أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم

أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم0%

أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 182

أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
تصنيف: الصفحات: 182
المشاهدات: 72036
تحميل: 8709

توضيحات:

أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72036 / تحميل: 8709
الحجم الحجم الحجم
أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم

أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يصل إلى أنّها موضوعة بمعنى القذارة التي تستنفر منها النفوس ، سواءً أكانت مادّية ، كما وردت في الآيات ، أم معنوية كما هو الحال في الكافر وعابد الوثن ووثنه .

فلو وصف به العمل القبيح عرفاً وشرعاً ، فلأجل أنّ العمل القبيح يوصف بالقذارة التي تستنفرها الطباع السليمة ، وعلى هذا فالمراد من الرجس في الآية هي الأعمال القبيحة عرفاً وشرعاً ، ويدلّ عليه قوله سبحانه بعد تلك اللفظة :(  ويطَّهركُم تَطْهيراً   ) ، فليس المراد من هذا التطهير إلاّ تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي لا تقبله النفوس السليمة .

وقد ورد نظير قوله :(  ويطَّهركُم تَطْهيراً   ) في حقّ السيدة مريمعليها‌السلام ، قال سبحانه :(  إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِين   ) (١)

نعم : إنّ لتطهير النفوس وطهارتها مراتب ودرجات ، ولا تكون جميعها مستلزمة للعصمة ، وإنّما الملازم لها هو الدرجة العليا ، قال سبحانه :(  فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِِّرِينَ   ) (٢)

قال العلاّمة الطباطبائي : الرجس - بالكسر والسكون - صفة من الرَّجاسة وهي القذارة ، والقذارة هيئة في النفس توجب التجنّب والتنفّر منها ، وهي تكون تارة بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير ، قال تعالى :(  أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ   ) وبحسب باطنه ، أُخرى ، وهي الرّجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيّء ، قال تعالى :(  وأمّا الّذِينَ فِي ُقُلوِبِهمَ َمٌرضَ َفزَاْدُتْهمِ رجساً إلى رِجْسِهِمْ ومَاتُوا وَهُمْ كافِرون   ) (٣) ، وقال :(  وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً

____________________

١- آل عمران : ٤٢ .

٢- التوبة : ١٠٨ .

٣- التوبة : ١٢٥ .

٨١

حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤَْمِنُونَ   ) .(١)

وأيّاً ما كان فهو إدراك نفساني وأثر شعوري يحدث من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل والعمل السيّئ ، وإذهاب الرجس عبارة عن إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تضاد حقّ الاعتقاد والعمل ، وعند ذلك يكون إذهاب الرجس معادلاً للعصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية ، تحفظ الإنسان من رجس باطني الاعتقاد وسيّئ العمل(٢)

المنفي مطلق الرجس :

إذا كان المراد من الرجس في الآية الكريمة هو الأفعال القبيحة عرفاً وشرعاً والمعاصي صغيرها وكبيرها ، فيجب أن يقال : إنّ المنفي في الآية هو عموم الرجس ، وذلك لأنّ المنفي هو جنس الرجس لا نوعه ولا صنفه ، ونفي الجنس يلازم نفي الطبيعة بعامة مراتبها ، ولأجل ذلك لم يكتف سبحانه بقوله :(  لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ   ) ، بل أكّده بقوله :(  ويطَّهركُم تَطْهيراً   ) ، فلو كان المراد نفي قسم خاص من الرجس - أعني : الشرك ، والأوسع منه كالمعاصي الكبيرة - لما كان لهذه العناية وجه .

والحاصل : أنّ المفهوم من قول القائل لا خير في الحياة ، ولا رجل في الدار ، هو المفهوم من قوله : ليذهب عنكم الرجس ، والتفكيك بين المقامين غير مقبول هذا هو الأمر الأوّل وإليك الكلام في الأمر الثاني :

____________________

١ - الأنعام : ١٢٥ .

٢ - الميزان : ١٦ / ٣٣٠ .

٨٢

٢ - هل الإرادة في الآية تكوينية أم تشريعية ؟

إنّ انقسام إرادته سبحانه إلى تكوينية وتشريعية من الانقسامات الواضحة التي لا تحتاج إلى بسط في القول ، ومجمل القول فيها هو انّه إذا تعلّقت إرادته سبحانه على إيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود ، فهي الإرادة التكوينية ولا تتخلّف تلك الإرادة عن مراده ، وربّما يعبّر عنها بالأمر التكويني قال سبحانه :(  إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون   ) (١)

ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تكوّن الشيء وتحقّقه وتجسّده ، واللّه سبحانه لأجل سعة قدرته ونفوذ إرادته لا تنفك إرادته عن مراده ولا أمره التكويني عن متعلّقه .

