الكني والالقاب
تأليف المحقق الشهير والمؤرخ الكبير الشيخ عباس القمى
الجزء الثالث
باب الفاء
(الفارابى)
أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي التركي الحكيم المشهور، صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى، قالوا انه كان اكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه.
والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه، وكان تركيا نشأ في بلدة فاراب، ثم خرج من بلده، وانتقلت به الاسفار إلى ان وصل إلى بغداد، ثم اشتغل بعلوم الحكمة، وأخذ عن ابي بشر الحكيم وهو يقرأ كتاب ارسطا طاليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه ثم ارتحل إلى مدينة حران وأخذ عن يوحنا ابن جيلان الحكيم النصراني طرفا من المنطق ايضا، ثم قفل راجعا إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب ارسطاطاليس وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها يروى عنه انه سئل من اعلم الناس بهذا الشأن أنت أم ارسطاطاليس؟ فقال: لو أدركته لكنت اكبر تلامذته.
ويقال: انه وجد كتاب النفس لارسطاطاليس وعليه مكتوب بخط الفارابي اني قرأت هذا الكتاب مائة مرة.
وله قصة مشورة من وروده على السلطان سيف الدولة بزي الاتراك قبل ان يعرفه أحد، وكان مجلسه مجمع الفضلاء، فتخطى رقابهم حتى جلس في مسند سيف الدولة، وتكلم بلسان مماليك سيف الدولة، وكان لسانا مخصوصا ثم
اخرج من خريطته عيدانا وركبها ثم لعب بها فضحك منها كل من كان في المجلس ثم ركبها تركيبا آخر فضرب بها فبكى كل من حضر، ثم غير تركيبها فنام كل من في المجلس حتى البواب، ثم تركهم نياما وخرج.
(ويحكى) انه كان منفردا بنفسه لا يجالس الناس، وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالبا إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض ويؤلف هناك كتبه ويتناوبه المشتغلون عليه.
وكان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم من بيت المال اربعة دراهم، وهو الذي اقتصر عليها لقناعته، ولم يزل على ذلك إلى ان توفى بدمشق سنة ٣٣٩ (شلط) وقد ناهز ثمانين سنة، وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه ودفن بظاهر دمشق خارج الباب الصغير.
(والفارابي) نسبة إلى فاراب، وهى مدينة فوق شاش قريبة من مدينة بلاساعون بفتح الموحدة بلدة في بعض ثغور الترك وراء نهر سيحون بالقرب من كاشغر، وكاشغر: بسكون الشين وفتح الغين المعجمتين وهي من المدن العظام في تخوم الصين.
(والفارياب) بلد ببلخ، (وظهير الفاريابي) شاعر أديب معروف، ومن شعره في الموعظة:
بكوش تابسلامت بمأمني برسي |
كهراه سخت مخوفاستومنزلت بسدور |
|
ببين كه چند فراز ونشيب در راه است |
زآستان عدم تابه بيشكاه نشور |
|
تورا مسافت دور دراز دربيش است |
بدين دور روزه إقامت چرا شوي مغرور |
برآستان فنا دل منه كه جاي دگر |
براي نزهت تو بر كشيده اندقصور |
روى شيخنا المفيد (ره) في الارشاد انه كان امير المؤمنين عليه السلام ينادي في كل ليلة حين يأخذ الناس مضاجعهم بصوت يسمعه كافة من في المسجد ومن جاوره من الناس: تزودوا (تجهزوا خ ل) رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل وأقلوا العرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما يحضر كم (بحضرتكم خ ل) من الزاد، فان أمامكم عقبة كؤدا، ومنازل مهولة، لابد من الممربها، والوقوف عليها.
(الفارسى)
أبو علي الحسن بن احمد بن عبد الغفار الفسوي النحوي، فارس ميدان العلم والادب، والذي ينسل إلى فضله من كل حدب، المرجوع إلى تحقيقاته الرشيقة في الكتب الادبية، والقواعد العربية، ولد بمدينة فساسنة ٢٨٨ (حرف) وقدم بغداد واشتغل بها سنة ٣٠٧، وكان إمام وقته في علم النحو، وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة، وكان قدومه عليه في سنة ٣٤١ وجرت بينه وبين المتني مجالس.
قال الخطيب: وعلت منزلته في النحو حتى قال قوم من تلامذته هو فوق المبرد، وأعلم منه.
وصنف كتبا عجيبة حسنة لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق وبرع له غلمان حذاق مثل عمان بن جني وعلي بن عيسى الشيرازي وغير هما وخدم الملوك ونفق عليهم، وتقدم عند عضد الدولة.
قال التنوخي: سمعت أبي يقول: سمعت عضد الدولة يقول: أنا غلام ابى علي النحوي الفسوي في النحو، وغلام ابى الحسين الرازي الصوفي في النجوم.
قال الخطيب: قلت ومن مصنفاته الايضاح في النحو، وكتاب المقصور والممدود وكتاب الحجة في علل القراءآت.
قال محمد بن ابي الفوارس في سنة ٣٧٧: توفي أبو علي الفسوى النحوي ولم أسمع منه شيئا، وكان متهما بالاعتزال، إنتهى.
(أقول): وصنف لعضد الدولة التكملة والمسائل الشيرازيات وهى مشتملة على ثلاثة عشر جزءا رأيتها في مشهد مولانا امير المؤمنين عليه السلام وكانت بخط احمد ابن سابور وعلى ظهرها خط مصنفها ابي علي هكذا قرأ علي أبو غالب احمد بن سابور هذا الكتاب وكتب الحسن بن احمد الفارسي بخطه إنتهى.
وأورده ابن خلكان في تاريخه وأثنى عليه.
وذكر مناماله يتعلق به ثم قال: وبالجملة فهو اشهر من ان يذكر فضله، وكان متهما بالاعتزال إنتهى توفى ببغداد سنة ٣٧٧ (شعر) ودفن بالشونيزي.
وقد يطلق الفارسى على الشيخ ابى اسحاق ابراهيم بن علي، الفارسي اللغوي النحوي، صاحب كتاب شرح الجرمي وغيره، تلميذ ابى علي الفارسي المذكور.
(الفارقى)
ابو علي الحسن بن ابراهيم بن علي بن برهون الفقيه الشافعي، كان مبدء اشتغاله بميافارقين، ثم انتقل إلى بغداد واشتغل على الشيخ ابى اسحاق الشيرازي وعلى ابى نصر بن الصباغ، وتولى القضاء بمدينة واسط.
وكان زاهدا متورعا، له كتاب الفوائد على المهذب، توفى سنة ٥٣٨ بواسط.
(الفاسى)
يطلق على جمع من الفضلاء (منهم) أبو الطيب تقي الدين محمد بن شهاب الدين احمد بن علي الحسني المكي المحدث البارع المؤرخ صاحب التواريخ الحافلة
للبلد الحرام، منها العقد الثمين، وشفاء الغرام، وغير ذلك، توفى سنة ٨٣٢ (ضلب).
(ومنهم) أبو محمد عبد القادر بن علي بن يوسف المغربي الفارسي المالكى المحدث المفسر الصوفي البارع في كثير من العلوم، أخذ منه كثير من الناس، له حاشية على صحيح البخاري، ورسالة في الامامة العظمى وغير ذلك، توفى سنة ١٠٩١ (غصا)، (والفاسي) نسبة إلى فاس بلد عظيم بالمغرب.
(الفاضل)
آية الله العلامة الحلي (والفاضلان) العلامة والمحقق الحليان.
(الفاضل الآبى)
الحسن بن ابى طالب، وقد تقدم قي الآبى.
(الفاضل الاردكانى)
تقديم في الاردكاني.
(الفاضل الايروانى)
العالم الجليل والفاضل النبيل المولى محمد بن محمد باقر الايرواني النجفي الكربلائي اخذ عن صاجي الضوابط والجواهر وصاحب انوار الفقاهة، وبالاخير اختص بشيخ الطائفة العلامة الانصاري، واستقل بالتدريس بعده وبعد العلامة الكوهكمري سنة ١٢٩٩، (أتته) شهرة طائلة وزعامة دينية كبرى، فطفق يعول الافاضل بعلمه الجم، ووفره الواسع فصاروا ببركته من كبار العلماء، لهم تراجم ومؤلفات، له رسائل كثيرة في الفقه والاصول وتعليقة على رسائل استاذه العلامة الانصاري، وحواش على قواعد العلامة، وعلى تفسير البيضاوى ورسالة عملية فارسية في العبادات، وأخرى في المعاملات، وكتاب في المكاسب
المحرمة، ورسالة اجتماع الامر والنهي وغير ذلك، توفى ٣ ع ل سنة ١٣٠٦، ودفن بمدرسته المعروفة في النجف الاشرف.
(الفاضل التوني)
انظر التونى.
(الفاضل الجواد)
هو الشيخ جواد بن سعد الله بن جواد البغدادي الكاظمي في (ضا)، كان اسمه محمدا كما يظهر من بعض مصنفاته، وهومن العلماء المعتمدين والفضلاء المجتهدين، صاحب تحقيقات انيقة وتدقيقات رشيقة في الفقه والاصول والمعقول والمنقول والرياضى والتفسير وغير ذلك.
ذكره الحسن بن عباس البلاغي النجفي في كتابه الموسوم بتنفيح المقال وقال: كان كثير الحفظ، شديد الادراك، مستغرق الاوقات في الاشتغال بالعلوم، إنتهى (وكان) اصله ومحتده ارض الكاظمين، إلا إنه ارتحل في مبادئ أمره إلى بلدة اصفهان، فكان متلمذافي الغالب على شيخنا البهائي (ره) إلى ان صار من أخص خواصه وأعزند مائه فصنف بأمره النافذ كتابه المسمى بغاية المأمول في شرح زبدة الاصول، وهو كتاب حسن في الغاية، جميل التأليف يقرب من اربعة عشر ألف بيت.
(وله ايضا) شرح كبير على رسالة خلاصة الحساب لشيخه المذكور، وكتاب آخر كبير من اكبر ماكتب في شأنه وأتمها فائدة سماه مسالك الافهام في شرح آيات الاحكام، وشرح على دروس الشهيد (ره) ينقل عنه في الحدائق وكأنه إلى كتاب الحج كما افيد وشرح على جعفرية الشيخ علي المحقق وغير ذلك ولم اعرف الرواية له ايضا إلا عن شيخنا البهائي شيخ قرائته وإجازته، وعنه
الرواية لجماعة منهم السيد الفاضل الامير محمود بن فتح الله الحسيني الكاظمي النجفي صاحب الرسالة في تقسيم الاخماس في هذه الازمان، ومقالات في الرجعة، والاحاديث المتعلقة بها، ورسالة في صعود جثة الامام إلى السماء من بعد ثلاثة ايام، وغير ذلك إنتهى.
(الفاضل السيوري)
ويقال له ايضا (الفاضل المقداد) هو الشيخ الاجل أبو عبد الله المقداد ابن عبد الله بن محمد بن الحسين بن محمد السيوري الحلي الاسدي الغروى، كان عالما فاضلا فقيها محققا مدققا.
له كتب منها شرح نهج المسترشدين في أصول الدين، وكنز العرفان في فقه القرآن، والتنقيح الرايع في شرح مختصر الشرائع، وشرح الباب الحادى عشر، وشرح مبادئ الاصول، وشرح ألفية الشهيد، ونضد القواعد رتب فيه قواعد الشهيد (ره) وشرح فصول الخواجه نصير الدين واللوامع في الكلام إلى غير ذلك.
(يروى) عن الشيخ الشهيد محمد بن مكي العاملي قدس سره ويروى عنه محمد بن شجاع القطان الحلي، كان فراغه من شرح نهج المسترشدين سنة ٧٩٢ وأجاز لبعض تلاميذه في ج ٢ سنة ٨٢٢، توفى سنة ٧٢٦ (ضكو).
(والسيورى) بضم السين مع الياء المخففة التحتانية نسبة إلى سيور، وهي قرية من قرى الحلة.
