الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 256034 / تحميل: 14816
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام زين العابدين

السيد زهير الأعرجي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرا ) (١) .

وعن الإمام الرضاعليه‌السلام قال : (رحم الله عبداً أحيى أمرنا) قيل له : كيف يحيي أمركم ؟ قالعليه‌السلام : (يتعلم علومنا ويعلمها الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لا تبعونا )(٢) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الأحزاب : الآية ٣٣ .

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ص ١٧١ .

٢

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على محمدٍ رسول الله ، وعلى آله الطيبين الطاهرين .

وبعد .

هذا الكتاب يتناول سيرة الإمام الرابع من أئمة أهل البيت علي بن الحسينعليه‌السلام ، وخصائصه الشخصية ، وآثاره في العلم والحكمة والموعظة .

وشخصية علي بن الحسينعليه‌السلام المعروف بالسجاد وزين العابدين لها أهمية تأريخية وعقائدية متميزة لسببين :

الأول : إمتلاكه اللياقة التامة الكاملة لمنصب الإمامة الكبرى وهو منصب إلهي مجعول من قبل الله تعالى ، كما أشار القرآن الكريم :( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً ) (١) وتلك اللياقة تعني حيازة الفضائل الإنسانية والكمالات الروحية والعلمية والجسدية واللياقة لا تكتمل إلا بعلمٍ رباني وفيضٍ إلهي يحيط بجميع شؤون ولاية الإمامعليه‌السلام ، وبمَلَكَة روحية تصونه عن الخطأ والنسيان ، والجهل والعصيان .

ــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤ .

٣

الثاني : طرق البيان اللفظي الرائع التي تميز بها السجادعليه‌السلام في زمن حفَلَ بالأدب والبلاغة والشعر ولكن لم يرقَ إلى نثر أهل البيتعليه‌السلام الديني الرائع غير أدبهم ، ولم تسمو إلى تلك المفاهيم المترابطة غير ألسنتهم الناطقة بالحق والصدق فقد أطنب الإمامعليه‌السلام في أدعيته ومناجاته ومواعظه وحكمه ودروسه في وصف الجنة والنار ، والنعيم والعذاب ، والآخرة والدنيا ، والخير والشر ، والإيمان والفسوق ، تشويقاً وتهويلاً ولا شك ان الإطناب في فلسفة اللغة من أرقى أساليب البلاغة ومن أروع صورها ووجوهها .

وبكلمة ، فقد مثَّلَ زين العابدينعليه‌السلام المنار الشامخ للخير والهداية في زمن عمَّ فيه الظلم والظلام وكلماته البليغة وسيرته العطرة سوف تبقى نموذجاً لشمولية الإسلام لكل جوابن الرحمة والمحبة في حياة الإنسان .

وله سبحانه وتعالى الشكر على إتمام النعمة ، وقبول العمل ، وغفران الزلل ، وحسن العاقبة في المبدأ والمآل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير .

زهير طالب الأعرجي

الأول من محرم الحرام ١٤٢٥ هـ

الحوزة العلمية

٤

محتويات الكتاب :

الفصل الأول : الترجمة التأريخية

الفصل الثاني : الخصائص الشخصية

الفصل الثالث : المعالم الإجتماعية

الفصل الرابع : الآثار المدوَّنة

الفصل الخامس : نصوصٌ منتقةُ

الفصل الأول : الترجمة التأريخية

ولادة علي بن الحسين عليه‌السلام

إذا أراد المؤرخ أن يؤرخ لحياة الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام ، فلابد أن يرجع قليلاً الى الوراء ، وبالتحديد الى فتح بلاد فارس زمن الخليفة الثاني فقد فتحت بلاد الفرس في السنة السادسة عشرة من الهجرة ، الا ان ملكها (يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز) هرب من عاصمة مملكته بعد سقوط المدائن بيد المسلمين ، وبقي متخفياً في أرياف فارس أربعة عشر عاماً حتى قتل سنة ٣٠ هجرية في مرو وصادف مقتله السنة السادسة من خلافة عثمان بن عفان .

وتشير الروايات التاريخية الى ان يزدجرد وصل الى المُلك سنة ١٦ هـ (بعد تمصير البصرة) أي بعد أربع سنوات فقط من تملك أبيه شهريان الذي أعتلى عرش فارس سنة ١٢ هـ أما جدهم كسرى أبرويز فقد قتل سنة وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي سنة ٣٦ هـ ، وهي السنة التي تصدى فيها علي بن أبي طالبعليه‌السلام للخلافة ، أرسلعليه‌السلام حريث بن جابر والياً على جانب المشرق ، فظفر بابنتي يزدجرد بن شهريار ، وبعثهما اليهعليه‌السلام وهو بالكوفة فنحل الامامعليه‌السلام شاه زنان الى ولده الحسين سيد شباب اهل الجنةعليه‌السلام فولدت له علي بن الحسينعليه‌السلام في الخامس من شهر

٥

شعبان سنة ٣٨ هـ(١) في الكوفة ، وقيل في المدينة وهو بعيد ونحل الأخرى إلى محمد بن أبي بكر ، فولدت له القاسم ، وهو فقيه معروف(٢) ونُسب إلى الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام انه كان يرى أن بنات الملوك ينبغي ان لا يعاملن معاملة الأسرى ولو كن كافرات(٣) ، وسنناقش دلالة ما نُسب إليهعليه‌السلام عما قليل .

وعندما قدمها أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى الحسينعليه‌السلام أوصاه بالإحسان إليها ، وسماها فاطمة تكريماً لها وتنبأعليه‌السلام نبوءته الصادقة : (يا أبا عبد الله لتلدن لك خير أهل الأرض ).

وهكذا كان ، فقد انجبت له زين العابدينعليه‌السلام وكان فعلاً خير أهل الأرض في ذلك الزمان ومواصفات فاضلة كتلك ، جعل تلك المرأة الكريمة تستحق لقب (سيدة النساء) حيث كانت تعرف به(٤) وهو لا يتعارض مع لقب فاطمة الزهراءعليه‌السلام ففاطمةعليه‌السلام في الحديث المستفيض عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين و(شاه زنان) سيدة نساء زمانها فلا تعارض في اللقبين .

ــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤول ج ٢ ص ٤١ والفصول المهمة لابن الصباغ ص ٢٠١ .

(٢) الإرشاد للمفيد ص ٢٨٤ وبحار الانوار ج ٤٦ ص ١٢ ح ٢٣ وعوالم العوالم ج ١٨ ص ٩ ح ٥.

(٣) تجد روايات فريبة من ذلك في الكافي ج ١ ص ٤٦٦ ح ١ وبصائر الدرجات ص ٣٣٥ ح ٨ .

(٤) نور الابصار للشبلنجي ص ١٢٦ .

٦

وحدثٌ بهذا الوزن لابد ان يؤرخه الشعراء ، فتصدى لذلك الصحابي التابعي أبو الاسود الدؤلي ( ت ٦٧ هـ ) في بيتٍ شعري رائع :

وإنّ وليداً بين كسرى وهاشمٍ

لأكرمُ من نيطت عليه التمائمُ(١)

ولم تمكث سيدة النساء بعد وضع وليدها الا قليلاً ، فقد أصابتها حمى النفاس فتوفيت (رض) على أثر ذلك فبقي الوليد يتيماً من جهة الأم فأوكل الإمام الحسينعليه‌السلام حضانته إلى إحدى النساء من أهل الصلاح والتقوى .

ــــــــــــــــ

(١) بحار الانوار ج ٤٦ ص ١٦٦ نيطت : علّقت والتمائم : خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين وقد زعم بعض الباحثين بأن خلو ديوان أبي الأسود الدؤلي (تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين ، بغداد ١٩٥٤ م) من هذا البيت يرجح عدم صحة القصة ولكن هذا ترجيح بدون مرجح ، لأ، خلو الديوان لا يعني عدم صحة نسبة البيت الى الدؤلي خصوصاً وان من يجمع الديوان بعد وفاة الشاعر قد يحذف بعض المواد حسبما يرتأيه فكره وعقيدته وذوقه وعلى أية حال فقد ورد قريباً من لفظ هذا البيت في شعر الرماح ين يزيد المري المشهور بابن ميادة ( ت ١٣٦ هـ ) لما فخر بنفسه أباً واماً فقال :

انا ابن أبي سلمى وجدي ظالم

وأمي حصان حصنتها الأعاجمُ

أليس غلام بين كسرى وظالم

بأكرم من نيطت عليه التمائم ؟

٧

الأم الموحدة ودلالة ( لتلدن لك خير أهل الأرض )

وقد يثار تساؤل هنا ، وهو : كيف تمكنت امرأة وثنية على الظاهر ، غير عربية ، بنت أحد الملوك الذين بقوا على وثنيتهم ، من السمو إلى تلك الدرجة الكريمة لتكون أماً لإمام طاهر معصوم من أئمة المسلمين ؟

وجواب ذلك نرتبه في نقاط تالية :

١ ـ ان التوحيد قد رفع أفراداً كانوا يعيشون في أمم جاهلية تعبد الأوثان ؛ فكان الموحدون يخفون عقيدتهم أو يلوذون بالصمت أمام تيار الشرك والافتراض الصحيح ان سيدة النساء كانت امرأة موحدة في أمة كافرة ، لم تلوثها أوساخ الوثنية وهي ليست بمعزل عن أ÷ل التوحيد في ذلك الزمان فقد عاش الموحدون من بني هاشم في مجتمع قريش الوثني ، ولم يلوثهم درن الوثنية الجاهلية .

