الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 256073 / تحميل: 14820
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وليس هناك من شك بأن البيت الذي نشأ فيه زين العابدينعليه‌السلام كان بيت نبوة وإمامة ، بيت من بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار فلازم العبادة والتهجد وذكر الله عزوجل منذ صغره ، وهو يرى أباهعليه‌السلام يقوم الليل ويصوم النهار ويساعد الفقير ويعين المحروم فكان لا يسمع في بيته الا القرآن ، ولا يرى من أهله الا ساجد وراكع ، ولا يأكل الا مع من يشد الحجر على بطنه ، أو يصوم الأيام الطويلة وهكذا كانت حياة السجادعليه‌السلام حياة علم وتقوى وجهاد وعبادة .

يصف أحد الرواة السجادعليه‌السلام وهو في السابعة أو الثامنة من عمره فيقول : حججت بعض السنين إلى مكة ، فبينما أنا سائر في عرض الصحراء وإذا بصبي سباعي أو ثماني(١) وهو يسير في الطريق بلا زاد ولا راحلة فتقدمت اليه وسلّمت عليه ، وقلت له : مع من قطعت البرّ ؟ قال : ( مع الباري ) فكبر في عيني ، فقلت : يا ولدي ! أين زادك وراحلتك ؟ فقال : (زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي ) فعظم في نفسي ، فقلت : يا ولدي ممن تكون ؟ فقال : ( مطلبي ) فقلت : أبن لي ؟ فقال : ( هاشمي ) فقلت : أبن لي ؟ فقال : ( علويٌ فاطميٌ ) فقلت : يا سيدي ! هل قلت شيئاً من الشعر ؟ فانشدهعليه‌السلام شعراً .

ثم غاب عن عيني الى ان أتيت مكة فقضيت حجتي ورجعت ، فأتيت الأبطح فإذا بحلقة مستديرة ، فاطلعت لأنظر من بها فإذا هو صاحبي فسألت عنه ، فقيل : هذا زين العابدين(٢) .

وفي الرواية الآنفة دلالات على انه كان من أهل العلم والعبادة والبلاغة ، على الرغم من صغر سنه .

ــــــــــــــــ

(١) هذا الإصطلاح غريب قال في ( تاج العروس ) عن ابن شميل يقال : رباعي لمن بلغ أربعة اشبار وقال الليث : الخماسي والخماسية من الوصائف لمن طوله خمسة اشبار ، ولا يقال سداسي ولا سباعي إذا بلغ ستة أو سبعة اشبار لأنه رجل ( ج ٤ ص ١٤١ ) فيتعين انه كان يقصد ابن سبع سنين أو ثمان .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٩٢ والمناقب ج ٣ ص ٢٩٤ .

٢١

وفي رواية الأصمعي(١) التالية دلالة أخرى على انهعليه‌السلام كان من أهل العبادة والصلاة ، وهو لا يزال في حداثة سنه يقول الأصمعي : ( كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فاذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، وهو يقول : نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الحي القيوم غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوحٌ للسائلين ، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين ، ثم أنشأ يقول :

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم

يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبة

وأنت وحدك يا قيوم لم تنم

أدعوك رب دعاء قد أمرت به

فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف

فمن يجود على العاصين بالنعم

قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين )(٢) .

وينسب للحسن البصري أنه رأى زين العابدينعليه‌السلام متعلقاً بأستار الكعبة ، وهو يتضرع إلى الله ، ويدعوه منيباً ، فدنا منه فسمعه يقول هذه الأبيات :

ــــــــــــــــ

(١) أورد الرواية ابن شهر آشوب في المناقب ج ٢ ص ٢٥١ ونسبة الرواية إلى الأصمعي لا يصح ، لان الأصمعي توفي في بغداد سنة ٢١٦ عن ثمان وثمانين سنة ( كما في تأريخ بغداد ج ١٠ ص ٤١٩ ) فتكون ولادته سنة ١٢٨ هجرية تقريباً أي بعد استشهاد الإمام السجادعليه‌السلام بثلاث وثلاثين سنة نعم يمكن أن تصح الرواية بالواسطة ، أي إذا كان الراوي رجلاً آخر رواها الأصمعي عنه .

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٤٣ .

٢٢

ألا أيها المأمول في كل حاجةٍ

شكوت إليك الضرّ فارحم شكايتي

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي ثم أين مخافتي

فيا سيدي أمنن علي بتوبةٍ

فإنك ربّ عالمٌ بمقالتي

ولا يوجد دليل سندي على صحة نسبة هذه الأبيات إلى السجادعليه‌السلام ، ويؤيد ذلك عدم موازاتها لبلاغتهعليه‌السلام وفصاحته .

وكان باراً رحيماً بأسرته ، خصوصاً عندما اشتد عودهعليه‌السلام وبلغ مبلغ الرجال وكان غالباً ما يردد : (لئن أدخل الى السوق ومعي دراهم ابتاع بها لعيالي لحماً وقد قرموا(١) أحبّ إليّ من أن أعتق نسمة )(٢) وكانعليه‌السلام يبكرّ في طلب الرزق لعياله ، ويقول : ( أتصدق لعيالي قبل أن أتصدق [ على الناس ] من طلب الحلال فإنّه من الله عز وجلّ صدقة عليهم )(٣) .

ــــــــــــــــ

(١) قرموا : اشتدّ شوقهم الى تناول اللحم .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦٧ نقلاً عن الكافي ج ٢ ص ١٢ .

(٣) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦٧ نقلاً عن الكافي ج ٢ ص ١٢ .

٢٣

أخلاقه وأدبهعليه‌السلام مع أبويه

ولئن حرم السجادعليه‌السلام من حنان الأم ورأفتها ، فانه لم يحرم من برها بالدعاء لها ولوالدهعليه‌السلام والدعاء للوالدين يعكس :

١ ـ أدباً قرآنياً رفيعاً والتزاماً بأحكام الإسلام وقد قال تعالى :( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً ) (١) .

٢ ـ قلباً مرهفاً وضميراً حياً وعقلاً متوقداً .

٣ ـ وفاءً بالجميل الذي أسداه الوالدان لوليدهما .

فيقولعليه‌السلام في دعائه لهما :

أ ـ ( واخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك والصلاة منك يا أرحم الراحمين اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف(٢) ، وأبرهما برّ الأم الرؤوف ، واجعل طاعتي لوالدي ، وبري بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان(٣) ، وأثلج لصدري من شربة الضمآن حتى أوثر على هواي هواهما ، وأقدّم على رضاي رضاهما ، وأستكثر برهما بي وإن قلّ ، وأستقلّ بري بهما وإن كثر ) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : الآية ٢٤ .

(٢) العسوف : الظلوم .

(٣) الوسنان : النعسان .

٢٤

ب ـ ( اللهم خفّض لهما صوتي ، وأطب لهما كلامي ، وألن لهما عريكتي(١) ، وأعطف عليهما قلبي ، وصيرني بهما رفيقاً ، وعليهما شفيقاً ) .

ج ـ ( اللهم اشكر لهما تربيتي ، وأثبهما على تكرمتي ، واحفظ لهما ما حفظاه مني في صغري ) .

د ـ ( اللهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلواتي ، وفي إنى من آناء ليلي ، وفي كل ساعةٍ من ساعات نهاري ) .

شب الإمام السجادعليه‌السلام في مدينة جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ذكرنا آنفاً ، على الصفات الحميدة للإسلام وكان الى جانب أبيه الحسينعليه‌السلام في المهمات ، وعلى الأغلب لقاء الإمام الحسينعليه‌السلام المشهود مع الوليد بن عتبة ( والي المدينة من قبل يزيد ) ومروان بن الحكم ، عندما أراد بنو أمية البيعة ليزيد بالخلافة وكانعليه‌السلام آنذاك شاباً في الثانية والعشرين من عمره .

فعندما مات معاوية بن ابي سفيان في رجب سنة ٦٠ هـ ، كتب يزيد الى الوليد بن عتبة أمير المدينة يأمره بأخذ البيعة على أهلها عامة وعلى الإمام الحسينعليه‌السلام خاصة فقال له : إن أبى عليك فاضرب عنقه وأبعث غلي برأسه .

ــــــــــــــــ

(١) العريكة : الطبع .

٢٥

فبعث الوليد الى الحسينعليه‌السلام فجاءه في ثلاثين رجلاً من أهل بيته ومواليه ومن الراجح تاريخياً ان زين العابدينعليه‌السلام كان بينهم ، فقد كان شاباً بليغاً راشداً يعضد أمر أبيهعليه‌السلام في القضايا الاسلامية الكبرى .

فنعى الوليد إلى الحسينعليه‌السلام موت معاوية ، وعرض عليه البيعة ليزيد فلم يجبه الإمام الحسينعليه‌السلام إلى شيء محدد ، بل أجلّه إلى الغد وقالعليه‌السلام للوليد : ( ان البيعة لا تكون سراً ولكن اذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم ) فانبرى مروان مخاطباً الوليد : لا تقبل أيها الأمير عذره ، متى لم يبايع فاضرب عنقه كذبت والله ولؤمت ) ثم أقبل على الوليد وقالعليه‌السلام : (إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله )(١) .

