اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)30%

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 193

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 193 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53062 / تحميل: 7823
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فقال عليه‌السلام له: (إن كُنّا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك...) (١) .

السخاء :

أجمع المؤرِّخون على أنّه كان من أسخى الناس وأنداهم كفّاً، وأبرَّهم بالفقراء والضعفاء، وقد نقلوا نوادر كثيرة من فيض جوده، منها:

١ ـ مرض محمّد بن اُسامة فعاده الإمامعليه‌السلام ، ولمّا استقرّ به المجلس أجهش محمّد بالبكاء، فقال له الإمامعليه‌السلام :ما يبكيك؟ فقال: عليّ دين، فقال له الإمام:كم هو؟ فأجاب: خمسة عشر ألف دينار، فقال له الإمامعليه‌السلام :هي عليّ ، ولم يقم الإمام من مجلسه حتى دفعها له(٢) .

٢ ـ ومن كرمه وسخائه أنّه كان يطعم الناس إطعاماً عامّاً في كلّ يوم، وذلك في وقت الظهر في داره(٣) .

٣ ـ وكان يعول مائة بيت في السرّ، وكان في كلّ بيت جماعة من الناس(٤) .

تعامله مع الفقراء :

أ ـ تكريمه للفقراء : كانعليه‌السلام يحتفي بالفقراء ويرعى عواطفهم ومشاعرهم، فكان إذا أعطى سائلاً قبّله، حتى لا يُرى عليه أثر الذلّ

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ١/١٤٦ عن نسب آل أبي طالب للعبيدلي النسّابة م ٢٧٠ هـ .

(٢) الإرشاد : ٢/١٤٩، ومناقب آل أبي طالب : ٤/١٦٣ وراجع: البداية والنهاية : ٩ / ١٠٥، وسير أعلام النبلاء : ٤ / ٢٣٩.

(٣) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ٢٥٩ ط بيروت.

(٤) مناقب آل أبي طالب: ٤/١٦٦ عن الباقر عليه‌السلام وعن أحمد بن حنبل، وكشف الغمة: ٢/٢٨٩ عن مطالب السؤول عن حلية الأولياء ، وفي الكشف : ٢/٣١٢، عن الجنابذي، ولكن فيه: ٢/٣٠٤ عنه أيضاً عن الصادق عليه‌السلام قال: كان يعول سبعين بيتاً .

٢١

والحاجة(١) ، وكان إذا قصده سائل رحّب به وقال له:(مرحباً بمن يحمل زادي إلى دار الآخرة) (٢) .

ب ـ عطفه على الفقراء: كانعليه‌السلام كثير العطف والحنان على الفقراء والمساكين، وكان يعجبه أن يحضر على مائدة طعامه اليتامى والأضراء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، كما كان يحمل لهم الطعام أو الحطب على ظهره حتى يأتي باباً من أبوابهم فيناولهم إيّاه(٣) . وبلغ من مراعاته لجانب الفقراء والعطف عليهم أنّه كره اجتذاذ النخل في الليل; وذلك لعدم حضور الفقراء في هذا الوقت فيحرمون من العطاء، فقد قالعليه‌السلام لقهرمانه وقد جذّ نخلاً له من آخر الليل:(لا تفعل، ألا تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الحصاد والجذاذ بالليل؟!) . وكان يقول:(الضغث تعطيه من يسأل فذلك حقه يوم حصاده) (٤) .

ج ـ نهيه عن ردّ السائل: ونهى الإمامعليه‌السلام عن ردّ السائل; وذلك لما له من المضاعفات السيّئة التي منها زوال النعمة وفجأة النقمة.

وأكد الإمامعليه‌السلام على ضرورة ذلك في كثير من أحاديثه، فقد روى أبو حمزة الثمالي، قال: صلّيت مع عليّ بن الحسين الفجر بالمدينة يوم جمعة، فلمّا فرغ من صلاته نهض إلى منزله وأنا معه، فدعا مولاةً له تسمّى سكينة، فقال لها:(لا يعبر على بابي سائل إلاّ أطعمتموه فإنّ اليوم جمعة) ، فقال له أبو حمزة: ليس من يسأل مستحقاً، فقالعليه‌السلام :(أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقاً فلا نطعمه،

ــــــــــــــ

(١) حلية الأولياء : ٣ / ١٣٧، وعنه في مناقب آل أبي طالب: ٤/١٦٧.

(٢) كشف الغمة : ٣/٢٨٨ عن مطالب السؤول للشافعي عن حلية الأولياء للاصفهاني.

(٣) مناقب آل أبي طالب : ٤/١٦٦ و ١٦٧ عن الباقر عليه‌السلام .

(٤) بحار الأنوار : ٤٦ / ٦٢.

٢٢

ونردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله، أطعموهم، أطعموهم، إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشاً فيتصدّق منه، ويأكل منه هو وعياله، وإنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً مستحقّاً، له عند الله منزلة اجتاز على باب يعقوب يوم جمعة عند أوان إفطاره، فجعل يهتف على بابه: أطعموا السائل الغريب الجائع من فضل طعامكم، وهم يسمعونه، قد جهلوا حقّه، ولم يصدّقوا قوله، فلمّا يئس منهم وغشيه الليل مضى على وجهه، وبات طاوياً يشكو جوعه إلى الله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وعندهم فضلة من طعامهم، فأوحى الله إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي ونزول عقوبتي، وبلواي عليك وعلى ولدك، يا يعقوب أحبّ أنبيائي إليّ وأكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي وقرّبهم إليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ، أما رحمت عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا؟! أما وعزّتي لأنزلنّ بك بلواي، ولأجعلنّك وولدك غرضاً للمصائب .

فقال أبو حمزة: جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا؟

قال عليه‌السلام : في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآله شباعاً وبات السائل الفقير طاوياً جائعاً ) (١) .

صدقاته :

وكان من أعظم ما يصبو إليه الإمام زين العابدينعليه‌السلام في حياته الصدقة على الفقراء لإنعاشهم ورفع البؤس عنهم، وكانعليه‌السلام يحثّ على الصدقة; وذلك لما يترتّب عليها من الأجر الجزيل، فقد قال: (ما من رجل تصدّق على مسكين مستضعف فدعا له المسكين بشيء في تلك الساعة إلاّ استجيب له)(٢) .

ونشير إلى بعض ألوان صدقاته وجميل خصاله :

ــــــــــــــ

(١) علل الشرائع : ١/٦١ ب ٤٢ ح ١ ط بيروت.

(٢) وسائل الشيعة : ٦ / ٢٩٦

٢٣

أ ـ التصدّق بثيابه: كانعليه‌السلام يلبس في الشتاء الخزّ، فإذا جاء الصيف تصدّق به أو باعه وتصدّق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر ويتصدّق بهما إذا جاء الشتاء(١) ، وكان يقول:(إني لأستحي من ربّي أن آكل ثمن ثوب قد عبدت الله فيه) (٢) .

ب ـ التصدّق بما يحبّ: كان يتصدّق باللوز والسكَّر، فسئل عن ذلك فتلا قوله تعالى:( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (٣) .

وروي أنّه كان يعجبه العنب، وكان صائماً فقدّمت له جاريته عنقوداً من العنب وقت الإفطار، فجاء سائل فأمر بدفعه إليه، فبعثت الجارية من اشتراه منه، وقدّمته إلى الإمام، فطرق سائل آخر الباب، فأمرعليه‌السلام بدفع العنقود إليه، فبعثت الجارية من اشتراه منه وقدّمته للإمام، فطرق سائل ثالث الباب فدفعه الإمام إليه(٤) .

ج ـ مقاسمة أمواله : وقاسم الإمام أمواله مرّتين فأخذ قسماً له، وتصدّق بالقسم الآخر على الفقراء والمساكين(٥) .

ــــــــــــــ

(١) تأريخ دمشق : ٣٦ / ١٦١.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤/١٦٧ عن حلية الأولياء : ٣/١٣٦ ـ ١٤٠ .

(٣) مناقب آل أبي طالب: ٤/١٦٧ .

(٤) المحاسن: ٢/٣٦١ طبعة المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ، وفروع الكافي : ٦ / ٣٥٠.

(٥) مناقب آل أبي طالب : ٤/١٦٧ عن حلية الأولياء : ٣ / ١٤٠ ، وجمهرة الأولياء : ٢ / ٧١، وخلاصة تهذيب الكمال: ٢٣١.

٢٤

د ـ صدقاته في السرّ : وكان أحبّ شيء عند الإمامعليه‌السلام الصدقة في السر، لئلاّ يعرفه أحد، وقد أراد أن يربط نفسه ومن يعطيهم من الفقراء برباط الحبّ في الله تعالى، وتوثيقاً لصلته بإخوانه الفقراء بالإسلام، وكان يحثّ على صدقة السرّ ويقول:(إنّها تطفئ غضب الربّ) (١) .

وقد اعتاد الفقراء على صلة لهم في الليل، فكانوا يقفون على أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا وقالوا: جاء صاحب الجراب(٢) .