وأكثر ما استطاع الأمويون تزويره في هذا النطاق هو الزعم بان أم السجادعليه‌السلام كانت من سبايا كابل ، كما أرسلها اليعقوبي في تاريخه دون تدقيق(١) والخطأ واضح لان فتح كابل كان في سنة ثلاث واربعين للهجرة على يد عبدالرحمن بن سمرة الأموي من قبل

ــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٤٦ طبعة النجف .

٨

معاوية والسجادعليه‌السلام ولد سنة ٣٨ للهجرة بالاتفاق فلا يصح ذلك الزعم .

٢ ـ من المحتمل قوياً أن أمر إيمان ابنيّ ( يزجرد ) بالله عزوجل وبمبدأ التوحيد كان شائعاً في ذلك الزمان وإلاّ ، فان الإمام علياًعليه‌السلام لايمكن أن يتسرع في نحل امرأة لايعرف عن ماضيها وحاضرها شيئاً لابنه الحسينعليه‌السلام ، ويوعده بانها ستكون من أفضل نساء زمانها وستلد له خير أهل الأرض خصوصاً إذا لحظنا تأكيد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حسن إختيار الزوجة ، مثل كون الخال أحد الضحيعين فاختاروا لنطفكم(١) ، وتوقوا على أولادكم من لبن البغي والمجنونة فان اللبن يعدي(٢) ، والنهي عن استرضاع الحمقاء لأن الولد ينزع إلى اللبن(٣) ، ونحوها من الأخبار .

وحتى ما قيل عن رأهعليه‌السلام من ان بنات الملوك لا يعاملن معاملة الأسرى ، لاتفسر مغزى قولهعليه‌السلام للحسين : ( يا أبا عبدالله لتلدن لك خير أهل الأرض ) ومجرد اطلاق عنوان السلطة الوارثية والأمارة السياسية دون افتراض الصلاح والتقوى والإيمان ، لايمكن ان يوّلد خيراً على الأرض .

ــــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي .

(٢) المقنعة للشيخ المفيد ص ٦١ .

(٣) نوادر الراوندي ص ١٣ .

٩

ولكننا نميل إلى ان ما قالهعليه‌السلام في سيدة النساء يدل دلالة قوية على انها كانت امرأة استثنائية فهو على الأقل يعلم انها امرأة موحدة مؤمنة بلاله عزوجل وهذا ليس غريباً ، فالتاريخ ينقل لنا قصص مشابهة لنساء مؤمنات في أسر كافرة ، منها : امرأة فرعون الموحدة المؤمنة التي دعت الله عزوجل ان يبني لها بيتاً في الجنة وان ينجيها من فرعون وعمله ولا يشك أحد بكفر فرعون وظلمه وتعديه على حقوق الخلق وخالق .

قال المجلسي في ( بحار الأنوار )(١) : ان أم السجادعليه‌السلام رأت فاطمة الزهراءعليه‌السلام وأسلمت قبل ان يأخذها عسكر المسلمين ولها قصة وهي أنها قالت : رأيت في النوم ـ قبل ورود عسكر المسلمين ـ كأن محمداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل دارنا ، وجلس مع الحسينعليه‌السلام وخطبني له وزوّجني منه ، فلما أصبحت كان ذلك يؤثر في قلبي وما كان لي خاطر غير هذا فلما كان في الليلة الثانية رأيت فاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أتتني وعرضت عليّ الإسلام فأسلمت ثم قالتعليه‌السلام : (إن الغلبة تكون للمسلمين ، وإنك تصلين عن قريب الى ابني الحسين سالمة لا يصيبك بسوء أحد ) قالت : وكان من الحال أني خرجت الى المدينة ما مسّ يدي انسان .

ــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١١ نقلاً عن كتاب الخرائج .

١٠

ونقل الشيخ المفيد ( ت ٤١٣ هـ ) ان أمير المؤمنينعليه‌السلام سأل شاه زنان حين أسرّت : ( ما حفظت عن أبيك بعد وقعة الفيل ؟ ) قالت : حفظت عنه انه كان يقول : إذا غلب الله على أمر ذلت المطامع دونه ، وإذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة فقالعليه‌السلام : ( ما أحن ما قال أبوك ! تذلّ الأمور للمقادير ، حتى يكون الحتف في التدبير )(١) .

أقول : وربما كان المقصود من لفظ ( أبيك ) في قول الإمامعليه‌السلام هو جدها كسرى لإحتمال وجوده في الملك عام الفيل وعلى أية حال فان ذلك القول يدلّ على حسن نظر وقوة رأي .

٣ ـ لو لم تكن سيدة النساء موحّدة ومؤمنة ومن أهل الصلاح ومعروفة بذلك ، لما ترك يزيد ذلك الأمر عندما واجه الإمام زين العابدينعليه‌السلام في بلاط الخلافة في الشام بعد أقل من شهر من واقعة كربلاء سنة ٦١ هـ وقد أنتقص من كان على شاكلة ( يزيد ) ابن الأمة ، أو زوج الأمة بعد عتقها ولنا في ذلك قرائن تاريخية تؤيد ما ذهبنا إليه :

أ ـ فقد عيّر هشام بن عبد الملك زيداً بن علي بانه ابن أمة مع ان الله عزوجل حلل الأماء قال هشام لزيد : أنت المؤهّل نفسك للخلافة ، الراجي لها ؟ وما أنت وذاك لا أمّ لك ، وإنما أنت ابن أمةٍ فقال زيد

ــــــــــــــــ

(١) الإرشاد ص ١٦٠ .

١١

 (رض) : (اني لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبي بعثه وهو ابن أمة فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيمعليه‌السلام فالنبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام ؟ وبعد فما يقصر برجل أبو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن علي بن ابي طالبعليه‌السلام ؟ ) وفي ذلك دلالة على ان أمر الأمة كان محل انتقاص عند العرب زمن الجاهلية ، ومن بقي عليها زمن الإسلام .

ب ـ وحاول عبدالملك بن مروان الانتقاص من الإمام زين العابدينعليه‌السلام لانه اعتق أمة ثم تزوجها على سنة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأجابه الإمامعليه‌السلام بعد ان ذكّره بسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمر : (... وقد رفع الله بالسلام الخسيسة ، وتمم به النقيصة )(١) وهذه الرواية على شاكلة سابقتها في كون الإماء من موارد الانتقاص عند العرب زمن الجاهلية .

وسكوت يزيد أقوى دليل على ان أم الإمام زين العابدينعليه‌السلام كانت من الإيمان والاصلاح ما كان معروفاً ومشهوراً في ذلك الزمان .

وإن كان هذا ينطبق على سيدة النساء ، فانه بالدلالة التاريخية ينطبق على أختها أم القاسم ، زوجة محمد بن أبي بكر .

ــــــــــــــــ

(١) الكافي على هامش مرآة العقول ج ٣ ص ٤٤٨ .

١٢

٤ ـ لم يظهر من الأحاديث المروية في الكتب الرواثية عن ان ابنيّ يزدجرد كانتا من سبايا الفرس ، عدا رواية ابن جرير الطبري في دلائل الإمامة ص ٨١ ولا نعمل مدى صحة رواية الطبري ، خصوصاً وانها تذكر بانهما دخلتا على عمر بن الخطاب في المدينة وهو غير صحيح ، لان يزدجرد كان حياً في زمن عمر ، و لم يقتل حتى سنة ٣٠ هـ ، وكان ذلك في خلافة عثمان ودخولها الى معسكر المسلمين كان بعد مقتل أبيها فرواية الطبري ساقطة تاريخياً .

اذن نستنتج بانهما لم يكونا من سبايا الفرس ، وربما كان رغبتهما للإتصال بالمسلمين زمن الإمام العادل علي بن ابي طالبعليه‌السلام دعاؤه لوالديه ، ويشمل أمه بالدلالة التضمنية ، هو دليل آخر على إيمانها ولو كانت مشركة لما جاز له الدعاء لها .

