمّار فإنّه قصد شيزر ؛ فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني واحترمه، وسأله أن يقيم عنده فلم يفعل، وسار إلى دمشق فأنزله طغتكين صاحبها وأجزل له في الحمل والعطيّة وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرّم سنة اثنتين وخمسمئة.

وفي ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي: كان ذلك في محرّم سنة ٥٠٣، وكان سفر فخر الملك بن عمّار مع ظهير الدين اتابك إلى بغداد في جمادى الأُولى من هذه السنة، أي بعد امتلاك الفرنج لطرابلس.

ولم يرد ذكرٌ لفخر الملك بن عمّار من هذه السنة إلى سنة ٥١٤ في المصادر التي نعتمدها، فقد جاء في الجزء العاشر من كامل ابن الأثير في أحداث هذه السنة:

٣٨٢

وفي هذه السنة سار أبو علي بن عمّار - الذي كان صاحب طرابلس - مع سديد الدولة ابن الأنباري إلى إيلغازي، وكان قد أرسل المسترشد بالله خلعاً معه إليه، وشكره على ما فعله من غزو الفرنج، ليقيم عنده يعبر الأوقات بما ينقم به عليه، وكان إيلغازي هذا صاحب حلب توفّي سنة ٥١٦.

وجاء قبل هذا في الجزء العاشر من كامل ابن الأثير في حوادث سنة ٥١٤ ما يتعلّق بابن عمّار ما يلي:

واتّصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيّد محمد بن أبي إسماعيل يكتب الطغراء مع الملك، فلمّا وصل والده استوزره مسعود بعد أن عزل أبا علي بن عمّار - صاحب طرابلس - سنة ثلاث عشرة بباب خوي.

وبعد هذا لم نجد لابن عمّار ذكراً، وانقطعت أخباره، والظاهر أنّه صرف أُخريات أيّامه في حلب، وقد لجأ إلى صاحبها نجم الدين إيلغازي بصحبة سديد الدولة بن الأنباري، الذي أوفده المسترشد بالله إليه كما سبق بيانه.

قرأت في الجزء ١٨٢ من مجلّة الجديد مقالاً تحت عنوان: ابن عمّار أبي علي بطل طرابلس، بقلم لحد خاطر، فرأيت الإفادة بضمّه إلى سلسلة تاريخه.. قال:

(كان أبو علي فخر الملك ابن عمّار حاكماً لطرابلس من قِبَل ظهير الدين طغتكين نائب الدولة السلجوقية في دمشق، وهذه الدولة من الترك ظهرت في العجم واستولت على العراق ودمشق، ولم تلبث أن استولت على بعض المدن الساحليّة والإقطاعات الجنوبيّة من لبنان، منتزعة إيّاها من الدولة الفاطميّة التي نشأت في المغرب، وجعلت قاعدة حكمها القاهرة، وبسطت سلطانها على أنحاء كثيرة من الشرق الأدنى منها: سورية وبعض جهات لبنان.

كانت طرابلس في ذلك العهد أهم عمل على الشاطىء اللبناني، وقد أسند طغتكين ولايتها إلى ابن عمّار، لما كان قد خبره فيه من الألمعيّة

٣٨٣

والدهاء، وقوّة الشكيمة، عاهداً إليه في أن يواصله بالتقارير عن حالة لبنان، يشبعها درساً ويبثّ إليه بالخطّة الواجب سلوكها لتطهيره من أحلاف الفاطميّين، ووضعه نهائيّاً تحت السيطرة السلجوقيّة.

وكان لبنان بلداً مقسّماً لا حدود ثابتة له ؛ لوفرة ما كان يحيط به من المطامع، وقصارى ما يمكن قوله عنه: إنّه كان يتألّف من عدّة إقطاعات، على كلٍّ منها أمير أو مقدّم يكاد يكون مستقلاًّ تمام الاستقلال في أعماله.

ومن أخصّ الإقطاعات في الساحل اللبناني بذلك العهد: طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور، وهي إقطاعات كان يتنازعها يومئذٍ السلجوقيّون والفاطميّون، فبينا هي اليوم لهؤلاء إذا بها في اليوم الثاني لأولئك.

وكان السلجوقيّون يتقوّون عليها بجيشهم البرّي، بينما كان الفاطميّون يحرزونها بقوّة أسطولهم البحريّ المؤلّف من مئات المراكب الحسنة التنظيم المشحونة بالمقاتلة وأنواع الأسلحة والذخائر.

أمّا الإقطاعات الجبليّة، فكانت الشماليّة منها من أقصى لبنان إلى حمانا ونهر الجعماني، فكانت بأيدي أمراء الموارنة وبني فوارس جدود آل أبي اللمع المعروفين بالأمراء الجرديّين.

وأمير النصيريّين الملقّب بشيخ الجبل، فكان هؤلاء على تباينهم في الدين، يؤلّفون حلفاً قوميّاً فيما بينهم يعمل بكلّ وسيلةٍ على صيانة استقلالهم، والوقوف في وجه كلّ طامعٍ يبسط أيّة سيطرةٍ عليهم.

أمّا الإقطاعات الجنوبيّة من حمانا وما حاذاها شرقاً وغرباً فقد كانت بأيدي أمراء الغرب التنوخيين، وكان هؤلاء نزلوا مواطنهم بأمر العبّاسيين، فاضطرّوا إلى مماشاتهم، ثمّ ماشوا من بعدهم الفاطميّين والسلجوقيّين، على أنّ تلك المماشاة كانوا يقصرونها على ما يرون فيه منفعتهم وتقوية نفوذهم.

وممّا يُؤسف له أنّهم أطاعوهم مراراً في مهاجمة الشماليّين وقتالهم لنزع استقلالهم، فنشأت بسبب ذلك بين اللبنانيين دهراً عصبيّة ممقوتة دهتهم بالفواجع وزادت في تخاذلهم وإيهان قوّتهم.

