تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 486
المشاهدات: 73097
تحميل: 9203


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73097 / تحميل: 9203
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

القارئ يضجر ويتبرم مِن مثل هذا البحث التاريخي الذي كانت حوادثه متقطعة غير مرتبطة بصلة، وقد بذلنا غاية المستطاع في ربطها وفي رجوع مَن أفرد التأليف لهم إلى نسبهم الكتامي، وهذا ما يشفع للإسهاب والإطالة، ويعذرني من الوقوع في الخطأ، فما أخذت ذلك عن كتابٍ مؤلّف منفرد، وما أضمن لنفسي أنّني قد استوفيت ذكر كلّ الرجال الكتاميين المساهمين في الدولة الفاطميّة، فقد يكون قد فاتني منهم رجال ولكنّني قد أسّست تاريخاً لهم، فإن لم أفِ به كلّ أخبارهم فقد فتحت باباً للباحثين المولعين بدقائق التاريخ فلعلّهم يتمّون ما لعلّه نقص ولم يصل إليّ علمه، فإنّ المصادر التي اعتمدتها محصورة، وقد يكون هناك مصادر أُخرى يعثر عليها غيري فيتمّ ما نقص من بحثي، وبيده تعالى التسديد والتأييد وهو نعم المعين والنصير.

٣٦١

عهد سكنى بني عمّار طرابلس وولايتهم إمارتها وقضاءها

ليس لدينا مصدر تاريخي يمكننا الرجوع إليه في تحديد العهد الذي سكن فيه بنو عمّار طرابلس، والعهد الذي تولّوا به إمارتها وقضاءها، وذلك ما أغفله كما أغفل كلّ ما يتعلّق بهم مؤرخو عصرهم، وهم لم تُذكر أسماء مَن ذُكر منهم إلاّ عرضاً، فكان المهم عند مؤرّخي أزمانهم ذكر الحوادث فحسب.

ومع ما للأشخاص من المكانة في المجتمع والتأثير في السياسة من علاقة في تاريخ الحوادث، فلم يكن ذلك ممّا يُعنى به أولئك المؤرّخون، فلم يتركوا لمَن كتب بعدهم تاريخ تلك الأيّام إلاّ رسوماً عافية لا تبلغ غرضاً ولا تخرج بهم عن الرجم في الظن، وهو لا يُغني من الحق شيئاً، ولا هو من مصادر التاريخ الذي من أقصى أهدافه: تقييد الوقائع الحادثة المتجدّدة وتسجيل أسماء رجالها وعلاقتهم بها وبحال مجتمعاتهم، ولكنّ ذلك إن درج عليه مؤرّخو عصرنا الحاضر ودعاهم ذلك الإهمال السابق إلى الإهمال اللاحق لبطل التاريخ.

وحسب المؤرّخ أن يكون في مثل هذا الموقف معتمداً على الاستنتاج ممّا يمرّ به من المدوّنات وما لا يبعد عن الواقع، بعرضه على أُمور تجعل لذلك الاستنتاج قيمةً تاريخيّةً.

إنّ البحث عن قضاة طرابلس يرجع إلى أمرين بل إلى ثلاثة:

الأوّل: تحديد زمن سكناهم لها.

الثاني: ولا يتهم قضاءها.

الثالث: ولاية الإمرة مع القضاء.

أمّا تحديد زمن سكناهم، فإن لم يعرض له المؤرّخون، فإنّا نستنتج من تأليف العلاّمة الرحّالة أبي الفتح محمد بن علي الكُراجكي المتوفّى سنة (٤٤٩) كتباً بأسماء رجال من بني عمّار، أنّهم كانوا في طرابلس قبل هذا التاريخ بمدّة، فقد ألّف كتاباً باسم أبي الكاتب بطرابلس، وكتاباً

٣٦٢

باسم القاضي الجليل أبي طالب عبد الله بن محمد بن عمّار، وكتاباً آخر باسم أبي الكتائب.

وأمّا ولايتهم القضاء فيستدلّ - أيضاً - من ذكر الكراجكي لأبي طالب موصوفاً بالقاضي الجليل، أنّ منهم مَن ولي قضاء طرابلس قبل تاريخ وفاة الكراجكي بمدّة.

وأمّا الإمرة، فيظهر أنّ أوّل مَن وليها منهم مع القضاء هو أبو طالب في سنة ٤٦٣ ؛ حيث يقول المؤرّخون إنّه استولى على طرابلس قاضيها أبو طالب، كما استولى غيره على غيرها، وإنّما كانت ولايتهم على ما بأيديهم كانت بطريق الغلبة لا بطريق الانتداب، وإنّما كان ذلك في عهد ضعف الدولة العلويّة، وغلبة المستبدّين على الأطراف، وفي عهد استيلاء وزراء الدولة على مقاليد الحكم، ونزع كلّ سلطة من الخليفة المصري العلويّ، كما كان الأمر في الخلافة العبّاسية والخلفاء العبّاسيّين، الذين لم يكن لهم من الحكم والسلطان شيء، بل كانوا أنفسهم محكومين للسلطان المتغلّب أو الوزير النافذ.

وممّا يدلّ على أنّ ولايتهم في طرابلس كانت محصورةً في القضاء: أنّه في سنة ٤٥٩ لمّا بعث المستنصر إلى محمود بن الروقلية المتغلّب على حلب، يطالبه بحمل المال وغزو الروم وصرف ابن خاقان ومَن معه مِن الغز، فلم يجبه، وقال: إنّه لا مال له وإنّه هادن الروم وأعطى ولده رهينة على مالٍ اقترضه منهم، فندب المستنصر بدراً الجمالي أمير الجيوش إلى محاربته، فدخل ابن عمّار صاحب طرابلس بينهما وأصلح الحال.

وبعد هذا البحث والتمهيد نعود إلى سرد أسماء مَن عرفنا من قضاة بني عمّار.

١ - أبو طالب بن عمّار:

هكذا ردّد اسمه المؤرّخون، واسمه كما عند الكراجكي عبد الله بن محمد بن عمّار، ومثل ذلك ذكر في ديوان ابن الخيّاط الشاعر المعروف المتوفى سنة ٥٩٧، وذكر اسمه في قصيدةٍ أنشدها شمس الملك أبا الفرج محمد بن أمين الدولة أبي طالب في طرابلس، حيث قال:

وكـأنّ عبد الله عبد الله في حركات همّته وفضل سكونه

أي: كأنّ عبد الله ابن الممدوح عبد الله أبو الممدوح وهو أبو

٣٦٣

طالب، وفي خطط الشام: أبو طاب الحسن بن عمّار.

