الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 256028 / تحميل: 14813
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام زين العابدين

السيد زهير الأعرجي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا ) (١) .

وعن الإمام الرضاعليه‌السلام قال : (رحم الله عبداً أحيى أمرنا) قيل له : كيف يحيي أمركم ؟ قالعليه‌السلام : (يتعلم علومنا ويعلمها الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا )(٢) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الأحزاب : الآية ٣٣ .

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ص ١٧١ .

٢

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على محمدٍ رسول الله ، وعلى آله الطيبين الطاهرين .

وبعد .

هذا الكتاب يتناول سيرة الإمام الرابع من أئمة أهل البيت علي بن الحسينعليه‌السلام ، وخصائصه الشخصية ، وآثاره في العلم والحكمة والموعظة .

وشخصية علي بن الحسينعليه‌السلام المعروف بالسجاد وزين العابدين لها أهمية تأريخية وعقائدية متميزة لسببين :

الأول : إمتلاكه اللياقة التامة الكاملة لمنصب الإمامة الكبرى وهو منصب إلهي مجعول من قبل الله تعالى ، كما أشار القرآن الكريم :( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً ) (١) وتلك اللياقة تعني حيازة الفضائل الإنسانية والكمالات الروحية والعلمية والجسدية واللياقة لا تكتمل إلا بعلمٍ رباني وفيضٍ إلهي يحيط بجميع شؤون ولاية الإمامعليه‌السلام ، وبمَلَكَة روحية تصونه عن الخطأ والنسيان ، والجهل والعصيان .

ــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤ .

٣

الثاني : طرق البيان اللفظي الرائع التي تميز بها السجادعليه‌السلام في زمن حفَلَ بالأدب والبلاغة والشعر ولكن لم يرقَ إلى نثر أهل البيتعليه‌السلام الديني الرائع غير أدبهم ، ولم تسمو إلى تلك المفاهيم المترابطة غير ألسنتهم الناطقة بالحق والصدق فقد أطنب الإمامعليه‌السلام في أدعيته ومناجاته ومواعظه وحكمه ودروسه في وصف الجنة والنار ، والنعيم والعذاب ، والآخرة والدنيا ، والخير والشر ، والإيمان والفسوق ، تشويقاً وتهويلاً ولا شك ان الإطناب في فلسفة اللغة من أرقى أساليب البلاغة ومن أروع صورها ووجوهها .

وبكلمة ، فقد مثَّلَ زين العابدينعليه‌السلام المنار الشامخ للخير والهداية في زمن عمَّ فيه الظلم والظلام وكلماته البليغة وسيرته العطرة سوف تبقى نموذجاً لشمولية الإسلام لكل جوابن الرحمة والمحبة في حياة الإنسان .

وله سبحانه وتعالى الشكر على إتمام النعمة ، وقبول العمل ، وغفران الزلل ، وحسن العاقبة في المبدأ والمآل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير .

زهير طالب الأعرجي

الأول من محرم الحرام ١٤٢٥ هـ

الحوزة العلمية

٤

محتويات الكتاب :

الفصل الأول : الترجمة التأريخية

الفصل الثاني : الخصائص الشخصية

الفصل الثالث : المعالم الإجتماعية

الفصل الرابع : الآثار المدوَّنة

الفصل الخامس : نصوصٌ منتقةُ

الفصل الأول : الترجمة التأريخية

ولادة علي بن الحسين عليه‌السلام

إذا أراد المؤرخ أن يؤرخ لحياة الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام ، فلابد أن يرجع قليلاً الى الوراء ، وبالتحديد الى فتح بلاد فارس زمن الخليفة الثاني فقد فتحت بلاد الفرس في السنة السادسة عشرة من الهجرة ، الا ان ملكها (يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز) هرب من عاصمة مملكته بعد سقوط المدائن بيد المسلمين ، وبقي متخفياً في أرياف فارس أربعة عشر عاماً حتى قتل سنة ٣٠ هجرية في مرو وصادف مقتله السنة السادسة من خلافة عثمان بن عفان .

وتشير الروايات التاريخية الى ان يزدجرد وصل الى المُلك سنة ١٦ هـ (بعد تمصير البصرة) أي بعد أربع سنوات فقط من تملك أبيه شهريان الذي أعتلى عرش فارس سنة ١٢ هـ أما جدهم كسرى أبرويز فقد قتل سنة وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي سنة ٣٦ هـ ، وهي السنة التي تصدى فيها علي بن أبي طالبعليه‌السلام للخلافة ، أرسلعليه‌السلام حريث بن جابر والياً على جانب المشرق ، فظفر بابنتي يزدجرد بن شهريار ، وبعثهما اليهعليه‌السلام وهو بالكوفة فنحل الامامعليه‌السلام شاه زنان الى ولده الحسين سيد شباب اهل الجنةعليه‌السلام فولدت له علي بن الحسينعليه‌السلام في الخامس من شهر

٥

شعبان سنة ٣٨ هـ(١) في الكوفة ، وقيل في المدينة وهو بعيد ونحل الأخرى إلى محمد بن أبي بكر ، فولدت له القاسم ، وهو فقيه معروف(٢) ونُسب إلى الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام انه كان يرى أن بنات الملوك ينبغي ان لا يعاملن معاملة الأسرى ولو كن كافرات(٣) ، وسنناقش دلالة ما نُسب إليهعليه‌السلام عما قليل .

وعندما قدمها أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى الحسينعليه‌السلام أوصاه بالإحسان إليها ، وسماها فاطمة تكريماً لها وتنبأعليه‌السلام نبوءته الصادقة : (يا أبا عبد الله لتلدن لك خير أهل الأرض ).

وهكذا كان ، فقد انجبت له زين العابدينعليه‌السلام وكان فعلاً خير أهل الأرض في ذلك الزمان ومواصفات فاضلة كتلك ، جعل تلك المرأة الكريمة تستحق لقب (سيدة النساء) حيث كانت تعرف به(٤) وهو لا يتعارض مع لقب فاطمة الزهراءعليه‌السلام ففاطمةعليه‌السلام في الحديث المستفيض عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين و(شاه زنان) سيدة نساء زمانها فلا تعارض في اللقبين .

ــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤول ج ٢ ص ٤١ والفصول المهمة لابن الصباغ ص ٢٠١ .

(٢) الإرشاد للمفيد ص ٢٨٤ وبحار الانوار ج ٤٦ ص ١٢ ح ٢٣ وعوالم العوالم ج ١٨ ص ٩ ح ٥.

(٣) تجد روايات فريبة من ذلك في الكافي ج ١ ص ٤٦٦ ح ١ وبصائر الدرجات ص ٣٣٥ ح ٨ .

(٤) نور الابصار للشبلنجي ص ١٢٦ .

٦

وحدثٌ بهذا الوزن لابد ان يؤرخه الشعراء ، فتصدى لذلك الصحابي التابعي أبو الاسود الدؤلي ( ت ٦٧ هـ ) في بيتٍ شعري رائع :

وإنّ وليداً بين كسرى وهاشمٍ

لأكرمُ من نيطت عليه التمائمُ(١)

ولم تمكث سيدة النساء بعد وضع وليدها الا قليلاً ، فقد أصابتها حمى النفاس فتوفيت (رض) على أثر ذلك فبقي الوليد يتيماً من جهة الأم فأوكل الإمام الحسينعليه‌السلام حضانته إلى إحدى النساء من أهل الصلاح والتقوى .

ــــــــــــــــ

(١) بحار الانوار ج ٤٦ ص ١٦٦ نيطت : علّقت والتمائم : خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين وقد زعم بعض الباحثين بأن خلو ديوان أبي الأسود الدؤلي (تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين ، بغداد ١٩٥٤ م) من هذا البيت يرجح عدم صحة القصة ولكن هذا ترجيح بدون مرجح ، لأ، خلو الديوان لا يعني عدم صحة نسبة البيت الى الدؤلي خصوصاً وان من يجمع الديوان بعد وفاة الشاعر قد يحذف بعض المواد حسبما يرتأيه فكره وعقيدته وذوقه وعلى أية حال فقد ورد قريباً من لفظ هذا البيت في شعر الرماح ين يزيد المري المشهور بابن ميادة ( ت ١٣٦ هـ ) لما فخر بنفسه أباً واماً فقال :

انا ابن أبي سلمى وجدي ظالم

وأمي حصان حصنتها الأعاجمُ

أليس غلام بين كسرى وظالم

بأكرم من نيطت عليه التمائم ؟

٧

الأم الموحدة ودلالة ( لتلدن لك خير أهل الأرض )

وقد يثار تساؤل هنا ، وهو : كيف تمكنت امرأة وثنية على الظاهر ، غير عربية ، بنت أحد الملوك الذين بقوا على وثنيتهم ، من السمو إلى تلك الدرجة الكريمة لتكون أماً لإمام طاهر معصوم من أئمة المسلمين ؟

وجواب ذلك نرتبه في نقاط تالية :

١ ـ ان التوحيد قد رفع أفراداً كانوا يعيشون في أمم جاهلية تعبد الأوثان ؛ فكان الموحدون يخفون عقيدتهم أو يلوذون بالصمت أمام تيار الشرك والافتراض الصحيح ان سيدة النساء كانت امرأة موحدة في أمة كافرة ، لم تلوثها أوساخ الوثنية وهي ليست بمعزل عن أ÷ل التوحيد في ذلك الزمان فقد عاش الموحدون من بني هاشم في مجتمع قريش الوثني ، ولم يلوثهم درن الوثنية الجاهلية .

