اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)0%

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 193

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 193
المشاهدات: 50135
تحميل: 6828

توضيحات:

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 193 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50135 / تحميل: 6828
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل على أساس العطاء والدور الايجابي الذي كان يمارسه الإمام في الأمة بالرغم من إقصائه عن مركز الحكم; فإنّ الأمة لا تمنح ـ على الأغلب ـ الزعامة مجاناً، ولا يمتلك الفرد قيادتها ويحتلّ قلوبها بدون عطاء سخيّ منه تستشعره الأمة في مختلف مجالاتها، وتستفيد منه في حلّ مشكلاتها والحفاظ على رسالتها.

ومع أنّ مزاولات الإمامعليه‌السلام الدينية كلّها من صميم العمل السياسي وخاصّةً في عصره حيث لم يُسمع نغمُ الفصل بين السياسة والدين بعد، نجد في طيّات حياة الإمامعليه‌السلام عيّنات واضحة من التدخّلات السياسية الصريحة، فهو كما يبدو من النصوص الصادرة عنه تجده رجلاً مشرفاً على الساحة السياسية، يدخل محاورات حادّة، ويتابع مجريات الأحداث، ويدلي بتصريحات خطيرة ضد الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الأمة وإليك بعض النماذج على ذلك:

١ ـ قال عبد الله بن الحسن بن الحسن : كان عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كلّ ليلة هو وعروة بن الزبير في مؤخّر مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما، فتحدّثا ليلة، فذكروا جور من جار من بني أمية والمقام معهم، فقال عروة لعليّ: يا عليّ، إنّ من اعتزل أهل الجور والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فكان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رُجي له أن يسلم ممّا أصابهم.

قال: فخرج عروة، فسكن العقيق.

قال عبد الله بن الحسن: وخرجت أنا فنزلت سويقة(١) .

ــــــــــــــ

(١) مختصر تأريخ دمشق : ١٧ / ٢١.

١٠١

أمّا الإمامعليه‌السلام فلم يخرج، بل آثر البقاء في المدينة طوال حياته; لأنّه كان يعدّ مثل هذا الخروج فراراً من الزحف السياسي وإخلاءً للساحة الاجتماعية للظالمين، يجولون فيها ويصولون(١) .

ولعلّ اقتراح عروة بن الزبير ـ وهو من أعداء أهل البيتعليهم‌السلام (٢) ـ كان تدبيراً سياسياً منه أو من قبل الحكّام لإبعاد الإمامعليه‌السلام عن الحضور في الساحة السياسية والاجتماعية، لكنّهعليه‌السلام لم يخرج وظلّ يواصل مسيرته الجهادية.

٢ ـ قالعليه‌السلام :(إنّ للحق دولة على العقل، وللمنكر دولة على المعروف، وللشرّ دولة على الخير، وللجهل دولة على الحلم، وللجزع دولة على الصبر، وللخرق دولة على الرفق، وللبؤس دولة على الخصب، وللشدّة دولة على الرخاء، وللرغبة دولة على الزهد، وللبيوت الخبيثة دولة على بيوتات الشرف، وللأرض السبخة دولة على الأرض العذبة، فنعوذ بالله من تلك الدول ومن الحياة في النقمات) (٣) .

وإذا كانت الدولة في اللسان العربي هي الغلبة والاستيلاء ـ وهي من أبرز مقومات السلطة الحاكمة ـ فإنّ الإمامعليه‌السلام يكون قد أدرج قضية السلطة السياسية في سائر القضايا الحيوية والطبيعية التي يهتمّ بها ويفكّر في إصلاحها.

فمن يا ترى؟ ومن هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصرهعليه‌السلام ؟ وهل التعوّذ بالله تعالى من دولة السلطان يعني أمراً غير رفض وجوده والتنديد بسلطته؟ وهل يتصوّر السياسي أن يكون له حضور أقوى من هذا في مثل

ــــــــــــــ

(١) جهاد الإمام السجاد عليه‌السلام : ١٥٤.

(٢) لاحظ تنقيح المقال : ٢ / ٢٥١.

(٣) تأريخ دمشق : ٤١/٤١٠، مختصر ابن منظور : ١٧ / ٢٥٥.

١٠٢

ظروف الإمام عليه‌السلام وموقعه وضمن تخطيطه الشامل في قيادة حركيّة الإسلام؟ وهل يصدر مثل هذا من رجل ادُّعي أنّه ابتعد عن السياسة أو اعتزلها؟.