قد استبدّ كما عرفت بإمرة طرابلس مع القضاء في سنة ٤٦٣، وكان ذلك في عهد ولاية أمير الجيوش بدر الجمالي على ديار الشام.

وقد جاء عنه في تاريخ ابن عساكر بترجمة الأمير أبي الحسن علي بن المقلد بن منقذ، صاحب حصن شيزر المتوفّى سنة ٤٧٩ أو ٤٧٥ ما ملخّصه: كانت بينه وبين ابن عمّار صاحب طرابلس مودّة وكيدة ومكاتبات.

وسببه أنّه كان له مملوك يُسمّى رسلان، وكان زعيم عكسره، فبلغه عنه ما يكره ؛ فقال له: اذهب عنّي وأنت آمن على نفسك.

فقصد ابن عمّار إلى طرابلس، وسأله أن يسأل أبا الحسن في ماله وحرمه، فسأله، فأمر بإطلاقهم وكان قد اقتنى مالاً كثيراً.

فلمّا خرج الرسول بالمال والحريم لحقه أبو الحسن فظنّ أنّه قد بدا له.

فقال: غدرت بعبدك ورغبت في ماله، فقال له: لا والله ولكن لكلّ أمرٍ حقيقة، حطّوا عن الجمال والبغال أحمالها، فحطّوا، فقال: أبصروا ما عليها، فنظروا فإذا في قدور النحاس خمسة وعشرون ألف دينار، ومن المتاع ما يساوي مثلها وزيادة، فقال أبو الحسن للرسول: أبلغ ابن عمّار سلامي وعرّفه بما ترى ؛ لئلاّ يقول رسلان إنّني أخذت ماله.

ثمّ إنّ أبا الحسن زار ابن عمّار وأقام عنده مدّةً.

تقريبه للعلماء ومحبّته العلم

جاء في ترجمة العلاّمة أبي الفتح الكراجكي المتوفّى سنة ٤٤٩ أنّه أقام مدّةً في طرابلس، فقد ألّف فيها وباسم بعض قضاتها الذين عاصرهم وعاصروه ستّة كتب، ومنها: كتاب سمّاه البستان في الفقه، وهو معنى لم يُطرق وسبيل لم يُسلك، قسّم فيه أبواباً من الفقه وفرّع كلّ فنٍّ منها، حتّى حصل كل باب شجرة كاملة، يكون نيّفاً وثلاثين شجرة، صنّفه للقاضي الجليل أبي طالب عبد الله بن محمد بن عمّار أدام الله سلطانه وكبت شانيه وأعداءه، توفّي سنة ٤٦٤ بعد استبداده بالأمر في طرابلس بسنة، وخلفه في القضاء والإمارة ابن أخيه.

٢ - جلال الملك أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن عمار الكتامي.

٣٦٤

قال ابن الأثير - بعد ذكر وفاة أبي طالب وقيام ابن أخيه هذا بالأمر في طرابلس -: فضبط البلد أحسن ضبط، ولم يظهر لفقد عمّه أثرٌ لكفايته.

ويدلّ على منعته وجلالة قدره وتفكّكه من سلطة الدولة الفاطميّة حمايته لمعلّى بن حيدرة بن منزو - الذي سبقت ترجمته - حين فرّ إليه هارباً من بانياس بعد إقامته بها مدّة.

وقد هرب من دمشق، وكان والياً عليها إلى بانياس، فرّ من المعسكر المصري خوفاً أن يدركه في بانياس، فأقام عنده مدّة، وكان زوّج أخته ثمّ أطلع إلى مصر، فهلك فيها في الاعتقال في سنة ٤٨١.

ملك في سنة ٤٧٣ حصن جبلة، وكان قد غلب على تلك البلاد سنين، وعجز بدر الجمالي أمير الجيوش عن مقاومته(١) (٢) .

قال ابن خلدون:

(كانت جبلة من أعمال طرابلس، وكان الروم قد ملكوها وولّوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم، فلمّا صارت للمسلمين، رجع أمرها لجمال الدولة أبي الحسن علي بن عمّار المستبد بطرابلس، وبقي منصور بن صليحة على عادته فيها، ثمّ توفّي منصور، فقام ابنه أبو محمد عبد الله مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمّار وأراد القبض عليه، فعصى هو في جبلة وأقام بها الخطبة العبّاسية، واستنجد عليه ابن عمّار دقاق بن تتش، فجاءه ومعه أتابك طغرتكين فامتنع عليهم، ورجعوا، ثمّ جاء الإفرنج فحاصروها، فامتنعت عليهم أيضاً، وشاع أنّ بركيارق جاء إلى الشام، فرحلوا ثمّ عادوا وأظهروا أنّ المصريّين جاؤوا لإنجاده، فرحلوا ثمّ عادوا فتقدّم للنصارى الذين عنده أن يداخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره، فجهّزوا إليهم ثلاثمئة من أعيانهم، فرفعهم بالحبال واحداً بعد واحد وهو قاعد على السور، حتّى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه ثمّ عادوا إليه، فهزمهم وأسر ملكهم كندا صطيل، وفادى نفسه منه بمالٍ عظيم.

____________________

(١) عن خطط الشام.

(٢) في خطط المقريزي ج ٢ ص ٢١١ أمر الجيوش أبو النجم بدر الجمالي، كان مملوكاً أرمنيّاً لجلال الدولة بن عمّار، فلذلك عُرف بالجمالي، ارتقت به الحال إلى أن ولّي دمشق من قِبَل المستنصر سنة ٤٦٥، ووليها ثانياً فيما بعد.

٣٦٥

ولمّا جهد ابن صليحة الحصار، أرسل إلى طغرتكين صاحب دمشق وبعث ابن عمّار في طلبه إلى الملك دقاق، على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله، ويعطيه ثلاثين ألف دينار، فلم يفعل.

وسار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحله من الأنبار، فبعث الوزير مَن استولى عليها، فوجد فيها ما لا يُحصى من الملابس والعمائم والمتاع وانتزع ذلك كلّه.

ولمّا ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة، وآل أمرها إلى ما سيُذكر في ترجمة فخر الدولة بن عمّار.