وكان له ابن عم يأتيه بالليل فيناوله شيئاً من الدنانير فيقول له العلوي: إنّ عليّ بن الحسين لا يوصلني، ويدعو عليه، فيسمع الإمام ذلك ويغضي عنه، ولا يُعرّفه بنفسه، ولمّا توفّيعليه‌السلام فقد الصلة، فعلم أنّ الذي كان يوصله هو الإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام فكان يأتي قبره باكياً ومعتذراً منه(٣) .

وقال ابن عائشة: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السرّ حتى مات عليّ بن الحسين(٤) .

وكانعليه‌السلام شديد التكتّم في صلاته وهباته، فكان إذا ناول أحداً شيئاً غطّى وجهه لئلاّ يعرفه(٥) .

وقال الذهبي : إنّه كان كثير الصدقة في السرّ(٦) .

ــــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب : ٤/١٦٥ عن الثمالي والثوري، وفي تذكرة الحفاظ : ١ / ٧٥ وأخبار الدول: ١١٠ ونهاية الإرب : ٢١ / ٣٢٦، وكشف الغمة : ٢/٢٨٩ عن مطالب السؤول عن حلية الأولياء. وفي الكشف : ٢/٣١٢ عن الجنابذي عن الثوري عنه عليه‌السلام كان يقول: إنّ الصدقة تطفئ غضب الرب. بدون قيد السّر.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤/١٦٦ .

(٣) كشف الغمة : ٢/٣١٩ عن نثر الدرر للآبي.

(٤) حلية الأولياء وعنه في مناقب آل أبي طالب : ٤/١٦٦ وكشف الغمة : ٢/٢٩٠ عن مطالب السؤول عن الحلية: ٤/١٣٦ وفي البداية والنهاية لابن كثير : ٩/١١٤، وصفة الصفوة : ٢ / ٥٤، الإتحاف بحب الأشراف: ٤٩ والأغاني : ١٥ / ٣٢٦.

(٥) مناقب آل أبي طالب : ٤/١٦٦ عن الباقر عليه‌السلام .

(٦) تذكرة الحفّاظ : ١ / ٧٥.

٢٥

وكانعليه‌السلام يجعل الطعام الذي يوزّعه على الفقراء في جراب ويحمله على ظهره، وقد ترك أثراً عليه(١) .

هـ ـ ابتغاؤه مرضاة الله: ولم يكن الإمامعليه‌السلام يبتغي في برّه وإحسانه إلى الفقراء إلاّ وجه الله عَزَّ وجَلَّ والدار الآخرة، ولم تكن عطاياه وصدقاتهعليه‌السلام مشوبة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.

قال الزهري: رأيت عليّ بن الحسين في ليلة باردة وهو يحمل على ظهره دقيقاً، فقلت له: يابن رسول الله! ما هذا؟ فأجابهعليه‌السلام :(أريد سفراً، أُعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز) . فقال: هذا غلامي يحمله عنك، فامتنع الإمام من إجابته، وتضرّع الزهري إليه أن يحمله هو بنفسه عنه، إلاّ ان الإمام أصرّ على ما ذهب إليه، وقال له:(ولكنّي لا أرفع نفسي عمّا ينجيني في سفري، ويحسّن ورودي على ما أردُ عليه، أسألك بحق الله لمّا مضيت لحاجتك) .

وانصرف الزهري عن الإمام، وبعد أيام التقى به، وقد ظنّ أنّه كان على جناح سفر ولم يعِ مراده فقال له: يابن رسول الله، لست أرى لذلك السفر الذي تركته أثراً.

فأجابه الإمامعليه‌السلام : (يا زهري، ليس ما ظننت، ولكنّه الموت وله أستعدُّ، إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام وبذل الندى في الخير) (٢) .

العزّة والإباء :

ومن صفات الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام العزّة والإباء،

ــــــــــــــ

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢/٣٠٣ ط بيروت.

(٢) علل الشرائع: ١ / ٢٧ وعنه في بحار الأنوار : ٤٦ / ٦٥ ـ ٦٦.

٢٦

فقد ورثها من أبيه الحسين سيّد الشهداءعليه‌السلام الذي تحدّى طغاة عصره قائلاً:(والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد) (١) .

وقد تمثّلت هذه الظاهرة الكريمة في شخصيّة الإمام زين العابدينعليه‌السلام في قوله:(ما أحبّ أنّ لي بذلّ نفسي حمر النعم) (٢) .

وقال في عزة النفس:(من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا) (٣) .

ويقول المؤرخون: إنّ أحدهم أخذ منه بعض حقوقه بغير حق، وكان الإمامعليه‌السلام بمكّة، وكان الوليد بن عبد الملك حينئذ متربّعاً على كرسي الخلافة وقد حضر موسم الحج، فقيل له: لو سألت الوليد أن يردّ عليك حقّك؟ فقال لهم كلمته الخالدة في دنيا العزّ والإباء:(ويحك أفي حرم الله عَزَّ وجَلَّ أسأل غير الله عَزَّ وجَلَّ؟! إنّي آنف أن أسأل الدنيا من خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي؟!) (٤) .

ومن عزّته : أنّه ما أكل بقرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درهماً قطّ (٥) .

الزهد :

لقد اشتهر في عصرهعليه‌السلام أنّه من أزهد الناس حتى أنّ الزهري حينما سُئل عن أزهد الناس قال: عليّ بن الحسين(٦) .

ورأىعليه‌السلام سائلاً يبكي فتألّم له وراح يقول:(لو أنّ الدنيا كانت في كفّ هذا

ــــــــــــــ

(١) وقعة الطف: ٢٠٩ .

(٢) الكافي : ٢/١٠٩ و ١١١ والخصال : ١/٢٣ وعن الكافي في بحار الأنوار : ٧١/٤٠٦ ومعه بيان المؤلف في صفحة كاملة.

(٣) بحار الأنوار : ٧٨ / ١٣٥.

(٤) بحار الأنوار : ٤٦ / ٦٤ عن علل الشرائع : ١/٢٧٠ ط بيروت.

(٥) مجالس ثعلب ٢ : ٤٦٢ ، وعنه في حياة الإمام زين العابدين للقرشي: ١/٨١. وفي مناقب آل أبي طالب: ٤/١٧٥ عن نافع: شيئاً، بدل: درهماً.

(٦) بحار الأنوار : ٤٦/٦٢ عن علل الشرائع : ١/٢٧٠ ط بيروت.

٢٧

ثمّ سقطت منه لما كان ينبغي له أن يبكي عليها) (١) .

وقال سعيد بن المسيب: كان عليّ بن الحسينعليه‌السلام يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظ عنه وكتب، وكان يقول:

(أيّها الناس، اتّقوا الله واعلموا أنّكم إليه تُرجعون... يابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك، وكأن قد أوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيداً، فردّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك... فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يحبّ زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه، ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنّما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها أيّهم أحسن عملاً لآخرته، وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال، وعرّف الآيات لقوم يعقلون، ولا قوة إلاّ بالله، فازهدوا فيما زهّدكم الله عَزَّ وجَلَّ فيه من عاجل الحياة الدنيا... ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركونَ من اتّخذها دار قرار ومنزل استيطان، فإنّها دار بُلغة، ومنزل قلعة، ودار عمل، فتزوّدوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرّق أيّامها، وقبل الإذن من الله في خرابها... جعلنا الله وإيّاكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا، الراغبين لآجل ثواب الآخرة، فإنّما نحن به وله...) (٢) .

الإنابة إلى الله تعالى :

إنّ اشتهار الإمام بلقب زين العابدين وسيّد الساجدين ممّا يشير إلى وضوح عنصر الإنابة إلى الله والانقطاع إليه في حياة الإمام وسيرته وشخصيّته.

ــــــــــــــ

(١) كشف الغمة : ٢/٣١٨ عن نثر الدرر للآبي، والفصول المهمّة: ١٩٢.

(٢) الكافي : ٨ / ٧٢ ـ ٧٦ ، وتحف العقول: ٢٤٩ ـ ٢٥٢.

٢٨

على أنّ أدعية الصحيفة السجّادية هي الدليل الآخر على هذه الحقيقة، فإنّ إلقاء نظرة سريعة وخاطفة على عناوين الأدعية يكشف لنا مدى التجاء الإمام إلى الله في شؤون حياته، فما من موقف إلاّ وللإمام فيه دعاء وابتهال وتضرّع، هذا فضلاً عن مضامين الأدعية التي يكاد ينفرد بها هوعليه‌السلام في هذه الصحيفة المعروفة وغيرها، لقد ذاب الإمام في محبّة الله وأخلص له أعظم الإخلاص، وقد انعكس ذلك على جميع حركاته وسكناته.

وممّا رواه المؤرخون: أنّه اجتاز على رجل جالس على باب رجل ثريّ فبادره الإمام قائلاً:(ما يقعدك على باب هذا المترف الجبار؟) فقال الرجل: البؤس (أي: الفقر)، فقال لهعليه‌السلام :(قم! فأرشدك إلى باب خير من بابه وإلى ربّ خير لك منه...)

