اعلام الهداية الإمام المهدي (عجل الله فرجه)

اعلام الهداية الإمام المهدي (عجل الله فرجه)30%

اعلام الهداية الإمام المهدي (عجل الله فرجه) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 199

اعلام الهداية الإمام المهدي (عجل الله فرجه)
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134967 / تحميل: 9055
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام المهدي (عجل الله فرجه)

اعلام الهداية الإمام المهدي (عجل الله فرجه)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

القول بحتمية وجوده وإمكانية التعرف عليه والتمسك بعرى طاعته وإلا لما كان للاحتجاج الإلهي على الغافلين عن معرفته وطاعته معنى، إذْ كيف يكون الاحتجاج بمن لا وجود له.

وحيث إن أمر الطاعة له مطلق فهو دال على عصمته ويؤكده صدر الحديث على أن عدم معرفته والتمسك به يقود الى ميتة الجاهلية، وأن طاعته واجبة لأنه يدعو الى طاعة الله وبه يكون قوام الإسلام كما صرح بذلك ابن حبان فيما نقله عن أبي حاتم من دلالة الحديث الواضحة، ولذلك صرح أبو حاتم بأن طاعة غيره ممن لم يتصف بهذه الصفات تؤدي الى ميتة الجاهلية. وهذا هو المستفاد من الحديث الأول فالدلالة مشتركة وتكون المحصلة : حتمية وجود إمام معصوم قرشي يكون الإسلام به قائماً يدعو الى طاعة الله ويكون له الأمر ويتحمل مسؤولية حفظ الدين الحق، وحيث إنّ مثل هذا الإمام غير ظاهر فلابد من القول بغيبته وقيامه بهذه المهام من خلف أستار الغيبة الى حين زوال الأسباب التي أدت الى غيبته فيظهر حينئذ ليقيم الدولة العادلة على أساس قيم الدين الذي حفظه .

ولا يمكن القول بتعدد الغائبين لأن أحاديث الائمة الإثني عشر حصرت عدد خلفاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا العدد وثبت أن المصداق الوحيد الذي تنطبق عليه الشروط المستفادة من دلالات هذه الأحاديث هم أئمة أهل البيت النبوي، وقد ثبتت وفاة الائمة الأحد عشر ولم يبق إلا خاتمهم المهدي الموعود(١) فلابد من القول باستمرار وجوده الى يوم القيامة استناداً الى

ـــــــــــ

(١) يُلاحظ هنا أن كل المؤرخين من مختلف المذاهب الإسلامية الذين ترجموا للائمة الاثني عشر من أهل البيت عليهم‌السلام ذكروا تواريخ وفيات الائمة الأحد عشر باستثناء المهدي بن الحسن العسكري فقد ذكروا تأريخ ولادته فقط. وهذا الأمر يصدق حتى على الذين لم يقولوا بأنه هو المهدي الموعود المبشر به في صحاح الأحاديث النبوية.

٨١

الأحاديث المتقدمة، ولأن الصحيح من الأقوال هو أن الأرض لا تخلو من حجة كما يقول ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري: وفي صلاة عيسىعليه‌السلام خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال : «ان الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة .»، والله أعلم(١) .

ولابدّ من الإشارة هنا الى أن الدلالات المستفادة من هذه الأحاديث الشريفة على وجود المهدي الإمامي وغيبته هي دلالات واضحة إلا أن مما أثار بعض الغموض عليها وأوجد الحاجة الى الاستدلال عليها والتحليل المفصل لها هو السكوت عنها والتعتيم عليها أو محاولات تأويلها وصرفها عن المصداق الحقيقي بسبب طغيان الخلافات السياسية التي شهدها العالم الإسلامي وانعكاساتها على الأمور العقائدية وهو السبب نفسه الذي أدى الى إحجام بعض المحدثين عن نقل وتدوين طائفة أخرى من الأحاديث التي صحت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي صرحت بما أشارت إليه هذه الأحاديث وشخصت مصاديقها، لأن المصالح السياسية للحكام الأمويين والعباسيين منعت من اشتهار مثل هذه الأحاديث ومنعت من انتشار الكتب التي تنقلها كما هو واضح لمن راجع التأريخ الإسلامي.

ـــــــــــ

(١) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العقسلاني: ٦/ ٣٨٥.

٨٢

الباب الثاني: وفيه فصول:

الفصل الأول: نشأة الإمام المهديعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام المهديعليه‌السلام .

الفصل الثالث: الإمام المهدي في ظل أبيهعليهما‌السلام .

الفصل الأول: نشأة الإمام محمّد بن الحسن المهديعليهما‌السلام

تأريخ الولادة

ولد ـ سلام الله عليه ـ في دار أبيه الحسن العسكريعليه‌السلام في مدينة سامراء أواخر ليلة الجمعة الخامس عشر من شعبان وهي من الليالي المباركة التي يُستحب إحياؤها بالعبادة وصوم نهارها طبقاً لروايات شريفة مروية في الصحاح مثل سنن ابن ماجة وسنن الترمذي وغيرهما من كتب أهل السنة(١) إضافة الى ما روي عن ائمة أهل البيتعليهم‌السلام (٢) .

وكانت سنة ولادته (٢٥٥ هـ ) على أشهر الروايات، وثمة روايات أُخرى تذكر أن سنة الولادة هي (٢٥٦ هـ ) أو (٢٥٤ هـ ) مع الاتفاق على يومها وروي غير ذلك، إلا أن الأرجح هو التأريخ الأول لعدة شواهد، منها وروده في أقدم المصادر التي سجلت خبر الولادة وهو كتاب الغيبة للشيخ الثقة الفضل بن شاذان الذي عاصر ولادة المهديعليه‌السلام وتوفي قبل وفاة أبيه الحسن

ـــــــــــ

(١) راجع مثلاً مسند أحمد بن حنبل: ٢/ ١٧٦، سنن ابن ماجة: ١/ ٤٤٤ ـ ٤٤٥، فيض القدير: ٤/ ٤٥٩، سنن الترمذي: ٣/ ١١٦، كنز العمال: ٣/ ٤٦٦ وغيرها كثير.

(٢) ثواب الأعمال للشيخ الصدوق : ١٠١، مصباح المتهجد للشيخ الطوسي : ٧٦٢، إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس : ٧١٨.

٨٣

العسكريعليهما‌السلام بفترة وجيزة(١) ، ومنها أن معظم الروايات الأخرى تذكر أن يوم الولادة كان يوم جمعة منتصف شهر شعبان وإن اختلفت في تحديد سنة الولادة، ومن خلال مراجعتنا للتقويم التطبيقي(٢) وجدنا أن النصف من شعبان صادف يوم جمعة في سنة (٢٥٥ هـ ) وحدها دون السنين الاُخرى المذكورة في تلك الروايات.

ومثل هذا الاختلاف أمر طبيعي جار مع تواريخ ولادات ووفيات آبائه وحتى مع جده الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، دون أن يؤثر ذلك على ثبوت ولادتهمعليهم‌السلام ، كما أنه طبيعي للغاية بملاحظة سرّيّة الولادة عند وقوعها حفظاً للوليد المبارك كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.

تواتر خبر ولادتهعليه‌السلام

روى قصة الولادة أو خبرها الكثير من العلماء بأسانيد صحيحة أمثال أبي جعفر الطبري والفضل بن شاذان والحسين بن حمدان وعلي بن الحسين المسعودي والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والشيخ المفيد وغيرهم، ونقلها بصورة كاملة أو مختصرة أو نقل خبرها عدد من علماء أهل السنة من مختلف المذاهب الإسلامية أمثال نورالدين عبدالرحمن الجامي الحنفي في شواهد النبوة والعلاّمة محمد مبين المولوي الهندي في وسيلة النجاة والعلامة محمد

ـــــــــــ

(١) راجع هذه الروايات في كتاب النجم الثاقب للميرزا النوري: ٢/ ١٤٦ ومابعدها من الترجمة العربية، وراجع الكافي: ١/ ٣٢٩، كمال الدين : ٤٣٠.

(٢) نقصد بالتقويم التطبيقي التقويم الذي يطبق بين أيام تقويم السنة الشمسية مع ما يصادفها من أيام تقويم السنة القمرية، وقد أعدت عدة تقاويم من هذا النوع على شكل كتب أو برامج كومبيوترية حددت ما يصادف كل يوم من أيام السنة الهجرية القمرية مع تقويم السنة الهجرية الشمسية والسنة الميلادية الشمسية، وقد راجعنا في البحث التقويم التطبيقي الذي أصدرته جامعة طهران والذي يبدأ بالتطبيق من اليوم الأوّل من السنة الاُولى لهجرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى نهاية القرن الهجري الخامس عشر.