وأنتهت المقابلة بخروج الإمام الحسينعليه‌السلام ومن معه من أهل بيتهعليه‌السلام من مقر الوليد بن عتبة ثم إتخاذ الإمام الحسينعليه‌السلام قراره بالخروج من المدينة إلى مكة ثم إلى كربلاء .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١٧ .

٢٦

المرحلة الثانية : ( سنة ٦١ ـ ٦٧ هـ )

وهذه المرحلة امتدت من مقتل أبيه سيد الشهداءعليه‌السلام في كربلاء في العاشر من محرم الحرام سنة ٦١ هـ ولحد العاشر من محرم الحرام من سنة ٦٧ هـ وهو تاريخ مقتل قاتلي الحسينعليه‌السلام وتمثل تلك الفترة ست سنوات كاملة من الانتظار والاضطراب الإجتماعي والسياسي .

ففي سنة ٦١ للهجرة توالت أحداث الطف وقضية المسير الى الكوفة والدخول على عبدالله بن زياد ، ثم دفن الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ثم المسير الى الشام وخطبة السجادعليه‌السلام في مسجد الطاغية الأموي ، ثم العروج على كربلاء مرة أخرى لتجديد العهد ثم المسير الى المدينة حيث تسلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام وديعة الإمامة التي تركها له أبوهعليه‌السلام عند أم سلمة ( رضوان الله عليها ) وكانت ا لوصية تأمره بالسكوت .

وبقي السجادعليه‌السلام حزيناً على الفاجعة ، لكن لم يثنه ذلك عن أداء متطلبات الإمامة ، وهي قيادة الأمة قيادة روحية شرعية نحو أهداف الدين اشتملت هذه المرحلة أيضاً على انتفاضات ومعارك منها :

أ ـ معركة المدينة : ففي سنة ٦٢ هـ استبيحت المدينة من قبل جيش بني أمية بقيادة مسلم بن عقبة ، واشتعلت فيها معركة دامية بين جيش الشام و جيش المدينة بقيادة عبدالله بن حنظلة ، انتهت بمجازر بحق أهل المدينة .

ب ـ حركة التوابين : في سنة ٦٥ هـ قامت حركة التوابين تطالب بدم الإمام الحسينعليه‌السلام ، والتحم مقاتلوها مع جيش بني أمية بقيادة عبيدالله بن زياد ، وانتهت بمقتل معظم التوابين .

ج ـ حركة المختار : في سنة ٦٦ هـ ابتدأت حركة المختار في الكوفة ، واستمرت الى حين مقتل جميع من ساهم بقتل الحسينعليه‌السلام ، ومنهم عمر بن سعد وحرملة بن كاهل ، وعبيدالله بن زياد الذي قتل في ١٠ محرم سنة ٦٧ هـ .

وهذه المرحلة ، وإن لم يفصلها فاصل تاريخي عن بقية حياتهعليه‌السلام الا انها كانت تمثل مرحلة انتظار وترقب واضطراب خصوصاً وان الذين قاموا بفظائع عاشوراء سنة ٦١ هـ بحق آل البيتعليه‌السلام ، كانوا لا يزالوا يتمتعون بالحياة ويتأمرون على الناس ويحكمون باسم الدين .

وسنتناول بالتفصيل خطوات المرحلة الثانية من حياة السجادعليه‌السلام ونبدأ بخروج أهل البيتعليه‌السلام من المدينة سنة ٦٠ هـ .

٢٧

في كربلاء ( محرم سنة ٦١ هـ )

خرج السجادعليه‌السلام مع أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته من المدينة الى مكة ، بعد ان رفض الإمامعليه‌السلام إعطاء البيعة ليزيد وكان ذلك في رجب أو شعبان من سنة ستين للهجرة .

وفي الثالث من ذي الحجة سنة ٦٠ هـ ( وقيل الثامن منه ، أي يوم التروية ) خرج ركب أهل البيتعليه‌السلام من مكة متوجهاً نحو العراق وكان الحسينعليه‌السلام يتنبأ بمقتله في كربلاء ، كما قال في خطبته المشهورة في مكة قبل خروجه : ( كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفا )(١) وعندما أعلم بضعف الناس بالكوفة وحقيقة أن قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، أشار إلى انه يعلم انه مقتول لا محالة ، فقال : ( أعلم يقيناً ان هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، لا ينجو منهم إلا ولدي عليعليه‌السلام )(٢) .

وفي كربلاء ذاق السجادعليه‌السلام ، مع زوجته فاطمة بنت الحسنعليه‌السلام وابنه محمد الباقرعليه‌السلام ، مرارة عطش الطف وعانى من مرضه مدة ثمانية أيام متوالية أي من الثاني من محرم الحرام وحتى العاشر منه والظاهر ان المرض أمتد به حتى وصوله الكوفة وسمععليه‌السلام جميع خطب أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام الموجّهة لعساكر بني أمية ، ورأى أباه الحسينعليه‌السلام يصلي ليلة العاشر من محرم ويتلو كتابه حتى طلوع الفجر وكانت تلك سجية الحسينعليه‌السلام في كثرة صلاته وكمال صفاته ، وهكذا كان السجادعليه‌السلام على شاكلة أبيهعليه‌السلام .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٣٨ .

(٢) اللهوف ص ٣٩ .

٢٨

وفي ظهيره ذلك اليوم من محرم ، دخل الحسينعليه‌السلام على أبنهعليه‌السلام وأوصاه بوصاياه ، وسلّمه بعضاً من مواريث الإمامة كخاتمه ، وكانت آخر وصية لهعليه‌السلام :

(يا بني ، أوصيك بما أوصى به جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً حين وفاته ، وبما أوصى جدك عليّ عمك الحسن ، وبما أوصاني به عمّك إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله ) ثم ودعه ومضى الى ميدان المعركة الأخيرة التي استشهد فيها .

وكان السجادعليه‌السلام مريضاً يوم عاشوراء ، فلم يكن قادراً على القتال وقيل انه قاتل قليلاً ثم أتعبه المرض ، ولكنه بعيد وعلى أي تقدير ، فان الإرادة الربانية قدرّت له أن يبقى حياً بعد مجزرة آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطف يقول ابن سعد في طبقاته : ( كان علي بن الحسينعليه‌السلام مع أبيه بطف كربلاء وعمره إذ ذاك ثلاث وعشرين سنة لكنه مريضاً ملقى على فراشه وقد أنهكته العلّة والمرض ولما استشهد والدهعليه‌السلام ، قال شمر بن ذي الجوشن : اقتلوا هذا الغلام فقال بعض أصحابه : تقتل مريضاً لم يقاتل ؟! فتركوه )(١) .

قال ابن عمر : (هذا صحيح ، وليس قول من قال بأنه كان صغيراً حينئذٍ ولم يقاتل وانه ترك بسبب ذلك بشيء )(٢) .

وإن صح ذلك ، فهو لا يقدح في شخصية السجادعليه‌السلام ، لأن القتال تكليفٌ يسقط عند المرض وقد أثنى رمد العينين علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن مقاتلة اليهود في خيبر حتى مسحهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشفيتا ، ثم قاتل فكان النصر على يديهعليه‌السلام .

وهو في الوقت نفسه ، يحط من أخلاقية بني أمية الذين أرادوا قتل مريض لا حول له ولا قوة ، صبراً وهو من أشنع الأعمال وأقبحها عند العرب زمن الجاهلية ، فضلاً عن زمن الإسلام ورحمته !

يقول الإمام السجادعليه‌السلام حول عاشوراء : ( ما من يوم أشد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب ) ثم قال : (ولا يوم كيوم الحسين إذ دلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كلّ يتقرب إلى الله عزّ وجلّ بدمه ،

ــــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٢١٢ .

(٢) الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٢٢١ .

٢٩

وهو بالله يذّكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً )(١) ( والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة ، وتذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين ) .

ورأت عمته العقيلة زينب الألم على وجه السجادعليه‌السلام في ذلك اليوم ، فقالت له : ( ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وإخوتي ، فو الله إن هذا لعهدٌ من الله إلى جدك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لاتعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة ، والجسوم المضرّجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه ، فلا يزداد أثره إلا علواً )(٢) .

في الكوفة ( محرم سنة ٦١ هـ )

بعد استشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام على أرض الطف ، أعلن عمر بن سعد القائد الأموي لجيش الكوفة النصر العسكري على

ــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ج ٩ ص ١٤٧ .

(٢) كامل الزيارات ص ٢٦١ .

٣٠

جيش الحسينعليه‌السلام ، فبدأ جنوده اقتحام الخيم القليلة المنصوبة للنساء والاطفال وحرقها ، وارعابهم بأشدّ الوسائل النفسية من نظرات شامتة وتهديد بالقتل وتم الاستيلاء على غنائم الحرب وهي سيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمامته ودرعه ، ومغزل فاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقنعتها وقلادتها وقميصها(١) وسيق النساء والصبيان والمرضى سبايا الى الكوفة حيث مقر عبيدالله بن زياد ، وواليها من قبل بني أمية .

