مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٥

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة25%

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 228

الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135233 / تحميل: 8997
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة الجزء ٥

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

النيران!)(١) .

وروى سبط ابن الجوزي، بسند إلى مروان بن الوصين، قال: (نُحرت الإبل التي حُمل عليها رأس الحسين وأصحابه، فلم يستطيعوا أكل لحومها، كانت أمَرَّ من الصبْر!)(٢) .

وروى الطبراني بسنده عن ذويد الجعفي، عن أبيه قال: (لما قُتل الحسين انتُهب جزور من عسكره، فلما طُبخت إذا هي دم! فأكفوها)(٣) .

وقال ابن حجر: (وأخرج أبو الشيخ، أنّ الوَرْس الذي كان في عسكرهم تحوّل رماداً، وكان في قافلة من اليمن تُريد العراق فوافتهم حين قتله!)(٤) .

آثار الحُزن في العوسجة المباركة!

روى الزمخشري، عن هند بنت الجون أنّه: نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خيمة خالتي أمّ معبد(٥) ، فقام من رقدته ودعا بماء فغسل يديه، ثمّ تمضمض ومجّ في عوسجة إلى جانب الخيمة، فأصبحنا وهي كأعظم دوحة! وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون الوَرْس ورائحة العنبر وطعم الشهد! ما أكل منها جائع إلاّ شبع، ولا ظمآن إلاّ روى، ولا سقيم إلاّ برئ! ولا أكل من ورقها بعير إلاّ سمن، ولا شاة إلاّ درّ لبنها،

____________________

(١) سِيَر أعلام النبلاء: ٣: ٣١٣.

(٢) تذكرة الخواص: ٢٤٠.

(٣) المعجم الكبير: ٣: ١٢١ حديث رقم ٢٨٦٤، وراجع نظم دُرر السمطين ٢٢٠، إحقاق الحق ١١: ٥٠٢.

(٤) الصواعق المحرقة: ١٩٤.

(٥) اشتهرت بكُنيتها، واسمها عاتكة بنت خالد بن خليف بن منقذ بن ربيعة الخزاعية وكان منزلها بقديد، نزل عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين هاجر إلى المدينة. (راجع: الاستيعاب: ٤: ١٩٥٨).

٤١

فكنّا نُسميّها المباركة!

وينتابنا من البوادي، مَن يستشفي بها ويتزوّد بها، حتّى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها واصفّر ورقها! ففزعنا فما راعنا إلاّ نعي رسول الله، ثمّ إنّها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك من أسفلها إلى أعلاها، وتساقط ثمرها وذهبت نَضرتها! فما شعرنا إلاّ بمقتل أمير المؤمنين عليّ، فما أثمرت بعد ذلك، فكنّا ننتفع بورقها، ثمّ أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط! وقد ذبُل ورقها! فبينا نحن فزعين بورقها إذ أتانا خبر مقتل الحسين، ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت!)(١) .

____________________

(١) ربيع الأبرار: ١: ٢٨٥، وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٩٨، وإحقاق الحقّ: ١١: ٤٩٤.

٤٢

المقصد الأول

الفصل الثاني

الوقائع المتأخِّرة عن قتل الإمام الحسينعليه‌السلام

٤٣

٤٤

الفصل الثاني

الوقائع المتأخّرة عن قتلهعليه‌السلام

صورٌ من عواقب قتَلتِه وأعدائهعليه‌السلام :

لا شكّ في أنّ كلّ مَن اشترك في قتل سيّد شباب أهل الجنّة وسلْبه ونهْبه، ابتُلي ببليّة في دار الدنيا قبل الآخرة.

روى الخوارزمي في المقتل، عن مينا أنّه قال: (ما بقي من قَتَلَةِ الحسين أحدٌ لم يُقتل إلاّ رُمي ببلاء في جسده قبل أن يموت)(١) .

ونقل سبط ابن الجوزي، عن الزهري أنّه قال: (ما بقي منهم أحدٌ إلاّ وعوقِب في الدنيا، إمّا بالقتل، أو العَمى، أو سواد الوجه، أو زوال الملك في مدّة يسيرة)(٢) .

مَصير عبيد الله بن زياد لعنه الله:

قُتِل عبيد الله بن زياد (ل) على يد إبراهيم بن مالك الأشتر (ره) في وقعة الخازر، حيث التقاه في ميدان المعركة، فضربه ضربة بالسيف شرّقت منها يداه، وغرّبت رِجلاه، وكان ذلك في الليل، فلما تأكّدوا منه وجدوا أنّه عبيد الله بن زياد نفسه،

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ١: ١٠٤.

(٢) تذكرة الخواص: ٢٥٢.

٤٥

فاجتزّوا رأسه، وقال إبراهيم بن مالك: الحمد لله الذي أجرى قتله على يدي(١) .

وبعث إبراهيم بن مالك (ره) برأس عبيد الله بن زياد لعنه الله، ورؤوس الرؤساء من أهل الشام وفي آذانهم رقاع أسمائهم، فقدِموا على المختار وهو يتغدّى، فحمد الله تعالى على الظفر، فلما فرغ من الغداء قام فوطأ وجه ابن زياد بنعله، ثمّ رمى بها إلى غلامه وقال: اغْسِلها؛ فإنّي وضعتها على وجه نجس كافر(٢) .

وروى الخوارزمي بسنده، عن عمارة بن عمير قال: (لما جيء برأس عبيد الله بن زياد إلى المختار مع رؤوس أصحابه، نُضِّدت في المسجد في الرحْبة، فانتهيت إلى الناس وهم يقولون: قد جاءت! قد جاءت! فلم أدرِ! فإذا حيّة قد جاءت فتخلّلت الرؤوس حتّى دخلت في منخر عبيد الله بن زياد! فمكثت هُنيئة، ثمّ خرجت فذهبت حتّى تغيّبت، ثمّ قالوا: قد جاءت! قد جاءت! ففعلت ذلك أمامي مرّتين أو ثلاثاً!

قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث صحيح)(٣) .

(قال أبو عمر البزّاز: كنت مع إبراهيم بن مالك الأشتر، لما لقي عبيد الله بن زياد - لعنه الله - بالخازر، فعددنا القتلى بالقصب لكثرتهم. قيل: كانوا سبعين ألفاً، وصَلب إبراهيمُ ابنَ زياد مُنكَّساً، فكأنّي أنظر إلى خُصْيَيه كأنّهما جعلان!)(٤) .

____________________

(١) راجع: ذوب النضار: ١٣٢ - ١٣٨.

(٢) ذوب النضار: ١٤٢.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٩٦ / وروى أيضاً عن عبد الملك بن كردوس، عن حاجب عبيد الله قال: (دخلت القصر خلْف عبيد الله فاضطرم في وجهه ناراً! فقال هكذا بكُمّه على وجهه، والتفت إليّ فقال: هل رأيت؟ قلت: نعم. فأمرني أن أكتم ذلك!) (نفس المصدر: ٢: ٩٩).

(٤) ذوب النضار: ١٤٢ / وعن أبي الطفيل عامر بن وائلة الكناني قال: وضِعتْ الرؤوس عند السدّة =

٤٦

مَصير عمَر بن سعد لعنه الله:

كانت الندامة والحَسرة قد أكلت قلب عمر بن سعد لعنه الله؛ لأنّه لم يَنَلْ من ابن زياد ما كان يؤمَّله من مناصب الدنيا وأطماعها، وخرج من مجلس ابن زياد يُريد منزله إلى أهله (وهو يقول في طريقه: ما رجع أحدٌ مثل ما رجعت! أطعت الفاسق ابن زياد الظالم ابن الفاجر! وعصيت الحاكم العدل! وقطعت القرابة الشريفة! وهجَره الناس، وكان كلّما مرّ على ملأ من الناس أعرضوا عنه، وكلّما دخل المسجد خرج النّاس منه، وكلّ مَن رآه قد سبّه! فلزم بيته إلى أن قُتِل!)(١) .

وكان المختار (ره) قد أعطى عمر بن سعد الأمان بشرط ألاّ يُحدِث حدَثاً(٢) ، ولما علم عمَر بقول المختار فيه عزم على الخروج من الكوفة، فأحضر رجلاً اسمه مالك بن دومة وكان شجاعاً، وأعطاه أربعمئة دينار نفقة لحوائجهما، وخرجا من الكوفة، فلما كانا عند حمّام عمر أو نهر عبد الرحمان أطلع عمر صاحبه على نيّته في الهرب خوفاً من المختار، لكنّ صاحبه أقنعه بأنّ المختار أعجز من أن ينال عمَر بسوء، وأوحى إليه أنّه أعزّ العرب! فاغترّ بكلامه فرجعا إلى الكوفة، ولما علم المختار بخروجه من الكوفة قال: ألله أكبر! وفَينا له وغدَر! وفي عُنقه سلسلة لو جهد أن ينطلق لَما استطاع!

____________________

= بالكوفة، عليها ثوب أبيض، فكشفنا عنها الثوب وحيّة تتغلغل في رأس عبيد الله بن زياد! ونُصبت الرؤوس في الرحبة.

