مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٥

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة66%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 228

الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135223 / تحميل: 8995
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٥

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

تتمة : [١٥]

ا لتنكير في قولهعليه‌السلام  : «وَجَعَلَكَ آيةً من آيات مُلكِهِ » ، يمكن أن يكون للنوعيّة ، كما قالوه في قوله تعالى :( وعلى أبصارهم غشاوة ) (١) (٢) ، والأظهر أن يُجعل للتعظيم.

فإن قلت : احتمال التحقير أيضاً قائم ، وهذا كما قالوه في قوله تعالى :( إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن ) (٣) : إنّ التنكير فيه يحتمل التعظيم والتحقير معاً ، أي عذاب شديد هائل ، أو عذاب حقير ضعيف ، فلمطويت عنه كشحاً!؟.

قلت : الاحتمالان في الآية الكريمة متكافئان بحسب ما يقتضيه الحال ، فلذلك جوزهما علماء المعاني من غيرترجيح ، بخلاف ما نحن فيه ، فان الحمل على التحقير وان كان لا يخلو من وجه ـ أيضاً ـ نظراً إلى ما هو أعظم منه من آيات ملكه جلَّ شأنه ، إلَّا أنَّ الحمل على التعظيم كأنَّه أوفق بالمقام ، وأنسب بمقتضى الحال ، فلذلك ضربت عن ذكره صفحاً.

وإن أبَيْت إلَّا أن تساوي الأمرين في ذلك فلا مشاحة معك ، وللناس فيما يعشقون مذاهب.

و قولهعليه‌السلام  : « وامتهنك » إلى آخره ، مبين ومفسّر للآية والعلامة ، وكون إحدى الجملتين مبيناً ومفسراً لبعض متعلقات الاُخرى لا يوجب كمال الاتصال بينهما المقتنر لفصلها عنها ، إنَّما الموجب له أن تكون الثانية مبينة وكاشفة عن نفس الأولى ، كما في قوله تعالى :( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ

________________________

(١) البقرة ، مدنية ، ٢ : ٧.

(٢) أنظر الكشاف للزمخشري ١ : ٥٣.

(٣) مريم ، مكية ، ١٩ : ٤٥.

١٠١

يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ) (١) فان القول المذكور مبين للوسوسة وكاشف عنها.

وأما امتهان القمر بالأمور المذكورة فهو نفس علامة الملك والسلطنة ، لانفس جعله علامة لهما ، فلا مانع من وصل جملته بجملة الجعل فتدبر ، على أنّ أحوال القمر التي هي علاماتٌ لملكه وسلطانه جلَّ شأنه ليست منحصرة في الامتهان بالأمور المذكورة بل لها أفراد أُخر ، وكذلك الجعل المذكور ، فوصل جملة الامتهان بما قبلها يجري مجرى عطف الخاص على العام كما لا يخفى.

وتقديم الظرفين في قولهعليه‌السلام  : » أنت له مطيع وإلى إرادته سريع « للدلالة على الاختصاص ، كما في قوله تعالى :( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) (٢) .

ويمكن أن يكون رعاية السجع أيضاً ملحوظة ، والله أعلم [١٦ / أ].

إيضاح :

الباء في قولهعليه‌السلام  « نوّر بك الظُلَم » إما للسببية أو للالة.

ثم إنَّ جعلنا الضوء عرضاً قائماً بالجسم ـ كما هو مذهب أكثر الحكماء(٣) ، ومختار سلطان المحققين قدّس الله روحه في التجريد(٤) ـ فالتركيب من قبيل سوّدت الشيء وبيّضته ، أي صيرته متصفاً بالسواد والبياض.

و إن جعلناه جسما ـ كما هو مذهب القدماء من أنه أجسام صغار شفافة تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء ـ فالتركيب من قبيل لبّنته وتمرته ، أي صيّرته ذا لبن أو تمر(٥) .

________________________

(١) طه ، مكية ، ١٢٠ : ٢٠.

(٢) التغابن ، مدنية ، ٦٤ : ١.

(٣) منهم الفخر الرازي ، انظر التفسير الكبير ١٧ : ٣٥.

(٤) تجريد الاعتقاد : ١٦٧.

(٥) للتوسعة في بحث الضوء أُنظر مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار ١ : ٢٤٥ ، كشّاف اصطلاحات

١٠٢

وهذا القول وإن كان مستبعداً بحسب الظاهر إلّا أنَّ إبطاله لا يخلو من إشكال ، كما أنَّ إثباته كذلك.

و قد استدلوا عليه : بأنَّه متحرك منتقل ، فإنه ينحدر من الشمس إلى الأرض ، وينتقل من مكان إلى آخر ، والأعراض ليست كذلك.

وأجاب القائلون بعَرضيّته : بأنه ليس ثمة حركة وانتقال ، وإنَّما هو حدوث ؛ فإن مقابلة الجسم الكثيف للمضيء معدّ لحدوث الضوء فيه ، والحركة والانتقال محض توهّم.

وسببه : أنَّ حدوث الضوء في الجسم السافل لما كان بسبب مقابلته للجسم العالي تُخيِّل أنَّه انحدر من العالي إلى السافل.

وحدوثه في القابل لما كان تابعاً لوضعه ومحاذاته للمضيء ـ بحيث إذا زالت تلك المحاذاة إلى قابل آخر زال الضوء عن الأول وحدث في ذلك الآخر ـ ظُنّ أنّه انتقل من الأول إلى الثاني.

واستدلوا على بطلان القول بجسميته : بأنّه محسوس بحس البصر ، فلو كان جسماً [١٦١ / ب] لكان ساتراً لما يحيط به ، وكان الأشد ضوءاً أشد استتاراً.

واعترض عليه : بأنَّ الحائل بين الرائي والمرئي إنَّما يستر المرئي إذا كان كثيفاً لعدم نفوذ شعاع البصر فيه أما إذا كان شفافاً فلا ؛ فإن صفحة البلّور تزيد ما خلفها ظهوراً وانكشافاً ، ولذلك يستعين بها الطاعنون في السن على قراءة الخطوط الدقيقة.

واُجيب عنه : بانه لو كان جسماً لم تكن كثرته موجبة لشدة الإحساس بما تحته ، لأنّ الحس يشتغل به ، فكلَّما كان أكثركان الاشتغال به أكثرفيقل الاحساس بما وراءه ، ألا ترى أنَّ تلك الصفحة إذا غلظت جدا أوجبت لما تحتها ستراً ، وأنَّ الاستعانة بالرقيقة منها إنَّما هي للعيون الضعيفة لاحتياجها إلى جمع

__________________

الفنون ١ : ٨٧٠ وغيرها.

١٠٣

الروح الباصرة ـ على ما بُينّ في موضعه ـ دون القوية ، بل هي حجاب لها عن رؤية ما وراءها. هكذا أورده شارح المواقف(١) ، والشارح الجديد للتجريد(٢) .

و أقول : في هذا الجواب نظر ، فإنَّ لهم أن يقولوا أنَّ الملازمة ممنوعة ، فإن بعض الأجسام الشفافة يوجب كثرتها وغلظها زيادة ظهور ما خلفها لحس البصر ، ولهذا ترى الشمس والقمر وسائر الكواكب حال كونها قريبة من الأفق ، أعظم منها حال كونها على سمت الرأس ، مع أنّها وهي على الاُفق ، أبعد عنّا منها وهي على سمت الراس بأزيد من نصف قطر الأرض ، كما لا يخفى على من له أدنى تخيل ؛ وما ذلك إلّا لأن سمك البخار وغلظه بين البصر والكوكب حال قربه من الأفق أكثر مما بينهما حال كونه على سمت الرأس كما بُيّن باستبانة الثاني من ثالثة [١٧١ / أ] كتاب الأصول.

وكذلك حال الصفحة من البلور ، فإنّها إذا رقّت جداً لم تؤثر في الإعانة على قراءة الخطوط الرقيقة ، بل لا بدّ لها من غلظ يعتدّ به ، ومن ثم نرى الطاعنين في السن ربما يستعينون بمضاعفتها على قراءة تلك الخطوط ، على أنّه لا يلزم من كون ازدياد ثخن البلور مؤدياً إلى ستر ما وراءه أن يكون ازدياد ثخن كلّ شفاف مؤدياً إلى ذلك.

ألا ترى أنّ ثخن مجموع كرتي الهواء والنار والأفلاك التي تحت فلك الثوابت تزيد على خمسة وعشرين ألف ألف فرسخ كما بينوه ، ومع ذلك لا تحجب أبصارنا عن رؤية ما وراءها ، ولم لا يجوز أن لا تصل مراتب ثخن الضوء ـ على تقدير جسميته ـ إلى حدّ يصير به عائقاً عن الاحساس بما خلفه ؛ وأن يكون الضوء بالنسبة إلى كلّ العيون بمنزلة الصفحة الغير الغليظة جدا من البلور بالنسبة إلى عيون الطاعنين في السن.

________________________

(١) شرح المواقف ٢ : ١٤٩ ، وما بعدها ، القسم الثاني من المبصرات.

(٢) شرح التجريد : ٢٤١ ، عند قول الخواجه نصير : « ولو كان الثاني جسماً لحصل ضد المحسوس ».

وأنظر كشف المراد : ٢٣٢.

١٠٤

فكما أنَّ هذه لا تبصر الأشياء الصغيرة والخطوط الدقيقة إلّا بتوسط تلك الصفحة ، فكذلك تلك لا تبصر شيئاً من الأشياء إلّا بتوسط الضوء ، وكما أنَّ هذه لا تشغل البصر عن الإحساس بما وراءها فكذلك تلك والله أعلم بحقائق الاُمور.

تبصرة :

لعلّهعليه‌السلام  أراد بالظلم في قوله : « نوّر بك الظُلَم » الأهوية المظلمة ، لا الظلمات أنفسها ، فإنّها لا تتصف بالنور.

و تجويز كونهعليه‌السلام  أراد ذلك مبني على أن الهواء يتكيّف بالضوء ، وهو مختَلَف فيه ، فالذين جعلوا اللون شرطاً في التكيف بالضوء منعوا منه.

و أورد عليهم : أنّا نرى عند الصبح ما يقارب الاُفق مضيئاً ، وما هو إلّا الهواء المتكيف بالضوء.

و أجابوا : بأن ذلك للأجزاء البخارية المختلطة به ، والكلام في الهواء الصّرف الخالي من الشوائب البخارية والدّخانية القابلة للضوء بسبب كونها متلونة في الجملة.

و رده الفخر الرازي : بأنّه يلزم من ذلك أن الهواء كلما كان أصفى كان الضوء الحاصل فيه قبل الطلوع وبعد الغروب أضعف ، وكلّما كان البخار والغبار فيه أكثر كان الضوء أقوى ؛ لكن الأمر بالعكس [١٧١ / ب](١) ، هذا كلامه ، وللتأمل فيه مجال واسع.

واستدل في الملخص على استضاءة الهواء بأنّه لو لم يتكيف بالضوء لوجب أن نرى بالنهار الكواكب التي في خلاف جهة الشمس ؛ لأن الكواكب باقية على ضوئها ، والحس لم ينفعل على ذلك التقدير من ضوء أقوى من ضوئها يمنع

________________________

(١) حكاه عنه شارح المواقف ٢ : ١٥٤.

١٠٥

الإحساس بها(١) .

والحق أن تكيّف الهواء بالضوء في الجملة مما لا ينبغي أن يرتاب فيه فارادتهعليه‌السلام  بالظُلم الأهوية المظلمة لا مانع منه.

ويجوز أن يريدعليه‌السلام  بالظُلَم الأجسام المظلمة سوى الهواء ، وهذا أحسن ؛ لاستغنائه عن تجشم الاستدلال على قبول الهواء للضوء ، وسلامته عن ثبوت الخلاف ، والله أعلم.