وكان دخول السبايا الى مدينة الكوفة مثيراً للغاية ، تقشعر منه جلود العقلاء مهما كان مذهبهم أو دينهم ، فضلاً عن المسلمين المؤمنين فقد كانت الكوفة مدينة كبيرة حسب مقياس ذلك الزمان فهي محاطة بنخيل كثيفة ، ومياه وافرة عذبة من الفرات ، وفيها كثافة سكانية متميزة لانها كانت مركز انطلاق الجيوش في حروب بلاد فارس والشام والروم ولذا لم يبخل علينا التاريخ بشهود عيان يروون قصة دخول السبايا ومن هؤلاء الشهود حذلم بن بشير ، فيقول : قدمت الكوفة سنة ٦١ هـ عند مجيء علي بن الحسينعليه‌السلام من كربلاء ، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود ، وقد خرج الناس للنظر إليهم وكانوا على جمال بغير وطاء ، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن ، ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلّة ، وفي

ــــــــــــــــ

(٢) اللهوف ص ١١٣ .

٣١

عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه وهو يقول بصوت ضعيف : ( إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا ، فمن قتلنا ؟ )(١) .

واذا كانت بعض المصادر(٢) تذكر بان قافلة الأسرى التي دخلت الكوفة كانت مؤلفة من أربعين جملاً تحمل النساء والصبيان ، فاننا يمكن ان نقدر ـ وبملاحظة قدرة الجمل على حمل الأفراد ـ عدد من أسر منهم بحدود ٨٠ ـ ١٢٠ فرداً ممن لهم علاقة نسبية أو سببية بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليه‌السلام وإذا أضفنا من استشهد من الرجال في كربلاء وهم ثلاث وسبعون رجلاً ، يكون مجموع الذين انتهوا إلى كربلاء في معسكر الحسينعليه‌السلام حوالي المائتين أو أقل من ذلك بقليل .

سياسة آل البيتعليه‌السلام بعد الطف

كانت سياسة آل البيتعليه‌السلام بعد واقعة الطف مبنية على اساسين هما : كشف الحقائق ، وإرشاد الناس وتصدى لذلك ثلة من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وثلاث نساء هنّ : عمتاه :

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ المفيد ص ٣٢١ ح ٨ وعوالم العوالم ج ١٧ ص ٣٦٨ ح ١ وص ٣٧١ ح ٢ .

(٢) كما في رواية مسلم الجصاص .

٣٢

زينب بنت عليعليه‌السلام ، وأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام ؛ واخته : فاطمة الصغرى بنت الحسينعليه‌السلام ويمكننا تلخيص تلك السياسة بالنقاط التالية :

١ ـ إدانة الناس على تخاذلهم وغدرهم .

٢ ـ تذكيرهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإسلام والقرآن ، وعلاقة أهل البيتعليه‌السلام بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالة السماء .

٣ ـ مواجهة الأمراء الطغاة بصلابة الحق وقوته ، ومقارعة الحجة بالحجة .

وكانت تلك السياسة منسجمة ومتماسكة ، وذات أهداف محددة ، وكانت موجهة إلى جمهور المسلمين الذين خذلوا أهل البيتعليه‌السلام في مبادئهم واهدافهم .

ففي الكوفة ، قام أهل البيتعليه‌السلام بوظيفتهم الاستثنائية تلك بنوعية الناس عبر خطابات في غاية البلاغة والفصاحة ولها مدلولات عميقة في حياة المسلمين والظاهر ان خطب أهل البيتعليه‌السلام قد تمت في الكوفة خلال فترة تبديل أو استراحة الحرس المكلّف بالأسرى قبل ان ينقلوا إلى قصر الإمارة ، حيث عبيدالله بن زياد أمير الكوفة من قبل يزيد بن معاوية فاستثمر زين العابدينعليه‌السلام ، وأم كلثوم بنت علي ، وفاطمة بنت الحسين ، وزينب بنت عليعليه‌السلام تلك الفترة فخاطبوا الناس .

والكوفة ليست مدينة غريبة على أهل البيتعليه‌السلام ، فقد عاشوا فيها في منتصف العقد الثالث من الهجرة ، أي قبل حوالي نيف وعشرين سنة من واقعة الطف .

٣٣

خطابات آل البيتعليه‌السلام :

أولاً : فهذه زينب بنت عليعليه‌السلام لم ير خفرةً(١) أنطق منها ، تخطب الناس في الكوفة ، فتقول :

( الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار .

أما بعد .

يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ، تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم ألا ، وهل فيكم إلا الصلف النطف ، والصدر الشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة .

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون وتنتحبون أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم ومدرة سنتكم ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم و سحقاً .

ــــــــــــــــ

(١) خفر الإنسان خفراً فهو خفر ( من باب تعب ) والأسم الخفارة : الحياء والوقار ( المصباح المنير ـ مادة خفر ج ١ ص ٢١٣ ) .

٣٤

فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فريتم ، وأي كريمة له أبرزتم ، وأي دمٍ له سفكتم ، وأي حرمة له انتهكتم لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو كملئ السماء أفعجبتم إن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإن ربكم لبالمرصاد ) .

ورى المؤرخون ان الناس كانوا يومئذٍ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم على أفواههم ويبكي أحدهم حتى اخضلّت لحيته وهو يقول : (بأبي أنتم و أمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونسائكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى )(١) .

ثانياً : فاطمة الصغرى بنت الحسينعليه‌السلام ، خطبت فقالت : ( الحمد لله عدد الرمل والحصا وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأؤمن به وأتوكل

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٦ ـ ٨٨ .

٣٥

عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن أولاده ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل(١) ولا ترات(٢) اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك بالكذب أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام المسلوب حقه المقتول من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس ، في بيت من بيوت الله فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضته إليك محمود النقيبة طيب العريكة معروف المناقب مشهور المذاهب لم تأخذه فيك اللهم لومة لائم ولا عذل عاذل هديته اللهم للإسلام صغيراً وحمدت مناقبه كبيراً ولم يزل ناضحاً لك ولرسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قبضته إليك زاهداً في الدنيا غير حريص عليها راغباً في الآخرة مجاهداً لك في سبيلك رضيته فاخترته فهديته إلى صراط مستقيم .

أما بعد :

يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء فإنا أهل بيت إبتلانا الله بكم وإبتلاكم بنا ، فجعل بلائنا حسناً وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً ، فكذبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً كأننا أولا ترك وكابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم ، قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم على افتراء الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين .

ــــــــــــــــ

(١) الذحل : الثأر .

(٢) الترات : جمع ترة وهي ايضاً الثأر .

٣٦

فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب من قبل ان نبرئها إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور تباً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأن قد حل بكم وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم ، وأية نفس نزعت إلى قتالنا ، أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا والله قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطبع على أفئدتكم وختم على سمعكم وبصركم ، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون فتباً لكم يا أهل الكوفة ، أي ترات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلكم وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي ، وببنيه وعترته الطيبين الأخيار ، فافتخر بذلك مفتخر فقال :

نحن قتلنا علياً وبني علي

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نسائهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب إفتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم الله وأذهب عنهم الرجس ، فاكظم وأقع كما أقعى أبوك قائماً ، لكل امرئ ما كسب وما قدمت يداه أحسدتمونا ـ ويلكم ـ على ما فضلنا الله .

فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا

وبحرك ساج ما يوارى الدعا مصا

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور )(١) .

ثالثاً : أم كلثوم بنت عليعليه‌السلام خطبت أهل الكوفة من وراء كلتها ، فقالت : ( يا أهل الكوفة سوأة لكم ، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وأنتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نسائه ونكبتموه ، فتباً لكم وسحقاً ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم ، وأي وزر على ظهوركم حملتم ، وأي دماء سفكتموها ، وأي كريمة أصبتموها ، وأي صبية سلبتموها ، وأي أموال إنتهبتموها .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٨ ـ ٩٠ .

٣٧

قتلتم خير رجالات بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزعت الرحمة من قلوبكم ، ألا إن حزب الله هم الفائزون وحزب الشيطان هم الخاسرون ، ثم قالت(١) :

قتلتم أخي صبراً فويل لامكم

ستجزون ناراً حرها يتوقد

سفكتم دماء حرم الله سفكها

وحرمها القرآن ثم محمد

ألا فابشروا بالنار إنكم غداً

لفي سقر حقاً يقيناً تخلدوا

وإني لأبكي في حياتي على أخي

على خير من بعد النبي سيولد

بدمع عزيز مستهل مكفكف

على الخد مني دائماً ليس يحمد

رابعاً : ثم نادى زين العابدينعليه‌السلام بالناس بعد أن حمد الله وأثنى عليه :

( أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي أبي طلاب أنا ابن من انتهكت حرمته ، وسلبت نعمته ، وانتهب ماله ، وسبي عياله أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من قتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً .

أيها الناس ، ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم الى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والمواثيق والبيعة ، وقاتلتموه فتبّاً لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي ...

رحم الله امرأً قبل نصيحتي ، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وفي أهل بيته ، فإن لنا في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة حسنة ) .

فصمتوا وهم يستمعون إلى هذا القول العطر ثم قالوا : (نحن يا بن رسول الله ، سامعون مطيعون حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ، فأنا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا ) .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٩١ .

٣٨

وقولهم هذا لا يمكن أن يفسر إلا بأحد تفسيرين :

إما ان الحضور كان من الذين لم يدخلوا الحرب مع الحسينعليه‌السلام ولم تصلهم أخبار الحرب إلا بوصول السبايا ، وهو بعيد لأن جواب السجادعليه‌السلام لهم يكشف عن كونهم مخادعون ماكرون .

وإما انهم كانوا يخادعون السجادعليه‌السلام للتمويه على الموقف الاسلامي العام وهذا أقرب الى الصواب فقد كانوا يحاولون إلتماس الأعذار على خذلهم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد صدق الفرزدق حينما قال للحسينعليه‌السلام قبل الطف وهو يصف أهل الكوفة : ( يا ابن رسول الله قلوب الناس معك وسيوفهم عليك ) ولو كانوا صادقين في قولهم : ( انا حرب لحربك وسلم لسلمك ) لما تركوا ا لحسينعليه‌السلام وأهل بيته يقتلون بين ظهرانيهم قبل أيام قليلة .

فأجابهم الإمام زين العابدينعليه‌السلام : ( هيهات ، هيهات ، أيها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون ان تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل ، كلا ورب الراقصات(١) ، فإن الجرح لما يندمل قتل أبي بالأمس وأهل بيته ، ولم ينس ثكل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثكل أبي ، وبني أبي إن وجده والله بين لهاتي ، ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصص تجري في فراش صدري )(٢) .

وهكذا عرض أهل البيتعليه‌السلام على أهل الكوفة ما يرشدهم إلى آخرتهم ولخطبة الإمام السجادعليه‌السلام دلالات نعرضها عبر الكلمات التالية :

دلالات خطبة السجادعليه‌السلام في الكوفة :

كشفت خطبة السجادعليه‌السلام في الكوفة عن أمور ، أهمها :

١ ـ انها ساهمت في كشف الحقائق التي حاول بنو أمية سترها وأخطرها التقليل من أهمية العلاقة الرسالية والرحمية برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذلك كان التأكيد على قول : ( من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فانا ) .

ــــــــــــــــ

(١) الراقصات : مطايا الحجيج .

(٢) مثير الأحزان لابن نما ص ٨٩ واللهوف في قتلى الطفوف ص ٦٨ .

٣٩

٢ ـ شرح الوقائع التي وقعت في العاشر من محرم الحرام ، وكان محورها قتل الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه وهتك حرمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ الإدانة الواضحة لأولئك الذين دعوا الحسينعليه‌السلام الى العراق وتخلوا عنه وحاربوه ، ووصمهم بالغدر والمكر والخيانة .

وكان للسجادعليه‌السلام كلامٌ قاله ، خلال أسر بني أمية له ، وهو : ( أيها الناس ، أن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء ، ألا وأن الله تعالى أكرم أقواماً بآبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ، لقوله تعالى :( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) (١) فأكرمهما ونحن والله عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدي رسول الله كان يقول في منبره : احفظوني في عترتي وأهل بيتي فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ألا لعنة الله على من آذاني فيهم حتى قالها ثلاث مرات ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ونحن والله أهل بيت أختار الله لنا الآخرة وزوي(٢) عنا الدنيا ولذاتها ولم يمتعنا بلذاتها )(٣) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الكهف : الآية ٨٢ .

(٢) زوي الشيء : نحاه .

(٣) ناسخ التواريخ ـ من أحوالهعليه‌السلام ج ٢ ص ٤٤ والمنتخب للطريحي ج ٢ ص ٢ .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

عليها غلمة من آل فهر

شمائلها أرقّ من الشمال

تمدّ إلى الطعان طوال أيد

إذا قصرت عن الطعن العوالي

تسابق للمنية كالعطاشى

قد استبقت إلى الورد الزلال

وما برحت تحيي البيض حتى

هوت مثلَ البدور على الرمال

تساقط عن متون الخيل صرعى

كما سقطت من السلك اللئالي

غدت أشلاؤهم قطعاً وأضحت

صدورهم جفيراً للنبال

وأصبح مفرداً فرد المعالي

يُثني عضبه جمع الضلال

عدا فأطار قلب الجيش رعباً

ثنى قلب اليمين على الشمال

يكاد الرمح يورق في يديه

لما في راحتيه من النوال

فما بأس ابن غيلٍ وهو طاوٍ

رأى شبليه في أيدي الرجال

بأشجع من حسين حين أضحى

بلا صحب يدير رحى القتال

سطا فاقتضّها بالرمح بكراً

والقحها عوانا عن حيال

ولما اشتاق للاخرى ووفى

بحدّ حسامه حق المعالي

هوى للترب ظامي القلب نهباً

لبيض القضب والأسل الطوال

وثاوٍ في هجير الشمس عارٍ

تظلله أنابيب العوالي

أبى إلا الإبا فقضى عزيزاً

كريم العهد محمود الفعال

قضى عطر الثياب يفوح منها

أريج العزّ لا أرج الغوالي

وأرخص في فداء الدين نفساً

يفدّيها القضاء بكل غالي

وما سلبت عداه منه إلا

رِداً أبلته غاشية النبال

وسيفاً فلّ مضربه قراع

الطلى ومحزّق الدرع المذال

لهيف القلب تُروى من دماه

ـ برغم الدين ـ صادية النصال

تفطر قلبه وعداه ظلماً

تحلئه عن الماء الحلال

صريعاً والعتاق الجرد تقفو

الرعال بجسمه إثر الرعال

٣٢١

وثاكلة تناديه بصوت

يزلزل شجوه شمّ الجبال

عزيز يا بن امّ عليّ تبقى

ثلاثاً في هجير الشمس صال

أخي انظر نساءك حاسرات

تستّر باليمين وبالشمال

سرت أسرى كما اشتهت الأعادي

حواسر فوق أقتاب الجمال

* * *

الشيخ حسن الحمود أديب موهوب يتحدر نسبه من اسرة عربية تنتمي إلى قبيلة ( طفيل ) ووالده العالم الجليل والفقيه الكبير الشيخ علي هاجر من الحلة إلى النجف وهو علي بن الحسين بن حمود توجه وهو في سنّ الكهولة وأكبّ على طلب العلم حتى نال درجة الاجتهاد مضافاً الى تقاه وورعه وموضع ثقة المجتمع على اختلاف طبقاته فكان يقيم الصلاة وتأتم به في الصحن العلوي الشريف مختلف الطبقات إلى أن توفي 7 شوال 1344 بعد مرض ألزمه الفراش أعواماً ولقد رزقه الله ولدين فاضلين هما الحسن والحسين أما الثاني وهو الأصغر فكان من المجتهدين العظام وممن يشار اليهم بالبنان وقد توفي قريباً وهو من المعمرين، وأما الأول وهو المترجم له فقد كان من نوابغ عصره ومولده كان حوالي سنة 1305 في النجف ونشأ بها في كنف والده، ومن أشهر أساتذته الذين اتصل بهم واستفاد منهم في العربية وآدابها هو الشيخ محمد رضا الخزاعي والشيخ عبد الحسين بن ملا قاسم الحلي والسيد مهدي الغريفي البحراني ثم هو من خلال ذلك شديد الملازمة لحضور نادي العلامة الجليل السيد محمد سعيد الحبوبي وقد كتب بخطه الجميل ديوان الشيخ محمد رضا الخزاعي وهناك مخطوطات أدبية كتبها بخطه، توفاه الله يوم الثلاثاء 11 ربيع الثاني سنة 1337 الموافق 1 كانون الثاني 1919 ودفن في الصحن الحيدري أمام الإيوان الذهبي وجزع عليه أبوه جزعاً شديداً بان عليه أثره كما أسف عليه عارفوه وأقام له مجلس العزاء الفاضل الأديب السيد علي سليل العلامة الجليل السيد محمد سعيد الحبوبي ورثاه بقصيدة مطلعها:

أو بعد ظعنك تستطاب الدار

فيقرّ فيها للنزيل قرار

٣٢٢

وظهرت شجاعته الأدبية يوم دعي إلى بغداد لأداء الامتحان في عهد الدولة العثمانية بدل من أن يساق لخدمة الدفاع المصطلح عليها ب‍ ( القرعة ) وكان رئيس اللجنة السيد شكري الألوسي وعندما استجوب بمسائل دينية وعربية نحوية وصرفية أكبره الرئيس الالوسي فمنحه ساعة ذهبية فارتجل المترجم له قصيدة أولها.