ج ـ مقاومة الفساد :

وإذا كان من أهم واجبات المصلح وخاصةً المصلح الإلهي مقاومة الفساد ومحاربة المفسدين في الأرض; فإنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام قام بدور بارز في أداء هذا الواجب.

وقد تميّز عصرهعليه‌السلام بمشاكل اجتماعية من نوع خاص، وقد تكون موجودة في كثير من العصور، إلاّ أنّ بروزها في عصره كان واضحاً ومكثّفاً، كما أنّ الإمام عليه‌السلام قام بمعالجتها بأسلوبه الخاصّ، ممّا أعطاها صبغة فريدة تميّزت في جهاد الإمام عليه‌السلام وأهمها مشكلة الفقر العام ومشكلة الرقّ والعبيد. وسنعرض لهما في فصل قادم إن شاء الله تعالى.

الفصل الرابع: ظواهر فذّة في حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام

تميّزت حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام بمظاهر فذّة، وهي وإن كانت متوفرة في حياة آبائه الطاهرين وأبنائه الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام إلاّ أنّها برزت في سيرتهعليه‌السلام بشكل أكثر وضوحاً وأوسع دوراً، ممّا دعانا إلى تسليط الضوء عليها أشدّ من غيرها، وهي:

أ ـ ظاهرة العبادة .

ب ـ ظاهرة الدعاء.

ج ـ ظاهرة البكاء .

د ـ ظاهرة الإعتاق.

فإذا سبرنا حياة الأئمّةعليهم‌السلام وجدناهم ـ كلّهم ـ يتميّزون في هذه المظاهر على أهل زمانهم، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام تجلّت بقوة، حتى كان عليه‌السلام فريداً في كلّ منها.

ظاهرة العبادة في حياة الإمامعليه‌السلام :

أجمع معاصرو الإمام زين العابدين عليه‌السلام على أنّه كان من أعبد الناس وأكثرهم طاعة لله تعالى، ولم ير الناس مثله في عظيم إنابته وعبادته، وقد بهر بها المتّقون والصالحون، وحسبه أنّه وحده الذي قد لُقّب بزين العابدين وسيّد الساجدين في تأريخ الإسلام.

١٠٣

أمّا عبادتهعليه‌السلام فكانت ناشئة عن إيمانه العميق بالله تعالى وكمال معرفته به، وقد عبده لا طمعاً في جنّته ولا خوفاً من ناره، وإنّما وجده أهلاً للعبادة فعبده، وشأنه في ذلك شأن جدّه أمير المؤمنين وسيّد العارفين وإمام المتّقين، وقد أعربعليه‌السلام عن عظيم إخلاصه في عبادته بقوله:(إنّي أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلاّ ثوابه، فأكون كالعبد الطامع إن طمع عمل وإلاّ لم يعمل، وأكره أن أعبده لخوف عذابه، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل...) .

فانبرى إليه بعض الجالسين فقال له: فبم تعبده؟ فأجابه عن خالص إيمانه:(وأعبُدُه لما هو أهله بأياديه وإنعامه) (١) .

ولقد مَلأ حبّ الله تعالى قلب الإمامعليه‌السلام وسخّر عواطفه فكان مشغولاً بعبادة الله وطاعته في جميع أوقاته، وقد سُئلت جارية له عن عبادته فقالت: أطنب أو أختصر؟

قيل لها: بل اختصري.

فقالت: ما أتيته بطعام نهاراً قطّ، وما فرشت له فراشاً بليل، قطّ(٢) .

لقد قضى الإمامعليه‌السلام معظم حياته صائماً نهاره، قائماً ليله، مشغولاً تارةً بالصلاة، وأُخرى بالدعاء.

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام زين العابدين: ١٨٧ نقلاً عن تفسير الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام .

(٢) الخصال: ٤٨٨.

١٠٤

عبادة الإمام :

١ ـ وضوؤه :

الوضوء هو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الأولى للصلاة، وكان الإمام عليه‌السلام دوماً على طهارة، وقد تحدّث الرواة عن خشوعه لله في وضوئه، فقالوا: إنّه إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيبهم قائلاً: (أتدرون بين يدي مَن أقوم؟!) (١) .

٢ ـ صلاته :

أمّا الصلاة فمعراج المؤمن وقربان كلّ تقيّ كما في الحديث الشريف ، وكانت الصلاة من أهم الرغبات النفسية للإمام عليه‌السلام فقد اتّخذها معراجاً ترفعه إلى الله تعالى، وكانت تأخذه رعدة إذا أراد الشروع في الصلاة، فقيل له في ذلك فقال: (أتدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟!) (٢) . ونعرض لبعض شؤونه في حال صلاته.

