اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)0%

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 193

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 193
المشاهدات: 50142
تحميل: 6828

توضيحات:

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 193 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50142 / تحميل: 6828
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم، ثم قال عَزَّ وجَلَّ: ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ ) يعني ممّا يخرجه من الأرض رزقاً لكم ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً ) أي أشباهاً وأمثالاً من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنّها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربّكم تبارك وتعالى (١) .

وحوت هذه القطعة الذهبية من كلام الإمام زين العابدينعليه‌السلام أروع أدلة التوحيد وأوثقها، فقد أعطت صورة متكاملة مشرقة من خلق الله تعالى للأرض، فقد خلقها بالكيفية الرائعة التي ليست صلبة ولا شديدة ليسهل على الإنسان العيش عليها، والانتفاع بخيراتها وثمراتها التي لا تحصى، فالأرض بما فيها من العجائب كالجبال والأودية والمعادن والبحار والأنهار وغير ذلك من أعظم الأدلة وأوثقها على وجود الخالق العظيم الحكيم.

كما استدل الإمامعليه‌السلام على عظمة الله تعالى بخلقه السماء وما فيها من الشمس والقمر وسائر الكواكب التي تزوّد هذه الأرض بأشعتها.

إنّ أشعّة الشمس لها الأثر البالغ في تكوين الحياة النباتية، كما أنّ أشعة القمر لها الأثر على البحار في مدّها وجزرها، وكذلك لأشعة سائر الكواكب، فإنّ الأثر التام في منح الحياة العامّة لجميع الموجودات الحيوانية والنباتية في الأرض، وهذه الظواهر الكونية التي لم تكتشف إلاّ في هذه العصور الحديثة، إلاّ أنّ الإمامعليه‌السلام ألمح إليها في كلامه، فكان حقّاً هو وآباؤه وأبناؤه المعصومون الرواد الأوائل الذين رفعوا راية العلم، وساهموا في تكوين الحضارة الإنسانية.

ــــــــــــــ

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٢٥ ـ ١٢٦. طبعة مؤسسة الأعلمي ـ بيروت .

١٤١

وأعطى الإمامعليه‌السلام صورة متميزة عن الأمطار، وأنّها تتساقط بصورة رتيبة وفي أوقات خاصة، وذلك لإحياء الأرض وإخراج ثمراتها، ولو دام المطر ونزل دفعة واحدة; لأَهلك الحرث والنسل.

وبعدما أقام الإمام الأدلّة المحسوسة على وجود الخالق الحكيم; دعا إلى عبادته وتوحيده ونبذ الأصنام والأنداد التي تدعو إلى انحطاط الفكر وجمود الوعي، لأنّها لا تضرّ ولا تنفع ولا تملك أيّ قدرة في إدارة هذا الكون وتصريف شؤونه.

٢ ـ فسّرعليه‌السلام الآية الكريمة :( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) (١) بقوله:(السلم هو ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ) (٢) . ولا شك أنّ ولاية الإمام أمير المؤمنين وباب مدينة علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي السلم الحقيقي الذي ينعم الناس في ظلاله بالأمن والرخاء والاستقرار، ولو أنّ المسلمين كانوا قد دانوا بهذه الولاية بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما داهمتهم الأزمات في حياتهم السياسية والاجتماعية.

٣ ـ روى الإمام الصادقعليه‌السلام عن جدّه الإمام زين العابدينعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى:( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) (٣) أنّه قال:(إنّي ضامن على ربّي تعالى أنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الربّ تعالى) ، وكان يقول:(ليس من شيء إلاّ وكّل به ملك، إلاّ الصدقة فإنّها تقع في يد الله تعالى) (٤) .

٤ ـ سأل رجل الإمام زين العابدينعليه‌السلام عن الحقّ المعلوم الذي ورد في قوله تعالى:( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (٥) ، فقالعليه‌السلام :

ــــــــــــــ

(١) البقرة (٢) : ٢٠٨.

(٢) تفسير البرهان : ١ / ١٢٩.

(٣) التوبة (٩) : ١٠٥.

(٤) تفسير البرهان : ١ / ٤٤١، تفسير الصافي: ٢ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

(٥) المعارج (٧٠) : ٢٤ و ٢٥ .

١٤٢

(الحقّ المعلوم الشيء الذي يخرجه من ماله ليس من الزكاة والصدقة المفروضتين) ، فقال له الرجل: فما يصنع به؟ فقالعليه‌السلام :(يصل به رحماً، ويقوّي به ضعيفاً، ويحمل له كلّه، أو يصل أخاً له في الله، أو لنائبة تنوبه) وبهر الرجل من علم الإمام وراح يقول له: الله أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء(١) .