وأكثر ما استطاع الأمويون تزويره في هذا النطاق هو الزعم بان أم السجادعليه‌السلام كانت من سبايا كابل ، كما أرسلها اليعقوبي في تاريخه دون تدقيق(١) والخطأ واضح لان فتح كابل كان في سنة ثلاث واربعين للهجرة على يد عبدالرحمن بن سمرة الأموي من قبل

ــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٤٦ طبعة النجف .

٨

معاوية والسجادعليه‌السلام ولد سنة ٣٨ للهجرة بالاتفاق فلا يصح ذلك الزعم .

٢ ـ من المحتمل قوياً أن أمر إيمان ابنيّ ( يزجرد ) بالله عزوجل وبمبدأ التوحيد كان شائعاً في ذلك الزمان وإلاّ ، فان الإمام علياًعليه‌السلام لايمكن أن يتسرع في نحل امرأة لايعرف عن ماضيها وحاضرها شيئاً لابنه الحسينعليه‌السلام ، ويوعده بانها ستكون من أفضل نساء زمانها وستلد له خير أهل الأرض خصوصاً إذا لحظنا تأكيد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حسن إختيار الزوجة ، مثل كون الخال أحد الضحيعين فاختاروا لنطفكم(١) ، وتوقوا على أولادكم من لبن البغي والمجنونة فان اللبن يعدي(٢) ، والنهي عن استرضاع الحمقاء لأن الولد ينزع إلى اللبن(٣) ، ونحوها من الأخبار .

وحتى ما قيل عن رأهعليه‌السلام من ان بنات الملوك لا يعاملن معاملة الأسرى ، لاتفسر مغزى قولهعليه‌السلام للحسين : ( يا أبا عبدالله لتلدن لك خير أهل الأرض ) ومجرد اطلاق عنوان السلطة الوارثية والأمارة السياسية دون افتراض الصلاح والتقوى والإيمان ، لايمكن ان يوّلد خيراً على الأرض .

ــــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي .

(٢) المقنعة للشيخ المفيد ص ٦١ .

(٣) نوادر الراوندي ص ١٣ .

٩

ولكننا نميل إلى ان ما قالهعليه‌السلام في سيدة النساء يدل دلالة قوية على انها كانت امرأة استثنائية فهو على الأقل يعلم انها امرأة موحدة مؤمنة بلاله عزوجل وهذا ليس غريباً ، فالتاريخ ينقل لنا قصص مشابهة لنساء مؤمنات في أسر كافرة ، منها : امرأة فرعون الموحدة المؤمنة التي دعت الله عزوجل ان يبني لها بيتاً في الجنة وان ينجيها من فرعون وعمله ولا يشك أحد بكفر فرعون وظلمه وتعديه على حقوق الخلق وخالق .

قال المجلسي في ( بحار الأنوار )(١) : ان أم السجادعليه‌السلام رأت فاطمة الزهراءعليه‌السلام وأسلمت قبل ان يأخذها عسكر المسلمين ولها قصة وهي أنها قالت : رأيت في النوم ـ قبل ورود عسكر المسلمين ـ كأن محمداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل دارنا ، وجلس مع الحسينعليه‌السلام وخطبني له وزوّجني منه ، فلما أصبحت كان ذلك يؤثر في قلبي وما كان لي خاطر غير هذا فلما كان في الليلة الثانية رأيت فاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أتتني وعرضت عليّ الإسلام فأسلمت ثم قالتعليه‌السلام : (إن الغلبة تكون للمسلمين ، وإنك تصلين عن قريب الى ابني الحسين سالمة لا يصيبك بسوء أحد ) قالت : وكان من الحال أني خرجت الى المدينة ما مسّ يدي انسان .

ــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١١ نقلاً عن كتاب الخرائج .

١٠

ونقل الشيخ المفيد ( ت ٤١٣ هـ ) ان أمير المؤمنينعليه‌السلام سأل شاه زنان حين أسرّت : ( ما حفظت عن أبيك بعد وقعة الفيل ؟ ) قالت : حفظت عنه انه كان يقول : إذا غلب الله على أمر ذلت المطامع دونه ، وإذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة فقالعليه‌السلام : ( ما أحن ما قال أبوك ! تذلّ الأمور للمقادير ، حتى يكون الحتف في التدبير )(١) .

أقول : وربما كان المقصود من لفظ ( أبيك ) في قول الإمامعليه‌السلام هو جدها كسرى لإحتمال وجوده في الملك عام الفيل وعلى أية حال فان ذلك القول يدلّ على حسن نظر وقوة رأي .

٣ ـ لو لم تكن سيدة النساء موحّدة ومؤمنة ومن أهل الصلاح ومعروفة بذلك ، لما ترك يزيد ذلك الأمر عندما واجه الإمام زين العابدينعليه‌السلام في بلاط الخلافة في الشام بعد أقل من شهر من واقعة كربلاء سنة ٦١ هـ وقد أنتقص من كان على شاكلة ( يزيد ) ابن الأمة ، أو زوج الأمة بعد عتقها ولنا في ذلك قرائن تاريخية تؤيد ما ذهبنا إليه :

أ ـ فقد عيّر هشام بن عبد الملك زيداً بن علي بانه ابن أمة مع ان الله عزوجل حلل الأماء قال هشام لزيد : أنت المؤهّل نفسك للخلافة ، الراجي لها ؟ وما أنت وذاك لا أمّ لك ، وإنما أنت ابن أمةٍ فقال زيد

ــــــــــــــــ

(١) الإرشاد ص ١٦٠ .

١١

 (رض) : (اني لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبي بعثه وهو ابن أمة فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيمعليه‌السلام فالنبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام ؟ وبعد فما يقصر برجل أبو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن علي بن ابي طالبعليه‌السلام ؟ ) وفي ذلك دلالة على ان أمر الأمة كان محل انتقاص عند العرب زمن الجاهلية ، ومن بقي عليها زمن الإسلام .

ب ـ وحاول عبدالملك بن مروان الانتقاص من الإمام زين العابدينعليه‌السلام لانه اعتق أمة ثم تزوجها على سنة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأجابه الإمامعليه‌السلام بعد ان ذكّره بسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمر : (... وقد رفع الله بالسلام الخسيسة ، وتمم به النقيصة )(١) وهذه الرواية على شاكلة سابقتها في كون الإماء من موارد الانتقاص عند العرب زمن الجاهلية .

وسكوت يزيد أقوى دليل على ان أم الإمام زين العابدينعليه‌السلام كانت من الإيمان والاصلاح ما كان معروفاً ومشهوراً في ذلك الزمان .

وإن كان هذا ينطبق على سيدة النساء ، فانه بالدلالة التاريخية ينطبق على أختها أم القاسم ، زوجة محمد بن أبي بكر .

ــــــــــــــــ

(١) الكافي على هامش مرآة العقول ج ٣ ص ٤٤٨ .

١٢

٤ ـ لم يظهر من الأحاديث المروية في الكتب الرواثية عن ان ابنيّ يزدجرد كانتا من سبايا الفرس ، عدا رواية ابن جرير الطبري في دلائل الإمامة ص ٨١ ولا نعمل مدى صحة رواية الطبري ، خصوصاً وانها تذكر بانهما دخلتا على عمر بن الخطاب في المدينة وهو غير صحيح ، لان يزدجرد كان حياً في زمن عمر ، و لم يقتل حتى سنة ٣٠ هـ ، وكان ذلك في خلافة عثمان ودخولها الى معسكر المسلمين كان بعد مقتل أبيها فرواية الطبري ساقطة تاريخياً .