٨٤

خواجه بارسا البخاري في فصل الخطاب والحافظ سليمان القندوزي الحنفي في ينابيع المودة، كما نقل خبر الولادة ما يناهز المائة وثلاثين من علماء مختلف الفرق الإسلامية بينهم عشرات المؤرخين ستة منهم عاصروا فترة الغيبة الصغرى أو ولادة الإمام المهديعليه‌السلام ، والبقية من مختلف القرون الى يومنا هذا في سلسلة متصلة وهذا الاحصاء يشمل جانباً من المصادر الإسلامية وليس كلها. وبين هؤلاء عدد كبير من العلماء والمؤرخين المشهورين أمثال ابن خلكان وابن الأثير وأبي الفداء والذهبي وابن طولون الدمشقي وسبط ابن الجوزي ومحي الدين بن عربي والخوارزمي والبيهقي والصفدي واليافعي والقرماني وابن حجر الهيثمي وغيرهم كثير. ومثل هذا الإثبات مما لم يتوفر لولادات الكثير من أعلام التأريخ الإسلامي(١) .

كيفية ظروف الولادة

يُستفاد من الروايات الواردة بشأن كيفية ولادتهعليه‌السلام ، أن والده الإمام الحسن العسكري ـ سلام الله عليه ـ أحاط الولادة بالكثير من السرية والخفاء، فهي تذكر أن الإمام الحسن العسكري قد طلب من عمته السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد أن تبقى في داره ليلة الخامس عشر من شهر شعبان واخبرها بأنه سيُولد فيها إبنه وحجة الله في أرضه، فسألته عن أمه فأخبرها أنها نرجس فذهبت إليها وفحصتها فلم تجد فيها أثراً للحمل، فعادت للإمام واخبرته بذلك، فابتسمعليه‌السلام وبيّن لها أن مثلها مثل أم موسىعليه‌السلام التي لم يظهر حملها ولم يعلم به أحد الى وقت ولادتها لأن فرعون كان يتعقب أولاد بني إسرائيل خشية من ظهور موسى المبشر به فيذبح ابناءهم ويستحي نساءهم، وهذا الأمر جرى مع الإمام المهديعليه‌السلام أيضاً لأن السلطات العباسية كانت ترصد ولادته إذ قد تنبأت بذلك طائفة من الأحاديث الشريفة كما سنشير لاحقاً.

ـــــــــــ

(١) راجع تفصيلات أقوالهم في الاحصائية التي أوردها السيد ثامر العميدي في كتابه دفاع عن الكافي: ١/٥٣٥ ـ ٥٩٢ .

٨٥

ويُستفاد من نصوص الروايات أن وقت الولادة كان قبيل الفجر وواضح أنّ لهذا التوقيت أهمية خاصة في إخفاء الولادة; لأن عيون السلطة عادةً تغط في نوم عميق. كما يُستفاد من الروايات أنه لم يحضر الولادة سوى حكيمة التي لم تكن تعرف بتوقيتها بشكل دقيق أيضاً(١) .

وتوجد رواية واحدة يرويها الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة تصرح باستقدام عجوز قابلة من جيران الإمام لمساعدة حكيمة في التوليد مع تشديد الوصية عليها بكتمان الأمر وتحذيرها من إفشائه(٢) .

إخبار المسبق عن خفاء الولادة

أخبرت الكثير من الأحاديث الشريفة بأن ولادة المهدي من الحسن العسكري ستُحاط بالخفاء والسرية، ونسبت الإخفاء الى الله تبارك وتعالى وشبهت بعضها إخفاء ولادته باخفاء ولادة موسى وبعضها بولادة ابراهيمعليهما‌السلام ، وبيّنت علّة ذلك الإخفاء بحفظهعليه‌السلام حتى يؤدي رسالته، نستعرض هنا نماذج قليلة منها.

فمثلاً روى الشيخ الصدوق في إكمال الدين والخزاز في كفاية الأثر مسنداً عن الإمام الحسن بن عليعليهما‌السلام ضمن حديث قال فيه:

« أما علمتم أنه ما منّا إلا وتقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه، إلا القائم الذي يصلّي عيسى بن مريم خلفه ؟ ! وإن الله عز وجل يُخفي ولادته ويغيّب شخصه لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة النساء يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته...»(٣) .

ـــــــــــ

(١) راجع الروايات التي جمعها السيد البحراني بشأن قصة الولادة من المصادر المعتبرة في كتابه تبصرة الولي : ٦ وما بعدها، وكذلك التلخيص الذي أجراه الميرزا النوري في النجم الثاقب: ٢/ ١٥٣ وما بعدها، وراجع غيبة الشيخ الطوسي الفصل الخاص باثبات ولادة صاحب الزمانعليه‌السلام : ٧٤ وما بعدها.

(٢) غيبة الشيخ الطوسي : ١٤٤.

(٣) كمال الدين: ٣١٥، كفاية الأثر : ٣١٧.

٨٦

وفي حديث رواه الصدوق بطريقين عن الإمام عليعليه‌السلام قال: « إن القائم منا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفى ولادته ويغيب شخصه »(١) .

وروى عن الإمام السجادعليه‌السلام أنه قال: «في القائم منا سنن من الأنبياء وأما من ابراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس....»(٢) .

وروي عن الإمام الحسينعليه‌السلام أنه قال: « في التاسع من ولدي سنّة من يوسف وسنّة من موسى بن عمران وهو قائمنا أهل البيت يصلح الله أمره في ليلة واحدة»(٣) .

وروى الكليني في الكافي بسنده عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنه قال ـ في حديث ـ : « انظروا من خفي (عمي) على الناس ولادته فذاك صاحبكم، إنه ليس منا أحد يُشار إليه بالأصابع ويمضغ بالألسن إلا مات غيضاً أو رغم أنفه »(٤) .

والأحاديث بهذا المعنى كثيرة والكثير منها مروي بأسانيد صحيحة تخبر صراحة ـ وقبل وقوع ولادة الإمام المهديعليه‌السلام ـ بخفائها، وفي ذلك دلالة وجدانية صريحة على صحتها حتى لو كان في أسانيد بعضها ضعف أو مجهولية لأنها أخبرت عن شيء قبل وقوعه ثم جاء الواقع مصدقاً لما أخبرت عنه، وهذا ما لا يمكن صدوره إلا من جهة علام الغيوب تبارك وتعالى الأمر الذي يثبت صدورها عن ينابيع الوحي وبإخبار من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــ

(١) كمال الدين : ٣٠٣.

(٢) كمال الدين : ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٣) كمال الدين : ٣١٦.

(٤) الكافي: ١/ ٢٧٦.

٨٧

خفاء الولادة علامة المهدي الموعودعليه‌السلام

ويُلاحظ أن هذه الأحاديث الشريفة تصرح بأنّ خفاء الولادة من العلائم البارزة المشخصة لهوية المهدي الموعود والقائم من ولد فاطمة الذي بشرت به الأحاديث النبوية، وهذا أحد الأهداف المهمة للتصريح بذلك وهو تعريف المسلمين بإحدى العلائم التي يكشفون بها زيف مزاعم مدّعي المهدوية كما شهد التأريخ الإسلامي الكثير منهم ولم تنطبق على أي منهم هذه العلامة، فلم تُحَطْ ولادة أي منهم بالخفاء كما هو ثابت تأريخياً(١) .

وتشير الأحاديث الشريفة المتقدمة الى علة إخفاء ولادتهعليه‌السلام وهي العلة نفسها التي أوجبت إخفاء ولادة نبي الله موسىعليه‌السلام ، أي حفظ الوليد من سطوة الجبارين ومساعيهم لقتله إتماماً لحجة الله تبارك وتعالى على عبادة ورعاية له لكي يقوم بدوره الإلهي المرتقب في إنقاذ بني اسرائيل والصدع بالديانة التوحيدية ومواجهة الجبروت الفرعوني بالنسبة لموسى الكليم ـ سلام الله عليه ـ، وهكذا إنقاذ البشرية جمعاء وإنهاء الظلم والجور وإقامة القسط والعدل وإظهار الإسلام على الدين كله بيد المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ وهذا ما كان يعرفه ائمة الجور من خلال النصوص الواردة بهذا الشأن، ففرعون مصر كان على علم بالبشارات الواردة بظهور منقذ بني اسرائيل، وهو موسىعليه‌السلام من أنفسهم ولذلك سعى في تقتيل أبنائهم بهدف منع ظهوره، وكذلك حال بني العباس إذ كانوا على علم بأن المهدي الموعود هو من ولد فاطمة ـ سلام الله عليها ـ، وأنه الإمام الثاني عشر من ائمة أهل البيتعليهم‌السلام وقد

ـــــــــــ

(١) ذكر تراجمهم الدكتور محمد مهدي خان مؤسس صحيفة الحكمة في القاهرة في كتابه «باب الأبواب» الذي خصص جانباً منه لدراسة حركات أدعياء المهدوية.