إكمال :

يمكن أن يكون مرادهعليه‌السلام  بتنوير الظلم إعدامها ، بإحداث الضوء في محالّها ، وهذا يبتني على القول بأن الظُلمه كيفية وجودية ، كما ذهب إليه جماعة ، وهذا الرأي وان كان الأكثر على بطلانه إلا أنّ دلائلهم على بطلانه ليست بتلك القوة ، فهو باق على أصل الإمكان إلى أن يذود عنه قاطع البرهان ، فلو جوّز مجوّز احتمال كونه أحد محامل كلامهعليه‌السلام  لم يكن في ذلك حرج.

و أجود تلك الدلائل ما ذكروا من : أنّ الظلمة لو كانت كيفية وجودية لكانت مانعة للجالس في الغار المظلم من رؤية من هو في هواء مضيء خارج الغار ، كما هي مانعة له من إبصار من هو في الغار ، وذلك للقطع بعدم الفرق في الحائل المانع من الإبصار بين أن يكون محيطا بالرائي أو بالمرئي أو متوسطاً بينهما.

و ربما منع ذلك بأنها ليست بمانعة ، بل إحاطة الضوء بالمرئي شرط للرؤية ، وهو منتف في الغار ر [١٨ / أ] ، أو يقال : العائق عن الرؤية هو الظلمة(٢) المحيطة بالمرئي لا الظلمة المحيطة بالرائي ، أو الظلمة مطلقاً.

وليس ذلك بأبعد مما يقال : شرط الرؤية هو الضوء المحيط بالمرئي ، لا

________________________

(١) الملخص : مخطوط.

(٢) في المصدر الآتي : « هو الضوء المحيط ». ولعل الصحيح المثبت بمقارنة ما بعده. وانظر شرح المراقف ٢ : ١٤٩.

١٠٦

الضوء المحيط بالرائي ، ولا الضوء مطلقاً.

وقولهم : لا فرق في الحائل بين أن يكون محيطاً بالرائي أو المرئي مسلّم فيما إذا كانت ذات الشيء مانعة من الإبصار ، لا فيما تكون مانعة بشرطه ، هكذا أورده الشارح الجديد للتجريد(١) ، وهو كلام جيّد لا غبار عليه.

وقال الفخر الرازي في المباحث المشرقية : الظلمة أمر عدّمي ، لأنا إذا غمضنا العين كان حالنا كما إذا فتحناها في الظلمة ، فكما أنّا عند التغميض لا ندرك شيئاً ، فكذلك إذا فتحناها في الظلمة وجب أن لا ندرك كيفية في الجسم المظلم ، ولأنّا لو قدّرنا خلو الجسم عن النور من غير انضياف صفة اُخرى إليه لم يكن حاله إلّا هذه الظلمة ، ومتى كان كذلك لم تكن الظلمة أمراً وجودياً(٢) . إنتهى كلامه.

و أورد عليه : أنّه كلام ظاهري إقناعي ، يتطرق إليه الخدش والمنع من جوانبه ، ومثله في المقام البرهاني مما لا يصغى إليه.

توضيح حال :

أ رادعليه‌السلام  « بالزيادة والنقصان » زيادة نور القمر ونقصانه بحسب ما يظهر للحس ، لأن الزيادة والنقصان حاصلان له في الواقع وبحسب نفس الأمر ، لأن الأزيد من نصفه منير دائماً ، كما بيّن في محله ، وأمّا زيادته في الاجتماع ونقصانه في الاستقبال كما هو شأن الكرة الصغيرة المتنيرة من الكبيرة حالتي القرب والبعد فليس الكلام فيهما ، إنّما الكلام في الزيادة والنقصان المسببين عن البعد والقرب ، المدركين بالحس.

وربّما يتراءى لبعض الأفهام من ظاهر قولهعليه‌السلام  : « وامتهنك بالزيادة والنقصان » أنّ زيادة نور القمر ونقصانه المحسوسين واقعان بحسب الحقيقة ، وحاصلان في نفس الأمر ، كما هو معتقد كثير من الناس ، وهذا وإن كان ممكناً

________________________

(١) شرح التجريد لعلاء الدين القوشجي : ٢٤٢ ، عند شرح قول المحقق الطوسي : والظلمة عدم ملكة.

(٢) المباحث المشرقية ١ : ٣٠٤ ، ألفصل الثامن من الباب الثالث في الكيفيات المبصرة.

١٠٧

نظراً إلى قدرة الله تعالى ـ على أن يحدث في جرمه أول الشهر شيئاً يسيراً من النور ، ويزيده على التدريج إلى أن يصير بدراً ، ثم يسلبه عنه شيئاً فشيئاً إلى المحاق ـ إلّا أن حمل كلامهعليه‌السلام  على ما هو متفق عليه بين أساطين علماء الهيئة حتى عدّ من الحدسيات أليق وأولى ، وهم مع قطع النظر عما أوجب تحدّسهم بذلك إنّما اقتبسوا هذا العلم من أصحاب الوحي سلام الله عليهم ، كشيث [١٨ / ب ] على نبينا وعليه السلام ، المشتهر في زمانهم بفيثاغورس ، وقيل : إنّه أغاتا ريمون(١) ؛ وكإدريس على نبيّنا وعليه السلام ، المدعو على لسانهم بهرمس.

و قد نقل جماعة من المفسرين منهم الشيخ الجليل أبو علي الطبرسي طاب مثواه ـ عند تفسير قوله تعالى :( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ) (٢) ـ أنّ علم الهيئة كان معجزة لهعليه‌السلام  (٣) .

و نقل السيد الطاهر ذو المناقب والمفاخر رضي الدين علي بن طاوس ـ قدس الله روحه ـ في كتاب فرج المهموم في معرفة الحلال والحرام من علم النجوم قولاً بأن أبرخس وبطليموس كانا من الأنبياء ، وأنّ أكثر الحكماء كانوا كذلك ، وإنما التبس على الناس أمرهم لأجل أسمائهم اليونانية(٤) (٥) . هذا ما نقله طاب ثراه ، ولا استبعاد فيه(٦) .

________________________

(١) اختلف في ضبطه ، فورد تارة « اغاثاريمون » وأخرى « اغاثاذيمون » وغيرها.

(٢) مريم : مكية ، ١٩ : ٥٦.

(٣) مجمع البيان ٣ : ٥١٩ ، وأنظر أيضاً التفسير الكبير ٢١ : ٢٣٣ / الجامع لأحكام القرآن ١١ : ١١٧ / عرائس المجالس : ٤٩ / فرج المهموم : ٢١ ، ٥٠ ، ٧٨ ومواضع اخر.

(٤) فرج المهموم : ١٥١ حكاه عن كتاب ريحان المجالس وتحفة الموانس تاليف احمد بن الحسين بن علي الرحمي.

(٥) أي لما كانت اسماؤهم موافقة لأسماء بعض حكماء اليونان ، ألّذين ينسب إليهم فساد الإعتقاد ، أشتبه على الناس حالهم ، وظنوا أن أصحاب تلك الأسامي باجمعهم على نهج واحد من الاعتقاد ، منه ـ قدس سره ، هامش الأصل.

(٦) والذي يؤيد ما ذهبا إليه قدس الله ارواحهم رأي جمع من ألمؤرخين منهم المقدسي حيث يقول في كتابه : « ونبأه الله بعد وفاة آدم وأنزل عليه النجوم والطب واسمه عند اليونانيين هرمس »

١٠٨

وكلّ من له أدن خوض في هذا العلم الشريف لا يرتاب في أنّ اصول مطالبه متلّقاة من الأنبياء صلوات الله عليهم ، ويحكم حكماً قطعياً لا يشوبه شوب شبهة بأنّ القوة البشرية لم تستقل بادراك خبايا حقائقه ولم تستبدّ باستنباط خفايا دقائقه ، وأنّ ما وصل إليه أصحاب هذا الفن بأرصادهم الجسمانية مقتبس من مشكاة أصحاب الأرصاد الروحانية سلام الله عليهم أجمعين.

إشارة فيها إنارة :

لمّا كان نور القمر مستفاداً من الشمس ، وكانت أعظم منه كما بُيّن في محله(١) ، كان الأكثرمن نصفه متسنيراً بضوئها دائماً والأقل من نصفه مظلماً دائماً ؛ لما ثبت في الشكل الثاني من مقالة أرسطرخس(٢) فى جرمي النيرين ، من

________________________

وكذلك في مورد آخر : « وأما الحرانية فانهم يقولون : لن تحصى اسماء الرسل الذين دعوا إلى ألله ، وان مشهورهم أراني ، أغتاذيمون ، ـ أو أغاثاذيمون ـ وهرمس ، وسولن جدّ أفلاطون لأمه ، ومن القدماء من يقول ، بنبوة أفلاطون ، وسقراط وأرسطاطاليس ». وحكى ابن أبي أصيبعة في عيون أنبائه عن ، كتاب مختار الحكم ما لفظه « وأما هرمس هذا فهو الأول ولفظه أرمس وهو أسم عطارد ، ويسمى عند أليونانيين أطرسمين ، وعند ألعرب إدريس ، وعند العبرانيين أخنوخ مولده بمصر » ونسب إلى أبي معشر البلخي في كتابه الالوف قوله : « وتسميه الفُرس اللهجد ، وتفسيره ذو ألعدل ، وهو الذي تذكر الحرانية نبوته وهو أول من تكلم في ألأشياء العلوية من الحركات النجومية ، وأن جده كيومرت ـ وهو آدم ـ علّمه ساعات الليل والنهار » ولم يقتصر ذلك على المؤرخين بل ذكره المفسرون أيضاً.

انظرللجميع : مروج الذهب ١ : ٥٠ و ٢ : ١٥٢ / طبقات الحكماء : ٥ ـ ١٠ / عيون الأنباء في طبقات الأطباء : ١ ٣ ـ ٣٢ / البدء والتاريخ ٣ : ١٢ و ٣ : ٨ / تاريخ الحكماء : ١ و ٣٤٦ / تاريخ مختصر الدول ٧ ، ٨ / تاريخ علم الفلك : متفرقة / مجمع ألبيان ٣ : ٥١٩ / التفسير الكبير ٢١ : ٢٣٣ تفسير القرطبي ١١ / ١١٧ / العرائس : ٤٩ / الملل وألنحل ٢ : ٤٧ / فرج ألهموم : ٢٢ / مفاتيح العلوم : ١١٣ / البداية والنهاية ١ : ٩٩ / الكامل في التاريخ ١ : ٣٤ ـ ٣٥ / شرح حكمة الاشراق : ٢١.

(١) قد ثبت في الأجرام : أن ألشمس ستة آلاف وستمائة وأحد وأربعون مثلاً للقمر ، منه. قدّس سره ، هامش المخطوط.

(٢) ارسطرخس ، أو ارسطوخس ، يوناني اسكندراني ، خبير بعلم النجوم ـ الفلك ـ قيّم به ، من أوحدي الناس في زمانه ، له : حد الشمس والقمر. تلمذ عليه الملك بطليموس ، عاش في

١٠٩

 أ نّه إذا قبل الضوء كرة صغرى من كرة أعظم منها كان المضيء من الصغرى(١) أعظم من نصفها(٢) ، والفصل المشترك بين المنير والمظلم منه دائرة قريبة من

________________________

القرن الثالث قبل الميلاد ، وجاء في آخر كتابه : أنّ ارسطرخس أصله أرشطو ، ومعناه الصالح ، وارخش ومعناه الرأس ، فركبوا واسقطوا الواو والألف تخفيفاً.

له ترجمة في تاريخ الحكماء : ٧٠ / الفهرست للنديم : ٣٣٠ / لغة نامه دهخدا « حرف الألف » : ١٨٢٣.

(١) وعلى هذا المطلب دليل لطيف سوى هذا أوردته في حواشي تشريح الأفلاك « منه » قدس ، هامش المخطوط.