ونهض معه الرجل إلى مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلّمه ما يعمله من الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن وطلب الحاجة من الله والالتجاء إلى حصنه الحريز (١) .

سيرته في بيته :

كان الإمام زين العابدينعليه‌السلام من أرأف الناس وأبرّهم وأرحمهم بأهل بيته، وكان لا يتميّز عليهم، وقد أُثر عنه أنّه قال:(لَئن أدخل إلى السوق ومعي دراهم ابتاع بها لعيالي لحماً وقد قرموا (٢) أحبّ إليَّ من أن أعتق نسمة) (٣) .

وكان يبكر في خروجه مصبحاً لطلب الرزق لعياله، فقيل له: إلى أين

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام دراسة وتحليل:١ / ٩٣.

(٢) قرموا: اشتدّ شوقهم إلى اللحم.

(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ٦٧ عن الكافي : ٢/١٢.

٢٩

تذهب؟ فقال: أتصدّق لعيالي قبل أن أتصدّق ثم قال: من طلب الحلال، فإنّه من الله عَزَّ وجَلَّ صدقة عليهم(١) .

وكانعليه‌السلام يعين أهله في حوائجهم البيتية، ولا يأمر أحداً منهم فيما يخصّ شأناً من شؤونه الخاصة، كما كان يتولّى بنفسه خدمة نفسه خصوصاً فيما يخصّ إلى شؤون عبادته، فإنّه لم يك يستعين بها أو يعهد إلى أحد في قضائها.

مع أبويه :

وقابل الإمام المعروف الذي أسدته إليه مربّيته بكلّ ما تمكّن عليه من أنواع الإحسان، وقد بلغ من جميل برّه بها أنّه امتنع أن يؤاكلها فلامه الناس، وأخذوا يسألونه بإلحاح قائلين: أنت أبرّ الناس وأوصلهم رحماً، فلماذا لا تؤاكل أمك؟ فأجابهم جواب من لم تشهد الدنيا مثل أدبه وكماله قائلاً:(أخشى أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون عاقّاً لها) (٢) .

ومن برّه لأبويه دعاؤه لهما، وهو من أسمى القواعد في التربية الإسلامية الهادفة، وهذه مقاطع من هذه اللوحة الخالدة من دعائهعليه‌السلام :

(... واخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك والصلاة منك يا أرحم الراحمين... وألهمني علم ما يجب لهما عليّ إلهاماً، واجمع لي علم ذلك كلّه تماماً، ثم استعملني بما تلهمني منه، ووفّقني للنفوذ فيما تبصرني من علمه... اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرّهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦ / ٦٧ عن الكافي : ٢/١٢.

(٢) الكامل للمبرد : ١ / ٣٠٢، وشذرات الذهب : ١ / ١٠٥، ومناقب آل أبي طالب: ٤/١٧٦ عن أمالي النيشابوري.

٣٠

الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى اُوثر على هواي هواهما، واُقدّم على رضاي رضاهما، واستكثر برّهما بي وإن قلّ، واستقلّ برّي بهما وإن كثر، اللهمّ خفّض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألِن لهما عريكتي، واعطف عليهما قلبي، وصيرني بهما رفيقاً وعليهما شفيقاً... اللهمّ اشكر لهما تربيتي، وأثبهما على تكرمتي، واحفظ لهما ما حفظاه منّي في صغري... اللهمّ لا تُنسني ذكرهما في أدبار صلواتي، وفي إناً من آناء ليلي، وفي كل ساعة من ساعات نهاري... اللهمّ صلّ على محمد وآله، واغفر لي بدعائي لهما، واغفر لهما ببرّهما بي...) (١) .

مع أبنائه:

أمّا سلوك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام مع أبنائه فقد تميّز بالتربية الإسلامية الرفيعة لهم، فغرس في نفوسهم نزعاته الخيّرة واتّجاهاته الإصلاحية العظيمة، وقد صاروا بحكم تربيته لهم من ألمع رجال الفكر والعلم والجهاد في الإسلام.

فكان ولده الإمام محمد الباقرعليه‌السلام أشهر أئمّة المسلمين، وأكثرهم عطاءً للعلم.

وأمّا ولده عبد الله الباهر فقد كان من أبرز علماء المسلمين في فضله وسمّو منزلته العلمية.

أمّا ولده زيد فقد كان من أجلّ علماء المسلمين، وقد برعَ في علوم كثيرة كعلم الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام وغيرها، وهو الذي تبنّى حقوق المظلومين المضطهدين، وقاد مسيرتهم الدامية في ثورته التي نشرت الوعي السياسي في المجتمع الإسلامي، وساهمت مساهمة إيجابية وفعّالة

ــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية، دعاؤه لأبويه.

٣١

في الإطاحة بالحكم الأموي(١) .

وزوّد الإمامعليه‌السلام أبناءه ببعض الوصايا التربوية لتكون منهجاً يسيرون عليه، قالعليه‌السلام :

١ ـ(يا بُنيّ، اُنظر خمسةً فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا تُرافقهم في طريق) فقال له ولده: من هم؟ قالعليه‌السلام :(إيّاك ومصاحبة الكذّاب، فإنّه بمنزلة السراب، يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب. وإيّاك ومصاحبة الفاسق، فإنّه بايعك بأكلة أو أقلّ من ذلك. وإيّاك ومصاحبة البخيل، فإنّه يخذلك في ماله، وأنت أحوج ما تكون إليه. وإيّاك ومصاحبة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك. وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله...) (٢) .

٢ ـ قالعليه‌السلام :(يا بُنيّ، اصبر على النائبة، ولا تتعرّض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى شيء مضرّته عليك أعظم من منفعته لك...) (٣) .

٣ ـ وقالعليه‌السلام :(يا بُنيّ، إنّ الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذّرني منك، واعلم أنّ خير الآباء للأبناء من لم تدعه المودّة إلى التفريط فيه، وخير الأبناء للآباء من لم يدعه التقصير إلى العقوق له) (٤) .

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، دراسة وتحليل: ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) أُصول الكافي : ٢/٣٧٦، والاختصاص : ٢٣٩، وتحف العقول: ٢٧٩، والبداية والنهاية : ٩ / ١٠٥.

(٣) البيان والتبيين : ٢ / ٧٦، العقد الفريد : ٣ / ٨٨ .

(٤) العقد الفريد : ٣ / ٨٩ .

٣٢

مع مماليكه :

وسار الإمامعليه‌السلام مع مماليكه سيرة تتّسم بالرفق والعطف والحنان، فكان يعاملهم كأبنائه، وقد وجدوا في كنفه من الرفق ما لم يجدوا في ظلّ آبائهم، حتّى أنّه لم يعاقب أمَةً ولا عبداً فيما إذا اقترفا ذنباً(١) .

وقد كان له مملوك فدعاه مرّتين فلم يجبه، وفي الثالثة قال له الإمام برفق ولطف:(يا بُنيَّ، أما سمعت صوتي؟) قال: بلى... ، فقال لهعليه‌السلام :(لِمَ لَمْ تُجبْني؟) فقال: أمنت منك، فخرج الإمام وراح يحمد الله ويقول:(الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني...) (٢) .

ــــــــــــــ

(١) اقبال الأعمال : ١/٤٤٣ ـ ٤٤٥ باسناده عن التلعكبرى عن ابن عجلان عن الصادق عليه‌السلام وعنه في بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٣ ـ ١٠٥ و ٩٨/١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) الإرشاد : ٢/١٤٧، ومناقب آل أبي طالب: ٤/١٧١ وفي تأريخ دمشق : ٣٦ / ١٥٥.

٣٣

الباب الثاني: فيه فصول:

الفصل الأول: نشأة الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الثالث: الإمام زين العابدينعليه‌السلام من الولادة إلى الإمامة.

الفصل الأول: نشأة الإمام زين العابدينعليه‌السلام

لقد توفّرت للإمام زين العابدين عليه‌السلام جميع المكوّنات التربوية الرفيعة التي لم يظفر بها أحد سواه، وقد عملت على تكوينه وبناء شخصيّته بصورة متميّزة، جعلته في الرعيل الأول من أئمّة المسلمين الذين منحهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثقته، وجعلهم قادة لأمته وأمناء على أداء رسالته.

نشأ الإمام في أرفع بيت وأسماه ألا وهو بيت النبوّة والإمامة الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه (١) ، ومنذ الأيام الأولى من حياته كان جده الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يتعاهده بالرعاية ويشعّ عليه من أنوار روحه التي طبّق شذاها العالم بأسره، فكان الحفيد ـ بحقٍّ ـ صورة صادقة عن جدّه، يحاكيه ويضاهيه في شخصيّته ومكوّناته النفسية.

كما عاش الإمامعليه‌السلام في كنف عمّه الزكي الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسبطه الأول، إذ كان يغدق عليه من عطفه وحنانه، ويغرس في نفسه مُثُلَه العظيمة وخصاله السامية، وكان الإمامعليه‌السلام طوال هذه السنين تحت ظلّ والده العظيم أبي الأحرار وسيّد

ــــــــــــــ

(١) إشارة لقوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) . النور (٢٤) : ٣٦ ـ ٣٧.