أ ـ تطيّبه للصلاة:

وكان الإمام إذا أراد الصلاة تطيّب من قارورة كان قد جعلها في مسجد صلاته(٣) .

ــــــــــــــ

(١) نهاية الإرب : ٢١ / ٣٢٦، سير أعلام النبلاء : ٤ / ٢٣٨.

(٢) الخصال : ٢ / ٦٢٠ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ٥٨.

١٠٥

ب ـ لباسه في صلاته:

وكان الإمام عليه‌السلام إذا أراد الصلاة لبس الصوف وأغلظ الثياب (١) ، مبالغة منه في إذلال نفسه أمام الخالق العظيم.

ج ـ خشوعه في صلاته :

كانت صلاته تمثّل الانقطاع التامّ إلى الله جلّ جلاله والتجرّد من عالم المادّيات، فكان لا يحسّ بشيء من حوله، بل لا يحسّ بنفسه فيما تعلّق قلبه بالله تعالى، ووصفه الرواة في حال صلاته، فقالوا: كان إذا قام إلى الصلاة غشي لونه بلون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان يصلّي صلاة مودِّع يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبد(٢) .

وتحدّث الإمام الباقرعليه‌السلام عن خشوع أبيه في صلاته فقال:(كان عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة كأنّه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلاّ ما حركت الريح منه) (٣) .

ونقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادقعليه‌السلام صلاة جدّه الإمام السجادعليه‌السلام فقال له: إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة غشي لونه بلون آخر، فقال له الإمام الصادقعليه‌السلام :(والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه...) (٤) .

وكان من مظاهر خشوعه في صلاته أنّه إذا سجد لا يرفع رأسه حتى

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٨.

(٢) حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام : ١٩٠.

(٣) وسائل الشيعة : ٤ / ٦٨٥.

(٤) المصدر السابق.

١٠٦

يرفض عرق (١) أو كأنّه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه (٢) ، ونقل عن أبي حمزة الثمالي أنّه رأى الإمام قد صلّى فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه فسأله أبو حمزة عن ذلك فقال له: (ويحك، أتدري بين يدي مَنْ كنتُ؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه) (٣) .

د ـ صلاة ألف ركعة :

وأجمع المترجمون للإمام عليه‌السلام أنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة (٤) ، وأنّه كانت له خمسمائة نخلة، فكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين (٥) ونظراً لكثرة صلاته; فقد كانت له ثفنات في مواضع سجوده كثفنات البعير، وكان يسقط منها في كلّ سنة، فكان يجمعها في كيس، ولمّا توفّي عليه‌السلام دفنت معه (٦) .

هـ ـ كثرة سجوده :

إنّ أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو في حال سجوده كما في الحديث الشريف، وكان الإمامعليه‌السلام كثير السجود لله تعالى خضوعاً وتذلّلاً له، وروي: أنّه خرج مرّةً إلى الصحراء فتبعه مولىً له فوجده ساجداً على حجارة خشنة، فأحصى عليه ألف مرّة يقول:(لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً) (٧) .

ــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٨٦ ح١١٤٦.

(٢) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٨.

(٣) علل الشرائع: ٨٨ ، بحار الأنوار : ٤٦ / ٦١.

(٤) تهذيب التهذيب : ٧ / ٣٠٦، نور الأبصار : ١٣٦، الإتحاف بحب الأشراف : ٤٩، ومصادر أُخرى.

(٥) بحار الأنوار : ٤٦ / ٦١، الخصال : ٤٨٧.

(٦) الخصال: ٤٨٨.

(٧) وسائل الشيعة : ٤ / ٩٨١.

١٠٧

وكان يسجد سجدة الشكر، ويقول فيها مئة مرّة: (الحمد لله شكراً) ، ثمّ يقول: (يا ذا المنّ الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا الجود الذي لا ينفد أبداً، يا كريم، يا كريم) ويتضرّع بعد ذلك ويذكر حاجته (١) .

و ـ كثرة تسبيحه :

وكان دوماً مشغولاً بذكر الله تعالى وتسبيحه وحمده، وكان يسبّح الله بهذه الكلمات: (سبحان من أشرق نوره كلّ ظلمة، سبحان من قدّر بقوته كلّ قدرة، سبحان من احتجب عن العباد بطرائق نفوسهم فلا شيء يحجبه، سبحان الله وبحمده) (٢) .