قال عامر: ورأيت الحيّة تدخل في منافذ رأسه وهو مصلوب مراراً!!) (نفس المصدر: ١٤٢ - ١٤٣).

(١) تذكرة الخواص: ٢٣٣.

(٢) قال الإمام الباقرعليه‌السلام :(إنّما قصد المختار (إلاّ أن تُحدِث حدَثاً!) هو أن يدخل بيت الخلاء ويُحدِث!) (راجع: ذوب النضار: ١٥٧).

٤٧

وأرسل عمَر ابنه إلى المختار فقال له: أين أبوك؟

قال: في المنزل - ولم يكونا يجتمعان عند المختار، وإذا حضر أحدهما غاب الآخر خوفاً أن يجتمعا فيقتلهما - فقال حفص: أبي يقول: أتفي لنا بالأمان؟

قال: اجلس! وطلب المختار أبا عمرة - وهو كيسان التمّار - فأسرّ إليه أن اقتُل عمر بن سعد، وإذا دخلت عليه وسمعته يقول: يا غلام! عليّ بطيلساني، فاعلم أنّه يُريد السيف، فبادره واقتله!

فلم يلبث أن جاء ومعه رأسه!

فقال حفص: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. فقال له: أتعرف هذا الرأس؟ قال: نعم، ولا خير في العيش بعده! فقال: إنّك لا تعيش بعده! وأمَر بقتله.

وقال المختار: عمَر بالحسينعليه‌السلام ، وحفص بعليّ بن الحسينعليه‌السلام ، ولا سواء، والله، لأقتلنّ سبعين ألفاً كما قُتل بيحيى بن زكرياعليهما‌السلام .

وقيل: إنّه قال: لو قتلت ثلاثة أرباع قريش، لَما وفوا بأنمُلة من أنامل الحسينعليه‌السلام (١) .

مَصير شمر بن ذي الجوشن لعنه الله:

قال مسلم بن عبد الله الضبابي: (كنا مع شمْر حين هزَمَنا المختار، فدنا منّا العبد(٢) ، فقال شمر: اركضوا وتباعدوا؛ لعلّ العبد يطمع فيّ! فأمعنّا في التباعد عنه،

____________________

(١) راجع: ذوب النضار: ١٢٦ - ١٢٩.

(٢) في ذوب النضار: ١١٦ / (ثمّ علم المختار أنّ شمر بن ذي الجوشن - لعنه الله - خرج هارباً ومعه نفر ممّن شرك في قتل الحسينعليه‌السلام ، فأمر عبداً له أسود - يُقال له: رزين. وقيل: زربي، ومعه عشرة وكان شجاعاً - يتّبعه فيأتيه برأسه).

٤٨

حتى لحقه العبد فحمل عليه شمر فقتله، ومشى فنزل في جانب قرية اسمها الكلتانيّة(١) على شاطئ نهر إلى جانب تلّ، ثمّ أخذ من القرية علْجاً فضربه، ودفع إليه كتاباً، وقال: عجّل به إلى مصعب بن الزبير فمشى العلْج حتّى دخل قرية فيها أبو عمرة بعثه المختار إليها في أمرٍ ومعه خمسمئة فارس، فأقرأ الكتاب رجلاً من أصحابه، وقرأ عنوانه، فسأل عن شمر وأين هو؟ فأخبره أنّ بينهم وبينه ثلاثة فراسخ قال مسلم بن عبد الله: قلت لشمر: لو ارتحلت من هذا المكان فإنّا نتخوّف عليك! قال: ويلكم! أكلّ هذا الجزع من الكذّاب؟! - والله - لا برحت فيه ثلاثة أيّام! فبينما نحن في أوّل النوم، إذ أشرفت علينا الخيل من التلّ وأحاطوا بنا، وهو عريان متّزرٌ بمنديل، فانهزمنا وتركناه!

فأخذ سيفه ودنا منهم فلم يكُ بأسرع أن سمعنا: قُتل الخبيث! قتله أبو عمرة، وقُتل أصحابه.

ثمّ جيء بالرؤوس إلى المختار، فخرّ ساجداً، ونُصبت الرؤوس في رحبة الحذّائين، حذاء الجامع)(٢) .

مَصير سنان بن أنس لعنه الله:

(وهرب سنان بن أنس لعنه الله إلى البصرة فهُدم داره، ثمّ خرج من البصرة نحو القادسيّة، وكان عليه عيون، فأخبروا المختار، فأخذه بين العذيب والقادسيّة، فقطّع أنامله ثمّ يديه ورجْليه، وأغلى زيتاً في قِدر وألقاه فيه)(٣) .

____________________

(١) الكلتانيّة: قرية ما بين السوس والصيمرة. (مراصد الإطّلاع: ٣/١١٧٤).

(٢) راجع: ذوب النضار: ١١٦ - ١١٨.

(٣) ذوب النضار: ١٢٠.

٤٩

مصير خولِّي بن يزيد الأصبحي لعنه الله:

(ثمّ بعث أبا عمرة، فأحاط بدار خولّي بن يزيد الأصبحي، وهو حامل رأس الحسينعليه‌السلام إلى عبيد الله بن زياد، فخرجت امرأته إليهم وهي النوّار ابنة مالك - كما ذكر الطبري في تأريخه - وقيل: اسمها العيّوف، وكانت مُحبّةً لأهل البيتعليهم‌السلام ، قالت: لا أدري أين هو؟! وأشارت بيدها إلى بيت الخلاء! فوجدوه وعلى رأسه قوصرة(١) ، فأخذوه وقتلوه، ثمّ أمر بحرقه)(٢) .

مَصير حكيم بن الطُّفيل السنبسي لعنه الله:

(ثمّ بعث عبد الله بن كامل إلى حكيم بن الطُّفيل السنبسي، وكان قد أخذ سلْب العبّاس ورماه بسهم، فأخذوه قبل وصوله إلى المختار، ونصبوه هدفاً، ورموه بالسهام)(٣) .

مَصير حرملة بن كاهل لعنه الله:

(حدّث المنهال بن عمرو قال: دخلت على زين العابدينعليه‌السلام أُودِّعه وأنا أُريد الانصراف من مكّة، فقال:(يا منهال! ما فعل حرملة بن كاهل؟!) . وكان معي بشر بن غالب، فقلت: هو حيٌّ بالكوفة!

فرفع يديه وقال:(اللّهمّ، أذِقْه حرّ الحديد، اللهمّ، أذِقْه حرّ الحديد، اللهمّ، أذِقْه حرّ النار!) .

قال المنهال: وقدمت إلى الكوفة والمختار بها فركبت إليه، فلقيته خارجاً من داره، فقال: يا منهال! ألم تشركنا في ولايتنا هذه؟

فعرّفته أنّي كنت بمكّة، فمشى حتّى أتى الكُناس، ووقف كأنّه ينتظر شيئاً! فلم يلبث أن جاء قوم فقالوا: أبشِر أيُّها

____________________

(١) القوصرة: وعاء للتمر يُصنع من نسج أوراق سعف النخيل.

(٢) ذوب النضار: ١١٨ - ١١٩.

(٣) ذوب النضار: ١١٩.

٥٠

الأمير فقد أُخذ حرملة! فجيء به، فقال: لعنك الله، الحمد لله الذي أمكنني منك! الجزّار الجزّار! فأُتي بجزّار، فأمره بقطع يديه ورجْليه، ثمّ قال: النّار النّار!، فأُتي بنار وقصب فأُحرق ...)(١) .

مَصير بَجْدل بن سليم لعنه الله:

وكان ممّن سلبوا الإمامعليه‌السلام ، وكانوا قد أتوا المختار به (وعرّفوه أنّه أخذ خاتمه وقطع إصبعه! فأمر بقطع يديه ورجْليه، فلم يزل ينزف حتّى مات)(٢) .

مَصير الذين وطأوا جسد الإمامعليه‌السلام بالخيل:

(قال موسى بن عامر: فأوّل مَن بدأ به(٣) الذين وطأوا الحسينعليه‌السلام بخَيلهم، وأنامهم على ظهورهم، وضرب سكك الحديد في أيديهم وأرجلهم، وأجرى الخيل عليهم حتّى قطّعتهم، وحرّقهم بالنار، ثمّ أخذ رجُلين اشتركا في دم عبد الرحمان بن عقيل بن أبي طالب وفي سلْبه، كانا في الجبّانة، فضرب أعناقهما، ثمّ أحرقهما بالنار، ثمّ أحضر مالك بن بشير(٤) فقتله في السوق)(٥) .

مَصير عمرو بن صبيح الصيداوي لعنه الله:

(وطلب عمرو بن صبيح الصيداوي(٦) ، فأتوه وهو على سطحه بعدما هدأت

____________________

(١) ذوب النضار: ١٢١.

(٢) ذوب النضار: ١٢٣.

(٣) أي المختار.