٥ ـ فسّر الإمامعليه‌السلام الآية الكريمة: ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) (٢) بأنّه العفو من غير عتاب (٣) .

في رحاب الحديث الشريف :

للحديث الشريف أهمية بالغة في العلوم الإسلامية، فقد بُني معظم الفقه الإسلامي عليه، فإنّه يعرض بصورة موضوعية وشاملة لتفصيل الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم، فيذكر أنواعها من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، كما يذكر أجزاءها وشرائطها وموانعها وسائر ما يعتبر فيها، ويعرض لعمومات الكتاب ومطلقاته فيخصّصها ويقيّدها، وبالإضافة إلى ذلك يتناول آداب السلوك وقواعد الأخلاق، ويعطي البرامج الوافية لسعادة الإنسان وبناء شخصيته.

وقد كان الإمام زين العابدينعليه‌السلام في عصر التابعين من أعظم الرواة وأهمّهم فضلاً عن كونه أحد مصادر بيان الأحكام والمعارف الإلهية باعتقاد الشيعة الإمامية باعتبار أنّ أحاديث الأئمّةعليهم‌السلام هي أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :(علّمني رسول الله ألف باب

ــــــــــــــ

(١) لآلئ الأخبار : ٣ / ٣، وسائل الشيعة : ٦ / ٦٩.

(٢) الحجر (١٥) : ٨٥ .

(٣) وسائل الشيعة : ٥ / ٥١٩.

١٤٣

من العلم فتح لي من كلّ باب ألف باب) (١) . وأيّد التاريخ هذا المعنى فيما روي عن علىّعليه‌السلام من العلوم والمعارف وأقرّت الصحابة بفضل عليّ وبمرجعيّته العلمية هو والأئمّة من بنيه، ولا غرو في ذلك بعد أن جعلهم الله أبواب الهدى وسفن النجاة كما صحّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال:(مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق) (٢) .

والنصوص التي وصلتنا عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد صرّح في بعضها بأنّها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن جدّه أمير المؤمنين، هذا فضلاً عمّا رواه عن أبيه الحسينعليه‌السلام .

وقد اعتنى أئمّة الحديث بأحاديثه اعتناءً فائقاً باعتباره الرائد العلمي في عصر التابعين، ولولا مدرسته العلمية وجهوده التثقيفية المباركة; لاندرست أعلام الدين في عصر طغت فيه الميوعة ورُوِّجَت فيه الشهوات، وأريد للأمة الإسلامية أن تعود إلى جاهلية جهلاء.

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢٢ / ٤٧٠.

(٢) المصدر السابق : ٢٣ / ١١.

١٤٤

في رحاب أُصول العقيدة ومباحث الكلام :

كان الإمامعليه‌السلام في زمانه وحيد عصره في الإجابة على الأسئلة العقائدية المعقّدة ولا سيَّما ما تعرضت له الأمة الإسلامية من تيارات فكرية مستوردة أو دخيلة تحاول زعزعة كيان العقيدة الخالصة كمباحث القضاء والقدر والجبر والاختيار التي ظهرت بوادرها في حياة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وأخذت بالنمو والانتشار بحيث شكّلت ظاهرة فكرية تستدعي الانتباه وتتطلّب العلاج.

وبرز الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام على الصعيد العلمي بروزاً جعله مناراً يشار إليه، وآمن به المسلمون جميعاً حتى قال الزهري عنه: ما رأيت هاشمياً أفضل من عليّ بن الحسين ولا أفقه منه.

وقد اعترف بهذه الحقيقة حكّام عصر الإمام من خلفاء بني اُميّة ـ وهم لا يعترفون بالفضل لمن يطاولهم في الخلافة والسلطان ـ حتى قال عبد الملك ابن مروان للإمام زين العابدينعليه‌السلام : ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلاّ من مضى من سلفك. ووصفه عمر بن عبد العزيز بأنّه سراج الدنيا وجمال الإسلام.

وممّا ورد عنه في القضاء والقدر أنّ رجلاً سأله: جعلني الله فداك، أبقدر يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل؟

فأجابهعليه‌السلام : (إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير جسد لا تحسّ، والجسد بغير روح صورة لا حراك بها، فإذا اجتمعا قويا وصلحا، كذلك العمل والقدر، فلو لم يكن القدر واقعاً على العمل لم يعرف الخالق من المخلوق، وكان القدر شيئاً لا يحسّ، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر; لم يمض ولم يتمّ ولكنهما باجتماعهما، ولله

١٤٥

فيه العون لعباده الصالحين) ثم قالعليه‌السلام :

(ألا إنّ من أَجور الناس من رأى جوره عدلاً وعدل المهتدي جوراً، ألا إنّ للعبد أربعة أعين: عينان يبصر بهما أمر آخرته، وعينان يبصر بهما أمر دنياه، فإذا أراد الله عزوجل بعبد خيراً; فتح له العينين اللّتين في قلبه فأبصر بهما العيب، وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه) ثمّ التفت إلى السائل عن القدر فقال: (هذا منه، هذا منه)(١) .