٨٨

انتشرت الأحاديث النبوية المصرحة بذلك بين المسلمين ودوّنها علماء الحديث قبل ولادة المهدي بعقود عديدة، كما كانوا يعلمون بأن الإمام الحسن العسكري هو الإمام الحادي عشر من ائمة العترة النبويةعليهم‌السلام ، لذا فمن الطبيعي أن يسعوا لقطع هواجس ظهور المهدي الموعود بالإجتهاد من أجل قطع نسل والده العسكريعليهما‌السلام .

ومن الواضح أنّ مجرد احتمال صحة هذه الأحاديث كان كافياً لدفعهم نحو إبادته، فكيف الحال وهم على علم راجح بذلك خاصةً وأن ليس بين المسلمين سلسلة تنطبق عليهم مواصفات تلك الأحاديث الشريفة مثلما تنطبق على هؤلاء الائمة الإثني عشرعليهم‌السلام كما لاحظنا مفصلاً في البحوث السابقة ؟ !

وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نفهم سر ظاهرة قصر الأعمار التي ميزت تأريخ الائمة الثلاثة الذين سبقوا الإمام المهديعليهم‌السلام من آبائه، فقد اُستشهد ابوه العسكري وهو ابن ثمان وعشرين(١) واستشهد جده الإمام الهادي وهو ابن أربعين سنة(٢) واستشهد الإمام الجواد وهو ابن خمس وعشرين سنة(٣) ، وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة، وتكفي وحدها للكشف عن المساعي العباسية الحثيثة لإبادة هذا النسل للحيلولة دون ظهور المهدي الموعود(٤) حتى لو لم يسجل التأريخ محاولات العباسيين لاغتيال وقتل هؤلاء

ـــــــــــ

(١) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : ٢٨٨.

(٢) مروج الذهب للمسعودي: ٤/ ١٦٩.

(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : ٢٧٦

(٤) لقد امتدّت هذه المحاولات الى داخل بيت الإمام عليه‌السلام فزرعت العيون من النساء لمراقبة ما يحدث داخل بيت الإمام عليه‌السلام ، للقضاء على الإمام المهدي عليه‌السلام إن وَلد، بل قد امتدت هذه الجهود للحيلولة دون ولادة الإمام عليه‌السلام ومن هنا لم يتزوّج الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام بشكل رسمي كما هو المتعارف والمتداول حينذاك.

٨٩

الائمة، فكيف الحال وقد سجل عدداً من هذه المحاولات تجاههمعليهم‌السلام ، حتى ذكر المؤرخون مثلاً أنهم قد سجنوا الإمام العسكري وسعوا لاغتياله عدة مرات، كما فعلوا مع آبائهعليهم‌السلام (١) ؟ !

يقول الإمام الحسن العسكري معللاً هذه الحرب المحمومة ضدهمعليهم‌السلام فيما رواه عنه معاصره الشيخ الثقة الفضل بن شاذان:

قال: حدثنا عبدالله بن الحسين بن سعد الكاتب قال: قال ابو محمّد ( الإمام العسكريعليه‌السلام ) : «قد وضع بنو اُمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين : احداهما انهم كانوا يعلمون انه ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادعائنا إيّاها وتستقر في مركزها، وثانيتهما انهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على ان زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منا، وكانوا لا يشكون انهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول الى منع تولد القائمعليه‌السلام أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم (إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون) »(٢) .

ـــــــــــ

(١) راجع الفصل الخاص بذلك في كتاب حياة الإمام العسكريعليه‌السلام للشيخ الطبسي : ٤٢١ ـ ٤٢٤.

(٢) إثبات الهداة للحر العاملي: ٣/ ٥٧٠، منتخب الأثر للشيخ لطف الله الصافي : ٣٥٩ ب ٣٤ ح ٤ عن كشف الحق للخاتون آبادي وبذيله ما يدل عليه من سائر الأخبار غير القليلة .

٩٠

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام المهديعليه‌السلام

تنقسم حياة كل إمام معصوم بشكل عام الى قسمين رئيسين :

القسم الأوّل: حياته قبل تسلّمه مهام الإمامة والزعامة.

القسم الثاني: حياته بعد تسلّمه لمهام الإمامة والزعامة.

وبالإمكان تقسيم كل منهما الى مراحل .

وبناءً على هذا تنقسم حياة الإمام المهديعليه‌السلام الى أربع مراحل متمايزة، وهي:

المرحلة الأولى : حياته في ظل أبيه أي من الولادة سنة (٢٥٥ هـ ) حتى يوم استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام سنة (٢٦٠ هـ ) وهي خمس سنوات تقريباً.

المرحلة الثانية : حياته منذ وفاة ابيهعليه‌السلام (سنة ٢٦٠ هـ ) حتى انتهاء الغيبة الصغرى سنة (٣٢٩ هـ ). وهي تناهز السبعين عاماً.

المرحلة الثالثة: حياته في الغيبة الكبرى والتي بدأت بعد وفاة سفيره الرابع عام (٣٢٩ هـ ) وهي مستمرة حتى يوم ظهوره على مسرح الأحداث السياسية والاجتماعية من جديد.

المرحلة الرابعة : حياته في مرحلة الظهور التي تبدأ بعد انتهاء الغيبة الكبرى، وهو عهد الدولة المهدوية العالمية المرتقبة والتي أخبرت عنها نصوص الكتاب والسنة.

وتتميز كلّ مرحلة من هذه المراحل بمجموعة من الخصائص نشير اليها تباعاً في كلّ باب إن شاء الله تعالى.

٩١

الفصل الثالث: الإمام المهدي في ظل أبيهعليهما‌السلام

دور الإمام العسكريعليه‌السلام في إعلان الولادة

في ظل تلك الأوضاع الإرهابية الصعبة كانت تواجه الإمام العسكري ـ سلام الله عليه ـ مهمة على درجة كبيرة من الخطورة والحساسية، فكان عليه أن يخفي أمر الولادة عن اعين السلطات العباسية بالكامل والحيلولة دون اهتدائهم الى وجوده وولادته ومكانه حتى لو عرفوا إجمالاً بوقوعها، وذلك حفظاً للوليد من مساعي الإبادة العباسية المتربصة به ولذلك لاحظنا في خبر الولادة حرص الإمام على خفائها، كما نلاحظ أوامره المشددة لكل مَن أطلعه على خبر الولادة من أرحامه وخواص شيعته بكتمان الخبر بالكامل فهو يقول مثلاً لأحمد بن إسحاق : «ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً ومن جميع الناس مكتوماً »(١) .

ومن جهة ثانية كان عليه الى جانب ذلك وفي ظل تلك الأوضاع الارهابية وحملات التفتيش العباسية المتواصلة، أن يثبت خبر ولادتهعليه‌السلام بما لا يقبل الشك إثباتاً لوجوده ثم إمامته، فكان لابد من شهود على ذلك يطلعهم على الأمر لكي ينقلوا شهاداتهم فيما بعد ويسجلها التأريخ للأجيال

ـــــــــــ

(١) كمال الدين : ٤٣٤.

٩٢

اللاحقة، ولذلك قامعليه‌السلام باخبار عدد من خواص شيعته بالأمر(١) وعرض الوليد عليهم، بعد مضي ثلاثة أيام من ولادته(٢) ، كما عرضه على أربعين من وجوه وخلّص أصحابه بعد مضي بضع سنين والإمام يومئذ غلام صغير وأخبرهم بأنه الإمام من بعده(٣) ، كما كان يعرضه على بعض أصحابه فرادى بين الحين والآخر ويظهر لهم منه من الكرامات بحيث يجعلهم على يقين من وجوده الشريف(٤) ، وقامعليه‌السلام باجراءات اُخرى للهدف نفسه مع الالتزام بحفظ حياة الوليد من الإبادة العباسية بما أثبت تأريخياً ولادة خليفته الإمام المهديعليه‌السلام بأقوى ما تثبت به ولادة انسان كما يصرح بذلك الشيخ المفيد(٥) .

ومن جهة ثالثة كانت تواجه الإمام العسكري ـ سلام الله عليه ـ مهمّة التمهيد لغيبة ولده المهدي وتعويد المؤمنين على التعامل غير المباشر مع الإمام الغائب، وقد قامعليه‌السلام بهذه المهمة عبر سلسلة من الاجراءات كإخبارهم بغيبته وأمرهم بالرجوع الى سفيره العام عثمان بن سعيد، فهو يقول لطائفة من أصحابه بعد أن عرض عليهم الإمام المهديعليه‌السلام وهو غلام: «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وأنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله وانتهوا الى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه »(٦) .