درس أبو علي حالة لبنان تلك، ورفع عنها التقارير إلى مولاه طغتكين،

٣٨٤

فوردته الأوامر بالاستعداد لتدويخ لبنان برمّته، وطرد الأحزاب الفاطميّة منه، وإرغامه على الخضوع للدولة السلجوقيّة وجعله عملاً من أعمالها، على أن يكون هو العامل الأعلى من قِبَلها، ولكن حدث له حينئذٍ ما صرفه عن نيّته تلك واضطرّه إلى تحويل جهوده إلى ناحيةٍ أُخرى بُلي فيها بالخذلان على ما أبداه من البطولة والشدّة في المقاومة، وكان خذلانه ذلك وسيلة علويّة لصيانة لبنان.

ذلك أنّ جموع الإفرنج المستنفرين إلى الشرق من جميع ممالك أوروبة إثر ما سمعوه عنه من الأحاديث ذات الشجون، تحوّلوا عن بعلبك والبقاع في طريقهم إلى بيت المقدس، ومالوا إلى الغرب وساروا على سيف البحر جنوباً، يكتسحون البلدان ويفتحون المدن، ممّا دلّ على الصولة والبطش.

وكان أبو علي حادّ الذهن ذكيّاً ؛ فعرف أنّهم واصلون إليه، ولا ريب، وشيكاً فلم يجبن إزاء هذا الاستنتاج، ولا تردّد بل نهض في الحال - بما عُرف به من همّةٍ عاليةٍ ونيّرة وقّادة - إلى حشد الجنود وجمع المؤن وترميم الحصون والأسوار، ولكنّ الفرنجة فاجأُوه قبل أن يستكمل معدّات دفاعه، وفيما كان يفكّر في أمره جاءه مَن أخبره أنّ أُمراء الجبال الشمالية لاقوا الفرنجة مرحبين، وقد نالوا لديهم حظوة، وكانت له صلة ولاء بأحد نبلائهم الأمير موسى حاكم بشراي، فرأى توسيطه في صرفهم بالحسنى عن المدينة، ريثما يتيّسر له إنجاز ما بدأ به.

وكان الأمير موسى يحب في أبي عليٍّ شجاعته وسموّ مؤهّلاته، ولكنّه كان ينكر عليه أشياء منها: تضييقه أحياناً على بعض الضعفاء من سكّان المدينة، وتسامحه في إرهاق بعض العامّة من اللبنانيين المختلفين إليها، فلمّا جاء يكلّفه التوسّط، وعده بإجابة طلبه على أن يرجع عمّا كان يؤاخذه عليه من أعماله، فأسمعه هو أيضاً أحسن المواعد.

نجح الأمير موسى في مهمّته، وصالح الإفرنج ابن عمّار، على أن يقدّم لهم بعض المؤن والذخائر بثمنٍ عادل ؛ فتابعوا طريقهم في الساحل دون أن يدخلوا المدينة، وبعد رحيلهم عاد أبو علي إلى استعداداته، لا يعرف فيها ليناً ولا هوداة، وبعد مدّةٍ جعل يعتقل بعض الأبرياء، خصوصاً ممّن أصلهم من الجبال التابعة للأمير موسى بناءً على وشاياتٍ كاذبةٍ، ويودعهم السجن، وأمر بإقفال الأسوار.

وكان من المعتقلين أسرة بشراويّة

٣٨٥

الأصل فيها فتاة أحبّها الأمير موسى منذ صغره تُدعى جميلة، وكان ينوي الاقتران بها، فلمّا بلغه الخبر كتب إلى صديقه ابن عمّار يسأله إطلاق سراحها مع أُسرتها وإرسالهم إلى بشراي، فلم يردّ عليه الوالي جواباً ؛ فأظلمت الدنيا في عينيّ الأمير، وبينما كان يفكّر فيما يعمله لإنقاذ هذه الأسرة المسكينة، إذا بريموند كونت دي تولوز المعروف عند العرب بصنجيل الفرنجي يصل في سنة ١١٠٢م ويقيم عليها الحصار، وكانت جموعه قليلة، فاشتدّ ابن عمّار في مغالبته، فلم يفز من طرابلس بطائل، وبعث ابن عمّار مَن أقنعه أنّ طرابلس لا تُؤخذ وفيها أبو علي، فتحوّل صنجيل عنها لقاء مبلغ من المال، وسار يحاصر طرطوس وغيرها، وعاد الأمير موسى يكتب إلى ابن عمّار، ويذكّره بوعوده، طالباً الإفراج عن مَن سجنهم وفيهم من يحب، فلم يلق إلاّ إعراضاً.

وفتح ريموند طرطوس وحمص وعاد في سنة ١١٠٤م إلى طرابلس، فحاصرها ثانيةً برّاً وبحراً، مستعيناً ببعض النجدات من الإفرنج والوطنيّين الناقمين على ابن عمّار، لكنّ هذا الرجل الفولاذي العزيمة كان يحسن البلاء في الدفاع عنها، مستخدماً تارةً البطش وطوراً الحيلة في مماطلة الإفرنج، إلى أن أغراهم ببعض المال، فتركوه وساروا إلى جبيل، وكانت واهنة فتسلّموها سلماً، ولم يلبثوا أن عادوا إلى طرابلس، وكان صاحبها تنفّس الصعداء زمناً واستطرد التحصّن، فاشتدّ في قتالهم عهداً مديداً لا يقلّ عن خمس سنين، حتّى لقد أصبح اسمه (أبو علي) مثلاً ما زال يُضرب في لبنان حتّى اليوم لكلّ (قبضاي) متفوّق بشجاعته واستهتاره بالأخطار.

وبنى ريموند دي صنجيل على جبل الحجّاج وراء طرابلس حصناً دعي باسمه (حصن صنجيل) وأقام تحته ربضاً، فخرج فخر الملك أبو علي إليه فأحرق الربض، وكان صنجيل واقفاً على بعض سقوفه المحروقة، فانخسف به السطح ومات بعد عشرة أيّام، فحلّ ابنه برتران محلّه وواصل الحصار، وأظهر ابن عمّار صبراً عظيماً في مجالدته إلى أن قلّت الأقوات، ووفّرت الويلات فانسلّ من طرابلس ليلاً، وقصد إلى بغداد مستفزّاً صاحبها الملك السلجوقي لمعونته على إزاحة خصومه، حاملاً إليه الهدايا النفيسة، وذلك بعد أن استناب عنه ابن عمّه (أبا المناقب)، ورتّب معه الأجناد لمواصلة الحرب برّاً وبحراً، وأعطاهم (جامكية) ستّة أشهر سلفاً، فانقلب

٣٨٦

ابن عمّه في غيابه ونادى بشعار الفاطميّين، ولكنّ أصحاب أبي عليٍّ اعتقلوه وأودعوه السجن في حصن (الخوابي) حيث سُجنت الأميرة اللبنانية وأُسرتها.