وقالعليه‌السلام في بيان استحالة أن يوصف الله تعالى بالمحدودية التي هي من صفات الممكن:

(لا يوصف الله تعالى بالمحدودية عظم الله ربّنا عن الصفة، وكيف يوصف بمحدودية من لا يُحَدّ، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)(٢) ؟

الإمام زين العابدينعليه‌السلام ينصّ على الأئمّة من بعده ويبشّر بالمهديعليه‌السلام :

١ ـ روىعليه‌السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري حديثاً طويلاً جاء فيه: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى سبطه الحسين قائلاً لجابر: (ومن ذرّيّة هذا رجل يخرج في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً...)(٣) .

٢ ـ وقالعليه‌السلام عن المهديعليه‌السلام : (إنّ الإسلام قد يُظهِرهُ الله على جميع الأديان عند قيام القائم)(٤) .

٣ ـ وقالعليه‌السلام : (إذا قام القائم; أذهب الله عن كلّ مؤمن العاهة وردّ إليه قُوَّتَه)(٥) .

ــــــــــــــ

(١) التوحيد للشيخ الصدوق : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ منشورات جامعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، الطبعة السادسة .

(٢) حياة الإمام زين العابدين : ٣٠٤ .

(٣) معجم أحاديث الإمام المهدي (عج) : ٣ / ١٩٠ .

(٤) المصدر السابق : ٣ / ١٩١ .

(٥) المصدر السابق : ٣ / ١٩٣ .

١٤٦

٤ ـ وذكرعليه‌السلام أنّ سنن الأنبياء تجري في القائم من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :فمن آدم ونوح طول العمر، ومن إبراهيم خفاء الولادة واعتزال الناس، ومن موسى الخوف والغَيْبة، ومن عيسى عليه‌السلام اختلاف الناس فيه، ومن أيّوب الفَرَج بَعد البلوى، ومن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخروج بالسيف (١) .

٥ ـ وقال عن خفاء ولادته على الناس:(القائم منّا تخفى ولادته على الناس حتى يقولوا لم يولَد بَعد ليخرجَ حينَ يخرج وليس لأحد في عنقهِ بيعة) (٢).

٦ ـ وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي(٣) قال:

دخلت على سيّدي عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام فقلت له: يابن رسول الله! أخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودّتهم، وأوجب على خلقه الاقتداء بهم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال لي:(يا أبا كنكر! إنّ أولي الأمر الذين جعلهم الله أئمّة الناس وأوجب عليهم طاعتهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ثم انتهى الأمر إلينا) ، ثم سكت.

فقلت له: يا سيّدي! روي لنا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال:(لا تخلو الأرض من حجّة لله على عباده) فمن الحجّة والإمام بعدك ؟

قال:(ابني (محمّد) واسمه في التوراة (باقر) يبقر العلم بقراً، هو الحجّة والإمام بعدي، ومن بعد محمّد ابنه (جعفر) اسمه عند أهل السماء (الصادق)) .

فقلت له: يا سيّدي فكيف صار اسمه: (الصادق)، وكلّكم صادقون ؟

ــــــــــــــ

(١) معجم أحاديث الإمام المهدي (عج) : ٣ / ١٩٤ .

(٢) المصدر السابق .

(٣) في الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي : ١ / ٦٠ قال: (قال الفضل بن شاذان: ولم يكن في زمن عليّ بن الحسين عليه‌السلام في أول أمره إلاّ خمسة أنفس: سعيد بن جبير، سعيد بن المسيّب، محمد بن جبير بن مطعم، يحيى بن أم الطويل، أبو خالد الكابلي واسمه وردان ولقبه كنكر. ثم قال: وفي خبر الحواريّين أنّه من حواري عليّ بن الحسين عليه‌السلام وقد شاهد كثيراً من دلائل الأئمة عليهم‌السلام .

١٤٧

فقال:(حدّثني أبي عن أبيه أنّ رسول الله قال: (إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسموه الصادق، فإنّ الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدّعي الإمامة اجتراءً على الله وكذباً عليه، فهو عند الله (جعفر الكذّاب) المفتري على الله، المدّعي لما ليس له بأهل، المخالف على أبيه، والحاسد لأخيه، ذلك الذي يكشف سرّ الله عند غيبة وليّ الله) .