(٤) تذكره مصادر تأريخية أُخرى باسم: مالك بن النسر، وهو الذي سلب الإمامعليه‌السلام بُرنسه وكان من خزّ، وروي أنّه يبست يداه ولم يزل فقيراً بأسوء حال إلى أن مات. (راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٣٤).

(٥) ذوب النضار: ١١٨.

(٦) وهو أيضاً من الذين رضّوا جسد الإمامعليه‌السلام .

٥١

العيون، وسيفه تحت رأسه، فأخذوه وسيفه، فقال: قبّحك الله من سيف! ما أبعدك على قُربك!

فجيء به إلى المختار، فلما كان من الغَداة طعنوه بالرماح حتّى مات)(١) .

مَصير زيد بن رقاد الجهني لعنه الله:

(وأحضر زيد بن رقاد فرماه بالنبْل والحجارة وأحرقه)(٢) .

مصير أبجر بن كعب لعنه الله:

قال الخوارزمي: (وقال عبيد الله بن عمّار: رأيت على الحسين سراويل تلمع ساعة قُتِل، فجاء أبجر بن كعب فسلبه وتركه مُجرّداً! وذكر محمّد بن عبد الرحمان: أنّ يدي أبجر بن كعب كانتا تنضحان الدم في الشتاء وتيبسان في الصيف كأنّهما عود!)(٣) .

ويروي الخوارزمي أيضاً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال:(وجِد فيه (٤) ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، وأخذ سراويله بحير بن عمرو الجرمي فصار زمناً مُقعداً من رجْليه، وأخذ عمامته جابر بن يزيد الأزدي فاعتمّ بها فصار

____________________

(١) ذوب النضار: ١٢٢.

(٢) ذوب النضار: ١٢٠.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٤٣ - ٤٤ / ويُلاحَظ أنّ المصادر التأريخية المعتبرة الأُخرى أثبتت أيضاً اسم هذا اللعين: أبجر بن كعب، كما في تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٣، والإرشاد: ٢: ١١٠، وإعلام الورى: ١: ٤٦٨، واللهوف: ١٧٨، والمناقب لابن شهر آشوب: ٤: ١٢٠، وتذكرة الخواص: ٢٢٨، وورد في الدرّ النظيم: ٥٥٧: الحرّ بن كعب، والظاهر أنّه تصحيف، وقال المحقّق السماوي في إبصار العين: ٧٤: (ويمضي في بعض الكُتب ويجري على بعض الألسن: أبحر بن كعب، وهو غلط وتصحيف).

(٤) أي الحسينعليه‌السلام .

٥٢

مجذوماً، وأخذ مالك بن نسر الكندي درعه فصار معتوهاً ...) (١) .

مَصير أحد سالبي الإمامعليه‌السلام :

(ورُئي رجل بلا يدَين ولا رجْلين وهو أعمى، يقول: ربِّ، نجّني من النّار! فقيل له: لم تبقَ عليك عقوبة وأنت تسأل النجاة من النار؟ قال: إنّي كنت في مَن قاتل الحسين بن عليّ في كربلاء، فلما قُتل رأيت عليه سراويل وتكّة حسنة، وذلك بعدما سلَبه الناس، فأردت أن أنتزع التكّة، فرفع يده اليمنى ووضعها على التكّة، فلم أقدر على دفعها فقطعت يمينه! ثمّ أردت انتزاع التكّة، فرفع شماله ووضعها على التكّة، فلم أقدر على دفعها فقطعت شماله، ثمّ هممت بنزع السراويل! فسمعت زلزلة فخفت وتركته، فألقى الله عليّ النوم، فنمت بين القتلى، فرأيت كأنّ النبيّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل ومعه عليّ وفاطمة والحسنعليهم‌السلام ، فأخذوا رأس الحسين، فقبّلتْه فاطمة وقالت:يا بنيّ، قتلوك! قتلهم الله! وكأنّه يقول:ذبحني شمر، وقطع يدي هذا النائم! وأشار إليّ.

فقالت فاطمة:قطع الله يديك ورجليك، وأعمى بصرك وأدخلك النار ، فانتبهت وأنا لا أُبصر شيئاً، ثمّ سقطت يداي ورجلاي منِّي! فلم يبقَ من دعائها إلاّ النار!)(٢) .

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ٤٢.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٢: ١١٥، وفي اللهوف: ١٨٣: (وروى ابن رباح قال: لقيت رجلاً مكفوفاً قد شهد قتل الحسين، فسُئل عن ذهاب بصَره.

فقال: كنت قد شهدت قتله عاشر عشرة، غير أنّي لم أطعن ولم أضرب ولم أرمِ، فلما قُتل رجعت إلى منزلي وصلّيت العشاء الآخرة، ونمت، فأتاني آتٍ في منامي فقال: أجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فقلت: مالي وله؟!

فأخذ بتلابيبي وجرّني إليه، فإذا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في صحراء، حاسر عن ذراعيه، آخذ بحربة! ومَلَكٌ قائم بين يديه وفي يديه سيف من نار يقتل أصحابي التسعة، فلما ضرب ضربة التهبت أنفسهم ناراً! فدنوت منه وجثوت بين يديه وقلت: السلام عليك يا رسول الله. فلم يردّ عليّ، =

٥٣

وروى الخوارزمي عن أبي عبد الله غلام الخليل قال: (حدّثنا يعقوب بن سليمان قال: كنت في ضيعتي فصلّينا العُتمة، وجعلنا نتذاكر قتل الحسينعليه‌السلام ، فقال رجل من القوم: ما أعان أحدٌ عليه إلاّ أصابه بلاءٌ قبل أن يموت. فقال شيخ كبير من القوم: أنا ممّن شهدها، وما أصابني أمرٌ كرهته إلى ساعتي هذه!

وخبا السِراج، فقام ليُصلحه فأخذته النار! وخرج مُبادراً إلى الفرات وألقى نفسه فيه، واشتعل وصار فحمة!)(١) .

____________________

= ومكث طويلاً، ثمّ رفع رأسه وقال:يا عدوّ الله! انتهكت حُرمتي! وقتلت عترتي! ولم ترعَ حقّي وفعلت ما فعلت! فقلت: يا رسول الله، والله، ما ضربت بسيف، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم. فقال:صدقت، ولكن كثّرت السواد، اُدنُ منّي! فدنوت منه فإذا طشت مملوٌّ دماً! فقال لي:هذا دم ولدي الحسين عليه‌السلام ! فكحَّلني من ذلك الدم، فانتبهت حتى الساعة لا أبصر شيئاً!)، ورواه الخوارزمي أيضاً في المقتل: ٢: ١١٧ - ١١٨ وفيه ابن رماح بدلاً من ابن رباح، وقال الخوارزمي: وأورد هذا الحديث مجد الأئمة السرخسي ورواه عن أبي عبد الله الحدّاد، عن الفقيه أبي جعفر الهنداوني

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام / للخوارزمي: ٦٢ على ما في طبعة الغري / نقلاً عن إحقاق الحق: ١١: ٥٣٦، ورواه الخوارزمي، أيضاً في المقتل: ٢: ١١١ عن عطاء بن مسلم، عن السدّي، بتفاوت، والشيخ المحترق فيه من قبيلة طيّ، ورواه ابن حجر في صواعقه، ١٩٣ عن أبي الشيخ بتفاوت.

وانظر: تهذي التهذيب: ٢: ٣٥٣، وتذكرة الخواص: ٢٩٢، ووسيلة المآل لأحمد بن الفضل بن محمّد بن كثير: ١٩٧ (على ما في إحقاق الحقّ: ١١: ٥٣٨)، وانظر: نظم درر السمطين للزرندي: ٢٢٠، وسير أعلام النبلاء: ٣: ٢١١، وينابيع المودّة: ٣٢٢، وإسعاف الراغبين: ١٩١، وجواهر المطالب: ٢: ٢٨٩، وبشارة المصطفى للطبري: ٤٢٦ رقم ٣.

٥٤

نَهب المخيَّم الحسيني:

لم يكتفِ جلاوزة بني أُميّة، أعداء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعد قتل الإمامعليه‌السلام بسلْبه ورضِّ جسده الطاهر بحوافر الخيل، بل جاوزوا المدى، فعدوا على المخيّم؛ لنهب ما فيه، ولهتك ستْر حُرَم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بسلْب ما عليهن من حُليّ وحجاب بصورة فجيعة يَندى لها جبين كلّ أبيّ غيور! وما أحسن ما قال اليافعي: (لما قُتل السادة الأخيار، مال الفجرة الأشرار إلى خيام الحريم المصونة وهتكوا الأستار!)(١) .

وقال الدينوري: (ثمّ مال الناس على ذلك الوَرْس الذي كان أخذه من العِير، وإلى ما في المضارب فانتهبوه!)(٢) .

وروى الطبري، عن أبي مخنف قائلاً: (ومال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، فإن كانت المرأة لتُنازع ثوبها عن ظهرها حتى تُغلَب عليه فيُذهب به منها!)(٣) .