وفي سنة ٤٨٥ سار تاج الدولة تُتُش - صاحب دمشق - إلى طرابلس فنازلها، فرأى صاحبها جلال الملك بن عمّار جيشاً لا يدفع إلاّ بحيلة ؛ فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعاً، وكان مع قسيم الدولة أقسنقر وزير له اسمه زرين كمر، فراسله ابن عمّار، فرأى عنده ليناً فأتحفه وأعطاه، فسعى مع صاحبه قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار وتحفاً بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد والتقدّم إلى النوّاب بتلك البلاد بمساعدته والشدّ معه، والتحذير من محاربته ؛ فقال أقسنقر لتاج الدولة تتش: لا أقاتل مَن هذه المناشير بيده ؛ فأغلظ له تاج الدولة، وقال: هل أنت إلاّ تابعٌ لي؟

فقال أقسنقر: أنا أتابعك إلاّ في معصية السلطان، ورحل من الغد عن موضعه، فاضطرّ تاج الدولة إلى الرحيل، فرحل غضبان وعاد بوزان - أيضاً - إلى بلاده، فانتقض هذا الأمر.

وإليك ما جاء في تاريخ كامل ابن الأثير عن حال قاضي جبلة وجلال الملك بن عمّار في حوادث ٤٩٤ قال:

(هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة، وكان والده رئيساً بها، أيّام كان الروم مالكين لها على المسلمين، يقضي بينهم، فلمّا ضعف أمر الروم وملكها المسلمون وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمّار - صاحب طرابلس - كان منصور على عادته في الحكم فيها.

فلمّا توفّي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه، وأحبّ الجنديّة واختار الجند، فظهرت شهامته، فأراد ابن عمر أن يقبض عليه فاستشعر منه وعصى عليه وأقام الخطبة العباسيّة، فبذل ابن عمّار لدقاق بن تُتُش مالاً ليقصد ويحصره، ففعل وحصره فلم يظفر منه بشيء، وأُصيب صاحبه

٣٦٦

أتابك طغتكين بنشّابةٍ في ركبته وبقي أثرها وبقي أبو محمد بها مطاعاً إلى أن جاء الفرنج فحصروها، فأظهر أنّ السلطان بركيارق قد توجّه إلى الشام، وشاع هذا فرحل الفرنج.

فلمّا تحقّقوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره، فأظهر أنّ المصريّين قد توجّهوا لحربهم، فرحلوا ثانياً ثمّ عادوا فقرّر مع النصارى الذين بها أن يراسلوا الفرنج، ويواعدوهم إلى برجٍ من أبراج البلد ليسلّموه إليهم ويملكوا البلد.

فلمّا أتتهم الرسالة جهّزوا نحو ثلاثمئة رجل من أعيانهم وشجعانهم، فتقدّموا إلى ذلك البر، فلم يزالوا يرقون في الحبال واحداً بعد واحد، وكلّما صار عند ابن صليحة وهو على السور رجل منهم قتله، إلى أن قتلهم أجمعين.

فلمّا أصبحوا رمى الرؤوس إليهم، فرحلوا عنه وحصروه مرّةً أُخرى، ونصبوا على البلد برج خشبٍ وهدموا برجاً من أبراجه، وأصبحوا وقد بناه أبو محمد، ثمّ نقب في السور نقوباً وخرج من الباب وقاتلهم، فانهزم منهم وتبعوه فخرج أصحابه من تلك النقوب، فأتوا الفرنج من ظهورهم فولّوا منهزمين، وأسر مقدّمهم المعروف بكندا صطيل، فافتدى نفسه بمالٍ جزيل.

ثمّ علم أنّهم لا يقعدون عن طلبه، وليس له مَن يمنعهم عنه ؛ فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ مَن يثق به ليسلّم إليه ثغر جبلة، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله، فأجابه إلى ما التمس وسيّر إليه ولده تاج الملوك بوري فسلّم إليه البلد ورحل إلى دمشق، وسأله أن يسيّره إلى بغداد ففعل، وسيّره ومعه مَن يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار. ولمّا صار بدمشق أرسل ابن عمّار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق، وقال: سلّم إليّ ابن صليحة عرياناً وخذ ماله أجمع، وأنا أعطيك ثلاثمئة ألف دينار، فلم يفعل.

وهذا ما جاء في ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي في حوادث هذه السنة.

وفي شعبان منها أرسل القاضي ابن صُلَيحة المتغلّب على ثغر جبلة إلى الأمير ظهير الدين أتابك يلتمس منه إنفاذ مَن يراه من ثقاته ليسلّم إليه ثغر جبلة، ويصل إلى دمشق بماله وحاله ويسيّره إلى بغداد تحت الحوطة والأمان والحماية وجميل الرعاية ؛ فأجابه إلى ما اقترحه ووعده بتحقيق أمله، وندب لولاية الثغر المذكور ولده الأمير تاج الملوك بوري، وكان الملك شمس الملوك دقاق غائباً عن دمشق في ديار بكر، فعاد منها ودخل إلى دمشق في أوّل شوّال من السنة، وتقرّرت الحال على ما التمس ابن صليحة

٣٦٧

عنها، ووصل إلى دمشق بأصحابه وأسبابه وكراعه ودوابّه وكلّ ما تحويه يده من مالٍ وأثاثٍ وحال، فأكرم مثواه وأحسن لُقياه، وأقام ما أقام بدمشق، وسُيِّر إلى بغداد مع فرقةٍ وافرةٍ من الأجناد بجميع ما يملكه وحصل بها، واتفق له مَن وشى بماله وعظَّم سعة حاله إلى السلطان ببغداد، فنهب واشتمل على ما كان يملك.

وفي معجم البلدان لياقوت الحموي في التعليق على جبلة: قلعة مشهورة بساحل الشام من أعمال حلب قرب اللاذقيّة، ولم تزل بأيدي المسلمين بعد فتحها سنة ١٧ على أحسن حال حتّى قوي الروم وافتتحوا ثغور المسلمين، فكان فيما أخذوا جبلة في سنة ٣٥٧ بعد وفاة سيف الدولة بسنة، ولم تزل بأيديهم إلى سنة ٤٧٣، فإنّ القاضي أبا محمد عبد الله بن منصور بن الحسين التنوخي المعروف بابن ضليعة قاضي جبلة وثب عليها، واستعان بالقاضي جلال الدين بن عمّار - صاحب طرابلس - فتقوّى بها على مَن بها مِن الروم، فأخرجهم منها ونادى بشعار المسلمين، وانتقل مَن كان بها مِن الروم إلى طرابلس، فأحسن ابن عمّار إليهم، وصار إلى ابن ضليعة منها مالٌ عظيم القدر، وبقيت بأيدي المسلمين.

ثمّ ملكها الفرنج سنة ٥٠٢ في الثاني والعشرين من ذي القعدة من يد فخر الملك، إلى أن استردّها الملك صلاح الدين يوسف بن أيّوب في سنة ٥٨٤، تسلّمها بالأمان.