اذن نستنتج بانهما لم يكونا من سبايا الفرس ، وربما كان رغبتهما للإتصال بالمسلمين زمن الإمام العادل علي بن ابي طالبعليه‌السلام دعاؤه لوالديه ، ويشمل أمه بالدلالة التضمنية ، هو دليل آخر على إيمانها ولو كانت مشركة لما جاز له الدعاء لها .

وكان للامام الحسينعليه‌السلام أمة ربّت السجادعليه‌السلام واشتهرت بانها أمّه وعنها قيل للسجادعليه‌السلام : أنت من أبر الناس ولا نراك تأكل مع أمك فقالعليه‌السلام : (اني أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فاكون قد عققتها )(١) وأرادعليه‌السلام بلزوم رعاية حق المربية ، وأطلق على مخالفتها اسم العقوق فهنا جملة أمور :

ــــــــــــــــ

(١) الكامل للمبرد ج ١ ص ١٦١ وعيون الاخبار لابن قتيبة ج ٣ ص ٩٧ .

١٣

أ ـ انهعليه‌السلام لم يتعمد مخالفتها وانما تخوف من سبق يده لما سبقت عينها اليه .

ب ـ انها لم تكن أمه البيولوجية ( التكوينية ) ، بل كان أمه الاعتبارية التي نزلت بمنزلة الأم من حيث الرعاية .

ج ـ ينبغي ، مفهوماً حسبما يستفاد من هذه الرواية ، ان يكون حال الولد مع أمه التكوينية ـ وهي التي حملته تسعة اشهر وتحملت مشاق الولادة والرضاعة من أجله ـ أعظم وأكبر .

والخلاصة ، انه لايمكن حمل عقيدة والدة الإمام زين العابدينعليه‌السلام إلاّ على محمل الإيمان بالله عز وجل ومبدأ التوحيد ونحلها للحسينعليه‌السلام كان قد شرّفها ، ووضعها في المحل الطاهر الذي كانت تأمله كل موحّدة بالله لم تتهيأ لها الظروف لإعلان إسلامها أمام الملأ الواسع العريض .

مراحل حياة الإمام علي بن الحسين ( ٣٨ ـ ٩٥ هـ )

ويمكننا تقسيمن حياة الإمام السجادعليه‌السلام إلى ثلاث مراحل متصلة ومتضافرة بعضها مع الآخر الأولى : وتمتد من سنة ٣٨ هجرية ن وهو تاريخ ولادته بالكوفة الى بداية سنة ٦١ ، وهي السنة التي شهدت واقعة كربلاء واستشهاد والده الحسينعليه‌السلام مع من

١٤

صرع في أرض الطف والثانية : وتمتد من سنة ٦١ هجرية وحتى سنة ٦٧ هـ ، وهي الفترة الواقعة بين مقتل الحسينعليه‌السلام ومقتل قاتليه ، والثالثة : تمتد من سنة ٦٧ هـ وحتى استشهاد سنة ٩٥ هـ على يد الوليد بن عبدالملك بن مروان وفترة إمامة السجادعليه‌السلام الدينية والاجتماعية تغطي المرحلتين الثانية والثالثة ، وهي أربع وثلاثين عاماً وعاصر في مدة إمامته : يزيد بن معاوية ، ومعاوية بن يزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبدالملك بن مروان ، والوليد بن عبدالملك وسوف نبحث الآن المرحلة الأولى من حياتهعليه‌السلام بصورة مفصّلة .

المرحلة الأولى : ( سنة ٣٨ ـ ٦١ هـ )

قضى السجادعليه‌السلام هذه الفترة من حياته ، وهي من تاريخ ولادته وحتى استشهاد والده الحسينعليه‌السلام في كربلاء ، حياةً اسرية طبيعية تلقى فيها صنوف التربية الروحية من والدهعليه‌السلام بالخصوص لكنه عاش فترة مضطربة سياسياً ، على المستوى الاجتماعي فقد عاصرعليه‌السلام وهو في الثانية من عمره استشهاد جده علي أمير المؤمنينعليه‌السلام في الكوفة وعاصر ، وهو في الثالثة عشرة من عمره استشهاد عمه الإمام الحسنعليه‌السلام في المدينة المنورة ورافق أباه الحسينعليه‌السلام تمام مدة إمامته وهي عشر سنوات ، وحضر واقعة كربلاء حيث استشهد والده واخوته وعمه العباس وابناء عمومته ، وهو في الثالثة والعشرين من عمره .

١٥

وقد أعتاد أئمة أهل البيتعليه‌السلام بوصية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإذعان للإمام الحيعليه‌السلام والصمت بمعنى أنهم كانواعليه‌السلام لا يدلون برأي شرعي او مسألة فقهية أو حكم للناس ، وإمام منصوص عليه موجودٌ بينهم ، بل كانوا يتركون ذلك للإمام المنصوص عليه فلم ينهض الحسنعليه‌السلام بأعباء الإمامة بحضرة والده الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينهض الحسينعليه‌السلام بأعباء الإمامة بحضرة أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام فلا غرابة ان نلمس صمت زين العابدينعليه‌السلام في حضرة والده الامام الحسينعليه‌السلام الى ان استشهد في كربلاء سنة ٦١ هـ وعنهدا جاء دورهعليه‌السلام في إرشاد الناس .

ومرحلة الإعداد تلك تبدأ بالولادة ، ثم الطفولة ، والشباب ، والزواج ، وحتى الذهاب الى كربلاء وما حصل فيها .

الاحتفاء بالمولود

لايخفى ان ولادة علي بن الحسينعليه‌السلام في ٥ شعبان سنة ٣٨ هـ(١) كانت مورداً للاحتفاء عند آل البيتعليه‌السلام لسببين :

ــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤول ج ٢ ص ٤١ ونور الأبصار ص ١٥٣ .

١٦

الأول : كرامة المولود التي عبرت عنها روايات متواترة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت قد تنبأت بمولودٍ يملأ الدنيا عبادة وسجوداً ، وتضرعاً وخشوعاً منها : ما رواه الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري ، قال : كنت جالساً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا جابر ، يولد له مولود اسمه علي ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد ، فان أنت أدركته يا جابر فاقرأه مني السلام )(١) وداوم جابر على التقرب من أهل البيتعليه‌السلام ، وكانت له علاقة متميزة بالامام زين العابدينعليه‌السلام ، وكان يصلي وراءهعليه‌السلام .

وكان الزهري(٢) إذا حدّث عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال : حدثني ( زين العابدين ) علي بن الحسين فقال له سفيان بن عيينة :ولم تقول له زين العابدين ؟ قال : لأّني سمعت سعيد بن المسيب يحدّث

ــــــــــــــــ

(١) هذا الحديث وفي لفظه أحاديث أخرى أخرجها في إحقاق الحق ج ١٢ ص ١٣ ـ ١٦ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٩ ص ١٠٦ .

(٢) كان محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ( ٥٨ ـ ١٢٤ هـ ) من حاشية آل مروان ، فكان معلماً لأولاد هشام بن عبدالملك ( تهذيب التهذيب ج٩ ص ٤٤٩ ) حيث أمره هشام أن يملي على أولاده أحاديث فأملى عليهم أربعمائة حديث مما لا يتصل بفضائل أهل البيتعليه‌السلام فأطراه علماء العامة ورفعوه فوق مستوى العلم والفضيلة قال أبو علي الحائري في منتهى المقال في ترجمته : لا ريب في عداوته ونصبه لأمير المؤمنينعليه‌السلام أدرجه العلامة الحلي وابن داود في رجالهما في الضعفاء ، ولم يعتد به الشيخ محمد طه نجف ، حيث لم يأت على ذكره في ( اتقان المقال ) .

١٧

عن ابن عباس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ أين زين العابدين ؟ فكأني أنظر الى ولدي علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب يخطر بين الصفوف )(١) .

الثاني : الجمع عند علي بن الحسينعليه‌السلام بين ملامح عنصرين هما صلب العرب وترائب العجم وهو أمرٌ جديد على وجه التقريب إلا إذا أخذنا بنظر الإعتبار هنا زواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ماريا القبطية المهداة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حاكم الاسكندرية القبطي إلا ان ماريا كانت عربية من الأقباط ، بينما كانت سيدة النساء من العجم .

ولا نجد غرابة اذن في أن يطلق الإمام الجسينعليه‌السلام على ابنه عليعليه‌السلام لقب : ابن الخيرتين فخيرته من العرب قريش ( ومن قريش بني هاشم ) ومن العجم أهل فارس ، وهم أقرب الأقوام بعد العرب آنذاك إلى الإسلام .