وكان للامام الحسينعليه‌السلام أمة ربّت السجادعليه‌السلام واشتهرت بانها أمّه وعنها قيل للسجادعليه‌السلام : أنت من أبر الناس ولا نراك تأكل مع أمك فقالعليه‌السلام : (اني أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فاكون قد عققتها )(١) وأرادعليه‌السلام بلزوم رعاية حق المربية ، وأطلق على مخالفتها اسم العقوق فهنا جملة أمور :

ــــــــــــــــ

(١) الكامل للمبرد ج ١ ص ١٦١ وعيون الاخبار لابن قتيبة ج ٣ ص ٩٧ .

١٣

أ ـ انهعليه‌السلام لم يتعمد مخالفتها وانما تخوف من سبق يده لما سبقت عينها اليه .

ب ـ انها لم تكن أمه البيولوجية ( التكوينية ) ، بل كان أمه الاعتبارية التي نزلت بمنزلة الأم من حيث الرعاية .

ج ـ ينبغي ، مفهوماً حسبما يستفاد من هذه الرواية ، ان يكون حال الولد مع أمه التكوينية ـ وهي التي حملته تسعة اشهر وتحملت مشاق الولادة والرضاعة من أجله ـ أعظم وأكبر .

والخلاصة ، انه لايمكن حمل عقيدة والدة الإمام زين العابدينعليه‌السلام إلاّ على محمل الإيمان بالله عز وجل ومبدأ التوحيد ونحلها للحسينعليه‌السلام كان قد شرّفها ، ووضعها في المحل الطاهر الذي كانت تأمله كل موحّدة بالله لم تتهيأ لها الظروف لإعلان إسلامها أمام الملأ الواسع العريض .

مراحل حياة الإمام علي بن الحسين ( ٣٨ ـ ٩٥ هـ )

ويمكننا تقسيمن حياة الإمام السجادعليه‌السلام إلى ثلاث مراحل متصلة ومتضافرة بعضها مع الآخر الأولى : وتمتد من سنة ٣٨ هجرية ن وهو تاريخ ولادته بالكوفة الى بداية سنة ٦١ ، وهي السنة التي شهدت واقعة كربلاء واستشهاد والده الحسينعليه‌السلام مع من

١٤

صرع في أرض الطف والثانية : وتمتد من سنة ٦١ هجرية وحتى سنة ٦٧ هـ ، وهي الفترة الواقعة بين مقتل الحسينعليه‌السلام ومقتل قاتليه ، والثالثة : تمتد من سنة ٦٧ هـ وحتى استشهاد سنة ٩٥ هـ على يد الوليد بن عبدالملك بن مروان وفترة إمامة السجادعليه‌السلام الدينية والاجتماعية تغطي المرحلتين الثانية والثالثة ، وهي أربع وثلاثين عاماً وعاصر في مدة إمامته : يزيد بن معاوية ، ومعاوية بن يزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبدالملك بن مروان ، والوليد بن عبدالملك وسوف نبحث الآن المرحلة الأولى من حياتهعليه‌السلام بصورة مفصّلة .

المرحلة الأولى : ( سنة ٣٨ ـ ٦١ هـ )

قضى السجادعليه‌السلام هذه الفترة من حياته ، وهي من تاريخ ولادته وحتى استشهاد والده الحسينعليه‌السلام في كربلاء ، حياةً اسرية طبيعية تلقى فيها صنوف التربية الروحية من والدهعليه‌السلام بالخصوص لكنه عاش فترة مضطربة سياسياً ، على المستوى الاجتماعي فقد عاصرعليه‌السلام وهو في الثانية من عمره استشهاد جده علي أمير المؤمنينعليه‌السلام في الكوفة وعاصر ، وهو في الثالثة عشرة من عمره استشهاد عمه الإمام الحسنعليه‌السلام في المدينة المنورة ورافق أباه الحسينعليه‌السلام تمام مدة إمامته وهي عشر سنوات ، وحضر واقعة كربلاء حيث استشهد والده واخوته وعمه العباس وابناء عمومته ، وهو في الثالثة والعشرين من عمره .

١٥

وقد أعتاد أئمة أهل البيتعليه‌السلام بوصية من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإذعان للإمام الحيعليه‌السلام والصمت بمعنى أنهم كانواعليه‌السلام لا يدلون برأي شرعي او مسألة فقهية أو حكم للناس ، وإمام منصوص عليه موجودٌ بينهم ، بل كانوا يتركون ذلك للإمام المنصوص عليه فلم ينهض الحسنعليه‌السلام بأعباء الإمامة بحضرة والده الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينهض الحسينعليه‌السلام بأعباء الإمامة بحضرة أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام فلا غرابة ان نلمس صمت زين العابدينعليه‌السلام في حضرة والده الامام الحسينعليه‌السلام الى ان استشهد في كربلاء سنة ٦١ هـ وعنهدا جاء دورهعليه‌السلام في إرشاد الناس .

ومرحلة الإعداد تلك تبدأ بالولادة ، ثم الطفولة ، والشباب ، والزواج ، وحتى الذهاب الى كربلاء وما حصل فيها .

الاحتفاء بالمولود

لايخفى ان ولادة علي بن الحسينعليه‌السلام في ٥ شعبان سنة ٣٨ هـ(١) كانت مورداً للاحتفاء عند آل البيتعليه‌السلام لسببين :

ــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤول ج ٢ ص ٤١ ونور الأبصار ص ١٥٣ .

١٦

الأول : كرامة المولود التي عبرت عنها روايات متواترة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت قد تنبأت بمولودٍ يملأ الدنيا عبادة وسجوداً ، وتضرعاً وخشوعاً منها : ما رواه الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري ، قال : كنت جالساً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا جابر ، يولد له مولود اسمه علي ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد ، فان أنت أدركته يا جابر فاقرأه مني السلام )(١) وداوم جابر على التقرب من أهل البيتعليه‌السلام ، وكانت له علاقة متميزة بالامام زين العابدينعليه‌السلام ، وكان يصلي وراءهعليه‌السلام .

وكان الزهري(٢) إذا حدّث عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، قال : حدثني ( زين العابدين ) علي بن الحسين فقال له سفيان بن عيينة :ولم تقول له زين العابدين ؟ قال : لأّني سمعت سعيد بن المسيب يحدّث

ــــــــــــــــ

(١) هذا الحديث وفي لفظه أحاديث أخرى أخرجها في إحقاق الحق ج ١٢ ص ١٣ ـ ١٦ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٩ ص ١٠٦ .

(٢) كان محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ( ٥٨ ـ ١٢٤ هـ ) من حاشية آل مروان ، فكان معلماً لأولاد هشام بن عبدالملك ( تهذيب التهذيب ج٩ ص ٤٤٩ ) حيث أمره هشام أن يملي على أولاده أحاديث فأملى عليهم أربعمائة حديث مما لا يتصل بفضائل أهل البيتعليه‌السلام فأطراه علماء العامة ورفعوه فوق مستوى العلم والفضيلة قال أبو علي الحائري في منتهى المقال في ترجمته : لا ريب في عداوته ونصبه لأمير المؤمنينعليه‌السلام أدرجه العلامة الحلي وابن داود في رجالهما في الضعفاء ، ولم يعتد به الشيخ محمد طه نجف ، حيث لم يأت على ذكره في ( اتقان المقال ) .

١٧

عن ابن عباس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ أين زين العابدين ؟ فكأني أنظر الى ولدي علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب يخطر بين الصفوف )(١) .

الثاني : الجمع عند علي بن الحسينعليه‌السلام بين ملامح عنصرين هما صلب العرب وترائب العجم وهو أمرٌ جديد على وجه التقريب إلا إذا أخذنا بنظر الإعتبار هنا زواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ماريا القبطية المهداة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حاكم الاسكندرية القبطي إلا ان ماريا كانت عربية من الأقباط ، بينما كانت سيدة النساء من العجم .

ولا نجد غرابة اذن في أن يطلق الإمام الجسينعليه‌السلام على ابنه عليعليه‌السلام لقب : ابن الخيرتين فخيرته من العرب قريش ( ومن قريش بني هاشم ) ومن العجم أهل فارس ، وهم أقرب الأقوام بعد العرب آنذاك إلى الإسلام .

ولا غرابة في أن ينشد أبو الأسود الدؤلي :

وان وليداً بين كسرى وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم

ــــــــــــــــ

(١) علل الشرائع ج ١ ص ٢٦٩ والامالي ص ٣٣١ .

١٨

في الأسرة

والمشهور شهرة عظيمة ان السجادعليه‌السلام كان أكبر أولاد الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام ومن الضروري توضيح الفكرة القائلة بأن الإمامة لا علاقة لها بالولد الأكبر أو الأصغر ، بل هي بالنص والوصية فالإمامة من الله عزوجل يودعها حيث يشاء من عباده :( وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (١) ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٢) وسوف نفصّل هذا الموضوع في الفصل الثاني باذنه تعالى .

