الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 255678 / تحميل: 14782
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الناصح فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى انبه الحسن الفاضل فإذا حضرته الوفاة فليسلّمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد )(١)

الثاني : الروايات التي وردت في إمامة علي بن الحسينعليه‌السلام خاصة ، وقد ذكرنا قسماً منها في الفصل الأول ولكن الإستدلال يحتم علينا ذكرها هنا أيضاً ، وهي :

١ ـ عن الزهري قال : ( كنا عند جابر فدخل عليه علي بن الحسينعليه‌السلام ، فقال : كنت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل عليه الحسين بن عليعليه‌السلام فضمّه إلى صدره وقبلّه وأقعهده إلى جنبه ثم قال : يولد لإبني هذا ابن يقال له علي ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش : ليقم سيد العابدين فيقوم هو )(٢)

٢ ـ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : ( ان الحسين بن عليعليه‌السلام لما حضره الذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرةً وكان علي بن الحسين مبطوناً(٣) معهم لا يرون إلا ما ألّم به ، فدفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسينعليه‌السلام ثم صار والله ذلك الكتاب إلينا يا زياد ! قال : قلت : ما في ذلك الكتاب جعلني الله فداك ؟ قال : فيه والله ما يحتاج إليه ولد آدم منذ

ــــــــــــــــ

(١) الغيبة للطوسي ص ١٠٥ ، ومختصر البصائر ص ٣٩ ط النجف .

(٢) كفاية الطالب للكنجي ص ٤٤٨ .

(٣) المبطون : عليل البطن .

١٤١

خلق الله آدم إلى أن تفنى الدنيا والله إن فيه الحدود حتى أن فيه أرش الخدش ((١) .

٣ ـ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال : ( ان الحسين صلوات الله عليه لما صار إلى العراق استودع أم سلمة رضي الله عنها الكتب والوصية ، فلما رجع علي بن الحسينعليه‌السلام دفعتها إليه )(٢)

٤ ـ روى المجلسي بإسناده عن محمد بن مسلم قال : ( سألت الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام عن خاتم الحسين بن عليعليه‌السلام إلى من صار ، وذكرت له اني سمعت أنه أخذ من اصبعه فيما أخذ قالعليه‌السلام : ليس كما قالوا ، ان الحسين أوصى إلى ابنه علي بن الحسينعليه‌السلام وجعل خاتمه في اصبعه وفوّض إليه أمره كما فعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفعله أمير المؤمنين بالحسينعليه‌السلام ، وفعله الحسن بالحسينعليه‌السلام ، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبي بعد أبيه ، ومنه صار إلي فهو عندي وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه ) قال محمد بن مسلم : فدخلت إليه يوم الجمعة وهو يصلي فلما فرغ من الصلاة مدّ إلي يده ، فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه لا إله إلاّ الله عدّة للقاء الله فقال : هذا خاتم جدي أبي عبد الله الحسين بن علي )(٣)

ــــــــــــــــ

(١) الكافي ـ باب الإشارة والنص على علي بن الحسينعليه‌السلام ج ١ ص ٢٤١ .

(٢) المصدر السابق ج ١ ص ٢٤٢ .

(٣) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١٧ .

١٤٢

صفات الأئمةعليه‌السلام

وكان الإمام زين العابدينعليه‌السلام ينبّه الأمة ويرشدها إلى فكرة الإمامة وصفات الإمامعليه‌السلام

١ ـ قالعليه‌السلام بخصوص وصف أئمة أهل البيتعليه‌السلام : ( نحن أئمة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغرّ المحجلين ، وموالي المؤمنين ، ونحن أمان أهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ، وبنا السماء أن تقع على الأرض إلا بأذنه ، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها ، ولم تخل الأرض منذ خلق الأرض من حجة لله مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو الأرض إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله ) فقيل له : كيف ينتفع الناس بالغائب المستور ؟ فقالعليه‌السلام : ( كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب )(١)

٢ ـ وبخصوص الدعاء لهمعليه‌السلام ، قال : ( ربّ صلّ على أطايب أهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين اخترتهم لأمرك ، وجعلتهم خزنة علمك ، وحفظة دينك ، وخلفاءك في أرضك ، وحججك على عبادك ، وطهرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بإرادتك ، وجعلتهم الوسيلة إليك ، والمسلك إلى جنتك ربّ صلّ على محمدٍ وآله صلاةً تجزل لهم بها من تحفك

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق ص ١١٢ .

١٤٣

وكرامتك ، وتكمل لهم الأشياء من عطاياك ونوافلك(١) ، وتوّفر عليهم الحظّ من عوائدك وفوائدك ربّ صلّ عليه وعليهم صلاةً لا أمد في أولها ، ولا غاية لأمدها ، ولا نهاية لآخرها ربّ صلّ عليهم زنة عرشك وما دونه ، وملء سمواتك وما فوقهنّ ، وعدد أراضيك وما تحتهنّ وما بينهنّ ، صلاةً تقربهم منك زلفى ، وتكون لك ولهم رضى ، ومتصلة بنظائرهن أبداً )(٢)

٣ ـ ( نحن خلفاء الأرض ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن المخصوصون في كتاب الله ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن الذين شرع الله لنا دينه ، فقال : (( شَرَعَ لَكُم مِنَ الدّينِ مَا وَصّى‏ بِهِ نُوحاً وَالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏ وَعِيسَى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدّينَ وَلَا تَتَفَرّقُوا فِيهِ ) ...)(٣) فقد علمنا ، وبلّغنا واستودعنا علمهم ، ونحن ورثة الأنبياء ، ونحن ذرية أولي العلم ، أن أقيموا الدين بآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا تتفرقوا فيه )(٤)

٤ ـ وبخصوص وجوب طاعة الإمام : ( اللهم إنك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ، ومناراً في بلادك(٥) ، بعد أن وصلت

ــــــــــــــــ

(١) الناقلة : العطية الفاضلة .

(٢) الصحيفة السجادية الدعاء السابع والأربعون ص ٢٠٨ .

(٣) سورة الشورى : الآية ١٣ .

(٤) ناسخ التواريخ ج ٢ ص ٤٩ .

(٥) المتار : موضع يوضع عليه المصباح ليلاً ليراه المار بالطريق فيعرف موضعه منه .

١٤٤

حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة إلى رضوانك ، وافترضت طاعته ، وحذّرت معصيته ، وأمرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وألاّ يتقدمه متقدمٌ ، ولا يتأخر عنه متأخرٌ ، فهو عصمة اللائذين ، وكهف المؤمنين ، وعروة المستمسكين ، وبهاء العالمين .