ولا غرابة في أن ينشد أبو الأسود الدؤلي :

وان وليداً بين كسرى وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم

ــــــــــــــــ

(١) علل الشرائع ج ١ ص ٢٦٩ والامالي ص ٣٣١ .

١٨

في الأسرة

والمشهور شهرة عظيمة ان السجادعليه‌السلام كان أكبر أولاد الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام ومن الضروري توضيح الفكرة القائلة بأن الإمامة لا علاقة لها بالولد الأكبر أو الأصغر ، بل هي بالنص والوصية فالإمامة من الله عزوجل يودعها حيث يشاء من عباده :( وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (١) ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٢) وسوف نفصّل هذا الموضوع في الفصل الثاني باذنه تعالى .

عاش السجادعليه‌السلام في أسرة مكونة من تسعة أفراد : أبوه الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأخويه علي الأصغر الذي يسمى خطأ بعلي الأكبر ( وأمه ليلى بنت أبي مرة الثقفية ) ، وجعفر ( وأمه قضاعيه ) وأختيه : سكينة ( وأمها الرباب بنت امرئ القيس ) ، وفاطمة ( وأمها أم إسحاق بنت طلحة وهي تميمية )(٣) ثم ولد للحسينعليه‌السلام عبدالله ( الرضيع ) وأمه الرباب قبل أشهر من واقعة

ــــــــــــــــ

(١) سورة القصص : الآية ٦٨ .

(٢) سورة الأحزاب : الآية ٣٦ .

(٣) إرشاد المفيد ج٢ ص١٣٥ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٧٧ .

١٩

الطف وذبح فيها وتوفي جعفر في حياة أبيه الحسينعليه‌السلام ، واستشهد علي الأصغر في كربلاء سنة ٦١ للهجرة .

ترعرع السجادعليه‌السلام في المدينة ، بعد استشهاد جده الإمام عليعليه‌السلام في الكوفة سنة ٤٠ هـ فقد رجع الهاشميون إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن مكثوا مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في الكوفة أربع سنوات وأشهراً وكان اسمراً ، نحيفاً ، رقيقاً من كثرة العبادة .

تزوجعليه‌السلام في هذه الفترة من حياته ( سنة ٥٤ للهجرة على الإرجح ) من ابنة عمه : فاطمة بنت الإمام الحسين بن علي بن ابي طالبعليه‌السلام ، فيكون زواجه منها وهو في السادسة عشرة من عمره فأنجبت له محمد الباقرعليه‌السلام ، وهو الإمام الخامس من أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، سنة ٥٨ هـ ثم تزوج لاحقاً بأمهات أولاد فولدن له أولاداً ذكوراً وإناثاً ، أبرزهم زيد بن علي وعبدالله الباهر وكانا معروفين بالفضل والجهاد في الاسلام ومجموع أولاد زين العابدينعليه‌السلام حسب الروايات خمشة عشر ولداً : أحد عشر من الذكور وأربعة من الأناث وكان للباقرعليه‌السلام يوم الطف ثلاث سنين .

وكان السجادعليه‌السلام كثيراً ما يدعو لاولاده ، فيقول : (اللهم ومنّ عليّ ببقاء ولدي ، وبإصلاحهم لي ، وبامتاعي بهم آلهي أمدد لي في أعمارهم ، وزد في آجالهم ، وربّ لي صغيرهم ، وقوّ لي ضعيفهم ، وأصح لي ابدانهم وأديانهم وأخلاقهم ، وعافهم في أنفسهم ، وفي جوراحهم ، وفي كل ما عنيت به من أمرهم ، وأدرر لي وعلى يدي ارزاقهم ، واجعلهم أبراراً أتقياء بصراء سامعين ، مطيعين لك ، ولأوليائك محبين ناصحين ، ولجميع اعدائك معاندين ) .

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

قـل لابـن عباس سمي محمد

لا تـعطين بـني عدي درهما

احـرم بـني تيم بن مرة أنهم

شـر الـبرية آخـراً، ومقدما

إن تـعطهم لا يشكروا لك نعمة

ويـكافؤوك بـأن تـذم وتشتما

وإن ائـتـمنتهم أو اسـتعملتهم

خانوك، واتخذوا خراجك مغنما

ولـئن مـنعتهم لـقد بـدؤوكم

بـالمنع، إذ ملكوا وكانوا أظلما

مـنعوا تـراث مـحمد أعمامه

وابـنيه، وابـنته عديلة مريما

وتـأمروا من غير أن يستخلفوا

وكـفى بـما فعلوا هنالك مأثما

لـم يـشكروا لـمحمد إنـعامه

أفـيشكرون لـغيره إن أنـعما

والله مــن عـلـيهم بـمحمد

وهداهم، وكسا الجنوب، وأطعما

ثـم انـبروا لـوصيه وولـيه

بـالمنكرات، فـجرعوه العلقما

قال: فرمى بها إلى عبد الله معاوية بن يسار، الكاتب للمهدي، ثم قال: إقطع العطاء، فقطعه. وانصرف الناس. ودخل السيد إليه، فلما رآه ضحك، وقال: قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل. ولم يعطهم شيئاً..)(١) .

ونرى السيد الحميري في مناسبة أخرى ينشد المنصور أبياتاً يهجو بها سوارا القاضي، من جملتها:

إن سـوار بن عبد

الله من شر القضاء

نـعثلي، جـملي

لكم غير مواتي(٢)

____________

(١) الأغاني ج ٧ ص ١٦، طبع دار الفكر، والغدير ج ٢ ص ٢٥٤، ٢٥٥، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٧، ومستدرك أخبار السيد الحميري للمرزباني ص ٥٨، باختصار وديوان السيد الحميري ص ٣٧٧، ٣٧٨، نقلاً عن الأولين، وعن: أعيان الشيعة ج ١٢ ص ١٧٨، وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٤٧، وتاريخ آداب اللغة العربية ج ٢ ص ٦٧، ٦٨.

(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٣٤، والأغاني ج ٧ ص ٢٦١، والغدير ج ٢ ص ٢٥٦.

٦١

ويقول القاسم بن يوسف:

هـاشم فـخر قـصي كلها

أيـن تـيم وعدي والفخار

لـهم أيـد طوال في العلى

ولـمن سـاماهم أيد قصار

لـهم الـوحي وفـيهم بعده

آمـر الحق وفي الحق منار

وهــم أولـى بـأرحامهم

في كتاب الله إن كان اعتبار

مـا بـعيد كـقريب سـبباً

لا ولا يعدل بالطرف الحمار

إلى أن قال:

خـسر الآخـذ مـا ليس له

عمد عين والشريك المستشار

ولـفـيف ألـفـوا بـينهم

بـيعة فيها اختلاط وانتشار

ورسـوله الله لـم يدفن فما

شـغل القوم اغتمام وانتظار

كان منهم قبل آل المصطفى

أن يلوا الأمر حذار ونفار(١)

إلى آخر الأبيات.

والقاسم بن يوسف معاصر لكل من الرشيد والمأمون، وتوفي سنة ٢١٣ ه‍.

وكل ما ذكرناه يدل على إنكار العباسيين لشرعية خلافة أبي بكر وعمر. ومثل ذلك كثير لا مجال لنا هنا لاستقصائه، وحسبنا هنا أقوال المؤرخين، فإنها القول الفصل، والحكم العدل.

هذا ما كان في بداية الأمر. أي أنهم كانوا يصلون حبل وصايتهم بعليعليه‌السلام ، وينكرون شرعية خلافة الثلاثة، ثم عدلوا عن ذلك بعد فترة. وذلك لما يتضمنه من الاعتراف بأن الوصاية كانت في ولد عليعليه‌السلام .

____________

(١) الأوراق للصولي ص ١٨٠، وأخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص ١٠٨ ـ ١٠٩.

٦٢

فأسس المهدي فرقة(١) تدعي: أن الإمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو العباس بن عبد المطلب، ثم ابنه عبد الله، ثم ابنه علي، ثم ابنه محمد. وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إليهم. هذا. مع الاستمرار على البراءة من أبي بكر، وعمر، وعثمان. ولكنهم أجازوا بيعة علي ابن أبي طالب، لأن العباس نفسه كان قد أجازها(٢) . وتسمى هذه الفرقة ب‍: (الراوندية والشيعة العباسية).