يا فكر دونك فانظمها لنا دررا

من المدائح تتلوها لنا سورا

ويا لساني فصّلها عيون ثنى

تزان فيه عيون الشعر والشعرا

ويا قريحة جودي في مديح فتى

تجاوز النيرين الشمس والقمرا

خلف آثاراً منها رسالة في علم الصرف وهي اليوم عند ولده الشيخ أحمد وديوان شعره الذي جمعه ولده المشار اليه يقارب 1500 بيتاً وهو مرتب على حروف الهجاء ومن أشهر قصائد رائعته التي نظمها في الصديقة الطاهرة فاطمة بنت النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وملاؤها شجاء وأولها:

سل أربعا فطمت أكنافها السحب

عن ساكنيها متى عن افقها غربوا

وهي مشهورة محفوظة وقد ترجم له الكاتب المعاصر علي الخاقاني في شعراء الحلة ترجمة ضافية وذكر طائفة من أشعاره ونوادره وغزلياته ومراسلاته أما قصائده الحسينية فاليك مطالعها:

1 ـ هنّ المنازل غيّرت آياتها

أيدي البلى وطوت حسان صفاتها

69 بيتاً

2 ـ لست ممن قضى بحبّ الملاح

لا ولا هائماً بذات الوشاح

54 بيتاً

3 ـ ما شجاني هوى الحسان الغيد

لا ولا همتُ في غزال زرود

58 بيتاً

4 ـ من هاشم العلياء جبّ سنامها

خطب أحلّ من الوجود نظامها

42 بيتاً

٣٢٣

5 ـ ألا دع عيوني لهتانها

وخلّ حشاي لنيرانها

50 بيتاً

وله من قصيدة في الإمام الحسين (ع):

خلت أربع اللذات واللهو والانس

ولم يبق منها غير أطلالها الدرسِ

وقفت بها والوجد ثقّف أضلعي

ومن حرقي كادت تفيض بها نفسي

اسائلها اين الذين عهدتهم

تضيئين فيهم كنت يا دار بالأمس

فلم تطق التعبير عمّا سألتها

لتخبرني آثار أطلالها الخرس

فأجريتُ دمعي في ثراها تذكراً

لأربع طه سيد الجنّ والانس

لقد أقفرت مذ غاب عنها ابن فاطم

وأضحت مزار الوحش خاوية الاسّ

سرى نحو أرجاء العراق تحوطه

أسودٌ لورد الموت أظما من الخمس

أفاعي قناهم تنفث الموت في العدا

إذا اعتقلوها وهي ليّنة اللمس

وبيض ضباهم يدهش الحتف ومضها

ويترك أسد الغاب خافتة الحسّ

تهادى كأمثال النشاوى إلى الردى

إذا غنّت البيض الرقاق على الترس

أباحوا جسوم القوم بيض سيوفهم

فلم تر غير الكف في الأرض والرأس

ولما دعاهم ربهم للقائه

هلموا أحبائي إلى حضرة القدس

هووا للثرى نهب الصفاح جسومهم

عراة على البوغاء تصهر بالشمس

تجول عليها العاديات نهارها

وتأتي عليها الوحش تنحب إذ تمسي

كرام تفانوا دون نصر ابن أحمد

وأقصى سخاء المرء أن يسخ بالنفس

وله في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومصرعه قصيدة مطلعها:

عج بسفح اللوى وحيّ الربوعا

وأذل قلبك المعنّى دموعا

واخرى في الصديقة فاطمة الزهراء (ع) أولها:

لا رعى الله قيلة وعراها

سخط موسى وحلّ منها عراها

٣٢٤

وله من قصيدة في مدح السيد محمد القزويني وهذا غزلها:

أتى زائراً والليل شابت ذوائبه

يرنحه غصن الصبا ويلاعبه

تزرّ على البدر المنير جيوبه

وتضفو على الغصن النضير جلاببه

يقابل ليلاً صدره افق السما

فترسم فيه كالعقود كواكبه

على وجنتيه أنبت الحسن روضة

حمتها أفاعي فرعه وعقاربه

وفي فمه ماء الحياة الذي به

يعيش ـ إلى أن ينقضي الدهر ـ شاربه

( ولعت به غضّ الشبيبة ناشئاً )

جرى الماء في خديه واخضرّ شاربه

فغادرني ( قوساً ) مثقّف قدّه

وصيّرني رهن الكآبة ( حاجبه )

وقلت له زر. قال يفضحني السنا

فقلت له ذا ليل شعرك حاجبه

فقال ظلام الليل لم يخف طلعتي

فقلت له أردى الكرى مَن تراقبه

فجاء وقد مدّ الظلام رواقه

تمانعه أردافه وتجاذبه

فبتنا وأثواب العفاف تلفّنا

وسادته زندي وطوقي ذوائبه

ونروي أحاديث الصبابة بيننا

فيعذلني طوراً وطوراً اعاتبه

إلى أن أغار الصبح في نوره على

دجى الليل وانجابت برغمي غياهبه

فودعني والدمع يغلب نطقه

وقد غمر الأرض البسيطة ساربه

وفارقته لكن قلي من جوى

جرى أدمعاً من غرب عيني ذائبه

بديع جمال عن معانيه قاصر

بياني وقد ضاقت عليّ مذاهبه

غدائره سودٌ وحمر خدوده

وصفر تراقيه وبيض ترائبه

وخطّ يراع الحسن لاماً بخده

فسبحان باريه ويا عزّ كاتبه

رقيق أديم الوجه يجرح خده

إذا ما النسيم الغضّ هبّت جنائبه

إذا مرّ في وادي الأراك تغارُ من

محاسنه أغصانه ورباربه

٣٢٥

الحاج مصطفى ميرزا

المتوفى 1338

يا راكب القود تجوب الفلا

وتقطع الأغوار والأنجدا

عرّج على الطف وعرّس بها

عني وقف في أرضها مكمدا

وانشد بها من كل ترب العلا

من هاشم مَن شئت أن تنشدا

فكم ثوت فيها بدور الدجى

وكم هوت فيها نجوم الهدى

وكم بها للمجد من صارم

عضبٍ على رغم العلى أغمدا

كل فتى يعطي الردى نفسه

ولم يكن يعطي لضيم يدا

يخوض ليل النقع يوم الوغى

تحسبه في جنحه فرقدا

يصدع قلب الجيش إما سطا

ويصدع الظلماء إما بدا

تلقاء مثل الليث يوم الوغى

بأساً ومثل الغيث يوم الندى

إن ركع الصارم في كفه

خرّت له هام العدى سجّدا

لم يعترض يوم الوغى جحفلاً

إلا وثنّى جمعه مفردا

سامهم الذل بها معشر

والموت أحلى لهم موردا

ومذ رأوا عيشهم ذلة

والموت بالعز غدا أرغدا

خاضوا لظى الهيجاء مشبوبة

واقتحموا بحر الردى مزبدا

وقبّلوا خدّ الظبا أحمراً

وعانقوا قدّ القنا أغيدا

وجرّدوا من عزمهم مرهفاً

أمضى من السيف إذا جرّدا

يفدون سبط المصطفى أنفساً

قلّ بأهل الأرض أن تفتدى

٣٢٦

عجبت من قوم دعوه إلى

جند عليه بذله جنّدا

وواعدوه النصر حتى إذا

وافى اليهم أخلفوا الموعدا

وأوقدوا النار على خيمة

وتّدها بالشهب مَن وتّدا

يا بأبي ظمآن مستسقياً

وما سقوه غير كأس الردى

ويا بروحي جسمه ما الذي

جرى عليه من خيول العدا

وذات خدر برزت بعده

في زفرات تصدع الأكبدا

وقومها منها بمرأىً فما

أقربهم منها وما أبعدا

فلتبك عين الدين من وقعة

أبكت دماً في وقعها الجلمدا

وقال من قصيدة في الامام الحسين (ع):

وقائلة لي عزّ قلبك بعدهم

فقلت أصبت القول لو كان لي قلبُ

فقد أرخصت مني الدموع ولم أزل

اغالي بدمعي كلما استامه خطب

رزية قوم يمموا أرض كربلا

فعاد عبيراً منهم ذلك الترب

أكارم يروي الغيث والليث عنهم

إذا وهبوا ملأ الحقائب أوهبّوا

إذا نازلوا الأعداء أقفر ربعها

وإن نزلوا في بلدة عمّها الخصب

تخفّ بهم يوم اللقاء خيولهم

فتحسبها ريحاً على متنها الهضب

إذا انتدبوا يوم الكريهة أقبلوا

يسابق ندباً منهم ما جد ندب

يكلفهم أبناء هند مذلة

وتوصيهم بالعزّ هندية قضب

فيا لهفة الاسلام من آل هاشم

ووا حرباً للدين مما جنت حرب

فأضحى إمام المسلمين مجرداً

وحيداً فلا آل لديه ولا صحب

وظلّ وليل النقع داجٍ تحفه

نصول القنا كالبدر حفّت به الشهب

وقد ولي الهنديّ تفريق جمعهم

فصحّ ( لتقسيم ) الجسوم به الضرب

إلى أن قضى ظمآن والماء دونه

( مباح على الرواد منهله العذب )

بنفسي يا مولاي خدك عافر

وجسمك مطروح أضرّ به السلب

* * *

٣٢٧

الشيخ اغا مصطفى ابن الاغا حسن ابن الميرزا جواد ابن الميرزا أحمد التبريزي من اسرة مجتهد الشهيرة بتبريز، ولد سنة 1295 وتوفي فيها في أواسط شهر رمضان 1337 وجاءت جنازته إلى النجف الاشرف سنة 1338 درس بالنجف مدة حتى نال حظاً وافراً من العلم ورجع لمسقط رأسه.