٣٤

الشهداء الإمام الحسين بن علىّعليهما‌السلام الذي رأى في ولده علي زين العابدينعليه‌السلام امتداداً ذاتيّاً ومشرقاً لروحانيّة النبوّة ومُثُل الإمامة، فأولاه المزيد من رعايته وعنايته، وقدّمه على بقية أبنائه، وصاحَبَه في أكثر أوقاته.

لقد ولد الإمام زين العابدينعليه‌السلام في المدينة في اليوم الخامس من شعبان سنة (٣٦ هـ)(١) يوم فتح البصرة، حيث إنّ الإمام عليعليه‌السلام لم ينتقل بعد بعاصمته من المدينة إلى الكوفة. وتوفّي بالمدينة سنة (٩٤ أو ٩٥ هـ).

وهناك من المؤرخين ذكر أنّه ولد في سنة (٣٨ هـ) وفي مدينة الكوفة حيث كان جدّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قد اتّخذها عاصمة لدولته بعد حرب الجمل، فمن الطبيعي أن يكون الحسين السبطعليه‌السلام مع أهله عن أبيهعليه‌السلام في هذه الفترة بشكل خاص(٢)

أمه :

اسمها (شهربانو) أو (شهر بانويه) أو (شاه زنان) بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس(٣) ، وذكر البعض أنّ اُمه قد أجابت نداء ربّها أيّام نفاسها فلم تلد سواه(٤) .

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٢/١٣٧، ومناقب آل أبي طالب : ٤/١٨٩، والإقبال : ٦٢١ ، ومصباح الكفعمي: ٥١١ ، والأنوار البهية: ١٠٧ قال: سنة ٣٦ يوم فتح البصرة.

(٢) تاريخ أهل البيت، لابن أبي الثلج البغدادي م ٣٢٥ : ٧٧.

(٣) رغم أنّ أغلب المؤرخين متفقون على أنّ أم الإمام السجاد عليه‌السلام هي ابنة الملك يزدجرد إلاّ أن هناك من يعتبر ذلك مجرد أسطورة، راجع زندگانى علي بن الحسين عليه‌السلام للسيد جعفر الشهيدي. والإسلام وإيران للشهيد مطهري: ١٠٠ ـ ١٠٩ وحول السيدة شهر بانو للشيخ اليوسفي الغروي في مجلة رسالة الحسين عليه‌السلام : ٢٤/١٤ ـ ٣٩ ، والثابت أن أم الإمام السجاد عليه‌السلام سبيّة من سبايا الفرس، ولا يثبت أكثر من هذا.

(٤) سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام : ٢ / ١٨٩، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام الطبعة الأولى ١٤١٤ هـ .

٣٥

كُناه :

أبو الحسن، أبو محمّد، أبو الحسين، أبو عبد الله (١) .

ألقابه:

(زين العابدين) و (ذو الثفنات) و (سيّد العابدين) و (قدوة الزاهدين) و (سيّد المتّقين) و (إمام المؤمنين) و (الأمين) و (السجّاد) و (الزكي) و (زين الصالحين) و (منار القانتين) و (العدل) و (إمام الأمة) و (البكّاء)، وقد اشتهر بلقبي (السجاد) و (زين العابدين) أكثر من غيرهما.

إنّ هذه الألقاب قد منحها الناس للإمام عندما وجدوه التجسيد الحيّ لها، والمصداق الكامل لـ :

( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ) (٢) ، وبعض الذين منحوه هذه الألقاب لم يكونوا من شيعته، ولم يكونوا يعتبرونه إماماً من قبل الله تعالى، لكنّهم ما استطاعوا أن يتجاهلوا الحقائق التي رأوها فيه.

لقد ذكر المؤرّخون ما يبيّن لنا بعض العلل التاريخية لجملة من هذه الألقاب المباركة:

١ ـ روي عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال: كنت جالساً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(يا جابر، يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم (سيّد العابدين)

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، دراسة وتحليل: ٣٩٠.

(٢) الفرقان (٢٥) : ٦٣.

٣٦

فيقوم ولده، ثم يولد له ولد اسمه محمّد، فإن أنت أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام) (١) .

٢ ـ كان الزهري إذا حدّث عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: حدّثني (زين العابدين) عليّ بن الحسين، فقال له سفيان بن عيينة: ولِمَ تقول له زين العابدين؟ قال: لأنّي سمعت سعيد بن المسيب يحدّث عن ابن عباس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:(إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين زين العابدين؟ فكأنّي أنظر إلى ولدي عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب يخطر (يخطو) بين الصفوف) (٢) ؟

٣ ـ وجاء عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام أنّه قال:(كان لأبي في مواضع سجوده آثار ناتئة، وكان يقطعها في السنة مرتّين، في كلّ مرة خمس ثفنات، فسمّي ذا الثفنات لذلك) (٣) .

٤ ـ كما جاء عنه عن كثرة سجود أبيه:ما ذكر لله عَزَّ وجَلَّ نعمة عليه إلاّ وسجد، ولا دفع الله عنه سوءً إلاّ وسجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلاّ وسجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده فسمّي بالسجّاد (٤) .

ــــــــــــــ

(١) إحقاق الحق : ١٢ / ١٣ ـ ١٦، والبداية والنهاية لابن كثير : ٩ / ١٠٦.

(٢) علل الشرائع : ١/٢٦٩، والأمالي : ٣٣١ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦ / ٢ الحديث ١ و ٢.

(٣) علل الشرائع : ١/٢٧٣ ومعاني الأخبار : ٦٥ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦ / ٦.

(٤) علل الشرائع : ١/٢٧٢ وعنه في بحار الأنوار: ٤٦/٦ ح ١٠.

٣٧

الفصل الثاني: مراحل حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام

تنقسم حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام ـ كما تنقسم حياة سائر الأئمةعليهم‌السلام ـ إلى مرحلتين متميّزتين:

١ ـ مرحلة ما قبل التصدّي للإمامة والزعامة.

٢ ـ مرحلة التصدّي وممارسة القيادة حتى الشهادة.

لقد عاش الإمام زين العابدينعليه‌السلام في المرحلة الأولى من حياته في ظلال جدّه الإمام أمير المؤمنين ، وعمّه الإمام الحسن المجتبى وأبيه الإمام الحسين سيد الشهداءعليهم‌السلام مدة تناهز العقدين ونصف العقد، حيث قضى في كنف جدّه الإمام عليعليه‌السلام ما يزيد قليلاً عن أربع سنوات، وما لا يقل عن سنتين لو كانت ولادته سنة (٣٨ هـ) .

بينما قضى عقداً آخر من حياته في كنف عمّه وأبيهعليهما‌السلام حيث استشهد عمّه الإمام الحسن السبطعليه‌السلام سنة ٥٠ هجرية.

كما قضى عقداً ثانياً في ظلّ قيادة أبيه الحسين السبطعليه‌السلام وهي الفترة الواقعة بين مطلع سنة (٥٠ هـ) وبداية سنة (٦٠ هـ) .

لقد عاش الإمام زين العابدينعليه‌السلام فترة المخاض الصعب خلال المرحلة الأولى من حياته وقضاها مع كل من جدّه وعمّه وأبيه عليهم‌السلام ، واستعدّ مراحل حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام ) بعدها لتحمّل أعباء الإمامة والقيادة بعد استشهاد أبيه والصفوة من أهل بيته وأصحابه في ملحمة عاشوراء الخالدة التي مهّد لها معاوية بن أبي سفيان وتحمّل وزرها ابنه يزيد المعلن بفسقه والمستأثر بحكم الله في أرض الإسلام المباركة.

٣٨

وأمّا المرحلة الثانية من حياته الكريمة قد ناهزت ثلاثة عقود ونصف عقد من عمره الشريف، وعاصر خلالها كُلاًّ من حكم يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، ثم اغتالته الأيدي الأموية الأثيمة بأمر من الحاكم وليد بن عبد الملك بن مروان واستشهد في (٢٥) من المحرّم أو ما يقرب منه سنة (٩٤) أو (٩٥) هجرية عن عمر يناهز (٥٧) سنة أو دونها قليلاً(١) فكانت مدّة إمامته وزعامته حوالي (٣٤) سنة.

وفي هذه الدراسة نقسّم المرحلة الثانية من حياة هذا الإمام الحافلة بأنواع الجهاد إلى قسمين متميزين من الكفاح والجهاد :

الأوّل: جهاده بعد ملحمة عاشوراء وقبل استقراره في المدينة .

الثاني: جهاده بعد استقراره في المدينة.

وعلى هذا التقسيم سوف ندرس حياته ضمن مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: حياته قبل استشهاد أبيهعليه‌السلام .

المرحلة الثانية: حياته بعد استشهاد أبيه وقبل استقراره في المدينة.

المرحلة الثالثة: حياته بعد استقراره في المدينة.

ــــــــــــــ

(١) المناقب لابن شهر آشوب: ٣/٣١٠، بحار الأنوار : ٤٦/٨ ـ ١٥ .

