اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)0%

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 193

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 193
المشاهدات: 50124
تحميل: 6828

توضيحات:

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 193 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50124 / تحميل: 6828
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

دنس العصيان، وأذْهِب عنّي درن الخطايا، وسربلني (١) بسربال عافيتك.

ولا تكلني إلى حولي وقوّتي دون حولك وقوّتك، ولا تخزني يوم تبعثني للقائك، ولا تفضحني بين يدي أوليائك، ولا تنسني ذكرك، ولا تُذهب عنّي شكرك... واجعل رغبتي إليك فوق رغبة الراغبين، وحمدي إيّاك فوق حمد الحامدين، ولا تخذلني عند فاقتي إليك.

اجعل هيبتي في وعيدك، وحذري من إعذارك وإنذارك، ورهبتي عند تلاوة آياتك، واعمر ليلي بإيقاظي فيه لعبادتك، وتفرّدي بالتهجّد لك، وتجرّدي بسكوني إليك وإنزال حوائجي بك ومنازلتي إيّاك (٢) في فكاك رقبتي من نارك، وإجارتي ممّا فيه أهلها من عذابك، ولا تذرني في طغياني عامهاً (٣) ولا في غمرتي (٤) ساهياً حتى حين، ولا تجعلني عظةً لمن اتّعظ، ولا نكالاً لمن اعتبر، ولا فتنةً لمن نظر، ولا تمكر بي فيمن تمكر به، ولا تستبدل بي غيري... واجعل قلبي واثقاً بما عندك، وهمّي مستغرقاً لما هو لك، واستعملني بما تستعمل به خالصتك، وأشرب قلبي عند ذهول العقول طاعتك... وصن وجهي عن الطلب إلى أحد من العالمين، وذبّني عن التماس ما عند الفاسقين ولا تجعلني للظالمين ظهيراً ولا لهم على محو كتابك يداً ونصيراً...) (٥) .

دعاؤه يوم عيد الأضحى :

كان الإمام زين العابدينعليه‌السلام يستقبل يوم عيد الأضحى بالابتهال إلى الله والتضرّع إليه، طالباً منه أن يتفضّل عليه بقبول مناسكه وسائر طاعاته

ــــــــــــــ

(١) سربلني: قمّصني، والسربال: القميص.

(٢) منازلتي ايّاك: أي مراجعتي.

(٣) عامهاً: العَمَه في البصيرة كالعمى في البصر.

(٤) ولا في غمرتي: أي إغمائي وغفلتي، ناظراً إلى قوله سبحانه: (فذرهم في غمرتهم حتّى حين). المؤمنون (٢٣) : ٥٤ .

(٥) الصحيفة الكاملة السجادية : الدعاء ٤٧.

١٢١

وعباداته، وأن يمنحه المغفرة والرضوان، ومن دعائه في هذا اليوم المبارك:

(اللهمّ هذا يوم مبارك ميمون والمسلمون فيه مجتمعون.

اللهمّ إليك تعمّدت بحاجتي، وبك أنزلتُ اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإنّي بمغفرتك ورحمتك أوثق منّي بعملي، ولمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ على محمد وآل محمد، وتولّ قضاء كلّ حاجة هي لي بقدرتك عليها، وبتيسير ذلك عليك، وبفقري إليك، وغناك عنّي، فإنّي لم أُصِبْ خيراً قطُّ إلاّ منك، ولم يصرف عنّي سوءاً قط أحد غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك.

اللهمّ فصلّ على محمد وآل محمد، ولا تخيّب اليوم ذلك من رجائي، يا من لا يُحفيه سائل ) ولا ينقصه نائل، فإنّي لم آتك ثقةً منّي بعمل صالح قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته إلاّ شفاعة محمد وأهل بيته صلواتك عليه وعليهم وسلامك، أتيتك مقرّاً بالجرم والإساءة إلى نفسي، أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به عن الخاطئين ثمّ لم يمنعك طول عكوفهم (٢) على عظيم الجرم أن عدت (٣) عليهم بالرحمة والمغفرة.

اللهمّ إنّ هذا المقام (٤) لخلفائك (٥) وأصفيائك ومواضع أمنائك (٦) في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها (٧) وأنت المقدّر لذلك، لا يغالب أمرك، ولا يُجاوز

ــــــــــــــ

(١) لا يحفيه سائل: أي لا يستقصيه في السؤال، إذ كلما سأله شيئاً فما بقي عنده فهو أكثر منه بكثير، بل لا نسبة بينهما، لنهاية أحدهما ولا نهاية الآخر.

(٢) عكوفهم: إقامتهم ومواظبتهم.

(٣) أن عُدْتَ: أي عن أن عدت، وحذف مثله قياسي، و (أن) مصدرية يعني العود.

(٤) إنّ هذا المقام: أي مقام صلاة الجمعة أو العيد.

(٥) لخلفائك: أي الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، يعني هم المستحقّون لذلك، وأن يكون أزمّته بأيديهم، فامّا يجعلونه لأنفسهم كما في زمن حضورهم وبلد شهادتهم وأمنهم من الضرر، أو يأذنون لمن يرونه أهلاً له عموماً أو خصوصاً، كما في زمن غيبتهم أو تقيّتهم، وفي غير بلد حضورهم.

(٦) ومواضع أمنائك: نصب عطف على (هذا المقام(، و (لخلفائك) متعلق بهذا (المقام)، أو خبر له.