(٢) لصعوبة الحصول على المصدر إليك نص الشكل الثاني : ( ب ) اذا قبل الضوء كرة صغرى من كرة عظمى منها ، كان الجزء المضيء منها أعظم من نصفها ، فيقبل الضوء كرة مركزها( أ ) عن كرة أعظم مركزها( ب ). ، وليحط بهما مخروط رأسه ـ ح ـ ومحوره ( ح ب ) ، وليمر به سطح كيف أتفق ، ولتحدث عنه في الكرتين عظيمتا ( ج د ) و ( هـ ز ) وفي المخروط خط ( ح ج ، ح د ) ونصل ( ج د ، هـ ز ) فالقطعة من الكرة ألتي عليها( هـ ط ز ) وقاعدتها الدائرة التي قطرها( هـ ز ) هي التي تقبل الضوء لكونها محاذية لكرة ( د ج ـ ) لأن خير ( ج هـ ، د ز ) من خطوط الشعاعات الواصلة بينها ومركز الدائرة في قطعة ( هـ ط ز ) فهي أعظم من نصف الكرة وذلك ما أردناه.

إليك المخطط.

١١٠

العظيمة تسمى دائرة النور ، وتفصل أيضاً بين المرئي وغير المرئي منه دائرة اُخرى تسمى دائرة الرؤية ، وهي أيضا قريبة من العظيمة وليست عظيمة(١) ؛ لما ثبت في الشكل الرابع والعشرين من مناظر إقليدس(٢) أنّ ما يرى من الكرة يكون أصغر من نصفها(٣) ، ويحيط به دائرة وهاتان الدائرتان يمكن أن تتطابقا

________________________

انظر : كتاب جرمي انيرين وبعديها : ٤ ، ضمن رسائل الخواجة نصير الدين الطوسي.

(١) إعلم أن المحقق النيشابوري أستدل في شرح التذكرة على أن دائرة الرؤية غير عظيمة بأن اقليدس بيّن في الثامن والعشرين من كتاتبه في المناظر[١١] : أنّ ما بين العينين إذا كان اصغر من قطر الكرة رؤي أصغر من نصف. ونحن انما عدلنا عن هذا الاستلال لأنّ المحقق الطوسيقدس‌سره بيّن في تحرير مناظر اقليدس خلاف هذا الشكل ، وفي أخويه ، وهما إذا كان ما بين العين أعظم من قطر الكرة ، رؤي منها أعظم من نصفها ، وإلّا فإنّ المراد بالعين في هذا ألشكل واخويه هما عينا شخصين لا شخص واحد ، لا عينيه بمنزلة عين واحدة عند أصحاب المناظر ، كما صرح به المحقق البيرجندي في شرح التذكرة ، ويظهر من كلام القوم ، منه قدس سره ، هامش ألمخطوط.

(٢) اقليدس الأول ـ ومعناه المفتاح ـ أو اوقليدس بن نوقراطس الدمشقي بن برنيقس ، حكيم فيلسوف رياضي ، يوناني الجنس ، شامي الديار ، نجار الصنعة ، ولد في صور أو الاسكندرية ، أب الرياضيات الفعلية ، له مؤلفات في الهندسة والرياضيات غاية في النفع ، لا زالت هي الأساس في هذا العلم حتى بعد مرور ٢٣ قرناً عليها ، نقلت مؤلفاته إلى العربية بواسطة ألعالم العربي حنين بن إسحاق ، ونقحها ثابت بن قره حدود سنة ٢١١ هـ.

له حكم جليلة منها : قال له رجل : أني لا آلو جهداً في أن أفقدك حياتك ، فقال له : إنّي لا آلو جهداً في أن أفقدك غضبك.

قال له الملك بطليموس ـ وكان يحضر درسه في الرياضيات ـ يوماً ، بعد أن أعياه فهم الدرس : أما هناك طريقة أسهل لفهم الرياضيات؟ فقال له : ليس في ألرياضيات طريق ملكية!!.

وقال : العمل على الإنصاف ترك ألإقامة على المكروه. له مؤلفات منها : اصول اقليدس أو اقليدس تسمية للكتاب باسم المؤلف ، المناظر ، التحرير ، ألمرايا. وخير شروحها شرح الفيلسوف الأعظم الخواجة نصير الدين الطوسي.

له ترجمة في تاريخ اليعقوبي ١ : ١٢٠ / دائرة معارف القرن العشرين ١ : ٤٣٣ / دائرة معارف البستاني ٤ : ٩١ / تاريخ الحكماء : ٦٢ / فهرست النديم : ٣٢٥ / مختصر الدول : ٣٨ / طبقات الحكماء : ٣٩ رقم ١٤ / لغة نامة دهخدا : ٣١٦٩ من حرف الألف.

(٣) لما تقدم في الهامش الأسبق اليك نص المصدر :

ما يرى من الكرة يكون أصغر من نصفها ، وتحيط بها دائرة ، فلتكن الكرة مركزها « أ » ، والبصر « ب » ، ونصل « ب أ » ، ونخرج سطحاً طر ـ به ، ونقطع ألدائرة العظمى في الكرة التي عليها

١١١

[١٩ / ] ، وقد تتفارقان إما متوازيتين أو متقاطعتين ، أو لا ذا ولا ذاك. كما أوضحناه في تعليقاتنا على فارسية الهيئة(١) ولنأخذهما هنا عظيمتين كما فعل بعض

________________________

« ج ح ط د » ، ونرسم على قطر « ب أ » دائرة « أ ب ج » ، ونصل « ب ج » ، « ب د » ، « أج » ، « أ د ». فلأن « أج ب » نصف دائرة تكون زاوية « أج ب » قائمة ، وكذلك زاوية « أ د ب » ، « د ب ج ب د » تماسان دأئرة « ج ح ط » ونصل « ج د » ونخرج من « أ » ، خط « ح أ ط » موازياً له ، فزاوية « ك » قائمة.

واذا أدرنا مثلث « ب ك ج » على محور « ب ك » ألثابت إلى أن يعود إلى موضعه رسمت نقطة « ج » دائرة على ألكرة ، وبكون « ب ج » في جميع المواضع مماسا للكرة ، فترى الكرة بمنزلة تلك الدائرة ، ويكون المرئي منها أقل من نصفها لأن نصف الكرة ما يحويه « ح ج » ، « د ط » و « ج د » المرئي من شعاعي « ب ج » ، « ك د » أقل منه وذلك ما أردناه. وإليك التخطيط :

أنظر كتاب المناظر : ١٠ ، منظر ( كد ) ضمن رسائل الخواجه نصير الدين الطوسي.

(١) إنّ التطابق قد يحصل في ألإجتماع المرئي ، ويقع في كسوف تام. والتواري يكون في الاستقبال إن اتصل سمتهما ، والمخروطي على الاستقامة. والتقاطع كما في التربيع. والتقارن بلا توار ولا تقاطع قد يتحقق في المحاق ، وفي الاستقبال أيضاً ، إذا لم يحصل الشرط المذكور ، منه. قدس سره ، هامش المخطوط.

١١٢

الأعلام ، اذ لا تفاوت في الحس بين كلّ منهما وبين العظيمة ، ونجعل ما يقارب التطابق تطابقاً ، ونقول :

ا ذا اجتمع الشمس والقمر(١) صار وجهه المضيء إليها ، والمظلم إلينا ، وتتطابق الدائرتان وهو المحاق ، فإذا بُعد عنها يسيراً تقاطعت الدائرتان على حوادّ ومنفرجات ، ويرى من وجهه المضيء ما وقع منه بين الدائرتين في جهة الحادتين اللتين إلى صوب الشمس وهو الهلال.

ولا تزإل هذه القطعة تتزايد بتزايد البعد عن الشمس والحوادّ تتعاظم ، وإلمنفرجات تتصاغر حتى يصير التقاطع بين الدائرتين على قوائم ، ويحصل التربيع ، فيرى من الوجه المضيء نصفه ، ولا يزال يتزايد المرئي من المضيء ويتعاظم انفراج الزاويتين الأوليين إلى وقت الاستقبال ، فتطابق الدائرتان مرة ثانية ويصير الوجه المضيء إلينا وإلى الشمس معاً ، وهو البدر.

ثم يقع التقارب فيعود تقاطع الدائرتين على المختلفات أولاً ، ثم على قوائم ثانياً ، وحصل التربيع الثاني(٢) ، ثم يؤول الحال إلى التطابق فيعود المحاق ، وهكذا إلى ما يشاء الله سبحانه.

________________________

(١) المراد باجتماعهما كون موضعهما نقطة من مركز التربيع والاجتماع ، إما مستتر إن مرّ بهما خط خارج من مركز العالم. أو مرئي إن مر بهما خط خارج من موضع الناظر ، ويقال له الإجتماع الكسوفي ، منه قدس سره. هامش المخطوط.

(٢) إنّما قلنا في التربيع الأول « يحصل » بصيغة المضارع وفي التربيع الثاني « حصل » بصيغة الماضي لملاحظة نكتة وهي : أن تقاطع تينك الدائرتين على قوائم إنّما يكون قبل ألتربيع الأول ، وبعد التربيع ألثاني بزمان قليل ، لا في آن التربيع ، والّا لزم وقوع قائمتين في المثلث الحاصل من الخطوط ، الواصل أحدها من مركزي الشمس ودائرة النور ، وألاخرى بين المركزين والبصر الذي هو بمنزلة مركز الأرض ، إحدى القائمتين عند مركز الأرض لأن وترها ربع الدور ، والاخرى عند مركز الشمس ومركزها عموداً على سطحها ، وكون ألواصل بين البصر ومركز هذه الدائرة في سطحها ، فيحيط هذان الخطان لا محالة بزاوية قائمة ، ولا يجوز أن يكون تقاطع تينك الدائرتين على زوايا قوائم بعد التربيع الأول ، وقبل الثاني ، وإلا لزم في المثلث عند البصر لكون وترها أكثر عند مركز الدائرة ، منه. قدس سره ، هامش المخطوط.

١١٣

 تبيان:

لا يخفي أن حكمهم بأن نور القمر مستفاداً من الشمس ليس مستنداً إلى مجرد ما يشاهد من اختلاف المتشكلات النورية بقربه وبعده عن الشمس ، فإنّ هذا وحده لا يوجب ذلك الحكم قطعاً ، بل لا بد مع ذلك من ضمّ أُمور اُخر ، كحصول الخسوف عند توسط الأرض بينه وبين الشمس ، إلى غيرذلك من الأمارات التي يوجب اجتماعها ذلك الحكم ، لجواز أن يكون نصفه مضيئاً من ذاته ونصفه مظلما ، ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه.

فإذا تحرك بعد المحاق يسيراً رأيناه هلالاً ، ويزداد فنراه بدراً ، ثم يميل نصفه المظلم شيئاً فشيئاً إلى أن يؤول إلى المحاق.

أ قول : وهذا هو مقصود ابن الهيثم(١) بلا شك ومرية ، لا ما ظنّه صاحب حكمة العين(٢) حيث قال : زعم ابن الهيثم : أن القمر كرة يصفها مضيء

________________________

(١) أبو علي ، الحسن بن ألحسن بن الهيثم ، وقيل : محمد بن الحسين ، علم من أعلام الرياضيات ، والطبيعيات ، وألطب ، والفلسفة ، فاضل النفس ، قوي ألذكاء ، لم يماثله أحد من أهل زمانه في الرياضيات ، لخص كثيراً من كتب ارسطو طاليس ، وشرحها ، وهكذا جالينوس ، كان حسن الخط جيده ، أصله من البصرة ، أقام في مصر اخريات عمره ، له المناظر الجامع في أصول الحساب ، الطب ، تحليل المسائل ألهندسية ، مقالة في الضوء ، اختلاف منظر القمر ، وغيرها كثير مات سنة ٤٣٠ هـ ١٠٣٨ م.