قال القلقشندي في كتابه صبح الأعشى: وأمّا أطرابلس فكان قد تغلّب عليها قاضيها أبو علي بن عمّار وملكها وطالت مدّته فيها.

وهو (كما جاء في خطط الشام) الذي جدّد في طرابلس دار العلم ودار الحكمة، وذلك في سنة ٤٧٢ ؛ لتكون مركزاً من مراكز التشيّع، وإنّنا لندع البحث عن مكتبة طرابلس وما جرى فيها بعد استيلاء الصليبيّين عليها من التحريق والتمزيق إلى فصلٍ مخصوص، سيكون إن شاء الله ختام تاريخ بني عمّار.

أمّا وفاة المترجَم له فلم نقف - في كتب التاريخ التي اتّخذناها مصدراً لتاريخ بني عمّار - على تاريخها، ولعلّها كانت بعد التسعين والأربعمئة، وكذلك لم يتبيّن بالتحديد بدء ولاية القاضي فخر الملك أبي علي بن عمّار بن محمد بن عمّار الكتامي.

٣٦٨

في سنة ٤٩٤ في شعبان، أرسل القاضي ابن صليحة المتغلّب على ثغر جبلة إلى الأمير ظهير الدين أتابك يلتمس منه إنفاذ مَن يراه من ثقاته ليسلّم إليه ثغر جبلة، ويصل إلى دمشق بماله وحاله، ويسيَّره إلى بغداد تحت الحوطة والأمان والحماية وجميل الرعاية، فأجابه إلى ما اقترحه ووعده بتحقيق أمله، وندب لولاية الثغر المذكور ولده الأمير تاج الملوك بوري، وكان الملك شمس الملوك دقاق غائباً عن دمشق في ديار بكر، فعاد منها ودخل إلى دمشق في أوّل شوّال من السنة، وتقرّرت الحال على ما التمس ابن صليحة، وتوجّه تاج الملوك في أصحابه إلى جبلة فتسلّمها وانفصل ابن صليحة عنها، ووصل إلى دمشق بأصحابه وأسبابه وكراعه ودوابّه، وكلّ ما تحويه يده من مالٍ وأثاثٍ وحال، فأكرم مثواه وأحسن لقياه وأقام ما أقام بدمشق وسيّر إلى بغداد، مع فرقةٍ وافرةٍ من الأجناد بجميع ما يملكه وحصل بها.

واتّفق له مَن وشى بماله وعظم سعة حاله إلى السلطان ببغداد، فنهب واشتمل على ما كان يملك.

وأمّا تاج الملوك، فإنّه لمّا ملك ثغر جبلة وتمكّن هو وأصحابه فيها، أساؤوا إلى أهله وقبحوا السيرة فيهم، وجروا على غير العادة المرضية من العدل والإنصاف، فشكوا حالهم فيما نزل بهم إلى القاضي فخر الملك أبي علي بن محمد بن عمّار المتغلّب على ثغر طرابلس لقربها منهم، فوعدهم المعونة على مرادهم وإسعادهم بالإنفاذ لهم، وأنهض إليهم عدّة وافرة من عسكره فدخلت الثغر واجتمعت مع أهله على الأتراك، فقهروهم وأخرجوهم منه وملكوه، وقبضوا على تاج الملوك وحملوه إلى طرابلس، فأكرمه فخر الملك وأحسن إليه وسيّره إلى دمشق، وكتب إلى والده أتابك يعرِّفه صورة الحال ويعتذر إليه ممّا جرى.

وفي سنة ٤٩٥ هـ وردت مكاتبات فخر الملك بن عمّار، صاحب طرابلس يلتمس فيها المعونة على دفع ابن صنجيل النازل في عسكره من الإفرنج على طرابلس، ويستصرخ بالعسكر الدمشقي ويستغيث بهم، فأجيب إلى ما التمس ونهض العسكر نحوه، وقد استدعى الأمر جناح الدولة صاحب حمص فوصل أيضاً في عسكره. فاجتمعوا في عددٍ كبيرٍ وقصدوا ناحية انطرسوس، ونهد الإفرنج إليهم في جمعهم وحشدهم، وتقارب الجيشان والتقيا هناك، فانتقم عسكر المسلمين من عسكر المشركين، وقتل

٣٦٩

منهم الخلق الكثير، وقفل مَن سلم إلى دمشق وحمص بعد فقد مَن فُقد منهم، ووصلوا في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة.

وفي رجب سنة ٤٩٧ وردت الأخبار بوصول الإفرنج في البحر من بلادهم إلى ظاهر اللاذقيّة مشحونة بالتجّار والأجناد والحجّاج وغير ذلك، وأنّ صنجيل المنازل لطرابلس استنجد بهم عليها في مضايقتها والمعونة على ملكها، وأنّهم وصلوا إليه فاجتمعوا معه على منازلتها ومضايقتها، فقاتلوها أيّاماً ورحلوا عنها.

وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية طرابلس بظهور فخر الملك بن عمّار صاحبها في عسكره وأهل البلد وقصدهم الحصن الذي بناه صنجيل، وأنّهم هجموا عليه على غرّة ممّن فيهم، فقتل مَن به ونهب ما فيه وأحرق وأخرب، وأخذ منه السلاح والمال والديباج والفضّة الشيء الكثير، وعاد إلى طرابلس سالماً غانماً في التاسع عشر من ذي الحجّة.

وفي سنة ٤٩٨ وردت الأخبار بهلاك صنجيل مقدّم الإفرنج النازلين على ثغر طرابلس في رابع جمادى الأُولى، بعد أن كان استقرّ الأمر بينه وبين فخر الملك بن عمّار صاحب طرابلس من المهادنة، على أن يكون ظاهر طرابلس لصنجيل، بحيث لا يقطع الميرة عنها ولا يمنع المسافرين منها.

وفي رجب خرج الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب وجمع خلقاً كثيراً، وعزم على قصد طرابلس لمعونة فخر الملك بن عمّار على الإفرنج النازلين عليه.

وكان الأرمن الذين في حصن ارتاح قد سلّموا إليه الحصن لمّا شملهم من جور الإفرنج وتزايد ظلمهم، فلمّا عرف طنكري ذلك خرج من انطاكية لقصد ارتاح واستعادتها، وجمع مَن في أعماله من الإفرنج، ونزل عليها وتوجّه نحو فخر الملك في عسكره لإبعاده عنها.