(٧) قد ابتزوها: الابتزاز والبزّ: السلب والنزع وأخذ الشيء بجفاء وقهر، والعائد للدرجة أو للمواضع أو للمقام باعتبار اكتساب تأنيث الدرجة.

١٢٢

المحتوم من تدبيرك، كيف شئت وأنّى شئت...) (١) .

ظاهرة الدعاء والمناجاة في حياة الإمامعليه‌السلام :

قال تعالى: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ) (٢) .

قال السيد ابن طاووس رضوان الله تعالى عليه في مقام بيان ما تفيده الآية المباركة: فلم يجعل لهم لولا الدعاء محلاًّ ولا مقاماً فقد صار مفهوم ذلك أنّ محل الإنسان ومنزلته عند الله جلّ جلاله على قدر دعائه وقيمته بقدر اهتمامه بمناجاته وندائه(٣) .

وفي ضوء هذه الحقيقة القرآنية نجد أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام كان يدعو الله تعالى ويناجيه في كلّ آن وعلى كلّ حال، مجسّداً فقره المطلق إلى الله جلّ جلاله، وهو ما يستبطن قدر الإمام ومكانته باعتبار أنّ المقام عند الله تعالى على قدر دعائه ومناجاته أو على قدر إدراكه لفاقته وحاجته إلى الله عَزَّ وجَلَّ ، والعمل بما يقتضيه هذا الإدراك من انقطاع تامّ إلى الله تعالى والإعراض عن كلّ ما سواه.

ونقتطف هنا بعض النصوص الشريفة من أدعية ومناجات الإمامعليه‌السلام التي تبيّن ذروة حالات اليقين والغنى التي يمكن أن يصلها الإنسان إذا رسّخ في عقله وقلبه حقيقة (أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله تعالى) فلا يتعلّق قلبه بغيره سبحانه، ولا يرجو شيئاً من سواه تعالى، ولا يحبّ شيئاً غيره ويعمر

ــــــــــــــ

(١) الفرقان (٢٥) : ٧٧.

(٢) فلاح السائل للسيد ابن طاووس : ٢٦، طبعة مكتب الإعلام الإسلامي للحوزة العلمية في قم المقدسة.

(٣) الدعاء: ٤٨ من الصحيفة الكاملة السجاديّة.

١٢٣

أوقاته كلّها بذكره تعالى والعمل بطاعته :

قالعليه‌السلام :(اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واجعل سلامة قلوبنا في ذكر عظمتك، وفراغ أبداننا في شكر نعمتك، وانطلاق ألسنتنا في وصف منّتك، اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واجعلنا من دعاتك الداعين إليك، وهداتك الدالّين عليك، ومن خاصّتك الخاصّين لديك يا أرحم الرحمين) (١) .

إنّه الانقطاع التامّ والكامل فكراً وذكراً وسلوكاً وخُلقاً لله جلّ جلاله.

وقالعليه‌السلام مناجياً الله جلّ جلاله:(كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك؟! وكيف أُؤمِّل سواك والخلق والأمر لك؟! أأقطع رجائي منك وقد أوليتني ما لم أسأله من فضلك أم تفقرني إلى مثلي وأنا اعتصم بحبلك؟! يا من سعد برحمته القاصدون، ولم يشق بنقمته المستغفرون، كيف أنساك ولم تزل ذاكري؟! وكيف ألهو عنك وأنت مراقبي؟!) (٢) .

لقد انقطععليه‌السلام إلى الله عَزَّ وجَلَّ كأعظم ما يكون الانقطاع، فلم يأمل في جميع أموره غيره معتقداً بأنّ الأمل بما في يد غيره سراب.

وناجى ربّه عَزَّ وجَلَّ بقولهعليه‌السلام : (إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك (٣) ، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف (٤) عوائدك (٥) ، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك.

إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إيّاي ثنائي ونشري (٦) .

ــــــــــــــ

(١) الدعاء الخامس من الصحيفة الكاملة.

(٢) مناجاة الراجين.

(٣) طَولك: فضلك.

(٤) ترادُف: تتابع.

(٥) عوائدك: جمع عائدة وهي المعروف والمنفعة.

(٦) نشري: يعني هنا بسط الحديث بالمدح.

١٢٤

جلّلتني (١) نعمك من أنوار الإيمان حللاً، وضربت عليّ لطائف برّك من العزّ كللاً (٢) ، وقلّدتني مننك قلائد لا تحلّ، وطوّقتني أطواقاً لاتفلّ (٣) ، فآلاؤك جمّة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر؟! فكلّما قلت: لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد...) (٤) .

وهكذا يعلّمنا الإمامعليه‌السلام كيف نشكر الله تعالى على ما أولانا من جزيل النعم، وأنّ الإنسان مهما بالغ في شكره فإنّه عاجز وقاصر عن أداء الشكر.

وقالعليه‌السلام :(اللهمّ احملنا في سفن نجاتك، ومتّعنا بلذيذ مناجاتك، وأوردنا حياض حبّك، وأذقنا حلاوة ودّك وقربك، واجعل جهادنا فيك، وهمّنا في طاعتك، وأخلص نيّاتنا في معاملتك، فإنّا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلاّ أنت...) (٥) .

وهكذا طلبعليه‌السلام من الله تعالى أن يخلص نيّته في معاملته ويبلغه أعزّ أمانيه وهي ابتغاء رضوانه جلّ جلاله.

وقالعليه‌السلام :(... إلهي فَاسْلُك بنا سُبُلَ الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهّل علينا العسير الشديد، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار (٦) إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفّيت لهم المشارب، وبلّغتهم الرغائب، وأنجحت لهم

ــــــــــــــ

(١) جَلّلتني: غطّتني، وغمرتني.