ثم بكى عليّ بن الحسين بكاء شديداً، ثمّ قال:

(كأنّي بجعفر الكذّاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر وليّ الله، والمغيّب في حفظ الله، والتوكيل بحرم أبيه جهلاً منه بولادته، وحرصاً على قتله إن ظفر به، طمعاً في ميراث أبيه حتى يأخذه بغير حقّه) .

قال أبو خالد: فقلت له: يابن رسول الله وإنّ ذلك لكائن ؟

فقال:(أي وربّي إنّه المكتوب عندنا في الصحيفة التي فيها ذكر المحن التي تجري علينا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) .

قال أبو خالد: فقلت: ياابن رسول الله ثمّ يكون ماذا ؟

قال:(ثمّ تمتد الغيبة بوليّ الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده، يا أبا خالد! إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كلّ زمان، لأنّ الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف، اُولئك المخلصون حقّاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً). وقال عليه‌السلام : (انتظار الفرج من أعظم الفرج) (١) .

ــــــــــــــ

(١) الاحتجاج : ٢ / ٤٨ ـ ٥٠ احتجاجات الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام .

١٤٨

في رحاب الفقه وأحكام الشريعة:

كانت الحلقة الدراسية التي أسّسها الإمام زين العابدينعليه‌السلام حلقة حافلة بصنوف المعرفة الإسلامية، وكان يفيض فيها الإمام من علومه وعلوم آبائه الطاهرين ويمرّن النابهين منهم على الفقه والاستنباط، وقد تخرّج من هذه الحلقة الدراسية عدد كبير من فقهاء المسلمين.

واستقطب الإمام عن هذا الطريق الجمهور الأعظم من القرّاء وحملة الكتاب والسُنّة حتى قال سعيد بن المسيّب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتى يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب.

وعلم الفقه بالمعنى المعروف فعلاً هو العلم بأحكام أفعال المكلّفين على ضوء مصادر الشريعة الإسلامية، وكان الإمام هو المرجع الوحيد في عصره لإعطاء تفاصيل الأحكام الشرعية، وتعليم طريقة استنباطها من مصادرها الإسلامية، والمربي الفذَّ الذي تخرَّج على يديه فقهاء المدينة، وكانت مدرسته هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من مدارس فقهيّة.

وقد قال عنه الزهري: ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه(١) . وعدّه الشافعي أفقه أهل المدينة.

وروى المؤرّخون : أنّ الزهري كان يعترف بالفضل والفقه للإمام عليّ ابن الحسينعليهما‌السلام وكان ممّن يرجع إليه في ما يهمّه من الأحكام الشرعية، ورُوي أنّه رأى في منامه كأنّ يده مخضوبة، وفسّرت له رؤياه بأنّه يبتلى بدم خطأ، وكان في ذلك الوقت عاملاً لبني أمية، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة،

ــــــــــــــ

(١) راجع ترجمة الإمام زين العابدينعليه‌السلام من تاريخ دمشق، تحقيق محمد باقر المحمودي : ٢٧ .

١٤٩

ففزع وخاف من الله، وفرّ هارباً فدخل في غار يتعبّد فيه، وكان الإمامعليه‌السلام قد مضى حاجّاً إلى بيت الله الحرام فاجتاز على الغار الذي فيه الزهري، فقيل له: هل لك في الزهري حاجة ؟ فأجابهم إلى ذلك، ودخل عليه فرآه فزعاً خائفاً، قانطاً من رحمة الله، فقالعليه‌السلام له:(إنّي أخاف عليك من القنوط ما لا أخاف عليك من ذنبك، فابعث بدية مسلّمة إلى أهله، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك) .

فاستبشر الزهري وقال له: فرّجت عنّي يا سيّدي، الله أعلم حيث يجعل رسالته في مَن يشاء(١) .

ودخل الزهري مع جماعة من الفقهاء على الإمام زين العابدينعليه‌السلام فسأل الإمام الزهريّ عمّا كانوا يخوضون فيه فقال له: تذاكرنا الصوم فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنّه ليس من الصوم واجب إلاّ شهر رمضان.

فنعى عليهم الإمامعليه‌السلام قلّة معلوماتهم بشؤون الشريعة وأحكام الدين، وبيّن لهم أقسام الصوم قائلاً:

(ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجهاً، عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها صومهنّ حرام، وأربعة عشر وجهاً صيامهنّ بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم الإذن على ثلاثة أوجه، وصوم التأدّب وصوم الإباحة وصوم السفر والمرض) .