ولكننا لا نجد لهذه الفرقة أثراً في عصر المأمون، لأن سياسة الخليفة قد اقتضت تجميد هذه المقالة، ولو لفترة من الزمان كما سنوضحه وعلى كل حال فيقول منصور النمري يمدح الرشيد:

لـولا عدي وتيم لم تكن وصلت

إلـى أمـية تـمريها وترتضع

إن الـخلافة كانت إرث والدكم

من دون تيم، وعفو الله متسع(٣)

____________

(١) هذا. ولكن الذي يبدو هو أن صاحب الفكرة الحقيقي هو المنصور. كما يظهر من رسالته لمحمد بن عبد الله بن الحسن، ومن كثير من كلماته، وخطبه. والمهدي كان هو المنفذ لها، والمخرج من عالم القوة إلى عالم الفعل.. بل لقد سار المنصور في إشاعة هذه الفكرة، وتركيزها شوطا بعيداً، حتى لقد تقرب إليه بها الشعراء، فهذا السيد الحميري يقول ـ على ما يرويه لنا المرزباني في أخباره ص ٣٧ ويروي أيضاً مكافأة المنصور المهمة له على ذلك ـ يقول السيد:

يا رهط أحمد إن من أعطاكم

مـلك الورى وعطاؤه أقسام

رد الـخلافة والوراثة فيكم

وبـنو أمية صاغرون رغام

لـمتمم لـكم الـذي أعطاكم

ولـكم لـديه زيـادة وتمام

أنـتم بـنو عم النبي عليكم

من ذي الجلال تحية وسلام

وورثـتموه وكـنتم أولى به

إن الـولاء تحوزه الأرحام

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه.

(٢) فرق الشيعة للنوبختي ص ٤٨، ٤٩، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٣، ومروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٢٣٦، إلا أن النوبختي ذكر أنهم لم يجيزوا حتى بيعة علي أيضاً.

(٣) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٢٤٤، والشعر والشعراء ص ٥٤٦.

٦٣

تشجيع الخلفاء لهذا الاتجاه:

وقد شجع الخلفاء هذه النحلة، أو فقل هذا الاتجاه، واستمروا يناصرونه إلى زمن هارون.

وقد حصل مروان ابن أبي حفصة من الخليفة العباسي (المهدي) على أعظم جائزة تعطى لشاعر في تلك الفترة، على قوله مخاطبا آل علي:

هل تطمسون من السماء نجومها

بـأكفكم أو تـسترون هـلالها

أو تـدفعون مـقالة عـن ربكم

جـبريل بـلغها الـنبي فقالها

نـزلت مـن الأنـفال آخر آية

بـتـراثهم، فـأردتم إبـطالها

يشير إلى آية: (أولوا الأرحام..).

فزحف المهدي من صدر مصلاه إعجاباً، وأعطاه مئة ألف درهم، لكل بيت ألف درهم. وكانت هذه أول مئة ألف تعطى لشاعر في دولة بني العباس(١) .

وأعطاه هارون بدوره على هذه الأبيات، بعد أن أصبح خليفة مئة ألف أيضاً.

كما أن المهدي قد أعطى مروان هذا على قوله:

أنى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

أعطاه ثلاثين ألفاً من صلب ماله، وكساه جبة، ومطرفاً، وفرض على أهله ومواليه ثلاثين ألفاً أيضاً(٢) .

____________

(١) تاريخ بغداد ج ١٣ ص ١٤٤، ١٤٥، ومرآة الجنان ج ١ ص ٣٢١.

(٢) ولكن في العقد الفريد ج ١ ص ٣١٢، الطبعة الثالثة، والمحاسن والمساوي ص ٢١٩: أنه أخذ منه ثلاثين، ومن أهل بيته سبعين. ولعل هذا هو الأقرب إلى الواقع، فقد ذكر في المحاسن والمساوي ص ٢٢٠: أن مروان هذا قال في هذه المناسبة: بسبعين ألفاً راشي من حبائه وما نالها في الناس من شاعر قبلي بل هذا البيت يدل على أن السبعين كانت منه، لا من أهل بيته..

وفي طبقات الشعراء ص ٥١ اكتفى بالقول: أنه أخذ بهذا البيت مالاً عظيماً..

٦٤

وينسب هذا الشعر لبشار بن برد كذلك.

وبعد ذلك يقف مروان بن أبي الجنوب (ويقال: بل مروان بن أبي حفصة، وقد أنشدها المتوكل، على ما في الغدير ج ٤ ص ١٧٥)، وينشد الخليفة قصيدته التي مطلعها:

لـكم تـراث مـحمد

وبعدلكم تشفى الظلامة

إلى أن يقول:

مـا للذين تنحلوا

ميراثكم إلا الندامة

فيخلع عليه أربع خلع، وينثر ثلاثة آلاف دينار، يأمره بالتقاطها، ويعطيه عشرة آلاف درهم،. ثم يعقد له ـ مع ذلك كله ـ ولاية على البحرين واليمامة(١) .

بل لقد تمادى هارون، وأراد أن يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أراد أن ينكر حتى شرعية خلافة الإمام عليعليه‌السلام ، فأحضر (أبا معاوية الضرير) وهو أحد محدثي المرجئة(٢) ، وقال له: (هممت أنه من يثبت خلافة علي فعلت به وفعلت..). فنهاه أبو معاوية عن ذلك، واستدل له بما أعجبه، فارتدع، وانصرف عما كان عزم عليه (٣) .

____________

(١) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٧ ص ٣٨، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الثاني، جزء ٣، ص ٢٢٨.

(٢) المرجئة الأولى كانوا لا يتولون عثماناً ولا علياً، ولا يتبرأون منهما.

(٣) راجع تفصيل ذلك في تاريخ بغداد ج ٥ ص ٢٤٤، ونكت الهميان في نكت العميان ص ٢٤٧.

٦٥

بل إن بعض النصوص التاريخية تفيد أن المهدي أيضاً كان لا يريد أن يجيز بيعة عليعليه‌السلام (١) .

الإمام علي في ميزان الاعتبار:

وإذا ما عرفنا أن إظهار المأمون حبه لعلي بن أبي طالب، وولده، ليس إلا لظروف سياسية معينة كما سيأتي توضيحه. فإننا سوف نرى أنفسنا مقتنعين بأن تأرجح الإمام عليعليه‌السلام في ميزان الاعتبار في تلك الفترة والتي بعدها عند العباسيين، لم يكن إلا أمراً ظاهريا أملته الظروف السياسية، والاجتهادات المختلفة في أساليب مواجهة العلويين.

ولهذا نرى ارتباكهم في ذلك ظاهراً للعيان من وقت لآخر، ومن فترة لأخرى. وهكذا. نجد أن الإمام علياً لم يكن معتبراً عند المأمون، وغير معتبر عند المنصور والرشيد، بل هو غير معتبر عندهم جميعاً.. ولسنا هنا في صدد تحقيق هذا الأمر، ولكن قد تكفي الإشارة في كثير من الأحيان.

____________

(١) فقد ذكر ابن الأثير في الكامل ج ٥ ص ٧٢، والطبري في تاريخه حوادث سنة ١٦٩ ه‍.: أن المهدي عندما رأى في وصية القاسم بن مجاشع التميمي المروزي عبارة: (.. ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله، ووارث الإمامة من بعده. الخ).. رماها من يده، ولم ينظر في باقيها..

كما أنه عندما ذهب لعيادة أبي عون، الذي كان من كبار رجال الدعوة، والذي أرسله أبو مسلم في ثلاثين ألفاً في طلب مروان بن محمد، وكان هو الذي أنهى أمره في مصر على ما في الإمامة والسياسة ج ٢ ص ١١٦، ١١٩، ١٢٠. ـ عندما ذهب المهدي لعيادته ـ، وطلب منه أبو عون أن يرضى عن ولده، الذي كان يرى رأي الشيعة في الخلافة، أجاب: أنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا. فقال له أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين، على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فإن كان قد بدا لكم، فمرونا، حتى نطيعكم.. راجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول، جزء ٢ ص ٥٦٩، وقاموس الرجال ج ٥ ص ٣٧٣، والطبري، وغير ذلك.

٦٦

استغلال لقب المهدي:

هذا.. ونلاحظ: أن المنصور أيضاً قد حاول أن يقارع العلويين بالحجة، ولكن بنحو آخر، وأسلوب آخر..

فإنه عندما رأى أن الناس قد قبلوا على نطاق واسع (ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ) بأن محمد بن عبد الله العلوي هو المهدي.. حاول أن يموه هو بدوره على الناس، فلقب ولده، والخليفة بعده ب‍ـ (المهدي) من أجل أن يصرف الناس عن محمد بن عبد الله هذا..

فقد أرسل مولى له إلى مجلس محمد بن عبد الله، وقال له: (اجلس عند المنبر، فاسمع ما يقول محمد) قال: فسمعته يقول:

إنكم لا تشكون أني أنا المهدي، وأنا هو (فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال): كذب عدو الله، بل هو ابني)(١) .