٣٩

الفصل الثالث: الإمام زين العابدينعليه‌السلام من الولادة إلى الإمامة

وتتضمّن استعراض عصر الإمامعليه‌السلام وحياته قبل كربلاء، أي من الولادة حتى استشهاد أبيهعليه‌السلام من سنة (٣٨ أو ٣٦ هـ) إلى سنة (٦١ هـ) .

لقد عاصر الإمام زين العابدينعليه‌السلام في مرحلتي الطفولة والفتوّة حكم معاوية بن أبي سفيان الذي تميّز بالاضطراب أولاً، ثمّ تلاه القمع في العراق، والتأزّم في الحجاز، وإقصاء السُنّة وظهور البدعة.

ولقد استشهد الإمام أمير المؤمنين علىّعليه‌السلام في الكوفة في شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة، فيما كان يعبّئ الناس لحرب جديدة مع معاوية، وإثر استشهادهعليه‌السلام بايع أهل العراق ولده الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام خليفة عليهم، إلاّ أنّ قلوب أغلب المبايعين لم تكن تصدّق ألسنتهم، فلا ينتظر من المتظاهرين بالتشيّع في الكوفة وفي جيش الإمام علىٍّعليه‌السلام ـ الذين آذوه إلى الدرجة التي تمنّى فيها غير مرّة الموت ـ أن يكون سلوكهم مع ولده الحسنعليه‌السلام أفضل ممّا كان معه.

وكانت الكوفة في السنوات الأخيرة من عمر الإمام علىّعليه‌السلام تضمّ مختلف الاتجاهات والجماعات، فكان هنالك اللاهثون وراء السلطة، الطامعون في أن يوليهم الخليفة الجديد منصباً ما والمسلمون الجدد الذين دفعتهم الآمال الكبيرة إلى الإعراض عن مدنهم والتوجّه إلى عاصمة الخلافة على أمل الحصول على عمل يحقّق رغباتهم، والانتهازيون من الموالي الذين تحالفوا مع هذه القبيلة العربية أو تلك لتغطّي على تآمرهم; إذ لا يجرؤون على التحرّك دون غطاء عروبي.

لقد تقوّم المجتمع الكوفي وقتذاك بهذه الجماعات التي وجّهت قدرتها لإيجاد العراقيل والعقبات أمام حركة الإمام الحسن السبطعليه‌السلام عندما اشترط قيس بن سعد بن عبادة بيعته للإمام الحسنعليه‌السلام بمحاربة أهل الشام، لكنّ الإمام اضطرّ إلى الصلح مع معاوية بعد أن كشفت أكثر قوات الإمام ما كانت تضمر من أهداف تآمرية على شخص الإمام، والمخلصين من أصحابه بإنضواء بعضهم تحت لواء معاوية، وبثّهم الإشاعات التي أسفرت عن التخاذل المقيت، حتى كتب من كتب منهم إلى معاوية بتسليمهم إمامهم وقائدهم إلى معاوية.

لقد امتازت الفترة الواقعة بين سنة (٤١ هـ) وسنة (٦٠ هـ) بتشديد القهر والقمع على أتباع أهل البيتعليهم‌السلام في العراق، ويتبيّن من خلال تعامل معاوية مع زعماء هذه المنطقة ـ الذين كانوا يلتقونه بين الحين والآخر ـ الدرجة التي بلغها سخطه على أهل العراق. وقد انكفأ السياسيون العراقيون ـ الذين خدعوا في حرب صفّين وسلّطوا أهل الشام على مقدراتهم ـ في بيوتهم إبّان حكم معاوية، لكنّهم كانوا ينتظرون أن تسنح لهم فرصة جديدة للتحرك.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ضربة كلها تبضع اللحم وتحدر الدم فهذا من ضرب التعزير وروى شعبة عن واصل عن المعرور بن سويد قال أتى عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال أفسدت حسبها اضربوها ولا تحرقوا عليها جلدها فهذا يدل على أنه كان يرى ضرب الزاني أخف من التعزير* قال أبو بكر قد دل قوله( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) على شدة ضرب الزاني على ما بينا وإنه أشد من ضرب الشارب والقاذف لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ولأن ضرب الشارب كان من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجريد والنعال وضرب الزاني إنما يكون بالسوط وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب وإنما جعلوا ضرب القاذف أخف الضرب لأن القاذف جائز أن يكون صادقا في قذفه وإن له شهودا على ذلك والشهود مندوبون إلى الستر على الزاني فإنما وجب عليه الحد لقعود الشهود عن الشهادة وذلك يوجب تخفيف الضرب. ومن جهة أخرى أن القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب. فإن قيل روى سفيان بن عيينة قال سمعت سعد بن إبراهيم يقول للزهري إن أهل العراق يقولون إن القاذف لا يضرب ضربا شديدا ولقد حدثني أبى أن أمه أم كلثوم أمرت بشاة فسلخت حين جلد أبو بكرة فألبسته مسكها فهل كان ذلك إلا من ضرب شديد. قيل له هذا لا يدل على شدة الضرب لأنه جائز أن يؤثر في البدن الضرب الخفيف على حسب ما يصادف من رقة البشرة ففعلت ذلك إشفاقا عليه.

باب ما يضرب من أعضاء المحدود

قال الله سبحانه وتعالى( فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ولم يذكر ما يضرب منه ظاهره يقتضى جواز ضرب جميع الأعضاء وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار فيه فروى ابن أبى ليلى عن عدى بن ثابت عن المهاجر بن عميرة عن على رضى الله عنه أنه أتى برجل سكران أو في حد فقال اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير وروى سفيان بن عيينة عن أبى عامر عن عدى بن ثابت عن مهاجر بن عميرة عن على رضى الله عنه أنه قال اجتنب رأسه ومذاكيره واعط كل عضو حقه فذكر في هذا الحديث الرأس وفي الحديث الأول الوجه وجائز أن يكون قد استثناهما جميعا وروى عن عمر أنه أمر بالضرب في حد فقال أعط كل عضو حقه ولم يستثن شيئا وروى المسعودي عن

١٠١

القاسم قال أتى أبو بكر برجل انتفى من ابنه فقال أبو بكر اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس وقد روى عن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات ذروا على وجه التعنت وروى عن ابن عمر أنه لا يصيب الرأس وقال أبو حنيفة ومحمد يضرب في الحدود الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه وقال أبو يوسف يضرب الرأس أيضا وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبى عمران عن أصحاب أبى يوسف أن الذي يضرب به الرأس من الحد سوط واحد وقال مالك لا يضرب إلا في الظهر وذكر ابن سماعة عن محمد في التعزير أنه يضرب الظهر بغير خلاف وفي الحدود يضرب الأعضاء إلا ما ذكرنا وقال الحسن بن صالح يضرب في الحد والتعزير الأعضاء كلها ولا يضرب الوجه ولا المذاكير وقال الشافعى يتقى الوجه والفرج قال أبو بكر اتفق الجميع على ترك ضرب الوجه والفرج وروى عن على استثناء الرأس أيضا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه وإذا لم يضرب الوجه فالرأس مثله لأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه وإنما أمر باجتناب الوجه لهذه العلة ولئلا يلحقه أثر يشينه أكثر مما هو مستحق بالفعل الموجب للحد والدليل على أن ما يلحق الرأس من ذلك هو كما يلحق الوجه أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه سواء وفارقا سائر البدن من هذا الوجه لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما تجب فيه حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في الرأس والوجه فوجب من أجل ذلك استواء حكم الرأس والوجه في اجتناب ضربهما ووجه آخر وهو أنه ممنوع من ضرب الوجه لما يخاف فيه من الجناية على البصر وذلك موجود في الرأس لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث الماء في العين وربما حدث منه أيضا اختلاط في العقل فهذه الوجوه كلها تمنع ضرب الرأس وأما اجتناب الفرج فمتفق عليه وهو أيضا مقتل فلا يؤمن أن يحدث أكثر مما هو مستحق بالفعل وقال أبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعى الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو وقال بشر بن الوليد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة يضرب التعزير في إزار ولا يفرق في التعزير خاصة في الأعضاء وقال أبو يوسف ضرب ابن أبى ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة وقال الثوري لا يجرد الرجل ولا