وأمّا إذا تعلّقت إرادته سبحانه بتشريع الأحكام وتقنينها في المجتمع حتى يقوم المكلّف مختاراً بواجبه ، فهي إرادة تشريعية ، ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تحقيقاً هو التشريع والتقنين ، وأمّا قيام المكلّف فهو من غايات التكليف ، ولأجل ذلك ربّما تترتب عليه الغاية ، وربّما تنفكّ عنه ، ولا يوجب الانفكاك خللاً في إرادته سبحانه ، لأنّه ما أراد إلاّ التشريع وقد تحقّق ، كما انّه ما أراد قيام المكلّف بواجبه إلاّ مختاراً ، فقيامه بواجبه وعدم قيامه من شعب اختياره ، هذا هو إجمال القول في الإرادتين ، وللتفصيل محلّ آخر .

والقرائن التي ستمرّ عليك تدلّ على أنّ الإرادة في الآية تكوينية لا تشريعية بمعنى أنّ إرادته التكوينية التي تعلّقت بتكوين الأشياء وإبداعها في عالم الوجود ، تعلّقت أيضاً بإذهاب الرجس عن أهل البيت ، وتطهيرهم من كلّ رجس وقذر ، ومن كلّ عمل يستنفر منه ، وإليك تلك القرائن :

____________________

١ - يس : ٨٢ .

٨٣

١ - إنّ الظاهر من الآية هو تعلّق إرادة خاصة بإذهاب الرجس عن أهل البيت ، والخصوصية إنّما تتحقّق لو كانت الإرادة تكوينية ؛ إذ لو كانت تشريعية لما اختصّت بطائفة دون طائفة ؛ لأنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء هو إبلاغ تشريعاته ودساتيره إلى الناس عامة لا لأُناس معيّنين ، ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه عندما شرّع للمسلمين الوضوء والغسل بقوله :(  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا   ) علّله بقوله :(  وَلَكِنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ   ) (١) خاطب سبحانه المؤمنين عامّة بالوضوء والغسل وعلّل تشريعه العام بتطهيرهم وإتمام نعمته عليهم وهذا بخلاف الآية التي نحن بصددها ؛ فإنّها خَصّصت إرادة تطهيره بجمع خاص تجمعهم كلمة (أهل البيت ) وخصّهم بالخطاب وقال : (  عَنكُمُ أَهْلَ الْبَيْتِ   ) أي : لا غيركم .

وبالجملة فتخصيص تعلّق الإرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية ، يمنع من تفسير الإرادة بالإرادة التشريعية التي عمّت الأمّة جميعاً .

نعم لا يتوهّم من ذلك أنّ أهل البيت خارجون عن إطار التشريع ، بل التشريع في كلّ المجالات يعمّهم كما يعمّ غيرهم ، ولكن هنا إرادة تكوينية مختصّة بهم .

٢ - إنّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود بالإرادة ، الإرادة التكوينية لا التشريعية ، لوضوح أنّ تعلّق الإرادة التشريعية بأهل البيت لا يحتاج إلى العناية في الآية ، وإليك بيان تلك العناية :

____________________

١ - المائدة : ٦ .

٨٤

أ - ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر ، ولا معنى له إذا كانت الإرادة تشريعية ؛ لأنّها غير محصورة بأُناس مخصوصين .

ب - عيّن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص ، فقال :(  أَهْلَ الْبَيْتِ   ) ، أي : أخصّكم أهل البيت .

ج - قد بيّن متعلّق إرادته بالتأكيد ، وقال بعد قوله :(  لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ   ) : (  وَيُطَهِّرَكُمْ   ) .

د - قد أكّده أيضاً بالإتيان بمصدره بعد الفعل ، وقال :(  وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراًً   ) ليكون أوفى في التأكيد .

هـ- إنّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة ، ليدلّ على الإكبار والإعجاب ، أي : تطهيراً عظيماً معجباً .

و- إنّ الآية في مقام المدح والثناء ، فلو كانت الإرادة إرادة تشريعية لما ناسب الثناء والمدح .

وعلى الجملة : العناية البارزة في الآية تدلّ بوضوح على أنّ الإرادة هناك غير الإرادة العامة المتعلّقة لكلّ إنسان حاضر وباد ، ولأجل ذلك فإنّ المحقّقين من المفسّرين يفسّرون الإرادة في المقام بالإرادة التكوينية ويجيبون عن كلّ سؤال يطرح عنها .