وبهر الزهري وبقية الفقهاء من سعة علم الإمامعليه‌السلام وإحاطته بأحكام الدين، وطلب منه الزهري ايضاح تلك الوجوه وبيانها، فقالعليه‌السلام :(أمّا الواجب فصيام شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين لمن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمداً، وصيام شهرين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، واجب، قال الله تعالى: ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ... ) مسلّمة إلى أهله ـ إلى قوله ـ : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ

ــــــــــــــ

(١) تأريخ دمشق : ٣٦ / ١٦ ، بحار الأنوار : ٤٦ / ٧ .

١٥٠

فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ) (١) .

وصيام شهرين متتابعين في كفّارة الظهار (٢) لمن لم يجد العتق. قال الله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) (٣) .

وصيام ثلاثة أيام: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ) (٤) ، كل ذلك تتابع وليس بمفترق.

وصيام أذى الحلق (حلق الرأس) واجب، قال الله تبارك وتعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) (٥) ، وصاحبها فيها بالخيار بين صيام ثلاثة أيام أو صدقة أو نسك.

وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدي، قال الله تبارك وتعالى: ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) (٦) .

وصوم جزاء الصيد واجب، قال الله تبارك وتعالى: ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً ) (٧) ) (٨) .

ــــــــــــــ

(١) النساء (٤) : ٩٢ .

(٢) الظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي .

(٣) المجادلة (٥٨) : ٣ ـ ٤ .

(٤) المائدة (٥) : ٨٩ .

(٥) البقرة (٢) : ٩٦ .

(٦) البقرة (٢) : ١٩٦ .

(٧) المائدة (٥) : ٩٥.

(٨) المقنعة، الشيخ المفيد: ٣٦٣ .

١٥١

ثمّ قال عليه‌السلام : (أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياماً يا زهريّ ؟) فقال: لا أدري، قال عليه‌السلام : (تقوّم الصيد قيمة ثمّ تفضي تلك القيمة على البُرّ، ثمّ يكال ذلك البرّ أصواعاً، فيصوم لكلّ نصف صاع يوماً.

وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب (١) .

وأمّا الصوم الحرام فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحى، وثلاثة أيام من أيام التشريق (٢) وصوم يوم الشكّ اُمِرنا به ونُهينا عنه، اُمرنا أن نصومه من شعبان ونهينا أن ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشكّ فيه الناس) .

والتفت الزهري إلى الإمامعليه‌السلام قائلاً: جعلت فداك فإن لم يكن صام من شعبان شيئاً كيف يصنع ؟ قالعليه‌السلام :(ينوي ليلة الشك أنّه صائم من شعبان، فإن كان من شهر رمضان أجزأ عنه، وإن كان من شعبان لم يضرّ) .

وأشكل الزهري على الإمام: كيف يجزي صوم تطوع عن فريضة ؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام :(لو أنّ رجلاً صام يوماً من شهر رمضان تطوعاً وهو لا يدري ولا يعلم أنّه من شهر رمضان ثمّ علم بعد ذلك أجزأ عنه، لأنّ الفرض إنّما وقع على اليوم بعينه) .

ثمّ استأنف الإمام حديثه في بيان أقسام الصوم قائلاً:

(وصوم الوصال حرام (٣) ، وصوم الصمت حرام (٤) ، وصوم النذر للمعصية حرام، وصوم الدهر حرام.

وأمّا الصوم الذي صار صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة والخميس والاثنين

ــــــــــــــ

(١) الاعتكاف إنّما يجب بعد مضي يومين منه فيتعيّن اليوم الثالث، وكذلك يجب بالنذر وشبهه.

(٢) أيام التشريق: هي أيام منى وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد يوم النحر.

(٣) صوم الوصال: وهو أن يصوم الليل والنهار ، وحرمته حرمة تشريعية .

(٤) صوم الصمت: هو أن يمسك الإنسان فيه عن الكلام ، وقد كان الكلام محرّماً على الصائم في الشرائع السابقة ، كما أعلن القرآن ذلك في قصة مريم، قال تعالى: ( إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً ) إلاّ أنّه نسخ في الشريعة الإسلامية المقدسة .

١٥٢

وصوم الأيام البيض (١) وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان ويوم عرفة ويوم عاشوراء، كلّ ذلك صاحبه فيه بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفط ر.

وأمّا صوم الإذن فإنّ المرأة لا تصوم تطوّعاً إلاّ بإذن زوجها، والعبد لا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذن سيّده، والضيف لا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذن مضيّفه، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن نزل على قوم فلا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذنهم.

وأمّا صوم التأديب فإنّه يؤمر الصبيّ إذا راهق تأديباً وليس بفرض، وكذلك من أفطر لعلّة أول النهار، ثمّ قوي بعد ذلك أمر بالإمساك بقية يومه تأديباً، وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثمّ قدم أهله أمر بالإمساك بقية يومه تأديباً وليس بفرض.

