ظرافة اﻷحلام

ظرافة اﻷحلام60%

ظرافة اﻷحلام مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: كتب
الصفحات: 99

ظرافة اﻷحلام
  • البداية
  • السابق
  • 99 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49809 / تحميل: 7947
الحجم الحجم الحجم
ظرافة اﻷحلام

ظرافة اﻷحلام

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ملكنا وكان العفو منّا سجية = فلمَّا ملكتم سال بالدَم أبطح

وحلَّلتم قتل أُسارى وطالما = غدونا عن الأسرى نعفُّ ونَصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا = وكل إناءٍ بالّذي فيه يرشح

(أقول): وقد خمّس هذه الأبيات جماعة، وشطَّروها، فمِمَن خمَّسها السيّد الراضي بن السيّد صالح، القزويني البغدادي المُتوفَّى في تبريز، سنة ١٢٨٧، قبل وفاة أبيه بنحو عشرين سنة، فقال:

سَلوا الحرب عنّا هل الفنا دنية = سوى ما روت عنّا سجايا سنية

كفى عفونا عمّا جنيتم مزية = ملكنا فكان العفو منّا سجية

فلما ملكتم سال بالدم أبطح

ويا طالما بالطف منّا على الظما = تركتم سيوف الهند تَقطر بالدما

وحرّمتم الماء المباح وقد طما = وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما

غدونا عن الأسرى نعفُّ ونَصفح

قضيتم لكم ديناً ولم نفض ديننا = غداة‌ أطال الدهر بالغدر بيننا

كفى بيننا فرقاً بما قد تبيَّنا = فحسبكم هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالّذي فيه يرشح

ومِمَن خمَّسها السيّد الشريف، العالم الجليل، السيّد ناصر بن السيّد أحمد بن السيّد عبد الصمد، الحسيني الغريفي البحراني البصري، المُتوفَّى سنة ١٣٣١، فقال:

نعم جدُّنا المختار ليس أُمية = وجدّتنا الزهراء ليست سمية

٢١

ونحن ولاة الأمر لسنا رعيّة = ملكنا فكان العفو منّا سجية

فلمّا ملكتم سال بالدم أبطح

أما نحن يا أهل الضلالة والعمى = عفونا بيوم الفتح عنكم تكرّما

فمِمَ أبحتم بالطفوف لنا دماً = وحلَّلتم قتل الأُسارى وطالما

غدونا عن الأسرى نعفُّ ونَصفح

فنحن أناس لم يكُ الغدر شأننا = ولا الأخذ بالثأر الّذي كان دَيننا

ولكنّنا نعفُّو ونكظم غيظنا = فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالّذي فيه يرشح

ومِمَن خمّسها الشيخ العالم، الفاضل الأديب، الشيخ عبد الحسين بن القاسم بن صالح، الحلّي النجفي المولود بالحلّة سنة ١٣٠١، القاضي في البحرين اليوم سلّمه الله، فقال:

جعلنا بيوم السبق عبدا أمية = وحرب زوى عنه أنانا منيةً

وصخر أصفحنا عن حماه حمية = ملكنا فكان العفو مِنّا سجية

فلمّا ملكتم سال بالدم أبطح

كرهتم لنا أمراً به شأنكم سما = وحرّم أنْ تسموا به خالق السما

فأوجبتمُ سبي العذاري من الحمى = وحلَّلتم قتل الأُسارى وطالما

غدونا عن الأسرى نعفُّ ونَصفح

حكمتم علينا بالدمار وبالفنا = وفينا ومنّا نلتم غاية المُنى

عفونا وبعد العفو مثّلتم بنا = فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا

٢٢

وكل إناء بالّذي فيه ينضح

ومِمَن شطَّرها الشيخ عبد الحسين الحلّي، المخمِّس لها، فقال في التشطير:

(ملكنا فكان العفو مِنّا سجية) = بيوم به بطحاء مكة تُفتح

فسالت بفيض العفو مِنّا بطاحكم = (ولمّا ملكتم سال بالدم أبطح)

(وحلَّلتم قتل أُسارى وطالما) = فككنا أسيراً منكم كاد يُذبح

وفي يوم بدر مذ أسرنا رجالكم = (غدونا عن الأسرى نعفُّ ونَصفح)

(فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا) = فأي قبيل فيه أربى وأربح

ولا غرو إذ كنا صفحنا وجُرتم = (فكل إناء بالّذي فيه ينضح)

الفصل الثالث:

ذكر الشيخ أبو الفتح، محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، المُتوفَّى سنة ٤٤٩، في كتابه كنز الفوائد (المطبوع) قال: حدثني أبو الحسن علي بن أحمد اللغوي، المعروف بابن ركاز، سنة ٣٩٩ بميا فارقين، قال: دخلت على أبي الحسن علي بن السلماسي، في مرضه الّذي تُوفِّي فيه، فسألته عن حاله، فقال: لحقتني غشية أُغمي عليَّ فيها، فرأيت مولاي أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخذ بيدي، وأنشأ يقول:((

طوفان آل محمد = في الأرض أغرق جهلها

وسفينهم حَمَلَ الّذي = طلب النجاة وأهلها

فاقبض بكفِّك عروة = لا تخشَ منها فصلها))

٢٣

(أقول): كنت يوم رأيت هذه الأبيات طربت لها، فشطَّرتها، وخمَّستها، وأسبغتها بالتطريز لأبياتها الثلاثة، وطرَّفتها بأربعة تطاريف؛ لأشطرها الستة، وأنا أذكرها لك، فالتشطير قولي:

(طوفان آل محمد) = أعطى البرية فضلها

وهدى ولمّا أنْ جرى = (في الأرض أغرق جهلها)

(وسفينهم حَمَلَ الّذي) = خاف الجحيم وغلَّها

فنجا بهم في الفوز إذ = (طلب النجاة وأهلها)

(فاقبض بكفِّك عروةً) = وِثقى وحاذر حلَّها

موصولةً بمحمد = (لا تخشَ منها فصلها)

والتخميس قولي:

يا حائراً بتردُّد = أقصد لعترة‌ أحمد

فلقد غدا بتودُّد = طوفان آل محمد

في الأرض أغرق جهلها

فهم الحياة لكل ذي = روح ومنهم يغتذي

وهم النجاة لِذا وذي = وسفينهم حَمَلَ الّذي

طلب النجاة وأهلها

إنْ شِئت ترفع سروة = أو شِئت تنصب ذروة

أو شِئت تلقى ثروة = فاقبض بكفِّك عروة

لا تخشَ منها فصلها

والاسباغ بالتطريز قولي:

(طوفان آل محمد في الأرض أغ = رق جهلها) لمَّا تطاول يختصم

(وسفينهم حَمَلَ الّذي طلب النجا = ة وأهلها) إذ مَن يكون بها عُصم

(فاقبض بكفِّك عروة لا تخشَ مِن = ها فصلها) فهي التي لا تنفصم

والتطريف من الطرفين وهو التجنيح قولي:

إمَّا يُفض (طوفان آل محمد = في الأرض أغرق جهلها) بهدى الرَشاد

تنجو الورى (وسفينهم حَمَلَ الّذي = طلب النجاة وأهلها) بين العِباد

يا خائفاً (فاقبض بكفِّك عروة = لا تخشَ مِنها فصلها) يوم المَعاد

٢٤

والتطريف من الوسطين، وهو التقاصير قولي:

(طوفان آل محمد) خير الورى = لمّا جرى (في الأرض أغرق جهلها)

(وسفينهم حَمَلَ الّذي) والاهم = مِمَن بهم (طلب النجاة وأهلها)

(فاقبض بكفِّك عروة) وِثقى إذا = أمسكتها (لا تخشَ مِنها فصلها)

والتطريف من الصدرين، وهو التقليد قولي:

إنْ يَستفض (طوفان آل محمد) = بين الورى (في الأرض أغرق جهلها)

هم أبحُر (وسفينهم حَمَلَ الّذي) = مِن خوفه (طلب النجاة وأهلها)

مهما تَخف (فاقبض بكفِّك عروة) = وِثقى لهم (لا تخشَ مِنها فصلها)

والتطريف من الغايتين، وهو التحجيل قولي:

إمّا يفض (طوفان آل محمد = في الأرض أغرق جهلها) بهدى الرَشاد

تنجو الورى (وسفينهم حَمَلَ الّذي = طلب النجاة وأهلها) بين العِباد

يا خائفاً (فاقبض بكفِّك عروة = لا تخشَ مِنها فصلها) يوم المَعاد

والتطريف من الوسطين، وهو التقاصير قولي:

(طوفان آل محمد) خير الورى = لمّا جرى (في الأرض أغرق جهلها)

(وسفينهم حَمَلَ الّذي) والاهم = مِمَن بهم (طلب النجاة وأهلها)

(فاقبض بكفِّك عروة) وِثقى إذا = أمسكتها (لا تخشَ منها فصلها)

والتطريف من الصدرين، وهو التقليد قولي:

إن يستفض (طوفان آل محمد) = بين الورى (في الأرض أغرق جهلها)

هم أبحر (وسفينهم حَمَلَ الّذي) = مِن خوفه (طلب النجاة وأهلها)

مهما تَخف (فاقبض بكفِّك عروة) = وِثقى لهم (لا تخشَ مِنها فصلها)

والتطريف من الغايتين، وهو التحجيل قولي:

(طوفان آل محمد) أهل الهدى = (في الأرض أغرق جهلها) إذ أطبقا

(وسفينهم حَمَلَ الّذي) في حبهم = (طلب النجاة وأهلها) مِمّا اتقى

٢٥

(فاقبض بكفِّك عروة) موصولة = (لا تخشَ مِنها فصلها) يوم اللِقى

الفصل الرابع:

وذكر الشيخ الكراجكي، في كنز الفوائد أيضاً، قال حدَّثني الشريف أبو عبد الله محمد بن عبيد الله بن طاهر الحسيني، قال: حدَّثني أبي عن أبي الحسن أحمد بن محبوب، قال: سمعت أبا جعفر الطَبري، يقول: حدَّثنا هناد بن السري، قال: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في النوم، فقال:(( يا هناد، )) قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال:((أنشدني قول الكميت:

ويوم الدوح يوم غدير خُمٍّ = أبان له الخلافة لو أُطيعا

ولكنَّ الرجال تداولوه = فلم أرَ مثلها أمراً شنيعا))

فأنشدته، فقال (عليه السلام):(( خُذ إليك يا هناد)) ، فقلت: هات يا سيدي، فقال (عليه السلام):

((ولم أرَ مِثل ذاك اليوم يوماً = ولم أرَ مثله خَطباً فظيعا))

(أقول): وهذان البيتان الأولان من قصيدة الكميت، من إحدى الهاشميات السبع (المطبوعة) وأولها:

نفى عن عينك الأرَق الهجوعا = وهمٌّ يمتري منها الدموعا

والنسخ المطبوعة والمخطوطة، كثيرة التحريف، ولكن النسخة المطبوعة في (برلين) أصحهنَّ، والبيت الثالث لم يوجد في النسخ كلها.

٢٦

الفصل الخامس:

أخبرني السيّد الأديب المعمّر، السيّد محسن بن السيّد هاشم، الحسيني الصائغ الكاظمي، المُتوفَّى سنة ١٣٣٧، قال: أخبرني أبي السيّد هاشم - وكان معمّراً أيضاً - قال: أخبرني الشيخ محمد علي النجفي، المعروف بالقارئ، مصنِّف كتب التعازي الحسينية الثلاثة، قال: نظم الشيخ العالم الفاضل، الشيخ محمد علي بن الحسين الأعسم النجفي، المُتوفَّى سنة ١٢٣٣، قصيدة في رثاء سيدنا الحسين (عليه السلام) أولها:

قد أوهنت جَلَدي الديار الخالية = مِن أهلها ما للديار وماليه

ومنها:

قست القلوب فلم تَلن لهداية = تبَّاً لهاتيك القلوب القاسيه

فعرضه على ولده الفاضل الأديب، الشيخ عبد الحسين المُتوفَّى سنة ١٢٤٧، وقال له: كيف تراها؟ فقال له: قافية قاسية، تأخذ بحُلقوم قارئها، فاستحيى وأخذها من يده، ووضعها تحت مصلاّه فلمَّا كان الليل، رأى الشيخ محمد علي القارئ في النوم، أمير المؤمنين (عليه السلام) في الروضة، جالساً على كرسي، قال: فسلَّمت عليه، فأعطاني ورقة كانت في يده، وقال:(( إقرأ هذه القصيدة في رثاء وَلدي الحسين )) ، فقرأتها له، فجعل يبكي، وأنا أقرأ وأبكي، فانتبهت بتلك الحالة، وأنا أتلو منها بيتاً، وهو:

قَست القلوب فلم تَلن لهداية = تبَّاً لهاتيك القلوب القاسيه

٢٧

قال: ولمّا انتبهت رأيت الوقت سحراً، فتوضأت؛ وخرجت لأزور أمير المؤمنين (عليه السلام) على عادتي، فمررت في طريقي على الشيخ محمد علي الأعسم، فرأيت في روشن داره ضياءً، فعلمت أنَّه جالس، فأحببت أنْ أكلِّفه بنظم قصيدة، في رثاء الحسين (عليه السلام) تتضمن البيت الّذي حفظته عند انتباهي من النوم، فطرقت الباب، فنزل من عليَّته فقصصت عليه قصَّتي، وذكرت له البيت (قست القلوب، إلخ) فبكى حتى غلبه البكاء، ثم أصعدني إلى مَحلِّه، ورفع طرف مصلاَّه، فأخرج لي ورقة، فلمَّا رأيتها علمت أنَّها هي الورقة التي أعطانيها أمير المؤمنين (عليه السلام) وفيها تلك القصيدة، التي قرأتها مِن أوّلها إلى ذلك البيت، فعجبت من ذلك وسألته عنها، فحلف أنَّه نظمها أمس، وعرضها على ولده ليلاً، وحكى لي قصته، وأنَّه وضعها تحت مصلاَّه، ولم يَطَّلع عليها أحدٌ غيرهما.