قال الشيخ الطبرسي : إنّ لفظة(  إِنَّمَا   ) محقّقة لما أُثبت بعدها ، نافية لما لم يُثبت ، فإنّ قول القائل : إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي انّه ليس عنده سوى الدرهم ، وليس في الدار سوى زيد ، وعلى هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المحضة التشريعية ، أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس ولا يجوز الوجه الأوّل ؛ لأنّ اللّه تعالى قد أراد من كلّ مكلّف هذه الإرادة المطلقة ، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق ؛ ولأنّ هذا القول يقتضي

٨٥

المدح والتعظيم لهم بغير شكّ وشبهة ولا مدح في الإرادة المجرّدة ، فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح(١)

وقال السيد ابن معصوم المدني في تقريب دلالة الآية على عصمة المعنيّين بالآية : إنّ لفظة(  إِنَّمَا   ) محقّقة لما أُثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت ، فإنّ قول القائل إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي انّه ليس له عنده سوى درهم وليس في الدار سوى زيد ، إذا تقرّر هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المطلقة ، أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس فلا يجوز الوجه الأوّل ؛ لأنّ اللّه تعالى قد أراد من كلّ مكلّف هذه الإرادة المطلقة ، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق وهذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شكّ ولا شبهة ولا مدح في الإرادة المجرّدة ، فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح ، لأنّ اللام في الرجس للجنس ، ونفي الماهية نفي لكلّ جزئياتها ، وقد علمنا أنّ من عدا ما ذكرناه من أهل البيت حين نزول الآية غير مقطوع على عصمته ، فثبت أنّ الآية مختصة بهم ؛ لبطلان تعلّقها بغيرهم

وما اعتمدوا عليه من أنّ صدر الآية وما بعدها في الأزواج ، فجوابه : أنّ من عرف عادة العرب العُرباء في كلامهم وأسلوب البلغاء والفصحاء في خطابهم ، لا يذهب عليه أنّ هذا من باب الاستطراد ، وهو خروج المتكلّم من غرضه الأوّل إلى غرض آخر ثمّ عوده إلى غرضه الأوّل ، واتفقت كلمة أهل البيان على أنّ ذلك من محاسن البديع في الكلام نثراً ونظماً والقرآن المجيد وخطب البلغاء وأشعارهم مملوءة من ذلك(٢)

____________________

١- مجمع البيان : ٤ / ٣٥٧ ، تفسير سورة الأحزاب ؛ وقريب منه ما أفاده الشيخ الطوسي في تبيانه : ٨ / ٣٤٠ .

٢ - رياض السالكين : ٤٩٧ ، الروضة السابعة والأربعون ، وقد نقلنا عن الطبرسي ما يقرب منه .

٨٦

أسئلة وأجوبة :

قد تعرّفت على مفاد الآية : واتضح لديك أنّ القرائن الداخلية في نفس الآية تدلّ بوضوح على أنّ الإرادة الواردة في الآية إرادة تكوينية تعلّقت بطهارة أهل البيت وإذهاب الرجس عنهم ، ويكون وزان الإرادة فيها وزان الإرادة الواردة في الآيات التالية ونظائره :

١ -(  وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ   ) (١)

٢ -(  وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ   ) .(٢)

٣ -(  وَمَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ   ) (٣)

وعند ذلك تطرح في المقام أسئلة لا بدّ من الإجابة عليه :

السؤال الأوّل : هل الإرادة التشريعيّة تتعلَّق بفعل الغير ؟

هل يصحّ تعريف الإرادة التشريعية بالإرادة المتعلّقة بفعل الغير ، كتكليفه سبحانه عباده بالصلاة والزكاة ، وتكليف الآمر البشري غيره بالسقي والرعي ؟ وإذا كانت الإرادة التشريعية عبارة عمّا ذكر ، فتكون الإرادة التكوينية عبارة عن تعلّقها بفعل نفس المريد كتعلّق إرادته سبحانه بخلق السماوات والأرض ، وإرادة غيره بالأكل والشرب ؟

الجواب : أنّ تعريف الإرادة التكوينية بما ذكر وإن كان صحيحاً ، لكن

____________________

١- القصص : ٥ .

٢- الأنفال : ٧ .

٣- المائدة : ٤١ .