عاش السجادعليه‌السلام في أسرة مكونة من تسعة أفراد : أبوه الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأخويه علي الأصغر الذي يسمى خطأ بعلي الأكبر ( وأمه ليلى بنت أبي مرة الثقفية ) ، وجعفر ( وأمه قضاعيه ) وأختيه : سكينة ( وأمها الرباب بنت امرئ القيس ) ، وفاطمة ( وأمها أم إسحاق بنت طلحة وهي تميمية )(٣) ثم ولد للحسينعليه‌السلام عبدالله ( الرضيع ) وأمه الرباب قبل أشهر من واقعة

ــــــــــــــــ

(١) سورة القصص : الآية ٦٨ .

(٢) سورة الأحزاب : الآية ٣٦ .

(٣) إرشاد المفيد ج٢ ص١٣٥ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٧٧ .

١٩

الطف وذبح فيها وتوفي جعفر في حياة أبيه الحسينعليه‌السلام ، واستشهد علي الأصغر في كربلاء سنة ٦١ للهجرة .

ترعرع السجادعليه‌السلام في المدينة ، بعد استشهاد جده الإمام عليعليه‌السلام في الكوفة سنة ٤٠ هـ فقد رجع الهاشميون إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن مكثوا مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في الكوفة أربع سنوات وأشهراً وكان اسمراً ، نحيفاً ، رقيقاً من كثرة العبادة .

تزوجعليه‌السلام في هذه الفترة من حياته ( سنة ٥٤ للهجرة على الإرجح ) من ابنة عمه : فاطمة بنت الإمام الحسين بن علي بن ابي طالبعليه‌السلام ، فيكون زواجه منها وهو في السادسة عشرة من عمره فأنجبت له محمد الباقرعليه‌السلام ، وهو الإمام الخامس من أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، سنة ٥٨ هـ ثم تزوج لاحقاً بأمهات أولاد فولدن له أولاداً ذكوراً وإناثاً ، أبرزهم زيد بن علي وعبدالله الباهر وكانا معروفين بالفضل والجهاد في الاسلام ومجموع أولاد زين العابدينعليه‌السلام حسب الروايات خمشة عشر ولداً : أحد عشر من الذكور وأربعة من الأناث وكان للباقرعليه‌السلام يوم الطف ثلاث سنين .

وكان السجادعليه‌السلام كثيراً ما يدعو لاولاده ، فيقول : (اللهم ومنّ عليّ ببقاء ولدي ، وبإصلاحهم لي ، وبامتاعي بهم آلهي أمدد لي في أعمارهم ، وزد في آجالهم ، وربّ لي صغيرهم ، وقوّ لي ضعيفهم ، وأصح لي ابدانهم وأديانهم وأخلاقهم ، وعافهم في أنفسهم ، وفي جوراحهم ، وفي كل ما عنيت به من أمرهم ، وأدرر لي وعلى يدي ارزاقهم ، واجعلهم أبراراً أتقياء بصراء سامعين ، مطيعين لك ، ولأوليائك محبين ناصحين ، ولجميع اعدائك معاندين ) .

٢٠

مقدّمةالمؤلّف

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

الله تعالى أحمد، وأصلي وأسلم على خاتم رسله أحمد، وعلى أوصيائه ما لاح في السماء فرقد، وما هزج طائر على أفنانه وغرّد.

وبعد فقد كنت شرعت عام ١٣٤٠هـ بتأليف كتاب تنتظم دفتاه تاريخ الشيعة الديني والسياسي على أثر هزات هنا وهناك تنتقص قدر هذه الفرقة من فرق المسلمين بمؤلفات فيها الكثير مما عُزي إلى الإمامية، ولم يكن مما تعتقده وهي منه براء. وما كان على مؤلفي تلك الكتب في عصر الطباعة إلا الرجوع إلى ما هو في متناولهم من المؤلفات المطبوعة المنشورة، وجلها الصريحة ذات العقيدة الصحيحة، لتسلم مؤلفاتهم من معرّة ما يجافي الحق والحقيقة ولا يأتي بخير اللهم إلا تفريق صفوف المسلمين في عصر هم أحوج فيه إلى تأليف الكلمة والوقوف صفاً واحداً للذود عن حياض كرامتهم وعزة دينهم المتين، ويا حبذا لو التف كل مسلم غيور طالب إحقاق الحق حول لواء جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية المؤسسة لهذا الغرض النبيل في مصر، ولا نذكر جامعة الأزهر إلا بخير، والأزهر الشريف الخالد المشيدة دعائمه منذ ألف عام ونيّف للقيام برسالتي العلم والدين وأدائهما حق الأداء والقضاء المبرم على التعصبات المذهبية لم يفرّط بمهمته، ومهمته الكبرى في هذا العصر أن يقضي على تلك المنازعات، وجلها وليد السياسات التي انتهى أجلها وأزيحت عللها.

فجامعة الأزهر مفروض على علمائها أن ينهضوا بكل ما يعزّز

٢١

الجامعة الإسلامية ويصلوا ما أمر الله به أن يوصل من إزاحة علل التفرق.

وبعد فإن من إثارة تلك المجادلات التي فتح بابها الموصد على مصراعيه فريق من كتاب مصر ومن غير مصر أن نشأت فوضى جدلية اختلط فيها الحابل بالنابل، وخاض غمارها كثير ممن لم يؤت الحكمة والاعتدال، ومن خدم سياسة الأجنبي عن قصد أو غير قصد. ولا ننقص بعض المؤلفين حقهم، فكانوا من المنصفين، وكانوا من الحريصين على قطع خط الرجعة على المفرقين، ومنهم مؤلف كتاب السنة والشيعة من علماء بيروت العاملين، وفريق من أعلام الكتّاب المصريين. وكان من مستغلّي تلك البلبلة وهي سلاح ماضي الحدين فريق من كتبة الفرنج، ومنهم مؤلف (عقيدة الشيعة) الذي حشا كتابه بكل ما هو أشبه بالعبادات من اتصاله بالاعتقادات والمأخوذ عن العامة لا عن الخاصة، ولم يكن فيه أثر للتمحيص، فيتبيّن الرشد من الغيّ والصحيح من الفاسد. وإذا كان نفر من المسلمين أنفسهم من ينتهج هذا الطريق، ولا يكلف نفسه التحقيق، فأي ملام على الأجنبي، وجل اعتماده وما يهدف إليه ما يمكن لدولته استغلال كل ما يوهن قوة من يطمح في إخضاعه لسلطانه، والنفر المولعون بالجدل البيزنطي هم أعوانه وأنصاره من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، ومن حيث يقصدون أو لا يقصدون.

وكأن الشيعة وخاصة الإمامية نكرة مجهولة وكتب اعتقاداتها المنشورة ملء مكاتب الشرق والغرب محتاجة إلى التعريف، وهو من الباحثين كقاب قوسين أو أدنى ولا يكلفهم عناء كثيراً.

فنهض بهذه المهمة إمام من أئمة الإمامية فألف رسالة (أصل الشيعة وأصولها) ألا وهو المرحوم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي وهو من كبار المدرسين ومن المراجع في التقليد، فكانت رسالة على اختصارها جامعة لكل ما يهم الباحث الوقوف عليه من عقائد الشيعة، وطبعت عدة مرات كما نقلت إلى كثير من اللغات الأجنبية، وتلقى مؤلفها العظيم تقاريظ كثيرة من علماء المسلمين على اختلاف المذاهب ومن المستشرقين إلى ما في تلك الرسالة من دعوة إلى التقرّب الإسلامي.

وفي احتدام تلك المعمعة الجدلية، وفيما حامَ حول الشيعة من الظنون، وما عزي إلى الإمامية منهم ما لم يعتقدوه دار في خُلدي على قلة

٢٢

المصادر أن أفرد كتاباً بالتأليف في تاريخ الشيعة الديني والسياسي تاركاً تدوين تاريخها الأدبي، وقد حفلت به الكتب القديمة والحديثة وفي هذا العصر، وقد أُلف فيه موسوعتان جليلتان الأولى (أعيان الشيعة) للإمام العلاّمة المرحوم السيد محسن الأمين العاملي، والثانية لإمام عصره في التأليف العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني النجفي (طبقات أعلام الشيعة في مختلف العصور إلى العصر الحاضر)، وهناك موسوعة ثالثة وهي (الطليعة في شعراء الشيعة) لمؤلفها المتتبع الضليع العلامة الشيخ محمد طاهر السماوي، وللعلامة الإمام السيد حسن الصدر الكاظمي كتاب جليل في موضوع مؤلفي الشيعة سماه (تأسيس الشيعة الكرام) وقد طبع مختصره، وللعلامة الشيخ علي آل كاشف الغطاء والد الشيخ محمد الحسين مؤلف كتاب (أصل الشيعة وأصولها) الآنف الذكر كتاب (طبقات الشيعة)، هذا ولست في صدد إحصاء المؤلفات الشيعية الأدبية المتعذر علي، فأكتفي بهذه الجملة، وها أنا أشرع في تدوين مباحث الكتاب مستمداً منه تعالى التُوفِّيق والتسديد في القول والعمل وعليه الاتكال. واتّباعاً للطريقة المألوفة عند العلماء المؤلفين لسهولة دراسة مؤلفاتهم على مختلف أهدافها وموضوعاتها من التبويب رتبت كتابي هذا على كتابين الأول وينطوي على معتقدات الإمامية، ويتناول ما يتّسع له المجال من الفروق بينها وبين معتقدات بعض فرق الشيعة المخالفة لها وينسب إليها منه ما هي منه براء.