وأمّا صوم الإباحة فمن أكل أو شرب أو تقيّأ من غير تعمّد أباح الله ذلك وأجزأ عنه صومه.

وأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامّة اختلفت فيه، فقال قوم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يفطر في الحالتين جميعاً، فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء في ذلك، لأنّ الله عَزَّ وجَلَّ يقول: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... ) (٢) ) .

وانتهى هذا البحث الفقهي الذي ألقاه الإمام على العلماء والفقهاء،وقد كشف عن مدى إحاطة الإمام بأحكام الشريعة وفروع الفقه، فقد فرّع على الصوم هذه الفروع المهمّة التي غفل عنها العلماء، ومن الجدير بالذكر أنّ فقهاء الإمامية استندوا إلى هذه الرواية في فتاواهم بأحكام الصوم.

ــــــــــــــ

(١) الأيام البيض: وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وسمّيت لياليها بيضاً لأنّ القمر يطلع فيها من أولها إلى آخرها. جاء ذلك في مجمع البحرين (مادة: بيض) .

(٢) فروع الكافي : ١ / ١٨٥ ، الخصال: ٥٠١ ـ ٥٠٤ ، تفسير القمّي : ١٧٢ ـ ١٧٥، المقنعة : ٥٨، التهذيب: ١/٤٣٥.

١٥٣

حقائق علمية في الأدعية السجادية :

بالرغم من أنّ الصحيفة السجادية وُظّفت أدعيتها لتربية الإنسان وترشيد حركته الفردية والاجتماعية ولكنّها تضمّنت جملة من الحقائق

العلمية التي تنبئ عن إحاطة الإمام بالحقائق العلمية وشموخ مقامه العلمي ـ كما تضمّنت خطب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ودعاء عرفة للإمام الحسينعليه‌السلام قسماً كبيراً من العلوم والمعارف ـ فيما يرتبط بتركيبة الإنسان الجسمية وكيفية خلقه أو كيفية خلق أنواع الكائنات الأُخرى الأرضية والسماوية.

قالعليه‌السلام :(سبحانك تعلم وزن السماوات، سبحانك تعلم وزن الأرضين، سبحانك تعلم وزن الشمس والقمر، سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور، سبحانك تعلم وزن الفيء والهواء) (١) .

كلّ ذلك في عصر لم تكن مثل هذه المفاهيم مطروحة في الأوساط العلمية في دنيا الإسلام أو غيرها.

وأشارعليه‌السلام إلى إمكانية وجود الجراثيم في المياه والأطعمة في دعائه لأهل الثغور ، داعياً على الأعداء:(اللهمّ وامزج مياههم بالوباء، وأطعمتهم بالأدواء) (٢) .

وتجد في كثير من أدعيتهعليه‌السلام إشارات واضحةً إلى أمثال هذه الحقائق العلمية.

ــــــــــــــ

(١) الدعاء ٥١ من الصحيفة الثانية التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي.

(٢) دعاءه لأهل الثغور في الصحيفة الكاملة أو الجامعة .

١٥٤

أدب الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

إنّ الإمام السجّاد توفّر على نتاج فنّيّ ضخم يجيء ـ من حيث الكمّ ـ بعد الإمام علىّعليه‌السلام كما يجيء ـ من حيث الكيف ـ متميّزاً بسمات خاصة، وفي مقدمة ذلك أدب الدعاء الذي منحه السجادعليه‌السلام خصائص فكرية وفنّيّة تفرّد بها(١) .

اتّجه الإمام في أدبه الخاصّ إلى نقد الأوضاع المنحرفة، وإلى بناء الشخصية الإسلامية في المستويين الفردي والاجتماعي، بحيث يمكن القول بأنّ أدبه كان تجسيداً للحركة الإسلامية مقابل الأدب الدنيوي الذي بدأ ينحرف مع انحرافات السلطة، وينحدر إلى ما هو عابث ومظلم ومنحرف(٢) .

وجاء في الصحيفة السجّادية الجامعة نقلاً عن الأصمعيّ أنّه قال: كنت أطوف حول الكعبة ليلة، فإذا شابّ ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان وهو متعلّق بأستار الكعبة ويقول:(نامتِ العيون وغارتِ النجومُ وأنت الملكُ الحيّ القيّومُ، غلّقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حُرّاسها، وبابك مفتوح للسائلين، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين) .

ثم أنشأ يقول:

يا من يُجيبُ دعاء المضطرّ في الظُلَمِ

يا كاشفَ الضرّ والبَلوى مع السَقَمِ

قد نام وفدُك حول البيت قاطبةً

وأنت وحدك يا قيّومُ لم تنَمِ

أدعوك ربِّ دعاءً قد أمرتَ به

فارحم بكائي بحقّ البيتِ والحَرمِ

إن كان عفوك لا يرجوهُ ذو سَرَف

فمن يَجُودُ على العاصينَ بالنِعَمِ؟

ــــــــــــــ

(١ و٢) تأريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي: ٣٥٣ .