(٢) كللاً: كلل جمع الكُلّة وهي بيت أو خيمة رقيقة تُضرب للمبيت تمنع من الذباب والبَعوض وإنّما ذلك لأرباب النعمة.

(٣) لا تُفلّ: لا تثلم.

(٤) مناجاة الشاكرين.

(٥) مناجاة المطيعين.

(٦) البدار: السباق.

١٢٥

المطالب، وقضيت لهم من فضلك المآرب (١) ، وملأت لهم ضمائرهم من حبّك، وروّيتهم من صافي شربك، فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك أقصى مقاصدهم حصّلوا.

فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسهادي، ولقاؤك قرّة عيني، ووصلك مُنى نفسي، وإليك شوقي، وفي محبّتك ولهي (٢) ، وإلى هواك صبابتي (٣) ، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبي، وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك رَوحي (٤) وراحتي، وعندك دواء علّتي، وشفاء غلّتي (٥) ، وبرد لوعتي (٦) ، وكشف كربتي (٧) ...) (٨) .

وهكذا انقطععليه‌السلام إلى الله جلّ جلاله، وتعلّقت به روحه وعواطفه، فلم يبصر غيره، ولا يجد شافياً لغلّتهِ سواه.

وقالعليه‌السلام :(إلهي كسري لا يجبره إلاّ لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلاّ عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكِّنُها إلاّ أمانك، وذلّتي لا يعزّها إلاّ سلطانك، وأمنيتي لا يبلّغنيها إلاّ فضلك، وخلّتي (٩) لا يسدّها إلاّ طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرّجه سوى رحمتك، وضرّي لا يكشفه غير رأفتك، وغلّتي لا يبرّدها إلاّ وصلك، ولوعتي لا يطفيها إلاّ لقاؤك، وشوقي إليك لا يُبله إلاّ النظر إلى وجهك، وقراري لا يقرّ دون دنوّي منك) (١٠) .

لقد أبدى الإمامعليه‌السلام فقره وفاقته إلى الله سبحانه، وقد هامعليه‌السلام بحبّ

ــــــــــــــ

(١) المآرب: جمع مأرب ومأربة أي الحاجة.

(٢) ولهي: تحيّري من شدّة الوجد.

(٣) صبابتي: شوقي.

(٤) الرَوح: الفرح والراحة.

(٥) غلّتي: عطشي الشديد.

(٦) لوعتي: حرقة حزني وهواي ووجدي.

(٧) كرْبتي: همّي وغمي.

(٨) مناجاة المريدين.

(٩) خلّتي: حاجتي وفقري.

(١٠) مناجاة المفتقرين.

١٢٦

سيّده ومولاه خالق الكون وواهب الحياة، فعقد جميع آماله عليه ورجاه في قضاء جميع أموره كأعظم ما يكون الرجاء.

تجلّيات العرفان الإلهي :

وقالعليه‌السلام :(إلهي ما ألذّ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب، وما أحلى المسير إليك بالأوهام في مسالك الغيوب، وما أطيب طعم حبّك، وما أعذب شرب قربك! فأعذنا من طردك وإبعادك، واجعلنا من أخصّ عارفيك وأصلح عبادك وأصدق طائعيك وأخلص عبّادك) (١) .

حقاً إنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام سيّد الموحّدين وزعيم العارفين بالله، ولم تكن عبادته تقليداً، وإنّما كانت ناشئة عن كمال معرفته بالله تعالى، وقد أعرب في النص المذكور عن كمال بغيته ألا وهو الإخلاص في عبادته سبحانه وتعالى.

وقالعليه‌السلام : (إلهي فألهمنا ذكرك في الخلاء (٢) والملاء (٣) والليل والنّهار والإعلان والإسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنِسنا بالذكر الخفيّ، واستعملنا بالعمل الزكيّ والسعي المرضىّ.

أنت المُسبّح في كلّ مكان، والمعبود في كلّ زمان، والموجود في كلّ أوان، والمدعوّ بكلّ لسان، والمعظّم في كل ّجنان (٤) ، وأستغفرك من كلّ لذّة بغير ذكرك، ومن كلّ راحة بغير اُنسك، ومن كلّ سرور بغير قربك، ومن كلّ شغل بغير طاعتك...) (٥) .

ــــــــــــــ

(١) مناجاة العارفين.

(٢) الخلاء: المكان الفارغ الذي ليس فيه أحد.

(٣) الملاء: اجتماع الناس.

(٤) جَنان: القلب.

(٥) مناجاة الذاكرين.

١٢٧

ويأخذنا الذهول حينما نقرأ هذا النصّ السجّادي الذي أعطانا فيه صورة واضحة متميّزة عن تضرّعه وتذلّله أمام الله سبحانه الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

إنّ المعرفة الحقيقية بأنّ الإنسان فقير إلى الله تعالى ـ كما جسّدته النصوص السابقة ـ تجعله يلتجئ إليه تعالى دائماً، ومن هنا نجد أنّ للإمام السجادعليه‌السلام أدعية في أوقات وحالات متعدّدة بالإضافة إلى ما أوردناه، فلهعليه‌السلام دعاء في الصلاة على محمّد وآله، وفي الصلاة على حملة العرش، وفي اللجوء إلى الله تعالى، وفي طلب الحوائج، وعند المرض، وفي مكارم الأخلاق، ولجيرانه، ولأوليائه، ولأهل الثغور، وفي الاستخارة، وفي التوبة، وإذا نظر إلى الهلال، وفي يوم عيد الفطر، وفي التذلّل، وعند الشدّة، وعند ذكر الموت، وفي الرهبة، وفي استكشاف الهموم.