ويقول السيّد ابن طاووس (ره): (وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقرّة عين الزهراء البتول، حتّى جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها، وخرجن بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحريمه يتساعدن على البكاء ويندبن لفِراق الحماة والأحبَّاء)(٤) .

وكان نهب المخيّم بأمرٍ مُباشر من عمر بن سعد! قال الإسفراييني: (قال (أي عمر بن سعد): دونكم الخيام انهبوها!

فدخلوا وجعلوا يسلبون ما على الحريم

____________________

(١) مرآة الجنان: ١: ١٣٥.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٥٨.

(٣) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٤، وانظر: الإرشاد: ٢: ١١٢، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٥.

(٤) اللهوف: ١٨٠.

٥٥

والأطفال من اللباس! ثمّ قطَّعوا الخيام بالسيوف، فخرجت أمّ كلثوم وقالت:

يا بن سعد، الله يحكم بيننا وبينك! ويحرمك شفاعة جدّنا! ولا يسقيك من حوضه كما فعلت بنا وأمرت بقتال سبط الرسول، ولم ترحم صبيانه، ولم تُشفِق على نسائه! فلم يلتفت إليها)(١) .

وكان المبادر لتنفيذ هذا العمل المخزي شمر بن ذي الجوشن! يقول حسام الدين في الحدائق الوردية: (وأقبل شمر بن ذي الجوشن إلى الخيام، وأمر بسلب كلّ ما مع النساء، فأخذوا كلّ ما في الخيمة، حتّى أخذوا قِرطاً في أذُن أمّ كلثوم وخرموا أذنها، وفرغ القوم من القسمة، وضربوا فيها النار!)(٢) .

وروى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن عبد الله بن الحسنعليهما‌السلام ، عن أمّه فاطمة(٣)،

____________________

(١) نور العين في مشهد الحسينعليه‌السلام : ٤٦.

(٢) الحدائق الوردية: ١٢٣، وانظر: مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٤: ١١٢ وفيه: (وقصد شمر إلى الخيام، فنهبوا ما وجدوا حتّى قُطِعت أُذن أمّ كلثوم لحلقة!).

(٣) هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشيّة الهاشميّة المدنية.

روت عن بلال المؤذِّن مُرسلاً، وعن أبيها الحسينعليه‌السلام ، وعن عبد الله بن عباس، وأخيها زين العابدينعليه‌السلام ، وعن أسماء بنت عميس، وعن عمّتها زينب العقيلةعليها‌السلام ، وعن عائشة، وعن جدّتها فاطمة الكبرى بنت رسول الله مُرسلاً.

وروى عنها: أبناؤها: إبراهيم بن الحسين المثنّى، وأخوه الحسن المثلّث، وأخوه عبد الله بن الحسن المثنّى، وغيرهم (راجع: تهذيب الكمال: ٢٥: ٢٥٤).

قال ابن سعد: أمّها أمّ إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، وتزوّجها ابن عمّها حسن بن حسن، فولدت له عبد الله وإبراهيم وحسناً وزينب (الطبقات: ٧: ٤٧٣، وانظر: مقاتل الطالبين: ١٧١).

وهي التي قال فيها الحسينعليه‌السلام لابن أخيه الحسن المثنّى: إنّي اخترت لك ابنتي فاطمة، فهي أكثرهما شبهاً بأمّي فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . (راجع: مُستدركات علم رجال الحديث: =

٥٦

بنت الحسينعليهما‌السلام قالت:(دخلت الغاغة علينا الفسطاط وأنا جارية صغيرة، وفي رجْليّ خلخالان من ذهب، فجعل رجلٌ يفضّ الخلخالين من رجْلي وهو يبكي! فقلت: ما يُبكيك يا عدوّ الله؟! فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله!

فقلت: لا تسلبني. قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه!

____________________

= ٨: ٥٩٢).

روى العلاَّمة المجلسي في البحار ٢٦: ٢١٤، عن أبي المقدام قال: كنت أنا وأبي (المقدام) حاجَّين، قال: فماتت أمُّ أبي المقدام في طريق المدينة، قال: فجئت أُريد الإذن على أبي جعفرعليه‌السلام فإذا بغلته مسرجة، وخرج ليركب، فلما رآني قال:(كيف أنت يا أبا المقدام؟) . قال: قلت: بخير جُعلت فداك. ثم قال:(يا فلانة استأذني على عمّتي) . قال: ثمّ قال:(لا تعجل حتى آتيك) . قال: فدخلت على عمّته فاطمة بنت الحسين، وطرحتْ لي وسادة فجلست عليها، ثمّ قالت: كيف أنت يا أبا المقدام؟ قلت: بخير جعلني الله فداكِ، يا بنت رسول الله.

قال: قلت: يا بنت رسول الله، شيء من آثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . قال: فدعت وُلْدها فجاؤوا خمسة، فقالت: يا أبا المقدام، هؤلاء لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودمه. وأرتني جفنة فيها وضرُ عجين، وضبّابته حديد، فقالت: هذه الجفنة التي أُهديت إلى رسول الله ملاء لحم وثريد! قال: فأخذتها وتمسّحت بها!

وقال العلاّمة المجلسي: وكون الجفنة عندها يُنافي سائر الأخبار، إلاّ أن يكون الإمامعليه‌السلام أودعها عندها مع أنّها حينئذ كانت في بيتهعليه‌السلام كما هو ظاهر الخبر.

وقال النمازي: وهي أكبر من سكينة. وبالجملة، لا نظير لها في التقوى والكمال والفضائل والجمال؛ ولذا تُسمّى الحور العين!

توفِّيت في المدينة سنة ١١٧ هـ. (راجع مُستدركات علم رجال الحديث ٨: ٥٩٢).

وكانت فيمَن قدم دمشق بعد قتل أبيها، ثمّ خرجت إلى المدينة. (تهذيب الكمال: ٣٥: ٢٥٥) وروى لها أبو داود، والترمذي، والنسائي في مُسند عليّ، وابن ماجة.

٥٧

قالت: وانتهبوا ما في الأبنية حتّى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا!) (١) .

وقال ابن نما (ره): (ثمّ اشتغلوا بنهب عيال الحسين ونسائه، حتّى تُسلب المرأة مقنعتها من رأسها، أو خاتمها من أصبعها، أو قُرطها من أُذنها، وحِجلها من رجْلها، وجاء رجل من سنبس(٢) إلى ابنة الحسينعليه‌السلام وانتزع ملحفتها من رأسها، وبقين عرايا تراوحهنّ رياح النوائب وتعبث بهنّ أكفّ المصائب، قد غشيهنّ القدَر النازل، وساورهنّ الخطْب الهائل ...)(٣) .

____________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق: ١٣٩ - ١٤٠ المجلس ٣١، حديث رقم ٢ / وفي بعض النُسَخ (دخلت الغنمة علينا ...) وفي أُخرى (العامة)، والغاغة مأخوذة من الغوغاء، وأصل الغوغاء الجُراد حين يخفّ للطيران، ثمّ استُعير للسَّفلة من الناس والمتسرِّعين إلى الشرّ. (راجع: لسان العرب: ١٠: ١٤٦)، ورواه ابن سعد في طبقاته أيضاً، راجع: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد: ٧٨، وانظر: سيَر أعلام النبلاء: ٣: ٣٠٣.

(٢) سنبس: اسم قبيلة هذا الرجل، فهو سنبسي.

(٣) مُثير الأحزان: ٧٦ / وينقل العلاّمة المجلسي (ره) قائلاً: (رأيت في بعض الكتب أنّ فاطمة الصغرى قالت: كنت واقفة بباب الخيمة، وأنا أنظر إلى أبي وأصحابه مُجزّرين كالأضاحي على الرمال، والخيول على أجسادهم تجول، وأنا أُفكّر فيما يقع علينا بعد أبي من بني أُميّة: أيقتلوننا أو يأسروننا؟ فإذا برجل على ظهر جواده يسوق النساء بكعب رمحه، وهنّ يلُذن بعضهنّ ببعض، وقد أخذ ما عليهنّ من أخمرة وأسورة، وهنّ يصحنَ: وا جدّاه، وا أبتاه، وا عليّاه، وا قلّة ناصراه، وا حسناه! أما من مُجير يُجيرنا؟ أما من ذائد يذود عنّا؟ قالت: فطار فؤادي وارتعدت فرائصي، فجعلت أُجيل بطرفي يميناً وشمالاً على عمّتي أمّ كلثوم؛ خشية منه أن يأتيني، فبينا أنا على هذه الحالة، وإذا به قد قصدني ففررت منهزمة، وأنا أظنّ أنِّي أسلم منه، وإذا به قد تبعني فذُهلت خشية منه، وإذا بكعب الرمح بين كتفيّ فسقطت على وجهي، فخرم أُذني وأخذ قُرطي ومقنعتي، وترك الدماء تسيل على خدّي، ورأسي تصهره الشمس، وولىّ راجعاً إلى الخيم، وأنا مغشيّ عليّ، وإذا أنا بعمّتي عندي تبكي وهي تقول: قومي نمضي! ما أعلم ما جرى على البنات وأخيك العليل؟ =

٥٨

روى ابن شهر آشوب، عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال:

(إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يُحرِّمون القتال فيه، فاستُحلّت فيه دماؤنا! وهُتك فيه حُرمتنا! وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا! وأُضرمت النيران في مضاربنا! وانتُهب ما فيها من ثقلنا!) (١) .