كان كما يقول الشيخ الأميني في ( شهداء الفضيلة ) أحد أفذاذ الامة وعباقرة العصر الحاظر. ولد بتبريز سنة 1297 وتخرّج على الخراساني وشيخ الشريعة الأصبهاني وآية الله الطباطبائي اليزدي. له حاشية على الكفاية في الاصول لم تتم. رسالة في اللباس المشكوك، أرجوزة في علمي العروض والقافية، رسائل مختلفة في الفلكيات والرياضيات، اما في الأدب فكان فارس ميدانه، ولقد قال فيه الحجة المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:

تركت سيوف الهند دونك في الفتك

على العرب العربا وأنت من الترك

تبرّزت من تبريز رب فصاحة

بها مدنياً قد حسبناك أو مكي

فكم لك من نثر ونظم تزيّنت

بنفسهما المسكيّ كافورة المسك

سبكتَ مياه الحسن في حسن سبكها

فيها لأبيك الخير من حسن السبك

لو الملك الضليل يهدى لمثلها

لظلّ يفاديها وإن عزّ بالمسك

وتسليه عن ( ذكرى حبيب ومنزل )

ويضحك إعجاباً بها من ( قفا نبك )

إذا رحت تتلوها غداً وهو قائل

فديتك واللسن الأعاريب يا تركي

لباب معان يسحر اللب لفظها

فيحسبه نظم اللئالي بلا سلك

ولكن آي المصطفى آية العلى

أثارت فآثرت اليقين على الشك

فتى زاد أيام الصبا سمك رفعة

تقاصر شأو الشيب عن ذلك السمك

وتلقاه قبل الاختبار مهذباً

مخائله تغني اللبيب عن المسك

وللعلامة الشيخ محمد رضا الأصبهاني هذه الأبيات كتبها اليه:

علوت في الفضل السهى والسماك

فأنت بدر والمعالي سماك

لاغرو إن فقت الثريا علاً

فأنت في ذلك تقفو أباك

ومذ حللت القلب أكرمته

وكيف لا يكرم مثلي حماك

٣٢٨

وله من الشعر معارضاً قصيدة الشيخ محمد السماوي التي أولها:

وجهك في حسنه تفنن

أنبت حول الشقق سوسن

قال في أولها:

سبحان من صاغه وكوّن

في غصنٍ وردةً وسوسن

أحنّ من ثغره ومَن ذا

رأيته لليتيم ما حن

شطّر بالوجد بيت قلبي

وفيه كل الغرام ضمّن

الله كم من دقيق معنى

للحسن ذاك الوشاح بيّن

ضمّن قلبي الأسى وعهدي

بمتلف الحب لا يضمّن

لولا ثناياه ما حسبنا

أن صغار الجمان أثمن

وكانت بينه وبين الشيخ اغا رضا الأصبهاني والشيخ جواد الشبيبي مراسلات ومما أرسل اليهما قصيدة أولها:

شهدت ليس الشهد غير ريقها

ما ذاقها سواك يا سواكها

وغير أخلاق الرضا فهي التي

ما أدركت أو لو النهى إدراكها

المرتدي ببردة العلم التي

سدى التقى لحمتها وحاكها

تعوّدت أنمله البسط فلو

همّ ببخل لم يطق إمساكها

يابن الاولى قد وطأت أقدامهم

هام السما فشرّفوا أملاكها

وترجم له في ( الحصون المنيعة ) فقال: كان شاباً ظريفاً حسن الأخلاق طيب الاعراق، جميل المعاشرة، عالماً فاضلاً مهذباً كاملاً، أديباً لبيباً، شاعراً ماهراً، وله شعر جيد السبك رائق اللفظ وله مطارحات ومراجعات مع شعراء عصره من شعراء النجف وغيرهم، وكان من أصدقاء الشيخ اغا رضا الأصفهاني فكم دارت بينهما من مطارحات ومراسلات شعرية وأدبية. انتهى

٣٢٩

السيد عبد المطلب الحي

المتوفى 1339

قم بنا ننشد العيس الطلاحا

عن بلاد الذلّ نأياً وانتزاحا

الى ان يتخلص لموقف الحسين وبطولته فيقول:

بأبي الثابت في الحرب على

قدم ما هزّها الخوف براحا

كلما خفّت بأطواد الحجا

زاد حلماً خفّ بالطود ارتجاحا

مسعر إن تخبو نيران الوغى

جرّد العزم وأوراها اقتداحا

لم يزل يرسي به الحلم على

جمرها صبراً وقد شبّت رماحا

كلما جدّت به الحرب رأى

جدّها في ملتقى الموت مزاحا

إن يخنه السيف والدرع لدى

ملتقى الخيل إتقاءً وكفاحا

لم يخنه الصبر والعزم إذا

صرّت الحرب إدّراعاً واتشاحا

رب شهباء رداح فلّها

حين لاقت منه شهباء رداحا

كلما ضاق به صدر الفضا

صدره زاد اتساعاً وانشراحا

فمشى قدماً لها في فتية

كأسود الغاب يغشون الكفاحا

يسيقون الجرد في الهيجا إذا

صائح الحي بهم في الروع صاحا

ويمدّون ولكن أيدياً

للعدى تسبق بالطعن الرماحا

أيدياً في حالة تنشي الردى

وبأخرى تمطر الجود سماحا

فهي طوراً بالندى تحيي الورى

وهي طوراً أجلٌ كان متاحا

بأبي أفدي وجوهاً منهم

صافحوا في كربلا فيها الصفاحا

٣٣٠

أوجهاً يشرقن بشراً كلما

كلح العام ويقطرن سماحا

تتجلى تحت ظلماء الوغى

كالمصابيح التماعاً والتماحا

أرخصوا دون ابن بنت المصطفى

أنفساً تاقت إلى الله رواحا

فقضوا صبراً ومن أعطافهم

أرج العز بثوب الدهر فاحا

لم تذق ماءً سوى منبعثٍ

من دم القلب به غصت جراحا

أنهلت من دمها لو أنه

كان من ظامي الحشا يطفي التياحا

أعريت فهي على أن ترتدي

بنسيج الترب تمتاح الرياحا

وتبقّوا أجدلاً من عزّه

لسوى الرحمن لم يخفض جناحا

يتلقى مرسل النبل بصد

رٍ وسع الخطب وقد سدّ البطاحا

فقضى لكن عزيزاً بعدما

حطم السمر كما فلّ الصفاحا

ثاوياً ما نقمت منه العدى

صرعة قد أفنت الشعر امتداحا

ونواعيها مدى الدهر شجى

يتجاوبن مساءً وصباحا

وآ صريعاً نهبت منه الضبا

مهجة ذابت من الوجد التياحا

يتلظى عطشاً فوق الثرى

والروى من حوله ساغ قراحا

هدموا في قتله ركن الهدى

واستطاحوا عمد الدين فطاحا

بكت البيض عليه شجوها

والمذاكي يتصاهلن نياحا

أيّ يوم ملأ الدنيا أسىً

طبّق الكون عجيجاً وصياحا

يوم أضحى حرم الله به

للمغاوير على الطف مباحا

أبرزت منه بنات المصطفى

حائرات يتقارضن المناحا

أيها المدلج في زيافة

تنشر الأكم كما تطوي البطاحا

فإذا جئت الغريين أرح

فلقد نلتَ بمسراك النجاحا

صل ضريح المرتضى عني وخذ

غرب عتب يملأ القلب جراحا

قل له يا أسد الله استمع

نفثةً ضاق بها الصدر فباحا

٣٣١

كم رضيع لك بالطفى قضى

عاطشاً يقبض بالراحة راحا

أرضعته حُلُم النبل دماً

من نجيع الدم لا الدرّ القراحا

ولكم ربة خدر ما رأى

شخصها الوهم ولا بالظن لاحا

أصبحت ربّة كور وبها

ترقل العيس غدواً ورواحا

سلبت أبرادها فالتحفت

بوقار صانها عن أن تباحا

واكتست برداً من الهيبة قد

ردّ عنها نظر العين التماحا

لو تراها يوم أضحت بالعرى

جزعاً تندب رحلاً مستباحا

حيث لا من هاشم ذو نخوة

دونها في كربلا يدمي السلاحا

* * *

السيد عبد المطلب الحسيني، ابن السيد داود بن المهدي بن داود بن سليمان الكبير. علم من أعلام الأدب، كريم الحسب والنسب، فجدّه لأبيه السيد مهدي بن داود وقد مرت ترجمته وعمّه السيد حيدر بن سليمان الذائع الصيت، تجد مسحة حيدرية على شعره اكتسبها منه، يقول الشيخ اليعقوبي في ترجمته: كان فصيح البيان جري اللسان كثير الحفظ ذكي الخاطر خصب القريحة مرهف الحس، كان يعرض شعره على عمّه في حياته ورثاه بعد وفاته بثلاث قصائد، وقد أطراه الشيخ محمد الجواد الشبيبي ـ شيخ الأدب في العراق ـ واليك نص ما قاله:

وقد أغرب مذ أعرب سيد بطحائها ( عبد المطلب ) عن رثاء لو وعته الخنساء لأذهلها عن صخر. ولد المترجم في الحلة حوالي سنة 1280 ونشأ فيها وكان جلّ تحصيله الادبي من عمه السيد حيدر وخاض المعارك السياسية وكان صوته يجلجل بشعره وخطبه داعياً لجمع الكلمة والوحدة الإسلامية وأثار حماسة العشائر الفراتية بنظمه باللغتين الفصحى والدارجة حتى احرقت داره بعد ما نهبت، وهذه قصائد الوطنية المنشورة يومذاك في صحف بغداد تشهد بذلك.