والكتاب الثاني وهو (تاريخ الشيعة السياسي) ويشمل دول الشيعة على اختلاف المذاهب ممن يشملهم هذا الاسم، وعلى خاتمة تتضمن دعوة المسلمين كافة إلى التحرر من التعصب الممقوت للمذهب والعقيدة والذي أدّى إلى ذهاب ريحهم وتفرقهم قِدداً، وانتقاص أطراف ملكهم الواسع، وصيّرهم خولاً لمن كانوا لهم أتباعاً، وجنوا من ثمرات ذلك التنازع ما أطمع فيهم الغريب، وهم في هذا العصر أحوج منهم في كل العصور إلى التضامن والتآزر وترك التنازع فيما لا يجدي، وهو آية الفشل في ميادين الحياة، وإلى الاعتصام بعروة العقيدة الإسلامية الجامعة التي هي فوق الشبهات والأهواء، وقى الله تعالى المسلمين شر التفرق الذي أدّى بهم إلى الضعف، وجمعهم على التناصر والتظافر وإعلاء دين الله الإسلام، والله مع الجماعة.

٢٣

٢٤

الفكرة الشيعية

أسبابها - انتشارها

٢٥

٢٦

نأتي في هذا الجزء من كتابنا تاريخ الشيعة وهو تاريخها السياسي على مقدمة نشرح فيها الأسباب التي جعلت للشيعة كياناً سياسياً قام على منابذة السياسة الأموية، ثم على مناجزة السياسة العباسية، وكان من جهادها السياسي المستتر في عهد هاتين الدولتين تحت ستار التكتم والتقية، أن قام للشيعة دول في المشرق والمغرب كان القائمون على سلطانها في أول الأمر رجالاً من العلويين من بني الحسن والحسين، ومن العباسيين يوم انتشر دعاة الشيعة من العلويين والعباسيين في مختلف الأمصار الإسلامية، يدعون متحدين للفريقين. على أن الدعوة العباسية لم تكن في ظاهرها إلا دعوة للعلويين، ولم يطل العهد حتى أثمرت هذه الدعوة ثمرة اقتطفها بنو العباس، وما كان هؤلاء وقد آل إليهم السلطان وخلافة الإسلام أعطف على العلويين من الأمويين، ولا أقلّ تنكّراً لهم من أولئك، ممّا كان من أثره قيام دولة علوية في الشرق وأُخرى في الغرب الأفريقي والأندلسي من الأدارسة من بني الحسن، ومن الفاطميين من بني الحسين. ثم كان للشيعة في عهد انحلال الدولة العباسية وانتثار عقد سلطانها وامتداد الأيدي الغريبة إليها من التُّرك والفرس والعرب، دول من غير القبيل الهاشمي والفاطمي كالدول: البويهية والحمدانية وبني دُبيس وصدقة.

أما الأسباب فإنها كثيرة وقد بحث عنها المؤرخون، فمنهم من تعرّض لبحث القريب منها وأغفل البعيد، ومنهم من تعرّض لبحث الأمرين، وإنّا نلخصها معتمدين في ذلك على منطق الوقائع ووضوح الحوادث، وهي فيما استنتجناه تعود إلى أمور:

٢٧

الأول (الخلافة):

هذا المنصب الخطير الذي كان يعتقد الشيعة أنه لعلي وبني علي من فاطمة بالوصية من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبالنص الجلي الذي لا ارتياب فيه، ولهم أدلة من الحديث والكتاب على انحصاره في علي والأئمة من بنيه وأنه كمنصب النبوة وهو خلافة لها لا يرجع إلى الشورى والاختيار، وأنه من الأصول الاعتقادية. فصرفُه عن علي وأهل بيته كان ولا ريب من أسباب سخط الشيعة ومن دواعي عملهم في السر والخفاء على إعادته إلى نصابه وصرفه إلى أهله الذين هم أجدر به، وهو المنصوص عليه في اعتقادهم.

الثاني:

سكت الشيعة مختارين أو مكرهين على الطاعة لمن ملكوا ناصية الخلافة بالاختيار والانتخاب والوصية والشورى للخلفاء الثلاثة وهم لم يبتعدوا عن إدارة مهامّها عن أسلوبها الديني؛ وسكتوا كما سكت إمامهم عن المناجزة في سبيل استردُّدها إليه لاعتبارات كثيرة رآها علي وحزبه من أعظم الدواعي إلى السكوت والرضا بالأمر الواقع، وفي الخروج عنها ما يتخوف منه على بَيضة الإسلام، وهو لم يستكمل بعدُ دعوته ولم يعتصم بعد بالقوة التي ترد عنه أعداءه الكثيرين، وتحمي تلك الدعوة ممن همّوا بالخروج عن الإسلام وقد رأوا رؤوس الفتنة تطلع بالردّة حوالي المدينة وبالأقطار العربية الأُخرى من أنحاء الجزيرة، ورأوا بنظرهم البعيد وحرصهم على انتشار الدعوة الإسلامية ما يكون من الإضرار بها إن انصرفوا إلى التنازع فيما بينهم المؤدّي إلى ذهاب ريحهم وتبدّد قوتهم وهو سلاح حاد للطامعين بالخروج من القريب، وبنقض الدعوة من الغريب القوي من الرومان والفرس. فرأوا - والحكمة الرشيدة فيما رأوا - أن ترك المطالبة بالحق - والمطالبة به تؤدي إلى مثل هذه النتائج - واجب محتَّم، فسكتوا، وإذا كان في السكوت ضرر ففي تركه أكبر الضررين. فكان عليّ وحزبه المثل الأعلى في الإعراض عن التنازع، والالتفاف حول الخلفاء ومناصرتهم، وفيها مناصرة للإسلام، والظهور بمظهر الوحدة وهي قوة حامية للدعوة صائرة إلى إعزاز الإسلام كلمة الله الباقية في الأرض.

٢٨

الثالث:

إن مما لا ريب فيه أن قيام الخلافة على الشكل الذي قامت فيه من الانتخاب الذي لم يستكمل شرائطه حتى عند من يقول بالاختيار في هذا المنصب، أن أسكتت المصلحة الإسلامية العامة من كان منصوصاً عليه من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وحزبه عن نقضه بقوة الجدل أو بقوة السلاح، وعن منازعة من صار إليه بانتخاب فريق من ذوي الحل والعقد دون الفريق الآخر، ومنهم علي وحزبه من الهاشميين وغير الهاشميين من أفاضل الصحابة، فلم يكن هذا السكوت المنبعث عن تلك المصلحة التي راعاها الفريق الذي عُزل عن حقه في الاختيار أو افتئت على حقه في النص، إلا بالذي يترك في النفوس أثراً إن لم يكن في نفس صاحب الحق فإنه في نفوس حزبه، وإن غلبت عليه دواعي الحال فلم تغلب عليه دواعي الاستقبال يوم تمكّن الفرص منه، والجرح إذا لم يندمل يوم فساده فهو إلى النكأة قريب.

كوّنت هذه الحال فكرةً لدى الشيعة فعملوا لها في السر على استرجاع الحق إلى أهله، ومن رسخت في نفوسهم هذه الفكرة يرونها واجباً دينياً يجب العمل به يوم تمكن الفرصة من العمل، فكانت كامنة في هذه النفوس الشيعية كمون النار في الرماد، وهي مع ذلك لم تجد إلا ما يستثيرها ويستفزّها ويذكّيها. ولم يجد حاملوها من حسن السياسة ما يخفف من سخائمهم، ولا ننكر أنه قد اندسّ فيهم من لم يكن مخلصاً لا لعلي ولا للمسلمين، ومن لم يكن راضياً عن خلافة الخلفاء إمّا حسداً وهو يرى مكانة قبيله أشرف من مكانة قبيلهم، وإمّا طمعاً في ولايةٍ من ولايات الخلافة، وهو لم يكن ذا حظ منها عملاً بقول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ = نصيب ولا حظّ تمنَّى زوالها

والنفوس مطبوعة على حب السلطان وأبهة الحكم، ولا سيما ممن يرجع إلى قبيل شريف، وإما عقيدة في علي خرج بها عن حد القصد، وادّعى فيه ما لم يدعه هو ولا حزبه كابن سبأ وأضرابه، وإما رجاء في المستقبل بالمشاركة في الأمر والنهي. فكان العباسيون كالعلويين والأمويين يرون أن لهم في ذلك المنصب من المؤهلات أضعاف ما لمن ولِيَهُ من الخلفاء، فأدّى ذلك كله إلى اصطباغ الفكرة الشيعية بكثير من الألوان.