ز ـ ملازمته لصلاة الليل:

من النوافل التي كان لا يَدَعُها الإمام عليه‌السلام صلاة الليل، فكان مواظباً عليها في السفر والحضر (٣) إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.

ح ـ دعاؤه بعد صلاة الليل :

وكان عليه‌السلام إذا فرغ من صلاة الليل دعا بهذا الدعاء الشريف، وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وإليك بعض مقاطعه:

(اللهمّ يا ذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعزّ الباقي على مرّ الدهور وخوالي الأعوام (٤) ومواضي الأزمان والأيام، عزّ سلطانك عزاً لا حدّ له بأوّلية ولا منتهى له بآخرية، واستعلى ملكك علوّاً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده (٥) ولا

ــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ١٠٧٩.

(٢) دعوات القطب الراوندي: ٣٤.

(٣) عن صفة الصفوة : ٢ / ٥٣ وكشف الغمة : ٢ / ٢٦٣.

(٤) خوالي الأعوام: مواضيها.

(٥) أمده: غايته.

١٠٨

يبلغ أدنى ما استأثرت من ذلك أقصى نَعت الناعتين، ضلّت فيك الصفات وتفسّخت (١) دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت الله الأوّل في أوّليّتك، وعلى ذلك أنت دائمٌ لا تزول، وأنا العبد الضعيف عملاً الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الوصلات (٢) إلاّ ما وصله رحمتك، وتقطّعت عنّي عصم (٣) الآمال إلاّ ما أنا معتصم به من عفوك، قلّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر عليّ ما أبوء (٤) به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفوٌ عن عبدك، وإن أساء فاعف عنّي...) .

(اللهمّ إنّي أعوذ بك من نار تغلّظت بها على مَن عصاك، وتوعّدت بها على من صدف (٥) عن رضاك، ومن نار نورها ظلمة، وهيّنها أليم، وبعيدها قريب، ومن نار يأكل بعضها بعضٌ، ويصول (٦) بعضُها على بعض، ومن نار تذر (٧) العظام رميما ً(٨) ، وتسقي أهلها حميماً (٩) ، ومن نار لا تبقي على مَن تضرّع إليها، ولا ترحم من استعطفها، ولا تقدر على التخفيف عمّن خشع لها واستسلم إليها، تلق سكانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال (١٠) وشديد الوبال (١١) ...) (١٢) .

ــــــــــــــ

(١) تفسخت : أي تقطّعت وتمزّقت وبطلت، فإنّك فوق نعت الناعتين.

(٢) الوصلات: وُصلة ـ بالضم ـ وهي ما يتوصل به إلى المطلوب، يعني أنّه قد فاتتني الأسباب التي يتوصل بها إلى السعادات الأخروية إلاّ السبب الذي هو رحمتك فانه لا يفوت من أحد، لأنّها وسعت كلّ شيء.

(٣) عِصَم: جمع عصمة، وهي الوقاية والحفظ.

(٤) ما أبوء: أقرّ وأرجع.

(٥) صدف: خرج وأعرض.

(٦) يصول: من الصولة بمعنى الحملة.

(٧) تذر: تترك.

(٨) رميماً: بالياً.

(٩) حميماً: ماء شديد الحرارة.

(١٠) النكال: العقوبة.

(١١) الوبال: الوخامة وسوء العاقبة.

(١٢) الصحيفة الكاملة السجادية : الدعاء ٣٢.

١٠٩

وذبل الإمامعليه‌السلام من كثرة العبادة وأجهدته أيّ إجهاد، وقد بلغ به الضعف أنّ الريح كانت تميله يميناً وشمالاً بمنزلة السنبلة(١) التي تميلها الريح.

وقال ابنه عبد الله: كان أبي يصلّي بالليل فإذا فرغ يزحف إلى فراشه(٢) .

وأشفق عليه أهله ومحبّوه من كثرة ما بان عليه من الضعف والجهد من كثرة عبادته، فكلّموه في ذلك لكنّهعليه‌السلام أصرّ على شدّة تعبّده حتى يلحق بآبائه، قال له أحد أبنائه: يا أبت كم هذا الدؤوب (يعني الصلاة)؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام :(أتَحَبّبُ إلى ربّي) (٣) .

وقال جابر بن عبد الله الأنصاري للإمامعليه‌السلام : ياابن رسول الله! أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام :(يا صاحب رسول الله، أما علمت أنّ جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يَدَع الإجتهاد له، وتعبّد ـ بأبي وأمي ـ حتى انتفخ ساقه وورم قدمه، وقد قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفلا أكون عبداً شكوراً؟) .