____________________

= فقمت وقلت: يا عمّتاه، هل من خرقة أستر بها رأسي عن أعين النُّظّار؟ فقالت: يا بنتاه، وعمّتك مثلك! فرأيت رأسها مكشوفاً وقد اسودّ من الضرب، فما رجعنا إلى الخيمة إلاّ وهي قد نُهبت وما فيها، وأخي عليّ بن الحسين مكبوب على وجهه لا يُطيق الجلوس من كثرة الجوع والعطش والأسقام، فجعلنا نبكي عليه ويبكي علينا) (البحار: ٤٥: ٦٠ - ٦١).

ويقول الإسفراييني في كتابه - نور العين في مشهد الحسينعليه‌السلام ص٤٥ -: (قالت زينب أخت الحسين: كنّا ذلك الوقت جلوساً في الخيام، إذ دخل علينا رجال فيهم رجل أزرق العيون، فأخذ كلّ ما كان في خيمتنا التي كنّا مجتمعين فيها، ثمّ نظر إلى علي بن الحسين، وهو مطروح على قطعة من الأديم، فجذبها من تحته ورماه على الأرض، ثمّ أخذ قناعي من رأسي، ونظر إلى قِرط في أذُني، فعالجه وقرضه بأسنانه، فخرم أذُني ونزعه، وجعل الدم يسيل على ثيابي، وهو مع ذلك يبكي! ثمّ نظر إلى خلخال كان في رجلَيْ فاطمة الصغرى، فجعل يُعالجها حتّى كسرهما وخرج الخلخال منهما، فقالت له: أتسلبنا وأنت تبكي؟! فقال: أبكي لِما حلّ بكم أهل البيت!!

قالت زينب: فخنقتني العَبرة من وجع أذُني وبكاء فاطمة، فقلت له: قطع الله يديك ورجليك، وأذاقك الله النار في الدنيا قبل الآخرة!

فقال: والله، لا جاوزت دعوتها ثمّ قطع يديه ورجليه وأحرقه بالنار وذهب).

(١) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٢: ٢٠٦، وانظر: مُسند الإمام الشهيد: ٢: ١٩٦.

٥٩

محاولة قتل الإمام زين العابدينعليه‌السلام !

لا شكّ في أنّ الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام كان حاضراً في كربلاء مع أبيهعليه‌السلام ، وكان مريضاً، وهذا ممّا تسالم عليه التاريخ، وكان شمر بن ذي الجوشن قد سعى بعد قتل الإمام الحسينعليه‌السلام إلى قتل البقيّة الباقية، من ذريّة الحسينعليه‌السلام مُتمثّلة بابنه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وكان ذلك بأمر صادر عن ابن زياد لعنه الله، كما صرّح شمر نفسه بهذا(١) .

قال الشيخ المفيد (ره) في كتابه الإرشاد: (قال حميد بن مسلم: فوالله، لقد كنت أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله، تُنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تُغلب عليه فيُذْهَب به منها، ثمّ انتهينا إلى عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجّالة، فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل؟

فقلت: سبحان الله! أيُقتل الصبيان؟! إنّما هو صبيّ وإنّه لما به! فلم أزل حتّى رددتهم عنه.

وجاء عمر بن سعد، فصاح النساء في وجهه وبكين، فقال لأصحابه: لا يدخل أحدٌ منكم بيوت هؤلاء النسوة، ولا تعرّضوا لهذا الغلام المريض.

وسألته ليسترجع ما أُخذ منهنّ ليتستّرنّ به، فقال: مَن أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه عليهن!

فوالله، ما رَدّ أحدٌ منهم شيئاً، فوكَّل بالفسطاط وبيوت النساء، وعليّ بن الحسين، جماعة ممّن كانوا معه وقال: احفظوهم؛ لئلاّ يخرج منهم أحد، ولا تُسيئُنّ إليهم!)(٢) .

____________________

(١) كان الشمر قد أجاب مَن طلب إليه ألاّ يقتل الإمام السجّادعليه‌السلام قائلاً: (قد صدر أمر الأمير عبيد الله، أن أقتل جميع أولاد الحسينعليه‌السلام ) (راجع: معالي السبطين: ٢: ٨٧).

(٢) الإرشاد: ٢: ١١٢ - ١١٣، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٥.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاَّ الماء، وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه. ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك. فلمّا أصبحوا أخذ عليرضي‌الله‌عنه بيد الحسن والحسين، وأقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشدَّ ما يسوءني ما أرى بكم.

وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال: خذها يا محمد، هنَّاك الله في أهل بيتك. فأقرأه السورة.

وأمّا تفسير الآيات مع رعاية الاختصار والإيجاز:

( إِنَّ الْأَبْرَارَ ) الأبرار: جمع بارّ أو برّ، وهم علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ( يَـشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ) هي الزجاجة إذا كان فيها الشراب أو المراد من الكأس نفس الشراب لا الزجاجة( كَانَ مِزَاجُهَا ) الذي تمزج به من عين في الجنّة تُسمّى( كَافُورًا ) لأنّ ماءها في بياض الكافور وبرودته لا في خواصه وآثاره، ومن الممكن أنّ كافور اسم عين في الجنّة بدليل قوله تعالى( عَيْنًا ) كأنّها عطف أو بدل من كافور أي تفسير له( شْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّـهِ ) الكاملون في العبادة الذين ذكرهم في كتابه( وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴿63﴾ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ) إلى آخر الآيات الدالة على الصفات الكاملة.

( يُفَجِّرُونَهَا ) يفجرونها حيث شاءوا( تَفْجِيرًا ) سهلاً يسيراً( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) إنّهم استحقّوا هذا الجزاء بسبب وفائهم بالنذر؛ لأنّ النذر هو ما

١٨١

يوجبه الإنسان على نفسه فإذا وفى بالنذر فهو بما أوجب الله عليه كان أوفى( وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) منتشراً( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ ) أي بالرغم من حبِّهم للطعام لشدَّة جوعهم بسبب الصوم( مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) كل ذلك حبّاً للخير وإيثاراً على أنفسهم، وإشفاقاً على المسكين ورأفة باليتيم وعطفاً على الأسير( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّـهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ) بفعل تفعلونه( وَلَا شُكُورًا ) بقول تقولونه، قال مجاهد: إنّهم لم يقولوا حين أطعموا الطعام شيئاً، وإنّما علمه الله منهم فأثنى به عليهم.

( إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) شديد العبوس، تشبيهاً له في تخويفه بالأسد العبوس أو الحاكم المتنمّر العبوس.

( فَوَقَاهُمُ اللَّـهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ ) تأميناً لهم من شرّه وضرّه( وَلَقَّاهُمْ نَـضْرَةً ) في وجوههم( وَسُرُورًا ) في قلوبهم ( وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا ) على الإيثار مع شدّة الجوع( جَنَّةً وَحَرِيرًا ) ثم ذكر الله أحوالهم في الجنة( مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ) في منتهى الراحة والرفاهية( لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا ) يؤذي حرّها( وَلَا زَمْهَرِيرًا ) يؤذي برده.

( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ) يسهل عليهم اقتطاف فواكه الجنّة( وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ ) خلقها الله بإرادته( كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴿15﴾ قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ) على حسب ما تشتهي أنفسهم وتتمنّى قلوبهم في التكيّف بالكيفيّات المخصوصة إلى آخر السورة التي في وصف نعم الجنّة ونعيمها وعيون تسمّى زنجبيلاً وسلسبيلاً. والخدم الذين يخدمونهم والمـُلك الكبير الذي يكون لهم مع النعيم والملابس

١٨٢

الخُضر من الإستبرق، والزينة التي يتزيّنون بها، والشراب الطهور الذي يشربونه.

والعجيب أنّ الله تعالى ذكر في هذه السورة الكثير الكثير من نعم الجنّة، ولم يذكر - هنا - الحور العين؛ لأنّ الآية نزلت في حق علي وفاطمة وولديهما، فحفظ الله لفاطمة الزهراء جلالتها إذ لم يذكر - عزّ وجل - الحور العين كرامة لسيّدة نساء العالمين.

١٨٣

فاطمة الزهراءعليها‌السلام في آية النور

قال تعالى:( اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ... ) (1) .

روى الحافظ ابن المغازلي الشافعي - في كتاب المناقب - بالإسناد إلى علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن [ الكاظم ]عليه‌السلام عن قوله (عزّ وجلّ):( كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) ؟

قالعليه‌السلام : المشكاة: فاطمة، والمصباح: الحسن، والحسين: الزجاجة.

( كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) : قال: كانت فاطمة كوكباً دُريّاً بين نساء العالمين...( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) قال: يكاد العِلم أن ينطق منها(2) .