٨٧

تعريف التشريعية منها بتعلّقها بفعل الغير غير صحيح قطعاً ، وذلك لأنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بأمر اختياري وهو فعل المريد ، وأمّا فعل الشخص الآخر ، فهو بما أنّه خارج عن اختيار المريد ، لا تتعلّق به إرادته ، وكيف يصحّ لشخص أن يريد صدور فعل من الغير مع أنّ صدوره منه تابع لإرادة ذلك الغير وليس تابعاً لإرادة المريد الآخر ؟

وإن شئت قلت : إنّ زمام فعل الفاعل المختار بيد الفاعل المباشر ، فلو أراده لقام به ولو لم يرده لما قام به وليس زمامه بيد الآمر ، حتى يريده منه جداً ولا تصيّره إرادة الآمر مسلوب الاختيار ولا تجعله مضطراً مقهوراً مسخّراً في مقابل إرادة الآمر ، لأنّ المفروض أنّ الفاعل بعد فاعل مختار ، ومن هذا شأنه لا تتعلّق بفعله إرادة الغير الجدّية ؛ لأنّ معنى تعلّقها بفعل الغير أنّه في اختيار المريد ومتناوله ، ويوجد بإرادته وينتفي بانتفائه ، مع أنّه ليس كذلك ، وإنّما يوجد بإرادة الفاعل المباشر وينتفي بانتفاء إرادته ، ولا ملازمة بين إرادة الآمر وإرادة المأمور ، ولأجل ذلك كثيراً ما يُعصى ويُخالف .

وفي الجملة : ليست ماهية الإرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الإرادة التكوينية ، بل الكلّ من وادٍ واحد تختلفان في الاسم وتتّحدان في الماهية ، والجميع يتعلّق بفعل نفس المريد ، غير أنّ المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار ، وهو في التكوينية ، عبارة عن الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة ، كالتكوين والتصنيع ، سواء كان المريد هو اللّه سبحانه أم أحد عباده القادرين على الأفعال الخارجية بإقداره ، ولكنّه في التشريعية عبارة عن نفس الطلب والإنشاء بالإيماء والإشارة واللفظ والكتابة ، وهو أيضاً فعل المريد الواقع في اختياره ، وأمّا قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد ومقاصده وأغراضه ، وهي تترتب تارة ،

٨٨

وتنفك أُخرى ، فلو تكوّنت في نفسه مبادئ الخوف والرجال لقام به وإلاّ فلا يقوم به ولا تتحقّق الغاية لكن تتمّ عليه الحجّة .

وعلى ذلك فما اشتهر على الألسن من أنّ الإرادة التشريعية عبارة عن تعلّق إرادة الآمر بفعل الغير تسامح في التعبير ومن باب إقامة الغاية مكان ذيها .

والذي يوضح ذلك : إنّ إرادته سبحانه لا تنفكّ عن مراده ، ومن المستحيل أن يخاطب شيئاً ب- ( كن ) ولا يتحقّق ، ولسعة قدرته وعموميتها ، قال سبحانه :(  إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ   ) (١) ، فلو تعلّقت إرادته بفعل العباد كالصلاة والصوم لما أنفكّ عنهم ولو تعلّقت على إيمانهم وهدايتهم ، لما وجد على أديم الأرض عاصٍ ومتمرّد ، قال سبحانه :(  وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ   ) (٢) ، وتكون نتيجة ذلك كونهم مجبورين في قبول الهداية ، ومضطرين إلى الطاعة ، فلا يقام لمثلها وزن ولا قيمة ، وهذا يعرب بوضوح عن أنّ متعلّق إرادته في مجال التشريع هو فعل نفس المشرع وهو التشريع ، وهو بعد غير منفك عن إرادته ، موجود معها

السؤال الثاني : هل الإرادة التكوينيّة توجب سلب الاختيار ؟

لو كانت الإرادة في المقام إرادة تكوينية ، فبما إنّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن المراد فلازمها هنا كون طهارتهم وابتعادهم عن الرجس أمراً جبرياً لا يتخلّف ، وهذا لا يعدّ فضيلة وثناء لأهل البيت مع أنّ الآية بصدد الثناء عليهم .

وقد أجاب عنه المحقّقون على وجه الإجمال وقالوا : إنّ القدرة والتمكّن من فعل المعصية ثابت للمعصوم ، والعصمة مانع شرعي ، ولا منافاة بين عدم القدرة الشرعية والقدرة الذاتية ، وهذا الجواب بإجماله كاف لأهل التحقيق ولكن يحتاج

____________________

١- يس : ٨٢ .

٢- الأنعام : ٣٥ .

٨٩

إلى إيضاح ، فنقول :

إنّ مشكلة الجبر تنحل بالتعرّف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد ، والإمعان في هذا الموضوع يكفي لحلّ بعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر والاختيار .

وبعبارة أُخرى : هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم وإرادتهم ، أم تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم ، فالجبر لازم القول الثاني ، والاختيار نتيجة القول الأوّل ، والحقّ هو القول الأوّل فنقول في توضيحه :

إنَّ لازم التوحيد في الفاعلية والخالقية - كما هو منصوص الآيات ومقتضى البراهين - هو إنّ كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد أم لغيرهم لا يخرج عن إطار الإرادة التكوينية للّه سبحانه ، ولا يقع شيء في الكون إلاّ بإرادته وإذنه سبحانه ، قال تعالى :(  مَا قَطَعْتُمْ مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ   ) (١) ، وهذه الآية وغيرها تدلّ بصراحة على أنّ أفعال العباد حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الإرادة التكوينية للّه وإلاّ لزم أن يكون الإنسان والفواعل الأُخر مستقلة في الفعل والتأثير ، وهو يستلزم الاستقلال في الذات ، وهو عين الشرك ونفي التوحيد في الأفعال والخالقية .