وتجلّى من خلال الفصول السابقة أنّ سيرة الإمام زين العابدينعليه‌السلام جمعت له روح الثورة ضدّ الطغيان والحماس الجهادي إلى جانب المعرفة الإلهية الحقّة وشدّة التعبّد لله جلّ جلاله، فكانت سيرتهعليه‌السلام توضيحاً للإجابة عن التساؤلات التي تثار عن إمكانية الجمع بين الدعاء والمناجاة من جهة والروح النهضوية والتضحوية من جهة أُخرى.

ولعلّ منشأ تلك التساؤلات هو توهّم البعض أنّ تفرّغهم للجهاد الأكبر ومجاهدة النفس والرياضات الشرعية والممارسات العبادية يغنيهم عن القتال والعمل الثوري والروح الجهادية باعتبارها جهاداً أصغر، إذ يغفلون عن حقيقة هي: أنّ القيام بالجهاد الأصغر هو أحد المحاور الأساسية للعمل بالجهاد الأكبر في إطاره الأوسع، وأنّ ترك الجهاد ناشئ في معظم الحالات عن هزيمة خفيّة في أحد ميادين الجهاد الأكبر، فالتلازم بين شدّة التقيّة وشدّة البأس أصيل، إذ يعبّر عن حقيقة شمولية الشريعة والدين الالهي الحنيف لكافة أبعاد حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.

١٢٨

فالمعرفة التوحيدية والنهضة صفتان واضحتان جسّدهما أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، إذ لم تخل سيرتهم أبداً من اجتماعهما، ويتّضح ذلك من خلال التمعّن في مناجاتهمعليهم‌السلام وخطبهم في ميادين الحرب ومواقفهم ضد الحكّام المنحرفين، ونلحظ ذلك عند الإمام السجّادعليه‌السلام في روحه الجهادية الناهضة التي لاحظناها من خلال تصريحاته في الشام وفي مجلس يزيد بن معاوية وهو الأسير المكبّل بالسلاسل، والردّ الحاسم منه في دار الإمارة بالكوفة على من هدّده بالقتل بقوله:(أبالقتل تهدّدنا وإنّ كرامتنا الشهادة) (١) إنّ هذه الروح هي التي نطقت بأدعية الصحيفة السجادية وبالمناجاة الخمس عشرة(٢) ، وفي هذا خير شاهد على اجتماع روح الحماسة وروح الدعاء والمناجاة والعبادة.

وهذه الحقيقة أدّت بدورها إلى أن تَحمل أدعية الإمامعليه‌السلام جوانب سياسية، وجهادية، واجتماعية، وأخلاقية، إلى جوار جوانبها العقائدية والمعرفية والعبادية، فكانت ذات أهداف تغييرية شاملة.

لقد كانت للأدعية السجادية أبعاد فكرية واسعة المدى بالنصوص الحاسمة لقضايا عقائدية إسلامية، كانت بحاجة إلى البتّ فيها بنص قاطع، بعد أن عصفت بالعقيدة تيارات الإلحاد كالتشبيه والجبر والإرجاء وغيرها ممّا كان الأمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل، تمهيداً للردّة عن الإسلام والرجوع إلى الجاهلية الأولى.

وفي حالة القمع والإبادة ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار وتتبّع آثارهم

ــــــــــــــ

(١) نفس المهموم، المحدّث القمي: ٤٠٨.

(٢) راجع الفصل الخاصّ بتراثه عليه‌السلام .

١٢٩

وخنق أصواتهم كان قرار الإمام زين العابدين عليه‌السلام باتّباع سياسة الدعاء أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها، وأأمَن طريقة وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة، وأقوى أداة اتّصال سرّية مكتوبة هادئة موثوقة (١) .

ظاهرة البكاء في حياة الإمامعليه‌السلام :

تختلف دواعي البكاء عند الإنسان ،فقد يبكي شوقاً إلى المحبوب، وقد يبكي اعتراضاً وصرخةً في وجه النظام الغشوم، ومن هنا يمكن تفسير وفهم ما جاء من: (أنّ البكاء على الإمام أبي عبد الله الحسين وسيّد الشهداءعليه‌السلام من عوامل السعادة الخالدة والزلفى إلى المهيمن سبحانه).

ولم يزل خاتم الأنبياء محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكيه في بيته وفي المسجد وحده تارة ومع أصحابه تارة أُخرى، ويجيب من يسأله قائلاً:(أخبرني جبرئيل بقتل ولدي الحسين في جماعة من أهل بيته وأراني التربة التي يقتل فيها) (٢) .

مضافاً إلى ما في البكاء عليه من التعريف بالقساوة التي استعملها الأمويون ولفيفهم، ومن هنا كان الأئمّة يحثّون شيعتهم على عقد المحافل لذكر حادثة الطفّ واستدرار الدموع لكارثتها المؤلمة، وأكثروا من بيان الأجور المترتّبة عليه إلى حد بعيد.

وغير خفيّ أنّ إكثار الإمام زين العابدينعليه‌السلام من البكاء على أبيه سيّد الشهداء طيلة حياته لم يكن لمحض الرقّة والعاطفة، بل إنّهعليه‌السلام لاحظ به غاية سامية وهي تعريف الأجيال المتعاقبة الواعية لهذا الخَطْب الجليل وهوعليه‌السلام شاهد حال بما جاء به الأمويون من القساوة والفظاعة وخروجهم عن الدين والشريعة وتنمّرهم تجاه العدل والمروءة والإنسانية...