اللهم فأوزع لوليّك(١) شكر ما أنعمت به عليه ، وأوزعنا مثله فيه ، وآته من لدنك سلطاناً نصيراً ، وافتح له فتحاً يسيراً ، وأعنه بركنك الأعزّ ، وأشدد أزره ، وقوّ عضده ، وراعه بعينك ، واحمه بحفظك ، وانصره بملائكتك ، وأمدده بجندك الأغلب ، وأقم به كتابك ، وحدودك وشرائعك ، وسنن رسولك صلواتك اللهم عليه وآله ، وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك وأجل به صدأ الجور عن طريقتك ، وأبن به الضراء من سبيلك ، وأزل به الناكبين عن صراطك ، وامحق به بغاة قصدك عوجاً ، وألن جانبه لأوليائك ، وابسط يده على أعدائك ، وهب لنا رأفته ورحمته وتعطفه وتحننه ، واجعلنا له سامعين مطيعين ، وفي رضاه ساعين ، وإلى نصرته والمدافعة

ــــــــــــــــ

(١) وهو كناية عن الإمام المهدي (عج) كما في شرح الصحيفة وقال مصنف ) مكيال المكارم ) أن المراد بالولي في ألسنتهم ودعواتهم عليهم السلام هو الإمام صاحب العصر والزمان المهدي عجل الله فرجه .

١٤٥

عنه مكنفين وإليك وإلى رسولك صلواتك اللهم عليه وآله بذلك متقربين )(١)

الأفضلية

تقتضي الإمامة المطلقة ان يكون الإمام المعصوم أفضل الناس في زمانه وأكملهم من ناحية الفضائل الإنسانية والكمالات ذلك أن الإمامة الحقة رئاسة ربانية ، ويقبح عقلاً جعلها لمن هو مفضول فكيف يكون المفضول قائداً للفاضل ؟ لا يمكن ذلك وقد قال تعالى : (( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلّا أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٢) (، و( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ ) (٣) .

وغاية الإمامة هي سوق العالم إلى الكمال المطلق والصلاح الدائم وتحصيل سعادة الدارين .

والإمام زين العابدينعليه‌السلام كان يجمع صفات الفضائل البشرية والكمالات ، فقد كانعليه‌السلام معصوماً ، أعلم الناس في زمانه بشريعة المصطفى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحرص الناس على هدايتهم ،

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية : الدعاء السابع والأربعون ص ٢٠٩ .

(٢) سورة يونس : الآية ٣٥ .

(٣) سورة الزمر : الآية ٩ .

١٤٦

وأحفظهم على رعاية شؤون الأمة ، وأرقبهم لحقوق الرعية ، وأعرفهم بالسياسة الشرعية .

يقول الشيخ المفيد ( ت ٤١٣ هـ ) : كان الإمام علي بن الحسين أفضل خلق الله بعد أبيه علماً وعملاً فهو أولى بأبيه وأحق بمقامه من بعده بالفضل والنسب والأولى بالإمام الماضي أحقّ بمقامه من غيره(١)

ولو أخذنا بقول سعيد بن المسيب ، من علماء المدينة المعاصر للإمامعليه‌السلام ( ، دليلاً على أفضلية الإمام السجادعليه‌السلام كفى قال : ( ما رأيت أفضل من علي بن الحسين ، وما رأيته قط إلاّ مقت نفسي )(٣) ، و( ما رأيت أورع منه )(٤)

والزهري ، وهو فقيه بني أمية على الحجاز والشام ، يقول : ( لم أدرك في أهل البيت رجلاً كان أفضل من علي بن الحسين )(٥)

وزيد بن أسلم ، من مفسري القرآن ، يقول : ( ما رأيت مثل علي بن الحسين فهماً حافظاً )(٦)

ــــــــــــــــ

(١) الإرشاد للشيخ المفيد .

(٢) توقف العلماء المتأخرين في قدحه أو مدحه كما سيأتي في محله .

(٣) تأريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٤٦ .

(٤) العبر في خير من غبر ج ١ ص ١١١ .

(٥) شذرات الذهب ج ١ ص ١٠٥ .

(٦) طبقات الفقهاء ج ٢ ص ٣٤ .

١٤٧

ويشير الذهبي إلى انهعليه‌السلام كان : ( أهلاً للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألهه وكمال عقله )(١) ويشير اليعقوبي إلى انهعليه‌السلام كان : ( أفضل الناس وأشدهم عبادة )(٢) .

وهذه النعاذج تكفي للتدليل على أفضليتهعليه‌السلام في العلم والورع والتقوى في زمانه والأفضل ـ بموجب نظرية الإمامة ـ ينبغي أن يكون قائداً وإماماً للمفضول .

وقد وصفه علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي ( ت ٦٩٣ هـ ) وصفاً جامعاً مانعاً رائعاً ، فقال : ( مناقب الإمام علي بن الحسين تكثر النجوم عدداً ، ويجري واصفها إلى حيث لا مدى ، وتلوح في سماء المناقب كالنجوم لمن بها اهتدى ، وكيف لا وهو يفوق العالمين إذا عدا علياً وفاطمة والحسن والحسين ومحمداً ، وهذا تقديم لسجعٍ في الطبع فلا تكن متردداً ، ومتى أعطيت الفكر حقه وجدت ما شئت فخاراً وسؤدداً ، فإنه الإمام الرباني ، والهيكل النوراني ، بدل الأبدال ، وزاهد الزهاد ، وقطب الأقطاب ، وعابد العباد ، ونور مشكاة الرسالة ، ونقطة دايرة الإمامة ، وابن الخيرتين ، والكريم الطرفين ، قرار القلب ، وقرة العين علي بن الحسين ، وما أدراك ما علي بن الحسين ؟!! الأواه الأواب ، العامل بالسنّة والكتاب ،

ــــــــــــــــ

(١) سير أعلام النبلاء ج ٤ ص ٢٤٠ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٤٦ .

١٤٨

الناطق بالصواب ، ملازم المحراب ، المؤثر على نفسه المرتفع في درجات المعارف ، فيومه يفوق على أمسه ، المتفرد بمعارفه ، الذي فضّل على الخلائق بتليده وطارفه ، وحكم في الشرف فتسنم ذروته ، وخطر في مطارفه وأعجز بما حواه من طيب المولد ، وكريم المحتد ، وذكاء الأرومة ، وطهارة الجرثومة ، عجز عنه لسان واصفه ، وتفرد في خلواته بمناجاته ، فتعجبت الملائكة من مواقفه ، وأجرى مواضعه خوف ربه ، فأربى على هامي الصوب وواكفه(١)

فانظر أيّدك الله في أخباره ، والمح بعين الاعتبار عجائب آثاره ، وفكّر في زهده وتعبده وخشوعه ، وتهجده ودؤوبة في صلاته ، وأدعيته في أوقات مناجاته ، واستمراره على ملازمة عبادته ، وإيثاره وصدقاته ، وعطاياه وصلاته ، وتوسلاته التي تدلّ على فصاحته وبلاغته على خشوعه لربه ، وضراعته ووقوفه موقف العصاة مع شدة طاعته واعترافه بالذنوب على براءة ساحته ، وبكائه ونحيبه ، وخفوق قلبه من خشية الله ، ووجيبه وانتصابه وقد أرخى الليل سدوله ، وجرّ على الأرض ذيوله ، مناجياً ربه تقدست أسماؤه ، مخاطباً له تعالى ، ملازماً بابه عزّ وجلّ ، مصوّراً نفسه بين يديه ، معرضاً عن كل شيء ، مقبلاً عليه ، قد انسلخ من الدنيا الدنية ، وتعرّى من الجثة البشرية ، فجسمه ساجد في الثرى وروحه متعلقة بالملأ الأعلى ، يتململ إذا

ــــــــــــــــ

(١) الصوب : المطر والواكف : المطر الذي يسيل قليلاً قليلاً .