وقد جمع وحشد مَن أمكنه مِن عمل حلب، والأحداث الحلبيّين لقصد الجهاد، فلمّا تقاربا نشبت الحرب بين الفريقين فثبت راجل المسلمين وانهزمت الخيل، ووقع القتل في الرجّالة، ولم يسلم منهم إلاّ من كتب الله سلامته، ووصل الفلّ إلى حلب، وأحصي المفقود من الخيل والرجال فكان تقدير ثلاثة آلاف نفس.

وحين عرف ذلك مَن كان في ارتاح من المسلمين هربوا بأسرهم منها، وقصد الإفرنج بلد حلب فأجفل أهله منه ونُهب مَن نُهب وسُبي مَن سُبي.

٣٧٠

وفي سنة ٥٠٠ هـ تتابعت المكاتبات إلى السلطان غياث الدين والدنيا محمد بن ملكشاه من ظهير الدين أتابك وفخر الملك بن عمّار صاحب طرابلس، بعظيم ما ارتكبه الإفرنج من الفساد في البلاد، وتملّك المعاقل والحصون بالشام والساحل، والفتك في المسلمين ومضايقة ثغر طرابلس، والاستغاثة إليه والاستصراخ والحضّ على تدارك الناس بالمعونة ؛ فندب السلطان لمّا عرف هذه الحال الأمير چاولي سقاوة وأميراً من مقدّمي عسكره كبيراً في عسكرٍ كثيفٍ من الأتراك. وكتب إلى بغداد وإلى الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد، وإلى جكرمش صاحب الموصل بتقويته بالمال والرجال على الجهاد والمبالغة في إسعاده وإنجاده، وأقطعه الرحبة وما على الفرات فثقل أمره على المكانين، ولكنّ اشتغاله بالمحاربة مع أمراء جواره واختلافهم لم يُجدِ المستصرخين نفعاً.

وفي شعبان سنة ٥٠١ اشتدّ الأمر بفخر الملك بن عمّار، من حصار الإفرنج، وتطاول أيّامه، وتمادي الترقّب لوصول الأنجاد، وتمادي تأخّر الأسعاد، فأنفذ إلى دمشق يستدعي وصول الأمير ارتق بن عبد الرزّاق أحد أمراء دمشق إليه ليتحدث معه بما في نفسه، فأجابه إلى ذلك واستأذن ظهير الدين في ذلك، فأذن له وتوجّه نحوه.

وكان فخر الملك خرج من طرابلس في البرّ في تقدير خمسمئة فارسٍ وراجلٍ، ومعه هدايا وتحف أعدّها للسلطان عند مضيّه إليه إلى بغداد، فلمّا وصل ارتق إليه واجتمع معه تقرّرت الحال بينهما على وصوله إلى دمشق في صحبته، فوصل إليها وأنزل في مرج باب الحديد بظاهرها، وبالغ ظهير الدين في إكرامه وتناهى في احترامه وحمل إليه أمراء العسكريّة ومقدّموه من الخيل والبغال والجمال، وغير ذلك ما أمكنهم حمله وإتحافه به.

وكان فخر الملك المذكور قد استناب عنه في حفظها أبا المناقب ابن عمّه ووجوه أصحابه وغلمانه، وأطلق لهم واجب ستّة أشهر، واستحلفهم وتوثّق منهم، فأظهر عمّه الخلاف له والعصيان عليه، ونادى بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش بمصر، فلمّا عرف فخر الملك ما بدا منه كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي، ففعل ذلك. وتوجّه فخر الملك إلى بغداد ومعه تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك، وقد كان أتابك عرف أنّ جماعةً ممّن يحسده في باب السلطان، ويقع فيه بالسعاية ويقصده بالأذيّة وإفساد الحال عند السلطان،

٣٧١

فأصحب ولده المذكور من الهدايا والتحف من الخيول والثياب، وغير ذلك ممّا يحسن إنفاذ مثله، واستوزر له أبا النجم هبة الله بن محمد بن بديع، الذي كان مستوفياً للسلطان الشهيد تاج الدولة، وجعله مدبّراً لأمره وسفيراً بينه وبين مَن أنفذ إليه، وتوجّه في الثامن من شهر رمضان سنة ٥٠١، فلمّا وصل إلى بغداد لقي فخر الملك مِن السلطان مِن الإكرام والاحترام ما زاد على أمله، وتقدّم إلى جماعةٍ مِن أكابر الأمراء بالمسير معه لمعونته، وإنجاده على طرد محاصري بلده والإيقاع بهم والإبعاد لهم، وقرّر مع العسكر المجرد معه الإلمام بالموصل وانتزاعها من يد جاولي سقوة، ثمّ المسير بعد ذلك إلى طرابلس، ولكنّه جرى ما جرى من الخلاف بين الأُمراء ما أخفقت معه به مهمّة ابن عمّار وطال مقامه طولاً ضجر معه، وعاد إلى دمشق في نصف المحرّم سنة ٥٠٢.

وأقام فخر الملك في دمشق بعد وصوله إليها أيّاماً، وتوجّه منها مع خيل من عسكر دمشق، جردت معه إلى جبلة فدخلها وأطاعه أهلها.

وأنفذ أهل طرابلس إلى الأفضل بمصر يلتمسون منه إنفاذ والٍ يصل إليهم في البحر ومعه الغلّة والميرة في المراكب لتسلّم إليه البلد ؛ فوصل إليهم شرف الدولة بن أبي الطيّب والياً من قِبَل الأفضل، ومعه الغلّة، فلمّا وصل إليها وحصل فيها قبض على جماعة فخر الملك بن عمّار وأصحابه وذخائره وآلاته وأثاثه، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.

وفي سنة ٥٠٢ في شعبان، نزل الإفرنج بمجموعهم وحشدهم على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها، منذ أوّل شعبان إلى الحادي عشر من ذي الحجّة، وشاء الله أن تعاكس الريح السفن المصريّة الحاملة إليها الميرة والنجدة وتضعف عزيمة حاميتها عن الدفاع، فيملكها الإفرنج عنوة، في يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة، ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر علمها، وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يُحد عدده ولا يُحصر فيُذكر(١) .

وتقرّر بين الإفرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلث من البلد وما نُهب منه والثلثان لريمند بن صنجيل، وأفردوا للملك بغدوين من

____________________

(١) عن القلانسي.

٣٧٢

الوسط ما رضي به وكان طنكري لمّا لم ينل ما أراد من نصرة الرواني قد عاد ونزل بانياس (ص: ١٦٣ القلانسي). وجرى على أهلها منهم البلاء العظيم، وسُلّم الوالي بها وجماعة من جنده كانوا التمسوا الأمان، والله غالبٌ على أمره.