١٥٥

قال: فاقتفيته فإذا هو زين العابدينعليه‌السلام .

كما جاء فيها عن طاووس اليماني أنّه قال: رأيتُ في جوف الليل رجلاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول:

ألا يا أيّها المأمول في كلّ حاجة

شكوتُ إليك الضُرّ فاسمع شكايتي

ألا يا رجائي أنت كاشف كُربتي

فهب لي ذنوبي كلّها واقض حاجتي

فزادي قليل لا أراه مبلّغي

أللزادِ أبكي أم لبُعد مسافتي

أتيتُ بأعمال قباح ردية

فما في الورى خلقٌ جنى كجنايتي

أتحرِقُني في النار يا غاية المُنى

فأين رجائي منك، أين مخافتي؟

قال: فتأمّلته فإذا هو عليّ بن الحسينعليهما‌السلام .

ومن أدبه المنظوم أيضاً ما ذكره أحمد فهمي محمد في كتاب الإمام زين العابدين عن فضل أهل البيتعليهم‌السلام ومكانتهم :

لنحن على الحوض روّاده

نذود ونسقي وراده

وما فاز من فاز إلاّ بنا

وما خاب مَن حبّنا زادُه

ومن سرّنا نال منّا السرور

ومن ساءنا ساء ميلاده

ومن كان غاصبنا حقّنا

فيوم القيامة ميعادُه

احتجاجات الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

إنّ فن الاحتجاج والمناظرة العلمية فنّ جليل لما ينبغي أن يتمتّع به المناظر من مقدرة علمية وإحاطة ودقّة ولياقة أدبية.

وقد تميّز أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين بهذا الفنّ، واستطاعوا من خلال هذا المجال إفحام خصومهم وإثبات جدارتهم العلمية بنحو لا يدع مجالاً للريب في أنّهم مؤيّدون بتأييد ربّاني، وكما عبّر بعض أعدائهم: أنّهم أهل بيت قد زُقّوا العِلمَ زقّاً.

وقد جمع العلاّمة الطبرسي جملةً من احتجاجات المعصومين الأربعة عشر: الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والزهراء عليها‌السلام والأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام في كتابه المعروف بالاحتجاج، ونشير هنا إلى بعض احتجاجات الإمام زين العابدين عليه‌السلام .

١٥٦

١ ـ جاء رجل من أهل البصرة إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام فقال: يا عليّ بن الحسين! إنّ جدّك عليّ بن أبي طالب قتل المؤمنين، فهملت عينا عليّ بن الحسين دموعاً حتى امتلأت كفّه منها، ثمّ ضرب بها على الحصى، ثم قال:

(يا أخا أهل البصرة، لا والله ما قتل عليّ مؤمناً، ولا قتل مسلماً، وما أسلم القوم ولكن استسلموا وكتموا الكفر وأظهروا الإسلام، فلمّا وجدوا على الكفر أعوانا أظهروه، وقد علمت صاحبة الجدب والمستحفظون من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أصحاب الجمل وأصحاب صفّين وأصحاب النهروان لعنوا على لسان النبيّ الأمي، وقد خاب من افترى) .

فقال شيخ من أهل الكوفة: يا عليّ بن الحسين! إنّ جدّك كان يقول:(إخواننا بغوا علينا) .

فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام :(أما تقرأ كتاب الله ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) فهم مثلهم أنجى الله عَزَّ وجَلَّ هوداً والذين معه وأهلك عاداً بالريح العقيم) (١) .

٢ ـ وعن أبي حمزة الثمالي قال: دخل قاض من قضاة أهل الكوفة على عليّ بن الحسينعليه‌السلام فقال له: جعلني الله فداك، أخبرني عن قول الله عَزَّ وجَلَّ : ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا

ــــــــــــــ

(١) الاحتجاج للطبرسي : احتجاجات الإمام زين العابدين عليه‌السلام .

١٥٧

فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) (١) .

قال لهعليه‌السلام :(ما يقول الناس فيها قبلكم ؟) .

قال: يقولون إنّها مكّة.

فقالعليه‌السلام :(وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكّة) .

قال: فما هو ؟

قالعليه‌السلام :(إنّما عنى الرجال) .

قال: وأين ذلك في كتاب الله ؟

فقالعليه‌السلام :(أو ما تسمع إلى قوله عَزَّ وجَلَّ : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ ) (٢) وقال: ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ) (٣) وقال: ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) (٤) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير؟

قال: وتلا عليه آيات في هذا المعنى.