ورأى أهل طرابلس أنّهم أضحوا بدون رئيس يتولّى قيادتهم، فراسلوا الأفضل أمير الجيوش في دولة المستعلي بالله ملك مصر الفاطمي، يلتمسون منه والياً يكون عليهم ومعه الميرة والذخيرة في البحر، فسيَّر إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيّب ومعه الأعتدة والمؤن، وغيرها ممّا يحتاجون إليه في الحصار، فلمّا صار بينهم قبض على جماعةٍ من أهل ابن عمّار وأصحابه، فقتل بعضهم وسجن آخرين، وأخذ ما وجد من ذخائره وآلاته، وحملها كلّها إلى مصر في البحر.

وشعر المحاصرون بضعف المدينة بعدما صارت إليه في غياب ابن عمّار، فساروا إليها من كلّ جهة، واضطرّ الأمير جرجس وأحلافه اللبنانيّون إلى نجدتهم لإنقاذ أسراهم.

وأرسل ملك مصر إليها أسطولاً، ولكنّ ريحاً عاصفاً ثارت على الأسطول فصدّته عن الوصول، فملكها الإفرنج بعد أن طلب أهلها الأمان فأمنوهم، وأذن لهم بالخروج منها حاملين من أموالهم وأمتعتهم ما أمكنهم حمله.

جعلت طرابلس بعد هذا الحصار الطويل عملاً رابعاً من أعمال الإفرنج في الشرق، وولّى عليها برتران بن ريموند صنجيل، ووُجدت الأسرة البشراوية في دهليز من دهاليز حصن الخوابي على آخر رمق من الحياة فزفّت فتاتها (جميلة) إلى الأمير موسى، واضطرّ ابن عمّار بعد عوده من بغداد وضياع منصبه أن يلجأ إلى لبنان، فارّاً من وجه الإفرنج مستجيراً بالأمير موسى، فأحلّه هذا الأمير عنده على الرحب والسعة.

٤ - ذو المناقب ابن عمّ فخر الملك بن عمّار:

وهو الذي استنابه على ولاية طرابلس سنة ٥٠١، حين سافر إلى بغداد يستنجد السلطان محمد بن ملك شاه على الفرنج، وقد عرفت عصيانه أمر ابن عمّه ومناداته بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش بمصر.

وهذا كلّ ما وقفنا عليه من خبره في المصادر التاريخية التي بأيدينا، ولعلّه هو أبو المناقب ممدوح بن الخيّاط.

٣٨٧

٥ - أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمّار:

هو معاصر لأبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الملقّب بالرحّالة الإمامي، المتوفّى سنة ٤٤٩ هـ، وبأمره ألّف له كتاب: نهج البيان في مناسك النسوان، وكتاب: عدّة البصير في حجّ يوم الغدير.

٦ - القاضي أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمّار:

ألّف الكراجكي المذكور باسمه كتاب البستان في الفقه، وهو معنى لم يطرق وسبيل لم يُسلك، قسّم فيه أبواباً من الفقه وفرّع كلّ فنٍّ منها، حتّى حصل كلّ باب شجرة كاملة يكون نيّفاً وثلاثين شجرة.

٧ - شمس الملك أبو الفرج محمد بن أمين الدولة عبد الله بن عمّار، وهو كما يظهر ابن المترجَم له الخامس من أبناء عمار.

لم نجد له ذكراً في غير ديوان الشاعر ابن الخيّاط الدمشقي، وهو من ممدوحيه كما جاء في هذا الديوان.

وقال في مدح شمس الملك إلى آخر نسبه المصدّرة به (ترجمته) يهنّئه بولده وأنشده إيّاها بطرابلس، مستهلّها:

أترى الهلال أنار ضوء جبينه حـتّى أبان الليل عن مكنونه

٨ - شرف الدولة بن فخر الملك بن عمّار:

هو ابن فخر الملك أبي علي محمد بن عمّار المترجَم له الخامس، وهو الذي مرّت ترجمته مفصّلة، وما أبلاه في الدفاع عن طرابلس ونهاية أمره، ورد له ذكر في ديوان ابن الخيّاط الشاعر الدمشقي الآنف الذكر، وله فيه قصيدة يمدحه بها ويهنّئه بعيد الفطر والبرء، مستهلّها:

لنا كلّ يومٍ هناء جديد وعيد محاسنه لا تبيد

وهذا شرف الدولة هو الذي هنّأ أباه فخر الملك ارتجالاً بظهوره يوم ركوبه، مستهلّها:

ألا هكذا تستهلّ البدور محلٌ عليٌ ووجه منير

وقد جاء في مجلّة المباحث الطرابلسيّة للمؤرّخ المحقّق جرجي يني

٣٨٨

ذكر لقاضيين من قضاة بني عمّار لم نجده في المصادر التاريخية التي اعتمدناها في مباحث هذا الكتاب، ولعلّه استقى ذلك من مصادر تاريخية افرنجية، فرأينا أن نعتمده في ذكرهما حتّى لا يفوتنا شيءٌ ممّا يتعلّق بهؤلاء القضاة:

الأول: القاضي الحسن بن عمّار هو القاضي أبو طالب، وهو أوّل من استبدّ بإمرة طرابلس، وهو أوّل مَن ذكرناه مِن ولاة طرابلس، وقام بعده على إمارتها ابن أخيه جلال الملك الثاني أمين الدولة، فإنّه يقول:

كرّت على البلدة (طرابلس) العصور وتقلّبت الأحوال ؛ حتّى بدأ القرن الثاني عشر للمسيح فظهرت كأنّ الحيّين البحريّين قد انضمّا فصارا حيّاً ممتدّاً من الموضع المسمّى الآن فوق الريح إلى البحصاص، وثمّت حيٌ آخر عند سفح الأكمة على بعد نحو ميلين عن البحر، وبينهما مدى فسيح مملوء بالجنائن والحقول، وكان الأهلون يشغلون منه مقداراً عظيماً من قصب السكر، يقول بوركارد: إن ريعه ناهز ٣٠٠ ألف ذهب، ومنه نقل الزراعة إلى أوروبة، وكانت المدينة يومئذٍ منيعة الجانب ذات أسوار وخنادق وحصون، وقد قام فيها منذ القرن السابق قاضيها حسن بن عمّار، فامتلكها وحسّنها فارتقت واغتنت، وصارت مستودعاً كبيراً للتجارة، وداراً للعلم بمدارسها ومكاتبها، فلمّا مات سنة ١٠٧١م اختلف نسيباه جلال الملك وأمين الدولة، مع أنّ الإفرنج كانا على قرب وقد جاؤوا سورية يكتسحونها، وقد طمحت عيونهم لامتلاك طرابلس مدينة العلم والعلماء ومستودع التجارة والصناعة.

وإنّا لنستدرك هنا ما جاء في المباحث من أخبار مهاجمة الإفرنج لطرابلس، ومدافعة فخر الملك لهم، لما فيه من زيادة تفصيل عمّا أوردناه من فتح هذا البلد وانتهاء أمر حكم بني عمّار، قال: ولمّا اقترب ريمون سان جيل كونت دي تولوز، وهو المسمّى في التواريخ العربية باسم صنجيل خرج الطرابلسيّون، فحاربوه فما نال منهم إرباً بل ارتدّ عنهم ولكنّه عاد عليهم سنة ١١٠٢م فخاب - أيضاً - ولم يظفر بفتح البلد، فاكتفى بأن يضرب عليها مالاً، ثمّ ملك ذروة المرتفع من الأرض على عدوة نهر قاديشا، وأنشأ فيها محلّةً وحصّنها وأقام فيها برجاً له، فأطلق على الموضع اسم تل الغرباء أو الحجّاج، كأنّ التسمية مستفادة من الحال الذي صار إليه

٣٨٩

الموضع باحتلال قوم ريمون فيه، غير أنّ المرتفع فوق حي من البلدة وقريب منه، ولذلك أخذ ريمون بتحصينه حذراً وحيطةً، وجعل يزيد الحصن منعة حتّى صار قلعةً يأوي إليها رجاله فتشدّدت بها عزائمه، وشرع يعيد الكرّة على البلدة، ويعبث في أطرافها، ولكنّه لا يجدها إلاّ أعزّ مِن أن تُنال، وكان يستعين بسفن جنوا ولكن من غير طائل ؛ لأنّ المدد كان يأتي البلدة ويعين حماتها على دفع العدو.

وفي ذات مرّة تكاثر المدد في طرابلس فاشتدّ بهم ساعد فخر الدولة ابن عمّار، وخرج على الإفرنج في محلّتهم فامتلكها وهدم القلعة، ولكن لم يمض زمنٌ طويلٌ حتّى كرّ عليه ريمون، واسترجع الموقع وزاده تحصياً وأقام فيه يُواثب الطرابلسيين مرّةً بعد أُخرى ويزعجهم، حتّى أوشك ابن عمّار أن يعاقده على تسليم أرباض المدينة على أن تبقى المدينة له، ولكنّه قبل أن يتمّ الاتفاق حمل على الأعداء ليلاً، واعتلى تلّ الغرباء فأحرق منازل الإفرنج، فارتاعوا لاعتلاق النار في دورهم، وأسرع ريمون من القلعة بمَن معه من الرجال، وأجهدوا أنفسهم فردّوا الهاجمين على الأعقاب، إلاّ أنّ النار علقت بريمون فآذته وأفضت به إلى الموت متأثّراً منها.

وفي روايةٍ أُخرى آثرها العلاّمة سوبرنهايم عن ريمون أنّه أصابته النار من نوافذ البيوت المحترقة، فأحدثت في جسمه حروقاً ذات شأن أفضت به إلى الموت بعد أيّام فقضى في ١٠ جمادى الآخرة سنة ٥٩٨ هـ - ٢٧ شباط سنة ١١٠٥م، عاهداً بالإمارة من بعده لابن أخيه الكونت كليوم جوردان دي سرداين، فأقام على مثاغرة البلدة وزادها ضغطاً وبلاءً سيّما إذ حاول منع أخذها الميرة والزاد من عرقة إلاّ أنّ حصانة البلدة وشدّة بأس أهليها حالا دون تمكّن الأعداء منها، ولم يضرّها إلاّ ما وقع بين زعمائها من التضغّن والخلاف، لأسباب لا يسعنا بسطها لضيق المجال، فأفضى بها ذلك إلى التخاذل وإلى الوهن، على أنّ المحاصرين لم يسلموا أيضاً من دبيب المطامع والتحاسد إليهم ؛ لأنّهم فيما كانوا على وشك أخذ طرابلس، جاءهم من أوروبة الكونت برتران دي تولوز وهو ابن ريمون مطالباً بالإمارة خلفاً لأبيه، فعارضه ابن عمّه بوصاية ريمون واعتصب لكلٍّ من الفريقين حزبٌ من قومهم، فكان أمير أنطاكية من أنصار كليوم، وكان ملك القدس طهيراً لابن ريمون، ولو لم يتدارك هؤلاء الأنصار الأمر لوقع الخلف والشقاق

٣٩٠

ولكنّهم اتفقوا على العهد بإمارة طرابلس وجبيل للكونت برتران بن ريمون وإعطاء طرطوس حتّى عرقة لابن عمّه كليوم.

وبهذا فضّ الخلاف واتّفق الجميع فشدّدوا الحصارعلى المدينة، واستطالوا عليها برّاً وبحراً، حتّى فازوا بفتحها صلحاً(١) في (٣ ذي الحجّة سنة ٥٠٢هـ) ٤ تموز سنة ١١٠٩م بعد إذ جرت على قتالهم سبعة أعوام أو تزيد.