٢٩

الرابع:

إن سياسة الخلافة كانت في عهد الخليفتين الأولين لا تبتعد عن روح الدين كما عرفت. وكانت حريصة على جمع الكلمة الإسلامية وبعيدة عن الاستئثار والافتئات، وأقرب إلى تأليف القلوب النافرة من خلافة الثالث المعتز بقبيله الأموي الكثير العدد. وقد سلف أن الأمويين لم تكن لهم قدم راسخة في الإسلام، بل كانوا حرباً عليه وأعداء ألدّاء للدعوة، وقد أُكرهوا على دخولهم في الإسلام إكراهاً يوم فتح مكّة الذي ظهر فيه أمر الإسلام والمسلمين، ودانت له جبابرة مكة وعتاة العرب، وغلب على يهود خَيْبَر وقُرَيْظَة وبني المُصْطَلِق.

بسط هذا القبيل يده في سلطان هذا الخليفة الأموي، وولي كبريات الولايات والأعمال، وشاء القدر أن يلي معاوية في عهد الخليفة الثاني ولاية الشام، وتمتد ولايته إلى خلافة عثمان، فيتسع أمامه مجال ترسيخ قواعد سلطانه. وقد جمعت هذه الولاية مما خلفه فيها الرومان من كنوز الثروة ومن العمران الزاخر والخصب العجيب ما يزيد في قوة سلطانه ونفوذه. وهو قد أوتي دهاء إلى سياسة مشى فيها بعيداً جد البعد عن روح السياسة الإسلامية الدينية، فكان فيه مطمع لذوي النفوس الضعيفة الطامحة إلى مشاركته في رغد العيش ورفاهيته.

هذا إلى ما نال في سلطان هذه الخلافة أعلام صحب علي من إرهاق وترويع، ومنها ما أصاب الصحابي الجليل أبا ذَرّ الغفاري من نفي إلى الشام، ومن الشام إلى الرَّبَذة حيث مات في هذا المنفى.

كانت هذه السياسة الجديدة وهي قائمة على إدارة رجال أمويين لا يعرفون للقصد حداً، وهي مصطبغة بصبغة بعيدة عن روح الدين، من أسباب نفور الشيعة ومن أسباب قوة الفكرة الشيعية في العمل لإرجاع الخلافة إلى أهلها، ولا نستطيع أن نقول: إن لعلي يداً في تغذيتها، وهو أبعد عن إحداث فتنة في الإسلام، ولكن ماذا يعمل علي في سبيل إخماد ثائرة النفوس، وقد امتلأت سخيمة من هذه السياسة القائمة على إرهاق أشياعه والابتعاد بالخلافة عن مناهجها الدينية...، وقد عرفت أن في الملتفّين حول الدعوة الشيعية أصنافاً من الناس ومنهم من له هوى غير

٣٠

هوى على ورجوع الخلافة إلى علي. فكان من نتائج تلك السياسة ومن مجموع هذه العناصر المكوّنة منها فكرة الدعوة للخلافة الحقة، انتقاض الأمصار على عثمان وقيام من قام منها من الكوفة ومصر والمدينة بمحاصرته في داره فمقتله. وما كان الجاني عليه في نفس الأمر والواقع إلا رجال قبيله، وهم وحدهم الملومون عند الباحث المنصف، وهم الذين جنوا على الإسلام لا الشيعة كما يزعم كثير من الباحثين، وخاصة في هذا العصر الذي توفرت فيه لديهم الأسباب لتمحيص الحقائق، وأوتوا وراء ذلك علماً بأساليب البحث ومعرفة بفلسفة المباحث الإسلامية وتاريخ الإسلام. ولئن بعدت عنهم الحوادث التي حدثت واكتنفها كثير من الغموض بواسطة العصبيات المذهبية التي تكونت من العصبيات الحزبية، فإن منطق تلك الحوادث التي تضافر على نقلها علماء الفريقين من الحزبين أو المذهبين، ما يرشد المنصف إلى سواء السبيل، وإلى تعليل تلك الحوادث بعللها الصحيحة، ولا سيما إذا تجرد عن التقليد لسلفه أو انجرّ إليه وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي وهو في موقف تعليل الحوادث بعامل التأثير الخفي بما كان لسلفه من الرأي والاعتقاد، وهو يظن أنه يكتب لفلسفة التاريخ الإسلامي، وما مؤدى فلسفته إلا الغمز من قناة الشيعة وتسفيه آرائهم وإلصاق كل جناية بهم.

الخامس:

لم يكن ما مُني به عليّ، وقد آل إليه مصير الخلافة، من الانتقاض عليه ممن بايعه أمس، ومن وقعة الدار، وقد شاء أعداؤه أن يحمّلوه منها أثقل الأوزار. وتحيّن معاوية الفرصة وقد استوسق له أمر الشام وأُطلقت يده في حكمه الذي استمر مدة طويلة، فاتّخذ من مقتل عثمان ذريعة لمنافسة عليّ في الخلافة، وما كان له بكفء في منزلة من منازل الشرف والفضيلة، مِمّا أَدّى إلى وقوع أعظم حرب منذ ظهور الإسلام وحتى ذلك الوقت بعد حرب الجمل التي جرها نقض من بايع بيعته.

لم يكن ما مُني به عليّ من هذه الأحداث العظيمة إلاّ حافزاً عظيماً لشيعته ومن التفّ حولهم وقال بمقالتهم ونفر من افتئات معاوية بالأمور نفورهم، لترويج تلك الفكرة الشيعية، وإن شئت فقل السياسية أو الحزبية.

٣١

السادس:

مقتل عليّ منازعاً في خلافته الحقة، مغلوباً على أمره من مناوئيه من هنا وهناك، فلا يمكن له من تقويم المعوّج والسير بالأمة في سياسة تضمن لها انتظام أمري دينها ودنياها، وابتلاؤها، وابتلاؤه بعد وقعة (صفّين) بالخوارج ممن كانوا يتظاهرون بالتشيّع له ثم بالتآمر عليه وقتله، وانتهاء الأمر إلى معاوية بعد ستة أشهر من خلافة الحسن التي انتهت إليه، وهو في حزب متضعضع الأركان مشتت الأهواء، تجمعت فيه عناصر لم يكن الكثير منها مخلصاً.

كان من الطبيعي، بعد هذين الحادثين العظيمين: مقتل علي وفشل جيش الحسن في محاربة معاوية، أن ينتهي أمر الحسن إلى ترك الحرب ومسالمة معاوية على شروط ومواثيق التزم بها.

وكان من جراء هذه الأحداث وإِخلاف معاوية للميثاق الذي أعطاه للحسن، وما جرّه هذا الميثاق على شيعة الحسن من المغارم والمظالم والقتل الذريع على يد عمّاله أمثال زياد وسَمُرَة وعمرو بن سعيد الأشْدَق وبُسْر بن أبي أَرْطاة وأضرابهم - دع ما كان في أيامه من الأحداث التي يمقتها الدين، والتي صبغت الخلافة الدينية بصبغة السلطان الدنيوي الجائر - كان ذلك كله وما إليه من أسباب نموّ تلك الفكرة.

السابع:

وهو مقتل الحسين، بعد مقتل الحسن مسموماً على يد جَعْدَة زوجته بِدَسيسَةٍ من معاوية، وقيام يزيد بعده بسلطان الخلافة وهو من لم تحمد سيرته لا في الدين ولا في سياسة الملك والسلطان.

كان هذا من أعظم الأسباب، بل كاد ينحصر فيه، ظهور الفكرة الشيعية بصورة عملية منظمة، وزاد في تنظيمها ما كان يلاقيه بعض رجالات أهل البيت بعد يزيد من الظلم الأموي، وقد ولي الأمر من بني أُميّة مروان وأبناء مروان.