ثم. ومن أجل إقناع الناس بهذا الأمر، وجد المنصور من يضع له الأحاديث، ويكذب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطبق واضعوها (مهدي الأمة) على ولده الخليفة (المهدي)(٢) . ويقول القاضي النعمان الإسماعيلي في أرجوزته:

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٢٤٠، والمهدية في الإسلام ص ١١٧.

(٢) تجد بعض هذه الأحاديث في: الصواعق المحرقة ٩٨، ٩٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩، ٢٦٠، ٢٧٢، والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٤٦، ٢٤٧، وغير ذلك.

٦٧

مــن انـتظاره وقـد تـسمى

بـهـذه الأسـماء نـاس لـما

تـغـلبوا لـيـجعلوها حـجـة

فـعدلوا عـن واضـح المحجة

إذ مـثـلوا الـجوهر بـالأشباه

مـنـهم مـحمد بـن عـبد الله

ابـن عـلي مـن بـني العباس

ذوي التعدي الزمرة الأرجاس(١)

وقد أقر أحمد أمين المصري بكذب هذه الأحاديث، ووضعها(٢) ، كما أقر غيره بذلك..

بل إن المنصور نفسه ـ الذي كان قد اعترف بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي، وتبجح، وافتخر بها(٣) ـ قد كذب نفسه في ذلك، وكذبها في مهدوية ولده أيضاً.

يقول مسلم بن قتيبة: (أرسل إلي أبو جعفر، فدخلت عليه، فقال: قد خرج محمد بن عبد الله، وتسمى بالمهدي، ووالله، ما هو به، وأخرى أقولها لك. لم أقلها لأحد قبلك، ولا أقولها لأحد بعدك.. وابني والله، ما هو بالمهدي، الذي جاءت به الرواية، ولكنني تيمنت به، وتفاءلت به..)(٤) والخليفة المهدي نفسه يقر بأن أباه فقط يروي أنه المهدي الذي بعده في الناس (٥) .

وأما اتخاذهم الزندقة ذريعة للقضاء على خصومهم، سواء من العلويين، أو من غيرهم.. فسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

____________

(١) الأرجوزة المختارة ص ٣١.

(٢) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٤٠.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٢٣٩، ٢٤٠، والمهدية في الإسلام ص ١١٦، وجعفر بن محمد لعبد العزيز سيد الأهل ص ١١٦، (٤) مقاتل الطالبيين ص ٢٤٧، والمهدية في الإسلام ص ١١٧.

(٥) الوزراء والكتاب ص ١٢٧.

٦٨

وكل ذلك لم يكفهم:

ولكن العباسيين قد وجدوا أن ذلك كله لم يكن ينطلي على أحد، وأن الأمور ـ مع ذلك ـ تسير في غير صالحهم، ولهذا فإن من الأفضل والأجدى لهم أن لا يفسحوا المجال للعلويين للمنطق والحجاج، فإن ذلك من شأنه أن يظهر كل ما كان يتمتع به العلويون من خصائص ومميزات عليهم. هذا إن لم ينته الأمر بفضيحة ساحقة للعباسيين، وكشف حقيقتهم وواقعهم أمام الملأ، الأمر الذي كان يزعجهم، ويقض مضاجعهم إلى حد كبير..

وإذن.. فإن من الحكمة أن يتبعوا أساليب أخرى من أجل القضاء على العلويين..

ولم تكفهم مراقبتهم لهم، حتى لم يكونوا يغفلون عنهم طرفة عين أبداً، من أجل التعرف على أحوالهم، وإحصاء كل حركاتهم، ابتداء من السفاح، ثم اتبعه الخلفاء على ذلك من بعده.

كما لم يكفهم.. التهديد والوعيد الذي كانوا يواجهونهم به، بهدف إضعاف شخصياتهم، وتحطيم معنوياتهم..

كما لم يكفهم مصادرة أموالهم، وهدم بيوتهم، ومنعهم من السعي من أجل الحصول على لقمة العيش، حتى لقد بلغ البؤس بهم أن: العلويات كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة(١) .

وكذلك لم يكفهم. عزلهم عن الناس، ومنع كل أحد من الوصول إليهم، تمهيداً لتشويه سمعتهم بما أمكنهم من أساليب الكذب والافتراء، وإن كانت سيرتهم الحميدة، وخصوصاً أهل البيت منهم، كانت تدفع كل شائعة، وسلوكهم المثالي يدحض كل افتراء.

____________

(١) كان ذلك في زمن المتوكل، راجع: بند تاريخ ج ١ ص ٧٢، ومقاتل الطالبيين ص ٥٩٩.

٦٩

وأما الاضطهاد والتشريد، وزج العشرات والمئات منهم في السجون الرهيبة، التي كان من يدخل إليها لا يأمل بالخروج منها، حيث إن دخول السجن إنما كان يعني في الحقيقة دخول القبر.. وأما دسهم السم لكل شخصية لا يستطيعون الاعتداء عليها جهاراً ـ أما ذلك ـ فلم يكن ليكفيهم أيضاً، ولا ليقنعهم قطعا. حيث إنهم إنما كانوا متعطشين إلى الولوغ في دمائهم، ومشتاقين إلى التفنن في تعذيبهم، واختراع أساليب جديدة في ذلك، فسمروا بالحيطان من سمروا، وأماتوا جوعاً من أماتوا، ووضعوا في الأسطوانات منهم من وضعوا. إلى غير ذلك مما يظهر لكل من له أدنى اطلاع على تاريخهم، وتاريخ سلوكهم مع أبناء عمهم العلويين..

وأما قتلهم لهم جماعات، فأشهر من أن يحتاج إلى بيان.. وقضية المنصور مع بني حسن لا يكاد يخلو منها كتاب تاريخي. وكذلك قضية الستين علوياً، الذين قتلوا بأمر من الخليفة (المنصور) باستثناء غلام منهم، لا نبات بعارضيه(١) .

____________

(١) هذا ما نقله في شرح شافية أبي فراس ص ١٧٤ عن الدر النظيم، عن أحمد بن حنبل، الذي رأى رجلاً متعلقا بأستار الكعبة، يضرع إلى الله بالمغفرة، وأقر له بأنه بنى على هؤلاء ما عدا الغلام المذكور بأمر من المنصور.. وفي عيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٠٨، فما بعدها، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٧٦، ١٧٧، والبحار ج ٤٨ ص ١٧٦ فما بعدها. قصة شبيهة بهذه ينقلها عن حميد بن قحطبة الذي كان يفطر في شهر رمضان، ليأسه من مغفرة الله، لأنه قتل ستين علوياً في ليلة واحدة بأمر من الرشيد.. ولكن الظاهر أن ذكر الرشيد اشتباه من الراوي، ولعله عمدي، لأن حميدا قد مات سنة ١٥٨، على ما صرح به في البحار ج ٤٨ ص ٣٢٢، وخلافة هارون الرشيد إنما بدأت سنة ١٧٠، ولعل القصة الحقيقية هي ما عن أحمد بن حنبل، وإنما حرفها المحرفون لحاجة في نفس يعقوب، لا تخفى على المتتبع الخبير، والناقد البصير.

٧٠

موقف كل خليفة منهم على حدة:

وإننا من أجل أن نلم بموقف كل خليفة منهم على حدة من أبناء عمهم العلويين، نقول:

أما السفاح:

فقد قال عنه أحمد أمين: (.. وكانت حياته حياة سفك للدماء، وقضاء على المعارضين..)(١) .

وقال عنه الجنرال جلوب: (.. وكان السفاح والمنصور قد نُشِئا نشأة المتآمرين، ولذا وطدا ملكهما ـ بعد نجاح الثورة ـ بكثير من سفك الدماء، ولا سيما من دماء أولاد أعمامهم، من بني أمية، وبني علي بن أبي طالب..)(٢) .

ويقول الخوارزمي عن السفاح: (.. وسلط عليهم -يعني على العلويين- أبا مجرم، لا أبا مسلم، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل، وجبل..)(٣) .

ومن ذلك يعلم أن إظهاره اللين اتجاههم أمام الناس ما كان إلا من أجل تثبيت دعائم حكمه، وتحكيم قواعد سلطانه، لكنه لم يغفل لحظة واحدة عن مراقبتهم، والتجسس على أحوالهم، بل وقتلهم، إذا ما سنحت الفرصة له لذلك، كما قدمنا.

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ١٠٥.

(٢) إمبراطورية العرب ص ٤٩٩.