أقول: لقد مرّت عليك بعض الأحاديث التي تتحدّث عن نور الزهراء الزاهر المشرق.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: (... ونور ابنتي فاطمة من نور الله...)(3) .

____________________

(1) النور: 35.

(2) المناقب ص 317.

(3) بحار الأنوار ج 15 ص 10.

١٨٤

مكانة فاطمة الزهراء عند أبيها

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ من الصعب المستصعب تحديد مكانة السيدة فاطمة الزهراء عند أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الصحيح أن يقال: إنّه خارج عن قدرة القلم واللسان، والتحليل والبيان.

ويمكن لنا أن نجمل القول ونوجزه فنقول:

كانت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام قد حلّت في أوسع مكان من قلب أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقعت في نفسه الشريفة أحسن موقع.

فكان النبي يحبّها حبّاً لا يشبه محبّة الآباء لبناتهم، إذ كان الحب مزيجاً بالاحترام والتعظيم، فلم يعهد من أي أبٍ في العالم ما شوهد من رسول الله تجاه السيدة فاطمة الزهراء.

ولم يكن ذلك منبعثاً من العاطفة الأبوية فحسب، بل كان الرسول ينظر إلى ابنته بنظر الإكبار والإجلال؛ وذلك لما كانت تتمتّع به السيدة فاطمة من المواهب والمزايا والفضائل، ولعلّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مأموراً باحترامها وتجليلها، فما كان يَدَعُ فرصةً أو مناسبةً تمرّ به إلاّ وينوّه بعظمة ابنته، ويشهد بمواهبها ومكانتها السامية عند الله تعالى وعند رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

مع العلم أنّه لم يُسمع من الرسول ذلك الثناء المتواصل الرفيع

١٨٥

ولا معشاره في حق بقيّة بناته.

ولم يكن ثناؤه عليها اندفاعاً للعاطفة والحُبِّ النفسي فقط، بل ما كان يسع له السكوت عن فضائل ابنته ودرجتها السامية عند الله تعالى. ولو لم يكن لها عند الله تعالى فضل عظيم لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل معها ذلك؛ إذ كانت ولده وقد أمر الله بتعظيم الولد للوالد، ولا يجوز أن يفعل معها ذلك، وهو بضدّ ما أمر به أُمَّته عن الله تعالى.

وكان ذلك كلّه لأسباب منها:

كشفاً للحقيقة، وإظهاراً لمقام ابنته عند الله وعند الرسول، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم ما سيجري على ابنته العزيزة من بعده من أنواع الظلم والاضطهاد والإيذاء وهتك الحرمة؛ ولهذا أراد الرسول أن يتمّ الحجّة على الناس، حتى لا يبقى لذي مقالٍ مقالٌ أو عذر، وإليك هذه الأحاديث التي تدل على ما كانت تتمتّع به السيدة فاطمة من المكانة في قلب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

رُوي عن الإمام الصادق، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن السيدة فاطمةعليها‌السلام قالت: (لما نزلت: ( لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً ) هبِتُ رسول الله أن أقول له: يا أبة. فجعلت أقول: يا رسول الله. فأقبل عليَّ فقال: يا فاطمة إنّها لم تنزل فيكِ ولا في أهلكِ ولا في نسلكِ، أنتِ منّي وأنا منك، إنّما نزلت في أهل الجفاء والبذخ والكبر من قريش، قولي: يا أبة؛ فإنّها أحيى للقلب وأرضى للرب، ثم قبَّل النبي جبهتي...)(1) .

أيضاً: عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً أشبه

____________________

(1) المناقب لابن المغازلي الشافعي ص 364.

١٨٦

كلاماً وحديثاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحَّب بها وقبَّل يديها وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه فرحَّبت به وقبّلت يديه... إلى آخره.

وسأل بزل الهروي الحسينَ بن روح قال: كم بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

قال: أربع.

فقال: أيّتهن أفضل؟

قال: فاطمة.

قال: ولِمَ صارت أفضل وكانت أصغرهنّ سنّاً وأقلّهنّ صحبة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

قال: لخصلتين خصّها الله بهما:

1 - أنّها ورثت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

2 - ونسل رسول الله منها، ولم يخصّها بذلك إلاّ بفضل إخلاصٍ عرفه من نيّتها.

وعن حذيفة قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينام حتى يقبّل عرض وجه فاطمة...(1) .

وعن ابن عمر: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبَّل رأس فاطمة وقال: فداكِ أبوكِ، كما كنت فكوني(2) .

وفي روايةٍ: فداكِ أبي وأُمّي(3) .

وعن عائشة: قبَّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحر فاطمة.

____________________

(1) و (2) مقتل الحسين للخوارزمي الحنفي ص 66.

(3) مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري الشافعي ج3 ص 165.

١٨٧

وفي رواية: فقلت: يا رسول الله فعلتَ شيئاً لم تفعله؟

فقال: يا عائشة إني إذا اشتقتُ إلى الجنّة قبّلت نحر فاطمة(1) .

وعن عائشة قالت: كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قدم من سفر قبَّل نحر فاطمة وقال: منها أشمّ رائحة الجنّة(2) .

أقول: قد ذكرنا شيئاً من هذه الأحاديث في أوائل الكتاب.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (رائحة الأنبياء: رائحة السفرجل، ورائحة الحور العين: رائحة الآس، ورائحة الملائكة: رائحة الورد، ورائحة ابنتي فاطمة الزهراء: رائحة السفرجل والآس والورد)(3) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (... ولو كان الحُسن شخصاً لكان فاطمة، بل هي أعظم، إنّ ابنتي فاطمة خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً)(4) .

وعن الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (فاطمة بهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بَصري، والأئمّة من ولدها أُمناء ربّي، وحبله الممدود بينه وبين خَلقه، مَن اعتصم به نجا، ومَن تخلّف عنه هوى)(5) .

وروي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناول الزهراء ماءاً، فشربت فقال لها: (هنيئاً مريئاً يا أُمَّ الأبرار الطاهرين) إلى آخر الحديث(6) .

____________________

(1) ذخائر العقبى للمحب الطبري ص 36، وسيلة المآل للحضرمي ص 79 طبعة المكتبة الظاهرية بدمشق.

(2) ينابيع المودَّة للقندوزي الحنفي ص 260.

(3) بحار الأنوار، كتاب الأطعمة والأشربة، باب السفرجل.

(4) فرائد السمطين للجويني الشافعي ج 2 ص 68.

(5) فرائد السمطين للجويني الشافعي ج 2 ص 66.

(6) بحار الأنوار ج 76 ص 67.

١٨٨

وعن فاطمة الزهراءعليها‌السلام قالت: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ألا أُبشِّرك؟ إذا أراد الله أن يتحف زوجة وليِّه في الجنّة، بعث إليك تبعثين إليها من حُليِّك)(1) .

وبهذه الأحاديث الآتية - الصحيحة عند الفريقين - يمكن لنا أن نطّلع على المزيد من الأسباب والعلل التي كوَّنت في سيّدة نساء العالمين تلك القداسة والعظمة والجلالة:

1 - قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفضل نساء أهل الجنّة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم (امرأة فرعون) ومريم بنت عمران(2).

2 - وقال أيضاً: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد(3) .

3 - وقال أيضاً: حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون(4) .

هذه أحاديث ثلاثة تصرِّح بتفضيل هذه السيّدات الأربع على سائر

____________________

(1) دلائل الإمامة ص 2.

(2) مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 293، الاستيعاب لابن عبد البر الأندلسي ج 2 ص 750 في ترجمة السيدة خديجة، مستدرك الصحيحين للحاكم ج 3 ص 160، الاعتقاد للحافظ البيهقي ص 165، تاريخ الإسلام للذهبي ج 3 ص 92 أسد الغابة لابن الأثير الجزري ج 5 ص 437 وغيرها.

(3) المصدر السابق.

(4) الاستيعاب، لابن عبد البر الأندلسي ج 2 ص 750، مشكل الآثار للطحاوي ج 1 ص 48، مستدرك الصحيحين للحاكم ج 3 ص 157، معالم التنزيل للحافظ البغوي الشافعي ج 1 ص 291 وغيرها.

١٨٩

نساء العالم، إلاّ أنّها لا تصرِّح ببيان الأفضل من تلك الأربع، ولكنّ الأحاديث المتواترة المعتبرة تصرِّح بتفضيل السيدة فاطمة الزهراء عليهنّ وعلى غيرهن.

ونحن لا نشك في ذلك، بل نعتبره من الأمور المسلَّمة المتفق عليها؛ لأنّها بضعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا نعدل بها أحداً.