وكان أول هدف للشيعة في سبيل تحقيق الفكرة الشيعية هو قيامهم وعلى رأسهم المختار بأخذ ثأر الحسين. ومن الواضح البيّن أن الذين كانوا ينظّمون الدعوة والذين قاموا بالثورة يرجعون إلى (محمد بن الحنفيّة)، ثم إلى ولده من بعده. ولم يكن أحد من ولد الحسن والحسين في أول الأمر

٣٢

ممن يدعى إليه أو يرضى الدعوة لنفسه، فكان المختار بثورته داعية محمد بن الحنفيّة، ثم انتشر الدعاة باسم بني محمد بن الحنفية وبني العباس، أو للرضا من آل محمد ظاهراً. أما ابن قتيبة فهو يقول في كتابه (الإمامة والسياسة) في بدء الفتن والدولة العباسية، قولاً لم ينظر فيه إلاّ إلى سبب واحد من الأسباب التي ذكرناها وغيرها مما لم نذكره ومما سنذكره في هذهِ المقدمة، قال:

(لما سلّم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، قامت الشيعة من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة واليمن وأهل البصرة وأرض خراسان في سَتْرٍ وكتمان. فاجتمعوا إلى محمد بن علي (وهو محمد بن الحنفيّة)، فبايعوه على طلب الخلافة إن أمكنه ذلك. وعرضوا عليه قبض زكاتهم لينفقوها يوم الوثوب حين تحين الفرصة فيما يحتاج من النفقة على مجاهدته، فقبلها. وولّى على شيعة كل بلد رجلاً منهم، وأمره باستدعاء من قبله منهم في سرّ وتوصية إليهم ألا يبوحوا بمكتومهم إلاّ لمن يوثق به حتى يرى للقيام موضعاً. فأقام محمد بن الحنفية إمام الشيعة قابضاً لزكاتهم حتى مات. فلما حضرته الوفاة ولّى عبد الله ابنه من بعده وأمره بطلب الخلافة إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وأعلم الشيعة بتوليته إياه، فأقام عبد الله بن محمد بن علي وهو أمير الشيعة. فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك في أول خلافته أن الشيعة قد بايعت عبد الله بن محمد بن علي بعد أبيه، فبعث إليه، وقد أعدّ له في أفواه الطرق رجالاً معهم أشربة مسمومة، وأمرهم إذا خرج من عنده أن يعرضوا عليه الشراب، فلما دخل على سليمان أجلسه إلى جانبه ثم قال له: بلغني أن الشيعة بايعتك على هذا الأمر، فجحده عبد الله وقال: بلغك الباطل، وما زال لنا أعداء يبلغون الأئمة قبلك عنا مثل ما بلغك ليغروهم بنا فيدفع الله عنا كيد من ناوأنا، وأنا بما يلزمني من مؤونتي أشغل مني بطلب هذا الأمر. ثم خرج من عنده في وقت شديد الحر، فكان لا يمر بموضع إلاّ قام إليه الرجل بعد الرجل يقول له: هل لك في شربة سويق اللوز وسويق كذا وكذا يا ابن بنت رسول الله؟ ونفسه موجسة منهم، فيقول: بارك الله لكم، حتى إذا وصل إلى آخر الطريق خرج إليه رجل من خبائه وبيده عُسٌّ فقال: هل لك في شربة من لبن يا ابن بنت رسول الله؟ فوقع في نفسه أن اللبن مما لا يسمم، فشرب منه ثم مضى،

٣٣

فلم ينشب أن وجد للسمّ حسّاً فاستدلّ على الطريق إلى الحميمة، وبها جماعة آل العباس، وقال لمن معه: إن متّ ففي أهلي، ثم توجّه فنزل على محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس فأخبره الخبر، وقال له: إليك الأمر والطلب للخلافة بعدي، فولاّه وأشهد له من الشيعة رجالاً، ثم مات. فأقام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ودعوة الشيعة له حتى مات، فلمّا حضرته الوفاة ولّي محمد بن إبراهيم الأمر، فأقام وهو أمير الشيعة وصاحب الدعوة بعد أبيه، انتهى)(١) .

وكأن تسليم الحسن الأمر إلى معاوية بعد أخذه عليه العهود، نبَّه الشيعة، وهم يعلمون أنهم إذا لم ينكمشوا في أمرهم ويقلّدوه رجلاً من آل علي أو ولد العباس، وقد تنازل عنه الحسن ولم ينهض به الحسين - والإمامة لأخيه - فهم مأخوذون في عقر دارهم مُستهدفون للظلم، وإن كان هذا الرأي لا يراه كل الشيعة، ومنهم من يعتقد انحصاره في علي والأئمة من بنيه من فاطمة، وإنه ليس لسواهم ولا لبني العباس. ولكنه قد يكون في الشيعة من يؤيد القائمين وإن لم يروا رأيهم في إمامة محمد بن الحنفية وولده وولد ابن عباس، منهم إن لم يتفقوا معهم في العقيدة فهم متفقون معهم في التماس الخلاص من الظلم الأموي.

الثامن:

لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة من عليّ وهو المتعين لها على مذهب الإمامية بالنصّ ومذهب أهل السنة والجماعة ببيعة أهل الحلّ والعقد وهو الإمام المفترض الطاعة الذي لا تجوز محاربته. ولم يكتف بمحاربته وهو الظالم له، ولا بطغيان جيوشه على بلاده وانتقاصها من أطرافها وتأمير مثل (بُسْر بن أبي أرطاة) عليها، وهو الفظ الغليظ وحسبه لؤماً قتله في غزوته اليمن طفليّ عاملها من قبل علي بن عبد الله بن عباس. لم يكتف بهذه الأفاعيل حتى سنّ مَسبَّة عليّ في حياة عليّ، ولم يتحرّج من أن يسمعها ولده الحسن وقبيله الهاشميّ غير متأثم لا مستعظم، ثم درج عليها من وُلّي الأمر بعده من الأمويين إلى أن أبطلها عمر بن عبد العزيز.

____________________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة.

٣٤

هل هذا من العقل والدهاء اللذين وُصف بهما معاوية؟ وهل من الحكمة استفزاز العلويين وأشياعهم وقبيلهم الهاشميّ بمثل هذه البدعة من سبّ إمام حق مفترض الطاعة؟... وهل تحتملها النفوس الأبيّة مهما اتّصف أهلها بالتؤدة والحلم والأناة...؟

أليست وحدها - دع تلك الأحداث العظام التي أحدثها في الإسلام ومنها أخذه البيعة لولده الذي لا يدين بدين الحقّ - مما يكون من أعظم الأسباب لتضامن الحزب الساخط على هذه السياسة ومثيلها من سياسة من وُلّوا الخلافة من بني أميَّة...؟

التاسع:

لم يكتف الأمويون باغتصابهم الخلافة بغير حق، وهم ليسوا لها بأهل، وافتئاتهم بسلطانها وهم ليسوا برشدة ولا بحكماء حتى اتخذوا لهم أشياعاً من الظَّلمَة. فكان لمعاوية مثل زياد وسَمُرَة وبُسْر بن أبي أَرْطاة، وكان ليزيد مثل عبيد الله بن زياد، وكان لعبد الملك مثل الحجاج، ولهشام مثل يوسف بن عمر، ولغيرهم مثل هؤلاء ممن كان همهم اضطهاد أشياع علي وهم كثر منتشرون في كل بلد إسلامي، وما كانوا بل وما كانت الأمة إن أسكتتها القوة وهي بعد مجتمعة تحت سلطان الخلافة المغمور بالفتوح وامتلاك ناصية الأمم، بالراضية عن شكل هذا الحكم السابح في بحار من الدماء والجرائم والآثام. ومع ذلك فإن القائمين عليه لم يدعوا طريقة من طرق استفزاز من لهم مكانتهم في نفوس الأمة ولا سيما من عليّة الهاشميين إلاّ وقد سلكوها غير ناظرين إلى ما لها من العُقْبى في تفريق شملهم يوم قيام الفرصة السانحة وانتزاع الأمر المغصوب منهم يوم يمكّن منه القدر.

أحرجوا الحسين فأخرجوه، وقد رأى الخروج واجباً، وقد طلبوا منه وهو الإمام الحق وسبط الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يبايع يزيد. وظن وقد كاتبه الكوفيون، وبايع منهم لابن عمه (مسلم بن عقيل) ثمانية عشر ألفاً، أنه سيكون في منعة، وفي جيش كوفي مناصر يتغلب به على يزيد وأنصار يزيد، فيخلّص المسلمين منه ومنهم. ولكن انتهى الأمر بفشل الكوفيين ونكثهم البيعة له وبمقتله ومقتل أهله وأنصاره القليلين.

٣٥

ولكن لم تكن هذه المأساة إلاّ المُعْول الأول لانتقاض بنيان الخلافة الأموية حجراً فحجراً.

استفزّوا زيد بن علي، ودم جده بعد لم يجفّ من أرض الكوفة ومأساته الفادحة لم تُنس، فخرج آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ولم يكن طالباً للإمامة وهو يعلم أنها ليست له بل هي لأخيه (أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)). وظن كما ظن أبوه من قبله أنه في عزة ومنعة بأنصاره الكوفيين الذين بايعوه كما بايعوا جده، وأصابه من نكثهم بيعته ما أصاب جده، فانتهى الأمر بقتله وصلبه.

وقال بعض أشياع الأمويين فيه:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم نرَ مهدياً على الجذع يُصلبُ

وقـستم بـعثمان عـلياً سفاهة وعثمان أزكى من علي وأطيب

قد ذكر المؤرخون أسباباً لخروجه، وسنذكرها في مواضعها من هذا الكتاب، وكان خروج زيد سنة مائة وإحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين.