ومع ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم وتصرّفاتهم ؛ لأنّ إرادته سبحانه وإن تعلّقت بأفعالهم لكنّ إرادته سبحانه متعلّقة بأفعالهم بتوسّط إرادتهم الخاصة وفي طول مشيئتهم ، وبذلك صحّ أن يقال : لا جبرٌ ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين .

____________________

١- الحشر : ٥ .

٩٠

وعلى ذلك فاللّه سبحانه وإن أراد طهارتهم عن الذنوب بالإرادة التكوينية ولكن تلك الإرادة تعلّقت بها ، لما علم سبحانه إنّهم بما زوّدوا من إمكانات ذاتية ومواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم وفق مبادئ الإسلام ، لا يريدون إلاّ ما شرّع لهم سبحانه من أحكام ، فهم لا يشاءون إلاّ ما يشاء اللّه ، وعند ذلك صحّ له سبحانه أن يخبر بأنّه أراد تكويناً إذهاب الرجس عنهم ، لأنّهمعليهم‌السلام ما داموا لا يريدون لأنفسهم إلاّ الجري على وفق الشرع لا يفاض عليهم إلاّ هذا النوع من الوصف .

وحصيلة الكلام : أنّ مبنى الإشكال هو الغفلة عن كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد حيث توهّم المستشكل :

أوّلاً : أنّ أفعال العباد خارجة عن إطار الإرادة التكوينية للّه سبحانه ، وغفل عن أنّ هذا النوع من الاعتقاد يساوق الشرك ويصادم التوحيد .

وثانياً : أنّ سبق الإرادة التكوينية على أفعال العباد يستلزم سلب الاختيار عنهم ، وغفل عن أنّ إرادته سبحانه إنّما تتعلّق بتوسط إرادة العباد واختيارهم ، فهم إذا أرادوا لأنفسهم شيئاً ، فاللّه سبحانه يريد ذلك الشيء لهم تكويناً ، وليس في ذلك أيّة رائحة للجبر ، بل هو الأمر بين الأمرين .

وعندئذٍ يكون المراد من تطهيرهم - بعد تجهيزهم بإدراك الحقّ في الاعتقاد والعمل ، وإعطائهم البصيرة الكاملة لمعرفة الحقّ في مجال الاعتقاد والعمل - تعلّق إرادته التكوينية بطهارتهم من الذنوب ، لأجل تعلّق إرادتهم بذلك ، فقد تعلّقت إرادته سبحانه بتنزيههم عن طريق إرادتهم واختيارهم ، وأين هذا من الجبر ؟

تفسير آخر للإرادة بالتكوينية :

ما ذكرناه في كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد ، جواب عام سار في

٩١

جميع الموارد ورافع للإشكال في مجال الجبر ، وإنّ من أعضل الموارد في الجبر والاختيار ، هي تحليل كيفية تعلّق إرادته بأفعال العباد وانّه : هل يوجب الجبر ويسلب الاختيار ؟ باعتبار أنّ إرادته لا تنفك عن المراد ، أم لا ؟ لاَنّ إرادته تعلّقت بصدور أفعالهم عن أنفسهم عن مبادئها المكوّنة فيهم وهي إرادتهم واختيارهم ، فلو صدرت عنهم بلا هذه الخصوصية لزم انفكاك إرادته عن مراده .

ولمّا استشكل هذا المطلب على بعضهم انصرفوا إلى إخراج أفعال العباد عن إطار إرادته سبحانه ، وإنّما تتعلّق بالكائنات دون أفعالهم ، وهو كما ترى ؛ لأنّه يستلزم تحقّق شيء في صحيفة الوجود بغير إذنه وإرادته ، مع أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية انتهاء كلّ ما في عالم الإمكان إلى وجوده وخالقيته ، وبالتالي إلى إرادته ، فإخراج أفعال العباد عن مجال إرادة اللّه ، يخالف الأَُسس التوحيدية التي جاء بها القرآن ودعمها العقل .

إلاّ أنّ في مسألة العصمة وكيفية تعلّق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلاً آخر يختص بهذا المقام ولا يتعدّاه .