ـــــــــــ

(١) كمال الدين: ٤٣١، وراجع معادن الحكمة في مكاتيب الائمة لمحمد بن الفيض الكاشاني: ٢/ ٢٧٥.

(٢) كمال الدين : ٤٣١.

(٣) الغيبة للشيخ الطوسي: ٢١٧، اثبات الهداة للحر العاملي : ٤١٥، ينابيع المودّة للحافظ سليمان الحنفي : ٤٦٠.

(٤) راجع قصصهم في كتاب تبصرة الولي للسيد البحراني والفصول الخاصة بأحاديث «من رآه في حياة أبيه» من كتب الغيبة.

(٥) الفصول العشرة في الغيبة، المطبوع ضمن كتاب عدة رسائل للشيخ المفيد : ٣٥٣.

(٦) غيبة الطوسي : ٢١٧.

٩٣

ومن إجراءاتهعليه‌السلام في هذا المجال ـ تأكيده على استخدام اسلوب الاحتجاب والتعامل مع المؤمنين بصورة غير مباشرة تعويداً لهم على مرحلة الغيبة فكان : يكلم شيعته الخواص وغيرهم من وراء الستر إلا في الأوقات التي يركب فيها الى دار السلطان وانما كان منه ومن أبيه قبله مقدمة لغيبة صاحب الزمان لتألف الشيعة ذلك ولا تنكر الغيبة وتجري العادة بالاحتجاب والإستتار(١) ، ومن هذه الاجراءات تثبيت نظام الوكلاء عن إلامام، وتأييد الكتب الحديثية التي جمع فيها أصحاب الائمة مروياتهم عنهم وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، ليرجع إليها المؤمنون في عصر الغيبة(٣) .

حضوره وفاة أبيهعليه‌السلام

طبق ما يرويه الشيخ الصدوق في إكمال الدين والشيخ الطوسي في الغيبة فإن الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ قد حضر وفاة أبيه العسكريعليهما‌السلام ، إلا أن رواية الشيخ الطوسي أكثر تفصيلاً من رواية الصدوق التي كَنَّتْ عن حضوره ولم تصرح به، فقد نقل الشيخ الصدوق عن محمد بن الحسين بن عباد أنه قال: مات أبو محمّدالحسن بن عليعليهما‌السلام يوم جمعة مع صلاة الغداة، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة الى المدينة وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية، وعقيد الخادم ومَن علم الله عزوجل غيرهما...(٤) .

ـــــــــــ

(١) إثبات الوصية للمسعودي : ٢٦٢.

(٢) راجع رجال الكشي: ٤٨١، ٤٥١، ورجال ابن داود : ٢٧٢ ـ ٢٧٣، ووسائل الشيعة: ١٨/ ٧٢، فلاح السائل للسيد ابن طاووس : ١٨٣ وغيرها.

(٣) لمزيد من التفصيلات بشأن دور الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في هذا المجال راجع كتاب تأريخ الغيبة الصغرى للسيد الشهيد محمد الصدر رحمه‌الله : ٢٦٩ وما بعدها، وحياة الإمام العسكري عليه‌السلام للشيخ الطبسي: ٣١٣ ـ ٣٢٦ .

(٤) كمال الدين : ٤٧٤.

٩٤

ونقل الطوسي الرواية بتفصيل أكثر حيث قال:

«قال اسماعيل بن علي : دخلت على أبي محمد الحسن بن عليعليهما‌السلام في المرضة التي مات فيها، وانا عنده إذ قال لخادمه عقيد ـ وكان الخادم اسود نوبياً ـ قد خدم من قبله علي بن محمد وهو ربيُّ الحسنعليه‌السلام : يا عقيد اغل لي ماء بمصطكي. فاغلى له ثم جاءت به صقيل الجارية ام الخلف فلما صار القدح في يديه هم بشربه فجعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن فتركه من يده وقال لعقيد : «ادخل البيت فإنك ترى صبياً ساجداً فأتني به »قال ابو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرى فاذا انا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء فسلمت عليه فأوجز في صلاته فقلت: إن سيدي يأمرك بالخروج إليه، إذ جاءت اُمّه صقيل فأخذت بيده وأخرجته الى أبيه الحسنعليه‌السلام .

قال ابو سهل : فلما مثل الصبيّ بين يديه سلم وإذا هو دريُّ اللون وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلما رآه الحسنعليه‌السلام بكى وقال: «يا سيد أهل بيته اسقني الماء فإني ذاهب الى ربي» وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده ثم حرك شفتيه ثم سقاه فلما شربه قال: «هيئوني للصلاة»، فطرح في حجره منديل فوضأه الصبي واحدة واحدة ومسح على رأسه وقدميه فقال له ابو محمدعليه‌السلام : ابشر يا بني فأنت صاحب الزمان وانت المهدي وانت حجة الله على ارضه وانت ولدي ووصيي وأنا ولدتك وانت محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ولدك رسول الله وأنت خاتم الائمة الطاهرين وبشّر بك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّاك وكنّاك بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين صلّى الله على أهل البيت ربّنا انه حميد مجيد، ومات الحسن بن علي من وقته صلوات الله عليهم اجمعين(١) .

ـــــــــــ

(١) غيبة الطوسي : ١٦٥.

٩٥

الباب الثالث: وفيه فصول:

الفصل الأول: الغيبة الصغرى للإمام المهديعليه‌السلام .

الفصل الثاني: أسباب الغيبة الصغرى والتمهيد لها .

الفصل الثالث: إنجازات الإمام المهديعليه‌السلام في الغيبة الصغرى .

الفصل الأول: الغيبة الصغرى للإمام المهديعليه‌السلام

تسلّمه مهام الإمامة صغيراً

تسلّم المهديعليه‌السلام مهام الإمامة وهو ابن خمس أو ست سنين فهو أصغر الائمة سناً عند توليه مهام الإمامة. وقد أخبرت عن ذلك الأحاديث الشريفة سابقاً(١) .

وليس في ذلك غرابة في تأريخ الأنبياء والرسل وائمة أهل البيتعليهم‌السلام فقد سبقه لذلك بعض انبياء الله تعالى حسب نصّ القرآن الكريم كعيسى ويحيى كما سبقه الإمامان علي الهاديعليه‌السلام الذي تسلم الإمامة وهو ابن ثمان سنين والإمام محمد الجوادعليه‌السلام الذى تسلم الإمامة وهو ابن سبع أو تسع سنين .

وقد خاض الإمام الجوادعليه‌السلام امتحانين عامين، الأول منهما كان بحضور مشائخ مذهب أهل البيتعليهم‌السلام وكبار علمائهم من أصحاب أبيه، وبعد تسلمه لمهام الإمامة مباشرة، وكان الثاني منهما في مجلس المأمون وبحضور كبار علماء المسلمين يومذاك وكبار زعماء العباسيين الذين كانوا يسعون

ـــــــــــ

(١) راجع مثلاً حديث الإمام الباقر عليه‌السلام : «صاحب هذا الأمر أصغرنا سناً وأخملناشخصاً...» غيبة النعماني: ١٨٤.

٩٦

بكل وسيلة للحط من مكانة ائمة أهل البيتعليهم‌السلام وخرج من كلا الامتحانين بنجاح باهر أذعن بسببه مشائخ أصحاب أبيه وكبار علماء المسلمين لإمامته العلمية وإحاطته بعلوم شريعة جده سيد الرسل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وكانت أهم ثمار هذه التجربة تتجلى في إثبات إمامة الائمة الاثني عشر كموقع إلهي يؤتيه الله تبارك وتعالى لمن يشاء فلا يؤثر صغر السن في قابلية الإفاضة الإلهية على الشخص، ولذلك نلاحظ أنّ الذين ترجموا للإمام المهديعليه‌السلام من علماء المذاهب الإسلامية قد اعتبروا تسلمه للإمامة، وهو ابن خمس سنين أمراً طبيعياً في سيرة ائمة هذا البيتعليهم‌السلام ، حتى إنّ عالماً كبيراً مثل ابن حجر الهيثمي المكّي الشافعي يقول في ذيل ترجمته للإمام الحسن العسكريعليه‌السلام : ولم يخلف (الإمام العسكري) غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن آتاه الله فيها الحكمة...(٢) ، ويقول صاحب كتاب مرآة الأسرار الشيخ عبدالرحمن الجامي الحنفي في ترجمته : «كان عمره عند وفاة ابيه خمس سنين وجلس على مسند الإمامة ومثله مثل يحيى بن زكريا حيث أعطاه الله في الطفولية الحكمة والكرامة ومثل عيسى بن مريم حيث أعطاه النبوة في صغر سنّه كذلك المهدي جعله الله إماماً في صغر سنه، وما ظهر له من خوارق العادات كثير لا يسعه هذا المختصر»(٣) .