١٠٢

يمد وتضرب المرأة قاعدة والرجل قائما قال أبو بكر في حديث رجم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهوديين قال رأيت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة وهذا يدل على أن الرجل كان قائما والمرأة قاعدة وروى عاصم الأحول عن أبى عثمان النهدي قال أتى عمر بسوط فيه شدة فقال أريد ألين من هذا فأتى بسوط فيه لين فقال أريد أشد من هذا فأتى بسوط بين السوطين فقال اضرب ولا يرى إبطك واعط كل عضو حقه وعن ابن مسعود أنه ضرب رجلا حدا فدعا بسوط فأمر فدق بين حجرين حتى لان ثم قال اضرب ولا تخرج إبطك واعط كل عضو حقه وعن على أنه قال للجلاد اعط كل عضو حقه وروى حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به وذلك في زمن عمر بن الخطاب وروى عن أبى هريرة أنه جلد رجلا قائما في القذف قال أبو بكر هذه الأخبار تدل على معاني منها اتفاقهم على أن ضرب الحدود بالسوط ومنها أنه يضرب قائما إذ لا يمكن إعطاء كل عضو حقه إلا وهو قائم ومنها أنه يضرب بسوط بين سوطين وإنما قالوا أنه يضرب مجردا ليصل الألم إليه ويضرب القاذف وعليه ثيابه لأن ضربه أخف وإنما قالوا لا يمد لأن فيه زيادة في الإيلام غير مستحق بالفعل ولا هو من الحد وروى يزيد بن هارون عن الحجاج عن الوليد بن مالك أن أبا عبيدة بن الجراح أتى برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال ما ينبغي لجسدى هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص فقال أبو عبيدة لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه وروى ليث عن مجاهد ومغيرة عن إبراهيم قالا يجلد القاذف وعليه ثيابه وعن الحسن قال إذا قذف الرجل في الشتاء لم يلبس ثياب الصيف ولكن يضرب في ثيابه التي قذف فيها إلا أن يكون عليه فرو أو حشو يمنعه من أن يجد وجع الضرب فينزع ذلك عنه وقال مطرف عن الشعبي مثل ذلك وروى شعبة عن عدى بن ثابت عمن شهد عليا رضى الله عنه أنه أقام على رجل الحد فضربه على قبا أو قرطق ومذهب أصحابنا موافق لما روى عن السلف في هذه الأخبار ويدل على صحته أن من عليه حشو أو فرو فلم يصل الألم أن الفاعل لذلك غير ضارب في العادة ألا ترى أنه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم إنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه ولو وصل إليه الألم كان ضاربا.

١٠٣

في إقامة الحدود في المسجد

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعى لا تقام الحدود في المساجد وهو قول الحسن بن صالح قال أبو يوسف وأقام ابن أبى ليلى حدا في المسجد فخطأه أبو حنيفة وقال مالك لا بأس بالتأديب في المسجد خمسة أسواط ونحوها وأما الضرب الموجع والحد فلا يقام في المسجد قال أبو بكر روى إسماعيل بن مسلم المكي عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل بالولد الوالد وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشراكم وبيعكم وإقامة حدودكم وجمروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر ومن جهة النظر أنه لا يؤمن أن يكون من المحدود بالمسجد من خروج النجاسة ما سبيله أن ينزه المسجد عنه.

في الذي يعمل عمل قوم لوط

قال أبو حنيفة يعزر ولا يحد وقال مالك والليث يرجمان أحصنا أو لم يحصنا وقال عثمان البتى والحسن بن صالح وأبو يوسف ومحمد والشافعى هو بمنزلة الزنا وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء قال أبو بكر قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس فحصرصلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث وفاعل ذلك خارج عن ذلك لأنه لا يسمى زنا فإن احتجوا بما روى عاصم بن عمرو عن سهيل بن صالح عن أبيه عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموا الأعلى والأسفل وارجموهما جميعا وبما روى الدراوردى عن عمر وبن أبى عمر وعن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به قيل له عاصم بن عمرو وعمرو بن أبى عمرو ضعيفان لا تقوم بروايتهما حجة ولا يجوز بهما إثبات حد وجائز أن يكون لو ثبت إذا فعلاه مستحلين له وكذلك نقول فيمن استحل ذلك أنه يستحق القتل وقوله فاقتلوا الفاعل والمفعول به يدل على أنه ليس بحد وأنه بمنزلة قوله من بدل دينه فاقتلوه لأن حد فاعل ذلك ليس هو قتلا على الإطلاق وإنما هو الرجم عند من جعله كالزنا إذا كان محصنا

١٠٤

وعند من لا يجعله بمنزلة الزنا ممن يوجب قتله فإنما يقتله رجما فقتله على الإطلاق ليس هو قولا لأحد ولو كان بمنزلة الزنا لفرق فيه بين المحصن وغير المحصن وفي تركهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الفرق بينهما دليل على أنه لم يوجبه على وجه الحد.

في الذي يأتى البهيمة

قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتى لا حد عليه ويعزر وروى مثله عن بن عمر وقال الأوزاعى عليه الحد قال أبو بكر قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس ينفى قتل فاعل ذلك إذ ليس ذلك بزنا في اللغة ولا يجوز إثبات الحدود إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق وذلك معدوم في مسألتنا ولا يجوز إثباته من طريق المقاييس وقد روى عمر وبن أبى عمر وعن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة وعمر وهذا ضعيف لا نثبت به حجة ومع ذلك فقد روى شعبة وسفيان وأبو عوانة عن عاصم عن أبى رزين عن ابن عباس فيمن أتى بهيمة إنه لا حد عليه وكذلك رواه إسرائيل وأبو بكر بن عياش وأبو الأحوص وشريك وكلهم عن عاصم عن أبى رزين عن ابن عباس مثله ولو كان حديث عمر وبن أبى عمرو ثابتا لما خالفه ابن عباس وهو رواية إلى غيره وإن صح الخبر كان محمولا على من استحله.

(فصل) قال أبو بكر وقد أنكرت طائفة شاذة لا تعد خلافا الرجم وهم الخوارج

وقد ثبت الرجم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبنقل الكافة والخبر الشائع المستفيض الذي لا مساغ للشك فيه وأجمعت الأمة عليه فروى الرجم أبو بكر وعمر وعلى وجابر ابن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمى وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة وخطب عمر فقال لو لا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في بعض المصحف وبعض هؤلاء الرواة يروى خبر رجم ماعز وبعضهم خبر الجهينية والغامدية وخبر ماعز يشتمل على أحكام منها إنه ردده ثلاث مرات ثم لما أقر الرابعة سأل عن صحة عقله فقال هل به جنة فقالوا لا وإنه استنهكه ثم قال له لعلك لمست لعلك قبلت فلما أبى إلا التصميم على الإقرار بصريح الزنا سأل عن إحصانه ثم لما هرب حين أدركته الحجارة قال هلا تركتموه وفي ترديده ثلاث مرات ثم المسألة عن عقله بعد

١٠٥

الرابعة دلالة على أن الحد لا يجب إلا بعد إقراره أربعا لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب فلو كان الحد واجبا بإقراره مرة واحدة لسأل عنه في أول إقراره ومسألته جيرانه وأهله عن عقله يدل على أن على الإمام الاستثبات والاحتياطيات في الحد ومسألته عن الزنا كيف هو وما هو وقوله لعلك لمست لعلك قبلت يفيد حكمين أحدهما أنه لا يقصر على إقراره بالزنا دون استثباته في معنى الزنا حتى يبينه بصفة لا يختلف فيه أنه زنا وقوله لعلك لمست لعلك قبلت تلقين له الرجوع عن الزنا وأنه إنما أراد اللمس كما روى أنه للسارق ما أخاله سرق ونظيره ما روى عن عمر أنه جيء بامرأة حبلى بالموسم وهي تبكى فقالوا زنت فقال عمر ما يبكيك فإن المرأة ربما استكرهت على نفسها يلقنها ذلك فأخبرت أن رجل ركبها وهي نائمة فقال عمر لو قتلت هذه لخشيت أن تدخل ما بين هذين الأخشبين النار فخلى سبيلها وروى أن عليا قال لشراحة حين أقرت عنده بالزنا لعلك عصيت نفسك قالت أتيت طائعة غير مكرهة فرجمها وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا تركتموه يدل على جواز رجوعه عن إقراره لأنه لما امتنع مما بذل نفسه له بديا قال هلا تركتموه ولما لم يجلده دل على أن الرجم والجلد لا يجتمعان قوله تعالى( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال الطائفة الرجل إلى الألف وقرأ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) وقال عطاء رجلان فصاعدا وقال الحسن وأبو بريدة الطائفة عشرة وقال محمد بن كعب القرظي في قوله( إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ ) قال كان رجلا وقال الزهري( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ ) ثلاثة فصاعدا وقال قتادة ليكون عظة وعبرة لهم وحكى عن مالك والليث أربعة لأن الشهود أربعة قال أبو بكر يشبه أن المعنى في حضور الطائفة ما قاله قتادة أنه عظة وعبرة لهم فيكون زجرا له عن العود إلى مثله وردعا لغيره عن إتيان مثله والأولى أن تكون الطائفة جماعة يستفيض الخير بها ويشيع فيرتدع الناس عن مثله لأن الحدود موضوعة للزجر والردع وبالله التوفيق.