فقال له جابر: ياابن رسول الله، البُقْيا على نفسك، فإنّك من أسرة بهم يستدفع البلاء، وبهم يستكشف الأدواء، وبهم تُستمطر السماء...) فأجابه الإمامعليه‌السلام :(لا أزال على منهاج أَبَوَيَّ متأسِّياً بهما حتى ألقاهما...) (٤) .

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد: ٢٧٢، روضة الواعظين : ١ / ٢٣٧.

(٢) بحار الأنوار : ٤٦ / ٩٩.

(٣) المصدر السابق : ٤٦ / ٩٩ .

(٤) مناقب آل أبي طالب : ٤/١٦١ ، ١٦٢.

١١٠

٣ ـ صومه :

وقضى الإمام معظم أيام حياته صائماً، وقد قالت جاريته حينما سئلت عن عبادته: (ما قدّمتُ له طعاماً في نهار قطّ) وقد أحبَّ الصومَ وحثَّ عليه إذ قالعليه‌السلام :(إنّ الله تعالى وكّل ملائكة بالصائمين) (١) ، وكانعليه‌السلام لا يفطر إلاّ في يوم العيدين وغيرهما ممّا كان له عذر.

وكان له شأن خاص في شهر رمضان، أنّه لم يترك نوعاً من أنواع البِرّ والخير إلاّ أتى به، وكان لا يتكلم إلاّ بالتسبيح والاستغفار والتكبير، وإذا أفطر قال:(اللّهم إن شئت أن تفعل فعلت) (٢) .

وكانعليه‌السلام يستقبل شهر رمضان بشوق ورغبة لأنه ربيع الأبرار، وكان يدعو لدى دخول شهر الله تعالى بدعاء نقتطف منه بعض الفقرات، قالعليه‌السلام :(الحمد لله الذي هدانا لحمده وجعلنا من أهله ; لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين. والحمد لله الذي حبانا بدينه، واختصّنا بملّته، وسَبَّلَنا (٣) في سُبُلِ إحسانه، لنسلكها بمنّه إلى رضوانه... والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر القيام... اللّهم صلّ على محمد وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفّظ ممّا حظرت فيه، وأعِنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نُصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلاّ ما أحلَلْت، ولا تنطق ألسنتنا

ــــــــــــــ

(١) دعوات الرواندي: ٤.

(٢) فروع الكافي : ٤ / ٨٨ .

(٣) سبّلنا: أدخلنا.

١١١

إلاّ بما مثّلت، ولا نتكلّف إلاّ ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلاّ الذي يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كلّه من رئاء المرائين وسُمعة المسمعين، لا نُشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغي فيه مراداً سواك اللهمّ اشحنه (١) بعبادتنا إيّاك، وزيّن أوقاتنا بطاعتنا لك، وأعنّا في نهاره على صيامه، وفي ليله على الصلاة والتضرع إليك والخشوع لك والذلّة بين يديك حتى لا يشهد نهاره علينا بغفلة ولا ليله بتفريط اللهمّ واجعلنا في سائر الشهور والأيام كذلك ما عمّرتنا...) (٢) .

وكان الإمام زين العابدينعليه‌السلام في كلّ يوم من أيام شهر رمضان يأمر بذبح شاة وطبخها... فإذا نضجت يقول:(هاتوا القصاع) ويأمر بأن يُفرَّق على الفقراء والأرامل والأيتام حتى يأتي على آخر القدور ولا يبقي شيئاً لإفطاره، وكان يفطر على خبز وتمر(٣) .

ومن مَبَرّات الإمامعليه‌السلام في شهر رمضان المبارك كثرة عتقه وتحرير أرقّائه من رقّ العبودية، على أنهم كانوا يعيشون في ظلاله محترمين، فكان يعاملهم كأبنائه، وكان عليه‌السلام لا يعاقب أمةً ولا عبداً إذا اقترفا ذنباً، وإنّما كان يسجّل اليوم الذي أذنبوا فيه، فإذا كان آخر شهر رمضان جمعهم وأظهر الكتاب الذي سجّل فيه ذنوبهم، ويقول:

(ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليّ بن الحسين! إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّ ما عملتَ، كما أحصيت علينا ما عملناه، ولديه كتاب ينطق بالحقّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلاّ أحصاها، وتجد كلّ ما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً،

ــــــــــــــ

(١) أي : أملأه بعبادتنا إيّاك.