____________________

(١) قد تقدّم فيما ذكر أكثر المؤرّخين فتحها عنوةً، وممّن ذكر ذلك ابن خِلّكان في ترجمة الأمير بأحكام الله الفاطمي، وأنّ فتحها كان لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ٥٠٢ وفي تاريخ فتحها خلاف سنعرض له في مكانٍ آخر إن شاء الله.

٣٩١

نكبة مكتبة بني عمّار من الفرنج وأقوال المؤرِّخين

رأينا أن نفرد فصلاً خاصّاً في هذا الكتاب للبحث عن مكتبة بني عمّار التي تُعد من أعظم آثارهم، إلى ما كان لهم من مآثر عمرانيّة في مدينة طرابلس، ونفي استبعاد محتوياتها كما أحصاها المؤرّخ ابن فرات، ونفي استبعاد وحرق الفرنج لها وهذا تتمّة ما سبق إجماله وما يليها من هذا الكتاب.

أمّا محتويات هذه المكتبة والاختلاف في عددها، فقد عرفت ممّا سبق أنّ هناك مَن يقول كابن الفرات بمناهزتها ثلاثة ملايين، ومَن يقول بنزولها إلى مئة ألف، وهما بين إفراط وتفريط، ونرجّح أنّ العدد هو دون ما يقول ابن الفرات، وأكثر ممّا يقوله الآخر، ولا نستبعد أن يكون عددها قد بلغ زهاء نصف المليون، وهذا العدد هو أقرب إلى المعقول، فإنّ عناية المسلمين في التأليف وجمع الكتب في عصر ازدهار العلوم والعرفان في البلاد الإسلامية بلغ مبلغاً عظيماً، فقد نقل المؤرّخون عن طائفةٍ من العلماء مَن جمعوا على انفرادهم ما يزيد على مئة ألف مجلّد، فقد رووا أنّ الشريف المرتضى احتوى مكتبةً كان عدد كتبها مئة ألف وعشرين ألف مجلّد، وأنّه تخلّف بعد إهداء ما أهداه منها عن ثمانين ألف مجلدٍ، وأنّ الصاحب بن عبّاد كان يحتاج إلى ثلاثمئة جمل لحمل كتبه، وقد استقرب صاحب خطط الشام أن يكون ما أحصاه ابن الفرات قريباً من الواقع، بأن تكون ثلاثة الملايين هو كلّ ما في مكاتب طرابلس مع مكتبة بني عمّار، كما نقلنا ذلك سابقاً، وقال دافعاً الاستبعاد:

(ولا ينبغي أن يذهب عن الخاطر أنّ ما كانوا يسمّونه جزءاً أو مجلداً

٣٩٢

أو مجلّدة لا يتجاوز بضع كراريس من كرّاساتنا، والكرّاسة قد لا تكون أكثر من ثمان صحائف، بمعنى أنّ ألف المجلّدة أو المجلّد لا تبلغ في مصطلحنا أكثر من خمسين أو ستّين أو سبعين كتاباً، فكان المجلّد في تلك العصور قليل الأوراق ؛ لأنّ الورق أو الرق غليظ، فإذا جعل كلّ مجلّد مئتين أو ثلاثمئة أو أربعمئة أو خمسمئة ورقة يصعب تناوله وحمله ونقله، ولا يصحّ ما قاله ابن الفرات من أنّه كان في دار العلم في طرابلس ثلاثة آلاف ألف يوم نكبتها، إلاّ على هذه الصورة، أي: أنّ كتبها كانت بين مئتين وثلاثمئة ألف، ومنها أجزاء صغيرة ورسائل، وقد يكون الجزء من كتاب لا تتجاوز سطوره سطور مقالةٍ من مقالاتنا، أو إملاءة من أمالينا، أو محاضرة أو مسامرة من محاضراتنا ومسامراتنا اليوم).

وقد عرفت فيما سبق في مبحث تاريخ طرابلس، أنّ الرحّالة الفارسي ناصر خسرو قد ذكر في رحلته أنّه مرّ بها سنة ٤٣٨ هـ، ووصفها في رحلته وصفاً دقيقاً، وذكر من معاملها الكثيرة لمختلف الصناعات معمل لورق الكتابة كمعمل كاغد سمرقند، وكانت في ذلك العهد في حوزة ملوك مصر الفاطميّين، وأنّهم أعفوها من أداء الضرائب ؛ لأمانة أهلها في واقعة سابقة، انهزم فيها الروم، وفي وجود مثل هذا المعمل للورق ما يسهل على المؤلّفين والناسخين: التأليف والنسخ وصناعة الوراقة، التي كانت تشبه مهنة الصحافة والطباعة في هذه الأيّام، أضف إلى ذلك انصراف الهمم في تلك العصور إلى الرغبة في العلم والتعليم، وتوفّر العزائم على جمع الكتب، وإذا علمت أنّ بلاد الشام كانت في ذلك العهد من البلاد التي كان يرتحل إليها في طلب العلم، وكانت طرابلس من قواعد البلاد الشامية، وكان لها شأو رفيع في العمران، وقد دخلت في حكم الفاطميّين سنة ٣٦٠.

وقد كان عصرهم منذ افتتحوا الديار المصريّة والشاميّة عصر علم وعصر منافسة في العلم، وحسبهم في ذلك أثرهم الخالد (الجامع الأزهر) الذي كان وما يزال إلى اليوم الجامعة الكبرى للعلوم الإسلامية، وغيرها من مختلف العلوم والفنون، فلا يستبعد والحالة هذه أن تكون طرابلس وقد أصبحت قاعدةً من قواعد مدنهم الساحليّة، ولها مكانها من حيث الموقع ومن حيث تهيئة أسباب استبحار العمران فيها، أن تساهم مساهمةً عظيمةً في هذه الناحية من نواحي الحياة، وأن يكون لبني عمّار قضاتها منذ حلوّها وأقاموا فيها، وأصبحوا

٣٩٣

أمراءها والمستبدّين بأحكامها، وقد امتدّت سكناهم فيها مدّةً طويلةً منذ سنة ٤٤٠ أو ما يتقدّم هذا التاريخ إلى أن سقطت من أيديهم.