١٤٩

مرت به آية من آيات الوعيد حتى كأنه المقصود بها ، وهو عنها بعيد ، تجد أموراً عجيبة وأحوالاً غريبة ، ونفساً من الله سبحانه قريبة ، وتعلم يقيناً لاشك فيه ولا ارتياب ، وتعرف معرفة من قد كشف له الحجاب ، وفتحت له الأبواب ، ان هذه الثمرة من تلك الشجرة ، كما ان الواحد جزء من العشرة ، وان هذه النطفة العذبة من ذلك المعين الكريم ، وان هذا الحديث من ذلك القديم ، وان هذه الدرة من ذلك البحر الزاخر ، وان هذا النجم من ذلك القمر الباهر ، وان هذا الفرع النابت من ذلك الأصل الثابت ، وان هذه النتيجة من هذه المقدمة ، وان خليفة محمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة المكرمة المعظمة هذا أصله الطاهر )(١)

وكانت له من صفات الكمال ما يمكن استقراؤها من صحائف التأريخ ، عبر الوريقات القادمة .

الأفضلية في العلم

تميّز الإمام زين العابدينعليه‌السلام بذهنٍ متقدٍ ، وعلمٍ جمّ ، وقدرة عقلية إلهامية أكثر منها إكتسابية وقد ألمحنا سابقاً إلى ان من شروط الإمامة : العلم اللدني ، أي العلم المفاض من قبل الله تبارك

ــــــــــــــــ

(١) كشف الغمة في معرفة أحوال الأئمةعليه‌السلام ـ الأربلي ترجمة علي بن الحسينعليه‌السلام .

١٥٠

وتعالى على الإمامعليه‌السلام وقد أشار الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام إلى ذلك فقال : ( اعطاه الله علمه واستودعه سره وأحيى به مناهج سبله وفرائضه وحدوده ، فقام بالعدل عند تحير أهل الجهل )(١)

ولذلك اشتهر بين الناس في زمانه أنهعليه‌السلام كان أوسع الناس علماً وكان عنده من العلماء والرواة الذين رووا عنه من العلوم ما لا يحصى(٢) ومن أجل إدراك شخصيته العلمية ، لابد من عرض نماذج له في التفسير والحديث والفقه والكلام .

أ ـ القرآن الكريم :

وكان من حبه وشغفه بالقرآن الكريم أنه قال : (لو مات ما بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد ان يكون القرآن معي )(٣)

ولم يقتصر انشغاله بالقرآن على حفظه وتفسيره والتدبر في معانيه ، بل كانعليه‌السلام من أحسن الناس صوتأً في تلاوته ، وكان السقائون الذين يمرون ببابه يقفون لاستماع صوته(٤) ولا عجب ، وهو العارف بالقرآن الكريم ، ان يدعو الناس إلى التدبر في معانيه ، فيقول : ( آيات

ــــــــــــــــ

(١) غيبة النعماني ص ١٢٠ .

(٢) خلاصة تهذيب الكمال ص ٢٣ أقول : أحصى علماء الرجال من رواته وتلامذته أكثر من مائة وسبعين راوياً والذين فقدت اسماؤهم أكثر .

(٣) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١٠٧ .

(٤) أصول الكافي ج ٢ ص ٦١٦ .

١٥١

القرآن خزائن كلما فتحت خزانةً ينبغي لك أن تنظر ما فيها ) وكان اهتمامهعليه‌السلام بالقرآن منصّباً على أمرين الأول : التأكيد على أهمية القرآن الكريم للمسلمين والثاني : تفسير آيات الكتاب المجيد وشرحها .

أولاً : أهمية القرآن :

تنبع أهمية القرآن الكريم من كونه كلام الله المجيد ، الذي يخاطب فيه المولى عزّ وجلّ عقل المسلم وضميره وروحه فهو مصباح هداية ، ووسيلة لمنازل الشرف في الآخرة ، وسبباً لحظّ الذنوب ، وشفيه يرتضيه الله تبارك وتعالى لغفران زلات المذنبين وعلى ضوء ذلك ، كان الإمام زين العابدينعليه‌السلام حريصاً على تبيين أهمية القرآن في حياة الإنسان ، عن طريق الدعاء والمناجاة ، أو الإرشاد والموعظة :

١ ـ يقولعليه‌السلام في فضل القرآن : ( اللهم صلّ على محمد وآله ، واجبر بالقرآن خلّتنا من عدم الاملاق(١) ، وسق إلينا به رغد العيش ، ، وخصب سعة الأرزاق ، وجّنبنا به الضرائب(٢) المذمومة ، ومداني الاخلاق(٣) ، واعصمنا به من هوّة الكفر ، ودواعي النفاق ،

ــــــــــــــــ

(١) الاملاق : الفقر .

(٢) الضرائب : جمع ضريبة بمعنى الطبيعة .

(٣) مداني الأخلاق : الأخلاق الدنيئة .

١٥٢

حتى يكون لنا في القيامة إلى رضوانك وجنانك قائداً ، ولنا في الدنيا عن سخطك وتعدّي حدودك ذائداً ، ولما عندك بتحليل حلاله وتحريم حرامه شاهداً .

اللهم صلّ على محمدٍ وآله ، وهوّن بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السياق(١) وجهد الأنين ، وترادف الحشارج(٢) إذا بلغت النفوس التراقي(٣) وقيل من راق ، وتجلّى ملك الموت ليقبضها من حجب الغيوب ، ورماها عن قوس المنايا بأسهم وحشة الفراق ، وداف لها من ذعاف الموت(٤) كأساً مسمومة المذاق ، ودنا منّا إلى الآخرة رحيلٌ وانطلاقٌ ، وصارت الأعمال قلائد في الأعناق ، وكانت القبور هي المأوى إلى ميقات يوم التلاق .