قال: جعلت فداك ! فمن هم؟

قال :نحن هم .

فقالعليه‌السلام :(أو ما تسمع إلى قوله: ( سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) ؟) .

قالعليه‌السلام : (آمنين من الزيغ) (٥) .

٤ ـ وروي: أنّ زين العابدين عليه‌السلام مرّ بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمنى، فوقف عليه‌السلام عليه ثم قال:

(أمسك، أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم، أترضاها لنفسك فيما

ــــــــــــــ

(١) سبأ (٣٤) : ١٨ .

(٢) الطلاق (٦٥) : ٨ .

(٣) الكهف (١٨) : ٥٩ .

(٤) يوسف (١٢) : ٨٢ .

(٥) الاحتجاج ٢ : احتجاجات الإمام زين العابدين عليه‌السلام .

١٥٨

بينك وبين الله إذا نزل بك غداً؟) .

قال: لا.

قال:(أفتحدّث نفسك بالتحوّل والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك إلى الحال التي ترضاها؟) قال: فأطرق مليّاً ثم قال: إنّي أقول ذلك بلا حقيقة.

قال:(أفترجو نبيّاً بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون لك معه سابقة؟) .

قال: لا.

قال:(أفترجو داراً غير الدار التي أنت فيها ترد إليها فتعمل فيها؟) .

قال: لا.

قال:(أفرأيت أحداً به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا؟ إنّك على حال لا ترضاها ولا تحدّث نفسك بالانتقال إلى حال ترضاها على حقيقة، ولا ترجو نبيّاً بعد محمّد، ولا داراً غير الدار التي أنت فيها فترد إليها فتعمل فيها، وأنت تعظ الناس) ، قال: فلمّا ولّىعليه‌السلام قال الحسن البصري: من هذا؟

قالوا: عليّ بن الحسين.

قال: أهل بيت علم، فما رُئِي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس(١) .

٥ ـ وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت عليّ بن الحسين عليه‌السلام يحدّث رجلاً من قريش قال:

لمّا تاب الله على آدم واقع حوّاء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت إلاّ في الأرض، وذلك بعد ما تاب الله عليه ، قال:وكان آدم يعظّم البيت وما حوله من حرمة البيت، فكان إذا أراد أن يغشى حوّاء خرج من الحرم وأخرجها معه، فإذا جاز الحرم غشيها في الحلّ، ثمّ يغتسلان إعظاماً منه للحرم، ثمّ يرجع إلى فناء البيت .

ــــــــــــــ

(١) الاحتجاج للطبرسي : احتجاجات الإمام زين العابدين عليه‌السلام .

١٥٩

قال: فولد لآدم من حوّاء عشرون ذكراً وعشرون اُنثى، فولد له في كلّ بطن ذكر واُنثى، فأول بطن ولدت حواء (هابيل) ومعه جارية يقال لها: (أقليما)، قال: وولدت في البطن الثاني (قابيل) ومعه جارية يقال لها: (لوزا)، وكانت لوزا أجمل بنات آدم، (قال): فلمّا أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة فدعاهم إليه فقال: أريد أن أنكحك يا هابيل لوزا، وأنكحك يا قابيل أقليما.

قال قابيل: ما أرضى بهذا، أتنكحني أخت هابيل القبيحة، وتنكح هابيل اُختي الجميلة؟

قال: فأنا أقرع بينكما، فإن خرج سهمك يا قابيل على لوزا وخرج سهمك يا هابيل على أقليما زوّجت كلّ واحد منكما التي خرج سهمه عليها، قال: فرضيا بذلك فاقترعا، قال: فخرج سهم هابيل على لوزا أخت قابيل، وخرج سهم قابيل على أقليما أخت هابيل، قال: فزوّجهما على ما خرج لهما من عند الله، قال: ثمّ حرّم الله نكاح الأخوات بعد ذلك) .

قال: فقال له القرشي: فأولداهما ؟

قال:نعم .

قال: فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم !

قال: فقال عليّ بن الحسين:(إنّ المجوس إنّما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله) .

ثمّ قال له عليّ بن الحسينعليه‌السلام :(لا تنكر هذا، إنّما هي الشرائع جرت، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثمّ أحلّها له ؟! فكان ذلك شريعة من شرائعهم، ثمّ أنزل الله التحريم بعد ذلك) (١) .

٦ ـ روي عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال:(لمّا قتل الحسين بن علىّ عليه‌السلام أرسل محمّد بن الحنفية إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام فخلا به ثم قال:

ــــــــــــــ

(١) الاحتجاج : احتجاجات الإمام زين العابدين عليه‌السلام .

١٦٠