باب تزويج الزانية

قال الله تعالى( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال أبو بكر روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن

١٠٦

جده قال كان رجل يقال له مرثد بن أبى مرثد وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتى بهم المدينة وكان بمكة بغى يقال لها عناق وكانت صديقة له وكان وعد رجلا أن يحمله من أسرى مكة وإن عناقا رأته فقالت له أقم الليلة عندي قال يا عناق قد حرم الله الزنا فقالت يا أهل الخباء هذا الذي يحمل أسراكم فلما قدمت المدينة أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله أتزوج عناق فلم يرد على حتى نزلت هذه الآية( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنكحها فبين عمر وبن شعيب في هذا الحديث أن الآية نزلت في الزانية المشركة أنها لا ينكحها إلا زان أو مشرك وإن تزوج المسلم المشركة زنا إذ كانت لا تحل له وقد اختلف السلف في تأويل الآية وحكمها فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصارى عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قد نسختها الآية التي بعدها( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ) قال كان يقال هي من أيامى المسلمين فأخبر سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة قال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال كان رجال يريدون الزنا بنساء زوان بغايا معلنات كن كذلك في الجاهلية فقيل لهم هذا حرام فأرادوا نكاحهن فذكر مجاهد أن ذلك كان في نساء مخصوصات على الوصف الذي ذكرنا وروى عن عبد الله بن عمر في قوله( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) إنه نزل في رجل تزوج امرأة بغية على أن تنفق عليه فأخبر عبد الله بن عمر أن النهى خرج على هذا الوجه وهو أن يزوجها على أن يخليها والزنا وروى حبيب بن أبى عمرة عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال يعنى بالنكاح جماعها وروى ابن شبرمة عن عكرمة( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال لا يزنى حين يزنى إلا بزانية مثله وقال شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس بغاياكن في الجاهلية يجعلن على أبوابهن رايات كرايات البياطرة يأتيهن ناس يعرفن بذلك وروى مغيرة عن إبراهيم النخعي( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ) يعنى به الجماع حين يزنى وعن عروة بن الزبير مثله قال أبو بكر فذهب هؤلاء إلى أن معنى الآية الإخبار باشتراكهما في الزنا وأن المرأة كالرجل في ذلك فإذا كان الرجل زانيا فالمرأة مثله إذا طاوعته وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها فحكم تعالى في ذلك بمساواتهما في

١٠٧

الزنا ويفيد ذلك مساواتهما في استحقاق الحد وعقاب الآخرة وقطع الموالاة وما جرى مجرى ذلك وروى فيه قول آخر وهو ما روى عاصم الأحول عن الحسن في هذه الآية قال المحدود لا يتزوج إلا محدودة واختلف السلف في تزويج الزانية فروى عن أبى بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ومجاهد وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين أن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره فجائز له أن يتزوجها وروى عن على وعائشة والبراء وإحدى الروايتين عن ابن مسعود أنهما لا يزالان زانيين ما اجتمعا وعن على إذا زنى الرجل فرق بينه وبين امرأته وكذلك هي إذا زنت قال أبو بكر فمن حظر نكاح الزانية تأول فيه هذه الآية وفقهاء الأمصار متفقون على جواز النكاح وأن الزنا لا يوجب تحريمها على الزوج ولا يوجب الفرقة بينهما ولا يخلو قوله تعالى( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ) من أحد وجهين إما أن يكون خبرا وذلك حقيقته أو نهيا وتحريما ثم لا يخلو من أن يكون المراد بذكر النكاح هنا الوطء أو العقد وممتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنا وجدنا زانيا يتزوج غير زانية وزانية تتزوج غير الزاني فعلمنا أنه لم يرد مورد الخبر فثبت أنه أراد الحكم والنهى فإذا كان كذلك فليس يخلو من أن يكون المراد الوطء والعقد وحقيقة النكاح هو الوطء في اللغة لما قد بيناه في مواضع فوجب أن يكون محمولا عليه على ما روى عن ابن عباس ومن تابعه في أن المراد الجماع ولا يصرف إلى العقد إلا بدلالة لأنه مجاز ولأنه إذا ثبت أنه قد أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه وأيضا فلو كان المراد العقد لم يكن زنا المرأة أو الرجل موجبا للفرقة إذ كانا جميعا موصوفين بأنهما زانيان لأن الآية قد اقتضت إباحة نكاح الزاني للزانية فكان يجب أن يجوز للمرأة أن تتزوج الذي زنى بها قبل أن يتوبا وأن لا يكون زناهما حال في الزوجية يوجب الفرقة ولا نعلم أحدا يقول ذلك وكان يجب أن يجوز للزاني أن يتزوج مشركة وللمرأة الزانية أن تتزوج مشركا ولا خلاف في أن ذلك غير جائز وأن نكاح المشركات وتزويج المشركين محرم منسوخ فدل ذلك على أحد المعنيين إما أن يكون المراد الجماع على ما روى عن ابن عباس ومن تابعه أو أن يكون حكم الآية منسوخا على ما روى عن سعيد بن المسيب ومن الناس من يحتج في أن الزنا لا يبطل النكاح بما روى هارون بن رئاب عن عبيد الله بن عبيد ويرويه عبد الكريم الجزري عن أبى

١٠٨

الزبير وكلاهما يرسله أن رجلا قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن امرأتى لا تمنع يد لامس فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستمتاع منها فيحمل ذلك على أنها لا تمنع أحد ممن يريدها على الزنا وقد أنكر أهل العلم هذا التأويل قالوا لو صح هذا الحديث كان معناه أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأى وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق قالوا وهذا أولى لأنه حقيقة اللفظ وحمله على الوطء كناية ومجاز وحمله على ما ذكرنا أولى وأشبه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال على وعبد الله إذا جاءكم الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنأ والذي هو أتقى فإن قيل قال الله تعالى( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) فجعل الجماع لمسا قيل له إن الرجل لم يقل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها لا تمنع لامسا وإنما قال يد لامس ولم يقل فرج لامس وقال الله تعالى( وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ) ومعلوم أن المراد حقيقة اللمس باليد وقال جريج الخطفى يعاتب قوما :

ألستم لئاما إذ ترومون جارهم

ولولاهمو لم تمنعوا كف لامس

ومعلوم أنه لم يرد به الوطء وإنما أراد إنكم لا تدفعون عن أنفسكم الضيم ومنع أموالكم هؤلاء القوم فكيف ترومون جارهم بالظلم ومن الناس من يقول إن تزويج الزانية وإمساكها على النكاح محظور منهى عنه مادامت مقيمة على الزنا وإن لم يؤثر ذلك في إفساد النكاح لأن الله تعالى إنما أباح نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بقوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) يعنى العفائف منهن ولأنها إذا كانت كذلك لا يؤمن أن تأتى بولد من الزنا فتلحقه به وتورثه ماله وإنما يحمل قول من رخص في ذلك على أنها تائبة غير مقيمة على الزنا ومن الدليل على أن زناها لا يوجب الفرقة أن الله تعالى حكم في القاذف لزوجته باللعان ثم بالتفريق بينهما فلو كان وجود الزنا منها يوجب الفرقة لوجب إيقاع الفرقة بقذفه إياها لا عترافه بما يوجب الفرقة ألا ترى أنه لو أقر أنها أخته من الرضاعة أو أن أباه قد كان وطئها لوقعت الفرقة بهذا القول فإن قيل لما حكم الله تعالى بإيقاع الفرقة بعد اللعان دل ذلك على أن الزنا يوجب التحريم لولا ذلك لما وجبت الفرقة باللعان قيل له لو كان كما ذكرت لوجبت الفرقة بنفس القذف دون اللعان فلما لم تقع بالقذف دل على فساد ما ذكرت فإن قيل إنما وقعت الفرقة باللعان لأنه صار بمنزلة الشهادة عليها بالزنا فلما حكم عليها بذلك حكم بوقوع الفرقة لأجل

١٠٩

الزنا قيل له وهذا غلط أيضا لأن شهادة الزوج وحده عليها بالزنا لا توجب كونها زانية كما أن شهادتها عليه بالإكذاب لا توجب عليه الحكم بالكذب في قذفه إياها إذ ليست إحدى الشهادتين بأولى من الأخرى ولو كان الزوج محكوما له بقبول شهادته عليها بالزنا لوجب أن تحد حد الزنا فلما لم تحد بذلك دل على أنه غير محكوم عليها بالزنا بقول الزوج والله أعلم بالصواب.