له ترجمة في : طبقات ألأطباء : ٥٥٠ / دائرة المعارف الاسلامية ١ : ٢٩٨ / تاريخ ألحكماء : ١٦٥ / تاريخ مختصر ألدول : ١٨٢ / كشف الظنون ١ : ١٣٨ / الأعلام ٦ : ٨٤ ، ٢ : ١٨٧ / معجم المؤلفين ٣ : ٢١٥.

(٢) هو : علي بن عمر بن علي ، المعروف بدبيران المنطقي ، أو الكاتبي القزويني ، الشافعي ، من أساتذة فنون الحكمة وألكلام ، والطب والنجوم ، و. و. و. ، دعاه الخواجه نصير الدين الطوسي للمشاركة في رصد مراغة سنة ٦٥٠ فأجاب ، وبدأ أعماله وتحقيقاته هناك مع زملائه ألأفاضل. تتلمذ على جمع منهم النصير الطوسي ، ومحمد بن أشرف الحكيم الحسيني ، والأثير ألاساغوجي ، وكان له تلامذة يشار إليهم بالبنان ، منهم : العماد القزويني ، والكازروني ، وألعلامة الحلي. له مؤلفات منها : رسالة إثبات الواجب ، الشمسية في المنطق ، عين القواعد ،

١١٤

 ونصفها مظلم ، وتتحرك على نفسها ، فاذا مال النصف المضيء إلينا نراه هلالاً ، وتتحرك بحيث يصيرنصفها المضيء كله إلينا عند المقابلة وعلى هذا دائماً.

ثم قال : وهوضعيف ، وإلّا لما انخسف [٢٠ / ] في شيء من الاستقبالات أصلاً(١) ، انتهى كلامه.

وقد وافقه صاحب المواقف في هذا الظن قائلاً : إنَّ الخسوف يبطل كلام ابن الهيثم(٢) .

و هذا منهما عجيب ، وابن الهيثم أرفع شانا في هذا العلم من أن يظن صدور مثل هذا عنه ، وكلامه ينادي بأنّ قصده ما ذكرناه ، حيث قال : إنّ التشكلات النورية للقمر لا يوجب الجزم بأن نوره مستفاد من الشمس ، لاحتمال أن يكون القمركرة نصفها مضيء ونصفها مظلم ، ويتحرك على نفسه ، فيرى هلالاً ، ثم بدراً ، ثم ينمحق ، وهكذا دائماً(٣) انتهى كلامه ، وهو كلام لا غبار عليه أصلاً.

والعجب أنّ هذا الكلام نقله شارح حكمة العين(٤) عنه ، ولم يتفطن لما هو مقصوده منه ، فإياك وقلة التأمل.

________________________

بحر الفوائد ، جامع الدقائق ، المفصل في شرح المحصل ، وحكمة العين أو عين القواعد وغيرها كثير.

مات سنة ٦٧٨ وقيل ٦٧٥ هـ = ١٢٧٩ ـ ١٢٧٦ م.

له ترجمة في فوات الوفيات ٣ : ٥٦ رقم ٣٤٦ / الاعلام ٤ : ٣١٥ / تاريخ مختصر الدول : ٢٨٧ / تاريخ الفلك : ٣٦ / معجم المؤلفين ٧ : ١٥٩ / مقدمة حكمة العين فارسية / كشف الظنون ١ : ٦٨٥ / هدية العارفين ١ : ٧١٣ ناسباً له إلى التشيع / هدية الأحباب : ٢٤٢.

(١) حكمة العين ، ذيل المبحث الخامس من المقالة الثالثة من القسم الثاني في العلم الطبيعي. وانظر شرح حكمة العين للبخاري : ٥٢٦ ـ ٥٢٧.

(٢) المواقف : ٢١٤ ، وانظر شرح الشريف الجرجاني ٢ / ٤٣٧ ، المقصد الثالث في كسوف الشمس ، من القسم الثاني في الكواكب ، من الموقف الرابع في الجواهر.

(٣) أنظر الهامش رقم (١).

(٤) انظر الهامش رقم (٢).

١١٥

إرشاد :

لعلك تقول ـ عند ملاحظة قولهعليه‌السلام  : « وامتهنك بالزيادة والنقصان » ـ : أنَّ حصول الإمتهان للقمر بنقصان نوره ظاهر ، فما معنى حصول الامتهان له بزيادة النور؟ فاقول فيه وجهان :

ا لأول : أنّه لمّا كان أحد وجهيه مستنيراً بالشمس دائماً ، وكانت زيادة نوره إنما هي بحسب إحساسنا فقط ، وقد سخره الأمر الالهي لأن يتحرك في النصف الأول من الشهر على نهج لا يزيد به المنير منه في كل ليلة إلّا شيئاً يسيراً ، لا يستطيع أن يتخطاه ، ولا يقدر على أن يتعدّاه ، أثبتعليه‌السلام  له الامتهان ، بسبب إذلاله وتسخيره للزيادة على هذا الوجه المقرر ، والنهج الخاص. وقد شبّه بعضهم حال القمر ، في ظهور القدر المرئيّ منه شيئاً فشيئاً في النصف الأول من الشهر إلى أن يصير بدراً ، ثم استتاره شيئاً فشيئاً في النصف الثاني إلى أن يختفي ؛ بما إذا أمر السيد عبده بان لا يكشف النقاب عن وجهه للناظرين إلّا على التدريج شيئاً فشيئاً في مدة معينة ، وأنّه متى انكشف وجهه بأجمعه فليبادر في الحال إلى ستره ، وارخاء النقاب عليه شيئاً فشيئاً إلى أن يختفي بأجمعه عن الأبصار.

ا لوجه الثاني : أن يكون مرادهعليه‌السلام  الامتهان [٢١ / ] بمجموع الزيادة والنقصان ، أعني التغير من حال إلى حال ، وعدم البقاء على شكل واحد ، ولعل هذا الوجه أقرب ، وهو جار فيما نسبهعليه‌السلام  إليه من الامتهان بالطلوع والافول ، والإنارة والكسوف.

و يمكن أن يوجه امتهانه بالإنارة بوجه آخر ، وهو : أن يراد بها إعطاؤه النور للغير ـ كوجه الأرض مثلاً ـ لا اتصافه هو بالنور ، فان الإنارة والإضاءة كما جاءا في اللغة لازمين فقد جاءا متعديين أيضاً(١) ، وحينئذ ينبغي أن يراد بالكسوف

________________________

(١) انظر لسان العرب ١ : ١١٢ / الصحاح ١ : ٦٠ ، مادة « ضوء » فيهما.

ولسان العرب ٥ : ٢٤٠ / الصحاح ٢ / ٨٣٩ ، مادة « نور » فيهما.

١١٦

كسفه للشمس ، ليتم المقابلة ، ويصير المعنى امتهنك بأن تفيض النور على الغير تارة وتسلبه عنه أُخرى ، ولو أريد المعنى الشامل للخسوف أو نفس الخسوف أيضا لم يكن فيه بعد ، والله أعلم.

تمهيد :

لمّا كانت الشمس ملازمة لمنطقة البروج ، وكانت أعظم من الأرض(١) كان المستنير بأشعتها أعظم من نصفها ، والمظلم أقل كما عرفت سابقاً ، وحصل مخروط مؤلف من قطعتين ، ترتسم احداهما من الخطوط الشعاعية الواصلة بين الشمس وسطح الأرض ، ويسمى مخروط النور والمخروط العظيم ، والاخرى من ظل الأرض وتسمى مخروط الظلّ ، والمخروط الصغير ، ويحيط به طبقة يشوبها ضوء مع بياض يسير ، ثم طبقة اُخرى يشوبها مع ضوء يسيرصفرة ، ثم طبقة أخرى يشوبها يسير حمرة ، وهذه الطبقات الثلاث تظهر للبصر في المشرق من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بهذا الترتيب ، وبعكسه بعد غروبها في المغرب ، وقاعدة المخروط العظيم [٢٢ / ] على كرة الشمس منصّفة بمنطقة البروج ، وسهمه في سطحها ، وينتهي رأسه في أفلاك الزهرة عند كون الشمس في الأوج ، وفيما دونه فيما دونها ، وقاعدة المخروط الصغير صغيرة على وجه الأرض ، وهي الفصل المشترك بين المنير منها والمظلم ، وهذان المخروطان يتحركان(٢) على سطح الأرض كأنهما جبلان شامخان ، يدوران حولها على التبادل ، أحدهما أبيض ساطع ، والاخر أسود حالك ، عليه ملابس متلونة ، ويتحرك الأبيض من المشرق إلى المغرب ، وهو النهار لمن هو تحته ، والأسود بالعكس وهو الليل لمن هو تحته ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

________________________

(١) لما ثبت في الأجرام : أن الشمس مائة وستة وستون مثلاً وربع وثلثي مثل الأرض. منه ، قدس سره ، هامش الأصل.

(٢) وحركتها بقدر الفاضل بين حركة الفلك الأعلى ـ أعني الحركة اليومية ـ والحركة الحاصلة للشمس. وفي التحفة : إن هذه الحركة بحسب الحركة الأولى ، وفيه ما فيه ، ولعل مراده ما ذكرناه ، وإن كانت عبارته قاصرة عن مراده منه ، قدس سره. هامش المخطوط.

١١٧

وإذا توهّمنا سطحاً كرّياً مركزه مركز العالم ، يمر بمركز القمر وبالمخروط الصغير فالدائرة الحادثة منه على جرم القمر تسمى صفحة القمر ، والحادثة على سطح المخروط دائرة الظّل ، ومركزها على منطقة البروج.

تلويح فيه توضيح :

إذا لاقى القمر مخروط الظّل في الاستقبال ، ووقعت صفحته كلّها أو بعضها في دائرة الظل ، انقطعت الأشعة الشمسيّة عنه كلاً أو بعضا ، وهو الخسوف الكلّي أو الجزئي ، ولكون غاية عرض القمر ـ وهي خمسة أجزاء ـ أعظم من مجموع نصفي قطري صفحته ودائرة الظلّ ، لم ينخسف في كلّ استقبال(١) [٢٣ / أ] ، بل إذا كان عديم العرض ، أو كان عرضه ـ وهو بُعد مركزه عن مركز دائرة الظل ـ أقل من نصفها(٢) إذ لو كان مساويا لها ماسّ القمر محيط دائرة الظلّ من خارج على نقطة في جهة عرضه ، ولم ينخسف ، وان كان أكثر فبطريق أولى ، أما إن كان العرض أقل من النصفين انخسف أقل من نصف قطره إن كان العرض الأقل أكبر من نصف قطر دائرة الظلّ ، ونصف قطره إن كان مساويا له ، لمرور دائرة الظلّ بمركز الصفحة حينئذ ، وأكثر منه(٣) إن كان أقل منه ، وأكثرمن فضل نصف قطر دائرة الظلّ على نصف قطر القمر ، وكله(٤) غير(٥) ماكث إن كان مساوياً لفضل نصف قطر دائرة الظلّ على نصف قطر القمر ، لمماسّة القمر محيط الظلّ من داخل على نقطة في جهة عرضه ، وماكثاً بحسب ما

________________________

(١) لو كان مدار القمر في سطح منطقة البروج ، لا نخسف في كل استقبال ، لكون مركز دائرة الظلّ أبداً منها ، لكنه لما كان القمر في منطقة الحامل لم يدخل شيء منه في دائرة الظل إلآ إذا قارب وهذا ظاهرجلي. منه. قدس سره ، هامش المخطوط.

(٢) أي : من مجموع نصفي الشطرين. منه. قدس سره ، هامش المخطوط.

(٣) أي : وانخسف أكثر من نصفي قطره لا كلّه إن كان العرض أقل من نصف قطر دائرة الظل وأكثر من عليه. منه. قدس سره ، هامش المخطوط.

(٤) أي : والخسف كلّه حال كون الخسوف غير ماكث. منه. قدس سره ، هامش المخطوط.

(٥) بالنصب حال من « كلّه » منه. قدس سره ، هامش المخطوط.