وحاصل هذا التحليل يتوقّف على معرفة كيفية العصمة وحقيقتها ، فنقول :

إنّ حقيقة العصمة ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى ، بمعنى أنّ التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الإنسان عن اقتراف الذنب وجميع القبائح .

وإن شئت قلت : العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت والعرفان بعواقب المعصية علماً يصد الإنسان عن اجتراح المعاصي واقتراف المآثم ، كالإنسان الواقف أمام الأسلاك التي يجري فيها التيار الكهربائي ، فانّه لا يقدم بنفسه على إمساكها .

٩٢

وبعبارة ثالثة : العصمة : الاستشعار بعظمة الربّ وكماله وجلاله استشعاراً منقطع النظير حيث يحدث في المستشعر التفاني في الحقّ ، والعشق لجماله ، وكماله ، بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً .

فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق وقريباً منها ، فليس اتصاف الإنسان بهذه الحقائق موجباً للجبر وسالباً للاختيار ، بل المعصوم مع هذه المواهب الإلهية قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا غير أنّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى ، والعلم القطعي بآثار المعاصي والاستشعار المنقطع النظير بعظمة الخالق ، يختار الطاعة وترك المعصية مع القدرة على خلاف ذلك ، فحاله كالوالد العطوف لا يقدم على قتل ولده ولو أُعطيت له الكنوز الكثيرة .

إنّ هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر والساقط في البئر حتى يتمسك به وينجي نفسه ، فلا شك أنّ العاقل يتمسّك به دائماً وينجي نفسه ، ولكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به وإلقاء نفسه في مهاوي الهلكة .

فهذه الحقائق النفسانية المَوهوبة ليست إلاّ أسباباً لترك العصيان ومقتضيات للطاعات ، ومعدّات لقرب العبد من ربّه ، ومع ذلك تتوسّط بينها وبين فعل العبد من طاعة وعصيان ، إرادته واختياره ، فليست هذه المواهب عللاً تامة لتوجّه العبد إلى جانب واحد وانحيازه عن جانب آخر ، بل هي أسباب مقرِّبة ومعدات للإرادة ، ومع ذلك كلّه فاختيار المعصوم وإرادته باقيان على حالهما .

فمعنى تعلّق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلّقها بالطاعة وترك العصيان ، بل معناه تعلّق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم وجعلها في

٩٣

مكامن نفوسهم وتحليتهم بهذه الحُلية الإلهية ، ولكن هذا الجعل والتحلية لا يهدف إلى كونهم مكتوفي الأيدي أمام التكاليف ومسوقين إلى جانب واحد ، فالاشتباه في المقام حصل في تعيين ما هو المفاض من اللّه سبحانه على هذه الشخصيات ، فتخيّل : ( إنّ المفاض هو العصمة المفسّرة بترك المعصية ونفس الطاعة ) غفلة عن أنّ المفاض هو هذه الكيفيات والصفات العليا النفسانية عليهم ، وهي تُوجد استعداداً في النفس بترك العصيان واختيار الطاعة مع القدرة على الخلاف .

نعم : لو كان هناك جبر ، فالجبر في تحليتهم بهذه المواهب والعطايا الإلهية ، ولكنّهم معها مختارون في التوجه ، لأي طرف أرادوا ، وإن كانوا لا يشاءون إلاّ الطاعة وترك المعصية .

ما هو الوجه لتفسير الإرادة بالتشريعية ؟

ثمّ إنّ الجمهور لمّا ذهبوا إلى كون الإرادة تشريعية ، احتالوا في توجيهها ، يقول المفسّر المعاصر سيد قطب في هذا الصدد : إنّه سبحانه يجعل تلك الأوامر - الأوامر الواقعة قبل الآية من قوله :(  وَقَرْنَ وَلا تَبَرَّجْنَ   ) - وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت ، فالتطهير وإذهاب الرجس يتمّ بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ويحقّقونها في واقع الحياة العملي... ويختم هذه التوجيهات لنساء النبيّ بمثل ما بداها ، بتذكيرهنّ بعلو مكانتهنّ وامتيازهنّ على النساء بمكانتهنّ من رسول اللّه وبما أنعم اللّه عليهنّ فجعل بيوتهنّ مهبط القرآن ومنزل الحكمة وتشرف النور والهدى والإيمان ، وإنّه لحظّ عظيم يكفي التذكّر به لتحسّ النفس جلالة قدره ولطيف صنع اللّه فيه وجزالة النعمة التي لا يعد لها نعيم(١)

____________________

١- في ظلال القرآن ، في تفسير سورة الأحزاب .