٣٣٢

آثاره الادبية:

1 ـ جمع ديوان عمه السيد حيدر ووضع له مقدمة ضافية طبعت مع الديوان سنة 1313.

2 ـ جمع ديوان جده السيد مهدي في جزئين كبيرين.

3 ـ ديوانه الذي يجمع مجموعة أشعاره.

4 ـ شرح ديوان المهيار الديلمي بثلاثة أجزاء، وهو من أسمى شروح ديوان المهيار.

اليك نبذة من روائعه فهذه قصيدته التي أنشأها سنة 1331 في الحرب الايطالية:

أيها الغرب منك ماذا لقينا

كل يوم تثير حرباً طحونا

تظهر السلم للأنام وتخفي

تحت طيّ الضلوع داء دفينا

أجهلتم بأننا مذ خلقنا

عرب ليس ينزل الضيم فينا

ولنا نبعة من العزّ يأبى

عودها أن يلين للغامزينا

قد قفونا آباءنا للمعالي

واليها أبناؤنا تقتفينا

علّمونا ضرب الرقاب دراكا

وعلى الطعن في الكلى درّبونا

نحن قوم إذا الوغى ضرستنا

لم نبدّل بشدة البأس لينا

وإذا ما رحى الحروب استدارت

نحن كنا أقطابها الثابتينا

ما شربنا على القذا مذ وردنا

وسوى الصفو لم نكن واردينا

لاندي الوتر للعدا إن وترنا

وعلى الوتر لا نغضّ الجفونا

وإذا ما نسبتنا يوم روع

لوغىً فهي أمّنا وأبونا

شمل الجور شعبنا فائتلفنا

لدفاع العدو متحدينا

قل لايطاليا التي جهلتنا

بثبات الاقدام هل عرفونا

كيف ترجو كلاب ( رومة ) منا

أن ترانا لحكمها خاضعينا

دون أن تفلق الجماجم والهام

بضرب يأتي على الدارعينا

٣٣٣

نبحونا مهوّلين فلما

ان زأرنا عاد النباح أنينا

حيث لم تجدها المناطيد نفعاً

كلما حلّقوا بها معتدينا

سائلوها بنا غداة التقينا

والمنايا يخطرن فيهم وفينا

كيف رعناهم الغداة بضرب

جعل الشك في المنايا يقينا

زاحفونا بجيشهم فزحفنا

وقلبنا على الشمال اليمينا

كشلما صلّت القواضب خروا

للضبا لا لربهم ساجدينا

ملأوا البرّ بالجيوش كما قد

شحنوا مثلها البحور سفينا

كلما صاحت المدافع ثُبنا

بصليل الضبا لها مسكتينا

ونقضنا صفوفهم بطعان

لم يدع للطليان صفاً مكينا

أنكرونا أنا بنو تلكم الأسد

فلما ثرنا لها عرفونا

سل ( طرابلسا ) التي نزلوها

كيف ذاقوا بها العذاب المهينا

كلما بالفرار جدّوا ترانا

بالضبا في رؤوسهم لاعبينا

يا رسولي للمسلمين تحمّل

صرخة تملأ الوجود رنينا

وتعمّد بطحاء مكة واهتف

ببني فاطم ركينا ركينا

وعلى الحي من نزار وقحطان

فعج وامزج الهتاف حنينا

الحراك الحراك يا فئة الله

إلى الحرب لا السكون السكونا

أبلغا عني الخليفة قولاً

غثّه في المقال كان سمينا

أبجدٍّ بالصلح نرضى فنمسي

نقرع السن بعده نادمينا

كيف ترضى على ( الهلال ) نراهم

وهُم في صليبهم باذخونا

فارفض الصلح يابن مَن دوخوها

بشبا المرهفات روماً و ( صينا )

يا بن ودي عرّج بإيران فينا

إنها اليوم نهزة الطمعينا

قف لنبكي استقلالها بعيون

ننزف الدمع في الخدود سخينا

وعلى مشهد الرضا عج ففيه

فَعلَ الروس ما أشاب الجنينا

تركوا المسلمين فيه حصيداً

واستباحوا منه الرواق المصونا

لا تحدّث بما جرى فيه إعلا

ناً فإن الحديث كان شجونا

٣٣٤

وشعره بهذا المستوى العالي سواءاً نظم في السياسة أو في الغزل أو المدح والرثاء، ودّع الحياة بضواحي الحلة يوم 13 ربيع الأول سنة 1339 وعمره قد قارب الستين ونيران الثورة العراقية لم تخبو بعد في الفرات الأوسط. وحمل نعشه إلى النجف ودفن بوادي السلام، كتب عنه السيد محمد علي كمال الدين في كتابه ( الثورة العراقية الكبرى ) وذكر قصيدة عبد الكريم العلاف في رثائه وهنا نورد رائعة اخرى من روائعه في رثاء جده الإمام الحسين (ع):