(أقول): وهذه القصيدة من مشهور شعر الشيخ محمد علي الأعسم، وهي قصيدة جَزلة الألفاظ، فَخمة المعاني محفوظة للقرّاء، وأنا أذكر أبياتاً منها، وأترك باقيها لشهرتها، فمنها قوله:

ورد الحسين إلى العراق وظنَّهم = تركوا النفاق إذا القلوب كَما هيه

ولقد دعوهُ للفَنا فأجابهم = ودعاهمُ لهدى فردّوا داعيه

قست القلوب فلم تَلن لهداية = تبَّاً لهاتيك القلوب القاسيه

يابن النبي المصطفى ووصيّه = وأخا الزكي يابن البتول الزاكيه

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة = لكنَّما عيني لأجلك باكيه

٢٨

تبتلُّ منكم كربلا بدم ولا = تبتلُّ مِنّي بالدموع الجاريه

أنست رزاياكم رزايانا الأُوْلى = سلفت وهوّنت الرزايا الآتيه

وفجائع الأيام تبقى مدةً = وتزول وهي إلى القيامة باقيه

الفصل السادس:

ذكر الشيخ الجليل، محمد بن علي بن شهرآشوب السروي، المُتوفَّى سنة ٥٨٨، في كتاب المناقب (المطبوع مراراً) أنَّ بعض الصلحاء رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) في المنام، فأنشده (عليه السلام):

إذا ذكر القلب رهط النبيّ = وسبي النساء وهتك الستر

وسلب السبيّ وذبح الصبيّ = وقتل الشبير وسم الشبر

ترقرق في العين ماء الفؤا = د وفاض على الخدِّ مِنه درَر

فيا قلبُ صبراً على حزنهم = فعند البلاء تكون العبَر

(أقول): وهذه الأبيات حرّة الألفاظ رقيقة المعاني، وكنت قد شطَّرتها؛ لرقتها وللتبرُّك بمنشدها، فأنا أذكر تشطيري هنا، عسى أن تنالني الرِّقة، وهو:

(إذا ذكر القلب رهط النبيّ) = وما نالهم بعده مِن غِير

وناظر مقتل فتيانه = (وسبي النساء وهتك السُتر )

(وسلب السبيِّ وذبح الصبيّ) = بحضن أبيه الأبيّ الأبر

وقتل الوصيّ وظلم الرضيّ = (وقتل الشبير وسم الشَبر )

٢٩

(ترقرق في العين ماء الفؤاد) = وذاب الحشا مِن جوى واستَعَر

فكفكفت النار دفاعه = (وفاض على الخدِّ منه دُرر)

(فيا قلبُ صبراً على حزنهم) = وإنْ كنت لم تُطق المصطبر

ونهنه على ما ترى عَبرة = (فعند البلاء تكون العِبر)

الفصل السابع:

ذكر الشيخ محمد الحسين النوري، في كتابه دار السلام، الّذي ذكرنا عنه قبلاً عن خط بعض العلماء، أنَّ بعض علماء خوارزم نذر أنْ يَحج، فجاء حتى وصل إلى قنطرة في شط النيل من الحلَّة - وكانت له زمن بني العباس قنطرة عليها طريق الحاج وبقيت بعدهم مدة - فرأى الشيخ الفقيه ابن نما الحلِّي أميرَ المؤمنين في المنام، فقال (عليه السلام) له:(( إنَّ عالِم خوارزم قد ورد إلى هذه البلدة، وقد أشرف أنْ يَعبر، فارسل إليه أحد أصحابك بهذين البيتين؛ ليسأله فيهما ويعزم عليه أنْ لا يعبر حتى يجيبه عنهما )) ، وتلا له البيتين وهما:

إذا اختلفت في الدين سبعون فرقة = ونيِّف كما قد صح عن سيد الرُسل

أ في الفرقة الهُلاَّك آل محمد = أم الفرقة الناجين ماذا ترى قُلْ لي

فانتبه الشيخ وهو يحفظهما، وأرسل أحد تلامذته بالبيتين إليه، وسأله أنْ لا يعبر إلاّ بعد الجواب، فلمّا سمع البيتين والسؤال أنْ لا يعبر إلاّ بعد الجواب، رجع إلى بغداد ولم يعبر.

(أقول): قد ذكر السروي المذكور

٣٠

قبلاً في المناقب، أبياتاً لشرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي المسيَّبي ملك الموصل الّذي عمّر في الكاظميين، والّذي قُتل سنة ٤٧٨ وقد ذكرت عمارته في (صدا الفؤاد) وفي الأبيات هذان البيتان، وهي قوله:

إذا اختلفت في الدين سبعون فرقة = ونيِّف كما قد صح عن سيد الرسل

ولم يكُ منها ناجياً غير فرقة = فماذا ترى ياذا البصيرة والعَقل

أفي الفرقة الهُلاّك آل محمد = أم الفرقة الناجين ماذا ترى قُلْ لي

فإنْ قلت هُلاّك كفرت وأنْ تَقل = نُجّاة فحالفهم وخالف ذوي الجهل

لَئن كان مولى القوم منهم فإنَّني = رَضيت بهم في الدين بالقول والفعل

فخلِّ عليّاً لي إماماً وولده = وأنت مِن الباقين في أوسع الحلِّ

أقول: وابن نما المذكور لم يعيّنه الناقل، فإنَّ آل نما سلسلة علماء في الحلَّة، من الأربعمائة إلى نحو الثمانمائة، منهم جعفر بن محمد بن هبة الله بن نما بن علي بن حمدون الربعي، فكلُّ هؤلاء علماء في الحلَّة، فإنْ كانت الواقعة لمتقدمي آل نما، فلعلَّ شرف الدولة قد ذيَّلها، وإنْ كانت لأحد متأخريهم، فلعلَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنشد منها موضع الحاجة.

الفصل الثامن:

أخبرني السيّد الشريف العلاَّمة، السيّد حسين بن مُعزِّ الدين السيّد مهدي بن السيّد حسن بن السيّد أحمد بن السيّد محمد الحسيني القزويني النجفي، المُتوفَّى سنة ١٣٤٠، قال: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في

٣١

المنام، ذات ليلة مباركة من ليالي رجب ١٣١٢، جالساً في مقبرة والدي على كرسي، وبين يديه والدي متأدب، وكأنَّ المقبرة روضة متسعة، فجئت وسلَّمت عليه وأردت تقبيل يديه، فقال لي أبي: امدحه أولاً، ثم قبّل يديه، فأنشدته:

أبا حسن أنت عين الإله = فهل عنك تعزُب مِن خافيه

وأنت مُدير رَحى الكائنات = وإنْ شِئت تسفع بالناصيه

وأنت الّذي أُمم الأنبياء = لديك إذا حُشرتْ جاثيه

فمَن بك قد تمَّ إيمانه = يُساق إلى جنة عاليه

وأما الّذين تولَّوا سواك = يساقون دعّاً إلى الهاويه

قال: فتبسَّم (عليه السلام) وقال لي أبي: أحسنت، فدنوت منه (عليه السلام) وقبّلت يديه، وانتبهت وأنا أحفظ الأبيات، ولما أصبحت حضر المجلس على العادة جماعة من فضلاء الأدباء، فذكرت لهم الطيف، وقلت لهم:

مَن كان يَهوى قلبه = ثاني أصحاب الكسا

فلينتدب لمدحه = مشطِّراً مخمِّسا

فانتدب الجماعة للتشطير والتخميس، فمِمَن شطَّر وخمَّس التشطير، السيّد الفاضل الأديب السيّد جعفر بن السيّد حمد الحسيني الحلِّي، المُتوفَّى سنة ١٣١٥، فقال في التشطير:

(أبا حسن أنت عَين الإله) = على الخلق والأُذن الواعيه

تراهم وتسمع نجواهم = (فهل عنك تَعزُب مِن خافيه)

٣٢

(وأنت مُدير رَحى الكائنات) = وقُطبٌ لأفلاكها الجاريه

فإنْ شِئت تَشفع يوم الحساب = (وإنْ شِئت تسفع بالناصيه)

(وأنت الّذي أُمم الأنبياء) = تولتك في الأعصر الخاليه

وكل الخلائق يوم النشور = (لديك إذا حُشرت جاثيه)

(فمَن بك قد تمَّ إيمانه) = فبُشراه في عيشة راضيه

بحوضك يُسقى ومِن بَعد ذا = (يُساق إلى جنة عاليه)

(وأمَّا الّذين تولَّوا سواك) = فما هم مِن الفِرقة الناجيه

يجيئون في الحشر سود الوجوه = (يُساقون دعّاً إلى الهاويه)

وقال في تخميس التشطير:

بَراك المهيمن إذ لا سِواه = وبيَّن باسمك معنى عُلاه

فكنت تَرى الغَيب لا باشتباه = أبا حسن أنت عَين الإله

على الخلق والأُذن الواعيه

تَرى الناس طُراً وترعاهم = وأقصى الورى منك أدناهم

ومهما أسرّوا خفاياهم = تراهم وتسمع نجواهم

فهل عنك تَعزُب من خافيه

أَقلُّ معاجزك الخارقات = حضورك للشخص حين المَمات

فأنت المحيط بست الجهات = وأنت مدبِّر رَحى الكائنات

وقُطب لأفلاكها الجاريه

لك الناس تُحشر يوم المآب = مطئطِأة الرؤوس خوف العذاب

٣٣

فمنك الثواب ومنك العقاب = فإنْ شِئت تَشفع يوم الحساب

وإن شِئت تَسفع بالناصيه

بك العرش مُهِّد للاستواء = وباسمك قامت طباق السماء

فأنت المحكِّم يوم الجزاء = وأنت الّذي أُمم الأنبياء

تولتك في الأعصر الخاليه

إذا بعث الله مَن في القبور = ومِن سفر الموت أضحوا حضور

فأنت الأمير بكلِّ الأمور = وكلُّ الخلائق يوم النشور

لديك إذا حُشرت جاثيه

مُحِبك يثقُل ميزانه = ويعلو بيوم الجزا شأنه

وَهبْ فرضه بأنْ نقصانه = فمَن بك قد تمّ إيمانه

فبشراه في عيشة راضيه

ينال الكرامة غَبُ الأذى = وعن ناظريه يُماط القذى

فما بعدُ يشكو ظماه إذا = بحوضك يُسقى ومِن بعد ذا

يُساق إلى جنة عاليه

أبا حسن بك أنجو هناك = وأرجو رضا خالقي في رضاك

فلم ينجُ في الحشر إلاّ ولاك = وأمّا الّذين تولّوا سواك

فما هم مِن الفرقة الناجيه

سيأتي العدوّ ومَن تابعوه = بجَمع عن الحوض قد حلئوه

جُفاة لحقك قد ضيَّعوه = يجيئون للحشر سود الوجوه

٣٤

يُساقون دعّاً إلى الهاويه

ومِمَن شطَّر وخمَّس الأصل، الشيخ العالم الفاضل الشيخ جواد بن الشيخ محمد الشبيبي النجفي، المولود سنة ١٢٨٠ فقال سلَّمه الله في التشطير:

(أبا حسن أنت عَين الإله) = ولُجّة قدرته الطاميه

وأنت المحيط بما في الوجود = (فهل عنك تَعزُب مِن خافيه)

(وأنت مُدير رَحى الكائنات) = ودارة أنوارها الساريه

بأمرك إنْ شِئت تُنجي العباد = (وإنْ شِئت تَسفع بالناصيه

(وأنت الّذي أُمم الأنبياء) = تفيئ لرأفتك الضافيه

ترى زُمراً شيع المرسلين = (لَديك إذا حُشرت حاشيه)

(فمَن بك قد تمَّ إيمانه) = وفيك غدت نفسه راضيه

وراح ولاِك له سلماً = (يساق إلى جَنَّة عاليه)

(وأمَّا الّذين تولَّوا سواك) = وساروا مِن الغيِّ في غاشيه

وضلّوا ضلالاً بعيد الهدى = (يُساقون دعَّاً إلى الهاويه)

وقال سلَّمه الله في تخميس الأصل:

بمدحك نصَّاً فَمُ الذِكر فاه = فكنت المصبَّ لمجرى ثناه

ترى ما يرى الله فيما براه = أبا حسن أنت عَين الإله

فهل عنك تَعزُب مِن خافيه

بك اجتمع الدين بعد الشَتات = ولاَنَ لك الشرك ليَن القناة

وِلاك المفاز فأنت النّجاة = وأنت مُدير رَحى الكائنات

٣٥

وإنْ شِئت تَسفع بالناصيه

وأنت المصرِّف مجرى القضاء=فتَمحو وتُثبت أنّى تَشاء

وأنت المشفَّع يوم الجزاء=وأنت الّذي أُمم الأنبياء

لَديك إذا حُشرت جاثيه

بك الحق أَسس بنيانَه=وعَنك الهدى شعَّ برهانُه

معادُ الوَرى أنت عنوانه=فمَن بك قد تمَّ إيمانه

يُساق إلى جَنَّة عاليه

حَباك الإله بما قد حَباك=فأسرى بقوم تحلّوا وِلاك

إلى جَنَّة زُخرفت فى رضاك=وأمَّا الّذين تولّوا سِواك

يُساقون دعَّاً إلى الهاويه

ومِمَن شطَّر وخمَّس التشطير، السيّد السعيد العالم المتفنّن، السيّد عدنان بن السيّد شبَّر الحسيني الغريفي البحراني البصري، المُتوفَّى سنة ١٣٣٦، فقال في التشطير:

(أبا حسن أنت عَين الإله) = وأنت له أُذُن واعيه

وباب مدينة عِلم الغُيوب = (فهل عنك تَعزُب مِن خافيه)

(وأنت مُدير رَحى الكائنات = بيُمنى مَشيئتك القاضيه

فإنْ شِئت تُنقذ مَن في الجحيم = (وإنْ شِئت تَسفع بالناصيه)

(وأنت الّذي أُمم الأنبياء) = أُنيلت بك الرُتبة الساميه

وكلُّ الخَلائق يَوم الحساب = (لَديك إذا حُشرت جاثيه)