(٣) رسائل الخوارزمي ص ١٣٠، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٦، ٢٩٧، وسيأتي شطر من هذه الرسالة. راجع ما علقناه على هذه الفقرة في فصل: قيام الدولة العباسية.

٧١

وأما المنصور:

الذي لم يتورع عن قتل ابن أخيه السفاح(١) ، وعمه عبد الله بن علي. وأبي مسلم. مؤسس دولته. والذي سافر سنة ١٤٨ ه‍. إلى الحج، وعزم على القبض على الإمام الصادقعليه‌السلام ، إن كان لم يتم له ذلك(٢) .

والذي سمى نفسه المنصور بعد انتصاره على العلويين(٣) .

أما المنصور هذا. فهو أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين(٤) . وقد اعترف عندما عزم على قتل الإمام الصادق عليه‌السلام ، بعدد ضخم من ضحاياه من العلويين، حيث قال: (.. قتلت من ذرية فاطمة ألفاً، أو يزيدون، وتركت سيدهم، ومولاهم، وإمامهم، جعفر بن محمد) (٥) .

ولقد كان هذا القول منه في حياة الإمام الصادقعليه‌السلام ، أي في صدر خلافة المنصور. فكيف بمن قتلهم بعد ذلك!!

وقد ترك خزانة رؤوس ميراثاً لولده المهدي، كلها من العلويين، وقد علق بكل رأس ورقة كتب فيها ما يستدل به على صاحبه، ومن بينها رؤوس شيوخ، وشبان، وأطفال(٦) .

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٩٤، نقلاً عن: نفح الطيب ج ٢ ص ٧١٥.

(٢) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٦.

(٣) التنبيه والإشراف ص ٢٩٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ١١٩.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦١، ومروج الذهب ج ٤ ص ٢٢٢. وشرح ميمية أبي فراس ص ١١٧، ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٢، ٢٣.

(٥) شرح ميمية أبي فراس ص ١٥٩، والأدب في ظل التشيع ص ٦٨.

(٦) تاريخ الطبري ج ١٠ ص ٤٤٦، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٢، وغير ذلك.

٧٢

وهو الذي يقول لعمه عبد الصمد بن علي، عندما لامه على أنه يعاجل بالعقوبة، حتى كأنه لم يسمع بالعفو ـ يقول له ـ: (إن بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ـ ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا بنسيان العفو، واستعمال العقوبة..)(١) .

وهو الذي يقول للإمام الصادقعليه‌السلام : (لأقتلنك، ولأقتلن أهلك، حتى لا أبقي على الأرض منكم قامة سوط..)(٢) .

وعندما قال المنصور للمسيب بن زهرة: إنه رأى أن الحجاج أنصح لبني مروان. أجابه المسيب: (يا أمير المؤمنين، ما سبقنا الحجاج إلى أمر، فتخلفنا عنه، والله، ما خلق الله على جديد الأرض خلقاً أعز علينا من نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أمرتنا بقتل أولاده، فأطعناك، وفعلنا، فهل نصحناك؟!)(٣) .

وهو أول من سن هدم قبر الحسينعليه‌السلام في كربلاء(٤) .

وهو الذي كان يضع العلويين في الأسطوانات، ويسمرهم في الحيطان ـ كما نص عليه اليعقوبي، وغيره ـ ويتركهم يموتون في المطبق جوعاً، وتقتلهم الروائح الكريهة، حيث لم يكن لهم مكان يخرجون إليه لإزالة الضرورة، وكان يموت أحدهم، فيترك معهم، حتى يبلى من غير دفن، ثم يهدم المطبق على من تبقى منهم حيا، وهم في أغلالهم ـ كما فعل ببني حسن، كما هو معروف ومشهور.

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٧، وإمبراطورية العرب ص ٤٩١، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول جزء ٢ ص ٥٣٤.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ج ٣ ص ٣٥٧، والبحار ج ٤٧ ص ١٧٨.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٢٤.

(٤) تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار آل طعمه ص ١٩٣.

٧٣

ولقد قال أحد العلويين، وهو أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا، إسماعيل الديباج. عندما هرب من المنصور إلى السند:

لـم يـروه ما أراق البغي من دمنا

في كل أرض فلم يقصر من الطلب

وليس يشفي غليلا في حشاه سوى

أن لا يرى فوقها ابن لبنت نبي(١)

وعلى كل: فإن معاملة المنصور لأولاد علي، تعتبر من أسوأ صفحات التاريخ العباسي(٢) .

وستأتي عبارة الخضري عنه عن قريب..

وأما المهدي:

الذي حبس وزيره يعقوب بن داوود، وبني على المطبق الذي هو فيه قبة، وبقي فيه حتى عمي، وطال شعر بدنه، حتى صار كالأنعام ـ وحبسه ـ لاتهامه إياه بأنه يمالئ الطالبيين، كما قدمنا..

المهدي الذي عرفنا فيما تقدم موقفه من أبي عون، وولده، الذي كان يذهب مذهب الشيعة في الخلافة.. وكذلك موقفه من وصية القاسم ابن مجاشع.

أما المهدي هذا فقد اتخذ الزندقة ذريعة للقضاء على كل مناوئيه، وخصوصاً العلويين، والمتشيعين لهم:

وقال الدكتور أحمد شلبي: (إن الرمي بالزندقة اتخذ وسيلة للإيقاع بالأبرياء في كثير من الأحايين)(٣) .

____________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥١.

(٢) مختصر تاريخ العرب، للسيد أمير علي ص ١٨٤.

(٣) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٢٠٠.

٧٤

وقال الدكتور أحمد أمين المصري: (الحق أن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للانتقام من خصومهم، سواء في ذلك: الشعراء، والعلماء، والأمراء، والخلفاء)(١) .

وقد ألف له ـ أي للمهدي ـ ابن المفضل كتاباً في الفرق، اخترع فيه فرقا من عند نفسه، ونسبها لأولئك الذين يريد المهدي أن يتتبعهم، ويقضي عليهم. مع أنهم لم يكونوا أصحاب فرق أصلاً. كزرارة، وعمار الساباطي، وابن أبي يعفور، وأمثالهم، فاخترع فرقة سماها (الزرارية) نسبة لزرارة. وفرقة سماها (العمارية) نسبة لعمار، وفرقة سماها (اليعفورية) وأخرى سماها (الجواليقية)، وأصحاب سليمان الأقطع.

وهكذا. إلا أنه لم يذكر (الهشامية) نسبة لهشام بن الحكم(٢) .

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ١٥٧. هذا. وقد اتهم شريك بن عبد الله القاضي بالزندقة، لأنه لم يكن يرى الصلاة خلف الخليفة المهدي، فراجع: البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٥٣، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٣٧، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الثاني جزء ٣ ص ٢٣٢. وأيضاً. فقد أراد هارون أن يقتل عمه، الذي قال: كيف لقي آدم موسى؟ عندما ذكرت رواية مفادها ذلك. وذلك بتهمة الزندقة، راجع: تاريخ بغداد ج ١٤ ص ٧، ٨ والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٥، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٣٨، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٨٥، والبصائر والذخائر ص ٨١..

وهذا يعني أن لفظ الزنديق قد أطلق على كل من يناقش في أحاديث الصحابة، وعلى كل من يعارض نظام الحكم، والحكام وأهوائهم، وأطلق أيضاً على كل ماجن خليع كما يبدو لمن راجع رواية شريك القاضي في مظانها وغيرها..

ولا بأس بمراجعة عبارة هامة لأحمد أمين تتعلق بهذا الموضوع في كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الثاني جزء ٣ ص ٢٣٢.

(٢) رجال المامقاني ج ٣ ص ٢٩٦، وقاموس الرجال ج ٩ ص ٣٢٤، والبحار ج ٤٨ ص ١٩٥، ١٩٦، ورجال الكشي ص ٢٧، طبع كربلاء،. وأشار إلى ذلك المسعودي أيضاً، فراجع: ضحى الإسلام ج ١ ص ١٤١، واليعقوبي في كتابه مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٤.

٧٥

وقال عبد الرحمان بدوي: (إن الاتهام بالزندقة في ذلك العصر، كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة، كما لاحظ ذلك الأستاذ (فيدا))(١) .

يقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له:

ومـتى تولى آل أحمد مسلم

قتلوه أو وصموه بالإلحاد(٢)

إلى غير ذلك مما لا يمكننا تتبعه واستقصاؤه في مثل هذه العجالة..

وأما الهادي:

(فقد أخاف الطالبيين خوفاً شديداً، وألح في طلبهم، وقطع أرزاقهم وأعطياتهم، وكتب إلى الآفاق بطلبهم..)(٣) .