قال (ضا) في ذيل ترجمة هذا الفاضل الجليل: هذا ومن جملة ما يحتمل عندى قويا هو ان تكون البقعة الواقعة في برية شهروان بغداد المعروفة عند اهل تلك الناحية بمقبرة مقداد مدفن هذا الرجل الجليل الشأن.
(الفافل المراغي)
المولى احمد بن علي اكبر نزيل تبريز، تلمذ في النجف الاشرف على شيخ الطائفة العلامة الانصاري فهبط تبريز، وظهرت فيها فضائلة. له حواش على كثير من كتب العلم، منها حاشيته على شرح الشمسية، والصمدية، والقوانين، والمطول، وله تعليقات تفسيرية، وتعليقات على نهج البلاغة، توفي في ٥ محرم سنة ١٣١٠ هجـ، ونقل جثمانه إلى النجف الاشرف.
(الفاضل الهندي)
هو الشيخ الاجل تاج المحققين والفقهاء وفخر المدققين والعلماء بهاء الدين محمد بن الحسين بن محمد الاصبهاني، وحيد عصره وأعجوبة دهره مروج الاحكام صاحب كشف اللثام عن قواعد الاحكام، الذي حكي عن صاحب الجواهر رحمه الله انه كان له اعتماد عجيب فيه وفي فقه مؤلفه، وانه كان لا يكتب شيئا من الجواهر لو لم يحضره ذلك الكتاب.
وناهيك به انه فرغ من تحصيل العلوم معقولها ومنقولها ولم يكمل ثلاث عشرة سنة، وشرع في التصنيف ولم يكمل إثنى عشرة سنة، عد مصنفاته إلى ثمانين، يروى عن والده تاج أرباب العمامة تاج الدين حسن المعروف بملا تاجا عن المولى حسن علي احد مشايخ العلامة المجلسي (رحمة الله)، توفي في فتنة الافاغنه باصبهان ٢٥ (مض) سنة ١١٣٧ (غقلز) ودفن بمقبرة تخته فولاد، وبجنبه قبر العالم الفاضل الحاج مولى محمد النائيني المتوفى سنة ١٢٦٣ (غرسج) ويعبر اهل اصبهان عنهما بالفاضلان، وهذا الفاضل النائيني والد العالم الجليل الآقارضا النائيني الذي يروي عنه شيخنا ثقة الاسلام النوري بعض الحكايات في كتاب دار السلام.
(الفاكهي)
جمال الدين عبد الله بن احمد بن علي المكى الشافعي النحوي، إشتغل بالعلم على والده وغيره، ودرس وانتفع به الناس وألف كتبا منها شرح القطر يقال انه ألفه وهو ابن ثماني عشرة سنة وله الفواكه الجنية على متممة الاجرومية وحسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل صلى الله عليه وآله، وكشف النفاب عن مخدرات ملحة الاعراب، وهو شرح مختصر على ملحة الاعراب للحريري، توفى سنة ٩٧٢ (ظعب).
(الفالي)
ابو الحسن علي بن احمد بن علي بن سلك الاديب الفالي، أقام بالبصرة طويلا وسمع من شيوخ ذلك الوقت، وقدم بغداد واستوطنها وحدث بها وكان شاعرا اديبا.
روى عنه الخطيب صاحب تاريخ بغداد وتقدم في علم الهدى قصة ربيعة الجمهرة للشريف المرتضى وأشعاره في ذلك، ورد السيد رحمه الله الكتاب عليه، والفالي نسبة إلى فالية بالفاء هي بلدة بخوزستان.
(الفتال)
هو الشيخ الاجل السعيد الشهيد أبو علي محمد بن الحسن بن علي بن احمد النيسابوري المعروف بابن الفارسي الحافظ الواعظ صاحب كتاب روضة الواعظين والتنوير في التفسير.
كان من علماء المائة السادسة ومن مشايخ ابن شهر اشوب، يروى عن الشيخ الطوسي وعن أبيه الحسن بن علي عن السيد المرتضى رضي الله تعالى عنه قال ابن داود في حقه متكلم جليل القدر فقيه عالم زاهد ورع، قتله أبو المحاسن عبد الرزاق رئيس نيسابور الملقب بشهاب الاسلام إنتهى.
(الفتال)
من اسماء البلبل، ولعله لقب به لطلاقة في لسانة في الخطابة والوعظ، وعذوبة في لهجته ورقة في ألفاظه.
(فخر الدولة الموصلي)
انظر ابن جهير وعميد الدولة.
(الفخر الرازي)
ابو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي الطبري الاصل الرازي المولد الاشعري الاصول الشافعي الفروع، المعروف با الامام فخر الدين والملقب بابن الخطيب، صاحب التفسير الكبير الذى اكمله نجم الدين القمولي وشهاب الدين الخوبى.
وله اساس التقديس في علم الكلام، ولباب الاشارات ولوا مع البينات في شرح أسماء الله والصفات، ومحصل افكار المتقدمين والمتأخرين إلى غير ذلك كان مبدأ اشتغاله على والد ضياء الدين عمر، ثم اشتغل على المجد الجيلي بمراغة ثم هرع إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان، واتصل بخوارزم شاه ونال عنده اسنى المراتب، واستوطن مدينة هراة، وكان يلقب بها شيخ الاسلام، ونال من الدولة إكراما عظيما، فاشتد ذلك على الكرامية ولم يزل بينه وبينهم السيف الاحمر حتى قيل انهم سموه حكي ان له في الوعظ اليد البيضاء ويعظ باللسانين العربي والعجمي وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء وعن ابي عبد الله الحسين الواسطي قال: سمعت فخر الدين بهراة ينشد على المنبر عقيب كلام عاتب اهل البلد:
المرء مادام حيايستهان به |
ويعظم الرزء فيه حين يفتقد |
إنتهى
ونسب إليه هذه الابيات:
نهاية اقدام العقول عقال |
وأكثر سعي العالمين ضلاك |
|
وأرواحنا في وحشة من جسومنا |
وحاصل دنيانا اذى ووبال |
|
ولم نستفد من بحثناطول عمرنا |
سوى ان جمعنا فيه قيل وقاك |
|
وكم قد رأينا من رجال ودولة |
فبادوا جميعا مسرعين وزالوا |
|
وكم من حبال قد علت شرفاتها |
رجال فزالوا والجبال جبال |
وفي العبقات قال الذهبي في ميزان الاعتدال: الفخر ابن الخطيب صاحب التصانيف، رأس الذكاء والعقليات لكنه عري من الآثار.
وله تشكيكات علي مسائل من دعائم الدين يورث الحيرة، نسأل الله ان يثبت الايمان في قلوبنا.
وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم سحر صريح فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى إنتهى.
وعده ابن تيمية في منهاج السنة في الجبرية، وهم الفرقة الضالة الهالكة وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في إرشاد الطالبين وقد طلب الشيخ فخر الدين الرازي الطريق إلى الله تعالى فقال الشيخ نجم الدين الكبرى لا تطيق مفارقة صنمك الذي هو علمك، فقال: يا سيدي لا بدإن شاء الله قأدخله الشيخ الخلوة وسلبه جميع ما معه من العلوم، فصاح في الخلوة بأعلى صوته لا اطيق فأخرجه.
قال ابن حجر السقلاني في لسان الميزان في حقه: وكان مع تبحره في الاصول يقول: من التزم دين العجائز فهو الفائز، وكان يعاب بايراد الشبه الشديدة، ويقصر في حلها، حتى قال بعض المغاربة: يورد الشبهة نقدا ويحلها نسيئة، وذكره ابن دحية فمدح وذم، وذكره ابن شامة فحكى عنه اشياء ردية، وكانت وفاته بهراة يوم عيد الفطر سنة ٦٠٦ (خو) إنتهى.
ولبعض أرباب الوجد والعرفان (هو ابن العربي) كتاب كبته إلى الفخر الرازي يعجبني نقل بعض كلماته قال فيه! وقد وقفت على بعض تآليفك وما أيدك الله به من القوة المتخيلة والفكرة الجيدة، ومتى تغذت النفس كسب يديها فانها لاتجد حلاوة الجود والوهب، وتكون ممن اكل من تحته، والرحل من يأكل من فوقه كما قال الله تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) وليعلم وليي وفقه الله ان الوراثة الكاملة وهى التي تكون من كل الوجوه لامن بعضها، والعلماء ورثة الانبياء، فينبغي للعاقل العالم ان يجتهد لان يكون وارثا من كل الوجوه، ولا يكون ناقص الهمة، إلى ان قال: وينبغي للعالي الهمة ان لا يكون معلمه مؤنثا، كما لا ينبغى ان يأخذ من فقير اصلا، وكل مالا كمال له إلا بغيره فهو فقير، وهذا حال كل ما سوى الله تعالى.
فارفع الهمة في ان لا تأخذ علما إلا من الله سبحانه على الكشف واليقين، ولقد اخبرني من ألفت به من اخوانك ومن له فيك نية حسنة انه رآك وقد بكيت يوما فسألك هو ومن حضر عن بكائك، فقلت: مسألة اعتقدتها منذ ثلانين سنة تبين لي الساعة بدليل لاح لي ان الامر علي خلاف ماكان عندي فبكيت وقلت: لعل الذى لاح لي ايضا يكون مثل الاول، فهذا قولك، ومن المحال على الواقف بمرتبة العقل والفكران يسكن أو يستريح ولاسيما في معرفة الله تعالى.
وقال: وينبغى العاقل ان لا يطلب من العلوم إلا ما يكمل به ذاته وينقل معه حيث انتقل، وليس ذلك إلا العلم بالله تعالى، فان علمك بالطب إنما يحتاج إليه في عالم الامراض والاسقام، فإذا انتقلت إلى عالم ما فيه السقم ولا المرض فمن تداوى بذلك العلم.
وكذلك العلم بالهندسة إنما يحتاج إليه في عالم المساحة، فاذا انتقلت تركته
في عالمه، ومضت النفس سادجة ليس عندها شئ منه. وكذلك الاشتغال بكل علم تركته النفس عند انتقالها إلى عالم الآخرة فينبغي للعاقل ان لا يأخذ منه إلا ما مست إليه الحاجة الضرورة، وليجتهد في تحصيل ما ينتقل معه حيث انتقل، وليس ذلك إلا علمان خاصة العلم بالله، والعلم بمواطن الآخرة، إنتهى.
(فخر المحققين)
أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، وجه من وجوه هذه الطائفة وثقاتها، جليل القدر عظيم المنزلة رفيع الشأن، كثير العلم، وحيد عصره وفريد دهره، جيد التصانيف، حاله في علوقدره وسمو مرتبته وكثرة علومه أشهر من أن يذكر، كفى في ذلك انه فازبدرجة الاجتهاد في السنة العاشرة من عمره الشريف، وكان والده العلامة يعظمه ويثني عليه ويعتني بشأنه كثيرا حتى انه ذكره في صدر جملة من مصنفاته الشريفة، وأمره في وصيته التي ختم بها القواعد باتمام ما بقي ناقصا من كتبه بعد حلول الاجل، وأصلاح ما وجد فيها من الخلل له غير ما أتم من كتب والده العلامة، كتب شريفة منها شرح القواعد سماه إيضاح الفوائد، والفخرية في النية، وحاشية الارشاد، والكافية الوافية في الكلام، وشرح نهج المسترشدين، وشرح تهذيب الاصول الموسوم بغاية السؤل، وشرح مبادئ الاصول وشرح خطبة القواعد إلى غيرذلك.
يروي عن أبيه العلامة وغيره، ويروي عنه شيخنا الشهيد (ره) وأثنى عليه في بعض اجازاته ثناء بليغا.
ولدليلة ٢٠ ج ١ سنة ٦٨٢، وتوفى ليلة ٢٥ ج ٢ سنة ٧٧١، قال صاحب نخبة المقال في تاريخه:
فخر المحققين نجل الفاضل ذاع ٧٧١ للارتحال بعدنا حل ٨٩.
(فخر الملك)
أبو غالب محمد بن علي بن خلف الواسطي كان وزيربهاء الدولة ابى نصر ابن عضد الدولة بن بويه، وكان من اعظم وزراء آل بويه بعد ابن العميد والصاحب بن عباد، وكان جم الفضائل والافضال جزيل العطايا والنوال.