اللهم صلّ على محمد وآله ، وبارك لنا في حلول دار البلى ، وطول المقامه بين أطباق الثرى ، واجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا ، وافسح لنا برحمتك في ضيق ملاحدنا ، ولا تفضحنا في حاضري القيامة بموبقات آثامنا ، وارحم بالقرآن في موقف العرض عليك ذل مقامنا ، وثبّت به عند اضطراب جسر جهنم يوم المجاز

ــــــــــــــــ

(١) كرب السياق : حالة المحتضر عند الموت .

(٢) الحشارج : جمع حشرجة ، وهي الغرغرة عند الموت .

(٣) الترافي : جمع ترقوة وهي العظم المحيط بالرقية .

(٤) زعاف الموت : خالصه .

١٥٣

عليها زلل أقدامنا ، ونور به قبل البعث سدف قبورنا(١) ، ونجّنا به من كل كرب يوم القيامة ، وشدائد أهوال يوم الطامة ، وبيّض وجوهنا يوم تسودّ وجوه الظلمة في يوم الحسرة والندامة ، واجعل لنا في صدور المؤمنين ودّاً ، ولا تجعل الحياة علينا نكداً )(٢) .

٢ ـ ويقولعليه‌السلام في كون القرآن وسيلة إلى الشرف المنازل : ( اللهم صلّ على محمدٍ وآله ، واجعلنا ممن يعتصم بحبله ، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله ، ويسكن في ظلّ جناحه ، ويهتدي بضوء صاحبه ، ويقتدي بتبلّج أسفاره ، ويستصبح بمصباحه ، ولا يلتمس الهدى في غيره اللهم وكما نصبت به محمداً علماً للدلالة عليك ، وأنهجت بآله سبل الرضا إليك ، فصلّ على محمدٍ وآله ، واجعل القرآن وسيلةً لنا إلى أشرف منازل الكرامة ، وسلّماً نعرج فيه إلى محلٌ السلامة ، وسبباً نجزى به النجاة في عرصة القيامة ، وذريعةً نقدم بها على نعيم دار المقامة .

اللهم صلّ على محمد وآله ، واحطط بالقرآن عنا ثقل الأوزار ، وهب لنا حسن شمائل الأبرار ، واقف بنا آثار الذين قاموا لك اناء الليل وأطراف النهار ، حتى تطهّرنا من كل دنسٍ بتطهيره ، وتقفوا بنا آثار الذين استضاؤوا بنوره ، ولم يلههم الأمل عن العمل ،

ــــــــــــــــ

(١) سدف قبورنا : ظلمة قبورنا .

(٢) الصحيفة السجادية ـ الدعاء الثاني والأربعون ص ١٧٤ .

١٥٤

فيقطعهم بخدع غروره اللهم صلّ على محمدٍ وآله ، واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً ، ومن نزغات الشيطان(١) وخطرات الوساوس حارساً ولأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً ، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير آفةٍ مخرساً ، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً ، ولما طوت الغفلة عنا من تصفّح الاعتبار ناشراً ، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه ، وزواجر أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله .

اللهم صلّ على محمدٍ وآله ، وادم بالقرآن صلاح ظاهرنا ، واحجب به خطرات الوساوس عن صحة ضمائرنا ، واغسل به درن قلوبنا ، وعلائق أوزارنا ، واجمع به منتشر أمورنا ، وأرو به في موقف العرض عليك ظمأ هواجرنا ، واكسنا به حلل الأمان يوم الفزع الأكبر في نشورنا )(٢)

٣ ـ وفي دعائه بعد ختم القرآن يقولعليه‌السلام : ( اللّهم فإذا أفدتنا المعونة على تلاوته ، وسهلّت جواسي ألسنتنا(٣) بحسن عبادته ، فاجعلنا ممن يرعاه حقّ رعايته ، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته ، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه ، وموضحات بيناته اللّهم إنك أنزلته على نبيك

ــــــــــــــــ

(١) نزغات الشيطان : جمع نزغة ، وهي الوسوسة .

(٢) الصحيفة السجادية ـ الدعاء الثاني والأربعون ص ١٧٣ .

(٣) جواسي : جمع جاسية وهي الغليظة والمراد غلاظ الألسنة .

١٥٥

محمدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجملاً ، وألهمته علم عجائبه مكمّلاً ، وورثتنا علمه مفسّراً ، وفضلّتنا على من جهل علمه ، وقوّيتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطقّ حمله .

اللّهم فكما جعلت قلوبنا له حملةً ، وعرّفتنا برحمتك شرفه وفضله ، فصلّ على محمدٍ الخطيب به ، وعلى آله الخزّان له ، واجعلنا ممن يعترف بأنه من عندك حتى لا يعارضنا الشكّ في تصديقه ، ولا يختلجنا الزيغ عن قصد طريقه )(١)

٤ ـ الحال المرتحل : قيل لهعليه‌السلام أي الأعمال أفضل ؟ قالعليه‌السلام : ( الحال المرتحل ) فقيل له : وما ذاك ؟ قالعليه‌السلام : ( هو فتح القرآن وختمه فانه كلما جاء بأوله أرتحل بآخره ولقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أعطاه الله القرآ، فرأى ان رجلاً أعطي أفضل مما أعطاه الله فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً )(٢)

ثانياً : تفسير القرآن :

ولم يقتصر إهتمام الإمام السجادعليه‌السلام بالقرآن الكريم بحفظه أو تلاوته فحسب ، بل تعدى إلى فهم شامل لمعاني الكتاب السماوي ذلك لأن في آيات القرآن : المحكم والمتشابه ، والظاهر والباطن ،

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية ص ١٧٢ .

(٢) الكافي على هامش مرآة العقول ج ٢ ص ٥٣٠ .

١٥٦

والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ ولا يمكن ان يتجرأ أحدٌ على تفسير القرآن الكريم دون أساس علمي شرعي يخوّلة بذلك وهو القائلعليه‌السلام : ( نحن خلفاء الأرض ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن المخصوصون في كتاب الله ) ، ( ونحن ورثة الأنبياء ، ونحن ذرية أولي العلم ) ، ( فقد علمنا وبلغنا واستودعنا علمهم )(١) فلا ريب أن نأخذ بعلمهعليه‌السلام في تفسير كتاب الله المجيد :

١ ـ في تفسير الآية الكريمة :( الّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً ) (٢) ، قالعليه‌السلام : ( إنه سبحانه وتعالى جعل الأرض ملائمة لطباعكم ، موافقة لأجسادكم ، ولم يجعلها شديدة الحمأ(٣) والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم(٤) ، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وابنيتكم وقبور موتاكم ، ولكنه عزّ وجلّ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم ، فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم .

ــــــــــــــــ

(١) ناسخ التواريخ ج ٢ ص ٤٩ .

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٢ .

(٣) الحمأ : شدة حرارة الشمس .

(٤) تعطبكم : تهللكم .

١٥٧

ثم قال عزّ وجلّ : ( والسّماء بناءً ) أي سقفاً من فوقكم ، محفوظاً يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم .

ثم قال عزّ وجلّ : ( وأنزل من السّماء ماءً ) يعني المطر ينزله من علٍ ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم(١) ، ثم فرّقه رذاذاً ووابلاً وهطلاً(٢) لتنشفه أرضوكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلاً عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضكم وأشجاركم وزروعكم و ثماركم .

ثم قال عزّ وجلّ : ( فأخرج به من الثّمرات رزقاً لكم ) يعني مما يخرجه من الأرض رزقاً لكم ( فلا تجعلوا لله أنداداً ) أي أشباهاً وأمثالاً من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء ( وأنتم تعلمون ) أنها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي انعمها علكيم ربكم تبارك وتعالى )(٣)

٢ ـ في تفسير قوله تعالى : (( وَرَتّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) )(٤) قالعليه‌السلام : ( بيّنه ـ أي القرآن في تلاوته ـ تبييناً ، ولا تنثره نثر البقل ، ولا تهذه هذي الشعر قفوا عند عجائبه لتحركوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة)

ــــــــــــــــ

(١) الهضاب : الأرض المرتفعة الأوهاد : الأرض المنخفضة .

(٢) الرذاذ : المطر الضعيف الوابل : المطر الشديد الهطل : المطر الضعيف الدائم .

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ج ١ ص ١٣٧ ـ ١٣٨ .

(٤) سورة المزمل : الآية ٤ .

١٥٨

٣ ـ في تفسير قوله تعالى : (( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِي‏ءَ بِالنّبِيّينَ وَالشّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) ((١) : ( إذا كان يوم القيامة بعث الله الناس من حفرهم عزلاً ، جرداً مرداً ، في صعيد واحد يسوقهم النور ، وتجمعهم الظلمة ، حتى يقفوا على عتبة المحشر ، فيزدحمون دونها ، ويمنعون من المضي ، فتشتد أنفاسهم ، ويكثر عرقهم ، وتضيق بهم أمورهم ، ويشتد ضجيجهم ، وترتفع أصواتهم ، وهو أول هول من أهوال القيامة .

فينادي منادٍ اسمعوا منادي الجبار فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم ، فتخشع قلوبهم ، وتضطرب فرائصهم ، ويرفعون رؤوسهم الى ناحية الصوت مهطعين إلى الداعي ، ويقول الكافرون : هذا يوم عسير فيأتي النداء من قبل الجبار : أنا الله لا إله إلا أنا ، أنا الحكم الذي لا يجور ، أحكم اليوم بينكم بعدلي وقسطي ، لا يظلم اليوم عندي أحد ، آخذ للضعيف من القوي ، ولصاحب المظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات ، وأثيب على الهبات ، ولا يجوز هذه العقبة ظالم ولا أحد عنده مظلمة يهبها لصاحبها ، إلا وأثيبه عليها ، وآخذ له بها عند الحساب ، واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا ، وأنا شاهدكم وكفى بي شهيداً )(٢)

ــــــــــــــــ

(١) سورة الزمر : الآية ٦٩ .

(٢) تفسير البرهان ج ٢ ص ٩٥ .

١٥٩

٤ ـ في تفسير قوله تعالى : )( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الْصّدَقَاتِ وَأَنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ ) )(١) : (اني ضامن عن ربي تعالى أن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب تعالى ) وكانعليه‌السلام يقول : ( ليس من شيء إلا و كل به ملك ، إلا الصدقة فإنها تقع في يد الله تعالى )(٢)

٥ ـ في تفسير قوله تعالى :( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى )(٣) قالعليه‌السلام : ( هي قرابتنا أهل البيت )(٤)

أقول : ان الأجر المطلوب في آية المودة لم يكن من سنخ المال فالأنبياء أرقى وأجلّ من أن يطلبوا مالاً أو يأخذوا جعلاً على تبليغ رسالة السماء وقد صارح أنبياء اللهعليه‌السلام بنفي الأجرة على التبليغ ، ففي الحكاية عن هود وصالح وشعيب ويسوف عليهم السلام(٥) : (( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى‏ رَبّ الْعَالَمِينَ ) )(٦) وعن نوح ع (:( فَمَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا

ــــــــــــــــ

(١) سورة التوبة : الآية ١٠٤ .

(٢) تفسير البرهان ج ١ ص ٤٤١ ، وتفسير الصافي ص ٢٢٣ .

(٣) سورة الشورى : الآية ٢٣ .

(٤) أحكام القرآن للحصاص ج ٣ ص ٤٧٥ .

(٥) سورة الشعراء : الآية ١٠٩ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠ ومعنى مشابه في سورة يوسف : الآية ١٠٤ .

(٦) سورة الشعراء : الآية ١٠٩ .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ )

فلم يخلصه أصدقاؤه ، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله ، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!

أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون : واها له ، فإنّ الرزق بيد الله( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ) .

لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله ، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد ، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!.

فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفرادا وأقواما ، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم.

ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه ، وأعطاهم الله هذا المال ، ثمّ هووا كما هوى قارون ، فما ذا يكون قد نفعهم المال؟

لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا :( لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) .

فالآن نرى الحقيقة بأعيننا ، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة ، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.

ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة ـ ضمنا ـ أنّ قارون المغرور مات كافرا غير مؤمن ، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفا بالتوراة قارئا لها ، وعالما من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.

* * *

٣٠١

بحوث

١ ـ نماذج قارونية بالأمس واليوم!

قصّة قارون ـ هذا الثري المغرور ـ التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات ـ بأسلوب جذّاب ـ تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس!

هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة ، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان ـ أحيانا ـ إلى أنواع الجنون جنون إظهار الثروة وعرضها ولفت أنظار الآخرين إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.

كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب ، قد تكون سببا لأنّ يجرأ الإنسان أحيانا إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها ، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة واتهام أطهر الأفراد ، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.

أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة ، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين ، ويستجيب لمن يريد له الخير!.

وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعا ، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم ، وربّما تقع عن طريق الغصب أحيانا ، هي دليل على عقلهم وذكائهم وأن جميع الناس جهلة كما يظنون ، وأنّهم ـ وحدهم ـ العلماء فحسب!.

ويبلغ بهم الأمر حدّا أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق ، وكأنّهم مستقلّون ، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم ، واستعدادهم وخلّاقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها!

ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين ، وكيف ينتهون ، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعا قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها ، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة وأحيانا تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكل

٣٠٢

آخر أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبدا وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة ، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض! وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.

أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقا لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القيم الخيالية وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية ، والطوابع ، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة ، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف ، وهي لا تستحق أن توضع إلّا في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار!

أولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم ـ وأحيانا في جيرانهم ـ من لا عهد له بالشبع ، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين ، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم ، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!.

كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه ، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناسا محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم ، وربّما يرقدون في المستشفى ، ويئنّون ولا من مصرخ لهم ، ولا من علاج لمرضهم!.

جميع هذه البحوث تنطبق أحيانا على بعض الأفراد في مجتمع ما ، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها ، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة ، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الاستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية.

لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه ـ في أرقى صورها ـ باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل ،

٣٠٣

ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة ، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.

وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة ، بل هي دول منيت بسرقة خيراتها وأغير عليها وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض ، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء.

فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة وإذا لم يتّحد المستضعفون يدا بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون ، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.

فأولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين ، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين.

٢ ـ من أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟

الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (٢٣) و (٢٤) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسىعليه‌السلام كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! «فرعون» ، ووزيره «هامان» ، و «قارون» الثري المغرور.( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون ، وكان على خطه ؛ كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(١) ، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون ، والمسؤول على خزائنه من جهة أخرى(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٥ ، ص ١٣ ، وتفسر مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٦٦ ـ ذيل الآية محل البحث

(٢) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٥٢٠ ذيل الآية ٢٤ من سورة المؤمن.

٣٠٤

ومن هنا تتّضح هويّة قارون فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقا منهم ، وأودعه أزمّة أمورهم ، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار ، وليجعلهم حفاة عراة ، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!.

والقرائن تشير إلى أنّ مقدارا من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون ، ولم يطلع موسىعليه‌السلام ـ إلى تلك الفترة ـ على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء.

وعلى كل حال ، فسواء كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون ، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه ، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.

مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون ، وبدّل وجهه بسرعة ، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!.

وأخيرا فحين أراد موسىعليه‌السلام أن يأخذ من قارون زكاة المال ، خدع به الناس ، وعرفنا كيف كانت عاقبته.

٣ ـ موقف الإسلام من الثّروة!

لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفا أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفا سلبيا ، وأنّه يخالف خط الثراء ، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء ، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!.

بل على العكس من ذلك ، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّا نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (١٨٠) من سورة البقرة( إِنْ تَرَكَ

٣٠٥

خَيْراً ) أي مالا.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الصدد «نعم العون الدنيا على طلب الآخرة»(١) .

بل حتى الآيات ـ محل البحث ـ التي تذم قارون أشدّ الذم ، لأنّه اغتر بالمال ، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة ، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون( وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) .

والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها «أحسن كما أحسن الله إليك» ولكن للجميع!.

والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول «لا تنس نصيبك من الدنيا» ويمدحها.

وأخيرا فإنّ الإسلام لا يطلب ثروة ينبغي بها الفساد في الأرض وتنسى بها القيم الإنسانية وتكون نتيجتها الابتلاء بمسابقة جنون التكاثر ، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين ، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسىعليه‌السلام !.

يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الاقتصادي ، وأن يستفيد منها الجميع ، ولتكون ضمادا لجراح المحرومين ، وللوصول بها إلى إشباع الحاجات الاجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين

فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية ، أو ارتباطا بالدنيا ، بل هي علاقة أخروية.

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أن أحد أصحابه جاءه شاكيا أمره ، وقال : والله إنّا لنطلي الدنيا ونحبّ أن نؤتاها. فقالعليه‌السلام : «تحبّ أن تصنع بها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث ٥ من الباب ١٦ من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٦

ما ذا؟»

قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادقعليه‌السلام : «ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة»(١) .

ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال :

طائفة من المسلمين ، أو بتعبير أدق : ممن يتظاهرون بالإسلام ، وبعيدون عن تعاليمه ، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين.

وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل ، ويجعلوه معاديا للثروة ، وأنّه يقف الى جانب الفقراء فحسب.

وأساسا فإنّ أمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!.

فالفقر وسيلة للارتباط بالاجنبي والتبعية

والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة!

والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة.

كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد «غنى يحجزك عن الظلم ، خير من فقر يحملك على الإثم»(٢) .

إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى ـ مهما استطاعت ـ نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة ، ولتبلغ مرحلة الاكتفاء الذاتي ، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير.

* * *

__________________

(١) «وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٩ الحديث الثّالث الباب السابع من أبواب مقدمات التجارة.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٧

الآيتان

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) )

التّفسير

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض :

بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط ، وهو قارون ، تبدأ الآية الأولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث ، إذ تقول الآية( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) .

أجل ، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب ، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل ، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.

وفي الحقيقة إنّ ما يكون سببا لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة ، هو هذان الأمران : «الرغبة في العلو» أيّ الاستكبار و «الفساد في الأرض» وهما

٣٠٨

الذنوب لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتما ، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان ، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الاستعلاء ـ بنفسها ـ هي أيضا واحدة من مصاديق الفساد في الأرض ، إلّا أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.

وقد رأينا في قصّة «قارون» وشرح حاله أنّ السبب الأساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و «الاستكبار».

ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماما بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام يقول : «إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها»(١) .

(وهذا أيضا فرع صغير من الاستعلاء).

ومن الطريف أنّ صاحب «تفسير الكشاف» يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول : بعض الطامعين ينسبون «العلوّ» في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) ،(٢) والفساد لقارون بمقتضى قوله :( تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ) ،(٣) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة ، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب ، ويرون الباقين من أهل الجنّة ، إلّا أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) بدقة ـ كما لاحظها الإمام عليعليه‌السلام (٤) .

وما ينبغي إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة أخطئوا حتى في معرفة قارون وفرعون لأنّ فرعون كان عاليا في الأرض وكان من المفسدين

__________________

(١) تفسير جوامع الجامع ، ذيل الآية محل البحث.

(٢) سورة القصص ، الآية ٤.

(٣) سورة القصص ، الآية ٧٧.

(٤) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية محل البحث.

٣٠٩

( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ،(١) وقارون أيضا كان مفسدا وكان عاليا بمقتضى قوله :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) .(٢)

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية ، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء ، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) . ثمّ يضيف سلام الله عليه : «نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس»(٣) .

ومعنى هذا الكلام ، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء ، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين ، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وكما يقول القرآن في نهاية الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة ، وهي الانتصار في هذه الدنيا ، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.

ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادقعليه‌السلام وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال : «ذهبت والله الأماني عند هذه الآية»(٤) .

وبعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية ، وهي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٤.

(٢) سورة القصص ، الآية ٧٩.

(٣) نقل هذه الرواية زاذان عن أمير المؤمنين «مجمع البيان (ذيل الآية محل البحث)».

(٤) تفسير علي بن إبراهيم ذيل الآية محل البحث.

٣١٠

السلطة والمستكبرين ، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق ، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانونا كليا وهو مزيج بين العدالة والتفضل ، ولتذكر ثواب الإحسان فتقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) .