ولم تكن واقعة فخ المشهورة إلا بسبب الاضطهاد الذي لحق العلويين، والمعاملة القاسية لهم. حسبما نص عليه المؤرخون.. والتي بلغ عدد الرؤوس فيها مئة ونيفا، وسبيت فيها النساء والأطفال، وقتل السبي حتى الأطفال منهم على ما قيل.

وأما الرشيد:

(الذي حصد شجرة النبوة. واقتلع غرس الإمامة)، على حد تعبير الخوارزمي.

____________

(١) من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص ٣٧.

(٢) نسب إلى الأول ملحقات إحقاق الحق ج ٩ ص ٦٨٨ نقلاً عن مفتاح النجا في مناقب آل العبا للعلامة البدخشي ص ١٢ مخطوط وعن قلندر الهندي الحنفي في روض الأزهر ص ٣٥٩ طبع حيدر آباد وهو منسوب للطغرائي أيضاً وهو مثبت في إحدى قصائده في ديوانه فلعله أخذه على سبيل الاستشهاد على عادة الشعراء في ذلك..

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٣٦، ١٣٧.

٧٦

والذي (لم يكن يخاف الله، وأفعاله بأعيان آل عليعليهم‌السلام ، وهم أولاد بنت نبيه، لغير جرم، تدل على عدم خوفه من الله تعالى..)(١) .

والذي كان على حد تعبير أحمد شلي: (يكره الشيعة ويقتلهم..)(٢) .

والذي بلغ من كرهه لهم: أن الشعراء كانوا يتقربون إليه بهجاء آل عليعليه‌السلام ، كما يظهر بأدنى مراجعة للتاريخ.

أما الرشيد هذا.

فقد أقسم على استئصالهم، وكل من يتشيع لهم. فقال: (.. حتام أصبر على آل بني أبي طالب، والله لأقتلنهم، ولأقتلن شيعتهم، ولأفعلن وافعلن..)(٣) .

وعندما تولى الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعاً من بغداد، إلى المدينة(٤) كرهاً لهم ومقتاً.

(وكان شديد الوطأة على العلويين يتتبع خطواتهم، ويقتلهم)(٥) .

(.. وأمر عامله على المدينة بأن يضمن العلويون بعضهم بعضاً)(٦) .

وكان: (يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم)(٧) .

____________

(١) الفخري في الآداب السلطانية ص ٢٠.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٣٥٢.

(٣) الأغاني، طبع دار الكتب بالقاهرة ج ٥ ص ٢٢٥.

(٤) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٨٥، والطبري ج ١٠ ص ٦٠٦، وغير ذلك.

(٥) العقد الفريد ج ١ ص ١٤٢.

(٦) الولاة والقضاة للكندي ص ١٩٨، وليراجع: تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٦.

(٧) العقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٢ ص ١٨٠.

٧٧

وكان (مغرى بالمسألة عن آل أبي طالب، وعمن له ذكر ونباهة منهم)(١) .

وعندما أرسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد، أمره أن يغير على دور آل أبي طالب في المدينة، ويسلب ما على نسائهم من ثياب، وحلي. ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً(٢) .

وعندما حضرته الوفاة كان يقول: (.. واسوأتاه من رسول الله)(٣) .

وهدم قبر الحسين، وحرث أرض كربلاء، وقطع السدرة التي كان يستظل بها الزائرون لتلك البقعة المباركة، وذلك على يد عامله على الكوفة، موسى بن عيسى بن موسى العباسي(٤) .

ثم توج موبقاته كلها، وفظائعه تلك، بقتل سيد العلويين، وقائدهم، الإمام موسى بن جعفر، (صلوات الله وسلامه عليه).

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٩٣، وبعد ذلك قال: (فسأل يوماً الفضل بن يحيى ـ بعد أن عاد من خراسان ـ: هل سمعت ذكرا لأحد منهم؟ قال: لا والله، ولقد جهدت فما ذكر لي أحد منهم، إلا أني سمعت رجلاً إلخ)..

(٢) أعيان الشيعة، طبعة ثالثة، ج ٤ قسم ٢ ص ١٠٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦١، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٦.

(٣) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٣٠، ويلاحظ هنا: أن الإنسان غالباً ما ينكشف على حقيقته حين موته. وقول الرشيد هذا يكشف لنا الرشيد على حقيقته، ويبين لنا مدى ما فعله الرشيد مع ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٤) تاريخ الشيعة ص ٨٩، وأمالي الشيخ. طبع النجف ص ٣٣٠، والكنى والألقاب ج ١ ص ٢٧ وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٩، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ١٩، وتاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٧، ١٩٨، نقلاً عن: نزهة أهل الحرمين ص ١٦، والبحار ج ١٠ ص ٢٩٧، وتظلم الزهراء ص ٢١٨، ومجالي اللطف ص ٣٩، وأعيان الشيعة ج ٤ ص ٣٠٤، وتسلية المجالس، لمحمد بن أبي طالب، وغير ذلك..

٧٨

ولقد خاطبه العقاد مشيراً إلى نبشه لقبر الحسينعليه‌السلام ، فقال: (.. وكأنهم خافوا على قبرك أن ينبشه أشياع علي، رضي الله عنه، فدفنوك في قبر الإمام العلوي، لتأمن فيه النبش والمهانة بعد الممات. فمن عجب أن يلوذ أبناء علي بملكك الطويل العريض، فيضيق بهم، وأن يبحث أتباعك عن ملاذ يحتمي به جثمان صاحب الملك الطويل العريض بعد مماته، فيجدوه في قبر واحد من أولئك الحائرين اللائذين بأكناف البلدان، من غير قرار، ولا اطمينان..)(١) .

يشير بذلك إلى قبر علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام ، حيث إن الرشيد مدفون إلى جانبه، كأنه يريد أن يقول: إن دفن المأمون للرضاعليه‌السلام إلى جانب أبيه الرشيد كان لأجل الحفاظ على قبر أبيه من النبش.

ولكن المعلوم: أن العلويين وشيعتهم ما كانوا ليقدموا على أمر كهذا مهما بلغ بهم الحقد والغضب بسبب اضطهاد الحكام لهم..

يقول محمد بن حبيب الضبي، رحمه الله مشيراً إلى ذلك:

قبران في طوس الهدى في واحد

والـغي فـي لـحد ثراه ضرام

قرب الغوي من الزكي مضاعف

لـعـذابه، ولأنـفـه الإرغـام

ويقول دعبل رحمه الله:

قـبران في طوس خير الناس كلهم

وقـبر شـرهم هـذا مـن الـعبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما

على الزكي بقرب الرجس من ضرر

ولقد بلغ من ظلم الرشيد للعلويين أن جعل الناس يعتقدون فيه بغض عليعليه‌السلام ، حتى اضطر إلى أن يقف موقف الدفاع عن نفسه،

____________

(١) راجع: تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٩، نقلاً عن: مجلة (الهلال)، عدد اكتوبر سنة ١٩٤٧ م. ص ٢٥، من مقال بعنوان: (حديث مع هارون الرشيد) للأستاذ العقاد.

٧٩

ويقسم على أنه يحبه، قال إسحاق الهاشمي: (كنا عند الرشيد، فقال: بلغني أن العامة يظنون في بغض علي بن أبي طالب. ووالله، ما أحب أحداً حبي له، ولكن هؤلاء (يعني العلويين) أشد الناس إلخ)(١) .

ثم يلقي التبعة في ذلك عليهم، ويقول: إنهم إلى بني أمية أميل منهم إلى بني العباس الخ كلامه.

بل لقد رأيناه يعلن أمام أعاظم العلماء عن توبته مما كان منه من أمر الطالبيين ونسلهم(٢) .

وذلك أمر طبيعي بعد أن كان يتتبع خطواتهم ويقتلهم (وبعد أن كانت سجون العباسيين، وخصوصاً المنصور والرشيد، قد امتلأت من العلويين، وكل من يتشيع لهم) على حد تعبير أحمد أمين(٣) .

وأخيراً.. فقد بلغ من ظلم الرشيد للعلويين أن توهم البعض أن المأمون إنما بايع للرضا بولاية العهد، من أجل أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في آل عليعليه‌السلام ، كما عن البيهقي، عن الصولي(٤) .

وأما المأمون:

فستأتي الإشارة إلى بعض ما فعله في آل علي في تضاعيف الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.

والشعراء أيضاً قد قالوا الحقيقة:

وهكذا. يتضح لنا كيف أن العباسيين قد انقلبوا ـ بدافع من

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ١٢٧.

(٣) راجع: ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٦، ٢٩٧.

(٤) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٧، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٢، وغير ذلك.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413