(٢) الصحيفة الكاملة السجادية : الدعاء ٤٤.

(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ٧٢.

١١٢

فاعف واصفح، كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عَفُوّاً، وبك رحيماً ولك غفوراً، ولا يظلم ربّك أحداً... كما لديك كتاب ينطق بالحقّ علينا، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناه إلاّ أحصاها، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك الحَكَم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح، فإنّه يقول: ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ) (١) .

وكان يلقّنهم بتلك الكلمات التي تمثّل انقطاعه التامّ إلى الله تعالى واعتصامه به، وهو واقف يبكي من خشيته تعالى ويقول: (ربِّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سُؤّالاً ومساكين، وقد أنَخْنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك فامنن بذلك علينا، ولا تخيّبنا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كَرُمتَ فأكرِمني، إذ كنت من سُؤّالك وجُدْتَ بالمعروف فأخلطني بأهل نوالك يا كريم...).

ثم يُقبِلُ عليهم بوجهه الشريف وقد تبلّل من دموع عينيه قائلاً لهم بعطف وحنان: (قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عنّي؟ وممّا كان منّي من سوء ملكة، فإنّي مليك سوء لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل...) وينبري العبيد قائلين له: قد عفونا عنك يا سيّدنا، فيقول لهم: (قولوا: اللهمّ اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق).

فيقولون ذلك، ويقول بعدهم: (اللهمّ آمين ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي) فإذا كان يوم عيد الفطر

ــــــــــــــ

(١) سورة النور (٢٤) : ٢٢.

١١٣

أجازهم جائزة سنيّة تغنيهم عمّا في أيدي الناس(١) .

٤ ـ دعاؤه :

أ ـ دعاؤه في الأسحار :

وكان الإمامعليه‌السلام يناجي ربّه ويدعوه بتضرّع وإخلاص في سحر كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان بالدعاء الجليل الذي عرف بدعاء أبي حمزة الثمالي; لأنّه هو الذي رواه عنه، وهو من غرر أدعية أهل البيتعليهم‌السلام وهو يمثّل مدى إنابته وانقطاعه إلى الله تعالى كما أنّ فيه من المواعظ ما يوجب صرف النفس عن غرورها وشهواتها، كما يمتاز بجمال الأسلوب وروعة البيان وبلاغة العرض، وفيه من التذلّل والخشوع والخضوع أمام الله تعالى ما لا يمكن صدوره إلاّ عن إمام معصوم.

وقد احتلّ هذا الدعاء مكانة مهمّة في نفوس الأخيار والصلحاء من المسلمين، إذ واظبوا على الدعاء به، وممّا قاله الإمامعليه‌السلام في دعائه:

(إلهي، لا تؤدّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، من أين لي الخير يا ربّ ولا يوجد إلاّ من عندك؟ ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلاّ بك؟ لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يرضك خرج عن قدرتك...

بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولو لا أنت لم أدر ما أنت.

الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنتُ بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني...

أدعوك يا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه، ربّ أناجيك بقلب قد أوبقه جرمه، أدعوك يا ربّ راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعتُ، وإذا رأيت كرمك طمعت...

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٣ ـ ١٠٥.

١١٤

يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، فوعزّتك يا سيّدي لو نهرتني ما برحتُ (١) من بابك ولا كففت عن تملّقك (٢) لما انتهى إليّ من المعرفة بجودك وكرمك ...

اللهمّ إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيت عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ما لي كلّما قلتُ قد صلُحت سريرتي (٣) وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي وحالت بيني وبين خدمتك. سيدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني ...

إلهي، لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك (٤) من بين الأشهاد ودللت على فضايحي عيون العباد وأمرت بي إلى النار وحلت بيني وبين الأبرار; ما قطعتُ رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي ...

أرحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي، وإذا نُشرتُ للحساب بين يديك ذلّ موقفي، واغفر لي ما خفي على الآدميّين من عملي، وأدم لي ما به سترتني، وارحمني صريعاً على الفراش، تقلّبني أيدي أحبّتي، وتفَضَّل عليّ ممدوداً على المغتسل يقلّبُني صالح جيرتي، وتحنّنْ عليّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجُد عليّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت

ــــــــــــــ

(١) بَرحَ المكان ومنه: زال عنه.

(٢) تملقك: التودّد إليك.

(٣) سريرتي: نيّتي.

(٤) السَيْب: العطاء.