ونلاحظ هنا استناد الشيخ الجامي الحنفي الى تجارب الأنبياء السابقينعليهم‌السلام التي تنفي استبعاد الإمامة عن الصغير مادام الإمام مسدداً من

ـــــــــــ

(١) راجع تفصيلات هذه الامتحانات في موسوعة بحار الأنوار: ٥٠/ ٩٩ وغيرها.

(٢) الصواعق المحرقة : ١٢٤.

(٣) مرآة الأسرار : ٣١.

٩٧

قبل الله تبارك وتعالى في صغره أو كبره. وقد ثبت أن المهديعليه‌السلام قد حظي بهذا التسديد الإلهي من خلال حوادث عديدة نقلتها كتب الحديث والتاريخ وذكرت صدور كرامات عنهعليه‌السلام لا يمكن صدورها عن غير الإمام، وقد كان بعضها في حياة أبيه وبعضها الآخر في عهد إمامته(١) .

صلاته على أبيه وإعلان وجوده

كان من اُولى المهمات التي قام بها الإمام المهديعليه‌السلام بُعَيْد تسلمه مهام الإمامة هي الصلاة على أبيه الحسن العسكريعليهما‌السلام في داره وقبل إخراج جسده الطاهر الى الصلاة « الرسمية » التي خططتها السلطات العباسية(٢) وكان قيامه بهذه الصلاة يعتبر أمراً مهماً في إثبات إمامته رغم المخاطر التي كانت تتوقع بعد نقل خبر هذه الصلاة.

روى الشيخ الطوسي بسنده عن أحمد بن عبدالله الهاشمي ـ وهو من ولد العباس ـ قال : «حضرتُ دار أبي محمد الحسن بن عليعليهما‌السلام بسر مَن رأى يوم توفي واُخرجت جنازته ووضعت، ونحن تسعة وثلاثون رجلاً قعود ننتظر، حتى خرج علينا غلام عشاري حاف، عليه رداء قد تقنع به فلما أن خرج قمنا هيبة له من غير أن نعرفه، فتقدم وقام الناس فاصطفوا خلفه، فصلى عليه ومشى، فدخل بيتاً غير الذي خرج منه»(٣) .

وروى الشيخ الصدوق الحادثة نفسها بتفصيلات أدق عن أبي الأديان

ـــــــــــ

(١) مثل تكلّمه عند ولادته وهو في المهد، كمال الدين: ٤٣٣، ٤٤١ وغيرها، ومثل تحدثه بجوامع العلم والحكمة وهو صغير، غيبة الشيخ الطوسي : ١٤٨ وغيرها.

(٢) يظهر أن الصلاة الأولى كانت بحضور وجوه أصحاب الإمام وأرحامه والصلاة الرسمية كانت بحضور ممثلي السلطة العباسية ووجوه المدينة وعامة الناس، راجع تفصيلات ذلك في كتاب بحار الأنوار: ٥٠/ ٣٢٨.

(٣) غيبة الشيخ الطوسي : ١٥٥.

٩٨

البصري أحد ثقاة الإمام العسكريعليه‌السلام ، حيث قال :

«كنت اخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالبعليهم‌السلام واحمل كتبه الى الأمصار فدخلت عليه في علّته التي توفّي فيها صلوات الله عليه فكتب معي كتباً وقال: «امض بها الى المدائن فإنك ستغيب اربعة عشر يوماً وتدخل الى (سر من رأى) يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل».

قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي فاذا كان ذلك فمن ؟ قال: «من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي»، فقلت: زدني فقال : «من اخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي» ثم منعتني هيبته ان اسأله عما في الهميان وخرجت بالكتب الى المداين واخذت جواباتها ودخلت (سر من رأى) يوم الخامس عشر كما قال ليعليه‌السلام واذا أنا بالواعية في داره واذا به على المغتسل واذا انا بجعفر الكذاب ابن علي اخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزونه ويهنؤونه فقلت في نفسي ان يكن هذا الإمام بطلت الإمامة لأني كنت اعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور فتقدمت فعزيت وهنئت فلم يسألني عن شيء ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كفن اخوك فقم فصلِّ عليه.

فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان والحسن بن علي قبيل المعتصم المعروف بسلمة فلما صرنا في الدار اذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلّي على اخيه فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة بشعره قطط باسنانه تفليج، فجذب برداء جعفر بن علي وقال:«تأخر يا عم فأنا احق بالصلاة على أبي» فتأخر جعفر وقد اربدّ وجهه واصفرّ وتقدم الصبي فصلى عليه ودفن الى جانب قبر ابيهعليهما‌السلام ثم قال: «يا بصرى هات جوابات الكتب التي معك» فدفعتها إليه فقلت في نفسي : هذه بيّنتان بقي الهميان ثم خرجت الى جعفر بن علي وهو يزفر فقال له حاجز الوشا: يا سيدي من الصبي لنقيم الحجة عليه ؟

٩٩

فقال: والله ما رأيته ولا اعرفه فنحن جلوس اذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن عليعليه‌السلام فتعرفوا موته فقالوا: فمن نعزي؟ فاشاروا الى جعفر ابن علي فسلموا عليه وعزوه وهنؤوه وقالوا: معنا كتب ومال فتقول ممن الكتب وكم المال؟ فقام ينفض اثوابه ويقول: تريدون منا أن نعلم الغيب؟! قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه الف دينار وعشرة دنانير منها مطلية فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجّه بك لأخذ ذلك هو الإمام.

فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف ذلك فوجّه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته، وادعت أن بها حبلاً لتغطي على حال الصبي، فسلّمت الى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيدالله بن خاقان فجأة وخروج صاحب الزنج بالبصرة فشغلوا بذلك عن الجارية فخرجت من أيديهم والحمد لله رب العالمين... »(١) .

أهدافهعليه‌السلام من الصلاة على أبيه

حقق قيام الإمام بالصلاة على أبيه ـ سلام الله عليهما ـ أمرين مهمين، كان من الضروري إنجازهما بعد وفاة الإمام الحادي عشر حيث تتطلّع أنظار الناس لمعرفة هوية الإمام الثاني عشر، بعد أن عرفنا أنّ ولادة الإمام المهدي ـ سلام الله عليه ـ كانت قد اُحيطت بالكتمان الشديد بسبب الترصد العباسي للقضاء على الوليد المصلح المرتقب، لذلك فإن هذا الظرف الخاص هو

ـــــــــــ

(١) كمال الدين : ٤٧٥ ـ ٤٧٦ .

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وعن الصادق عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ( تُكلِّم النارُ يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارئاً، وذا ثروةٍ من المال، فتقول للأمير: يا مَن وهَبَ اللّه له سلطاناً فلَم يعدل، فتزدَرِدَه كما يَزدَرِدَ الطير حبّ السمسم.

وتقول للقارئ: يا مَن تزَيّن للناس وبارَز اللّه بالمعاصي فتزدرده.

وتقول للغني: يا من وهب اللّه له دنيا كثيرةً واسعةً فيضاً، وسأله الحقير اليسير قرضاً فأبى إلاّ بُخلاً فتزدرده )(١).

وليس هذا الوعيد الرهيب مقصوراً على الجائرين فحسب، وإنّما يشمل من ضلع في ركابهم، وارتضى أعمالهم، وأسهم في جورهم، فإنّه وإيّاهم سواسية في الإثم والعقاب، كما صرحت بذلك الآثار:

قال الصادقعليه‌السلام : ( العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثتهم )(٢) .

لذلك كانت نُصرة المظلوم، وحمايته من عسف الجائرين، من أفضل الطاعات، وأعظم القربات إلى اللّه عزّ وجل، وكان لها وقعها الجميل، وآثارها الطيّبة في حياة الإنسان المادّيّة والروحيّة.

قال الإمام الكاظمعليه‌السلام لابن يقطين: ( اضمَن لي واحدةً أضمنُ لك ثلاثاً، اضمن لي أنْ لا تلقى أحداً مِن موالينا في دار الخلافة إلاّ بقضاء حاجته، أضمن لك أنْ لا يصيبك حدّ السيف أبداً، ولا يظلّك

_____________________

(١) البحار م ١٦ ص ٢٠٩ عن الخصال للصدوق ( ره ).

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٣ عن الكافي.

١٢١

سقف سجن أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً )(١) .

وقال أبو الحسنعليه‌السلام : ( إن لله جل وعزّ مع السلطان أولياء، يدفع بهم عن أوليائه ).

وفي خبر آخر: ( أولئك عتقاء اللّه من النار )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان )(٣).