وهذه هي مرحلة التفضل ، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة ، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله ، إلّا أنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف ، إلّا أن أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته ، حيث يقول القرآن في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

أمّا الحدّ الأكثر من ثواب الله وجزائه فلا يعلمه إلّا الله ، وقد جاءت الإشارة إلى جانب منه ـ وهو الإنفاق في سبيل الله ـ في الآية ٢٦١ من سورة البقرة إذ يقول سبحانه في هذا الصدد( ... مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

وبالطبع فإنّ مضاعفة الأجر والثواب ليس أمرا اعتباطيا ، بل له ارتباط وثيق بنقاء العمل وميزان الإخلاص وحسن النيّة وصفاء القلب ، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.

ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي ، لأنّ المسيء لا يجازى إلّا بقدر إساءته ، ولا تضاف على إساءته أية عقوبة!.

الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه( إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي إن أعمالهم التي هي طبقا لقانون بقاء الموجودات في

٣١١

عالم الوجود ، تبقى ولا تتغير ، وتبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء ، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل ، وهذا الجزاء يرافق المسيئين ويعذبهم!.

* * *

ملاحظات

١ ـ لم تكرر ذكر «السيئة» في هذه الآية مرتين؟

من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية ، لأن الله يريد أن يؤكّد على هذه المسألة ، وهي أن السيئة لا جزاء لها إلّا نفسها.

٢ ـ هل تشمل الحسنة الإيمان والتوحيد؟ فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) ؟! وهل هناك خير من الإيمان والتوحيد؟!

وفي الإجابة على هذا السؤال نقول ـ بدون شك وترددّ ـ إن للحسنة معنى واسعا فهي تشمل المناهج الاعتقادية والأقوال والأعمال الخارجية ، وما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد الله فهو رضا الله سبحانه الذي يكون ثوابا للمحسنين ، فنحن نقرأ في الآية (٧٢) من سورة التوبة قوله تعالى :( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) !

٣ ـ لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد ، وعن السيئات بصيغة الجمع؟! يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين وقلة المحسنين(١) .

كما ويحتمل أيضا أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد ، وأنّ جميع الحسنات تعود إلى «جذر» واحد وهو توحيد الله ، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت والتعدد والكثرة.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، الآلوسي ذيل الآية.

٣١٢

الآيات

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جماعة من المفسّرين ـ سببا لنزول الآية الأولى من الآيات أعلاه عن ابن عباس مضمونه ما يلي :

حين كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متوجها من مكّة إلى المدينة في سفر الهجرة وبلغ «الجحفة» وهي لا تبعد عن مكّة كثيرا تذكر وطنه «مكّة» هذه البقعة التي هي حرم الله وأمنه وفيها البيت العتيق «الكعبة» التي تعلق بها قلب النّبي وروحه تعلقا لا يقبل الانفكاك ظهرت آثار الشوق على وجه النّبي الكريم مزيجة بالحزن

٣١٣

والتأثر ، فنزل أمين الوحي جبريل على رسول الله وقال : أتشتاق الى بلدك وهو مولدك؟! فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم فقال جبرئيلعليه‌السلام : فإن الله يقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) (١) يعني مكّة

ونعلم أنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيرا ، ودخل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بجيشه القوي وقدرته وعظمته الكبيرة مكّة ظافرا ، واستسلمت مكّة والحرم الآمن دون حرب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه ، إذ أخبر القرآن عن رجوع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة بصورة قطعيّة ودون أي قيد وشرط ، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير!.

التّفسير

الوعد بعودة النّبي إلى حرم الله الآمن :

هذه الآيات التي هي آخر الآيات في سورة القصص تخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وتبشره بالنصر ، بعد أن جاءت الآيات الأولى لتبيّن قصّة موسى وفرعون وما جرى له مع قومه ، كما أنّ هذه الآيات فيها ارشادات وتعليمات مؤكّدة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلنا : إنّ الآية الأولى من هذه الآيات طبقا لما هو مشهور بين المفسّرين نزلت في «الجحفة» في مسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى المدينة إذ كان متوجها إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرّسول» وأن يبذر النّواة الأصيلة «لحكومة إسلامية» فيها ويجعلها مقرّا لحكومة إلهية واسعة ، ويحقق فيها أهدافها.

لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكّة يؤلمه كثيرا ، وليس من اليسير عليه الابتعاد عن حرم الله الآمن.

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير القرطبي ، ومجمع البيان «التّفسير الكبير» للفخر الرازي ، وتفاسير غيرها.

٣١٤

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي ، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) .

فلا تكترث ولا تذهب نفسك حسرات ، فالله الذي أعاد موسى إلى أمّه هو الذي أرجعه أيضا إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين ، ليشعل مصباح التوحيد ويقيم حكومة المستضعفين ويقضي على الفراعنة ودولتهم وقوّتهم.

هو الله سبحانه الذي يردك إلى مكّة بكلّ قوّة وقدرة ، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقا في هذه الأرض المباركة.

وهو الله الذي أنزل عليك القرآن ، وفرض عليك إبلاغه ، وأوجب عليك أحكامه.

أجل ، إنّ ربّ القرآن وربّ السماء والأرض العظيم ، يسير عليه أن يردّك إلى معادك ووطنك «مكّة».

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه الله( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

إنّ طريق الهداية واضح ، وضلالهم بيّن ، وهم يتعبون أنفسهم عبثا ، فالله يعرف ذلك جيدا ، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضا.

وبالطبع فإنّ التّفسير الواضح للآية كما بيّناه آنفا ، إلّا أن جمعا من المفسّرين لديهم احتمالات أخرى في كلمة «معاد» من قبيل «العودة للحياة بعد الموت» «المحشر» او «الموت». كما فسّروه «بالجنّة» أو مقام «الشفاعة الكبرى» أو «بيت المقدس» الذي عرج النّبي منه أوّل مرة ، وغير هذه المعاني.

إلّا أنّه مع الالتفات إلى محتوى مجموع هذه السورة ـ القصص ـ وما جاء في قصّة موسى وفرعون وبني إسرائيل ، وما سقناه من شأن نزول الآية ، فيبعد تفسير المعاد بغير العودة إلى مكّة كما يبدو!.

أضف إلى ذلك أن المعاد في يوم القيامة لا يختصّ بالنّبي وحده ، والحال أن

٣١٥

الآية تتحدث عن النّبي ـ هنا ـ وتخاطبه وحده. ووجود هذه الآية بعد الآية التي تتحدث عن الثواب والجزاء في يوم القيامة ، لا دلالة فيها على هذا المعنى ، بل على العكس من ذلك ، لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الانتصار في الدار الآخرة ، ومن المناسب أن يكون الحديث في هذه الآية عن الانتصار في هذه الدنيا.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة أخرى من نعم الله العظيمة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول :( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (١) .