أيقظته نخوة العزّ فثارا

يملأ الكون طعاناً ومغارا

مستميتاً للوغى يمشي على

قدم لم تشك في الحرب عثارا

يسبق الطعنة بالموت الى

أنفس الأبطال في الروع ابتدارا

ساهراً يرعى ثنايا غزّه

بعيون تحتسي النوم غرارا

مفرداً يحمي ذمار المصطفى

وأبيّ الضيم من يحمي الذمارا

منتضٍ عزماً إذا السيف نبا

كان أمضى من شبا السيف عرار

ثابت إن هزت الأرض به

قال قِريّ تحت نعليّ قرارا

طمعت أبناء حرب أن ترى

فيه للضيم انعطافاً وانكسارا

حاولت تصطاد منه أجدلاً

نفض الذل على الوكر وطارا

ورجت للخسف أن تجذبه

أرقماً قد ألف العزّ وِجارا

كيف يعطي بيد الهون إلى

طاعة الرجس عن الموت حذارا

فأبى إلا التي إن ذكرت

هزّت الكون اندهاشاً وانذعارا

تخلق الأيام في جدّتها

وهي تزداد علاءً وفخارا

فأتى من بأسه في جحفل

زحفه سدّ على الباغي القفارا

وليوث من بني عمرو العلى

لبسوا الصبرَ لدى الطعن دثارا

كل مطعام إذا سيل القرى

يوم محل نَحرَ الكوم العشارا

وطليق الوجه يندى مشرقاً

كلما وجه السما جفّ اغبرارا

هو ترب الغيث إن عامٌ جفا

وأخو الليث إذا ما النقع ثارا

أشعروا ضرباً بهيجاء غدا

لهم في ضنكها الموت شعارا

٣٣٥

غامروا في العز حتى عبروا

للعلى من لجج الموت غمارا

وعلى الأحساب غاروا فقضوا

بالضبا صبراً لدى الهيجا غيارى

فقضوا حق المعالي ومضوا

طاهري الأعراض لم يدنسن عارا

قصرت أعمارهم حين غدا

لهم القتل على العزّ قصارا

عقدوا الاخرى عليهم ولها

فارقوا الدنيا طلاقاً وظهارا

جعلوا أنفسهم مهراً لها

والرؤوس الغالبيات نثارا

والمصابيح التي تجلى بها

صيروهنّ رماحاً وشفارا

يا له عقداً جرى في كربلا

بجزيل الأجر لم يعقب خسارا

أقدموا في حيث آساد الشرى

نكصت عن موكب الضرب فرارا

وتدانوا والقنا مُشرعة

يتلمظنّ إلى الطعن انتظارا

بذلوها أنفساً غالية

كبرت بالعز أن ترضى الصغارا

أنفساً قد كضّها حرّ الظما

فاسالوها عن الطعن حرارا

تاجروا لله بها في ساعة

لم تدع فيه لذي بيع خيارا

أيها المرقل فيها جسرة

كهبوب الريح تجتاب القفارا

صل إلى طيبة وأعقلها لدى

أمنع الخلق حريماً وجوارا

وأنخها عنده موقرةً

بالشجا قد خلعت عنها الوقارا

وله لا تعلن الشكوى وإن

كبر الفادح أن يغدو سرارا

حذراً من شامت يسمعها

كان بالرغم لخير الرسل جارا

فلقد أضرم قدماً فتنة

كربلا منها غدت تصلى شرارا

قل له عن ذي حشاً قد نفذت

أدمعاً سال بها الوجد انهمارا

يا رسول الله ما أفضعها

نكبةً لم تبق للشهم اعتذارا

كم لكم حرّ دم في كربلا

ذهبت فيه المباتير جُبارا

يوم ثار الله في الأرض به

آلُ حربٍ أدركت بالطف ثارا

والذي أعقب كسراً في الهدى

ليس يلقى أبد الدهر انجبارا

حرم التنزيل والنور الذي

بسناه غاسق الشرك استنارا

٣٣٦

وصفاياك اللواتي دونها

ضرب الله من الحجب ستارا

أبرزت حاسرةً لكن على

حالةٍ لم تبق للجلد اصطبارا

لا خمارٌ يستر الوجهَ وهل

لكريمات الهدى أبقوا خمارا

لا ومن ألبسها من نوره

أُزراً مذ سلبوا عنها الأزارا

لم تدع أيدي بني حرب لها

من حجاب فيه عنهم تتوارى

لو تراها يوم فرّت وعلى

خدرها في خيله الرجس أغارا

يتسابقن إلى الحامي وهل

يملك الثاوي على الترب انتصارا

تربط الأيدي من الرعب على

مهجٍ طارت من الرعب انذعارا

تتوارى بثرى الرمضا أسىً

لقتيل بالعرا ليس يوارى

وهو ملقى بثرى هاجرة

يصطلى من وهج الرمضا أوارا

كلما صعّدت الوجدَ أبى

دمعها من لوعةٍ إلا انحدارا

لم تجد من كافل إلا فتى

مضّه السقم وأطفالا صغارا

بالظما أعينها غارت وما

ذاقت الماء فليت الماء غارا

تحرق البوغاء منهم أرجلاً

أنعلتها أرؤوس النجم فخارا

أفزعتها هجمة الخيل فرا

حت تتعادى بثرى الرمضا فرارا

كل مذعور كبا رعباً على

حرّ وجهٍ كسنا البدر أنارا

كلما كضّ الظما أحشاءها

ألصقت بالترب أكباداً حراراً

كلما يلذعها حرّ الثرى

راوحت فيها يميناً ويسارا

يا لها فاقرة قد قصمت

من نبيّ الله ظهراً وفقارا

بكر خطبٍ كل آنٍ ذكرها

للورى يبتكر الحزن ابتكارا

وله مرثية من غرر الشعر جاء في أولها:

لتبق الضبا مغمودة آل هاشم

فما هي بعد الطف منها لقائم

وتلقي القنا منزوعة النصل عن يد

ستقرع منها حسرة سنّ نادم

ومجموعها 77 بيتاً.

٣٣٧

السيد ميرزا آل سليمان

المتوفى 1339

حتى مَ هاشم لا يرف لواها

فالسيل قدبلغ الزبى وعلاها

والخيل من طوال الوقوف قد اشتكت

فبأي يوم هاشم ترقاها

سل اسرة الهيجاء من عمرو العلى

مَن يوقد الحرب العوان سواها

ما نومها عن كربلا وعميدها

نهبته بيض امية وقناها

في يوم حرب فيه حرب ألّبت

أو غادها واستنهضت حلفاها

واستنفرت جيش الضلال وقصدها

يوم النفير تذكرت آباها

وسرت به للطف حتى قابلت

فيه الحسين وضاق فيه فضاها

وعلى الشريعة خيّمت بجموعها

كي لا تذيق بني النبي رواها

ظنت بعدة جيشها وعديدها

والماء في يدها بلوغ مناها

يلوي الحسين على الدنية جيده

لطليقها خوف الردى ولقاها

فأبى أبيّ الضيم أن يعطي يداً

للذل أو يهوي صريع ثراها

وسطا بعزم ما السيوف كحدّه

يوم اللقا هو في الطلى أمضاها

وترى الكماة تساقطت من سيفه

فوق البسيطةقبل أن يغشاها

وأمات شمس نهارها بقتامها

وبسيفه ليل القتام ضحاها

وثنى الخيول على الرجال ولفّها

ورجالها فوق الخيول رماها

يسطو ونيران الظما في قلبه

ما بين جنبيه تشبّ لظاها

حتى دعاه الله أن يغدو له

ويجيب داعيه لأمر قضاها

فهوى على وجه الثرى لرماحها

وسهامها نهباً وطعم ظباها

ومضى الجواد إلى المخيم ناعياً

لبنات فاطم كهفها وحماها

٣٣٨

فبكت بنات المصطفى مذ جاءها

وبكت ملائكة السما لبكاها

وفررن للسجاد من خوف العدى

تشكو فصدّعت الصفا شكواها

( دع عنك نهباً صيح في أبياتها )

والنارلما أضرمت بخباها

لكن لزينب والنساء تلهفي

من خدرها من ذا الذي أبداها

أُبرزن من حجب النبوة حاسراً

( وتناهبت أيدي العدو رداها )

لهفي لربة خدرها مذعورة

أنى تفرّ إذ العدى تلقاها

إن تبكي أطفال لها أو تشتكي

بالسوط زجر في المتون علاها

مَن مخبر عني بني عمرو العلى

أين الشهامة يا ليوث وغاها

نهضاً فآل الوحي بين عداكم

لا كافل من قومها يرعاها

تحدو حداة اليعملات بثقلكم

للشامتين بها وهم طلقاها

وإلى أبن هند للشئام سروا بها

أفهل علمتم كيف كان سراها

ويزيد يهتف تارة في أهله

ويسب اخرى قومها وأباها

* * *

السيد مرزه ابن السيد عباس مشهور بشرف النسب والحسب، ولد حوالي سنة 1265 بالحلة وتدرج على الكمال والأدب، واسرة آل سليمان الكبير يتوارثون الشعر والنبوغ. كان ابوه العباس من وجوه هذه الاسرة وأعيان ساداتها، وأبو السيد عباس هو السيد علاوي ـ جدّ المترجم له ـ زعيم مطاع في الحلة وأطرافها، ترأس فيها بعد عمه وأبيه السيدين: علي والحسين ولدي السيد سليمان الكبير. وله مكانة سامية عند حكام الحلة وولاة بغداد وخاصة في عهد الوزير داود باشا، وشاعرنا الذي نتحدث عنه نبعة من تلك الدوحة فهو أبو مضر مثال الاباء والسيادة حيث أنه من تلك القادة، محترم الجانب له مكانة عالية في الأوساط، يسحرك بحديثه ويعجبك بطلعته وهندامه، شديد المحافظة على تقاليده ومعتقداته، ساهم مساهمة كبرى في الثورة العراقية وجاهد الانكليز بيده ولسانه، في طليعة الثوار المحاربين، وعندما تدرس الثورة العراقية تعرف الموقف البطولي للسيد ميرزا حتى احرقت داره ونهب

٣٣٩

ما فيها وهو يواصل الهتاف بخطابه وبشعره باللغتين الفصحى والدارجة فقد كان فيهما وفي الخطابة المنبرية له القدح المعلّى، يقول الشيخ اليعقوبي: وله باللغة العامية مطولات في أهل البيت بأوزان شتى من البحور الدارحة التي لا يكاد يجاريه فيها احد من معاصريه فقد كان يجيد فيها إجادة ابن عمه السيد حيدر الحلي في الفصحى. مدحه الحاج عبد المجيد المشهور بالعطار بأبيات يهنيه فيها بولادة ولده الأصغر محمد سنة 1329 ويؤرخ ذلك العام، قال:

أبا مضر لا يلحق اللوم من دعا

أبا مضر عند الحفيظة والندا

لأنت وإن طالت قصار معاصم

لأطولها باعاً وأبسطها يدا

وأمنعها جاراً وأبذلها ندى

واقربها رحماً وأبعدها مدى

من الآل آل المصطفى خير معشر

جلت ظلمات الغي بالبأس والهدى

تهنّ به شبلاً نمته ضراغم

تخرّ له الاساد في الحرب سجدا

وفرحاً أصاب المجد أيمن طائر

بميلاده مذ جاور النسر مصعدا

سلالة فخر الكائنات محمد

وأكرم مَن في الكون يدعى محمدا

فما جهلت أعوامه حين أَرخوا

وليلة ميلاد الرسول تولدا

تغيب المترجم له عن وطنه وكان أكثر سكناه في ( الحصين ) قرب الحلة ولما عاد وذلك سنة 1339 علم بوفاة ابني عمّيه: السيد عبد المطلب الحلي الحسيني والسيد حسين ابن السيد حيدر جزع لفقدهما فاختار الله له اللحاق بهما فودّع الحياة وعمره 74 سنة على التقريب. وتأتي في جزء آتٍ من هذه الموسوعة ترجمة ولده السيد مضر، وكل آتٍ قريب.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413