وعن محمّد بن جمهور وغيره من أصحابنا قال: كان النجاشي - وهو رجلٌ من الدهاقين - عاملاً على الأهواز وفارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : إنّ في ديوان النجاشي عليّ خراجاً، وهو ممّن يَدين بطاعتك، فإنّ رأيت أنْ تكتب لي إليه كتاباً. قال: فكتب إليه أبو عبد اللّه: ( بسم اللّه الرحمن الرحيم سُرَّ أخاك يَسُرّك اللّه ).

فلمّا ورَد عليه الكتاب وهو في مجلِسه، فلمّا خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فقبّله ووضعه على عينيه ثُمّ قال: ما حاجتك ؟ فقال: عليّ خراج في ديوانك. قال له: كم هو؟ قال: هو عشرة آلاف درهم.

قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثُمّ أخرَج مثله فأمره أنْ يثبتها له لقابل، ثُمّ قال له: هل سررتك ؟ قال نعم. قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أُخرى فقال له: هل سررتك ؟ قال: نعم جعلت فداك.

_____________________

(١) كشكول البهائي طبع إيران ص ١٢٤.

(٢)، (٣) الوافي ج ١٠ ص ٢٨ عن الفقيه.

١٢٢

فأمر له بمركب، ثُمّ أمر به بجاريةٍ وغلام، وتخت ثياب، في كلّ ذلك يقول: هل سررتك ؟ فكلّما قال: نعم، زاده حتّى فرغ، فقال له: احمل فرش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعتَ إليَّ كتاب مولاي فيه، وارفع إليّ جميع حوائجك. قال: ففعل، وخرج الرجل فصار الى أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فحدثه بالحديث على جهته، فجعل يستبشر بما فعله.

قال له الرجل: يابن رسول اللّه، قد سرّك ما فعل بي ؟ قال: ( إي واللّه، لقد سرّ اللّه ورسوله )(١).

وخامة الظلم:

بديهي أنّ استبشاع الظلم واستنكاره، فطريٌّ في البشَر، تأباه النفوس الحرّة، وتستميت في كفاحه وقمعه، وليس شيء أضرّ بالمجتمع، وأدعى الى تسيبه ودماره من شيوع الظلم وانتشار بوائقه فيه.

فالإغضاء عن الظلم يشجّع الطغاة على التمادي في الغيّ والإجرام، ويحفّز الموتورين على الثأر والانتقام، فيشيع بذلك الفوضى، وينتشر الفساد، وتغدو الحياة مسرحاً للجرائم والآثام، وفي ذلك انحلال الأُمم، وفقد أمنها ورخائها، وانهيار مجدها وسلطانها.

_____________________

(١) الوافي ج ١٠ ص ٢٨ عن الكافي.

١٢٣

علاج الظلم:

من العسير جدّاً علاج الظلم، واجتثاث جذوره المتغلغلة في أعماق النفس، بيد أنّ من الممكن تخفيف جماحه، وتلطيف حدته، وذلك بالتوجيهات الآتية:

١ - التذكر لما أسلفناه من مزايا العدل، وجميل آثاره في حياة الأمم والأفراد، من إشاعة السلام، ونشر الوئام والرخاء.

٢ - الاعتبار بما عرضناه من مساوئ الظلم وجرائره المادّيّة والمعنويّة.

٣ - تقوية الوازع الديني، وذلك بتربية الضمير والوجدان، وتنويرهما بقِيَم الإيمان ومفاهيمه الهادفة الموجّهة.

٤ - استقراء سيَر الطغاة وما عانوه من غوائل الجور وعواقبه الوخيمة.

جاء في كتاب حياة الحيوان عند ذكر الحِجْلان: أنّ بعض مقدّميُّ الأكراد حضَر على سِماط بعضِ الأمراء، وكان على السماط حِجْلتان مشويتان، فنظر الكرديُّ إليهما وضحك، فسأله الأمير عن ذلك، فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر فلمّا أردت قتله، تضرّع فما أفاد تضرّعه، فلمّا رآني أقتله لا محالة، التفت إلى حِجْلتين كانتا في الجبل، فقال: اشهدا عليه إنّه قاتلي، فلمّا رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه ) فقال الأمير: قد شهدتا، ثُمّ أمر بضرب عنقه(١) .

_____________________

(١) كشكول البهائي طبع إيران ص ٢١.

١٢٤

وفي سراج الملوك لأبي بكر الطرطوسي: أنّ عبد الملك بن مروان أرِق ليلةً، فاستدعى سميراً له يحدّثه، فكان فيما حدّثه أنْ قال: يا أمير المؤمنين، كان بالموصل بومة، وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل إلاّ أنْ تجعلي صداقها مِئة ضيعة خراب! فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن، ولكن إنْ دام والينا علينا، سلّمه اللّه تعالى سنةً واحدة فعلت ذلك، فاستيقظ عبد الملك، وجلَس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض، وتفقّد أمر الولاة(١) .

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ١١٠.

١٢٥

الإخلاص

الإخلاص: ضدّ الرياء، وهو صفاء الأعمال مِن شوائب الرياء، وجعلها خالصةً للّه تعالى.

وهو قوام الفضائل، وملاك الطاعة، وجوهر العبادة، ومناط صحّة الأعمال، وقبولها لدى المولى عزّ وجل.

وقد مجّدته الشريعة الإسلاميّة، ونوّهت عن فضله، وشوّقت إليه، وباركَت جهود المتحلّين به في طائفة مِن الآيات والأخبار:

قال تعالى:( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (١) .

وقال سُبحانه:( فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) (٢).

وقال عزَّ وجل:( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٣).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَن أخلص للّه أربعين يوماً،

_____________________

(١) الكهف: ١١٠.

(٢) الزمر ( ٢ - ٣ ).

(٣) البيّنة: ٥.

١٢٦

فجّر اللّه ينابيع الحكمة مِن قلبه على لِسانه )(١) .

وقال الإمام الجوادعليه‌السلام : ( أفضل العبادة الإخلاص )(٢).

وعن الرضا عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( الدنيا كلّها جهل إلاّ مواضع العِلم، والعِلم كلّه حجّة إلاّ ما عُمِل به، والعمَل كلّه رياءٌ إلاّ ما كان مخلِصاً، والإخلاص على خطر، حتّى ينظُر العبد بما يُختَم له )(٣).

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أبا ذر، لا يفقه الرجل كلّ الفقه، حتّى يرى الناس في جنب اللّه أمثال الأباعر، ثُمّ يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حاقرٍ له )(٤).

فضيلة الإخلاص:

تتفاوت قِيَم الأعمال، بتفاوت غاياتها والبواعث المحفّزة عليها، وكلّما سمَت الغاية، وطهُرَت البواعث مِن شوائب الغشّ والتدليس والنفاق، كان ذلك أزكى لها، وأدعى إلى قبولِها لدى المولى عزّ وجل.

وليس الباعث في عرف الشريعة الإسلامية إلاّ ( النيّة ) المحفّزة على الأعمال، فمتى استهدفت الإخلاص للّه تعالى، وصَفَت مِن كدر

_____________________

(١)، (٢) البحار م ١٥ ص ٨٧ عن عدّة الداعي لابن فهد.

(٣) البحار م ١٥ ص ٨٥ عن الأمالي والتوحيد للصدوق.

(٤) الوافي ج ١٤ ص ٥٤ في وصيّة النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

١٢٧

الرياء نبلت وسعدت بشرف رضوان اللّه وقبوله، ومتى شابها الخِداع والرياء، باءت بسخَطِه ورفْضِه.

لذلك كان الإخلاص حجَراً أساسيّاً في كيان العقائد والشرائع، وشرطاً واقعيّاً لصحّة الأعمال، إذ هو نظام عقدها، ورائدها نحو طاعة اللّه تعالى ورضاه.

وناهيك في فضل الإخلاص أنّه يُحرّر المرء من إغواء الشيطان وأضاليله:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

عوائق الإخلاص:

وحيث كان الإخلاص هو المنار الساطع، الذي ينير للناس مناهج الطاعة الحقّة، والعبوديّة الصادقة، كان الشيطان ولوعاً دؤوباً على إغوائهم وتضليلهم بصنوف الأماني والآمال الخادعة: كحب السمعة والجاه، وكسب المحامد والأمجاد، وتحرّي الأطماع المادّيّة التي تمسخ الضمائر وتمحق الأعمال، وتذرها قفراً يباباً من مفاهيم الجمال والكمال وحلاوة العطاء.

وقد يكون إيحاء الشيطان بالرياء هامساً خفيفاً ماكراً، فيمارس الانسان الطاعة والعبادة بدافع الإخلاص، ولو محصها وأمعن فيها وجدها مشوبةً بالرياء. وهذا مِن أخطر المزالق، وأشدّها خفاءً وخداعاً. ولا يتجنّبها إلاّ الأولياء الأفذاذ.