حكى القاضي نور الله انه كان كثير الصلاة والصدقات، حتى انه كان يكسي في يوم ألف فقير.
وكان أول من قسم الحلوا على الفقراء ليلة النصف من شعبان، وكان يتشيع، إنتهى.
حكي ان رجلا شيخا رفع إلى فخر الملك قصة سعى فيها بهلاك شخص، فلما وقف فخر الملك عليها قلبها وكتب في ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فان كنت اجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها اكثر من الربح، ومعاذ الله ان نقبل من مهتوك في مستور، ولو لا انك في خفارة من شيبك لقا بلناك بما يشبه مقالك، وتردع به امثالك، فاكتم هذا العيب، واتق من يعلم الغيب والسلام. ومحاسن فخر المك كثيرة، ولم يزل في عزه وجاهه إلى ان نقم عليه مخدومه سلطان الدولة، فحبس ثم قتل في سنة ٤٠٧ (تز).
قال ابن خلكان: ورثاه الشريف الرضي بأبيات ما اخترت منها شيئا حتى اثبته هاهنا، قلت العجب منه كيف ذكر هذا مع انه اثبت وفاة الشريف الرضي في سنة ٤٠٦ (تو) قبل فخر الملك بسنة.
(الفراوى)
كمال الدين أبو عبد الله محمد بن الفضل بن احمد النيسابورى، الفقيه المحدث
الواعظ، كان يقال في حقه الفراوي ألف راوي، توفى سنة ٥٣٠ (ثل).
والفراوى - بضم الفاء نسبة إلى فراوة، وهي بليدة مما يلي خوارزم بناها عبد الله بن طاهر في خلافة المأمون.
(الفراء)
أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الاسلمي الديلمي الكوفي تلميذ الكسائي، وصاحبه كان ابرع الكوفيين، وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الادب.
حكي عن ثعلب انه قال: لولا الفراء لما كانت عربية، لانه خلصها وضبطها، إنتهى.
وممارفع قدره وجمع الادباء حوله حظوته عند المأمون الخليفة فانه كان يقدمه وعهد إليه تعليم ابنيه النحو واقترح عليه ان يؤلف ما يجمع به اصول النحو وما سمع من العربية. وأمران تفرد له حجرة من الدار ووكل بها جواري وخدما للقيام بما يحتاج إليه وصير إليه الوراقين يكتبون ما يمليه، حتى صنف كتاب الحدود في سنتين، وعظم قدر الفراء في الدولة العباسية، حتى تسابق تلميذاه ابنا المأمون إلى تقديم فعله إليه لما نهض للخروج، ثم اصطلحا على ان يقدم كل منهما فرده، وبلغ المأمون ذلك، فاستدعاه وقال له بذلك، فقال: لقد اردت منعها ولكن خشيت ان ادفعهما عن مكرمة سبقا اليها أو اكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها، ففرح المأمون وقال: لو منعتهما عن ذلك لاوجعتك لوما، توفى سنة ٢٠٧ (رز) في طريق مكة.
(والفراء)
بالفاء وتشديد الراء، قالوا قيل له الفراء لانه كان يفرى الكلام ولم يكن يعمل الفراء ولا يبيعها.
وإطلاق الفراء على معاذ بن مسلم النحوي اشتباه بالهراء فراجع الهراء، (قال) ابن خلكان: وذكر أبو عبد الله المرزباني في كتابه ان زيادا والد الفراء كان اقطع، لانه حضر وقعة الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقطعت يده في ذلك الحرب، وهذا عندي فيه نظر لان الفراء عاش ثلاثا وستين سنة فتكون ولادته سنة اربع وأربعين ومائة، وحرب الحسين كانت سنة إحدى وستين للهجرة فبين حرب الحسين وولادة الفراء اربع وثمانون سنة، فكم قد عاش أبوه، فان كان الاقطع جده فيمكن، والله اعلم إنتهى كلامه.
(أقول): العجب من ابن خلكان مع تبحره واطلاعه وإحاطته بالتاريخ كيف لم يفهم ان المراد من الحسين بن علي هنا هو الحسين بن علي بن الحسن بن ابن الحسن بن علي أبي طالب الشهيد بفخ في سنة ١٦٩ لا الحسين بن علي ابن أبي طالب (ع) الشهيد بالطف سنة ٦١، ولكن هو معذور، لانه وأمثاله لم يكونوا يراجعون إلى كتب الشيعة، ولا إلى تواريخهم، ولا إلى سيرة أئمتنا الاثنى عشر عليهم السلام، وكفى شاهدا على قولي الرجوع إلى كتابه، فتراه كتب في احوال أدنى شاعرا أو فاسق أو ساقط ما يدلك على أحواله وسيرته وشأنه وأما في أحوال أئمتنا (ع) فيكتفي باسمه وإسم آبائه ووفاته مثلا كتب في باب الميم الامام محمد باقر والامام محمد الجواد والامام صاحب الزمان (ع) فلا يبلغ تمام ماكتب في احوالهم (ع) صفحة من كتابه فاكتفى في احوال الامام المهدي صاحب الزمان عليه السلام الذي كتب في احواله العامة والخاصة كتبا كثيرة بهذه الكلمات أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري ابن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور قبله ثاني عشر الائمة الاثنى عشر على اعتقاد الامامية المعروف بالحجة، وهو الذي تزعم الشيعة انه المنتظر والقائم والمهدي وهو صاحب السرداب عندهم وأقاويلهم فيه كثيرة، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب بسر من رأى، ثم ذكر تاريخ ولادته وتاريخ دخوله السرداب.
هذا ما كتب في تاريخ هذا الامام الحجة من الله على الناس مع ما فيه من مواقع النظرو الاعتراض.
(الفرخي)
علي بن جولوغ السجستاني شاعر معروف من شعر اء السلطان محمود الغزنوي كان فاضلا اديبا، له كتاب ترجمان البلاغة.
قيل: ان الرشيد الوطواط نسج على منواله كتابه (حدائق السحر) وله ايضا ديوان شعر، توفى سنة ٤٢٩.
(الفردوسي)
سحبان العجم الحكيم: أبو القاسم الحسن بن محمد الطوسي الشاعر المعروف له يد في تمام فنون الكلام من التشبيت، والغزل، والحكمة، والاعذار، والانذار، والمدح، والهجاء، والرثاء، والافتخار، والعتاب وغيرها من اغراض الشعر، ولذلك يعد من اكبر شعراء ايران وأشهر هم، لا لأنه أتى بالشعر الحماسي الذي أحيى به القومية الايرانية.
ولذلك قيل في وصف الشاهنامة هي المرجع المهم في التاريخ والادب الفارسي لجميع الادباء والمؤرخين، وهو كنز اللغة الفارسية وقاموسها، فليس هو كتابا تاريخيا يشتمل على ذكر الملوك والابطال وقضايا ايران وحوادثها الماضية فحسب بل هو محتو على أغلب فنون الادب، ففيه حكمة وغزل وأخلاق وموعظة وتزهيد في اسلوب قريب وطرز بديع.
(قيل): كان من دهاقين طوس، نظم كتاب (شاهنامه) من أول زمان كيومرث إلى زمان يزدجردبن شهريار في ستين ألف بيت في مدة ثلاثين سنة، آخرها سنة ٣٨٤، وذكره السيد الشهيد القاضى نورالله في مجالسه
لا حدّ له ، ويتصوّر بذاته ، لا يحتاج فى تصوره إلى شىء ، إذ هو أولىّ التصور ، ويعرف بذاته إذ لا سبب له. ويقع على الفعل المحكم ، والفعل المحكم هو أن يكون قد أعطى الشىء جميع ما يحتاج إليه ضرورة فى وجوده وفى حفظ وجوده بحسب الإمكان : إن كان ذلك الإمكان فى مادة فبحسب الاستعداد الذي فيها ، وإن لم يكن فى مادة فبحسب إمكان الأمر فى نفسه كالعقول الفعالة. وبالتفاوت فى الإمكانات تختلف درجات الموجودات فى الكمالات والنقصانات. فإن كان تفاوت الإمكانات فى النوع كان الاختلاف فى النوع ، وإن كان ذلك التفاوت فى إمكانات الأشخاص فاختلاف الكمال والنقصان يكون فى الأشخاص ، فالكمال المطلق يكون حيث الوجوب بلا إمكان والوجود بلا عدم والفعل بلا قوة والحق بلا باطل. ثم كل تال فإنه يكون أنقص من الأول وكل ما سواه فإنه ممكن فى ذاته. ثم الاختلاف من التوالى والأشخاص والأنواع يكون بحسب الاستعداد والإمكان ، فكل واحد من العقول الفعالة أشرف مما يليه. وجميع العقول الفعالة أشرف من الأمور المادية ، ثم السماويات من جملة الماديات أشرف من عالم الطبيعة. ويريد بالأشرف هاهنا ما هو أقدم فى ذاته ولا يصح وجود تاليه إلا بعد وجود متقدمه. وهذا أعنى الإمكانات هى أسباب الشر. فلهذا لا يخلو أمر من الأمور الممكنة من مخالطة الشر ، إذ الشر هو العدم كما أن الخير هو الوجود. وحيث يكون الإمكان أكثر كان الشر أكثر. وكما أنه يعطى كل شىء ما يحتاج إليه فى وجوده وبقائه فكذلك يعطيه ما فوق المحتاج إليه فى ذلك : مثلا أن يعطى الإنسان الحكمة والعلم بالهيئة إذ ليس الإنسان محتاجا فى بقائه ووجوده إلى علم الهيئة. فما لا بد منه فى وجوده هو الكمال الأول ، وذلك الآخر هو الكمال الثاني. فواجب الوجود يعلم كل شىء كما هو بأسبابه ، إذ يعلم كل شىء من ذاته التي هى سبب كل شىء لا من الأشياء التي هى من خارج. فهو بهذا المعنى حكيم وحكمته علمه بذاته ، فهو حكيم فى علمه ، محكم فى فعله. فهو الحكيم المطلق. وواجب الوجود أيضا هو علة كلّ موجود ، قد أعطى كل موجود كمال وجوده وهو ما يحتاج إليه فى وجوده وبقائه ، وزاده أيضا ما لا يحتاج إليه فى هذين. وقد دل القرآن على هذا المعنى حيث يقول : «رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ »(1) . فالهداية هى الكمال الذي لا يحتاج إليه فى وجوده وبقائه ، والخلق هو الكمال الذي يحتاج إليه فى وجوده وبقائه.
________________
1) سورة «طه» آية 50
وأيضا حيث يقول : «اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ »(1) . فالحكماء يسمون ما يحتاج إليه الشىء فى وجوده وبقائه الكمال الأول ، وما لا يحتاج إليه فى بقائه هو الكمال الثاني.
وأما الجود فهو إفادة الخير بلا غرض. والإفادة على وجهين : أحدهما معاملة والآخر جود ، فالمعاملة أن يعطى شيئا يأخذ بدله إما عينا وإما ذكرا حسنا وإما فرحا ، وإما دعاء ، وبالجملة ما يكون للمعطى برغبة أو غرض فإنه المعاملة بالحقيقة. وإن كان الجمهور يعرفون المعاملة حيث تكون معاوضة ، ولا يعدّون سواه عوضا ، ولكن العقلاء يعرفون أن كل ما فيه للمعطى رغبة ففيه له فائدة. والجود حيث لا يكون عوض ولا غرض وذلك يكون لمريد وفاعل لا غرض له ، وواجب الوجود فعله وإرادته كذلك. فإذن فعله هو الجود المحض.
الإرادة فينا لا تكون لذاتنا بل خارجة عنا واردة علينا من خارج. وإذا كان كذلك فجميع ما يكون لنا من إرادة ومشيئة وفعل وإدراك عقلى وحركة تكون بالقوة لا بالفعل ، ويحتاج إلى سبب معين مخصّص يخرج أحد الطرفين إلى الفعل ، ويكون سوق ذلك المعين المخصص بالتقديرات ، فتكون جميع أفعالنا بقدر.