وهل يُستبعد، وقد أصبحت بلداً علميّاً، أن تحتوي مكاتبها العدد الذي أحصى ابن الفرات به كتبها، أو ما يزيد على تقدير مَن قدّره بمئة ألف.

وكيف ينكر على بلدٍ بلغ ما بلغ من العمران والترفيه، وحوى من معامل الحرير خاصّةً، دون دخول الإفرنج إليها أربعة آلاف معمل دع المعامل الأُخرى، وأصبح محجّة للعلماء يغشونه من كلّ صوب، فقد قيل إنّ أبا العلاء المعرّي كان ممّن قصدوه للاستفادة من مكاتبه، وعرفت أنّ الرحّالة الكراجكي كان ممّن غشيه وألف عدّة مؤلّفات باسم بعض قضاته وأهله، وكان ذلك في العقد الرابع والخامس من القرن الخامس الهجري، كيف نكر على مثل هذا البلد، وهو على الحال التي وصفناها، أن تحتوي مكتباته العامّة ومكتبة بني عمّار العدد الكثير من الكتب.

إنّ غير ابن الفرات من المؤرّخين إن لم يعرض لإحصاء عدد ما حوته مكتبة بني عمّار من الكتب وغيرها من المكتبات، فقد جاء في عرض كلامهم عند استيلاء الفرنج على طرابلس عنوةً ما يدلّ على الكثرة التي تتجاوز أقلّ الإحصاء الذي اعتمده بعض المؤرّخين وهو مئة ألف مجلد، فيقول ابن الأثير:

ونهبوا (الإفرنج) ما فيها (طرابلس) وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونبهوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يُحد ولا يُحصى.

وقال ابن القلانسي:

(وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يُحد عدده ولا يُحصر فيُذكر).

وقال ابن خِلّكان في ترجمة الآمر بأحكام الله:

(وأخذوا طرابلس الشام بالسيف، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة سنة ٥٠٢، وكان أخذهم لها بالسيف، ونهبوا ما فيها واسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيدهم من أمتعتها وذخائرها وكتب دار علمها، وما كان في خزائن أربابها ما لا يُحد ولا يُحصى).

جاء في خطط الشام:

وكان الحسن بن عمّار قاضي طرابلس للفاطميّين والمتغلّب عليها، أقام في طرابلس دار حكمة أو شبه مدرسة جامعة، على نحو دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله في مصر سنة ٤٠٠.

٣٩٤

وفيه: ولم تعهد الشام دار حكمةٍ إلاّ في القرن الخامس، أنشأها بنو عمّار في طرابلس.

وكان في كلّ من كفر طاب والمعرّة، في زمن أبي العلاء المعري، خزانة كتب، وقد زارهما كما زار خزانة طرابلس. وهذه الخزانة كانت قبل بني عمّار خلافاً لما وهم بعض المؤرّخين المعاصرين ؛ لأنّ القضاة بني عمّار لم يستولوا على طرابلس إلاّ بعد الأربعين وأربعمئة، وكان أبو العلاء المعرّي زار طرابلس قبل هذا التاريخ، أي في أواخر القرن الرابع، وانتفع بخزانتها وكتبها الموقوفة، وأوّل مَن حكم من قضاة بني عمّار: أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمّار في دولة المستنصر الفاطمي، في حدود سنة ٤٤٠.

وقد تقدّم سابقاً عن أوّل مَن وقف مكتبة بني عمّار من قضاة بني عمّار هو أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمّار ثمّ تجديد الأمير علي بن محمد بن عمّار لدار العلم سنة ٤٧٢، ثمّ طبع الأمير فخر الملك عمّار بن محمد بن عمّار على غرارهم.

وقد تقدّم ما نقلناه عن المؤرّخ جرجي يني ما احتوته هذه المكتبة من مختلف العلوم والفنون.

أمّا حرق الإفرنج لهذه المكتبة ن فقد أنكره البعض من متأخّري المؤرّخين، وحجّتهم أنّ متقدّمي مؤرّخي المسلمين لم يذكروه، وأنّه قد تفرّد بذكره ابن طي، وأنّ مؤرّخي الفرنج لم يعرضوا له، ولكنّ شيئاً من ذلك لا ينهض بحجّة النافي، وما كان سكوت مَن سكت عن ذكر حرق هذه المكتبة من مؤرّخي المسلمين دليلاً على العدم، وأمّا سكوت مؤرّخي الصليبيّين فلعلّه كان كما استظهر المؤرّخ يني ستراً لزلة قومهم، ولعلّ ذكر ابن طي خبر الحرق الذي لم يذكره مَن تقدّمه من المؤرّخين، مبنيٌّ على اطّلاعه من خبره ما لا يطلع عليه أولئك، ومََن يعرف سيرة مؤرّخي المسلمين مِن البحث والتحرّي عمّا يدوّنونه، لا يرمي هذا المؤرّخ الثبت بالاختلاق والافتراء.

على أنّ مِن مؤرّخي الإفرنج وبعض أهل الاستشراق، منهم مَن ذكر خبر حرق الصليبيين لهذه المكتبة ؛ فقد جاء في كتاب لغة التاريخ والجغرافية الذي نشره مسيو بويه أن الصليبيين أحرقوا تلك المكتبة الثمينة.

وذكر المستشرق (رونه دوسو) في مقالته التي كتبها برسم انسيقلوبه دي الكبير، وبحث فيه عن أحوال طرابلس الشام العامّة: (أنّ مستخلصي

٣٩٥

القدس من النصارى أحرقوا تلك المكتبة العربية الطائرة الصيت).