كما حُكي عن بعضهم أنّه قال: ( قضَيت صلاةَ ثلاثين سنة كنت

١٢٨

صلّيتها في المسجد جماعة في الصفّ الأوّل، لأنّي تأخّرت يوماً لعُذرٍ، وصلّيت في الصفّ الثاني، فاعترتني خَجْلةٌ مِن الناس، حيث رأوني في الصفّ الثاني، فعرفت أنّ نظر الناس إليّ في الصفّ الأوّل كان يسرّني، وكان سبب استراحة قلبي.

نعوذ باللّه مِن سُبات الغفلة، وُخِدَع الرياء والغرور. من أجل ذلك يحرص العارفون على كتمان طاعاتهم وعباداتهم، خَشية من تلك الشوائب الخفيّة.

فقد نُقل: أنّ بعض العبّاد صام أربعين سنة لم يعلَم به أحد مِن الأباعد والأقارب، كان يأخذ غذاءه فيتصدّق به في الطريق، فيظنّ أهله أنّه أكل في السوق، ويظنّ أهل السوق، أنّه أكل في البيت.

كيف نكسب الإخلاص:

بواعث الإخلاص ومحفّزاته عديدة تلخصّها النقاط التالية:

١ - استجلاء فضائل الإخلاص السالفة، وعظيم آثاره في دنيا العقيدة والإيمان.

٢ - إنّ أهمّ بواعث الرياء وأهدافه استثارة إعجاب الناس، وكسب رضاهم، وبديهي أنّ رضا الناس غايةٌ لا تُدرك، وأنّهم عاجزون عن إسعاد أنفسهم، فضلاً عن غيرهم، وأنّ المُسعِد الحقّ هو اللّه تعالى الذي بيده أزِمّة الأُمور، وهو على كلّ شيء قدير، فحريٌّ بالعاقل أنْ يتّجه

١٢٩

إليه ويخلص الطاعة والعبادة له.

٣ - إنّ الرياء والخِداع سرعان ما ينكشفان للناس، ويسفران عن واقع الإنسان، ممّا يفضح المرائي ويعرضه للمقت والازدراء.

ثوب الرياء يشفّ عمّا تحته

فإذا التحفتَ به فإنّك عاري

فعلى المرء أنْ يتّسم بصدق الإخلاص، وجمال الطوية، ليكون مثلاً رفيعاً للاستقامة والصلاح.

فقد جاء في الآثار السالفة: ( إنْ رجلاً مِن بني إسرائيل قال: لأعبدنّ اللّه عبارة أُذكَر بها، فمكث مدّةً مبالِغاً في الطاعات، وجعَل لا يمرّ بملأٍ من الناس إلاّ قالوا: متصنّعٍ مراءٍ، فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك، وضيّعت عُمرك في لا شيء، فينبغي أنْ تعمل للّه سُبحانه، وأخلص عمله للّه، فجعل لا يمرّ بملأٍ من الناس إلاّ قالوا ورعٍ تقيّ ).

١٣٠

الرياء

وهو: طلب الجاه والرِّفعة في نفوس الناس، بمراءاة أعمال الخير.

وهو مِن أسوأ الخصال، وأفظع الجرائم، الموجبة لعناء المرائي وخسرانه ومقته، وقد تعاضدت الآيات والأخبار على ذمّه والتحذير منه.

قال تعالى في وصف المنافقين:( يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (١).

وقال تعالى:( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٢).

وقال سبحانه:( كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ) (٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( كلّ رياء شِرك، أنّه مَن عمِل للناس كان ثوابه على الناس، ومَن عمِل للّه كان ثوابه على اللّه )(٤).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن عبدٍ يُسِرُّ خيراً، إلاّ لم تذهب الأيّام

_____________________

(١) النساء: ١٤٢.

(٢) الكهف: ١١٠.

(٣) البقرة: ٢٦٤.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٣٧ عن الكافي.

١٣١

حتّى يُظهِر اللّه له خيراً، وما مِن عبدٍ يُسِرُّ شرَّاً إلاّ لم تذهب الأيّام حتّى يُظهِر له شرَّاً )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( سيأتي على الناس زمانٌ تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم، طمَعاً في الدنيا، لا يُريدون به ما عند ربِّهم، يكون دينهم رياءاً، لا يُخالطهم خوف، يعمّهم اللّه بعقاب فيدعونه دعاءَ الغريق فلا يستجيب لهم )(٢).

وعن موسى بن جعفر عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يؤمَر برجال إلى النار، فيقول اللّه جلّ جلاله لمالك: قل للنار لا تحرق لهم أقداماً، فقد كانوا يمشون إلى المساجد، ولا تحرق لهم وجهاً، فقد كانوا يسبغون الوضوء، ولا تحرق لهم أيدِيَاً، فقد كانوا يرفعونها بالدعاء، ولا تحرق لهم ألسُناً، فقد كانوا يُكثرون تلاوة القرآن. قال: فيقول لهم خازن النار: يا أشقياء ما كان حالكم ؟ قالوا: كنّا نعمل لغير اللّه عزّ وجل فقيل لنا خذوا ثوابكم ممّن عملتم له )(٣).

_____________________

(١) الوافي الجزء الثالث ص ١٤٧ عن الكافي.

(٢) الوافي الجزء الثالث ص ١٤٧ عن الكافي، ودعاء الغريق: أي كدعاء المشرف على الغرق، فإنّ الاخلاص والانقطاع فيه إلى اللّه عزّ وجل أكثر من سائر الأدعية.

(٣) البحار م ١٥ بحث الرياء ص ٥٣ عن عِلل الشرائع وثواب الاعمال.

١٣٢

أقسام الرياء

ينقسم الرياء أقساماً تُلخّصها النقاط التالية:

١ - الرياء بالعقيدة: بإظهار الايمان وإسرار الكُفر، وهذا هو النفاق وهو أشدّها نُكراً وخطَراً على المسلمين ؛ لخفاء كيده، وتستّره بظلام النفاق.

٢ - الرياء بالعبادة مع صحّة العقيدة:
وذلك بممارسة العبادات أمام ملأ الناس، مراءاةً لهم، ونبذها في الخَلوة والسرّ، كالتظاهر بالصلاة، والصيام، وإطالة الركوع والسجود والتأنّي بالقراءة والأذكار وارتياد المساجد، وشهود الجماعة، ونحوه من صور الرياء، في صميم العبادة أو مكمّلاتها، وهنا يغدو المُرائي أشدُّ إثماً مِن تارك العبادة، لاستخفافه باللّه عزّ وجل، وتلبيسه على الناس.

٣ - الرياء بالأفعال: كالتظاهر بالخشوع، وتطويل اللحية، ووسم الجبهة بأثر السجود، وارتداء الملابس الخشنة ونحوه من مظاهر الزهد والتقشّف الزائفة.

٤ - الرياء بالأقوال: كالتشدّق بالحكمة، والمراءاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتذكير بالثواب والعقاب مداجاةً وخداعاً.

دواعي الرياء:

للرياء أسباب ودواع نُجملها فيما يلي:

١ - حُب الجاه: وهو مِن أهمّ أسباب المراءاة ودواعيه.

١٣٣

٢ - خوف النقد: وهو دافع على المراءاة بالعبادة، وأعمال الخير، خشية من قوارص الذم والنقد.

٣ - الطمع: وهو من محفّزات الرياء وأهدافه التي يستهدفها الطامعون، إشباعاً لأطماعهم.

٤ - التستّر: وهو باعث على تظاهر المجرمين بمظاهر الصلاح المزيفة، إخفاءاً لجرائمهم، وتستّراً عن الأعيُن.

ولا ريب أنّ تلك الدواعي هي من مكائد الشيطان، وأشراكه الخطيرة التي يأسر بها الناس، أعاذنا اللّه منها جميعاً.

حقائق:

ولا بدّ من استعراض بعض الحقائق والكشف عنها إتماماً للبحث:

١ - إختلفت أقوال المحقّقين، في أفضليّة اخفاء الطاعة أو اعلانها.

ومجمل القول في ذلك، إنّ الأعمال بالنيات، وأنّ لكلّ امرئ ما نوى، فما صفا مِن الرياء فسَواء إعلانه أو إخفاؤه، وما شابه الرياء فسيّان إظهاره أو إسراره.

وقد يُرجّح الإسرار أحياناً للذين لا يُطيقون مدافعة الرياء لشدّة بواعثه في الإعلان. كما يُرجّح إعلان الطاعة، إنْ خلُصت من شوائب الرياء، وقُصِد به غرضٌ صحيح، كالترغيب في الخير والحثّ على الاقتداء.