ثمّ نزل طنكري على ثغر جبيل في شوّال، وفيه فخر الملك بن عمّار، والقوت فيه نزر قليل.

فلم يزل مضايقاً له ولأهله إلى يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجّة، فراسلهم وبذل لهم الأمان فأجابوه إلى ذلك، فتسلّمه بالأمان وخرج منه فخر الملك بن عمّار سالماً، وقد وعده بإحسان النظر والإقطاع.

وفي سنة ٥٠٣ لمّا تأخّرت العساكر السلطانيّة من بغداد، لنجدة الديار الشاميّة على غزوات الإفرنج وأفاعيلهم العجيبة في المسلمين، حملت ظهير الدين أتابك الحميّة الإسلامية على التأهّب للمسير بنفسه إلى بغداد ولخدمة الدار العزيزة النبويّة المستظهرية والمواقف السلطانية الغياثيّة، والمثول بها والشكوى لما نزل بالمسلمين، وتأهّب للمسير واستصحب معه فخر الملك ابن عمّار وخواص أصحابه وما أمكنه من الخيول العربية السبق، وطرف مصر من أجناس اللباس وما يصلح لتلك الجهات من التحف والهدايا من كلّ فنٍ له قيمة وافرة.

وتوجّه في البريّة على طريق السماوة، فاستناب في دمشق ولده تاج الملوك بوري ووصّاه بما يجب عمله من استعمال اليقظة في الذب والحماية وإحسان السيرة في الرعيّة.

فلمّا سار وحصل في الوادي المعروف بوادي المياه من البريّة، وافى الخبر بما شاع من المرجفين ببغداد من الحديث بتقليد السلطان بلاد الشام لأمراء عيّن عليهم، ووقعت الإشارة في ذلك إليهم، فأحدث هذا الخبر وحشة أوجبت عوده من طريقه، واعتمد على فخر الملك بن عمّار، ومَن عوّل عليه مِن ثقاته في الإتمام إلى بغداد بما صحبه من التحف والهدايا، والمناب عنه في إنهاء ما دعاه إلى العود من طريقه، فوصل فخر الملك إلى بغداد بما صحب، فصادف من الابتهاج بمقدمه والتأسّف على عود أتابك، ولم يصل ويشاهد ما زاد على الأمل وظهور بطلان تلك الأراجيف بالمجال الذي لا حقيقة له(١) .

____________________

(١) عن ابن القلانسي ص ١٦٦.

٣٧٣

وفي الجزء الخامس من تاريخ ابن خلدون ص ٣٨ و ٣٩، يذكر قدوم ابن عمّار صاحب طرابلس على السلطان محمد شاه بن ملكشاه، قال: كان فخر الدولة أبو علي بن عمّار - صاحب طرابلس - استبدّ بها على العبيديّين، فلمّا ملك الإفرنج سواحل الشام ردّدوا عليها الحصار فضاقت أحوالها، فلمّا انتظم الأمر للسلطان محمد واستقام ملكه، قصده فخر الملك بن عمّار صريخاً للمسلمين، بعد أن استخلف على طرابلس ابن عمّه ذا المناقب، وفرّق في الجند عطاءهم لستّة أشهر، ورتّب الجامكية في مقاعدهم للقتال، وسار إلى دمشق، فلقيه طغتكين أتابك، وخيّم بظاهرها أيّاماً، ورحل إلى بغداد، فأركب السلطان الأمراء لتلقّيه، ولم يدّخر عنه بِرّاً ولا كرامةً وكذلك الخليفة، وأتحف السلطان بهدايا وذخائر نفيسة، وطلب النجدة وضمن النفقة على العسكر، فوعده بالنصر وأقام، ثمّ لقي الأمر حسين بن أتابك طغتكين ليسير بالعساكر إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال صدقة وچاولي، ثمّ يسير معه إلى الشام.

ثمّ رحل السلطان عن بغداد سنة إحدى وخمسمئة لقتال صدقة، واستدعى ابن عمّار وهو بالنهروان فودّعه وسار معه الأمير حسين إلى دمشق. وكان ابن عمار لمّا سار عن طرابلس استخلف ابن عمّه ذا المناقب، فانتقض واجتمع مع أهل طرابلس على إعادة الدولة العلويّة، وبعثوا إلى الأفضل ابن أمير الجيوش المستبدّ على الدولة بمصر بطاعتهم ويسألون الميرة ؛ فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيّب والياً معه الزاد من الأقوات، فدخل البلد وقبض على أهل ابن عمّار وأصحابه واستصفى ذخائرهم، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.

وفي هذا الجزء: ثمّ سار طغركين سنة ٥٠٢ إلى طبريّة، ووصل إليها ابن أخت بقدوين (بغدوين) ملك القدس من الإفرنج فاقتتلوا، فانهزم المسلمون أوّلاً، فنزل طغركين ونادى بالمسلمين فكرّوا، وانهزم الإفرنج وأُسر ابن أخت بغدوين، وعرض عليه طغركين الإسلام فامتنع فقتله بيده، إلى أن قال:

وسار بعدها طغركين إلى حصن غزّة في شعبان من السنة، وكان بيد مولى القاضي فخر الملك بن علي بن عمّار صاحب طرابلس، فعصى عليه، وحاصره الإفرنج وانقطعت عنه الميرة، فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق أن يمكّنه من الحصن ؛ فأرسل إليه إسرائيل من أصحابه، فملك الحصن وقتل صاحبه مولى ابن عمّار غيلة ليستأثر بمخلفه، فانتظر طغركين دخول الشتاء

٣٧٤

وسار إلى الحصن لينظر في أمره، وكان أسرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس، فلمّا سمع بوصول طغركين حصن الأكمة وأغذّ السير إليه فهزمه وغنم سواده، ولحق طغركين بحمص ونازل أسرداني غزّة فاستأمنوا إليه، وملكها وقبض على إسرائيل فادى به أسيراً كان لهم بدمشق منذ سبع سنين.

وفيه: كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين، قيل قد لازم حصار طرابلس، وزحف إليه قلج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به، وعاد صنجيل مهزوماً، فأرسل فخر الدولة بن عمّار صاحب طرابلس إلى أميرٍ آخر جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تُتُش يدعوه إلى معالجته، فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مدداً من عند دقاق واجتمعوا على طرابلس، وفرّق صنجيل الفلّ الذي معه على قتالهم، فانهزموا كلّهم وفتك هو في أهل طرابلس، وشدّ حصارها وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها، ثمّ صالحوه على مالٍ وخيل.