ثمّ إنّنا لا نعرف وجهاً لاستبعاد حرق الصليبيين لهذه المكتبة، وهم كانوا كما وصف روبرنسون المؤرّخ الإنكليزي، وغير أهل أوروبا بما هذا خلاصته:

(هو أنّه في الزمن الذي كان يتدارس به العرب هذه العلوم، وينشرونها في بلادهم، كانت أهالي أوروبا في حالة لا زالوا هم ذواتهم يندبونها حتى اليوم، ولم يستفيقوا من ذلك الجهل المفرط، والنوم العميق إلاّ بواسطة شروعهم في تلك الغزوات الصليبية الوحشيّة، التي أجروها مع المسلمين، بقصد استخلاص الأراضي المقدّسة من أيديهم، حيث مرّوا في غزواتهم هذه، وسيرهم جهة بلاد أورشليم بأراض نضرة ؛ لحسن زراعتها أكثر من أراضيهم، وبدول متمدّنة أكثر من تمدّن دولهم)(١) .

وما يمنع قوماً هذه صفتهم، وهم لا يعرفون قيمة الكتب وقيمة هذه المكتبة، وقد دخلوا طرابلس بعد محاولة دخولها بضع سنين دخول الثائر المنتقم، وهو لا يتحرّج عن قتل النفوس البريئة، وهدم معالم العمران ودك القصور على الحضيض، وإعفاء ما في هذا البلد من آثار عمرانيّة، أن ينتقم غمار جيشه المتغلّب في جملة ما انتقم من تلك المكتبة بحرقها، وهو لا يعرف قيمتها، بل قد يرى في حرقها وهي عزيزة على أهلها أبرز آثار إرواء غليل المنتقم الحاقد، يقول صاحب صنّاجة الطرب:

أمّا العرب، فإنّه لم يبق عندهم من تلك المكاتب التي أشرنا إليها بأنّهم جمعوها، والمدارس التي شيّدوها، حتّى ولا ذكرها، فكأنّ دولة علومهم كانت مرتبطةً بدولهم السياسيّة، التي منذ أضاعوها أضاعوا كلّ هذه العلوم والمعارف معها ؛ إذ إنّه لم تسقط دولة من دولهم، سواء كانت في المغرب أو في المشرق، إلاّ وهدمت جيوش أعدائهم مدارسها، وأشعلوا نيران حقدهم في مكاتبها.

وفي مجلّة المقتطف:

لمّا افتتح الأسبانيّون تلاد البلاد (الأندلس) واستخلصوها من يد العرب على ما رواه بعض المؤلّفين، فإنّ كردينالهم المسمّى شيمنز أمر بحرق ثمانين ألف كتاب في ساحات مدينة غرناطة بعد

____________________

(١) صنّاجة الطرب.

٣٩٦

استظهارهم عليهم في سنة ٨٩٨ للهجرة سنة ١٤٩٢م، إلى أن قال نقلاً عن مؤرّخ إسباني يُقال له ربلس: بأنّ الأسبانيّين أفنوا ألف ألف وخمسة آلاف مجلّد، كلّها خطّتها أقلام العرب، وأنّهم ظفروا بثلاث سفن كانت مشحونةً بالمجلّدات العربية الضخمة طالبة ديار سلطان مراكش، فسلبوها وألقوا كتبها في قصر الأسكوريال إلى سنة ١٦٧١م ١٠٨٢هـ حيث لعبت بها النيران فأكلت ثلاثة أرباعها، ولم يستخلصوا منها إلاّ الربع الأخير، حين استفاقوا من غفلتهم، ففوّضوا إلى رجلٍ ماروني من أهالي طرابلس يُقال له ميخائيل القيصري، فكتب لهم أسماء ألف وثمانمئة وإحدى وخمسين كتاباً منها.

هذا ما جرى من الأسبان في عصر بدء يقظة أوروبا من غفلتها، وفي زمن تطلّعها إلى الأخذ من علوم العرب واحتذاء مدنيّة العرب، فما بالك فيما سبق هذا العصر بقرون على غفلة أوروبا وتسكّعها في مجاهل جهلها، فلا جرم أن يكون ما نُقل عن حرق مكتبة بني عمّار ومكتبات طرابلس صحيحاً.

على أنّ تناول أيدي الفاتحين المتغلبين ولا سيّما مَن كانوا على شاكلة الإفرنج ين غزواتهم البلاد الإسلامية، من حيث الانغماس في الجهل والارتطام في حمأة الحقد والانتقام، إلى تدمير معالم العمران وثل صروح العلم وإتلاف محتويات مكتباتها، ممّا درج عليه أولئك المتغلّبون، وكان عظيم بلائهم منصبّاً على العلم، انصبابه على مَن أوقعه القدر في قبضة سلطانهم وتحت حكم سيفه، فكان أمثال هذا البلاء منصبّاً على مدارس بغداد وكتب علومها، من هولاكو وتيمورلنك ومَن سلفه جنكيزخان على مدارس سمرقند وبخارى وإيران.

وهكذا الحال في كلّ بلدٍ تمكّن منه الغالب، من حيث الجناية على العلوم وكتبها ومدارسها، وحسبنا فيما ذكرناه من هذه الجملة - وهي غيضٌ من فيض وقطر من بحر - ما يكفي في التدليل على عدم استبعاد حرق الإفرنج لمكتبة بني عمّار ومكتبات طرابلس، بل وعلى وقوع ذلك كما يذكره ابن طي.

٣٩٧

حدود إمارة طرابلس في عهد القضاة بني عمّار

أمّا تحديد هذه الإمارة في عهد قضاتها بني عمّار، فلم نجد فيه كلاماً واضحاً تطمئنّ إليه نفس الباحث، فهو كغيره من الأبحاث المتعلّقة بالأمراء بني عمّار من عدم الوضوح، إلاّ أنّه يمكننا الاستنتاج من تضاعيف كلمات المؤرّخين أنّها كانت على شيءٍ من الاتّساع، وإن لم تحدّد تخومها.

فقد عرفت ممّا سبق في ما نقلناه عن الشريف الإدريسي المتوفّى سنة ١١٨٧، حيث وصفها بقوله: مدينة عظيمة، عليها سور من حجرٍ منيع، ولها رساتيق وأكوار وضياع جليلة.