٩٤

وحاصل ما ذكره مبني على نزول القرآن في مورد نساء النبيّ ، وإنّه سبحانه علّل خطاباته لهنّ بأنّه يريد من هذه التكاليف إذهاب الرجس عنهنّ ، ويكون المعنى : أنّ التشديد في التكاليف وتضعيف الثواب والعقاب ليس لانتفاع اللّه سبحانه به ، بل لإذهاب الرجس عنكنّ وتطهيركنّ .

ولا يخفى أنّ ما ورد في الآيات من الأحكام ليست أحكاماً خاصة بنساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا قوله سبحانه قبل آية التطهير :( وَقَرْنَ فِي بُيْوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأوْلَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) .(١)

وهذا قوله سبحانه بعد الآية :(  وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ   ) كلّها أحكام عامة لنساء المسلمين ، فاللّه سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهّر الكلّ وإذهاب الرجس عن عموم النساء ، لا عن زوجات النبيّ خاصة ، وعندئذٍ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب بالعناية التي عرفت .

وإنّما ذهب بعض الجمهور إلى ما ذهب ، لأجل إنّهم تصوّروا نزول الآية في حقّ نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاحتالوا لتفسير الإرادة بما ذكره سيد قطب ونظراؤه ، وإنّما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات ، مع أنّه سيوافيك أنّ الآية آية التطهير آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها ، وإنّما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة سنشير إليها ، والأحاديث بكثرتها البالغة ناصّة على نزول الآية وحدها ، ولم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ذكره أحد حتى أنّ القائل باختصاص الآية بأزواج النبيّ ينسب القول إلى عكرمة وعروة لا إلى الرواية .

فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء ، ولا متصلة بها ، وستوافيك

____________________

١- الأحزاب : ٣٣ .

٩٥

الروايات الكثيرة الواردة في هذا المضمار .

السؤال الثالث : هل العصمة الموهوبة مفخرة ؟

وهذا سؤال ثالث يتردّد في المقام وفي غيره ، وقد طرحناه عند البحث عن العصمة على وجه الإطلاق ونطرحه هنا بشكل آخر ، وهو أنّ عصمة أهل البيت لو كانت أمراً موهوباً من اللّه سبحانه كيف يمكن أن تعد مفخرة لأهله ؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الوقوف على معنى العصمة الموهوبة لهم ، وقد عرفت أنّ المراد من هبتها لهم هو إعطاء المقتضيات والمعدات لهم التي لا تسلب الاختيار عنهم ، وهم بعد قادرون على الطاعة والعصيان والنقض والإبرام ، والسائل تخيل أنّ العصمة الموهوبة هي نفس ترك العصيان والمخالفة ، فزعم أنّ شيئاً مثلها لا يعدّ فخراً ولا يوجب ثناءً ، وقد أوضحنا هذا في السؤال السابق ، فراجع .

السؤال الرابع : هل الآية تدل على فعلية التطهير ؟

وربّما يقال : إنّ أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره سبحانه عن أنّه يريد إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم ، وليس في الآية ما يدل على تحقّق هذه الإرادة بالفعل ، وإنّها صدرت منه سبحانه ، مع أنّ القائلين بعصمة أهل البيت يذهبون بدلالتها على اتصافهم بالعصمة ، وفي هذا الصدد ينقل الشيخ زين الدين البياضي العاملي إشكالاً عن المخالف ويقول :(  يُرِيدُ   ) لفظ مستقبل ، فلا دليل على وقوعه.(١)

____________________

١ - الصراط المستقيم : ١ / ١٨٤ .

٩٦

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال نشأ من اتخاذ موقف خاص بالنسبة إلى أهل البيت ؛ بشهادة أنّ هذه اللفظة وردت في كثير من الآيات مع أنّه ما خطر ببال أحد مثل هذا الإشكال قال سبحانه :(  يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ   ) (١) ، وقال :(  وَاللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ   ) (٢) ، وقال :(  يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ   ) (٣) ، وقال :(  وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ   ) (٤) ، أضف إلى ذلك أنّ هناك قرينة واضحة على تحقّق الإرادة بشهادة أنّ الآية في مقام المدح والثناء .

وأمّا الإتيان بصيغة المستقبل والعدول عن الماضي ، فهو لأجل ظهور فعل المستقبل في الدوام ، وهو سبحانه يريد إفادة دوام هذه الإرادة واستمرارها مدى الأيام والسنين .

السؤال الخامس : هل الإذهاب يستلزم الثبوت ؟

خلاصة هذا السؤال ترجع إلى أنّ الإذهاب يتعلّق بشيء موجود ، فعلى ذلك يستلزم أن يكون هناك رجس موجود أذهبه اللّه وطهّرهم منه ، وهذا يضاد مقالة أهل العصمة ، ولكنّ السائل والمعترض غفل عن أنّ هذه التراكيب كما تستعمل في إذهاب الشيء الموجود ، كذلك تستعمل فيما إذا لم يكن موجوداً ، ولكن كانت هناك مقتضيات ومعدّات له حسب الطبيعة الإنسانية وإن لم يكن موجوداً بالفعل كقول الإنسان لغيره : أذهبَ اللّه عنك كلّ مرض ، ولم يكن حاصلاً له ، ولكن كانت بعض المعدّات للمرض موجودة .