١١٨

يقع في دائرة الظل إن كان أقل من هذا الفصل ، وغاية المكث إذا كان عديم العرض ، وأول الخسوف يشبه أثراً دخانياً ، ثم يزداد تراكماً بازدياد توغل القمر في الظلّ ، بان كان عرضه أقل من عشر دقائق كان لونه أسود حالكاً ، وإلى عشرين فأسود ضارباً إلى خضرة ، وإلى ثلاثين فإلى حمرة ، وإلى أربعين فإلى صفرة ، وإلى خمسين فأغبر ، وإلى ستين فأشهب.

و ابتداء الانجلاء من شرقي القمر [٢٣ / ب] ، كما أن ابتداء الخسوف كذلك.

تنبيه وتبيين :

الأحوال المشهورة الحاصلة للقمر كثيرة ، فبعضها يشاركه فيها سائر الكواكب ، كالإنارة والطلوع والأُفول ونحوها ، وهي كثيرة ولا حاجة داعية إلى ضبطها ، وبعضها امور تختص به لا توجد في غيره من الكواكب ، وقد اعتنى أهل الهيئة بالبحث عنها ، وأشهرها ستة :

سرعة الحركة ، واختلاف تشكلاته النورية ، واكتسابه النور من الشمس ، وخسوفه لحيلولة الأرض بينهما ، وحجبه لنورها بالكسف لها ، وتفاوت أجزاء صفحته في النور وهو المسمى بالمحو.

وهذه الأحوال الستة يمكن فهمها من كلامهعليه‌السلام  بعضها بالتصريح وبعضها بالتلويح.

أمّا سرعة حركته واختلاف تشكّلاته فظاهر ؛ وأمّا كسفه للشمس وخسوفه فلما مرّ من حمل الكسوف في كلامهعليه‌السلام  على ما يشمل الأمرين معاً ؛ وأمّا اكتسابه النور من الشمس فلدلالة اختلاف التشكّلات مع الخسوف عليه.

فهذه الأمور الخمسة تفهم من كلامهعليه‌السلام  على هذا النهج ، وبقي الأمر السادس ـ أعني تفاوت أجزائه في النور ـ فإنّ في إشعار كلامهعليه‌السلام  به نوع خفاء ؛ ويمكن أن يومىء إليه قولهعليه‌السلام  : « وامتهنك بالزيادة

١١٩

و النقصان ». فإن المراد زيادة النور ونقصانه ، ولا معنى لتفاوت أجزائه في النور إلّا زيادته في بعض ونقصانه في بعض آخركما لا يخفى [٢٤ / أ].

فقد تضمن كلامهعليه‌السلام  مجموع تلك الأحوال الستة المختصة بالقمر ، وقد مر الكلام في الأربعة الاُول منها ، وبقي الكلام في الأخيرين فنقول :

أ مّا الكسوف : فهو ذهاب الضوء عن جرم الشمس في الحسّ كلّا أو بعضاً ، لستر القمر وجهها المواجه لنا كلاً أو بعضاً ، وذلك عند كونهما بحيث يمرخط خارج من البصر بهما ، إمّا مع اتحاد موضعيهما المرئيين ، أو كون البعد بينهما أقل من مجموع نصفي قطريهما ، فلو تساويا ماسّها ولا كسف ، وإن زاد الأول فبالأولى ، فإن وقع مركزاهما على الخط المذكور كسفها كلّها بلا مكث ، إن كان قطراهما متساويين حساً ، ومع مكثه إن كان قطراها أصغر ، وبقي منها حلقة نورانية إن كان قطرها أعظم ، وإن لم يقعا على ذلك الخط كسف منها بعضاً أبداً إلّا إذا كان قطره أعظم حسا فقد يكسفها حينئذ كلا ، وربما يبقي منها حلقةً نورانية مختلفة الثخن أو قطعة نعلية إن كان قطره أصغر.

و لمّا كان الكسوف غير عارض للشمس لذاتها ، بل بالقياس إلى رؤيتها بحسب كيفية توسط القمر بينها وبين الأبصار ، أمكن وقوعه في بقعة دون أُخرى ، مع كون الشمس فوق أفقيهما ، وكونه في احداهما كلّياً أو أكثر ، وفي أُخرى جزئياً أو أقل ، وابتداء الكسوف من غربيّ الشمس ، كما أنّ ابتداء الانجلاء كذلك.

تتمة :

وأمّا محو القمر : ـ وهي الظلمة المحسوسة في صفحته ـ فأمره ملتبس ، والآراء فيه متشعبة والأقوال متخالفة ، وابن سينا في الشفاء(١) أطنب في بيان

________________________

(١) الشفاء ، الطبيعيات ٢ : ٣٧ ، الفصل الخامس أحوال الكواكب ومحو القمر.

١٢٠

ليقتلنّ أخياركم! وليستعبدنّ شراركم! فبُعداً لمن رضي بالذلّ والعار!

ثمّ قال: يا بن زياد، لأُحدّثنّك حديثاً أغلظ من هذا! رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أقعد حسناً على فخذه اليمنى، وحسيناً على فخذه اليسرى، ثمّ وضع يده على يافوخيهما، ثمّ قال:(اللّهم، إنّي أستودعك إيّاهما وصالح المؤمنين) . فكيف كانت وديعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عندك يا ابن زياد؟!)(١) .

وأنس بن مالك أيضاً!

روى ابن عساكر بأسانيد إلى أنس بن مالك الصحابي أنّه قال: (لما أُتي برأس الحسين - يعني إلى عبيد الله بن زياد - قال: فجعل ينكت بقضيب في يده ويقول: إن كان لحَسَن الثغْر! فقلت: والله، لأسوءنّك! لقد رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يُقبِّل موضع قضيبك منه)(٢) .

إشارة:

روى الشيخ المفيد (ره) بسند عن أبي سلمان المؤذّن، عن زيد بن أرقم قال: نشد عليٌّ النّاس في المسجد فقال:(أُنشد الله رجلاً سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: مَن كنت

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٣١، وانظر: أُسد الغابة: ٢: ٢١، وتاريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / تحقيق المحمودي: ٣٨١ - ٣٨٣ رقم ٣٢٢ و٣٢٣، ومقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٣٩، والمعجم الكبير / للطبراني: ٥: ٢٣٤، ومجمع الزوائد: ٩: ١٩٤، وانظر: أمالي الشيخ الطوسي: ٢٥٢: المجلس التاسع: رقم ٤٤٩/٤١ و ٤٥٠/٤٢.

(٢) تاريخ ابن عساكر / ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / تحقيق المحمودي: ٣٧٨ - ٣٨٠ رقم ٣١٩ و ٣٢٠، وانظر: رقم ٣٢١، وراجع حواشي هذه الصفحات الثلاث من ذلك الكتاب لمعرفة المصادر الأُخرى التي أوردت هذه الأحاديث أيضاً.

١٢١

مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهم، والِ مَن والاه، وعاد مَن عاداه؟) .

فقام اثنا عشر بدريّاً، ستّة من الجانب الأيمن، وستّة من الجانب الأيسر، فشهدوا بذلك.

قال زيد بن أرقم: وكنت فيمَن سمع ذلك فكتمته! فذهب الله ببصري.

وكان يتندّم على ما فاته من الشهادة ويستغفر)(١) .

وأمّا أنس بن مالك، فقد كان أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بعثه إلى طلحة والزبير - لما جاءعليه‌السلام إلى البصرة - ليُذكِّرهما شيئاً ممّا سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمرهما، فلوى أنس عن ذلك ورجع إليه فقال: (إنّي أُنسيت ذلك الأمر!

فقالعليه‌السلام :(إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة!) .

فأصاب أنَساً داء البرَص فيما بعد في وجهه! فكان لا يرى إلاّ مُبرقعاً.(٢)

فلا عجب أن يحضر مجلس ابن زياد، ويجلس إلى جانبه، أمثال هذين الصحابيّين، اللذين كانا قد كتما ما سمعاه من الحقّ من فم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله !

ولا عجب أن يكون هناك آخرون من الصحابة ممَّن تعوّدوا حضور مجلس الطاغية ابن زياد، في الأيّام التي كانت حركة أحداث النهضة الحسينية تمرّ بأخطر مُنعطفاتها!

ألم يكن من واجب أمثال هؤلاء الصحابة أن يكونوا إلى جنب الإمامعليه‌السلام في نهضته، حتّى وإن كانوا ممّن سقط عنه تكليف الجهاد والقتال، حتى تقوى بهم حجّة الحقّ على الباطل؟! ثمّ أليسوا هم ممّن قتل ابن فاطمةعليها‌السلام وأمَّر ابن مرجانة؟!

____________________

(١) الإرشاد: ١: ٣٥٢، ويُلاحَظ أنّ هذه الرواية لا تُحدِّد متى ذهب بصر زيد بن أرقم، كما يُلاحظ أنّ روايات استنكاره على ابن زياد ضربه ثنايا الرأس المقدّس ظاهرة في أنّ زيد بن أرقم كان يتمتّع ببصره حتّى ذلك الوقت، والله العالم.

(٢) راجع: نهج البلاغة: ٥٣٠ رقم ٣١١ / ضبط الدكتور صبحي الصالح.

١٢٢

كيف لا؟! وهم من المقرّبين إلى ابن مرجانة الذين يجلسون إلى جنبه، مُعرضين عن ركب الحسينعليه‌السلام في كربلاء وهي على قرب من الكوفة!

إنّنا لا نملك أن نردّ أو أن نُنكر ما أورده التاريخ، من أنّ هذين الصحابيين قد أنكرا على ابن زياد نكته ثنايا الرأس المقدّس بالقضيب، لكنّنا نملك أن نُفسّر سبب هذا الاستنكار فنقول: إنّ أمثال هؤلاء لا يستنكرون على الطغاة مُفتضح مُنكراتهم وقبائحهم؛ انتصاراً للحقّ وللمعروف، بل يستنكرونها عليهم حرصاً على ما تُبقى لهم أنفسهم عند الناس من سمعة حسنة!! - إن كان ثَمَّ سمعة حسنة لهم! - ثمّ هم لا يصلِون في استنكارهم الحدّ الذي يُهددّ حياتهم ويُعرِّضهم إلى القتل، بل لا يستنكرون إلاّ مع اطمئنانهم من عدم وصول المكروه إليهم! ولو كان أمثال هؤلاء ممّن ينتصرون للحقّ في وجه الباطل في صدق من النيّة والعزم؛ لرأيناهم في صفحة التأريخ تحت راية الهُدى وفي صفّ الحقّ، لا في مجالس الطغاة وأنديتهم وملاهيهم.

وكان للكاهن دَور المستشار هناك أيضاً!

من الملفت للانتباه، أنّ من معالم الحُكم الأُموي - بل من معالم الفترة التي استولت فيها حركة النفاق على سدّة الحُكم منذ السقيفة - هو أنّ أفراد فصيل مُنافقي أهل الكتاب من يهود ونصارى، كانوا يقومون بدَور (المستشار) لحكَّام حركة النفاق(١) .

وهذا الخبر الذي ينقله سبط ابن الجوزي، في كتابه تذكره الخواص من مصاديق هذه الحقيقة: (وقال هشام بن محمّد: لما وضِع الرأس بين يدي ابن زياد قال له كاهنه: قم فضع قدمك على فم عدوّك! فقام فوضع قدمه على فيه! ثمّ قال

____________________

(١) راجع تفاصيل هذه الحقيقة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة: (الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة) / في مقالة: حركة النفاق قراءة في الهويّة والنتائج.

١٢٣

لزيد بن أرقم: كيف ترى؟!

فقال: والله، لقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واضعاً فاه حيث وضعت قدمك!)(١) .

العقيلة زينب في مواجهة ابن زياد!

(وسيقت العقائل الهاشميّات إلى قصر الإمارة، في موكب تعسٍ، لم تشهد الدنيا له مثيلاً من قبل ولا من بعد!