٣٦

(فمَن بك قد تمَّ إيمانه) = فذلك في عِيشة راضيه

إذا بَعثر الله مَن في القبور = (يُساق إلى جَنَّةٍ عاليه)

(وأمَّا الّذين تولّوا سِواك) = وخاضوا غمار العَمى الداجيه

فإنَّهم والّذي حكَّموا = (يُساقون دعَّاً إلى الهاويه)

وقال في تخميس التشطير:

لِوادي الغريِّ مَقام حواه = وسرُّ طواه بوادي طواه

فقُل إنْ نَزلْتَ بمولىً ثَواه = أبا حسن أنت عَين الإله

وأنت له أُذُن واعيه

بأمرك مَرَّ الصَبا والجَنوب = ومِنك الطُلوع ومِنك الغُروب

وقلبك مِرآة كلِّ القلوب = وباب مدينة عِلم الغُيوب

فهل عنك تَعزُب مِن خافيه

أتَعزُب عن عِلمك الجَامدِات = أم النَاطِقات أم النَاميات

أم الجِن أم جُملة الحَادِثات = وأنت مُدير رَحى الكائِنات

بيُمني مشيئتك القاضيه

يَراك العَظيم لأمر عَظيم = وخَصَّك مِنه بفَضل عَميم

وأنفذ حُكمك وهو الحَكيم = فإنْ شِئت تُنقذ مَن في الجَحيم

وإن شِئت تَسفع بالناصيه

بنورك يا سيِّد الأصفياء = تَنور أفئدة الأولياء

لأنَّك مِشكاة لَمع الضياء = وأنت الّذي أمم الأنبياء

٣٧

أُنيلت بك الرُتب الساميه

ستَجلس في يوم فَصل الخِطاب = لتُعطي الثواب وتُلقي العقاب

فأنت المحكِّم دون ارتياب = وكلُّ الخلائق يوم الحساب

لديك إذا حُشرت جاثيه

فمِنك النَعيم ورِضوانه = وعَنك الجَحيم وخُزّانه

وأنت الصِراط ومِيزانه = فمَن بك قد تمَّ إيمانه

فذلك في عِيشة راضيه

له القَبر جَنَّة نور ونور = وضَنك اللُحود فَسيح القُصور

ويَوم القِيمة عند النُشور = إذا بَعثر الله مَن في القُبور

يُساق إلى جَنَّة عاليه

أولئك قوم وِلاهم وِلاك = وإنْ أذنبوا وعِداهم عِداك

فسوف يُجازون هذا بذاك = وأمَّا الّذين تولَّوا سِواك

وخاضوا غِمار العَمى الداجيه

فمَوئلُهم لَهَب مُضرم = بمَا أخَّروا وبمَا قدَّموا

وإنْ لجأوا للّذي يمموا = فإنَّهم والّذي حكَّموا

يُساقون دعّاً إلى الهاويه

ومِمَن خمَّس الأصل، السيّد سعيد العالِم الفاضل، السيّد علي بن السيّد محمود الأمين العاملي الحسيني، المُتوفَّى سنة ١٣٢٨ في جبل عامل ، وقد نقل المدح إلى رثاء الحسين (عليه السلام)؛ إذ وافق تخميسه أيام المُحرَّم، فقال:

٣٨

بنفسي الحسين سقته عِداه = كؤوس المَنون وساقات نِساه

فقُل للوصي وحامي حِماه = أبا حسن أنت عين الإله

فهل عنك تَعزُب مِن خافيه

أمَا هَتفتْ بك بين الطغاة = نِساك وأنت حِمى الضائعات

وأنت المرجّى لدى النائبات = وأنت مُدير رَحى الكائنات

وإنْ شِئت تَسفع بالناصيه

أتَقعد ياسيّد الأوصياء = ووِترك بين بَني الأدعياء

وتَجثو وذا الكَرب يَقفو البَلاء = وأنت الّذي أُمم الأنبياء

لَديك إذا حُشرت جاثيه

بَراك وإنَّك بُرهانه = آله الأنام عَلا شانه

وإنَّك في الحَشر مِيزانه = فمَن بك قد تمَّ إيمانه

يُساق إلى جَنَّة عاليه

فدِيني وِلاك وبُغض عِداك = ولي نَسب ضارِب في عُلاك

فمولاك في الحشر تحت لِواك = وأمَّا الّذين تولّوا سِواك

يُساقون دعاً إلى الهاويه

ومِمَن شطَّر فقط، العلاَّمة السيّد محسن بن السيّد عبد الكريم الأمين العاملي، المولود حدود سنة ١٢٨٣، فقال سلَّمه الله تعالى:

(أبا حسن أنت عَين الإله) = ومَعدِن حِكمته الساميه

يُريك بها ما وراء الغُيوب = (فهل عنك تَعزُب مِن خافيه )

٣٩

(وأنت مُدير رَحى الكائنات) = وقُطب رَحى النشأة الثانيه

فإنْ شِئت تَشفع للمذنبين = (وإنْ شِئت تَسفع بالناصيه)

(وأنت الّذي أُمم الأنبياء) = بِحُبك في حَشرها ناجيه

قَسيم لظىً أنت والعالمون = (لَديك إذا حُشرت جاثيه)

(فمَن بك قد تمَّ إيمانه) = وبابنَيك والعِترة الزاكيه

فلا هَول يَخشى ويوم المَعاد = (يُساق إلى جَنَّة عاليه)

(وأمَّا الّذين تولَّوا سِواك) = وضلّوا عن الطرق الهاديه

فهم والّذين تولّوهم = (يُساقون دعَّاً إلى هاويه)

ومِمَن شطَّر وخمَّس التشطير، مصنف هذا الكتاب، فقال في التشطير:

(أبا حسن أنت عَين الإله) = وأُذُن إرادته الواعيه

ظهرت على ما تسرُّ القُلوب = (فهل عنك تَعزُب مِن خافيه)

(وأنت مُدير رَحى الكائنات) = ومُمسك أفلاكها الجاريه

فإنْ شِئت تَرفع نحو الجِنان = (وإنْ شِئت تَسفع بالناصيه)

(وأنت الّذي أُمم الأنبياء) = أعدَّت وِلاك لها واقيه

فَقد أنبأوها بأنْ تَغتدي = (لَديك إذا حُشرت جاثيه)

(فمَن بك قد تمَّ إيمانه) = أصاب كرامته الباقيه

وراح بفَوز قَرير العُيون = (يُساق إلى جَنَّة عاليه)

(وأمَّا الّذين تولّوا سِواك) = أصابتهم الذلَّة‌ الباديه

وراحوا خواسئ نُكْسَ الرؤوس = (يُساقون دعّاً إلى الهاويه)

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وجوب الرؤية عند حصول شروطها

قال المصنّف(١) :

المبحث الثالث

في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط

أجمع العقلاء كافّة ـ عدا الأشاعرة ـ على ذلك ؛ للضرورة القاضية به ، فإنّ عاقلا من العقلاء لا يشكّ في حصول الرؤية عند اجتماع شرائطها.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وارتكبوا السفسطة فيه ، وجوّزوا أن تكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة ، من الأرض إلى عنان السماء ، محيطة بنا من جميع الجهات ، ملاصقة لنا ، تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ، ظاهرة غاية الظهور ، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ، ولا نشاهدها ، ولا نبصرها ، ولا شيئا منها ألبتّة!

وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض ، بحيث ينزعج(٢) منها كلّ أحد يسمعها ، أشدّ ما يكون من الأصوات ، وحواسّنا سليمة ، ولا حجاب بيننا وبينها ، ولا بعد ألبتّة ، بل هي في غاية القرب منّا ، ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) كان في الأصل : « يتزعزع » ، وفي المصدر : « يدعّج » ، وكلاهما تصحيف ؛ وما أثبتناه من إحقاق الحقّ هو المناسب للسياق.

٦١

وكذا إذا لمس أحد بباطن كفّه حديدة محميّة بالنار حتّى تبيضّ ، ولا يحسّ بحرارتها! بل يرمى في تنّور أذيب فيه الرصاص أو الزيت ، وهو لا يشاهد التنّور ولا الرصاص المذاب ، ولا يدرك حرارته ، وتنفصل أعضاؤه وهو لا يحسّ بالألم في جسمه!(١) .

ولا شكّ أنّ هذا [ هو ] عين السفسطة ، والضرورة تقضي بفساده ، ومن يشكّ في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات [ عندنا ].

__________________

(١) انظر مؤدّى ذلك ـ مثلا ـ في : تفسير الفخر الرازي ١٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٠ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١٣١.

٦٢

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ شرائط الرؤية إذا تحقّقت لم تجب الرؤية(٢) .

ومعنى نفي [ هذا ] الوجوب : إنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، وإن كانت العادة جارية على تحقّق الرؤية عند تحقّق الأمور المذكورة.

ومن أنكر هذا وأحاله عقلا ، فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبياء.

فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب ـ من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية ـ أنّ النبيّ ٦ لمّا خرج ليلة الهجرة من داره ، وقريش قد حفّوا بالدار يريدون قتله ، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتراب ، وكان يقرأ سورة يس ، وخرج ولم يره أحد ، وكانوا جالسين ، غير نائمين ولا غافلين(٣) .

فمن لا يسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط ، بأن يمنع الله [ تعالى ] البصر بقدرته عن الرؤية ، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله.

ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط : بأنّا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٣) انظر : الشفا ـ للقاضي عياض ـ ١ / ٣٤٩ ، تفسير القرطبي ١٥ / ٨ ـ ٩ ، زاد المعاد ٣ / ٤٣ ـ ٤٤ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٢ / ٢٣٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ١٩٣ ، مجمع البيان ٨ / ٢٢٩.

٦٣

نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا ، وما ذلك إلّا لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط(١) .

والتحقيق ما قدمناه [ من ] أنّهم يريدون من عدم الوجوب : جواز عدم الرؤية عقلا ، وإمكان تعلّق القدرة به.

فأين إنكار المحسوسات؟! وأين هو من السفسطة؟!

ثمّ ما ذكر من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة ـ مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات(٢) الشنيعة ، والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة ، التي تميل بها خواطر القلندرية(٣) والعوامّ إلى مذهبه الباطل ، ورأيه الكاسد الفاسد ـ فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة.

بل يورد الخصم عليهم في الاعتراض ، ويقول : إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية ، وإلّا جاز أن يكون بحضرتنا جبال

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٢) التقعقع : التحرّك ، وتقعقع الشيء : صوّت عند التحريك أو التحرّك ، واضطرب وتحرّك.

انظر : الصحاح ٣ / ١٢٦٩ ، لسان العرب ١١ / ٢٤٧ ، تاج العروس ١١ / ٣٩٢ ، مادّة « قعع ».

(٣) القلندرية : كلمة أعجمية بمعنى المحلّقين ، وهم فرقة صوفية يحلقون رؤوسهم وشواربهم ولحاهم وحواجبهم ، وكانت هذه الفرقة مكروهة من الفقهاء المسلمين وعلمائهم ، وقد نشأت في عهد الظاهر بيبرس ، وهو الذي شجّعها ، وكان سبب انتشارها في مصر والشام ، ومن مشاهير رجالها الشيخ عثمان كوهي الفارسي ، وقال بعضهم : إنّ هذه الفرقة أوّل ما ظهرت بدمشق سنة ٦١٦ ه‍ وكان لها عدّة زوايا في الشام ومصر.

انظر : معجم الألفاظ التاريخية : ١٢٥.

٦٤

شاهقة ونحن لا نراها.

هذا هو الاعتراض.

وأجاب الأشاعرة عنه : بأنّ هذا منقوض بجملة العاديّات ، فإنّ الأمور العاديّة تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها ، ولا سفسطة هاهنا.

فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها ، فإنّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ؛ وذلك لأنّ الجواز لا يستلزم الوقوع ، ولا ينافي الجزم بعدمه ، فمجرّد تجويزها لا يكون سفسطة(١) .

وحاصل كلام الأشاعرة ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ : أنّ الرؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط ، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة ، والخصوم لا يفرّقون بين المحال العقلي والعادي ، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق.

ثمّ ما ذكره من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها ، فكلّها من قعقعة الشنآن بعد ما قدمنا لك البيان.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٦٥

وأقول :

سبق أنّ حقيقة مختار الأشاعرة نفي سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، ونسبة المسبّبات حقيقة إلى فعل القادر ، بلا دخل للأسباب ، ولا توقّف للمسبّبات عليها عقلا.

وحينئذ فيجوز عقلا وواقعا ـ مع تمام السبب واجتماع الشرائط ـ عدم حصول الرؤية منّا لجبال بحضرتنا ، موصوفة بما وصفها المصنّف ، وعدم سماع الأصوات ، وإحساس حرارة الحديدة ، على ما وصفهما المصنّف ;.

وقد نقل الخصم في آخر كلامه هذا التجويز عن الأشاعرة مع دعوى الجزم بعدمها عادة ، وهو خطأ ؛ لأنّ إثبات العادة على العدم فرع الاطّلاع على الواقع ، والاطّلاع عليه غير ثابت.

بل على قولهم بالجواز العقلي ، يمكن أن تكون العادة على وجود تلك الجبال ، إلّا أنّا لم نطّلع عليها ، فإنّ مجرّد عدم مشاهدتها لا يدلّ على عدمها ؛ لإمكان أن تكون موجودة دائما ونحن لا نشاهدها!

كما أنّ عدم لمسنا لها. وعدم مصادمتها لنا حال السير ، لا يدلّان على انتفائها ؛ لجواز أن لا يخلق الله تعالى اللمس والمصادمة مع وجود سببهما الطبيعي!

وكذا الحال في دعوى حصول العادة على العدم ، بالنسبة إلى الأصوات والحرارة اللتين ذكرهما المصنّف ;.

٦٦

فالحقّ أن لا منشأ للجزم بالعدم سوى ارتكاز وجوب الرؤية والسماع وإحساس الحرارة بالبديهية العقلية عند اجتماع الشرائط ، لكنّ الأشاعرة كابروا ارتكازهم.