نحن إذا أردنا شيئا فإنما تكون لنا تلك الإرادة بعد أن نتصور الشىء الملائم لنا فننفعل عنه أى نلتذ به ، فتنبعث منا إرادة له أو شهوة ، ثم تنبعث منا إرادة أخرى لتحصله فتكون الإرادة واردة علينا من خارج ، ويكون له سبب. وإرادة البارى لا تكون له بسبب لأنه لا ينفعل عن شىء ولا يكون له غرض فى شىء بل يكون السبب فى إرادته ذاته ، ولا يكون فيه إمكان إرادة أو إمكان مشيئة.
الإنسان فطر على أن يستفيد العلم ويدرك الأشياء طبعا من جهة الحواس ثم من جهة الوهم الذي هو نسختها. فأما ما يدركه عقلا فإنه يكون باكتساب لا طبعا. والذي يدركه من جهة الفعل إذا ساعد عليه الوهم فإنه يثق به. فإن عارض فيه لم يكد يخلص له اليقين به وربما يقع له فيه الحيرة والشك لا سيما إذا لم يكن إلفا للعقليات ، وهذه تكون حاله ما دام ممنونا بالوهم. وأما الأوائل التي تحصل له فإنها تكون من الاستقرار وهو تجربة ومن الشهادة. والنفس تعتقد أن كل ما توجبه الشهادة والاستقراء حقّ وقد لا يكون حقا ويكون من الوهميات الكاذبة. والعقول الفعالة لا يكون لها الوهم ، فلا تكون لها الوهميات بتة.
________________
1) سورة «الشعراء» آية 78.
الإدراك : إنّما هو للنفس ، وليس إلاّ الإحساس بالشيء المحسوس والانفعال عنه : والدليل على ذلك أن الحاسة قد تنفعل عن المحسوس ، وتكون النفس لاهية فيكون الشىء غير محسوس ولا مدرك ، فالنفس تدرك الصور المحسوسة بالحواس وتدرك صورها المعقولة بتوسط صورها المحسوسة ، إذ تستفيد معقولية تلك الصور من محسوسيتها ، ويكون معقول تلك الصور لها مطابقا لمحسوسها وإلا لم يكن معقولها. وليس للإنسان أن يدرك معقولية الأشياء من دون وساطة محسوسيتها ، وذلك لنقصان نفسه واحتياجه فى إدراك الصور المعقولة إلى توسط الصور المحسوسة. فأما الأول والعقول المفارقة لما كانت عاقلة بذواتها لم تحتج فى إدراك صورة الشىء المعقولة إلى توسط صورته المحسوسة ولم تستفدها من إحساسها ، بل أدركت الصورة المعقولة من أسبابها وعللها التي لا تتغير ، فيكون معقولها منه لا يتغير لهذا الشأن. ولكل شخص جزئى معقول مطابق لمحسوسه ، والنفس الإنسانية تدرك ذلك المعقول بتوسط محسوسه. والأوّل والعقول المفارقة تدرك المعقول من علله وأسبابه ، وحصول المعارف للإنسان تكون من جهة الحواس ، وإدراكه للكليات من جهة إحساسه بالجزئيات. ونفسه عالمة بالقوة ، فالطفل نفسه مستعدة لأن تحصل لها الأوائل والمبادئ ، وهى تحصل له من غير استعانة عليها بالحواس ، لا يحصل له عن غير قصد ومن حيث لا يشعر به. والسبب فى حصولها له استعداده لها. فإذا فارقت النفس البدن ، ولها الاستعداد لإدراك المعقولات ، فلعلها يحصل لها من غير حاجة لها إلى القوى الجسمية التي فاتته ، بل يحصل لها من غير قصد ومن حيث لا يشعر بها كالحال فى حصول الأوائل للطفل. والحواس هى الطرق التي تستفيد منها النفس الإنسانية المعارف.
المحسوس إذا لم تدركه النفس فلأن النفس مشغولة عنه بفكره أو عقله ، ويكون قد حصل فى الحس المشترك فلا يمكنه تأديته إليها ، ولأن الحس المشترك قد شغلته النفس بما هى مقبلة عليه فلا ينطبع المحسوس فيه.
النفس ما دامت ملابسة للهيولى لا تعرف مجرد ذاتها ، ولا شيئا من صفاتها التي تكون لها وهى مجردة ، ولا شيئا من أحوالها عند التجرد لأنها لا يمكنها الرجوع إلى خاصّ ذاتها والتجرد عما يلابسها وهذا يكون عائقا لها عن التحقق بذاتها وعن مطالعة شىء من أحوالها. فإذا تجردت وزال عنها هذا العوق فحينئذ تعرف ذاتها وأحوالها وصفاتها الخاصة بها ، وأنها تدرك الأشياء بلا آلة بدنية وإنها مستغنية عنها ، وأن ما يتخيل لها الآن من أن لا حقيقة إلا للجسم المحسوس وأن لا وجود لشىء سواه ـ كله باطل.
القوى البدنية تمنع النفس عن التفرد بذاتها وخاص إدراكاتها : فهى تدرك الأشياء متخيّلة لا معقولة لانجذابها إليها واستيلائها عليها ، ولأنها لم تألف العقليات ولم تعرفها ، بل نشأت على الحسيات فهى تطمئن إليها وتثق بها وتتوهم أن لا وجود للعقليات وإنما هى أوهام مرسلة.
المعقول من الشخص والمحسوس منه يتطابقان ، كما ذكر. إلا أن المعقول من الشخصى الذي نوعه مجموع فى شخصه وإن كان يطابق محسوسه فى الوجود فلا يمتنع فى العقل أن يكون كليا بأن يتصوره كليا ، ولو كان فى الوجود غير جائز ويحمله على كثيرين. وفى الأول كان هذا التصور ممتنعا. والمعقول من هذا الكسوف الجزئى وإن كان يلزم أن يطابق محسوسه فيكون جزئيا فاسدا فإن الأول لم تستفد معقوليته من حسيته ، بل علمه من الأسباب الموجبة له والصفات الكلية التي تخصصت بها فيكون معقوله منه كليا لأن الأسباب والصفات كلية بحيث يصح حمله على كثيرين. فلما تخصصت بهذا الكسوف الشخصى صار كلّ واحد من تلك الأسباب والصفات نوعا مجموعا فى شخصه ، فصار بحيث لا يحمل عليه وحده. وتلك الأسباب والصفات هى أن يقال فى هذا الكسوف إنه عن حركات للسماويات تأدت إلى اجتماع هذه الصفة ، وأنه كان بعد حركة كذا وفى الدورة الفلانية من كذا ، وأنه على وضع كذا وفى ناحية المشرق هو أو فى المغرب ، وأنه فى ناحية الشمال أو الجنوب ، وأنه على مقدار النصف منه أو الثلث ، وأنه على هذا اللون ـ فهذه صفات يمكن أن تعتبر كليا ، فتخصصت بهذا الشخص فصار كل واحد منها نوعا مجموعا فى شخصه ، والأشياء التي شخصت هذا الكسوف ـ وهو النهار الجزئى الذي حدث فيه والحالة الجزئية التي كانت له ـ لكل واحد منها صفات كلية إذا تخصصت به شخصا كان بمنزلة الكسوف وأسبابه وصفاته ، فيكون كلّ واحد من تلك الصفات نوعا مجموعا فى شخصه. والنوع المجموع فى شخصه يكون له معقول كلىّ فلا يفسد العلم به ولا يتغير ، فمعقول الأول من هذا الكسوف على هذا الوجه لا يتغير.
قوله(1) : «لكنك تعلم بحجة أن ذلك الكسوف يكون واحدا» ـ معناه أنه لا يمكن أن يكون فى زمان واحد إلا كسوف واحد ، لأن الشمس التي هى موضوع الكسوف واحد.
ذلك الكسوف الشخصى إذا علم من جهة أسبابه وصفاته الكلية التي يكون كلّ واحد منها نوعا مجموعا فى شخصه ، كان العلم به كليا؛ والكسوف وإن كان شخصيا فإنه عند ذلك يصير كليا ، ويكون نوعا مجموعا فى شخص ، والنوع المجموع فى شخص له معقول كلى لا يتغير. وما يسند إليه من صفاته وأحواله يكون مدركا بالعقل
________________
1) لا يتضح من القائل هاهنا.
فلا يتغير. وتلك الأسباب والصفات هى مثل أن يقول : إن هذا الكسوف كان عن حركات من الشمس والقمر وإحدى العقدتين كل واحد من تلك الحركات على صفات كذا وبعد حركة كذا وفى الدورة الفلانية من دورات كذا وفى ناحية كذا وفى جهة كذا وغير ذلك من الأسباب والعوارض الكلية التي يمكن أن تكون لكل كسوف أو لكسوفات كثيرة. وكل واحد من تلك الأشياء والصفات نوع مجموع فى شخص يصح الاستناد إليه ، ويصير الكسوف الشخصى أيضا بتلك الأسباب والصفات التي تخصصت بها نوعا مجموعا فى شخص ، فيكون له معقول كما يكون للنوع المجموع فى شخصه فلا يتغير ، والأشياء التي شخصته أيضا كالزمان الجزئى الذي حصل فيه ، والحالة الجزئية التي شخصته لكل واحد منها صفات وأسباب كلية ، كل واحد منها نوع مجموع فى شخص له ، معقول كلى ، لا يتغير فيصح الاستناد إليه. فيمكن فى هذه الأحوال الجزئية أن يعقل ويدرك بالعقل لا بالحس والإشارة إليه.
هذا الكسوف الذي يكون بهذه الأسباب وإن كان شخصيا فإنه حدّ متصوّر كليا من جهة أسبابه ، فيكون نوعا مجموعا فى شخصه ، فالعلم المستند إليه لا يتغير.
هذا الكسوف الشخصى ـ إذا كان معلوما من جهة أسبابه وعلله وصفاته الكلية على أن تلك الأسباب والصفات وإن كانت كلية فى ذواتها بحيث تحمل على كثيرين فقد تخصصت به ـ كان معقوله كليا ، وكان المعقول الشخصى الذي نوعه مجموع فى شخصه الذي لا يتغير ولا يتغير العلم به وتكون صفاته وأسبابه متخصصة به محمولة عليه وحده ، وكل ما نسب إليه ويسند إليه يمكن أن يدرك ، بالعقل فلا يتغير. ومعنى التخصص به أن يكون له وحده كما أن صفات الشخص الذي نوعه مجموع فى شخصه مقصورة عليه ، إذ لا شخص نظير له فيشاركه فيها.
المشخص للشىء يجب أن يكون شخصا ، لا كليا.
نحن نعلم المعانى الكلية من جهة ما يستدعى علمها إلى جزئياتها ، والجزء لا يحصل لنا العلم به إلا بعد وجوده ، ووجوده يكون جزئيا لا محالة ، فنحن إنما نعلم الكسوف من جهة وجوده ، فيكون هذا الكسوف الشخصى والأول لا نعلمه من جهة وجوده بل من جهة أسبابه ، فيكون له معقول كلى ، كما يكون للشىء الذي نوعه مجموع فى شخصه.
المشار إليه لا يكون له معقول إلا أن يكون شخصا محدوده معقوله ككرة الشمس. والشىء الذي معقوله محدوده هو ما يكون الذاتيات التي تقوّم بها ، والصفات التي
تخصّص بها تكون مقصورة عليه ، وتلك الصفات هى ما يحدده العقل فيعقلها الشىء الذي معقوله محدوده هو ما تكون ماهيته متقومة من الأشياء الذاتية التي توجد كلها فى حده. وما لا يكون محدوده معقوله فهو ما تكون ماهيته متقومة لا من الأشياء الكلية الذاتية المأخوذة فى حده فحسب بل منها ومن غيرها كالأشخاص التي تدخل تحت نوع فإنها متقوّمة من معنى النوع ومن أعراض لازمة لا توجد معه فى حده.
المعنى البسيط هو الذي لا يمكن العقل أن يعتبر فيه التآلف والتركب من عدة معان ، فلا يمكنه تحديده ، وذلك كالعقل والنفس. وما أمكن أن يعتبر فيه ذلك فهو غير بسيط كالإنسانية والحيوانية فإنها تنقسم بالحدّ إلى معان مختلفة.