ولم ننفرد بهذه الحقيقة، بل وافقنا على ذلك الكثير الكثير من العلماء والمحدّثين المنصفين، من المتقدّمين منهم والمتأخّرين والمعاصرين، بل صرَّح بذلك بعضهم، وإليك بعض أقوال أُولئك الأعلام:

عن مسروق قال: حدثتني عائشة أُم المؤمنين قالت: إنا كنّا أزواج النبي عنده لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي، لا والله ما تخفي مشيتُها من مشية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رآها رحَّب بها وقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها(1) فبكت بكاءً شديداً، فلمّا رأى حزنها سارّها الثانية! فإذا هي تضحك، فقلت لها - أنا من بين نسائه -: خصّكِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسرّ من بيننا، ثم أنتِ تبكين؟

فلما قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألتها: عمّا سارّك؟

قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله سرَّه. فلمّا توفّي قلت لها: عزمتُ عليك بما لي عليك من الحق (!!) لما أخبرتيني!

قالت: أما الآن فنعم، فأخبرتني قالت: سارَّني في الأمر الأول فإنّه أخبرني أنّ جبرائيل كان يعارضه (القرآن) كل سنة(2) وأنّه قد عارضني به

____________________

(1) أي: أسرّ إليها.

(2) هكذا وجدنا في المتن، والأصح: يعارضني، كما في مصادر أُخرى.

١٩٠

العام مرّتين، ولا أرى الأجل إلاَّ قد اقترب، فاتقي الله واصبري فإنّي نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزعي سارَّني الثانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين أو سيّدة نساء هذه الأُمّة؟(1) .

وفي رواية البغوي في (مصابيح السنة): ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين وسيّدة نساء هذه الأُمّة، وسيّدة نساء المؤمنين؟

والأحاديث التي تصرّح بسيادتها وتفضيلها على نساء العالمين كثيرة جدّاً، وجُلّها مرويّة عن: عائشة، وعن عمران بن حصين، وعن جابر بن سمرة، وعن ابن عباس، وأبي بريدة الأسلمي، وغيرهم، وقد روى البخارى هذا الحديث في الجزء الرابع ص 203 من صحيحه، وعدد كثير من علماء العامّة كالقسطلاني والقندوزي والمتقي والهيثمي والنّسائي والطحاوي، وغيرهم ممّن يطول الكلام بذكرهم.

ولقد ورد هذا الحديث بطرق عديدة، وفي بعضها: أنّ سبب ضحكها هو إخبار النبي لها بأنّها أوّل أهل بيته لحوقاً به، وفي بعضها أنّ سبب ضحكها أو تبسّمها هو إخبار النبي لها أنّها سيّدة نساء العالمين.

ولكن روى أحمد بن حنبل حديثاً يجمع بين هاتين الطائفتين من الأحاديث: بإسناده عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أنّه أسرَّ إليها حديثاً فبكت، ثم أسرَّ إليها حديثاً

____________________

(1) طبقات ابن سعد ج 2، ورواه باختلاف يسير كل من: مسلم في صحيحه ج 7 ص 142، والبلاذري في أنساب الأشراف ص 552، والسيوطي في الخصائص ص 34 والحافظ البيهقي في الاعتقاد ص 125، والطبري في ذخائر العقبى ص 39، وسبط ابن الجوزي في التذكرة ص 319، وغيرهم.

١٩١

فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتُها عمّا قال؟ فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

حتى إذا قُبض النبي سألتها؟

فقالت: إنّه أسرّ إليّ فقال: إنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرّة، وإنّه عارضني به العام مرّتين، ولا أراه إلاَّ قد حضر أجلي، وإنّكِ أوّل أهلي لحوقاً بي ونعم السلف أنا لكِ، فبكيتُ لذلك، ثم قال: ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأُمّة أو نساء المؤمنين؟

قالت: فضحكتُ لذلك(1) .

وقد روى البخاري في صحيحه ج 5 ص 21 و 29: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: فاطمة بضعة منّي، فمَن أغضبها فقد أغضبني.

وروى البخاري عن أبي الوليد: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: فاطمة بضعة منّي مَن آذاها فقد آذاني.

وقد ورد هذا الحديث بألفاظ متنوّعة ومعاني متّحدة كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها.

فاطمة بضعة منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها (2) .

فاطمة شجنة منّي (3) ، فاطمة مضغة منّي فمَن آذاها فقد آذاني.

فاطمة مضغة منّي، يسرّني ما يسرّها.

يا فاطمة إنّ الله يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ.

____________________

(1) مسند أحمد ج 6 ص 282.

(2) أي: يسرّني ما يسرّها؛ لأنّ الإنسان إذا سرّ انبسط وجهه.

(3) الشجنة أي: القطعة والبضعة.

١٩٢

فمَن عرف هذه فقد عرفها، ومَن لم يعرفها فهي بضعة منّي.

هي قلبي وروحي التي بين جنبيّ، فمَن آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله.

إنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها.

وقد روى هذه الأحاديث أكثر من خمسين رجلاً من رجال الحديث والسنن، كأحمد بن حنبل، والبخاري، وابن ماجة، والسجستاني، والترمذي، والنسائي، وأبو الفرج، والنيسابوري، وأبو نعيم، والبيهقي، والخوارزمي، وابن عساكر، والبغوي، وابن الجوزي، وابن الأثير، وابن أبي الحديد، والسيوطي، وابن حجر، والبلاذري، وغيرهم ممّن يعسر إحصاؤهم، وقد ذكرنا شيئاً من تلك الأحاديث مع مصادرها في أوائل الكتاب.

وقد وقعت هذه الأحاديث موقع الرضا والقبول من الصحابة والتابعين؛ لتواترها وصحّة أسنادها وشهرتها في الملإ الإسلامي.

أمّا الصحابة فلنا في المستقبل مجال واسع لاعتراف بعضهم بصحّة هذا الحديث وسماعه من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأمّا التابعون فقد روى أبو الفرج في الأغاني ج 8 ص 307 بإسناده قال: دخل عبد الله بن حسن على عمر بن عبد العزيز، وهو حديث السن وله وفرة، فرفع مجلسه، وأقبل عليه وقضى حوائجه، ثم أخذ عُكنة من عُكنه(1) فغمز (بطنه) حتى أوجعه وقال له: اذكرها عندك للشفاعة.

فلما خرج (عبد الله بن حسن) لامه أهله(2) وقالوا: فعلتَ هذا بغلام حديث السن، فقال: إنّ الثقة حدثني حتى كأنّي اسمعه من فيّ رسول

____________________

(1) العكنة - بضم العين - اللحم المنثني من البطن.

(2) أي: لام الناس عمر بن عبد العزيز.

١٩٣

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) قال: (إنّما فاطمة بضعة منّي يسرّني ما يسرّها) وأنا أعلم أنّ فاطمة لو كانت حيَّة لسرّها ما فعلت بابنها.

قالوا: فما معنى غمزك بطنه وقولك ما قلت؟

قال: إنّه ليس أحد من بني هاشم إلاَّ وله شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا.

قال السمهودي - بعد إيراده حديث: فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها ويريبني ما أرابها -: فمَن آذى شخصاً من أولاد فاطمة أو أبغضه جعل نفسه عُرضة لهذا الخطر العظيم، وبضدّه (وبالعكس) مَن تعرَّض لمرضاتها في حبّهم وإكرامهم.

وقال السهيلي: هذا الحديث يدل على أنّ مَن سبّها كفر، ومَن صلَّى عليها فقد صلَّى على أبيها، واستنبط أنّ أولادها مثلها لأنّهم بضعة مثلها، وفكّ الفرع من أصله هو فكّ الشيء من نفسه وهو غير ممكن ومحال، باعتبار أنّ ذلك الفرع هو الشخص المعمول من مادة ذلك الأصل ونتيجته المتولّدة منه. انتهى كلامه.

أقول: لعلّ المقصود من الخطر العظيم الذي ذكره السمهودي هو إشارة إلى قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) وقوله:( وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .

أيها القارئ الذكي: بعد الانتباه إلى هذه الآيات، وبعد الإمعان والتدبّر في هذه الأحاديث والروايات ما تقول فيمَن آذى فاطمة الزهراء؟!!

أعود إلى حديثي عن مدى حبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(1) أي: من فم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٩٤

لابنته السيدة فاطمة الزهراء:

من الصعب إحصاء الأحاديث التي تصرّح بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد سفراً كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمةعليها‌السلام وأول مَن يدخل عليها - بعد رجوعه من السفر - فاطمة(1) .

كانصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا رجع من سفره دخل على ابنته فاطمة أوّلاً، ثم ذهب إلى داره والتقى بزوجاته(2) .

إنّه كان يفضّل الزهراء على زوجاته ونسائه؛ وما ذاك إلاّ لأنّ الله فضّلها عليهنّ وعلى نساء العالمين.

فقدم من غزاة، وقد علَّقت مسحاً أو ستراً على بابها، وحلَّت(3) الحسن والحسين قلبين من فضّة، فقدم ولم يدخل، فظنّت أنّ ما منعه أن يدخل دارها ما رأى، فهتكت الستر، وفكَّت القلبين من الصَّبيين، وقطعته منهما، ودفعته إليهما، فانطلقا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما يبكيان، فأخذه منهما فقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى فلان، إنّ هؤلاء أهلي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان(4) اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج.