ــــــــــــــ

(١) جهاد الإمام السجّاد عليه‌السلام : ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٢) كشف الغمة : ٢ / ٧ ـ ١٢ .

١٣٠

لقد بكى على أبيه المدّة التي عاش فيها حتى قال له مولاه:إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، فقال: ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة) (١) .

وقال له آخر: أما آنَ لحزنك أن ينقضي؟ فقالعليه‌السلام :(ويلك لقد شكا يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت حين قال: ( يَا أَسَفَى ) ولم يفقد إلاّ ابناً واحداً وهو حي في الدنيا وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبّحون حولي) (٢) .

وكانعليه‌السلام إذا أخذ الإناء لِيشرب الماء تذكّر عطش أبيه ومن معه فيبكي حتى يمزجه من دموعه، فإذا قيل له في ذلك يقول:(كيف لا أبكي وقد مُنِع أبي من الماء الذي هو مطلق للوحوش والسباع) (٣) .

وكثيراً ما كان يحدّث أصحابه بفوائد الحزن في مصابهم والبكاء على ما انتابهم من المحن فيقول:(أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين حتى تسيل على خدّه; بوّأه الله في الجنة غرفاً) (٤) فكان صلوات الله عليه بإدامته البكاء على أبيه يؤجِّج في الأفئدة ناراً لما ارتكبه أولئك الطغاة من الجرائم والمآثم، يأبى الحنان البشري أن يكون صاحبها إنساناً فضلاً عن أن يقود اُمّةً أو يرأس رعيّةً، وفضلاً عن أن يكون خليفة في دين أو متبعاً في دنيا.

وحيث لم تسعه المجاهرة بموبقات من اغتصبهم الخلافة الإلهية وجرّ إليهم الويلات ونكّل بهم; اتّخذعليه‌السلام البكاء طريقاً لتنبيه الناس بتلكم الجرائم، وهذا منه أكبر جهاد ناجع في تحطيم عرش من أهلك الحرث والنسل وعاث في البلاد فساداً وخبالاً، فكان بكاؤه متمّماً للنهضة المقدسة.

ــــــــــــــ

(١) أعيان الشيعة : ١/٦٣٦ ، سيرة علي بن الحسين عليه‌السلام بكاءه على أبيه.

(٢) المصدر السابق .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٨ عن مناقب آل أبي طالب : ٤/١٧٩ و١٨٠ وعن حلية الأولياء : ٣/١٣٨.

(٤) راجع : ثواب الأعمال : ٨٣ .

١٣١

وقد سبقته إلى هذا الجهاد الأكبر جدّته الصدّيقة الزهراءعليها‌السلام وحاولوا إسكاتها معتذرين بأنّ نفوسهم لا تطيب بطعام ولا شراب وعزيزة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنوح الليل والنهار فلم تهدأ عن البكاء، فاضطر سيّد الأوصياءعليه‌السلام إلى إخراجها إلى البقيع بعد أن بنى لها بيتاً من جريد النخل سمّاه (بيت الأحزان)، فإنّ الغرض تعريف الأمة من كان مستحقاً للخلافة الإلهية وقد اغتصبت منه.

فالبكاء يوجب إلفات نظر الناس إلى الأسباب الباعثة عليه، وبهذا التفحّص تتجلى لهم الحقيقة ويسطع بصيصٌ مِنْ أَلَقِ الحَقِّ المحجوب بظلم الجائرين...(١) .

لقد كان البكاء واحداً من الأساليب التي جعلها الإمام السجّادعليه‌السلام وسيلة لإحياء ذكرى كربلاء، كما استعمل أساليب أُخرى:

منها: زيارة الحسينعليه‌السلام والحثّ عليها.

قال أبو حمزة الثمالي: سألت عليّ بن الحسين عن زيارة الحسينعليه‌السلام فقال:(زره كلّ يوم، فإن لم تقدر فكلّ جمعة، فإن لم تقدر فكلّ شهر، فمن لم يزره فقد استخفّ بحقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (٢) !

ــــــــــــــ

(١) الإمام زين العابدين عليه‌السلام للسيّد الموسوي المقرّم: ٣٦٠ ـ ٣٦٥، نشر دار الشبستري للمطبوعات. وفي النص مقاطع أخذها من مصادر أُخرى ذكرها في الكتاب.

(٢) جهاد الإمام السجاد عليه‌السلام : ٢٢٠.

١٣٢

ومنها: الاحتفاظ بتراب قبر الحسينعليه‌السلام للسجود عليه(١) .

ومنها: أنّهعليه‌السلام كان يتختّم بخاتم أبيه الحسين عليه‌السلام (٢) .

ظاهرة الإعتاق في حياة الإمامعليه‌السلام :

العتق ظاهرة فريدة جاءت بها الشريعة الإسلامية، وقد اعتنى بها الأئمّة الأطهار اعتناء تاماً، إلاّ أنّ تحرير الرقيق يشكل ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام بالخصوص بشكل ليس له مثيل في تأريخ الإمامة، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة الفاحصة.

وإذا دقّقنا في الظروف والملابسات التي عاشها الإمامعليه‌السلام وقمنا ببعض المقارنات بين أعمالهعليه‌السلام والأحداث التي كانت تجري من حوله والظروف التي اكتنفت عملية الإعتاق الواسعة التي تبنّاها الإمامعليه‌السلام ; اتّضحت الصورة الحقيقية لأهدافهعليه‌السلام من ذلك.