كل شخصى فله معقول ، أى ماهية مجردة جزئية فاسدة من حيث تكون مقيسة إليه ويكون حصل فى الذهن من جهة الإحساس به ، وإلا لم يكن له حصول فيه فيكون مستفادا من الحسّ ، وهذا المحسوس هو فاسد ، فمعقوله من حيث يكون مقيسا إليه فاسد. فإذا علم ذلك المعقول من جهة علله وأسبابه لم يكن معقولا من جهة جزئية بل من جهة كلية ، فلا يكون حينئذ فاسدا. ومثال ذلك هذا الكسوف الشخصى له معقول شخصى وهو ذلك الاجتماع المعين الشخصى الذي حصل بين الشمس والقمر وإحدى العقدتين. وهذا يحصل العلم به عند وجوده ويبطل عند بطلانه. وقبل وجوده لم يكن العلم به حاصلا بل كان العلم إنما حصل بوجوده ، فكان علمان عند وجوده ولا وجوده ، وكان لكل واحد منهما صورة غير صورة الآخر. وهذا المعنى المعقول على هذا الوجه هو جزئى. فإذا علم من جهة أسبابه وعلله الموجبة له ـ وهو الحركات السماوية التي تأدت إلى هذا الاجتماع ـ كان ذلك معقولا من جهة كلية وكان العلم به قبل حدوثه وعند حدوثه وبعد حدوثه على حد واحد. والأول إنما يعقل الشخصى الفاسد من هذه الجهة الكلية فلا يتغير علمه إذ لا يتغير معلومه : فإنه كلما تحركت السماوية بحركاتها وتأدت إلى مثل هذا الاجتماع حصل لا محالة كسوف.
المعقول من كل شىء هو مجرد ماهيته المنسوبة إليه مع سائر لوازمه. فإن كان شخصيا نوعه مجموع فى شخصه ، فمعقوله كلىّ أى بحيث يصح حمله على كثيرين إلا أنه عرض لهذا الشخص أن كان واحدا. وإن كان شخصا فاسدا فمعقوله جزئى فاسد فلا يصح حمله إلا عليه ولا يمكن أن يحد ، والشخص الآخر يمكن أن يحد لأن معقوله محدوده. ومعقول الأول من هذا الشخص هو نفس الصورة المعقولة وهو الإنسانية المطلقة لا إنسانية ما متشخصة بعوارض ولوازم مشار إليها محسوسة.
المعقول من كل شىء مجرد ماهيته التي له والتي عليها وجوده ، والمعقول من هذا الشخص ماهيته مع عوارضه وخواصه التي تقوّم بها وتشخص ، وليس هو الصورة المحددة وحدها. فإن هذا الإنسان ليس هو ما هو بالإنسانية المحددة بل بمجموع الصورة والمادة والأعراض التي تشخص بها من كميته وكيفيته ووضعه وغير ذلك. فمعقول الشخصى ومحسوسه متطابقان ، لأنه لو لم يتطابقا لم يكن معقوله.
والمعقول من الشمس هو ماهيته(1) مع عوارضه ولوازمه ومقداره الذي كان يمكن أن يكون أكبر منه أو أصغر ، وحرارته التي كان يمكن أن تكون أشد منه أو أنقص ، وشعاعه الذي كان يمكن أن يكون أشد منه أو أنقص فكونه فى الفلك الرابع ، وقد كان يمكن أن يكون فى الفلك الأعلى ، فمعقوله يطابق محسوسه فى الوجود.
قوله : «أربعتها» إلا واحدا منها الذي لا يمكن القول به فإن المبدأ الفاعلى وهو البارى لا يجوز أن يكون موضوعا لهذا العلم.
الشىء من حيث يصدر عنه فعل ما ـ هو غيره من حيث يصدر عنه فعل آخر؛ فيكون الحيثان مختلفين والجهتان مختلفتين ، فإذا كان الشىء البسيط من حيث يصدر عنه هذا الفعل يصدر عنه غيره ويكون من حيث يصدر عنه هذا الفعل إذ هو غيره من حيث يصدر عنه ذلك الفعل الغير ، فإذن يصدر عن البسيط فعل واحد ، ولهذا يقول فى الأول إنه لا يصدر عنه إلا فعل واحد بسيط وهو اللازم للأول إذ لا تركيب هناك ولا حيثان مختلفان. الأوائل تحصل فى العقل الإنسانى من غير اكتساب ، ولا يدرى من أين تحصل فيه وكيف تحصل فيه.
العقول إذا اعتبرت تكون على ثلاثة أنحاء : منها ما يكون بالقوة من كل وجه كالعقول الإنسانية ، فإن المعقولات فيها بالقوة ، إلا الأوائل فإنها تحصل فيها بعد ترعرعه(2) و إذا قلنا : إنه كل شىء أى أن كل شىء فيه بالقوة وفى قوته أن يعقلها كلها. ومنها ما يكون بالفعل من كل وجه وليس فيه البتة ما بالقوة كالبارى فإن علمه لذاته ولا تعلق له بغيره ، ولذلك يقول إنه كل شىء أى أن يعرفها بالعقل. ومنها ما هو بالقوة من وجه وبالفعل من وجه. ثم إنها تترتب فى ذلك بالأقل والأكثر والأزيد والأنقص فبعض العقول يكون «بالقوة» فيه يسيرا وبعضها كثيرا ، وإنما قيل إنه «بالقوة» من وجه «وبالفعل» من وجه : لأنه بالقياس إلى الأول عاقله لأن الأول يفيدها العقل والعلم كما أنه يفيدها الوجود بتعلق علمها به فهى بالفعل من هذا الوجه؛ وبوجه اعتبار ذواتها يكون
________________
1) يلاحظ أنه يجعل «الشمس» مذكرا دائما.
2) أى ترعرع الانسان.
فيه بالقوة ، لأن علمها ليس لها بذاتها كما أن وجودها ليس لها من ذواتها : وهى بالاعتبار إلى ذواتها غير واجبة الوجود بل ممكنة كذلك ، باعتبار ذواتها عقولها وعلمها بالقوة. وإذا صح فى العقل الذي بالقوة أن يقال إنه كل شىء وإنه يعقل المعقولات بالفعل بلا نهاية فهو يعقل الأشياء غير المتناهية لأنه سبب كلّ معقول ، والمعقولات صادرة عنه على مراتبها واختلاف أحوالها من الأبدية والحادثة والقارّة وغير القارّة ، فهى كلها حاصلة له بالفعل ، وهذا كما تقول إن الأشياء الموجودة دائما والموجودة فى وقت بعد وقت والشيء المنقضى شيئا فشيئا كالزمان والحركة التي هى غير موجودة الجملة والقارة بالجملة والمعدومة فى الماضى والمعدومة فى المستقبل ـ كلها بالإضافة إليه موجودة وحاصلة بالفعل لأنه سبب وجودها ومبدأ الأسباب التي توجد عنها ، وهو يعقل ذاته ولوازم لوازمه إلى أقصى الوجود ، وكل المعقولات حاصلة له حاضرة عنده. وحالها عنده بالسواء فى كل حال ، أعنى قبل وجودها وعند وجودها ومع وجودها لا يتغير بوجودها وهو يعقل الأشياء معا ولا يعقلها شيئا فشيئا حتى يستكمل بمعقول ، ويتسبب(1) به إلى معقول آخر ، فإن عقله بالفعل : فهو يعقل الأشياء معا ودائما ويعقلها إلى ما لا نهاية ، والعقول البشرية لأنها بالقوة ليس بالفعل لا تعقل الأشياء معا ولا دائما ولا إلى ما لا نهاية بل تعقلها شيئا فشيئا وتتسبب مما تعقله إلى ما لا تعقله.
الموجودات ، ما خلا واجب الوجود الذي وجوده له من ذاته ، هى ممكنة الوجود. إلا أن منها ما إمكان وجوده فى غيره ، ومثل ذلك يتقدم وجوده بالفعل وجوده بالقوة وهى الممكنة الوجود على الإطلاق والكائنة. ومنها ما إمكان وجوده فى ذاته وهو الذي لا إمكان وجوده معه ولم يتقدم وجوده بالفعل وجوده بالقوة وهى العقول وسائر المبدعات. وإنما يقال فيها إنها ممكنة الوجود بمعنى أن تعلق وجودها لا بذاتها بل بموجدها ، فهى بالإضافة إليه موجودة ، وباعتبارها فى ذواتها غير موجودة.
علم البارى بالأشياء الجزئية هو أن يعرف الأشياء من ذاته وذاته مبدأ لها ، فيعرف أوائل الموجودات ولوازمها ولوازم لوازمها إلى أقصى الوجود. وكل شىء فإنه بالإضافة إليه واجب الوجود وبسببه فهو موجود بالإضافة إليه : مما وجد ومما يوجد. فإذا كانت الأشياء الجزئية أسبابا يلزم عنها تلك الجزئيات ولتلك الأسباب أسباب حتى تنتهى إلى ذوات الأول وهو يعرف ذاته ويعرفه سببا للموجودات ويعرف ما يلزم عن ذاته وما يلزم عن لازمه وكذلك هلم جرا حتى ينتهى إلى الجزئى ، فإنه يعرفه لكنه يعرفه بعلله وأسبابه. وهذا العلم لا يتغير بتغير الشخصى المعلوم فإن أسبابه لا تتغير
________________
1) تسبب به إليه : توسل.
وتكون كلية وإن كانت للشخصى أسباب جزئية مشخصة له فإن لكل سبب جزئى مشخص مبدءا كليا يستند إليه ، فهو يعرف ذلك الجزئى أيضا بأسبابه ، ويعرف الأشياء الغير المتناهية على ما هى عليه من اللاتناهى بأسبابها ، ويعلم الزمان الغير الثابت الذي ينقضى شيئا فشيئا بعلله وأسبابه ، فإنه يعرف الفلك وحركته ويعلم أن ماله حركة فله عدد ومقدار ، وكل ماله عدد ومقدار فله دورات مقدرة.
كل شخص يكون له معقول شخصىّ. فإذا علم ذلك بأسبابه وعلله تكون هذه الجملة كليا. فإنه كلما حصلت تلك العلل والأسباب وجب أن يكون ذلك الجزء فيقال إن هذا الشخص أسبابه كذا. وكلما حصلت هذه الأسباب كان هذا الشخصى أو مثله فيكون كليا بعلله. ومعقولات الأول كذلك : فإنه يعقل هذا الشخص بعلله وأسبابه ويعرف الأسباب السابقة لهذه الأسباب وإلى أن ينتهى إلى ذاته فيكون علمه محيطا بجميع الأشياء فلا يكون لعلمه تغير ، فإن معلومه لا يتغير ولا يزول بزوال ذلك الشخصى. الكلى الذي يلزم عنه الجزئى لا يفسد. فإنه يعلم أنه كلما كان كذا لزم عنه كذا ، وهذا الجزئى لازم عنه ذلك الكلى الذي فى معلومه فلا يخفى عليه خافية.
سبب وجود كل موجود علمه به وارتسامه فى ذاته. وهو يعلم الأشياء الغير المتناهية فعلمه غير متناه. وقد يتشكك فيقال إن تلك الأشياء غير موجودة بالفعل بل بالقوة فبعض علمه يكون بالقوة أو يكون لا يعلمها فيقال إن كل شىء فإنه واجب بسببه وبالإضافة إليه؛ فيكون موجودا بالفعل بالإضافة إليه.
سبب وجود كل موجود هو أنه يعلمه ، فإذا علمه فقد حصل وجوده وهو يعلم الأشياء دائما.
الأشياء كلها عند الأوائل واجبات وليس هناك إمكان البتة. وإذا كان شىء لم يكن فى وقت فإنما يكون ذلك من جهة القابل لا من جهة الفاعل ، فإنه كلما حدث استعداد من المادة حدث فيها صورة من هناك ليس هناك منع ولا تخل. فالأشياء كلها واجبات هناك لا تحدث وقتا وتمتنع وقتا ، ولا يكون هناك كما يكون عندنا. وقد يتشكّك فيقال : إذن الأفعال كلها طبيعية لا إرادية؟ فالجواب إن إرادتها على هذا الوجه ، إذ هو الدائم الفيض ، فالامتناع من جهة القابل.