١١٥

الجديد غربتي، حتى لا أستأنس بغيرك...) (١) .

وكان الإمامعليه‌السلام يتأثّر إذا انطوت أيام شهر رمضان; لأنّه عيد أولياء الله تعالى، وكان يودّعه بدعاء جليل نقتطف منه ما يلي:

(السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه.

السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيام والساعات.

السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال.

السلام عليك من قرين جلّ قدره موجوداً، وأفْجع فقده مفقوداً، ومرجوٍّ آلم فراقه.

السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضّ (٢) .

السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب.

السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان.

السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك، وأشدّ شوقنا غداً إليك.

اللهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر (٣) من خطايانا، وأخرجنا بخروجه من سيئاتنا، واجعلنا من أسعد أهله به، وأجزلهم قسماً فيه، وأوفرهم حظّاً منه...) (٤) .

٥ ـ حجّهعليه‌السلام :

وكان يحثّ على الحج والعمرة بقوله:(حجّوا واعتمروا تصح أجسادكم، وتتّسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالكم) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) راجع : مفاتيح الجنان (الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي).

(٢) مضّ : آلَم.

(٣) انسلخ الشهر: مضى.

(٤) راجع : الصحيفة السجادية (الدعاء في وداع شهر رمضان) .

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٥.

١١٦

وقالعليه‌السلام :(الحاج مغفور له، وموجوب له الجنّة، ومستأنف به العمل، ومحفوظ في أهله وماله) (١) .

وقالعليه‌السلام :(الساعي بين الصفا والمروة تشفع له الملائكة) (٢) .

وكانعليه‌السلام يدعو إلى تكريم الحجّاج إذا قدموا من بيت الله الحرام ويقول:(استبشروا بالحجّاج إذا قدموا وصافِحوهم، وعظّموهم تشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوب) (٣) .

وحجّعليه‌السلام غير مرّة ماشياً كما حج أبوه وعمّه الحسنعليهم‌السلام ، وحج على ناقته عشرين حجّة وكان يرفق بها كثيراً.

وقال إبراهيم بن عليّ: حججتُ مع عليّ بن الحسين فتلكّأتْ ناقته فأشار إليها بالقضيب، ثم ردّ يده، وقال:(آه من القصاص...) (٤) .

وكان الإمامعليه‌السلام إذا أراد السفر إلى بيت الله الحرام احتفّ به القرّاء والعلماء; لأنّهم كانوا يتزوّدون منه العلوم والمعارف والحكم والآداب، وقال سعيد بن المسيب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتى يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب(٥) .

وإذا انتهى الإمام إلى إحدى المواقيت التي يحرم منها; يأخذ بعمل سنن الإحرام، وإذا أراد التلبية عند عقد الإحرام اصفرّ لونه واضطرب ولم يستطع أن يلبّي، فإذا قيل له: ما لك لا تلبّي؟ قال:(أخشى أن أقول: لبيك،

ــــــــــــــ

(١) فروع الكافي : ٤/٢٥٢ .

(٢) من لا يحضره الفقيه: ٢ / ٢٠٨ ح ٢١٦٨ .

(٣) بحار الأنوار: ٩٩/٣٨٦ مع اختلاف في اللفظ .

(٤) الفصول المهمة: ١٨٩.

(٥) حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام : ٢٢٧ .

١١٧

فيقال لي: لا لبيك) .

وإذا لبّى غشي عليه من كثرة خوفه من الله تعالى، ويسقط من راحلته، ولا يزال يعتريه هذا الحال حتى يقضي حجّه(١) .

وكان الإمامعليه‌السلام إذا أدّى مناسكه في البيت الحرام; أقبل على الصلاة تحت ميزاب الرحمة. ورآه طاووس اليماني في ذلك المكان قائماً وهو يدعو الله ويبكي من خشية الله، فلمّا فرغ من صلاته قال له طاووس: رأيتك على حالة من الخشوع ولك ثلاثة أمور، أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: أنّك ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الثاني: شفاعة جدّك، الثالث: رحمة الله.

فأجابه الإمامعليه‌السلام قائلاً: (يا طاووس، أمّا أنّي ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يؤمنني وقد سمعت الله تعالى يقول: ( فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ) (٢) . وأمّا شفاعة جدّي، فلا تؤمنني; لأنّ الله تعالى يقول: ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) (٣) وأمّا رحمة الله فالله يقول: ( إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (٤) ولا أعلم أنّي محسن) (٥).