ورحل عنهم إلى طرسوس من أعمال طرابلس، فحاصرها وملكها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار، ومقدّمه ابن العريض فامتنع عليهم، وقاتلهم صنجيل فهزموا عسكره وأسروا زعيماً من زعماء الإفرنج، بذل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم يعاوده، وذلك كان سنة خمس وتسعين وأربعمئة.

وجاء في غير تاريخ ابن خلدون عن هذه الموقعة: في هذه السنة (٤٩٥) ما يلي:

لمّا دخل صنجيل ببعض فلوله بعد تنكيل قلج ارسلان بن قتلمش صاحب قونية به وبجيشه البالغ عدده مئة ألف مقاتل إلى الشام، وفلوله تبلغ ثلاثمئة، أرسل فخر الملك بن عمّار صاحب طرابلس إلى الأمير ياخز جناح الدولة على حمص فإلى الملك دقاق بن تُتُش، يقول:

من الصواب أن عاجل صنجل إذ هو في العدّة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسيّر دقاق ألفي مقاتل وأتتهم الامداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس وصافوا صنجيل هناك فأخرج مئة من عسكره إلى أهل طرابلس، ومئة إلى عسكر دمشق وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين، فأنكر عسكر حمص وعسكر دمشق عند ملاقاة عسكر صنجيل لهم، وأمّا أهل طرابلس فإنّهم قاتلوا المئة الذين قاتلوهم، فلمّا شاهد ذلك صنجيل حمل في المئتين الباقية، فكسروا أهل طرابلس وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل، ونازل صنجل طرابلس وحصرها، وأتاه أهل الجبل فأعانوه على

٣٧٥

حصارها، وكذلك أهل السواد وأكثرهم نصارى فقاتل مَن بها أشدّ قتال فقتل من الإفرنج ثلاثمئة، ثمّ إنّه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة انطرسوس وهي من أعمال طرابلس، فحصرها وفتحها وقتل مَن بها من المسلمين، ثمّ ما زال صنجيل محاصراً طرابلس إلى سنة ٤٩٦، وكانت تأتي طرابلس المواد، وبها فخر الدولة بن عمّار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الإفرنج ويقتلون مَن وجدوا، وقصد بذلك أن يخلوا السواد ممّن يزرع لتقلّ المواد عن الفرنج فيرحلوا عنه.

شدّد صنجيل الحصار على طرابلس، وقد استعان بقوّات الفرنج المحمولة على مراكبهم إلى اللاذقيّة برّاً وبحراً، وضايقها بجنده أيّاماً فلم يروا فيها مطمعاً، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل فحصروها وقاتلوا عليها قتالاً شديداً، ولمّا رأى المحاصرون عجزهم عن الفرنج سلّموهم البلد أماناً بعد أن أعطوه، ولكنّ الفرنج لم يفوا لهم بذلك وأخذوا أموالهم واستنفدوها بالعقوبات وأنواع العذاب.

وكان فخر الملك بن عمّار قد كاتب، لمّا شدّد عليه الفرنج الحصار، سقمان بن ارتق يستدعيه إلى نصرته على الفرنج، وبذل له المعونة بالمال والرجال، فبينما هو يتجهّز للمسير أتاه كتاب طغتكين - صاحب دمشق - يخبره أنّه مريض قد أشرف على الموت، وأنّه يخاف إن مات وليس بدمشق مَن يحميها أن يملكها الفرنج، ويستدعيه ليوصي إليه وبما يعتمده في حفظ البلد، فلمّا رأى ذلك أسرع في المسير عازماً على أخذ دمشق، وقصد الفرنج طرابلس وإبعادهم عنها.

وكان صنجيل قد أقام ابن أخته على حصار طرابلس، وقد أوقع بعسكره طغتكين المقيم بحصن رفتية، فملكه طغتكين وقتل به خمسمئة رجل من الفرنج.

وفي سنة ٤٩٩ شدّد صنجيل الحصار على طرابلس بعد امتلاكه جبلة، وحيث لم يقدّر أن يملكها بنى بالقرب منها حصناً وبنى تحته ربضاً وأقام راصداً لها ومنتظراً وجود فرصةٍ فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمّار فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المنحرقة ومعه جماعة من القمامصة والفرسان فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيّام ومات، وحُمل إلى القدس فدُفن فيه.

ثمّ إنّ ملك الروم أمر أصحابه باللاذقيّة ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس فحملوها في البحر،

٣٧٦

فأخرج إليها فخر الملك بن عمّار أسطولاً، فجرى بينهم وبين الروم قتالٌ شديد، فظفر المسلمون بقطعةٍ من الروم فأخذوها وأسروا مَن كان بها، ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات به وخاف أهله على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمّار صبرٌ عظيمٌ وشجاعةٌ ورأيٌ سديد، وممّا أضرّ بالمسلمين فيها: أنّ صاحبها استنجد سقمان بن ارتق فجمع العساكر وسار إليه فمات في الطريق.

وأجرى ابن عمّار الجرايات على الجند والضعفاء، فلمّا قلّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا إنّ صاحبنا صادرنا فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا له أن تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جمعاً على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيءٍ إلى البلد، فأرسل ابن عمّار وبذل للفرنج مالاً كثيراً ليسلّموا الرجلين إليه فلم يفعلوا، فوضع عليهما مَن قتلهما غيلة.

وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجمّلاً وثروة ؛ فباع أهلها من الحلي والأواني ما لا حدّ عليه حتّى بيع كلّ مئة درهم نقرة بدينار(١) .

وفي كامل ابن الأثير الجزء ١٠: في هذه السنة ٥٠١ في شهر رمضان ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمّار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد قاصداً باب السلطان محمد مستنفراً على الفرنج طالباً لتسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثّه على ذلك أنّه لمّا طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس ضاقت عليه الأقوات وقلت واشتدّ الأمر عليه وعلى أهل البلد ؛ فمنَّ الله عليهم سنة خمسمئة بميرة في البحر من جزيرة قبرس وانطاكية وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد بعد أن كانوا استسلموا، فلمّا بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كلّ مخالفٍ، رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به، فاستناب بطرابلس ابن عمّه ذا المناقب وأمره بالمقام بها، ورتّب معه الأجناد براً وبحراً، وأعطاهم جامكية ستّة أشهر سلفاً وجعل كلّ موضعٍ إلى مَن يقوم بحفظه، بحيث إنّ ابن عمّه لا يحتاج إلى فعل شيءٍ من ذلك، وسار إلى

____________________

(١) كامل ابن الأثير الجزء العاشر الصفحة ١٧٠.