كلما حدث مزاج صلح لنفس فأحدث لا محالة نفسا ، أو استعدت مادة لقبول صورة نارية أو هوائية أو مائية أو أرضية حدثت فيها تلك الصورة من المبادي المفارقة ، فالقول بالتناسخ يبطل من هذا الوجه.
لا يصح فى الأول أن يعلم الأشياء من وجودها فإنه يلزم أن يكون قبل وجودها لا يعلمها ، وإذا علمها بعد أن لا يعلمها يكون قد تغير منه شىء ويكون حصل فيه شىء لم يكن له. وكذلك إذا بطل ذلك الشىء بطل علمه فيكون قد تغير منه شىء فهو يعلم الأشياء على الإطلاق ودائما. لا يعلمها بعد أن لم يكن يعلمها ، فيحدث فيه تغير.
المقول على كثيرين مختلفين بالنوع هو محمول على الجنس «حمل على» فيقال الجنس : هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع وليس حمل الجنس على ، المقول على كثيرين مختلفين «حمل على» ، فيقال : المقول على كثيرين مختلفين هو جنس بل الجنسية عارضة له. وهذا كما يقال الإنسان نوع فإن النوعية عارضة للإنسان ، والإنسان من حيث هو إنسان ليس نوعا.
الذي يدل دلالة التضمن هو أن يكون جزءا من الشىء كما يدل النوع على الجنس إذ كان الجنس جزءا من النوع.
كلية الأجزاء وحدة تحدث بها الأجزاء ، فهى بها وحدة وجملة ، وذلك كالعشرية مثلا فإنها وحدة.
العدم يقال على وجهين : عدم له نحو من الوجود ، وهو ما يكون بالقوة فيخرج إلى الفعل ، وعدم لا صورة له البتة وهو ما يكون بالطبع ، وهو خلاف الأول فإنه ليس من شأنه أن يكون البتة كما يقال : الإنسان عدم الفرس.
النفس الإنسانية مطبوعة على أن تشعر بالموجودات ، فبعضها يشعر بها بالطبع وبعضها تقوى على أن تشعر بها بالاكتساب. فالذى بالطبع؛ فهو حاصل لها بالفعل دائما ، فشعورها بذاتها بالطبع ، فهو من مقوماتها فهو لها بالفعل لم يزل. فأما شعورها بأنها تشعر بذاتها فهو لها بالاكتساب ، ولذلك قد لا يعلم أنها شعرت بذاتها ، وكذلك سائر ما يقوى على أن يشعر بها ، وذلك ما هو غير حاصل له ويحتاج إلى استحصاله. ويشبه أن يكون تصريفها للحد العملى وللقوى البدنية بالطبع ، وللحد النظرى بالقوة. وتصريفها للقوى وإن كان طبيعيا لها فإن تصريفها لها على جهة السداد يكون باكتسابها كحالها فى القياس واستعماله.
النفس الإنسانية مفتتة إلى قوتين : نظرية وعملية ، والعملية تسمى قوة شوقية وهى تفتت إلى قوى كثيرة هى المصرفة لجميعها فى البدن. وهذه القوة هى التي أمر بتزكيتها وتهيئتها لأن تكون لها ملكة فاضلة لئلا تجذب النفس عند المفارقة إلى مقتضى ما اكتسبته من الهيئات الرديئة.
نفس الإنسان هى فى الحياة البدنية ممنوة بالبدن ودواعيه فلا يتحقق إلا ما رآه عيانا
أو أدركه بحواسه ، ويعتقد أن ما لا يدركه بها لا حقيقة له ولا وجود لشدة إلف نفسه بحواسه وذهولها عما سوى ذلك وانغماسها فى البدن وقواه.
وكل ذلك لأنها غير متحققة بذاتها بل مأخوذة عن ذاتها. فإذا فارقت وتحققت ذاتها أدركت حينئذ ما يراه الإنسان باطلا لا حقيقة له ، وأدركت الموجودات بذاتها لا بآلة بدنية. فتعلم أن الآلات كانت عائقة له عن خاصّ فعلها.
المقول على كثيرين ليس هو نفس معنى الجنس حتى يكون مرادفا لاسمه : فليس يقال على الجنس كقول الجنس نفسه. فإنه إذا قيل : «المقول على كثيرين جنس» فليس يحمل عليه إلا أنه عارض له كما يحمل الجنس على الحيوان فإنه عرض للحيوان أن صار جنسيا ، والحيوان ليس هو نفس معنى الجنس. وكذلك المقول على كثيرين وهو مع ذلك أعمّ من الجنس فإن النوعية أيضا تعرض لهذا اللفظ.
الجنس مقول على كمال ماهية مشتركة بالعموم ، والفصل يحمل من طريق ما هو على أنه جزء مقوّم لماهية الشىء ، والنوع مقول على ماهية خاصة. فقوله : «والفصل حكمه حكم الماهية» ، أى فى معنى أنه يقوم الماهية إلا أنه مقول على كمال الماهية ، بل طريقته ومذهبه مذهب الماهية.
الجنسية من حيث هى جنسية إذا اعتبرت غير مخصصة بجسم أو حيوان أو غيرهما من المعانى التي يعرض لها هى الجنس المنطقى ، وهى المعنى المقول على كثيرين مختلفين بالنوع. والمبحوث عنه منها فى المنطق هو هذه الجنسية غير مخصصة. وأما الحيوان معتبرا فيه الجنسية فهو الجنس الطبيعى ، وهو بما هو حيوان أعم من حيوان جنسى فإنه قد يكون شخصيا. وهو من حيث هو حيوان معنى عقلى. وهو فى ذاته ليس بكلى ولا جزئى بل هو موضوع لأن يعرض له الكلية والجزئية. وكذلك الكلى من حيث هو كلى ليس حيوانا ولا شيئا من الأشياء ، بل هو معنى مقول يعرض له أن يكون حيوانا أو جوهرا أو شيئا آخر. وهو إما أن يعرض له الحيوان أو الجوهر أو غيرهما ويعرض للحيوان أو الجوهر أو غيرهما بحسب الاعتبارات.
ما قبل الكثرة هو أن يعقل الحيوان فيحمله على كثيرين ، وما بعد الكثرة هو أن ينتزعه عن الأشخاص.
قوله : «ليس فى الأشخاص تقدم ولا تأخر» أى ليس شخص أولى بأن يكون متكونا من شخص. فلا يكون واحد أولى بأن يحمل عليه النوع من آخر ، وإن كان بعض الأشخاص متقدما فى الوجود على الآخر.
الإنسان لما اعتاد أن يدرك الأشياء بالحس صار يعتقد أن ما لا يدركه حسا لا حقيقة له ، ولا يصدّق بوجود النفس والعقل وكل صورة مجردة ، لأنه اعتاد أن يرى الصور الجسمانية ويراها محمولة فى شىء غير محدود هذا مع ما يراه من فعل الطبيعة وفعل النفس والعقل اعتبارا. لكنه بوجود الطبيعة أوثق منه بوجود النفس.
والعقل لأنه يشاهد الأجسام الطبيعية ويرى أفعال الطبيعة فيها ظاهرة وفعل النفس أخفى من الطبيعة لأنها أشد تجردا من الطبيعة وكذلك فعل العقل أشد تجردا منهما ـ فكل ما هو أظهر فعلا فى الأجسام فإنه بوجوده أو ثق ، وبالجملة فإنه يعتقد أن لا وجود لجوهر مجرد ولا حقيقة له ، وأن الحقيقة إنما هى للجسم المحسوس لأن الحس يدركه. ولعمرى : إن الحس لا يدرك المعقول لأنه محدود ولا يدركه إلا محددا ، وأما الغير محدد فلا يدركه إلا الغير المحدد. ويكاد يعتقد فى الجسم أنه واجب الوجود غير معلول لا سيما الفلك الأعلى لبساطته. ولا يجوز أن لا يكون معلولا لأنه مركب من هيولى وصورة. وهناك ثلاثة أشياء : هيولى وطبيعتها العدم ، وصورة تقيم الهيولى بالفعل وتظهر فى الهيولى وتكون محمولة فيها ، وتأليف. ولا يجوز أن يكون الجسم علة فاعليّة لنفسه. وأيضا فإنه يجب أن تقترن به صورة أخرى حتى يظهر وجوده على ما عرفت. والجسم لا فعل له بذاته بل بقواه التي تكون فيه. وهو محدود متناه ، والمحدود يجب أن يكون محدود القوة والقدرة متناهى الفعل ، ويكون فعله زمانيا وشيئا بعد شىء لا إبداعيا ، ويكون متغيرا لا محالة لأنه متحرك والحركة تغير وفائت ولاحق. والجسمانى يحاط به وتدرك أحواله ويمكن معرفتها لأنها تكون متناهية ، والمتناهى محاط به فلا يوصف بالعلو الغير المتناهى وبالمجد والقدرة والعظمة الغير المتناهية وبالعلم البسيط المحيط بجميع الأشياء وبالفعل المطلق لأن فيه ما بالقوة. ويكون لا محالة له قوى إما طبيعية وإما نفسانية ويكون له تخيل وتوهم. وبعض القوى يصده عن استعمال بعض القوى وعلى الجملة فإنه لا يكون متحققا بذاته ولوازم ذاته. ويوصف بالانبعاث للفعل بعد أن لم يكن ، وبالتغير. وبإدراك الجزئى. وفعل الجزئى. ويوصف باكتناف الأعراض له وأنه يفعل أفعاله بمجموع مادته وصورته وطبيعته ونفسه. ولا يعقل إلا بعد أن يستشرك المادة فى فعله ويفعل بمباشرة ووضع. والجسم الفلكى وإن كان يفعل فى كل جسم فلأن لكل جسم عنده وضعا ، فلذلك يؤثر فيه لأنه محيط. والجسمانى لا قدرة له إذا قيس بالمجرد فإنه لا يكون له تلك الكبرياء والعظمة والقدرة والجلالة الغير المحدودة ، والأفعال الإبداعية ـ تعالى اللّه عن أن يوصف بصفة طبيعية أو نفسانية أو عقلية وبأن تكون ذاته ذاتا يؤثر فيه شىء أو يلحقه لا حق من خارج أو يوصف بانفعال البتة! بل هو فعل
محض فلا يوصف إلا بالخيرية ، لا على أنها شىء يلحق ذاته بل هى نفس ذاته ، فهى سبب إيجاده لكل موجود. والأجسام الفلكية يعمها جميعا الجسمية والشكل المستدير والحركة على الاستدارة ، وإن فعالها بالطبيعة لا بالقصد ، فإن ما يقال عنها إنما يقع من طبيعية حركاتها وقواها؛ إلا أنها عالمة بما يقع من حركاتها وتشكلها بأشكالها المختلفة وممازجاتها.
المتحرك يحتاج إلى مسافة لأنه إما أن يتحرك فى مكان فتكون الحركة المستقيمة أو يتحرك على شىء فتكون مستديرة فلا غنى لها عن مسافة : فالحركة المستديرة ما لم يكن شىء يتحرك عليه المتحرك بالاستدارة لم يصح وجودها ، كما أن الحركة المستقيمة ما لم تكن مسافة لم يصح وجودها.
صورة الشىء كماله الأول ، وكيفيته كماله الثاني ، والكيفية تشتد وتضعف ، والصورة لا تشتد ولا تضعف. وإذا اشتدت الكيفية حتى تستعد لقبول صورة أخرى فإنها تكون بحركة وسلوك من طرف إلى طرف. والصورة لا تتحرك هكذا بل تنسلخ دفعة.