وخرج بعده ولده يحيى بن زيد بن علي بن الحسين سنة خمس أو ست وعشرين بالجوزجان من بلاد خراسان، منكراً للظلم وما عم الناس من الجور، فانتهى خروجه بقتله وصلبه، ولم يزل مصلوباً إلى أن خرج أبو مسلم صاحب الدولة العباسية وقتل قاتله (سَلْم بن أَحْوز)، وأنزل جثة يحيى فصلى عليها ودفنت هناك.

أمّا ما كان لمقتل يحيى من الأثر في النفوس الخراسانية وثورتها على الظلم الأموي، فخُذْ دليلاً عليه ما ذكره المؤرخون ومنهم المسعودي في مروجه فقال:

(وأظهر أهل خراسان النياحة على يحيى بن زيد سبعة أيام في سائر أعمالها في حال أمنهم على أنفسهم من سلطان بني أميّة، ولم يولد في تلك السنة بخراسان مولود إلاّ وسُمّي بيحيى أو بزيد لما داخلَ أهل خراسان من الجزع والحزن عليه)(١) .

____________________

(١) مروج الذهب للمسعودي المجلد ٢ ص١٨٥ - المطبعة البهية سنة ١٣٤٦هـ.

٣٦

نشاط الشيعة لتنظيم الدعوة

ونشرها ضد الأمويين

هذه الأسباب التي ذكرناها لا نزعم أنها هي وحدها التي أهابت بالشيعة إلى نفورها من الأمويين وحكمهم الظالم، بل هناك أسباب أُخرى نعرض عنها للاختصار مجتزئين بما ذكر.

هذه الأسباب إلى ما يضارعها دعت الشيعة إلى تنظيم صفوفها وتنظيم دعاتها إلى كل ما ينقض بنيان السلطان الأموي.

وإليك ما علّله ابن خلدون في تاريخه من خروج العلويين حيث قال:

(قد تقدم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعلي بن أبي طالب وبنيه رضي الله عنهم، وما كان من شأنهم بالكوفة وموجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، حتّى قتل المتولون كِبَر ذلك منهم (حِجْر بن عَديّ) وأصحابه. ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية، فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف. ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان، وخروج عبيد الله بن زياد من الكوفة، وسمّوا أنفسهم التوّابين، وولّوا عليهم (سُليمان بن صُرَد)، ولقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم.

ثم خرج (المختار بن أبي عُبيد) بالكوفة طالباً بدم الحسين رضي الله عنه وداعياً لمحمد بن الحنفيَّة، وتبعه على ذلك جموعه من الشيعة، وسماهم شرطة الله. وزحف إليه (عُبيد الله بن زياد) فهزمه المختار وقتله. وبلغ محمد بن الحنفيّة من أحوال المختار ما نقمه عليه فكتب إليه بالبراءة

٣٧

منه، فصار إلى الدعاء (لعبد الله بن الزُّبَيْر)، ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة (يوسف بن عمر) وصلبه. وخرج إليه ابنه يحيى بالجَوْزَجان من خُراسان فقُتل وصُلب كذلك، وطُلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

وبعد أن أوجز اختلاف الشيعة في الإمامة ومصيرها إلى مذاهب الإمامية والزيدية أتباع زيد، والكيسانية المعتقدين إمامة محمد بن الحنفية قال:

(ولمّا صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سراً لمحمد بن عبد الله بن حسن المُثَنّى بن الحسن بن علي، وسلّم له جميعهم، وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم، ولما علموا له من الفضائل عليهم. ولهذا كان مالك وأبو حنيفة يجتمعان إليه حين خرج من الحجاز، ويريدون بذلك أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي. وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليهما المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب مالك على الفُتياء في طلاق المكره، وحبس أبو حنيفة على القضاء)(٢) .

لم يدع رجال الشيعة وسيلة من وسائل التفكير في حمل الكافة على مقت الخلافة الأموية - وإن كان ما يصدر عنها كافياً لنماء ذلك المقت - ولم يتركوا ذريعة من الذرائع لتكوين فكرة عامة، ولا حيلة من الحيل لتفكيك عرى عصبيتها والعمل المشترك على دكّ عرشها، إلاّ وقد تذرعوا. وأنشأوا الأحزاب الخفيّة وبثوا الدعاة في الأمصار ولا سيما البعيدة عن عاصمة الخلافة كبلاد خراسان الواسعة، وهي البلاد التي لم تقم فيها عصبية للأمويين بل ولا للعرب وأهلها، وإن دخلوا في الإسلام فهم لا

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون ج٤ ص٣، ٤ - دار الكتاب اللبناني - بيروت.

(٢) نفسه ج٤ ص٥، ٦.

٣٨

ينسون عزة سلطانهم وقد انتزعه منهم العرب، ولا كان في طبيعة الحكم الأموي من العدل ما يحملهم على النسيان أو التناسي وفي نفوسهم نزوع إلى استردُّد ملكهم واسترجاع سلطانهم المفقود، فكانوا بطبيعة الحال أميل إلى الحزب الهاشمي المعارض والنفوس مطبوعة على هوى المستضعف. دع ما في انضمامهم إلى هذا الحزب ما يرون فيه الوصول إلى بغيتهم وهي رجوع سلطانهم إليهم وفيهم من عرف بفصل الدعاوة أو بدراسة الدين الحق لأهله.

ولهذه العوامل اعتزت الدعوة الهاشمية بخراسان بكثرة الأشياع والأتباع وقيام (أبي مسلم الخراساني).

العصبية بين النِّزاريّة واليَمانية:

ومن آثار هذه السياسة الشيعية الخفية المرتكزة على دمامة التفكير الصحيح من الحزب المعارض، قيام العصبية النِّزارية واليمانية التي كان (الكُميت) الشاعر الهاشمي السياسي أول من أذكى جذوتها وهو نزاري، وكان خصمه الذي نَهَدَ لمعارضته (دِعْبِل) الشيعي الشاعر الهاشمي السياسي وهو يماني.

وسبب قيام هذه العصبية بعد أن أتى الإسلام على كل عصبية جاهلية، أنّ الكُميت لما قال الهاشميات قصد البصرة فأتى (الفَرَزْدَق) وهو شيعي فأنشد قصيدته التي مستهلُّها:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

ولمّا أتمّ إنشادها قال له: (أظهِر، ثم أظهِر...)، وهذا هو غرض الكُميت الذي كان يقصده من عرض قصيدته على شاعر عصره الفَرَزْدق.

(ولما قدم الكميت المدينة أتى أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، فأذن له، وأنشده فلما بلغ من قصيدته قوله:

وقتيل بالطفّ غودر منهم بين غوغاء أمة وطغام

بكى أبو جعفر ثم قال:«يا كُميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك،

٣٩

ولكن لك ما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لِحسَّان بن ثابت: لا زلت مؤيداً بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت» .

فخرج الكُميت من عنده، فأتى عبد الله بن الحسن بن علي فأنشده فقال: يا أبا المستهل، إن لي ضيعة أُعطيت فيها أربعة آلاف دينار، وهذا كتابها، وقد أشهدت لك بذلك شهوداً، وناوله إياه.

فقال له الكُمَيت:

(بأبي أنت وأمّي، إني كنت أقول الشعر في غيركم أريد بذلك الدنيا والمال، ولا والله ما قلت فيكم إلاّ لله، وما كنت لآخذ على شيء جعلته لله مالاً ولا ثمناً.

فألحّ عبد الله عليه وأبى من إعفائه، فأخذ الكُميت الكتاب ومضى. فمكث أياماً ثم جاء إلى عبد الله فقال:

(بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول الله، إني لي حاجة).

فقال له عبد الله: (وما هي؟ وكل حاجة لك مقضية). قال الكُميت: (كائنة ما كانت؟). قال عبد الله: (نعم).

قال الكُمَيت: (هذا الكتاب تقبله وترتجع الضيعة).

ووضع الكتاب بين يدي عبد الله، فقبله عبد الله.

ونهض عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأخذ ثوباً جلداً فدفعه إلى أربعة من غلمانه، ثم جعل يدخل دور بني هاشم ويقول:

(يا بني هاشم...، هذا الكُميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم وعرض دمه لبني أمية فأثيبوه بما قدرتم)، فيطرح الرجل في الثوب ما قدر عليه من دنانير ودراهم، واعلم النساء بذلك فكانت المرأة تبعث ما أمكنها حتى إنها لتخلع الحلي عن جسدها. فاجتمع من الدنانير والدراهم ما قيمته مائة ألف درهم، فجاء بها إلى الكميت، فقال:

(يا أبا المستهل...، أيتناك بجهد المقل ونحن في دولة عدونا، وقد جمعنا هذا المال وفيه حلى النساء كما ترى، فاستعن به على دهرك).فقال الكُميت:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413