بنات النبيّ سبايا قد حُملن على أقتاب الجِمال بغير وطاء! مُمزِّقات الجيوب حواسر الوجوه! حافيات الأقدامّ يتقدّمهنّ حمَلَة الرؤوس على أسنّة الرماح!)(٢) .

ويقول الشيخ المفيد (ره): (وأُدخل عيال الحسينعليه‌السلام على ابن زياد، فدخلتْ زينب أُخت الحسين في جملتهم مُتنكّرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتّى جلست ناحية من القصر، وحفّت بها إماؤها، فقال ابن زياد: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟! فلم تُجبْه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل منها!

فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله.

فأقبل عليها ابن زياد وقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم!

فقالت زينب:الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وطهّرنا من الرجس تطهيراً،

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٣١ / وفي: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد: ٧٩: (فلما وضِعت الرؤوس بين يدي عبيد الله جعل يضرب بقضيب معه على فم الحسين وهو يقول:

يفلقن هاماً من أُناسٍ أعزّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأشأما).

(٢) موسوعة آل النبيّ عليه الصلاة والسلام / الدكتورة بنت الشاطي: ٨١٩.

١٢٤

وإنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله.

فقال ابن زياد: كيف رأيت فِعل الله بأهل بيتك؟!

قالت:كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجُّون إليه وتختصمون عنده!

فغضب ابن زياد واستشاط.

فقال عمرو بن حريث:(١) أيُّها الأمير، إنّها امرأة، والمرأة لا تؤخذ بشيء من منطقها، ولا تُذمّ على خطابها.

فقال لها ابن زياد: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك والعُصاة من أهل بيتك!!)(٢) .

وفي عبارة الطبري: (فقال لها ابن زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة المرَدة من أهل بيتك!

قال: فبكت، ثمّ قالت:لعَمري، لقد قتلت كهْلي، وأبَرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يُشفك هذا فقد اشتفيت!

فقال لها عبيد الله: هذه سجّاعة! قد - لعَمري - كان أبوك شاعراً سجّاعاً!

وفي رواية ابن أعثم الكوفي والسيّد ابن طاووس: أنّ ابن زياد لما سأل زينبعليها‌السلام قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟!

____________________

(١) عمرو بن حريث: لقد مرّت بنا ترجمة موجزة لهذا المنافق ذي الميل والهوى الأُموي في الجزء الرابع من هذه الموسوعة: (الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء: ٩٤ - ٩٥) فراجع.

(٢) الإرشاد: ٢: ١١٥، وانظر: أمالي الصدوق: ١٤٠ المجلس ٣١ حديث رقم ٣، وروضة الواعظين: ١٩٠، والحدائق الوردية: ١٢٤، وإعلام الورى: ٢٤٧.

(٣) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٧، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٧، وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب: ٢: ٢٩٢.

١٢٥

قالت:(ما رأيت إلاّ جميلاً! هؤلاء القوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم - يا بن زياد - فتُحاجّون وتُخاصمون، فانظر لمن الفَلَج يومئذٍ! ثكلتك أمّك يا بن مرجانة!) (١) .

الإمام السجّادعليه‌السلام في مواجهة ابن زياد!

قال الشيخ المفيد (ره): (وعُرِض عليه عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، فقال له: مَن أنت؟

فقال:(أنا عليٌّ بن الحسين) .

فقال: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟!

فقال له عليّعليه‌السلام :(قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً قتله الناس) .

فقال له ابن زياد: بل الله قتله.

فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (٢) .

فغضب ابن زياد وقال: وبكَ جُرأة لجوابي؟! وفيك بقيّة للردّ عليّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه!

فتعلّقت به زينب عمّته وقالت:يا بن زياد حسبك من دمائنا!

واعتنقته وقالت:والله، لا أُفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه!

فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة، ثمّ قال: عجباً للرحِم! والله، إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه! دعوه فإنّي أراه لِما به!)(٣) .

____________________

(١) الفتوح: ٥: ١٤٢، وانظر: اللهوف: ٢٠١، وتهذيب الكمال: ٦: ٤٢٩، وسير أعلام النبلاء: ٣: ٣٠٩.

(٢) سورة الزمر، الآية ٤٢.

(٣) الإرشاد: ٢: ١١٧، وفي تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٧: أنّ زينبعليها‌السلام قالت لابن زياد: (أسألك بالله إن كنت مؤمناً إن قتلته لما قتلتني معه! قال: وناداه عليٌّ فقال:(يا بن زياد! إن كانت بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهنّ رجلاً تقيّاً يصحبهن بصُحبة الإسلام)، وانظر: إعلام الورى: ٢: ٤٧٢.

١٢٦

وفي رواية ابن أعثم الكوفي: (فالتفت ابن زياد إلى عليّ بن الحسين رضي الله عنه وقال: أوَ لم يُقتَل عليّ بن الحسين؟!

قال:(ذاك أخي، وكان أكبر منّي، فقتلتموه، وإنّ له مطلاً (١) منكم يوم القيامة!) .

فقال ابن زياد: ولكنّ الله قتله!

فقال عليّ بن الحسين رضي الله عنه:( ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (٢) ،وقال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) )(٣) .

فقال ابن زياد لبعض جلسائه: ويحَك! خُذْه إليك فأظنُّه قد أدرك الحُلم؟

قال: فأخذه مري بن معاذ الأحمري، فنحّاه ناحية ثمّ كشف عنه فإذا هو أنبت، فردّه إلى عبيد الله بن زياد وقال: نعم، أصلح الله الأمير، قد أدرك(٤) .

فقال: خُذْه إليك الآن فاضرب عنقه!

قال: فتعلّقت به عمّته زينب بنت عليّ وقالت له: يا بن زياد، إنّك لم تُبقِ منّا أحداً، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه!

فقال عليّ بن الحسين لعمّته:(اسكُتي حتّى أُكلِّمه) .

____________________

(١) أيّ: أنّ له حقّاً ودَيْنَاً عندكم يُطالبكم به يوم القيامة! راجع معنى المطل في (لسان العرب: ١١: ٦٢٤ - ٣٢٥).

(٢) سورة الزمر، الآية ٤٢.

(٣) سورة يونس، الآية ١٠٠.

(٤) دعوى أنّ ابن زياد فتّش الإمامعليه‌السلام لمعرفة هل بلغ الحُلم أم لا؟! لا تصحّ؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام يومذاك كان عمره ثلاثاً وعشرين سنة على رواية الزبير بن بكّار، أو ثماني وعشرين سنة على رواية الواقدي، (وأمّا قول أبي مخنف لوط بن يحيى، وهشام الكلبي: إنّه كان صغيراً ففتّشه ابن زياد، وقال: انظروا هل أدرك ليقتله، فلا يصحّ ذلك، بل هذه القصّة كانت مع عمر بن الحسنعليه‌السلام ، فإنّه كان من جملة الأُسارى). (راجع: سرّ السلسلة العلوية / لأبي نصر البخاري: ٣١).

١٢٧

ثمّ أقبل عليٌّ رضي الله عنه على ابن زياد:(أبالقتل تهدّدني؟! أما علمت أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة؟!) .

قال فسكت ابن زياد، ثمّ قال: أخرجوهم عنّي!

وأنزلهم في دار إلى جانب المسجد الأعظم ...)(١) .

الرباب زوج الإمامعليه‌السلام مع رأسه المقدّس:

قال السيّد المقرّم: (ودعا بهم ابن زياد مرّة أُخرى، فلما أُدخِلوا عليه رأين النسوة رأس الحسين بين يديه، والأنوار الإلهيّة تتصاعد من أساريره إلى عنان السماء، فلم تتمالك الرباب زوجة الحسين دون أن وقعت عليه تُقبّله، وقالت:

إنّ الـذي كـان نـوراً يُستضاء به

بـكـربلاء قـتـيلٌ غـير مـدفون

سـبط الـنبيّ جـزاك الله صـالحة

عـنّا وجُـنِّبت خُـسران الـموازين

قـد كـنتَ لـي جَبلاً صعباً ألوذ به

وكـنت تـصحبنا بـالرحم والـدين

مَـن لـليتامى ومَـن للسائلين ومَن

يُـعنى ويـأوي إلـيه كـلّ مسكين

والله لا أبـتـغي صـهراً بـصهركم

حتّى أُغيَّب بين الماء والطين)(٢) .

____________________

(١) الفتوح: ٥: ١٤٢.

(٢) وهي الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن غدرة بن زيد اللاّت بن رفيدة بن ثور بن كلب. (راجع: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد: ١٨)، وقال هشام بن الكلبي كانت الرباب من خيار النساء وأفضلهنّ. (راجع: الأغاني: ١٦: ١٤٩)، وقال ابن الأثير: كانت حيّة وحُملت إلى الشام فيمَن حُمل من أهله، ثمّ عادت إلى المدينة (راجع: الكامل في التاريخ: ٣: ٣٠٠)، وانظر: تاريخ خليفة بن خيّاط: ١٤٥، ومُستدركات علم رجال الحديث: ٨: ٥٧٤، وتنقيح المقال: ٣: ٧٨.

١٢٨

(وقيل: إنّ الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين، أخذت الرأس ووضعته في حِجرها وقبّلته، وقالت:

وا حـسيناً فـلا نـسيت حـسيناً

أقـصـدته أسـنّـة الأعداء

غادروه بـكـربلاء صـديعاً

لا سقى الله جانبي كربلاء)(١) .

أمّ كلثومعليها‌السلام في مواجهة ابن زياد!

وفيما رواه الشيخ الصدوق (ره) قوله: (... وأرسل ابن زياد لعنه الله قاصداً إلى أمّ كلثوم (أخت. ظ) بنت الحسينعليه‌السلام ، فقال: الحمد لله الذي قتل رجالكم! فكيف ترون ما فعل بكم؟!

فقالت:يا بن زياد، لئن قرَّت عينك بقتل الحسين عليه‌السلام فطالما قرّت عين جدّه به، وكان يُقبّله ويلثم شفتيه ويضعه على عاتقه! يا بن زياد، اعدّ لجدّه جواباً؛ فإنّه خصمك غداً!) (٢) .

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٣٣.

(٢) أمالي الصدوق: ١٣٩ المجلس ٣٠ حديث رقم ١ / ولعلّ قوله: (وأرسل ابن زياد لعنه الله قاصداً إلى أمّ كلثوم ...)، إشارة إلى أنّ ابن زياد كان قد استدعاهم إلى مجلسه مرّة ثانية، كما ذهب إلى ذلك السيّد المقرّم في المقتل: ٣٢٦.

ويُلاحَظ على هذه الرواية أنّ فيها ترديداً في أنّ أمّ كلثوم أخت الحسينعليه‌السلام أو ابنته، مع أنّه لم يُعرف - في غير هذا المتن - أنّ للحسينعليه‌السلام بنتاً بهذا الاسم، كما لم يُعرف أنّ هذه الكُنية كانت لواحدة من بناته عليه وعليهنّ السلام.

ويقول الإسفرائيني في كتابه: نور العين في مشهد الحسينعليه‌السلام : ٤٢ (ثمّ قال (ابن زياد): أيُّكم أمّ كلثوم؟ فقالت: ما تُريد منّي يا عدوّ الله؟! فقال: قبَّحكم الله!