٣٧٧

دمشق فأظهر ابن عمّه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار المصريين، فلمّا عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي، ففعلوا ما أمرهم، وكان ابن عمّار قد استصحب معه من الهدايا ما لا يوجد عند ملكٍ مثله من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة والخيل الراضقة، فلمّا وصلها لقيه عسكرها وطغتكين أتابك وخيّم على ظاهر البلد، وسأله طغتكين الدخول إليه فدخل يوماً واحداً إلى الطعام وأدخله حمامه، وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيّعه، فلمّا وصل إلى بغداد أمر السلطان كافّة الأمراء بتلقّيه وإكرامه، وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها، فلمّا نزل إليه قعد بين يدي موضع السلطان، فقال له مَن بها من خواص السلطان:

قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان، فلمّا دخل على السلطان أجلسه وأكرمه وأقبل عليه يحدّثه. وسيّر الخليفة خواصّه وجماعة أرباب المناصي فلقوه، وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة، وكذلك فعل السلطان وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله.

وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا ولأجر الآخرة أكبر.

ولمّا اجتمع بالسلطان قدّم هديته، وسأله السلطان عن حاله وما يعانيه في مجاهدة الكفّار، ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله وقوّة عدوّه وطول حصره، وطلب النجدة، وضمن أنّه إذا سُيّرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وحضر دار الخلافة وذكر - أيضاً - نحواً ممّا ذكره عند السلطان، وحمل هديةً جميلةً نفيسةً، وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداد في شوّال، فأحضره عنده بالنهروان، وقد تقدّم إلى الأمر حسين بن اتابك قتلغتكين ليسيّر معه العساكر التي سيّرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال چاولي سقاوه، وليمضوا معه إلى الشام، وخلع عليه السلطان خلعاً نفيسة وأعطاه شيئاً كثيراً، وودّعه وسار ومعه الأمير حسين فلم يُجدِ ذلك نفعاً، ثمّ إنّ فخر الملك بن عمّار عاد إلى دمشق منتصف المحرّم سنة اثنتين وخمسمئة، فأقام بها أيّاماً وتوجّه منها مع العسكر من دمشق إلى جبلة، كما تقدّم ذلك سابقاً.

وفي هذه السنة في شعبان انهزم اتابك طغتكن من الفرنج، وسبب ذلك أنّ حصن عرقة وهو من أعمال طرابلس كان بيد غلامٍ للقاضي فخر

٣٧٨

الملك أبي علي بن عمّار صاحب طرابلس، وهو من الحصون المنيعة، فعصى على مولاه فضاق به القوت وانقطعت عنه الميرة ؛ لطول مكث الفرنج في نواحيه، فأرسل إلى اتابك طغتكين صاحب دمشق، وقال له:

أرسل مَن يتسلّم هذا الحصن منّي، قد عجزت عن حفظه، ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحباً له اسمه إسرائيل في الأخلاط بسهمٍ فقتله، وكان قصده بذلك أن لا يطلع اتابك طغتكين على ما خلّفه بالقلعة من المال.

وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه وتقويته بالعساكر والأقوات وآلات الحرب، فنزل الغيث والثلج مدّة شهرين ليلاً ونهاراً فمنعه، فلمّا زال ذلك، سار في أربعة آلاف فارس ففتح حصوناً للفرنج منها حصن الأكمة، فلمّا سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين وهو على حصار طرابلس توجّه في ثلاثمئة فارس، فلمّا أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين، انهزموا وخلّوا ثقلهم ورحالهم ودوابّهم للفرنج، فغنموا وقووا به وزاد في تجمّلهم.

ووصل المسلمون إلى حمص على أقبح حالٍ من التقطّع، ولم يُقتل منهم أحد ؛ لأنّه لم تجر حرب.

وقصد السرداني إلى عرقة، فلمّا نازلها طلب مَن كان بها الأمان فأمنهم على نفوسهم، وتسلّم الحصن فلمّا خرج مَن فيه قبض على إسرائيل، وقال لا أطلق عنه إلاّ بإطلاق فلان - وهو أسير كان بدمشق من الفرنج منذ سبع سنين - ففُودي به وأُطلقا معاً.

ولمّا وصل طغتكين إلى دمشق بعد الهزيمة، أرسل إليه ملك القدس يقول له: لا تظن أنّني أنقض الهدنة للذي تمّ عليك من الهزيمة، فالملوك ينالهم أكثر ممّا نالك ثمّ تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة.

وكان طغتكين خائفاً أن يقصده بعد هذه الكسرة فينال من بلده كلّ ما أراد.

وفي هذا الجزء في حوادث سنة ٥٠٣:

ملك الفرنج طرابلس وسواها من الشام

في حادي عشر ذي الحجّة ملك الفرنج طرابلس، وسبب ذلك: أنّ طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها، والمدد يأتي إليها منه، كما تقدّم ذكر ذلك سنة (٥٠١)، فلمّا كان هذه السنة أوّل شعبان

٣٧٩

وصل أسطولٌ كبيرٌ من بلاد الفرنج في البحر، ومقدّمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل، ومراكبه مشحونة بالرجال والسلاح والميرة، فنزل على طرابلس، وكان نازلاً عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل وليس بابن أخت ريمند هذا، بل هو قمص آخر، فجرت بينهما فتنةٌ أدّت إلى الشرّ والقتال ؛ فوصل طنكري صاحب انطاكية إليها معونةً للسرداني، ووصل الملك بغدوين صاحب القدس في عسكره فأصلح بينهم.

ونزل الفرنج جميعهم على طرابلس، وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها، من أوّل شعبان، وألصقوا أبراجهم بسورها، فلمّا رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم، وذلّت نفوسهم، وزادهم ضعفاً تأخّر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة، وكان سبب تأخّره أنّهم فرغوا منه ومن البحث عليه واختلفوا فيه أكثر من سنة، وسار فردَّته الريح فتعذّر عليهم الوصول إلى طرابلس( ليقضيَ الله أمراً كان مفعولاً ) .

وسدّ الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف، فهجموا على البلد وملكوه عنوةً وقهراً، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة من السنة، ونهبوا ما فيها وأسروا الرجال وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يُحد ولا يُحصى ؛ فإنّ أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالاً وتجارة.

وسلم الوالي الذي كان بها وجماعةٌ من جندها، كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها، فوصلوا إلى دمشق.

وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات، وأخذت دفائنهم وذخائرهم من مكامنهم.

٣٨٠