ولعلّ ما يذكره القلقشندي في صبحه في تحديدها ما يمكننا معه استصحاب أنّها كانت في عهد الأمراء بني عمّار مشتملة على ذلك التحديد أو ما يقرب منه، فقد قال:

(وحدُّها من القبلة جبل لبنان، ممتدّاً على ما يليه من مرج الأسد، حيث يمتد النهر العاصي، وحدُّها من الشمال قلاع الدعوة، وحدُّها من الغرب البحر الرومي.

وأعمالها على قسمين (الأعمال الكبار ) التي يكاتب نوّابها من الأبواب السلطانية، وهي على ضربين:

الضرب الأوّل: مضافاتها نفسها، وهي ستّ نيابات:

الأوّل: حصن الأكراد

الثاني: عمل حصن عكار

الثالث: عمل بلاطُنُس

الرابع: عمل صهيون

الخامس: عمل اللاذقية

السادس: عمل المرقب.

(الضرب الثاني : قلاع الدعوة، وهي سبع قلاع عظيمة الشأن، رفيعة المقدار، لا تُسامى منعةً ولا تُرام حصانةً، وكانت أوّلاً كلّها مضافة إلى طرابلس، ثمّ نُقلت مصياف منها إلى دمشق، والبقيّة على ما كانت عليه من إضافتها إلى طرابلس، وهي ستّة أعمال.

٣٩٨

(الأوّل: عمل الرُصافة.الثاني: عمل الخوابي.الثالث: عمل القَدَمُوس.الرابع: عمل الكهف.الخامس: عمل المنَقة.السادس : عمل العُلّيقة.

(القسم الثاني: الأعمال الصغار.

الأوّل: عمل انطرطوس. الثاني: عمل جُبة المنِيطَرة. الثالث: عمل الظنيين. الرابع: عمل بَشَرّيه. الخامس: عمل جَبَلة. السادس: عمل أَنَفة).

ولا مراء أنّ هذه الحدود كانت تضيق وتتّسع، وكان يُضاف إليها بعض الأعمال، ويتغلّب على البعض الآخر تبعاً لتقلّبات ذلك الزمن، الذي كان الاستبداد فيه بالأعمال من ذوي الأعمال سنّة متّبعة، وقوّة الغالب هي كلّ شيءٍ في عرف متغلّبي تلك الأيّام، والبلاد كالأُكرة في يد اللاعب، والخلافة الفاطميّة في أدوار التقهقر، والغزوات على بلادها متدفقة من هنا وهناك. ومثلها كانت الخلافة العبّاسية، مقطّعة الأوصال، تقوم سلطنةٌ على أنقاض أُخرى وإمارة على تقليص ظلّ إمارة، ووراء ذلك طموح الروم إلى اجتياح البلاد، ثمّ الغزو الصليبي، قال ابن الأثير في كامله الجزء العاشر ص ٢٠٩ / ١:

(على أنّ إمارة طرابلس التي استطاعت في عهد بعض قضاتها، وخاصّةً في عهد آخرهم فخر الملك: أن تقف في أتي الغزو الصليبي سبع سنين وما يزيد، وتنفق ما تنفق من الأموال والأعتدة في سبيل ذلك الموقف، من المستبعد حقّاً إن لم يكن من المستحيل عادةً وعرفاً، أن تقوم بتلك المقاومة، وسلطانها محصور في البلد وأرباضها منها فحسب، وقد عرفت من تضاعيف هذه المباحث: أنّ انطرطوس وجبلة والخوابي وجبيل وعرقة(١) ، كانت داخلةً في سلطان إمارتها في عهد بني عمّار(٢) .

وكيف كان، فإنّا لا نستبعد أن يكون ما حدّده صاحب صبح الأعشى هو القريب من الواقع في عهدة إمارة بني عمّار.

____________________

(١) قال المؤرّخ جرجي يني: والظاهر من بعض الروايات أنّ عرقة وجبيل كانتا إذ ذاك من أميريتها (طرابلس).

(٢) ويظهر أنّ حصن أوتاج قد ضُمّ إلى إمارة طرابلس في عهد فخر الملك سنة ٤٩٧ (القلانسي ص ١٤٨) ينظر تاريخ ابن الأثير ج ١٠ ص ١٦٤.

٣٩٩

تاريخ طرابلس بعد استيلاء الفرنج عليها إلى العصر الحاضر

قد رأينا بعد كتابة هذه الفصول، وقد احتوت مع تاريخ بني عمّار قسماً كبيراً من تاريخ طرابلس، أن نستوفي تاريخها من العهد الصليبي، فتخليصها منهم إلى العصر الحاضر، ليجيء تاريخنا هذا تاريخاً لبني عمّار، وتاريخاً لهذا البلد الخالد ؛ لتكون الفائدة أعم والبحث أتم.

تراجع مدينة طرابلس في عهد حصار الفرنج لها واستيلائهم عليها

كانت طرابلس في عهد بني عمّار مشهورة: بغنى طبيعتها، وحسن رونقها، ونجاحها، وكانت حاصلاتها غزيرة جدّاً، حتّى أنّ السهول والتلال والأكم المجاورة كانت مصدر الكثير من الغلال الفاخرة والزيتون والحرير، بالإضافة إلى ما كان هنالك من قصب السكّر والكرْم وأنواع الفاكهة والأشجار.

وحسبنا بذلك شهادة المؤرّخ ميشود الذي تبع قوله بقوله:

إنّ في المدينة أكثر من أربعة آلاف نول لنسج الأقمشة الصوفية والحريرية والقطنية، غير أنّ قسماً كبيراً من هذا الغنى بات طعاماً لانتقام الإفرنج، أو معطّلاً من جرّاء حروبهم وحصارهم الطويل، فإنّهم كانوا في زمان الحصار قد أضرّوا بجوار البلدة، ولمّا تملّكوها لم يعتنوا بما فيها من المعامل الصناعية، فانحطّت انحطاطاً عظيماً.

ولم يكن ما ذكر لكلّ ما اشتهرت به طرابلس من الغنى في ذلك الزمن، فإنّ خزائنها كانت قد مُلئت من الكتب المفيدة، التي أحالها الإفرنج رماداً(١) .

____________________

(١) تاريخ سورية ليني.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486