روى هذا الحديث الخطيب العمري في (مشكاة المصابيح)، والطبري في (ذخائر العقبى)، والنويري في (نهاية الارب)، والقندوزي في (ينابيع المودّة)، والطبراني في (المعجم الكبير)، والزبيدي في (إتحاف السادة)، وغيرهم.

____________________

(1) السُنن الكبرى للبيهقي ج 1 ص 26، ذخائر العقبى للطبري ص 37، مستدرك الصحيحين للحاكم ج 3 ص 156 وغيرها.

(2) الاستيعاب للأندلسي ج 2 ص 750، مستدرك الصحيحين ج 3 ص 155.

(3) حلَّت - من التحلية - وهي التجميل ولبس الحلي. قلبين - تثنية قلب - وهو السوار.

(4) ثوبان: اسم غلام.

١٩٥

وقد روى هذا الحديث من علمائنا: الشيخ الكليني في (الكافي)، والطبرسي في (مكارم الأخلاق) أكثر تفصيلاً وتوضيحاً مع اختلاف يسير:

عن زرارة عن أبي جعفر (الباقر)عليه‌السلام قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد سفراً سلَّم على مَن أراد التسليم عليه من أهله، ثم يكون آخر مَن يسلّم عليه فاطمةعليها‌السلام فيكون وجهه إلى سفره من بيتها، وإذا رجع بدأ بها (أي يزورها قبل كل أحد) فسافر مرَّة، وقد أصاب عليعليه‌السلام شيئاً من الغنيمة فدفعه إلى فاطمة فخرج، فأخذت سوارين من فضّة، وعلَّقت على بابها ستراً، فلمّا قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل المسجد، فتوجَّه نحو بيت فاطمة كما كان يصنع، فقامت فرحة إلى أبيها صبابة وشوقاً إليه، فنظر فإذا في يدها سواران من فضّة وإذا على بابها ستر، فقعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث ينظر إليها، فبكت فاطمة وحزنت وقالت: ما صنع هذا بي قبلها.

فدعت ابنيها، فنزعت الستر عن بابها، وخلعت السوارين من يديها، ثم دفعت السوارين إلى أحدهما والستر إلى الآخر ثم قالت لهما: انطلقا إلى أبي، فأقرئاه السلام وقولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا، فشأنك به. فجاءاه، فأبلغاه ذلك عن أُمّهما، فقبّلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتزمهما وأقعد كل واحد منهما على فخذه، ثم أمر بذينك السوارين فكسّرا فجعلهما قطعاً، ثم دعا أهل الصُّفة، وهم قوم من المهاجرين، لم يكن لهم منازل ولا أموال فقسّمه بينهم قِطَعا... إلى آخره.

إنّ هذا الحديث الذي تراه مشهوراً عند الفريقين، مرويّاً بطرق عديدة لعلّه يحتاج إلى شرح وتعليق، مع العلم أنّ رواة هذا الحديث لم يتطرّقوا إلى

١٩٦

شرح ما يلزم:

أقول: ليس المقصود من هذا الستر هو الستر المرخى على مدخل البيت عند فتح باب البيت؛ لأنّ هذا أمر مستحب للمبالغة على التستّر والحجاب، وحاشا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يغضب من سترٍ قد عُلّق على مدخل بيت فاطمة.

بل المقصود أنّ السيدة فاطمةعليها‌السلام كانت قد علَّقت على باب البيت (لا مدخل البيت) ستراً يستر الباب الخشبي، للزينة، المسمَّى في زماننا بـ (الديكور) تجمّلاً أو تجميلاً للباب، وبعبارة أخرى: ألبست الباب ثوباً - أي ستراً - وليس هذا بحرام، بل لأنّه لا يتفق مع التزهّد أو الزهد المطلوب من آل محمدعليهم‌السلام والمواساة المترقّبة المتوقّعة منهم، ونفس هذا الكلام يأتي في موضوع السوار والقلادة.

وبناءً على صحّة هذا الحديث كان الأفضل للسيّدة الزهراءعليها‌السلام أن تنفق ذلك الستر في سبيل الله بسبب الحاجة الماسَّة إليه، لكثرة الفقراء، وشدَّة الفقر المدقع عند فقراء المهاجرين ومن باب المواساة والإيثار.

وروى ابن شاهين في (مناقب فاطمة) عن أبي هريرة وثوبان هذا الحديث مع تغيير يسير، إلى أن قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : - بعدما دفعت الزهراء الستر والسوار إلى أبيها -: فعلت، فداها أبوها - ثلاث مرات - ما لآل محمد وللدنيا؟ فإنّهم خُلقوا للآخرة، وخُلقت الدنيا لهم.

وفي رواية أحمد بن حنبل: فإنّ هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.

ويستفاد من هذا التعليل أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحب أن ينقص حظ ابنته فاطمة الزهراء من الأجر والثواب في الآخرة؛

١٩٧

لأنّ مرارة الحياة وخشونة العيش في الدنيا لهما تعويض في الآخرة.

وبهذا الحديث الآتي يتضح ما قلنا:

عن تفسير الثعلبي، عن الإمام جعفر بن محمدعليه‌السلام وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قالا: رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة وعليها كساء من أجلّة الإبل، وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة.

فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه.

فانزل الله: ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (1) .

____________________

(1) بحار الأنوار ج 43.

١٩٨

زُهْدُهَا وَإنفَاقُهَا في سَبيل الله

كانت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام على جانب كبير من الزهد، ومعنى الزهد: التخلّي عن الشيء وتركه وعدم الرغبة فيه، وكلّما ازداد الإنسان شوقاً إلى الآخرة ازداد زهداً في الدنيا، وكلّما عظمت الآخرة في نفس الإنسان صغرت الدنيا في عينيه وهانت، وهكذا كلّما ازداد الإنسان عقلاً وعلماً وإيماناً بالله ازداد تحقيراً واستخفافاً لملّذات الحياة.

أرأيت الأطفال كيف يلعبون، ويفرحون، ويحزنون ويتسابقون ويتنازعون على أشياء تافهة يلعبون بها، فإذا نضجت عقولهم وتفتّحت مشاعرهم تراهم يبتعدون عن تلك الألاعيب، ويستنكفون من التنازل إلى ذلك المستوى ويعتبرونه منافياً للوقار، ومُخلاًّ للشخصية، كل هذا بسبب تطوُّر مداركهم، وانتقالهم من دور الصبا إلى مرحلة الرجولة والنضج.

نعم، هكذا كان أولياء الله، كانوا ينظرون إلى حطام الدنيا نظرة تحقير واستهانة، ولا تتعلّق قلوبهم بحب الدنيا وما فيها، ولا يحبّون الدنيا للدنيا، بل يحبّون الدنيا للآخرة، يحبّون البقاء في الدنيا ليعبدوا الله تعالى، يريدون المال لينفقوه في سبيل الله عزّ وجل، لإشباع البطون الجائعة وإكساء الأبدان العارية وإغاثة الملهوف وإعانة المضطر.

بعد هذه المقدّمة يسهل عليك أن تدرك أُسس الزهد عند السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام فهي عرفت الحياة الدنيوية، وأدركت الحياة الأخروية، فلا عجب إذا قنعت باليسير اليسير من متاع الحياة، واختارت

١٩٩

لنفسها فضيلة المواساة والإيثار، وهانت عليها الثروة، وكرهت الترف والسرف.

فلا غرو، فهي بنت أزهد الزهّاد، وحياتها العقائدية ملازمة للزهد وحياتها الاجتماعية أيضاً تتطلّب منها الزهد، فهي أولى الناس بالسير على منهاج أبيها الرسول الزاهد العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وحياتها الزوجية تبلورت بالزهد والقناعة، فلقد كان زوجها الإمام عليعليه‌السلام أوّل الناس وأكثرهم إتباعاً للرسول في زهده، ولم يشهد التاريخ الإسلامي رجلاً من هذه الأُمّة أكثر زهداً من علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

وهو الذي كان يخاطب الذهب والفضّة بقوله: يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري. وقد أمر عليعليه‌السلام لأعرابي بألف. فقال الوكيل: من ذهب أو فضّة؟ فقال علي: كلاهما عندي حَجَران، فأعطوا الأعرابي أنفعهما له. وقد ذكرنا بعض ما يتعلق بهذا الموضوع في كتابنا: (علي من المهد إلى اللحد ) وإنّما تطرّقنا هنا إلى زهد عليعليه‌السلام بمناسبة حديثنا عن زهد السيدة فاطمة الزهراء، وقد مرّ عليك - فيما مضى - بعض الأحاديث عن زهدها وإنفاقها في سبيل الله في باب زواجها ونزول سورة هل أتى وغيرهما، وإليك نبذة من الأحاديث التي تشير إلى نفس الموضوع:

في السادس من البحار عن كتاب (بشارة المصطفى)، عن الإمام الصادق، عن أبيهعليهما‌السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

صلَّى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة العصر، فلمّا

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228