٢ - ومَن استهدف الإخلاص في طاعته وعبادته، ثُمّ اطلع الناس

١٣٤

عليها، وُسرّ باطلاعهم واغتبط، فلا يقدح ذلك في إخلاصه، إنْ كان سروره نابعاً عن استشعاره بلطف اللّه تعالى، وإظهار محاسنه والستر على مساوئه تكرماً منه عزّ وجل.

وقد سئل الامام الباقرعليه‌السلام عن الرجل يعمل الشيء مِن الخير فيراه إنسانٌ فيسرّه ذلك، فقال: ( لا بأس، ما مِن أحدٍ إلاّ وهو يحبُّ أنْ يظهر اللّه له في الناس الخير، اذا لم يكن صنع ذلك لذلك )(١).

٣ - وحيث كان الشيطان مجدّاً في إغواء الناس، وصدّهم عن مشاريع الخير والطاعة، بصنوف الكيد والإغواء، لزِم الحذر والتوقّي منه، فهو يُسوّل للناس ترك الطاعة ونبذ العبادة، فإنْ عجَز عن ذلك أغراهم بالرياء، وحبّبه إليهم، فإنْ أخفَق في هذا وذاك، ألقى في خُلدِهم أنّهم مراؤون وأعمالهم مشوبةٌ بالرياء، ليسوّل لهم نبذها وإهمالها.

فيجب والحالة هذه طرده، وعدم الاكتراث بخِدَعه ووَساوِسه، إذ المخلص لا تضرّه هذه الخواطر والأوهام.

فعن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام : إنّ النبيّ قال: ( اذا أتى الشيطان أحدكم وهو في صلاته فقال: إنّك مرائي، فليُطل صلاته ما بدا له، ما لم يفته وقت فريضة، واذا كان على شيء من أمر الآخرة فليتمكث ما بدا له، واذا كان علي شيء من أمر الدنيا فليسترح...)(٢) .

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٤٨ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ص ٥٣ عن قرب الإسناد.

١٣٥

مساوئ الرياء:

الرياء من السجايا الذميمة، والخِلال المقيتة، الدالّة على ضِعة النفس، وسُقم الضمير، وغباء الوعي، إذ هو الوسيلة الخادعة المُدجَلة التي يتّخذها المتلوّنون والمنحرفون ذريعةً لأهدافهم ومآربهم، دونَما خجَلٍ واستحياءٍ مِن هوانِها ومناقضتها لصميم الدين والكرامة والإباء.

وحسبُ المرائي ذمّاً أنّه اقترف جُرمين عظيمين:

تحدّى اللّه عزّ وجل، واستخفّ بجلاله، بإيثار عباده عليه في الزلفى والتقرّب، ومخادعة الناس والتلبّس عليهم بالنفاق والرياء.

ومثَل المرائي في صفاقته وغبائه، كمَن وقَف إزاء ملِكٍ عظيم مظهِراً له الولاء والإخلاص، وهو رغم موقفه ذلك يخاتل الملِك بمغازلة جواريه أو استهواء غِلمانه.

أليس هذا حريّاً بعقاب الملك ونكاله الفادحين على تلصصه واستهتاره.

ولا ريب أنّ المرائي أشدّ جرماً وجنايةً من ذلك، لاستخفافه باللّه عزّ وجل، ومخادعة عبيده. والمرائي بعد هذا حليف الهم والعناء، يستهوي قلوب الناس، ويتملق رضاهم، ورضاهم غاية لا تنال، فيعود بعد طول المعاناة خائباً، شقيّاً، سليب الكرامة والدين.

ومن الثابت أنّ سوء السريرة سرعان ما ينعكس على المرء، ويكشف واقعه، ويبوء بالفضيحة والخُسران.

١٣٦

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلم

وقد أعرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك قائلاً: ( مَن أسرّ سريرةً ردّأه اللّه رِداءها، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرَّاً فشر )(١).

علاج الرياء:

وبعد أنْ عرفنا طرَفاً مِن مساوئ الرياء، يجدر بنا أنْ نعرض أهمّ النصائح الأخلاقيّة في علاجه وملافاته، وقد شرحت في بحث الإخلاص طرفاً من مساوئ الرياء ومحاسن الإخلاص فراجعه هناك.

علاج الرياء العمَلي:

وذلك برعاية النصائح المجملة التالية:

١ - محاكمة الشيطان، وإحباط مكائده ونزعاته المرائيّة، بأُسلوب منطقي يقنع النفس، ويرضي الوجدان.

٢ - زجر الشيطان وطرد هواجسه في المراءاة، طرداً حاسماً، والاعتماد على ما انطوى عليه المؤمن من حبّ الاخلاص، ومقت الرياء.

٣ - تجنب مجالات الرياء ومظاهره، وذلك باخفاء الطاعات والعبادات وسترها عن ملأ الناس، ريثما يثق الإنسان بنفسه، ويحرز فيها الاخلاص.

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٤٧ من خبر عن الكافي.

١٣٧

ومِن طرائف الرياء والمرائين ماقيل:

إنّ أعرابيّاً دخل المسجد، فرأى رجلاً يُصلّي بخشوعٍ وخضوع، فأعجبه ذلك، فقال له: نعم ما تُصلّي.

قال: وأنا صائم، فإنّ صلاة الصائم، تَضعُف صلاةَ المفطر.

فقال له الأعرابي: تفضّل واحفظ ناقتي هذه، فإنّ لي حاجةً حتّى أقضيها. فخرج لحاجته، فركب المصلّي ناقته وخرَج، فلمّا قضى الأعرابي حاجته، رجع ولم يجد الرجل ولا الناقة، وطلبه فلم يقدر عليه، فخرج وهو يقول:

صلّى فأعجبني وصام فرامني

منح القَلُوص عن المصلّي الصائم

وصلّى أعرابيّ فخفّف صلاته، فقام إليه عليّعليه‌السلام بالدرّة وقال: ( أعِدْها )، فلمّا فرغ، قال: ( أهذه خير أم الأولى ؟) قال: بل الأُولى، قال: ( ولِمَ )، قال: لأنّ الأُولى للّه وهذه للّدرة.

١٣٨

العُجُب

وهو استعظام الإسنان نفسه، لاتّصافه بخِلّةٍ كريمة، ومزيّةٍ مشرّفة، كالعِلم والمال والجاه والعمَل الصالح.

ويتميّز العجُب عن التكبّر، بأنّه استعظام النفس مجرّداً عن التعالي على الغير، والتكبّر هما معاً.

والعُجُب من الصفات المَقيتة، والخلال المنفّرة، الدّالة على ضعة النفس، وضيق الأفق، وصفاقة الأخلاق، وقد نهت الشريعة عنه، وحذّرت منه.

قال تعالى:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) (١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( من دخله العُجب هلك )(٢)

وعنهعليه‌السلام قال: ( قال إبليس ( لعنَه اللّه ) لجنوده: اذا استمكنت مِن ابن آدَم في ثلاث لم أُبال ما عمَل، فإنّه غير مقبولٍ منه، إذا استكثر عمَله، ونسيَ ذنبه، ودخلَه العُجُب )(٣).

_____________________

(١) النجم: ٣٢.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥١ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٣ موضوع العجب بالأعمال عن الخصال للصدوق.

١٣٩

وقال الباقرعليه‌السلام : ( ثلاثٌ هن قاصمات الظهر: رجلٌ استكثر عمله، ونسي ذنوبه، وأعجب برأيه )(١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( أتى عالمٌ عابداً فقال له: كيف صلاتك ؟ فقال: مثلي يُسأل عن صلاته ؟ وأنا أعبُد اللّه تعالى مُنذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك ؟ قال: أبكي حتّى تجري دموعي. فقال له العالِم: فإنّ ضحكك وأنت خائف خير ( أفضل خ ل ) مِن بكائك وأنت مُدِل، إنّ المدل لا يصعّد مِن عمله شيء )(٢) .

وعن أحدهماعليهما‌السلام ، قال: ( دخل رجُلان المسجد أحدهما عابدٌ والآخر فاسق، فخرجا من المسجد، والفاسق صدّيق، والعابد فاسق، وذلك: أنّه يدخل العابد المسجد مدلاًّ بعبادته، يُدِلّ بها، فيكون فكرته في ذلك، ويكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه، ويستغفر اللّه تعالى لما ذَكَرَ من الذنوب )(٣).

وعن أبي عبد اللّه عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لولا أنّ الذنب خيرٌ للمؤمن من العجُب، ما خلّى اللّه بين عبده المؤمن وبين ذنبٍ أبداً )(٤).

والجدير بالذكر: أنّ العُجُب الذميم هو استكثار العمَل الصالح،

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٣ موضوع العجُب بالأعمال عن الخصال للصدوق.

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٥١ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ٣ ص ١٥١ عن الكافي.

(٤) البحار م ١٥ ج ٣ بحث العجُب عن أمالي أبي عليّ ابن الشيخ الطوسي.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199