فقالت: يا بن زياد! وإنّما يُقبِّح الله الفاسق والكاذب! وأنت الكاذب والفاسق، فأبشر بالنّار! فضحك من قولها وقال: إن صرتُ إلى النّار في الآخرة فقد بلغتُ مرادي وما أؤمّله! فقالت: يا ويلك! قد أرويت الأرض من دم آل البيت. فقال لها: أنت سجَّاعة مثل أبيك! ولولا أنّك امرأة =

١٢٩

إشارات:

هناك عدّة إشارات ومُلاحظات، تُلفت انتباه المتأمّل في وقائع ما جرى في مجلس ابن زياد، وفي مُحاوراته مع رموز بقيّة الركب الحسينيّ، منها:

١ - الشجاعة العُليا التي يتمتّع بها أهل البيتعليهم‌السلام :

وقد تجسَّدت هذه الحقيقة في مجموعة من الردود التي صدرت عنهمعليهم‌السلام في مواجهة ابن زياد، في مثل قول زينبعليها‌السلام :(الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وطهّرنا من الرجس تطهيراً، وإنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمد لله ...).

وفي قولها:

(ما رأيت إلاّ جميلاً! هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم - يا بن زياد - فتُحاجّون وتُخاصمون، فانظر لمن الفَلَج يومئذٍ ثكلتك أمّك يا بن مرجانة!).

وفي قول الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

(أبالقتل تُهدّدني؟! أما علمت أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة؟!).

وفي قول أمّ كلثومعليها‌السلام :(يا بن زياد، اعدّ لجدّه جواباً؛ فإنّه خصمك غداً!).

٢ - العرفان والفداء في ذروته عند مولاتنا زينبعليها‌السلام :

وقد تجلَّى ذلك في ردّها على ابن زياد قائلة:(ما رأيت إلاّ جميلاً!) ، ولم

____________________

= لضربت عنقك. فقالت: لولا أنّي سجّاعة ما وقفت بين يديك ينظر إليّ البارُّ والفاجر! وأنا مهتوكة الخباء! وإخوتي بين يديك من غير غطاء!).

وفي المقتل المنسوب لأبي مخنف: ١٦٤ نصّ عن هذه المحاورة بين أمّ كلثومعليها‌السلام وبين ابن زياد لعنه الله، قريب من هذا النصّ!.

١٣٠

تقلعليها‌السلام : (ما رأيت في كربلاء إلاّ جميلاً!)، بل صرّحت بإطلاق رؤية الجميل! أي: أنّهاعليها‌السلام منذ أن رأت لم ترَ من الله إلاّ جميلاً!! في كربلاء وقبلها وبعدها! وفي هذا غاية المعرفة والعرفان، وغاية الرضا بقضاء الله والاطمئنان بقدره، وغاية الرضا عن الله تبارك وتعالى، وغاية الشكر له، ولا يكون ذلك إلاّ من الحبّ لله سبحانه في أعلى مراتبه.

وأمّا فداؤها وتضحيتها صلوات الله عليها، فقد تجسّد في مواصلتها إلقاء نفسها في فم الموت والقتل مراراً؛ دفاعاً عن حجّة الله على عباده وإمام زمانه، مولانا زين العابدينعليه‌السلام ، وإصرارها على أن تُقتل قبله ومعه! ولقد تجسّد ذلك في مثل قولهاعليها‌السلام :(والله، لا أُفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه!) ، حتّى لقد تأثّر اللعين ابن زياد من تضحيتها وفدائها ظنّاً منه أنّ ذلك من عاطفة الرحِم فقط! حتّى قال: (عجباً للرحِم! والله، إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه!).

٣ - قربان الله وقتيله في كربلاء هو ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

فقاتله قاتلٌ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو خصمه يوم القيامة

وقد تجسّد هذا المعنى في قول أمّ كلثومعليها‌السلام : (يا بن زياد، لئن قرّت عينك بقتل الحسينعليه‌السلام فطالما قرّت عين جدّه به، وكان يُقبّله ويلثم شفتيه ويضعه على عاتقه! يا بن زياد، اعدّ لجدّه جواباً؛ فإنّه خصمك غداً!). كما ظهر هذا المعنى في اعتراض زيد بن أرقم وأنس بن مالك على ابن زياد أيضاً.

٤ - تفنيد المنطق الجبري الذي أشاعه الأُمويُّون:

وكان قد أصرّ ابن زياد لعنه الله، على ترسيخه في أذهان الناس في المجلس، في قوله لزينبعليها‌السلام : (كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟!)، وفي قوله للإمام السجّادعليه‌السلام : (أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟!)، وفي ردّه عليه مرّة أُخرى حيث

١٣١

قال: (بل الله قتله!).

كان الأُمويون يُريدون أن يوهموا النّاس بشُبهة: أنّ كلّ ما يجري من وقائع وأحداث، وظلم وجور وقتل، هو تجسيد لإرادة الله وتحقيق لأمره، فلا يحقّ لأحدٍ أن يعترض على إرادة الله، ففي ذلك الكفر والخروج عن رِبقة الإسلام!! وشقّ لعصا المسلمين!! وتفريق كلمتهم!!

وبذلك يحجر الأُمويون وكلّ الطغاة على الأُمّة أن تعترض، أو تنهض وتقوم لإزالة الظلم والجور والطغيان؛ ليتمادوا هم في مُمارسة ما يحلو لهم من اجتراح المظالم والمجازر، وإخماد كلّ صوت يدعو إلى الحقّ والعدل!

وفي مواجهة هذا المنطق الجبري، حرص أهل البيتعليهم‌السلام على نشر هذه العقيدة الحقّة، وهي: أنّ ما يجري على يد الطغاة الظالمين، من قتل وظلم وجور وفساد لا يُمثِّل إرادة الله؛ لأنّ الله تعالى - فيما صرّح به في كتابه الحكيم - لا يريد الظلم، ولا الفساد، ولا الجور، ولا قتل النفس التي حرَّم قتلها إلاّ بالحقّ، ولا يُحبّ الظالمين ولا يهديهم، بل هو مع المتّقين والمحسنين، ومع المصلحين الذين لا يريدون علوَّاً في الأرض ولا فساداً.

والله تبارك وتعالى قد دعا عباده المؤمنين، المتقّين المصلحين، إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى القيام بوجه الظالمين الجائرين الطغاة، وإلى المتاجرة مع الله بأموالهم وأنفسهم في سبيله، فإذا قُتِلوا في سبيله فهم على الحقيقة أحياء عند ربّهم يرزقون، وهذا لا يعني أنّ الله سبحانه أراد قتلهم على نحو القهر والجبر، وأنّ الطغاة الذين قتلوهم إنّما نفّذوا وحقّقوا الإرادة الإلهيّة بقتلهم! بل هؤلاء الطغاة مسؤولون أمام الله عن قتل كلّ مظلوم.

وقد ردّت زينبعليها‌السلام على دعوى ابن زياد: أنّ ما جرى على أهل بيتها هو من

١٣٢

فعل الله سبحانه!

فقالت: هؤلاء القوم كتب الله عليهم القتل - أي: على نحو الأمر الشرعي في القيام ضدّ الحكم الأُموي، وإن أدّى هذا القيام إلى استشهادهم، فبرزوا إلى مضاجعهم امتثالاً للأمر الشرعي، وسيجمع الله بينك وبينهم يا بن زياد - فأنت يا بن زياد مسؤول أمام الله عن قتلهم - فتُحاجّون وتُخاصمون! فانظر لمن الفَلَج يومئذٍ؟! ثكلتك أمّك يا بن مرجانة.

وقد ردّ الإمام السجّادعليه‌السلام على هذه الدعوى الجبرية أيضاً في قوله:(قد كان لي أخٌ يُسمّى علياً قتله الناس) ، وحينما أصرّ ابن زياد على دعواه بقوله: (بل الله قتله!)، ردّ عليه الإمامعليه‌السلام بهذه الآية الشريفة:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، أي: أنّه سبحانه يتوفّى الأنفس حين موتها وحين النوم وحين القتل، وهذا لا يعني أنّ الله حتَّم على النفس القتيلة أن تُقتَل على نحو القهر والجبر، بل القاتل مسؤول عند الله، وقد تجسّد هذا في ردّ الإمامعليه‌السلام على ابن زياد - في رواية أُخرى - حيث قال:(ذاك أخي، وكان أبكر منّي، فقتلتموه، وإنّ له مطلاً منكم - أي: حقّاً ودَيْنَاً يُطالبكم به -يوم القيامة!) .

وبهذا يكون هذا المنطق الجبري قد خاب وافتضح، واتّضح بطلانه أمام الناس في مجلس ابن زياد، ببركة وعي وشجاعة الإمام السجّاد والعقيلة زينبعليهما‌السلام .

٥ - الطغيان والتشفّي من علائم الطواغيت دائماً:

وهذا ما يلحظه المتأمّل في سيرة جميع طواغيت العصور، وقد تجلّى ذلك في مجلس ابن زياد في قوله - مُستنكراً على الإمام السجّادعليه‌السلام جرأته وشجاعته في الردّ عليه قائلاً -: (وبك جرأة لجوابي؟! وفيك بقيّة للردّ عليّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه!)، وفي قوله لزينبعليها‌السلام : (لقد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!!).

١٣٣

وينتفض رجل من بكر بن وائل في وجه ابن زياد!

ينقل المحقّق القرشي، عن كتاب مرآة الزمان قائلاً: (وكان في المجلس رجل من بكر بن وائل، يُقال له: جابر. فانتفض وهو يقول: لله عليّ أن لا أُصيب عشرة من المسلمين خرجوا عليك إلاّ خرجتُ معهم!)(١) .

ابن زياد يستفزّ الصحابي أبا برزة الأسلمي!

روى الخوارزمي بسند إلى أبي العالية البراء(٢) قال: (لما قُتل الحسينعليه‌السلام أُتي عبيد الله بن زياد برأسه، فأرسل إلى أبي برزة(٣) فقال له عُبَيد الله: كيف شأني وشأن حسين بن فاطمة؟

قال: الله أعلم! فما علمي بذلك؟!

قال: إنّما أسألك عن علمك!

قال: أمّا إذا سألتني عن رأيي، فإنّ علمي أنّ الحسين يشفع له جدّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويشفع لك زياد!

فقال له: اخرج! لولا ما جعلت لك؛ لضربت - والله - عنقك! فلما بلغ باب الدار، قال: لئن لم تغدُ عليّ وترُحْ لأضربنّ عنقك!!)(٤) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام ٣: ٣٤٣، نقلاً عن مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: ٩٨.

(٢) أبو العالية: البراء البصري، اسمه زياد، وقيل: كلثوم. وهو ثقة، مات في شوّال سنة تسعين. (راجع: تقريب التهذيب: ٢: ٤٤٣).

(٣) أبو برزة الأسلمي: اسمه نضلة بن عبيد. قال الخطيب البغدادي: (سكن المدينة وشهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فتح مكّة، ثمّ تحوّل إلى المدينة فنزلها، وحضر مع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قتال الخوارج بالنهروان. (تاريخ بغداد: ١: ١٨٢)، وقال خليفة: (وافى خراسان ومات بها بعد سنة أربع وستّين.). (تاريخ خليفة: ١٠٩). وانظر: سير أعلام النبلاء: ٣: ٤٣، وتقريب التهذيب: ٢: ٣٠٣.

(٤) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٤٩ - ٥٠ رقم ١٤، وانظر: الحدائق الوردية: ١٢٣.

١٣٤

وينقل سبط ابن الجوزي رواية عن الشعبي: أنّه كان عند ابن زياد قيس بن عبّاد(١) ، فقال له ابن زياد: ما تقول فيّ وفي حسين؟

فقال: يأتي يوم القيامة جدّه وأبوه وأمّه فيشفعون فيه، ويأتي جدّك وأبوك وأمّك فيشفعون فيك! فغضب ابن زياد وأقامه من المجلس(٢) .

الركب الحسينيّ في محبس ابن زياد:

روى الشيخ الصدوق (ره) بسند إلى حاجب عبيد الله بن زياد: أنّ ابن زياد (لما جيء برأس الحسينعليه‌السلام أمر فوضِع بين يديه في طست من ذهب، وجعل يضرب بقضيب في يده على ثناياه ويقول: لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبد الله!