المعقول يجب أن يكون كليا حتى يمكن حمله على أشياء كثيرة. والمعقول من الشخص الغير المنتشر ، والمحسوس المشار إليه محال فإنه لا يكون له معقول من حيث هو محسوس مشار إليه لأن الإشارة لا تجوز أن تتناول أشياء مختلفة فى الوضع اللهم إلا أن تكون الإشارة إشارات كثيرة فإن الإشارة إلى شىء واحد لا يجوز أن تكون إلى غيره معه فإن وضعيهما يكونان مختلفين ، وكذلك جهتاهما وأمكنتهما فيلزم أن يتناول شيئا واحدا. والمعقول من الشخص الواحد المحسوس المشار إليه محال على أنه معقول ذلك الشخص ، فإنه يتناول أىّ شخص كان من أشخاص نوعه ، إلا أن يكون شخصا نوعه مجموع فيه فإن معقوله جسد لا يقع عليه ولا يتناول غيره ، ويكون معقوله محدوده ، فإن حده خاص له لا يحدّ به غيره. وإذا لم يكن كذلك لم يكن حده مقصورا عليه بل على كل شخص من نوعه. والجزئى وإن كان له معقول فإنه يكون له بالعرض لا بالذات ، وإنما يكون معقول الشخص المنتشر فلا يكون مقصورا عليه وحده بل أىّ شخص كان من أشخاص نوعه. وكذلك محدوده يكون له بالعرض بل يكون محدود الشخص المنتشر. وأما محسوسه فإنه مقصور عليه وحده للإشارة الواقعة عليه ويكون إلى شىء وحده.
الأول بسيط فى غاية البساطة والتحدد ، منزه الذات عن أن تلحقها هيئة أو حلية أو صفة جسمانية أو عقلية ، بل هو صريح ثبات على وحدة وتحدد ، وكذلك الوحدة
تعليقات ابن سينا ـ 33
التي يوصف بها ليست هى شيئا يلحق ذاته بل هو معنى سلبى الوجود ، وكذلك اللوازم التي توصف بها فيقال : هى من لوازمه هى خارجة عن تلك الذات ، وكل ما سواه فلا يمكن أن يتوهم أنه بذلك التحدد لأنه معلول ، وكل معلول فذو ماهية ويكون له صفة أو حلية ، فيكون هناك كثرة بوجه ما. كل ما كان أقلّ بساطة فإنه فى باب المعلولية أبلغ. والجسم ذو كمية وكيفية ووضع وعوارض ولواحق كثيرة. فالمعلولية فيه ظاهرة ، وكذلك الصور الجسمانية تلحقها عوارض وهيئات وأحوال لا تنفك منها. والنفس أيضا تلحقها هيئات وعوارض. والعقل أبعد عن ذلك ، فلذلك تنقسم النفس إلى : أفعال ، وقوى ، والعقل لا ينقسم.
لما كان الإنسان لا يمكنه أن يدرك حقيقة الأشياء لا سيما البسائط منها بل إنما يدرك لازما من لوازمه أو خاصة من خواصه ، وكان الأول أبسط الأشياء ، كان غاية ما يمكنه أن يدرك من حقيقة هذا اللازم ، هو وجوب الوجود إذ هو أخص لوازمه.
القدرة هى أن يصدر عن الشىء فعل بمشيئته ، وأنت قد عرفت أن الفعل الصادر عن الأول صادر عنه بإرادة ، فيكون قد فعل لأنه شاء ولو لم يشأ لم يفعل. وكذلك لا يلزم أنه لا يشاء لأن الشرطىّ لا تتعلق صحته بصدق جزئيته فإذ قد فعل فقد شاء ، وما لم يفعل فلأنه لم يشأ. ولا يتغير الحكم فى أن الشىء قادر ، إذا القدرة تتعلق بالمشيئة سواء كانت المشيئة يصح عليها التغير أو لا يصح عليها التغير.
الوقوف على حقائق الأشياء ليس فى قدرة البشر. ونحن لا نعرف من الأشياء إلا الخواصّ واللوازم والأغراض ، ولا نعرف الفصول المقوّمة لكل واحد منها ، الدالة على حقيقته ، بل نعرف أنها أشياء لها خواص وأعراض ، فإنّا لا نعرف حقيقة الأول ولا العقل ولا النفس ولا الفلك والنار والهواء والماء والأرض ، ولا نعرف أيضا حقائق الأعراض. ومثال ذلك أنّا لا نعرف حقيقة الجوهر ، بل إنما عرفنا شيئا له هذه الخاصية وهو أنه الموجود لا فى موضوع. وهذا ليس حقيقته ، ولا نعرف حقيقة الجسم بل نعرف سببا له هذه الخواص وهى : الطول والعرض والعمق ، ولا نعرف حقيقة الحيوان ، بل إنما نعرف سببا له خاصية الإدراك والفعل ، فإن المدرك والفعال ليس هو حقيقة الحيوان بل خاصة أو لازم. والفصل الحقيقى له لا ندركه ، ولذلك يقع الخلاف فى ماهيات الأشياء ، لأن كل واحد أدرك لازما غير ما أدركه الآخر فحكم بمقتضى ذلك اللازم. ونحن إنما نثبت شيئا ما مخصوصا عرفنا أنه مخصوص من خاصة له أو خواص ، ثم عرفنا لذلك الشىء خواصّ. أخرى بواسطة ما عرفناه أولا ثم توصلنا
إلى معرفة آنيتها : كالأمر فى النفس والمكان وغيرهما مما أثبتنا آنياتها لا من ذواتها بل من نسب لها إلى أشياء عرفناها ، أو من عارض لها أو لازم.
ومثاله فى النفس : أنّا رأينا جسما يتحرك ، فأثبتنا لتلك الحركة محركا. ورأينا حركة مخالفة لحركات سائر الأجسام فعرفنا أن له محركا خاصا أو له صفة خاصة ليست لسائر المحركين ، ثم تتبعنا خاصة خاصة ، ولازما لازما ، فتوصلنا بها إلى آنيتها ، وكذلك لا نعرف حقيقة الأول ، إنما نعرف منه أنه يجب له الوجود أو ما يجب له الوجود.وهذا هو لازم من لوازمه لا حقيقة. ونعرف بواسطة هذا اللازم لوازم أخرى كالوحدانية وسائر الصفات. وحقيقته إن كان يمكن إدراكها هو الموجود بذاته أى الذي له الوجود بذاته. ومعنى قولنا الذي له الوجود إشارة إلى شىء لا نعرف حقيقته ، وليس حقيقته نفس الوجود ولا ماهية من الماهيات فإن الماهيات يكون بها الوجود خارجا عن حقائقها. وهو فى ذاته علة الوجود ، وهو إما أن يدخل الوجود فى تحديده. ودخول الجنس والفعل فى تحديد البسائط على حسب ما يفرضهما لها العقل ، فيكون الوجود جزءا من حده لا من حقيقته ، كما أن الجنس والفعل أجزاء لحدود البسائط لا لذواتها؛ وإنما يكون له حقيقة فوق الوجود يكون الوجود من لوازمها.
أجزاء حد البسيط تكون أجزاء لحده لا لقوامه ، وهو شىء يفرضه العقل : فأما هو فى ذاته فلا جزء له. ونحن نعرف فى الأول أنه واجب الوجود بذاته معرفة أولية من غير اكتساب فإنا نقسم الوجود إلى الواجب والممكن ، ثم نعرف أن واجب الوجود بذاته يجب أن يكون واحدا حتى يكون نوع وجوده مخالفا لنوع وجود آخر ونعرف وحدانيته بواسطة لازم يلزمه أولا وهو أنه واجب الوجود.
الأنواع التي تحت جنس واحد لا تقدم فيها ولا تأخر ، والجنس يحمل عليها بالسواء. والشىء الذي يتقدم على الآخر فى معنى ما إما أن يكون يتقدم عليه فى ذلك المعنى بعينه كتقدم الجوهر على العرض فى معنى الوجود ، وإما أن يتقدم عليه لا فى ذلك المعنى بل فى شىء آخر كتقدم الأب على الابن فى الزمان والوجود لا فى الإنسانية فإنهما فيهما بالسواء فإنهما لهما لا لعلة بل لماهيتها. وتقدم الهيولى والصورة على الجسم ليس هو كتقدم الجوهر على العرض فإنهما ليسا بعلة لكون الجسم جوهرا بل هو لذاته جوهر ، وجوهرية شىء لا تصير علة لجوهرية شىء آخر.
المخالف يخالف بشيء خارج ، والغير يغاير بالذات ، والمغايرة بالجنس الأعلى تجتمع فى مادة كالكمية والكيفية والوضع والأين المجتمعة فى شىء واحد كالنفاحة.
العدم يحمل عليه السلب ولا ينعكس : فاللابصر يحمل على الأعمى ، والأعمى لا يحمل إلاّ على اللابصير.
قوله : «سائر الأقسام غير مقصودة» يعنى الحكم بأن لها نهاية.
إذا قيل إن هذا الشخص مضاف إلى هذا الشىء فللاضافة التي بينهما إضافة بتلك الإضافة والعلاقة تكون تلك الإضافة : كالأب والابن فإنه بالأبوة التي فى الأب يضاف الأب إلى الابن ، وكذلك الابن. فأما الأبوة فإنها تضاف إلى الأب بلا إضافة أخرى.
أحوال المادة على وجهين : منها ما لا يصح وجود الصورة إلا مع تلك الحال ، ومنها ما يصح وجوده من دون تلك الحال بل مع ضد تلك الحال ، ومنها ما يكون صادقا عن وجود الصورة والصورة هى الغاية الطبيعية. وإذا كانت تلك الأحوال للمادة موجبة لوجود الصورة دخلت تلك الأحوال فى حد النوع ، وإذا لم تكن كذلك لم يدخل موجود القطعة فى الدائرة بسببه حال مناسبة للوجه الثاني ، وكذلك الإصبع فى الإنسان والحادة فى القائمة ـ فإنها أجزاء لماهيتها. فإذا حدّت بالكليات لم يلزم ما ذكر من تأخر أجزاء المحدود عن الحد.
كل ما يكون لوجوده سبب فهو ممكن الوجود ، والممكن الوجود هو أن يكون جائزا أن يكون وأن لا يكون. فأما وجوده بعد العدم فهو ضرورى ، فإنه ليس بجائز وجوده إلا بعد العدم.
الحسّ جنس للمسّ ، فلذلك يحمل عليه ، لكنه فصل لشىء آخر ، ومثل هذا الفصل لا يحمل على ما هو فصل له.
الحدّ له أجزاء ، والمحدود قد لا يكون له أجزاء وذلك إذا كان بسيطا ، وحينئذ يخترع العقل شيئا يقوم مقام الجنس وشيئا يقوم مقام الفصل. وأما فى المركب فإن الجنس يناسب المادة ، والفصل يناسب الصورة.
الوجود من لوازم الماهيات لا من مقوماتها ، لكن الحكم فى الأول الذي لا ماهية له غير الآنية يشبه أن يكون الوجود حقيقته إذا كان على صفة ، وتلك الصفة هى تأكد الوجود ، وليس تأكد الوجود وجودا يخصص بالتأكد ، بل هو معنى لا اسم له يعبّر عنه بتأكد الوجود. ويشبه أن يكون أولى ما يقال فيه أن حقيقته الواجبية على الإطلاق ، لا الواجبية بالمعنى العام. ومعناه أنه يجب له الوجود. وقد يعبّر عن القوى باللوازم إذ ليس يعرف حقيقة كل قوة ، ولو كان يعرف حقيقة الأول لكان وجوب الوجود شرح اسم تلك الحقيقة.
قوم من أصحاب النظر سلكوا الطريق إلى معرفة الأول من المعلومات فقالوا : إن الأجسام لا تنفك عن الأعراض ، والأعراض محدثة فهى إذن محدثة. وقالوا : كل جسم محدث ولا يصح أن يكون الأول جسما وهذه الحجة مع اختلالها وفساد مقدماتها غير مرتضاة فى معرفة الحقيقة فى ذلك من حيث السلوك. ألا ترى أن المحققين سلكوا إلى معرفة واجب الوجود بذاته وأنه ليس بجسم مسلكا آخر وهو أنهم قالوا : إن واجب الوجود بذاته لا ماهية له ، وكل جسم فله ماهية ، والوجود خارج عنه. فواجب الوجود ليس بجسم. وقالت الفرقة المتقدمة فى بيان التوحيد بمسألة التمانع أى «لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا »(1) و هى مع سخافتها غير مؤدية إلى حقيقة المطلوب كما يجب ، وإنما الطريق الحق هو أن يقال : إن واجب الوجود بذاته لا يصح أن يكون له علة ، وكل معنى تتكثر أشخاصه فإنه يتكثر بعلة ، وسائر ما قيل فى بيان ذلك من أنه لا يصح أن تكثر أنواعه. وكل هذه البيانات تبنى على مقدمات أولية عقلية غير ملتفت فيها إلى المحسوس وإلى معلومات الأول.