فيلاحظ أولاً : أنّ أعداد الرقيق والعبيد كانت تتواتر على البلاد الإسلامية، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل على أثر توالي الفتوحات.

ثانياً: كان الأمويون ينتهجون سياسة التمييز العنصري، إذ كانوا يعتبرون الموالي شبه الناس(٣) .

ثالثاً: أنّ الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية ابتداءً من الخليفة نفسه ومروراً بالأمراء والوزراء وانتهاءً بموظّفي الدولة كانوا لا يمثّلون الإسلام، وإنّما كانوا بالضدّ والنقيض مع أحكامه وأخلاقه وآدابه وإن كانت تلهج ألسنتهم باسمه وتلعق بشهاداته.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦ / ٧٩، باب ٥، ح٧٥.

(٢) نقش الخواتيم للسيد جعفر مرتضى: ١١.

(٣) مختصر تأريخ دمشق : ١٧ / ٢٨٤.

١٣٣

رابعاً: أنّ انتشار العبيد والموالي وبالكثرة الكثيرة ومن دون أيّ تحصين أخلاقي أو تربية إسلامية كان يؤدّي إلى شيوع البطالة والفساد، وهو ما ترمي إليه الدولة الظالمة.

ويلاحظ فيما يتّصل بالإمامعليه‌السلام :

١ ـ أنّ الإمامعليه‌السلام كان يشتري العبيد والإماء ولكن لا يُبقي أحدهم عنده أكثر من سنة واحدة فقط، وهذا يعني أنّه كان مستغنياً عن خدمتهم، فكان يعتقهم بحجج متعدّدة وفي مناسبات مختلفة.

٢ ـ أنّ الإمامعليه‌السلام كان يعامل الموالي ـ لا كعبيد أو إماء ـ بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية، ممّا يعزّز في نفوسهم الأخلاق الكريمة ويحبّب إليهم الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام .

٣ ـ أنّ الإمامعليه‌السلام كان يعلّم الرقيق أحكام الدين ويغذّيهم بالمعارف الإسلامية، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّناً بالمعلومات التي تفيده في حياته ويدفع بها الشبهات ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح.

٤ ـ كان الإمامعليه‌السلام يزوّد من يعتقه بما يغنيه، فيدخل المجتمع ليزاول الأعمال الحرّة كأيّ فرد من الأمة، ولا يكون عالةً على المجتمع.

فالإمامعليه‌السلام كان يستهدف إسقاط السياسة التي كان يزاولها الأمويون في معاملتهم للرقيق، فقد حقّق عمل الإمامعليه‌السلام النتائج التالية:

أ ـ حرّر مجموعة كبيرة من عباد الله وإمائه الذين وقعوا في الأسر، وتلك حالة استثنائية، ومع أنّ الإسلام كان قد أقرّها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التأريخ الإسلامي، إلاّ أنّ الشريعة وضعت طرقاً عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم الحرية، وقد استفاد الإمامعليه‌السلام من كلّ الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطرق، وتحرير العبيد والإماء، ففي عمل الإمامعليه‌السلام تطبيق للشريعة الإسلاميّة.

ب ـ إنّ الرقيق المعتَقين يشكّلون جيلاً من الطلاّب الذين تربّوا في بيت الإمامعليه‌السلام وعلى يده بأفضل صورة، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحقّ والمعرفة والصدق والإخلاص وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة.

فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكلّ ذلك في قرارات نفوسهم، في شعورهم أو لا شعورهم، وينقلونه إلى الأجيال اللاحقة، وفي ذلك حفظ للإسلام المحمدي الذي كُلّف أهل البيتعليهم‌السلام مسؤولية حفظه وإيصاله إلى الأجيال اللاحقة.

١٣٤

ولا ريب أنّ الإمامعليه‌السلام لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس فلابدّ أنّه كان يواجه منعاً من الجهاز الحاكم أو عرقلة لعمله أو رقابة شديدة في أقل تقدير، بينما كان حُرّاً في هذا المجال عن طريق توظيف ظاهرة طبيعية وعادية وهي شراء الرقيق وعتقهم في ذلك الظرف الذي كان يستساغ فيه مثل هذا العمل.

ج ـ لقد استقطب الإمامعليه‌السلام ولاء الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحرّرين، إذ لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام عليه‌السلام ولا بُعد فيه إذا لاحظنا مَنْ يُعتَقُ مع من يرتبط به من أعضاء أسرته وعائلته وأقربائه الذين سوف يوجدون ويرتبطون به عاطفياً وعقائدياً وسياسياً بشكل طبيعي.

الباب الخامس: فيه فصول:

الفصل الأول: من تراث الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الثاني: رسالة الحقوق.

الفصل الثالث: في رحاب الصحيفة السجادية.

الفصل الرابع: مدرسة الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الأول: من تراث الإمام زين العابدينعليه‌السلام

لم يذكر التأريخ أنّ الأئمّة من أهل البيتعليه‌السلام قد درسوا عند أحد أو تتلمذوا عند شخصية علمية سوى ما ورثوه من آبائهم الكرام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد تميّزوا بعلومهم الزاخرة ومعارفهم الباهرة والتي ظهر شيء منها في الأوساط التي اكتنفتهم ونقل لنا بعض ما ظهر منهم.