____________________

١- النساء : ٢٦ .

٢- النساء : ٢٧ .

٣- النساء : ٢٨ .

٤- النساء : ٢٦ .

٩٧

وفي المقام نزيد توضيح : أنّ الإنسان حسب الطبيعة الأوّلية مجهّز بالغرائز والميول العادية المتجاوزة عن الحدود ، ولم يشذّ أهل البيت عنها ولم تكن لهم في العالم الجسماني خلقة خاصة بهم ، فكانت هناك أرضية صالحة للتعدّي والطغيان ، فلمّا جهّزوا بهذه الغرائز أوّلاً ، ثمّ بالعصمة - بالمعنى الذي عرفت - ثانياً ، صحّ أن يقال : إنّه سبحانه أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً من العصيان .

وهذه الأسئلة وأشباهُها لا تحتاج إلى البسط في المقال ، ولأجل ذلك نطوي الكلام عنها.

٩٨

من سمات أهل البيتعليهم‌السلام

٢ - المحبّة في قلوب المؤمنين

إنّ الإيمان باللّه والعمل الصالح يُورث محبَّة في قلوب الناس ، إذ للإيمان أثر بالغ في القيام بحقوق اللّه أوّلا ، وحقوق الناس ثانياً ، لا سيّما إذا كان العمل الصالح نافعاً لهم ، ولذلك استقطب المؤمنون حُبَّ النّاس ، لدورهم الفعّال في إصلاح المجتمع الإنساني وهذا أمر ملموس لكلّ النّاس ، وإليه يشير قوله سبحانه :(  إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمن وُداً   ) (١) وبما أنّ الأنبياء بلغوا قمَّة الإيمان كما بلغوا في العمل الصالح ذروته ، نرى أنّ لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس لا يضاهيها شيء ، لأنّهم صرفوا أعمارهم في سبيل إصلاح أُمور الناس وإرشادهم إلى ما فيه الخير والرشاد هذا حال الأنبياء ويعقبهم الأوصياء والأولياء والصلحاء .

أخرج أبو إسحاق السعدوي في تفسيره بإسناده ، عن البراء بن عازب ، قال :

____________________

١ - مريم : ٩٦ .

٩٩

قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ :( [قل ]* اللّهمّ اجعل لي عندك عهداً ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة ) ، فأنزل اللّه تعالى الآية المذكورة آنفاً .

إنّ أهل البيتعليهم‌السلام لأجل انتسابهم إلى البيت النبوي الرفيع ، حازوا مودّة الناس واحترامهم بكلّ وجودهم وقد أُشير إلى ذلك في آثارهم وكلماتهم .

روى معاوية بن عمّار عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إنّ حبّ عليعليه‌السلام قُذف في قلوب المؤمنين ، فلا يُحبّه إلاّ مؤمن ، ولا يبغضه إلاّ منافق ، وانّ حبّ الحسن والحسينعليهما‌السلام قذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين فلا ترى لهم ذامّ ، ودعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسن والحسينعليهما‌السلام قرب موته فقرّبهما وشمّهما وجعل يرشفهما وعيناه تهملان ). (١)

وقد تعلّقت مشيئته سبحانه على إلقاء محبّتهم في قلوب المؤمنين الصالحين ، حتى كانت الصحابة يميّزون المؤمن عن المنافق بحبّ علي وبغضه .

روى أبو سعيد الخدري ، قال : إنّا كنّا نعرف المنافقين - نحن معشرَ الأنصار - ببغضهم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

وقد تضافر عن علي أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : ( واللّه فلق الحبّة وبرأ النسمة ، إنّه لعهد النبيّ الأمّي إليّ : أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق ) .(٣)

ويروى عنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال : واللّه انّه ممّا عهد إليَّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه لا

____________________

* هكذا جاءت في المصادر المختلفة ، وهي أوفق بالسياق والمراد أيضاً [ شبكة الحسنين /قسم التقويم ] .

١ - المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٣٨٣ سفينة البحار : مادة حبب : ١ / ٤٩٢ .

٢ - سنن الترمذي : ٥ / ٦٣٥ برقم ٣٧١٧ حلية الأولياء : ٦ / ٢٩٥ .

٣ - أسنى المطالب : ٥٤ ، تحقيق محمّد هادي الأميني .

١٠٠