وقال طاووس: رأيت عليّ بن الحسين يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فإذا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال:(إلهي، غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرصات القيامة) ثم بكى وقال:(أما وعزّتك وجلالك ما أردتُ بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك

ــــــــــــــ

(١) نهاية الإرب : ٢١ / ٣٢٦.

(٢) المؤمنون (٢٣) : ١٠١ .

(٣) الأنبياء (٢١) : ٢٨ .

(٤) الأعراف (٧) : ٥٦ .

(٥) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠١.

١١٨

متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عنّي...) . ثم خرّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته في حجري، فوقعتْ قطرات من دموعي على خدّه الشريف فاستوى جالساً، وقال بصوت خافت:(من هذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟) .

فأجابه طاووس بخضوع وإجلال: أنا طاووس ياابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون؟ أبوك الحسين بن عليّ وأمك فاطمة الزهراء وجدّك رسول الله.

فأجابه الإمامعليه‌السلام : (هيهات هيهات يا طاووس، دع عنك حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى: ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ) ؟ والله لا ينفعك غداً إلاّ ما تقدّمه من عمل صالح) (١) .

دعاؤه في يوم عرفة :

وكان الإمام عليه‌السلام في عرفات يقوم بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، وكان يدعو بدعاء جليل وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وفيما يلي بعض المقتطفات منه:

(الحمد لله ربّ العالمين، اللهمّ لك الحمد بديع السماوات والأرض (٢) ذا الجلال والإكرام، ربّ الأرباب، وإله كلّ مألوه، وخالق كلّ مخلوق، ووارث كلّ شيء ليس كمثله

ــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٦٣، ١٦٤، وبحار الأنوار : ٤٦ / ٨١ .

(٢) بديع السماوات والأرض: مخترعها لا عن مثال سابق، أو أنّ السماوات والأرض بديعة، أي عديمة النظير.

١١٩

شيء، ولا يعزب (١) عنه علم شيء، وهو بكلّ شيء محيط، وهو على كلّ شيء رقيب.

أنت الله لا اله إلاّ أنت الأحد المتوحّد الفرد، وأنت الله لا اله إلاّ أنت الكريم المتكرّم العظيم المتعظّم الكبير المتكبّر، وأنت الله لا اله إلاّ أنت العليّ المتعال الشديد المحال (٢) .

أنت الذي قصرت الأوهام عن ذاتيتك، وعجزت الأفهام عن كيفيتك، ولم تدرك الأبصار موضع أينيّتك، أنت الذي لا تُحدّ فتكون محدوداً، ولم تمثل فتكون موجوداً، ولم تلد فتكون مولوداً.

لك الحمد حمداً يدوم بدوامك، ولك الحمد حمداً خالداً بنعمتك، ولك الحمد حمداً يوازي صنعك، ولك الحمد حمداً يزيد على رضاك، ولك الحمد حمداً مع حمد كلّ حامد.

ربّ صلّ على محمد وآله صلاةً زاكيةً لا تكون صلاةٌ أزكى منها، وصلّ عليه صلاةً ناميةً لا تكون صلاةٌ أنمى منها، وصلّ عليه صلاةً راضيةً لا تكون صلاةٌ فوقها... ربِّ صلِّ على أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك، وجعلتهم خزنة علمك وحفظة دينك، وخلفاءَك في أرضك، وحججك على عبادك، وطهّرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بإرادتك، وجعلتهم الوسيلة إليك والمسلك إلى جنّتك.

اللهمّ إنّك أيّدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ومناراً في بلادك، بعد أن وَصَلْت حبله بحبلك، وجعلته الذريعة إلى رضوانك، وافترضت طاعته، وحذّرت معصيته، وأمرت بامتثال أوامره والانتهاء عند نهيه، وألاّ يتقدّمه متقدّم ولا يتأخّر عنه متأخّر، فهو عصمة اللائذين، وكهف المؤمنين، وعروة المتمسّكين، وبهاءُ العالمين.

وانزع من قلبي حبّ دنيا دنية تنهى عمّا عندك، وتصدّ عن ابتغاء الوسيلة إليك، وتذهل عن التقرّب منك، وزيّن لي التفرّد بمناجاتك بالليل والنهار، وهب لي عصمة تدنيني من خشيتك، وتقطعني عن ركوب محارمك، وتفكّني من أسر العظائم، وهب لي التطهير من

ــــــــــــــ

(١) لا يعزب: لا يغيب.

(٢) المحال: الأخذ.

١٢٠