كما أجمع المؤرّخون على أنّ الأئمة المعصومينعليهم‌السلام كانوا من أوسع الناس علماً وأكثرهم دراية في أكثر من مجال علمي.

١٣٥

إنّ الإمامة والقيادة الرشيدة للأمة الإسلامية وللإنسانية المفتقرة إلى الهداية الربّانية تتطلّب إحاطة الإمام بكلّ علم يرتبط بمجال عمله ودائرة مسؤوليته، وقد أثبت أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام هذه الحقيقة بشكل عملي قد سجّله التأريخ لنا بكلّ وضوح، ممّا أدّى إلى إثارة التيارات المخالفة لخط أهل البيتعليهم‌السلام ولا سيَّما الخلفاء الذين كانوا يرون الأئمّة أنداداً لهم لا يضاهيهم ند ولا شريك باعتبار تفوّقهم علماً وعملاً، وانتهت هذه الإثارات إلى السعي لاختبار الأئمّةعليهم‌السلام في أكثر من مجال وفي أكثر من عصر، بحيث سُجّلت هذه الاختبارات في التأريخ الإسلامي ودخلت مصادر التأريخ، ولم تترك مجالاً للريب في جدارة الأئمّة من أهل البيت للقيادة الربّانية، باعتبار ما أثبتوه للأمة بكلّ وضوح وحقّقوه من مرجعيّتهم العلمية على مختلف الأصعدة لكلّ من حاول اختبارهم وأراد الاطّلاع على واقع عملهم.

وقد جاء في نصوص الأحاديث الشريفة أنّ المؤمن ينظر بنور الله، وهو تعبير آخر عمّا جاء في قوله تعالى:( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) (١) ، فلا بُعد فيما يعتقده الشيعة الإمامية في أئمتهمعليهم‌السلام من أنّهم مُلهمون بإلهام إلهي وتعليم ربّاني، وقد ورّثهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علمه وأدبه وكماله، وهم أهل بيت الوحي والرسالة، فهم أجدر من غيرهم بوراثة العلم والكمال الربّاني المُتَبلورَين في شخصيّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القيادية وفي شخصيّة كلّ إمام من أهل البيتعليهم‌السلام الذين عيّنهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله لتلك المهمّة الكبرى والمسؤوليّة العظمى، وقد قال تعالى:( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (٢) .

إنّ العلماء الذين تتلمذوا على الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ورووا عنهم بعض معارفهم خير شاهد على سعة علوم الأئمّة وتميّزها عن علوم غيرهم ممّن عُرفوا بالعلم والدراية.

ويمكن أن نصنّف بعض ما روي عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام إلى علوم القرآن والحديث والفقه والأخلاق والسيرة والتأريخ والعقائد، بالإضافة إلى ما أفاضه في طيّات أدعيته ووصاياه واحتجاجاته في علوم النفس والاجتماع والتربية والعرفان والإدارة والاقتصاد إلى غيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية.

ونعرض بإيجاز صورة عن معارفه وعلومه التي سجّلها لنا التأريخ.

ــــــــــــــ

(١) البقرة (٢) : ٢٨٢.

(٢) النجم (٥٣): ٣ ـ ٤.

١٣٦

في رحاب القرآن الكريم :

القرآن الكريم هو الوحي الإلهي الخالص والمعجزة الخالدة لنبوّة سيّد المرسلين وشريعة خاتم النبيّين والينبوع الثرّ لكلّ علم ومعرفة، وعنه قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (١) .

وقد شغف الإمام زين العابدينعليه‌السلام كآبائه الكرام ـ بشكل ملفت للنظر ـ بالقرآن الكريم وعلومه، وتمثّل ذلك في سلوكه اليومي وأدعيته واهتماماته، تلاوةً وتدبّراً وتفسيراً وتعليماً وعملاً، بما لا يدع مجالاً للريب في أنّ الإمامعليه‌السلام كان هو القرآن الناطق والتجسيد الحيّ لكلّ آيات القرآن الباهرة والمعجزة الإلهية الخالدة.

وها نحن نعرض بعض ما يشير إلى مدى اهتمام الإمامعليه‌السلام بالقرآن العظيم من خلال دعائه عند ختم القرآن بالإضافة إلى ما مرّ في البحوث السابقة.

قالعليه‌السلام :(اللهمّ إنّك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً، وجعلته مهيمناً على كلّ كتاب أنزلته، وفضّلته على كلّ حديث قصصته، وفرقاناً فرّقت به بين حلالك وحرامك، وقرآناً أعربت به عن شرائع أحكامك، وكتاباً فصّلته لعبادك تفصيلاً، ووحياً أنزلته على نبيّك محمّد صلواتك عليه وآله تنزيلاً، وجعلته نوراً نهتدي من ظلم الضلالة والجهالة

ــــــــــــــ

(١) راجع مصادر وأسانيد ونصوص هذا الحديث الشريف والمتواتر عند الفريقين في الأعداد ٤ إلى ٩ من مجلة رسالة الثقلين، وحديث الثقلين، طبعة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، مصر: ٩ .

١٣٧

باتّباعه، وشفاءً لمن أنصت بفهم التصديق إلى استماعه، وميزان قسط (١) لا يحيف (٢) عن الحقّ لسانه، ونور هدىً لا يطفأ عن الشاهدين برهانه، وعلم نجاة لا يضلّ من أمّ قصد سنّته، ولا تنال أيدي الهلكات من تعلّق بعروة عصمته.