وأمّا تفسيره لنفي الوجوب بأنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، فليس تفسيرا صحيحا.

وقد أراد به إدخال الإيهام والاستهجان على السامع بأنّ القائل بالوجوب ينفي قدرة القادر ، بخلاف الأشاعرة ، وهو ممّا لا يروج على عارف ؛ لأنّا إذا قلنا بوجوب الرؤية عند اجتماع الشرائط يكون عدمها حينئذ ممتنعا.

وقد عرفت أنّ الممتنع ليس محلّا للقدرة ، بلا نفي لها عن محالّها ، ولا نقص فيها.

فالفرق بيننا وبينهم هو أنّا نقول بامتناع عدم الرؤية مع اجتماع شرائطها وتحقّق سببها الطبيعي ، فلا تتعلّق بعدمها القدرة حينئذ لنقص في المحلّ ، وهم يقولون بإمكانه فتتعلّق به ؛ وضرورة العقلاء هي الحاكمة.

وأمّا ما ذكره من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء ، كالمعجزة المذكورة لنبيّنا ٦ فغير مفيد له ؛ لأنّهذه المعجزة إنّما هي بإيجاد حاجب على خلاف العادة ، لا بعدم الرؤية مع وجود شرائطها.

كما يرشد إلى ذلك قراءة النبيّ ٦ حين خروجه لسورة يس ، فإنّ قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )(١) ظاهر في أنّ عدم الرؤية لوجود السدّ والغشاوة.

__________________

(١) سورة يس ٣٦ : ٩.

٦٧

وقد يستفاد من تفريع عدم الإبصار على وجود الغشاوة ، أنّ الإبصار محتاج في ذاته إلى عدم الحاجب ، الذي هو أحد الشروط المتقدّمة.

وأمّا ما نقله عن بعض الأشاعرة ، من حصول جميع شرائط الرؤية لكلّ جزء من أجزاء الجسم الكبير البعيد ، مع عدم ثبوت الرؤية لبعضها ، ففيه :

إنّ فرض حصول الشرائط لجميع الأجزاء يوجب أن يكون تخصيص البعض بالرؤية ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل.

فلا بدّ من الالتزام بعدم حصول الشرائط لبعضها ، أو الالتزام بتعلّق الرؤية في القرب والبعد بمجموع الجسم لا بأجزائه.

وإنّما يرى كبيرا في القرب ، صغيرا في البعد ، لأمور محتملة

أحدها : إنّ صغر المرئي إنّما هو بحسب صغر الزاوية الجليدية وكبرها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بالانطباع.

أو بحسب صغر زاوية مخروط الشعاع وعظمها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بخروج الشعاع.

وأورد عليه صاحب « المواقف » بما هو مبنيّ على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ، وعلى إنّ المرئي حال البعد نفس الأجزاء لا المجموع(١) .

وكلاهما باطل.

واعلم أنّ قول المصنّف ; : « وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة » دالّ على ما ذكرناه سابقا ، من أنّه أراد بالإدراك ـ في عنوان المسألة ـ مطلق الإحساس الظاهري ، لا خصوص الرؤية.

__________________

(١) انظر : المواقف : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٦٨

وإنّما لم يتعرّض هنا لتجويزهم عدم إدراك الطعوم والروائح ـ البالغة في الظهور منتهاه ـ مع سلامة الذائقة والشامّة ، واجتماع سائر الشرائط ؛ استغناء عنه ببيان أخواتهما.

٦٩
٧٠

امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المبحث الرابع

في امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق ، أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء ، على صخرة سوداء ، في طرف المغرب ، في الليل المظلم! [ وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد ] ، وبينهما حجبت جميع الجبال والحيطان.

ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت وهو في طرف المغرب!(٢) .

وكفى من اعتقد ذلك نقصا ، ومكابرة للضرورة ، ودخولا في السفسطة.

[ هذا اعتقادهم! وكيف(٣) يجوز لعاقل أن يقلّد من كان هذا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٩ ، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٤٣٦ المقصد الثالث.

(٣) كان في المصدر : « وكيف من » ولا يستقيم الكلام بإثبات « من » هنا ، فحذفناها.

٧١

اعتقاده؟! ].

وما أعجب حالهم! يمنعون من لزوم(١) مشاهدة أعظم الأجسام قدرا ، وأشدّها لونا وإشراقا ، وأقربها إلينا ، مع ارتفاع الموانع ، وحصول الشرائط! و [ من ] سماع الأصوات الهائلة القريبة! ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلم الشديدة ، وبينهما غاية البعد! وكذا في السماع!

فهل بلغ أحد من السوفسطائية ـ في إنكار المحسوسات ـ إلى هذه الغاية ، ووصل إلى هذه النهاية؟!

مع إنّ جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة ، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان ، حال خروجه ، أناسا فضلاء مدقّقين في العلوم ، حال الغيبة!

وهؤلاء جوّزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ، ولا يشاهدون ، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك!

فلينظر العاقل المنصف المقلّد لهم! هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم ، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى ، ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم ، أو لا؟!

فإن جوّز ذلك لنفسه ـ بعد تعقّل ذلك وتحصيله ـ فقد خلّص المقلّد من إثمه ، وباء هو بالإثم ؛ نعوذ بالله من مزالّ الأقدام!

وقال بعض الفضلاء(٢) ـ ونعم ما قال ـ : كلّ عاقل جرّب الأمور

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في الرسالة السعدية : ٤٣.

٧٢

فإنّه لا يشكّ في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدّة مديدة حتّى تنفصل أعضاؤه.

ومحالّ أن يكون أهل بغداد ـ على كثرتهم وصحّة حواسّهم ـ يجوز عليهم جيش عظيم ، ويقتلون ، وتضرب فيهم البوقات الكثيرة ، ويرتفع الريح ، وتشتدّ الأصوات ، ولا يشاهد ذلك أحد منهم ، ولا يسمعه!

ومحال أن يرفع أهل الأرض ـ بأجمعهم ـ أبصارهم إلى السماء ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون في السماء ألف شمس ، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون لإنسان واحد ، مشاهد أنّ عليه رأسا واحدا ، ألف رأس لا يشاهدونها ، وكلّ واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه!

ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرّة ، بمحضر ألف نفس ، كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله ، بأنّ زيدا ما قام ، ويكون قد أخبر بالنفي ، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي ، مع تكرّره ألف مرّة ، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله!

بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنّه حال خروجنا من منازلنا ، لم تنقلب الأواني ـ التي فيها ـ أناسا مدقّقين في علم المنطق والهندسة.

وأنّ ابني الذي شاهدته بالأمس ، هو الذي شاهدته الآن.

وأنّه لم(١) يحدث حال تغميض العين ألف شمس ، ثمّ تعدم عند

__________________

(١) سقطت من المصدر.

٧٣

فتحها.

مع إنّ الله تعالى قادر على ذلك كلّه(١) ، وهو في نفسه ممكن.

وأنّ المولود الرضيع ـ الذي يولد في الحال ـ إنّما يولد من الأبوين ، ولم يمرّ عليه ألف سنة ، مع إمكانه في نفسه ، وبالنظر إلى قدرة الله تعالى.

وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط ، وكذّبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة ، فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهدات؟!

ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم ، وأفضل متأخّريهم ، فخر الدين الرازي في هذا الموضع ، حيث قال :

« يجوز أن يخلق الله تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار ، فلهذا لا يحسّ بالحرارة ، واللون الذي فيها ، والضوء المشاهد منها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد »(٢) .

وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النزاع ؛ لأنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوزون ذلك ، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟!

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٨٣.

٧٤

وقال الفضل(١) :

حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل ـ بعد وضع القعقعة ـ : أنّ الأشاعرة لا يعتبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقّق الرؤية وعدم تحقّقها ، ولعدم هذا الاعتبار دخلوا في السوفسطائية.

ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية ، لتعرف أنّ هذا الرجل ـ مع فضيلته ـ قد أخذ [ سبل(٢) ] التعصّب عين بصيرته! فنقول :

ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء ، فهم يقولون : إنّ حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته ، فالنار ليست بالنار ، والماء ليس بالماء ، ويجوز أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار ، وحقيقة الماء حقيقة الهواء ، وليس لشيء حقيقة ما ، فيلزمهم أن تكون النار التي نشاهدها لا تكون نارا ، بل ماء وهواء أو غير ذلك.

وهذا هو السفسطة.

ويجرّ هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات ، وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء.

وأمّا حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرؤية وغيرها ـ ممّا ذكره هذا الرجل ـ فهو : أنّ الاشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١١ ـ ١١٤.

(٢) السبل : داء في العين شبه غشاوة كأنّها نسج العنكبوت بعروق حمر ؛ انظر : الصحاح ٥ / ١٧٢٤ ، لسان العرب ٦ / ١٦٤ ، تاج العروس ١٤ / ٣٢٧ ، مادّة « سبل ».

٧٥

الفاعل المختار وقدرته ، التي هي العلّة التامّة لوجود الأشياء.

فإذا كانت القدرة هي العلّة التامّة ، فلا يكون وجود شيء واجبا عند حصول الأسباب الطبيعيّة ، ولا يكون شيء مفقودا بحسب الوجود(١) عند فقدان الأسباب والشرائط.

ولكن جرت عادة الله تعالى في الموجودات أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها ، وتنعدم عند انعدامها ، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب.

فالشيء الذي له شرائط في الوجود ، يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط ، وانتفاؤه عند انتفائها ، بحسب ما جرى من العادة.

وإن كان ذلك الشيء ـ بالنسبة إلى القدرة ـ غير واجب ، لا في صورة التحقّق ، لتحقّق الشرائط ، ولا في صورة الانتفاء ، لانتفائها ، بل جاز في العقل تحقّق الشرائط وتخلّف ذلك الشيء ، وجاز تحقّقه مع انتفاء الشرائط ، إذ لم يلزم منه محال عقلي ، وذلك بالنسبة إلى قدرة المبدئ ، الذي هو الفاعل المختار.

مثلا : الرؤية التي نباحث فيها لها شرائط ، وجب تحقّقها عند تحقّقها ، وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط.

كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة الله تعالى في خلق بعض الموجودات ، بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة ، دون انتفائها.

فعدم تحقّق الرؤية عند وجود الشرائط ، [ أ ] وتحقّقها عند فقدان الشرائط ، محالّ عاديّ(٢) ؛ لأنّه جار على خلاف عادة الله تعالى ، وإن كان

__________________

(١) في المصدر : الوجوب.

(٢) في المصدر : عادة.

٧٦

جائزا عقلا إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته علّة تامّة لوجود الأشياء.

هذا حاصل مذهب الأشاعرة.

فيا معشر الأذكياء! أين هذا من السفسطة؟!

وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتشنيعات.

وأمّا جواب الإمام الرازي فهو واقع بإزاء الاستبعاد ، فإنّهم يستبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنوّر يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا.

فذكر الإمام وجه الجواز عقلا بخلق الله تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ؛ فيكون جوابه صحيحا.

والله أعلم بالصواب.

وأمّا قوله : « إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ».

فنقول فيه : قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التجويز ، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة ، فهم لا يقولون : إنّ هذا ليس بمحال عادة ، ولكن لا يلزم منه محال عقلي ـ كاجتماع الوجود والعدم ـ ، فيجوز أن تتعلّق به القدرة الشاملة الإلهية ، وتمنع الحرارة عن التأثير.

ومن أنكر هذا ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم.

٧٧

وأقول :

ما ذكره من مغايرة الأشاعرة للسوفسطائية في خصوصيات الأقوال ، لا ينافي مشابهتهم لهم في مخالفة الضرورة ، كما هو مطلوب المصنّف ;.

فالمراد أنّهم مثلهم في إنكار المحسوسات الضرورية ، وغلطهم فيها غلطا بيّنا يستوضحه كلّ ذي عقل.

وأمّا ما ذكره في بيان مذهب الأشاعرة ، فهو تكرير لما سبق ، وقد عرفت أنّ قولهم بنفي سببية الأسباب الطبيعية واقعا ، وجواز تخلّف المسبّبات عنها ، وجواز وجود المسبّبات بدونها ، مخالف للضرورة ، ومستلزم لعدم صحّة الحكم على الجسم بالحدوث ، وعلى المركّب بالإمكان إلى غير ذلك ممّا سبق.

مع إنّ تجويز رؤية الأعمى ، وسماع الأطرش ـ العادمين لقوّتي البصر والسمع ـ مستلزم لجواز قيام العرض بلا معروض ، وهو محال.

وفرض قوّة أخرى يجعل النزاع لفظيا ، وهو ليس كذلك ، فلا يمكن تخلّف المسبّب عن سببه الطبيعي ، ولا وجوده بدونه ، بلا منافاة في ذلك لعموم القدرة ، لاعتبار الإمكان في محلّها ، كما سبق.

فكما لا يصحّ تعلّقها بإيجاد شريك الباري سبحانه ، وبالجمع بين الوجود والعدم ، لا يصحّ تعلّقها بالمسبّب بدون السبب المفروض السببية.

وأمّا ما يظهر منه من كون القدرة علّة تامّة لوجود الأشياء ، فخطأ

٧٨

ظاهر ، لاستلزامه قدم الحادثات ، أو حدوث القدرة.

ولمّا أنكر الأشاعرة علّيّة الأسباب الطبيعية ـ والحال أنّها من أظهر أحوال الموجودات ـ لزمهم نفي الثقة بالموجودات البديهية ـ من المحسوسات وغيرها ـ ودخلوا في السوفسطائية ، المخالفين للبديهة.

وأمّا ما ذكره في توجيه جواب الرازي ، فمنحلّ إلى أنّه إقناعيّ خارج عن محلّ الكلام ، وأنت تعلم أنّ مثله لا يقع في بحث العلماء.

وأمّا قوله : « ومن أنكر ذلك ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم » ، فمدفوع بأنّ صريح الآية الكريمة صيرورة النار بردا ـ كما في فرض الرازي ـ ، فلا دخل لها بمطلوبه من عدم تأثيرها للإحراق حال حرارتها.

٧٩
٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99