كان كثير من الناس قد سمعوا بالبشارة بظهور الدين الجديد ، ولعل طائفة من أهل الكتاب وغيرهم كانوا ينتظرون أن ينزل عليهم الوحي ويحمّلهم الله هذه المسؤولية ، ولكنّك ـ أيّها النّبي ـ لم تكن تظن أنّه سينزل عليك الوحي( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ ) إلّا أن الله رآك أجدر بالأمر ، وأن هذا الدين الجديد ينبغي أن ينتشر ويتسع على يدك في هذا العالم الكبير!.

وبعض المفسّرين يرون هذه الآية منسجمة مع آيات سابقة كانت تتحدث عن موسىعليه‌السلام ، وتخاطب النّبي ـ أيضا ـ كقوله تعالى :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .

فعلى هذا يكون المقصود بالكتاب هنا هو قصص الأنبياء السابقين إلّا أن هذا التفسير لا منافاة فيه مع التفسير المتقدم! بل يعدّ قسما منه في الواقع!.

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن طالما كنت في هذه النعمة( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ) .

ومن المسلّم به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ظهيرا للكافرين أبدا ، إلّا أن الآية جاءت في مقام التأكيد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان المسؤولية للآخرين ، وأن

__________________

(١) قال بعضهم : إن «إلّا» هنا تفيد الاستثناء ، فاضطروا إلى أن يقولوا بحذف كلمة والتقدير لها من عندهم وهو تحكّم إلّا أن البعض الآخر فسّر «إلّا» بمعنى «لكن» وأنّها تفيد الإستدراك ، وهذا الوجه أقرب للنظر!

٣١٦

وظيفتهم أن يتأسوا بالنّبي ولا يكون أيّ منهم ظهيرا للكافرين.

وهذا الموضوع ينسجم تماما مع الموضوع الذي قرأناه في شأن موسىعليه‌السلام ، إذ قال :( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) وبيّنا معناه في شأن إعانة الظالمين في الآية (١٧) من سورة القصص ، أمّا الآيتان اللتان تختتم بهما سورة القصص ، فهما تأكيد على مسألة التوحيد بتعابير واستدلالات متعددة ـ ومختلفة.

التوحيد الذي هو أساس جميع المسائل الدينية التوحيد الذي هو الأصل وهو الفرع وهو الكلّ وهو الجزء!.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأربعة صفات لله تعالى ، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.

يقول أوّلا :( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ) وبالرغم من أن النهي موجه إلى الكفار ، إلّا أن مفهوم الآية عدم تسليم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام صدّ الكافرين ، وإحباطهم ومؤامراتهم ، وهذا تماما يشبه ما لو قلنا مثلا : لا ينبغي أن يوسوس لك فلان ، فمعناه : لا تستسلم لوسوسته!.

وبهذا الأسلوب يأمر الله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر ، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت ، وليسر نحو هدفه مطمئنا ، فإنّ الله حاميه ومعه أبدا.

ويقول ابن عباس : وإن كان المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ المراد عموم الناس ، وهو من قبيل المثل العربي المعروف «إيّاك أعني واسمعي يا جارة!».

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي ، يأتي الخطاب الثّاني وفيه سمة إثبات فيقول :( وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ) فالله الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك

والأمر الثالث ، بعد الأمر بتوحيد الله ، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فإن طريق التوحيد واضحة بينة ، ومن

٣١٧

ساروا عليها فهم على صراط مستقيم!.

والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك ، إذ يقول تعالى :( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر ، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي ، إذ بدونه يكون كل عمل زيفا ووهما.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه ، وهي جميعا تأكيد على التوحيد أيضا.

فالأوّل قوله :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

والثّاني قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) .

والوصف الثالث :( لَهُ الْحُكْمُ ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع : أن معادنا إليه( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام ، الذي أشير إليه في الوصف الأول!

لأنّه طالما كنّا هالكين جميعا وهو الباقي.

وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له!

وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع! فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره ، وأي أحد يستحق العبادة سواه!؟

والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) تدور حول محور كلمتي «وجه» و «هالك».

لأنّ الوجه يطلق ـ من حيث اللغة ـ على المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل ، ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة!.

وكلمة «هالك» مشتقّة من مادة «هلك» ومعناه الموت والعدم ، فعلى هذا

٣١٨

يكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه ، فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة ، وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة ، وليس لديها في ذاتها أي شيء ، وكلّ ما لديها فمن الله!

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل ، وحتى طبقا لفلسفة «الحركة الجوهرية» فذاتها هي التغيير بعينه ، ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية ، فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا!.

فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآن ـ أيضا ـ غير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك ، هي الذات المقدسة!

كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم ، وكما يقول القرآن :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .(١)

ولا يخصّ الفناء ما على الأرض ، بل يشمل حتى أهل السماء( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .(٢) فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأخرى في القرآن ، غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أخرى غير ما تقدم بيانه ، ومنها :

١ ـ أنّ المقصود من كلمة (وجه) هو العمل الصالح ، ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصا لله.

وقال بعضهم : إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله ، فيكون مفهوم الآية أنّ كل شيء معدوم ذاتا إلّا من ناحية انتمائه إلى الله!

وقال بعضهم : المراد بالوجه هو الدين ، فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٦٨.

٣١٩

باطلة سوى دين الله.

وجملة( لَهُ الْحُكْمُ ) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية. وهو تأكيد على التّفسير السابق!.

كما أن جملة( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه! وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى(١) .

وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفا لا نجد بينها منافاة في الحقيقة! لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب! فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والابدية.

فدين الله الصادر منه أبديّ ، والعمل الصالح الذي له أبديّ والقادة الإلهيّون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود.

والخلاصة ، كل ما هو مرتبط بالله ـ ولو بنحو من الأنحاء ـ فهو غير فان «فلاحظوا بدقّة».

* * *

مسألتان

١ ـ كيف تفنى جميع الأشياء؟!

من جملة الأسئلة التي أثيرت في ذيل الآية ، هو أنّه إذا كان لا بدّ من فناء جميع الأشياء في نهاية العالم ، فلا محيص من أن تتلاشى الأتربة التي تكونت من أبدان الناس ، في حين أن القرآن يصرّح مرارا بأن الله سيجمع هذه الاتربة وينشر الناس منها ، وأن الناس سينشرون في يوم القيامة من قبورهم!.

وطبقا لظاهر الآيات ـ أيضا ـ فإن الجنّة معدّة ، والنّار معدّة ومهيأة من قبل ،

__________________

(١) وردت روايات متعددة في تفسير «نور الثّقلين» في ذيل الآيات فسّرت بعضها الوجه بدين الله ، وبعضها برسل الله وما هو منسوب لله.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413