لا يصح فى واجب الوجود الاثنينية فإنه لا ينقسم ، لأن المعنى الأحدى الذات لا ينقسم بذاته فإن انقسم هذا المعنى وهو وجوب الوجود فإما أن يكون واجبا فيه أو ممكنا أن ينقسم ، وكلا الوجهين محال فى واجب الوجود فإنه غير واجب فيه أن ينقسم اثنين لأنه بذاته واجب ولا علة له فى وجوده فهو أحدىّ الذات والإمكان منه أبعد.
المعنى فى الأعيان غير وجوده فى الذهن ، ومثال ذلك الفرح مثلا فإن وجوده فى الإنسان غير وجود صورته فى الذهن. وإذا وجد الفرح وعلم أنه قد فرح : يكون قد حصل صورة الفرح فى ذهنه ، وقد يكون الإنسان فرحا ولا يعلم أنه قد فرح كمن يبصر شيئا ولا يعلم أنه يبصر ، فإذا علم أنه أبصره يكون قد علم ذاته أولا ، وإذا لم يعلم أنه أبصره لم يحصل صورته فى ذهنه فلم يكن له وجود فى ذهنه.
نسبة الأفعال الجميلة إلى وجود الملكة الفاضلة كنسبة التأملات والأفكار إلى وجود اليقين. فكما أن التأملات والأفكار لا توجد اليقين بل تعد النفس لقبول النفس فكذلك الأفعال الحسنة تعد النفس لقبول الملكة الفاضلة من عند واهب الصور.
قولنا : «تغير فى سواديته» أى تغير فى الفعل لا فى عارض ، والكيفية تبطل عند التغير وتجىء كيفية أخرى إما أن تكون مثلها فى النوع أو تخالفها لا محالة بشيء وإلا فلم تتغير بحسب المشابهة ، بل تكون الأحوال متشابهة. وإن كانت الكيفية تخالف
________________
1) سورة الأنبياء آية 22.
الأخرى فإما بمعنى فصلى وإما بمعنى عرضى فيكون قد قارن تلك الكيفية عارض كأن يجوز أن يقارن الأول وهو بحالة فى كيفيته. وربما تغير بمقارنة ما ليس هو فيكون السواد المتغير لم يتغير فى سواديته بل فى عارض لا يجعل نفس السواد متغيرا ، وهذا لا يمنعه. فإن كان يجعل نفس السواد متبدلا فى سواديته فهو إذن فى الفصل. وكذلك الحال فى المزاج.
كل شىء له فى ذاته ترتيب فلا يجوز أن يكون غير متناه ، والعدد الذي يكون له ترتيب لا يصح أن يكون غير متناه. والعدد لا نهاية له لكن ليس بالفعل. والترتيب هو أن يكون موجودا بالفعل. وقولنا : «الكل ليس بموجود» هو غير قولنا «كل واحد موجود» فإن هذا صادق ، وقولنا : «الكل فى الأشياء الغير المتناهية موجود» ـ كاذب.
النظر فى العدد إما أن ينظر في أنه عدد أوفى أنه عارض لطبيعة أو لأمور مفارقة. والنظر فى أنه عدد وفى أنه عارض للمفارقات يتعلق بما لا يخالط الحركة ، والنظر فى أنه عارض لطبيعة فيتعلق بما يخالط الحركة ، والنظر فى الجمع والتفريق فيتعلق بما يخالط الحركة إذ الجمع والتفريق لا يتمسّان إلا بحركة والشىء الذي لا يقبل الحركة لا يمكن جمعه وتفريقه بل لا يصح فيه معنى الجمع والتفريق. والعدد العددى جعلوه مثلا للعدد وجعلوه مفارقا. والعدد التعليمى هو المقارن للمادة لكنه قد جرد عنها ، والعدد بالتكرار هو أن يكون وحدة سارية فى جميع الأعداد فيكون تارة واحدا وتارة اثنين وتارة ثلاثة وتكون الوحدة الشخصية باقية بعينها ويكون كل عدد بفعله التكرير للوحدة بقدر عدد ذلك العدد ومراته وتكون تلك الوحدة ثانية بشخصيتها لا بنوعيتها؛ وهذا محال فإن الوحدة فى الثاني هى غير الوحدة فى الأول بالشخص هى تلك فى النوع؛ وتكرار الوحدة يجب أن يكون فى الوسط عدم حتى يصح التكرار. فإنها إن لم تعدم الوحدة أولا ثم توجد ثانيا لم يكن تكرار ، وإذا تكررت الوحدة مرارا فإنه لا يكون إلا بأن يكون هناك مرة بعد مرة وهذه المرة إما زمانية وإما ذاتية. وإن كانت زمانية ولم يعدم الوسط فان الوحدة هى كما كانت فإنها كررت ، وإن عدمت ثم أوجدت فالموجدة موجدة أخرى بالشخص. وإن كانت ذاتية لا زمانية تكون تلك الذات بعينها باقية وإن كررت مائة مرة ويلزم أن تكون الوحدة غيرها. وهذا محال فإن الشيء لا يكون غير ذاته. والقائلون بالعدد العددى يجعلون الوحدة الأولى غير كل وحدة من اللتين فى الثنائية واتفاقها ، وكذلك السبيل فى الثنائية. والثلاثية وسائر الأعداد. ويقولون إن الثنائية يلحقها من حيث هى ثنائية وحدة غير وحدة الثلاثية فيلزم من ذلك أن لا يكون عدد مركبا من عدد ، وحتى تكون العشارية مركبة لا من خماسيتين فإن آحادها غير آحاد الخماسية
وليست هى مندرجة فى العشارية وهى مخالفة لآحاد العشارية فيلزم أن تكون الخماسية إذا أضيفت إلى العشارية لا تصير خمسة عشر إلا أن تستحيل آحادها ، أى تكون آحادها مغايرة لآحاد العشارية بل مشاكلة.
الهيولى : معنى قائم بنفسه وليس موجودا بالفعل ، وإنما يوجد بالفعل بالصورة ، فإن جاز أن يكون هيولى لا نهاية لها إما طبيعية وإما أشخاصها صحّ وجود جسم لا نهاية له أو أجسام لا نهاية لها فى العدد. وقد أبطل ذلك فى الطبيعيات.
الهيولى : هى مبدعة ، وهى متناهية ، ولا يجوز أن تكون الأشخاص من جهة الهيولى غير متناهية ، والهيولى باعتبار ذاتها لا يصحّ عليها معنى التناهى واللاتناهى ، إذ هى غير متحيزة ولا متميزة.
الشىء الموجود بالفعل لا يكون له أبعاض 1غير متناهية. إذا كان للأبعاض ترتيب كانت تلك الأبعاض مقدارية أو معنوية : فالمقدارية ظاهر أمرها أنها تكون متناهية ، وأما المعنوية فإذا كان لها ترتيب أى يكون هذا البعض أولا وذاك ثانيا وذاك ثالثا فإن الترتيب ينتهى عند حد ، إذ لا يجوز أن تكون الوسائط بين الطرفين المرتبين غير متناهية وإلا لم يكن الشىء موجودا بالفعل ، وإنما يصح فى الشىء الترتيب إذا كان بالفعل ، وإذا لم يكن للشىء ترتيب يجوز أن يكون غير متناه فإنه يكون حينئذ بالقوة.
إذا كان معلول أخير مطلقا أى لا يكون علة البتة وعلة لذلك المعلول ، لكن لا بد لها من علة أخرى ، تكون هذه العلة فى حكم الواسطة سواء كانت متناهية أو غير متناهية فلا يصح وجودها ما لم يعرض طرف غير معلول البتة. والعلة يجب أن توجد موجودة مع المعلول ، فإن العلل التي لا توجد مع المعلولات ليست عللا بالحقيقة بل هى معدّات أو معينات وهى كالحركة.
وجوب ثبات العلة يكون من جهة أن المعلول يجب أن يكون مع العلة ، وهذه الصور والأجسام كلها غير واجبة الوجود وبذواتها بل هى معلولة وثابتة فتحتاج إلى علة خارجة ثابتة ولا يجوز أن يكون نوع منها علة لنوع ولا شخص علة لشخص فعلتها إذن غيرها وهو واهب الصور. والحركات ليست هى عللا بالحقيقة ، بل هى معدّة ومهيئة.
العلة ليس من شأنها أن تتقدم المعلول بالزمان ، بل فى الوجود والذات.
________________
1) فى هامش ب : الأبعاد.
اذا كان شخص ما من الأشخاص ـ نارا كانت أو غيرها ـ علة لوجود نار لم يكن ذلك الشخص بالعلية أولى من شخص آخر من نوعه فى أن يكون علة. والشخص الذي هو المعلول سبيله سبيل سائر الأشخاص فى أن الشخص الذي هو العلة ليس هو أولى بالعلية من الشخص الذي هو معلول. وما يستغنى عنه بغيره لا يكون علة بالذات ، وأما تقدمه فى الزمان فبأسباب خارجة كأن يجوز أن يعرض للشخص المعلول. فيجب أن تكون العلة متقدمة بالذات لا بسبب عارض حتى تستحق أن تكون علة. فعلة النار مثلا يجب أن تكون موجودة خارجة عن طبيعة النار.
إن قال قائل إن الصبىّ فى استمراره إلى بلوغ الكمال ليس يجب أن يقال إن الوسائط متناهية ، لأن هذا الاستمرار ينقسم إلى ما لا نهاية له فإن الاستحالات غير متناهية والأحوال غير متناهية كالحال فى سائر الحركات فى أنها لا تتناهى ـ كان الجواب فى ذلك : اللانهاية فى مثل ذلك تكون موجودة بالقوة لا بالفعل.
الأشخاص الغير المتناهية لا تكون علة للأنواع إلاّ بالعرض فلا يجب أن تكون الأنواع غير متناهية أو هى تكون لها عللا بالعرض أى تكون علة للشخصية دون النوعية.
شخص من الماء إذا كان علة لشخص من الماء أو الهواء لا يصح أن يكون علة ذاتية أى علة لوجوده وإلاّ وجب أن تكون أشخاص لا نهاية لها موجودة معا لأن العلل الذاتية تكون مع المعلولات ، فإذن هو علة بالعرض أعنى أنها معدّة ومميطة للعائق لا علة لوجود ذلك الشخص. والحال فيه كالحال فى الحركة فى أنها معدة وفى كونها غير متناهية وأنها إذا بطلت حركة وحصلت حركة أخرى أوجب ذلك شيئا يكون علة لشىء معلول آخر.
ليس كون الماء علة مادية للهواء أولى من كون الهواء علة مادية للماء ، وإن كان شخص من الماء يصير بالضرورة متقدما على شخص من الهواء فإنه علة له بالعرض لأن الشخص لا يصير علة لوجود النوع إلا بالعرض على ما عرفت حيث كان الكلام فى العلل ـ فليس ذلك الشخص علة بالضرورة للشخص الآخر فى الوجود ، بل هو معدود وإلاّ وجب وجود علل لا نهاية لها معا لأن الأشخاص غير متناهية ويلزم أن تكون موجودة معا ويجب أن تكون مع المعلولات إذا كانت ذاتية. فإذن هى علل بالعرض لأن العلل الذاتية ليست غير متناهية.
كل ما لا نهاية له لا بداية له ، والأشخاص لا بداية لها ، والحركات لا بداية لها ، والحركة لا يجوز أن تكون عللا لأشياء قارّة لأنها غير قارّة ، وحركات العلل علل معدّة