فقال رجل من القوم: فإنّي رأيت رسول الله يلثم حيث تضع قضيبك!

فقال: يوم بيوم بدْر!!

ثمّ أمر بعليّ بن الحسينعليه‌السلام فغُلّ وحُمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنت معهم، فما مررنا بزقاق إلاّ وجدناه ملاءً رجالاً ونساءً، يضربون وجوههم ويبكون، فحُبسوا في سجن وطُبِق عليهم!

____________________

(١) هو قيس بن عبّاد القيسي الضبعي: أبو عبد الله البصري، عدّه ابن سعد من تابعي أهل البصرة. قال: وكان ثقة قليل الحديث وقتله الحجّاج. (راجع: تهذيب الكمال: ٢٤: ٦٤، والطبقات الكبرى: ٧: ١٣١).

(٢) تذكرة الخواص: ٢٣١، وأورده المحقِّق القرشي في حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام : ٣: ٣٥٣ نقلاً عن عيون الأخبار لابن قتيبة: ٢: ١٩٧ وقال: وجاء في وفيات الأعيان: ٥: ٣٩٥ قال لحارثة بن بدر العدواني : ما تقول فيّ وفي حسين يوم القيامة؟ قال: يشفع له أبوه وجدّه، ويشفع لك أبوك وجدّك! فاعرف من هنا ما تُريد!.

١٣٥

ثمّ إنّ ابن زياد لعنه الله دعا بعليّ بن الحسين والنسوة، وأُحضر رأس الحسينعليه‌السلام ، وكانت زينب بنت عليّعليها‌السلام فيهم، فقال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحاديثكم!

فقالت زينبعليها‌السلام :

الحمد لله الذي أكرمنا بمحمّدٍ وطهّرنا تطهيراً يا بن زياد، حسبك ما ارتكبت منّا! فلقد قتلت رجالنا وقطعت أصلنا وأبَحْت حريمنا وسبيت نساءنا وذرارينا، فإن كان ذلك للاشتفاء فقد اشتفيت!

فأمر ابن زياد بردِّهم إلى السجن، وبعث البشائر إلى النواحي بقتل الحسين ...)(١) .

وذهب ابن سعد في طبقاته إلى أنّ عبيد الله بن زياد أمر بحبس مَن قدم به عليه من بقيّة أهل الحسين معه في القصر(٢) .

وقال السيد ابن طاووس (ره): (ثمّ أمر ابن زياد بعليّ بن الحسينعليه‌السلام وأهله، فحُملوا إلى دار جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت عليّعليهما‌السلام : لا يدخلنّ علينا عربية إلاّ أمّ ولد أو مملوكة، فإنهنّ سُبين كما سُبينا ...)(٣) .

وروى الطبري قائلاً: (فبينا القوم مُحتبسون، إذ وقع حجَر في السجن معه كتاب مربوط، وفي الكتاب: خرج البريد بأمركم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن

____________________

(١) أمالي الصدوق: ١٤٠ المجلس ٣١ حديث رقم ٣.

(٢) ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد / تحقيق السيّد عبد العزيز الطباطبائي: ٨١.

(٣) اللهوف: ٢٠٢ / وقال المرحوم السيّد المقرّم، في كتابه مقتل الحسينعليه‌السلام : ٣٢٦: (ولما وضح لابن زياد ولْولة الناس ولغط أهل المجلس، خصوصاً لما تكلّمت معه زينب العقيلة خاف هياج الناس؛ فأمر الشرطة بحبس الأُسارى في دار إلى جنب المسجد الأعظم).

١٣٦

معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوماً، وراجع في كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل! وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إن شاء الله.

قال: فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة، إذا حجَرٌ قد أُلقي في السجن، ومعه كتاب مربوط وموسى، وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا فإنّما يُنتظر البريد يوم كذا وكذا. فجاء البريد ولم يُسمع التكبير، وجاء كتابٌ بأن سرِّح الأُسارى إليّ)(١) .

إشارة:

هناك عدّة مُلاحظات مُستفادة من مجموعة هذه النصوص:

١ - يُستفاد من نصّ الشيخ الصدوق (ره): أنّ ابن زياد لم يحبسهم معه في القصر، كما ذهب إلى ذلك ابن سعد في طبقاته، ولا في دار إلى جنب المسجد الأعظم، كما روى السيّد ابن طاووس في اللهوف، بل حبسهم في سجن على بُعد من القصر ومن المسجد، بدليل قول الحاجب: (فما مررنا بزقاق إلاّ وجدناه ملاءً رجالاً ونساءً، يضربون وجوههم ويبكون)، وربّما كان ابن زياد قد أمر بحبسهم في السجن المطبق قبل أن تقع بينه وبينهم المحاورات الجريئة الساخنة، ثمّ بعد أن استدعاهم فحاورهم وحاوروه، وصار الناس يولولون ويلغط أهل المجلس خاف ابن زياد، فأمر بردّهم إلى الحبس مرّة أُخرى في دار إلى جنب المسجد، كما ذهب إلى ذلك السيد المقرّم(٢) ، أو في القصر.

٢ - كما أنّ هذا السجن كان مُطبقاً عليهم ومُضيّقاً عليهم فيه، لا يمكن أن يدخل عليهم فيه داخل باختياره، بدليل قول الحاجب كما في رواية الصدوق (ره): (فحُبِسوا في سجن وطُبق عليهم)، لا كما توحي رواية السيّد ابن طاووس (ره) أنّ

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٩، وانظر الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٨.

(٢) مقتل الحسين / للمقرم: ٣٢٦.

١٣٧

بإمكان أيّة امرأة الدخول عليهم، حيث يقول: (فقالت زينب بنت عليّعليه‌السلام : لا يدخلنّ علينا عربية إلاّ أمّ ولد أو مملوكة؛ فإنهنّ سُبين كما سُبينا)، ولعلّ هذه العبارة كانت قد نطقت بها زينبعليها‌السلام في المدينة بعد العودة إليها كما هو المشهور، أو ربّما حصل إمكان دخول النساء عليهم في المحبس، بعدما سُجنوا في المرّة الثانية في دار إلى جنب المسجد إذا أخذنا برواية اللهوف، وذهبنا إلى ما ذهبت إليه السيّد المقرّم، لكنّ رواية الشيخ الصدوق ظاهرة في أنّهم أُعيدوا مرّة أُخرى إلى نفس السجن المطبق الأوّل.

٣ - الذي يبدو ويُحتمل، أنّ مراد حاجب ابن زياد من قوله: (... وبعث البشائر إلى النواحي بقتل الحسين ...) هو أنّ ابن زياد بعث بخبر مقتل الحسينعليه‌السلام إلى بقيّة عمّال بني أميّة وإلى أمرائهم لا إلى الأمّة؛ لأنّ خبر مقتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند سواد الأمّة ليس من البشرى في شيء، بل هو مُصيبة عُظمى وفاجعة كُبرى، لكنّ الطغاة من عادتهم تحميل الأُمم المقهورة تحت سلطانهم وظلمهم أفراحهم وأحزانهم، وإن كانت الأُمّة تعيش الحزن فيما يفرح به الطغاة، ويطفح قلبها بالفرح في مصائبهم!

٤ - المثير للتساؤل في رواية الطبري وابن الأثر، أنّه بينما هم في الحبس، إذ سقط عليهم حجَر فيه كتاب مربوط ..)، تُرى مَن هذا الذي أُرسل إليهم هذا الكتاب؟!

هل السلطة الأُموية هي التي أمرت بإرسال هذا الكتاب مع الحجَر إليهم؛ مواصلةً منها للإرهاب النفسي والتعذيب الروحي الذي كانت تُمارسه ضدّهم؟

وهذا النوع من أساليب التعذيب كانت الحكومات الطاغوتية، ولم تزل إلى اليوم تستخدمه ضدّ سجناء المعارضة، حيث لا يعرف السجين هل المرسَل عدوّ

١٣٨

أم صديق مُشفِق؟

أم أنّ أحداً - أو جماعة - من مُحبّي أهل البيتعليهم‌السلام كان على اطّلاع بأخبار البريد ومدّة ذهابه وإيابه، وبعلامة الأمر بالقتل وعلامة الأمان، وأراد أن يُخبر الإمام السجّادعليه‌السلام بذلك؛ ليعهد بعهده ويوصي بوصيّته؟!

ويؤيِّد هذا ما في عبارة رواية الطبري: (وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إن شاء الله)، فقوله: فهو الأمان إن شاء الله مشعرٌ بأنّ مَن ألقى الحجر والكتاب يتمنّى لهم الأمان والنجاة.

وممّا يؤيّد أيضاً أنّ هذا المرسِل من مُحبّي أهل البيتعليهم‌السلام ، قد لجأ إلى هذا الأسلوب؛ خوفاً من بطش السلطة الأُموية، هو أنّ هذه السلطة لو شاءت أن تُمارس هذا الأسلوب من أجل الإرهاب النفسي والتعذيب الروحي، لمارسته مع بقايا آل الحسينعليه‌السلام علناً؛ إذ العلانيّة لا تنقص من أثره شيئاً، أو إلاّ شيئاً يسيراً.

دفن الإمام وبقيّة الشهداءعليهم‌السلام :

يروي الطبري: أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام بقيّة دفنوا بعد مقتلهم بيوم، أي في اليوم الحادي عشر، وأنّ أهل الغاضريّة من بني أسد قاموا بدفنهم، حيث يروي عن أبي مخنف قائلاً: (ودُفِن الحسين وأصحابه أهل الغاضريّة من بني أسد بعد ما قُتِلوا بيوم ...)(١) .

وذهب إلى ذلك البلاذري أيضاً، حيث يقول: (ودفن أهل الغاضريّة من بني أسد جثّة الحسين، ودفنوا جثث أصحابه رحمهم الله بعدما قُتِلوا بيوم ...)(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٥.

(٢) أنساب الأشراف: ٣: ٤١١.

١٣٩

أمّا الخوارزمي فيقول: (وأقام عمر بن سعد يومه ذلك إلى الغد، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم، وترك الحسين وأهل بيته وأصحابه! فلما ارتحلوا إلى الكوفة وتركوهم على تلك الحالة، عمد أهل الغاضرية من بني أسد فكفّنوا أصحاب الحسين، وصلّوا عليهم، ودفنوهم ...)(١) .

هذا قول جلّ مؤرّخي أهل السنّة ولعلّ المنبع الأوّل الذي أخذوا عنه هذا القول، هو نفس المنبع الذي أخذ عنه الطبري، وهو أبو مخنف.

ويوافقهم في هذا الرأي أبرز مؤرّخي الشيعة! كالمسعودي أيضاً، حيث يقول: (ودفن أهل الغاضريّة - وهم قوم من بني غاضر من بني أسد - الحسين وأصحابه بعد قتلهم بيوم)(٢) .

والشيخ المفيد (ره)؛ حيث يقول: (ولما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضرية إلى الحسين وأصحابه رحمة الله عليهم، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسينعليه‌السلام حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين الأصغر(٣) عند رجْليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرّعوا حوله ممّا يلي رجْلَي الحسينعليه‌السلام ، وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاس بن عليّعليهما‌السلام في موضعه الذي قُتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن)(٤) .

وذهب إلى ذلك السيد ابن طاووس (ره) أيضاً؛ حيث يقول: (ولما انفصل عمر ابن سعد لعنه الله عن كربلاء، خرج قوم من بني أسد، فصلُّوا على تلك الجُثث

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٤٤.

(٢) مروج الذهب: ٣: ٧٢.

(٣) ذلك لأنّ الشيخ المفيد (ره) يذهب إلى أنّ سيدنا الإمام السجّاد هو عليّ الأكبر؛ وقد أثبتنا في المجلّد الرابع أنّ عليّ بن الحسينعليه‌السلام المقتول بالطفّ هو الأكبر فراجع.

(٤) الإرشاد: ٢: ١١٤.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228