اللهمّ فإذا أفدتنا المعونة على تلاوته، وسهلت جواسي ألسنتنا (٣) بحسن عبادته، فاجعلنا ممّن يرعاه حقّ رعايته، ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه وموضّحات بيّناته، اللهمّ إنّك أنزلته على نبيّك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وألهمته علم عجائبه مكملاً، وورثتنا علمه مفسّراً وفضّلتنا على من جهل علمه، وقوّيتنا عليه لترفعنا فوق من لم يطق حمله.

اللهمّ فكما جعلت قلوبنا له حملةً وعرّفتنا برحمتك شرفه وفضله فصلّ على محمّد الخطيب به وعلى آله الخزّان له، واجعلنا ممّن يعترف بأنّه من عندك حتى لا يعارضنا الشكّ في تصديقه، ولا يختلجنا الزيغ عن قصد طريقه) (٤) .

إنّ القرآن هو معجزة الإسلام الكبرى، وقد تحدّث سليل النبوّة في هذا المقطع عن بعض معالمه وأنواره وهي:

١ ـ إنّ الله تعالى أنزل القرآن الكريم نوراً يهدي به الضالّ، ويرشد به الحائر، ويوضّح به القصد.

٢ ـ إنّ الله تعالى جعل القرآن الحكيم مهيمناً ومشرفاً على جميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه، فهو يكشف عمّا حدث فيها من التغيير والتبديل والتحريف من قبل المنحرفين ودعاة الضلال.

ــــــــــــــ

(١) القسط: العدل.

(٢) لا يحيف: لا يميل.

(٣) جواسي: جمع جاسية وهي الغليظة، والمراد غلاظ الألسنة.

(٤) الصحيفة السجادية : من دعائه في ختم القرآن (٤٢).

١٣٨

٣ ـ إنّ الله تعالى فضّل كتابه العزيز على كلّ حديث عرض فيه قصص الأنبياء وشؤونهم، فقد تناول الذكر الحكيم بصورة موضوعية وشاملة أحوالهم وشؤونهم واقتباس العبر منهم.

٤ ـ إنّ القرآن الكريم باعتباره منهجاً ودستوراً عامّاً للحياة يفرّق بين الحلال والحرام، ويعرب عن شرائع الأحكام، ويفصّل جميع ما يحتاجه الناس تفصيلاً واضحاً لا لبس فيه ولا غموضاً.

٥ ـ إنّ الله تعالى كما جعل كتابه الحكيم نوراً يُهتدى به في ظلم الضلالة والجهالة كذلك جعله شفاءً من الأمراض والعاهات النفسية، وذلك لمن آمن به وصدّقه.

٦ ـ إنّ الذكر الحكيم ميزان عدل وقسط، ليس فيه ميلٌ عن الحقّ، ولا اتّباع لهوى، وإنّ من تمسّك به واعتصم; فقد سلك الطريق القويم الذي لا التواء فيه، ونجا من الهلاك.

٧ ـ طلب الإمامعليه‌السلام من الله جلّ جلاله أن يتفضل عليه برعاية كتابه والتسليم لمحكم آياته والإقرار بمتشابهاته.

٨ ـ إنّ الله تعالى قد منح نبيّه العظيم فهم عجائب ما في القرآن الكريم وعلّمه تفسيره، كما أشاد بأئمّة الهدى من عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين رفعهم الله عَزَّ وجَلَّ وأعلى درجتهم، فجعلهم خزنة علمه والأدلاّء على كتابه.

نماذج من تفسير الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

كان الإمام عليه‌السلام من ألمع المفسّرين للقرآن الكريم، وقد استشهد علماء التفسير بالكثير من روائع تفسيره، ويقول المؤرّخون أنّه كان صاحب مدرسة

١٣٩

لتفسير القرآن، وقد أخذ عنه ابنه الشهيد زيد في تفسيره للقرآن(١) كما أخذ عنه ابنه الإمام أبو جعفر محمد الباقرعليه‌السلام الذي رواه عنه زياد بن المنذر(٢) الزعيم الروحي للفرقة الجارودية. وهذه نماذج من تفسيرهعليه‌السلام لكتاب الله العزيز.

١ ـ روى الإمام محمد الباقر عن أبيهعليهما‌السلام ، في تفسير الآية الكريمة:( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً ) (٣) ، أنّه سبحانه وتعالى جعل الأرض ملائمةً لطباعكم، موافقةً لأجسادكم، ولم يجعلها شديدة الحمأ (٤) والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم (٥) ، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم، ولكنّه عَزَّ وجَلَّ جعل فيها من المتانة (٦) ما تنتفون به، وتتماسكون عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشاً لكم، ثمّ قال عَزَّ وجَلَّ: ( وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) أي سقفاً من فوقكم، محفوظاً يدير شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم، ثمّ قال عَزَّ وجَلَّ: ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يعني المطر ينزله من عل ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وأوهادكم (٧) ثم فرّقه رذاذاً ووابلاً وهطلاً (٨) لتنشفه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلاً عليكم قطعة

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام : ٢ / ٣٢.

(٢) حياة الإمام الباقر عليه‌السلام : ١ / ١١، نقلاً عن الفهرست للشيخ الطوسي: ٩٨.

(٣) البقرة (٢) : ٢٢.

(٤) الحمأ: شدّة حرارة الشمس.

(٥) تعطبكم: أي تهلكم.

(٦) المتانة: ما صلب من الأرض وارتفع.

(٧) الأوهاد: الأرض المنخفضة.

(٨) الهطل: المطر الضعيف الدائم.

١٤٠