باب حد القذف

قال الله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) قال أبو بكر الإحصان على ضربين أحدهما ما يتعلق به وجوب الرجم على الزاني وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما كذلك والآخر الإحصان الذي يوجب الحد على قاذفه وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما عفيفا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى قال أبو بكر قد خص الله تعالى المحصنات بالذكر ولا خلاف بين المسلمين أن المحصنين مرادون بالآية وأن الحد واجب على قاذف الرجل المحصن كوجوبه على قاذف المحصنة واتفق الفقهاء على أن قوله( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) قد أريد به الرمي بالزنا وإن كان في فحوى اللفظ دلالة عليه من غير نص وذلك لأنه لما ذكر المحصنات وهن العفائف دل على أن المراد بالرمي رميها بضد العفاف وهو الزنا ووجه آخر من دلالة فحوى اللفظ وهو قوله تعالى( ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) يعنى على صحة ما رموه به ومعلوم أن هذا العدد من الشهود إنما هو مشروط في الزنا فدل على أن قوله( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) معناه يرمونهن بالزنا ويدل ذلك على معنى آخر وهو أن القذف الذي يجب به الحد إنما هو القذف بصريح الزنا وهو الذي إذا جاء بالشهود عليه حد المشهود عليه ولو لا ما في فحوى اللفظ من الدلالة عليه لم يكن ذكر الرمي مخصوصا بالزنا دون غيره من الأمور التي يقع الرمي بها إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر وسائر الأفعال المحظورة ولم يكن اللفظ حينئذ مكتفيا بنفسه في إيجاب حكمه بل كان يكون مجملا موقوف الحكم على البيان إلا أنه كيفما تصرفت الحال فقد حصل الاتفاق على أن الرمي بالزنا مراد ولما كان كذلك صار بمنزلة قوله والذين يرمون المحصنات بالزنا إذ حصول الإجماع على أن الزنا مراد بمنزلة ذكره في اللفظ فوجب بذلك أن يكون وجوب حد القذف مقصورا

١١٠

بالزنا دون غيره وقد اختلف السلف والفقهاء في التعريض بالزنا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد بن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعى لا حد في التعريض بالقذف وقال مالك عليه فيه الحد وروى الأوزاعى عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان عمر يضرب الحد في التعريض وروى ابن وهب عن مالك عن أبى الرحال عن أمه عمرة أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال أحدهما للآخر والله ما أبى بزان ولا أمى بزانية فاستشار في ذلك عمر الناس فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن يجلد الحد فجلده عمر الحد ثمانين ومعلوم أن عمر لم يشاور في ذلك إلا الصحابة الذين إذا خالفوا قبل خلافهم فثبت بذلك حصول الخلاف بين السلف ثم لما ثبت أن المراد بقوله( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) هو الرمي بالزنا لم يجز لنا إيجاب الحد على غيره إذ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها الاتفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنه قال اجتهادا ورأيا وأيضا فإن التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني وغير جائز إيجاب الحد بالاحتمال لوجهين أحدهما أن الأصل أن القائل برىء الظهر من الجلد فلا نجلده بالشك والمحتمل مشكوك فيه ألا ترى أن يزيد بن ركانة لما طلق امرأته البتة استحلفه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أردت إلا واحدة فلم يلزمه الثلاث بالاحتمال ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق أنها لا تجعل طلاقا إلا بدلالة والوجه الآخر ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أدرءوا الحدود بالشبهات وأقل أحوال التعريض حين كان محتملا للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه وأيضا قد فرق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في العدة وبين التصريح فقال( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ) يعنى نكاحا فجعل التعريض بمنزلة الإضمار في النفس فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف والمعنى الجامع بينهما أن التعريض لما كان فيه احتمال كان في حكم الضمير لوجود الاحتمال فيه واختلف الفقهاء في حد العبد في القذف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتى والثوري والشافعى إذا قذف العبد حرا فعليه أربعون جلدة وقال الأوزاعي يجلد ثمانين وروى الثوري عن جعفر بن محمد

١١١

عن أبيه أن عليا قال يجلد العبد في الفرية أربعين وروى الثوري عن ابن ذكوان عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك في القذف الأربعين قال أبو بكر وهو مذهب ابن عباس وسالم وسعيد بن المسيب وعطاء وروى ليث بن أبى سليم عن القاسم بن عبد الرحمن أن عبد الله بن مسعود قال في عبد قذف حرا أنه يجلد ثمانين وقال أبو الزناد جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في الفرية ثمانين ولم يختلفوا في أن حد العبد في الزنا خمسون على النصف من حد الحر لأجل الرق وقال الله تعالى( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) فنص على حد الأمة وأنه نصف حد الحرة واتفق الجميع على أن العبد بمنزلتها لوجود الرق فيه كذلك يجب أن يكون حده في القذف على النصف من حد الحر لوجود الرق فيه واختلفوا في قاذف المجنون والصبى فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعى لاحد على قاذف المجنون والصبى وقال مالك لا يحد قاذف الصبى وإن كان مثله يجامع إذا لم يبلغ ويحد قاذف الصبية إذا كان مثلها تجامع وإن لم تحصن ويحد قاذف المجنون وقال الليث يحد قاذف المجنون قال أبو بكر المجنون والصبى والصبية لا يقع من واحد منهم زنا لأن الوطء منهم لا يكون زنا إذ كان الزنا فعلا مذموما يستحق عليه العقاب وهؤلاء لا يستحقون العقاب على أفعالهم فقاذفهم بمنزلة قاذف المجنون لوقوع العلم بكذب القاذف ولأنهم لا يلحقهم شين بذلك الفعل لو وقع منهم فكذلك لا يشينهم قذف القاذف لهم بذلك ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد إلى المقذوف لا تجوز ولا يجوز أن يقوم غيره مقامه فيه ألا ترى أن الوكالة غير مقبولة فيه وإذا كان كذلك لم تجب المطالبة لأحد وقت القذف فلم يجب الحد لأن الحد إذا وجب فإنما يجب بالقذف لا غير فإن قيل فللرجل أن يأخذ بحد أبيه إذا قذف وهو ميت فقد جاز أن يطالب عن الغير بحد القذف قيل له إنما يطالب عن نفسه لما حصل به من القدح في نسبه ولا يطالب عن الأب وأيضا لما اتفقوا على أن قاذف الصبى لا بحد كان كذلك قاذف الصبية لأنهما جميعا من غير أهل التكليف ولا يصح وقوع الزنا منهما فكذلك المجنون لهذه العلة واختلفوا فيمن قذف جماعة فقال أبو حنيفة وابو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري والليث إذا قذفهم بقول واحد فعليه حد واحد وقال ابن أبى ليلى إذا قال لهم يا زناة فعليه حد واحد وإن قال لكل

١١٢

إنسان يا زاني فلكل إنسان حد وهو قول الشعبي وقال عثمان البتى إذا قذف جماعة فعليه لكل واحد حد وإن قال لرجل زنيت بفلانة فعليه حد واحد لأن عمر ضرب أبا بكرة وأصحابه حدا واحدا ولم يحدهم للمرأة وقال الأوزاعى إذا قال يا زاني ابن زان فعليه حدان وإن قال لجماعة إنكم زناة فحد واحد وقال الحسن بن صالح إذا قال من كان داخل هذه الدار فهو زان ضرب لمن كان داخلها إذا عرفوا وقال الشافعى فيما حكاه المزني عنه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة فلكل واحد حد وإن قال لرجل واحد يا ابن الزانيين فعليه حدان وقال في أحكام القرآن إذا قذف امرأته برجل لاعن ولم يحد للرجل قال أبو بكر قال الله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) ومعلوم أن مراده جلد كل واحد من القاذفين ثمانين جلدة فكان تقدير الآية ومن رمى محصنا فعليه ثمانون جلدة وهذا يقتضى أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين ومن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فهو مخالف لحكم الآية ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد ابن بشار قال حدثنا ابن أبى عدى قال انبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سمحاء فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم البينة أوحد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول البينة وإلا فحد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إنى لصادق ولينزلن الله في أمرى ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ) وذكر الحديث وروى محمد بن كثير قال حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس أن هلال بن أمية قذف شريك بن سمحاء بامرأته فرفع ذلك إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك قال ذلك مرارا فنزلت آية اللعان قال أبو بكر قد ثبت بهذا الخبر أن قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) الآية كان حكما عاما في الزوجات كهو في الأجنبيات لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهلال بن أمية ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك ولأن عموم الآية قد اقتضى ذلك ثم لم يوجب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على هلال إلا حدا واحدا مع قذفه لامرأته ولشريك بن سمحاء إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات ولم ينسخ موجب الخبر من وجوب الاقتصاد على حد واحد إذا قذف

«8 ـ احكام مس»

١١٣

جماعة فثبت بذلك أنه لا يجب على قاذف الجماعة إلا حد واحد ويدل عليه من جهة النظر أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مرارا لا يوجب إلا حدا واحدا كمن زنى مرارا أو سرق مرارا أو شرب مرارا لم يحد إلا حدا واحدا فكان اجتماع هذه الحدود التي هي من جنس واحد موجبا لسقوط بعضها والاقتصار على واحد منها والمعنى الجامع بينهما أنها حد وإن شئت قلت إنما يسقط بالشبهة فإن قيل حد القذف حق لآدمى فإذا قذف جماعة وجب أن يكون لكل واحد منهم استيفاء حده على حياله والدليل على أنه حق لآدمى أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف قيل له الحد هو حق لله تعالى كسائر الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر وإنما المطالبة به حق لآدمى لا الحد نفسه وليس كونه موقوفا على مطالبة الآدمي مما يوجب أن يكون الحد نفسه حقا لآدمى ألا ترى أن حد السرقة لا يثبت إلا بمطالبة الآدمي ولم يوجب ذلك أن يكون القطع حقا للآدمي فكذلك حد القذف ولذلك لا يجيز أصحابنا العفو عنه ولا يورث ويدل على أنه حق لله تعالى اتفاق الجميع على أن العبد يجلد في القذف أربعين ولو كان حقا لآدمى لما اختلف الحر والعبد فيه إذ كان الجلد مما ينتصف ألا ترى أن العبد والحر يستويان فيما يثبت عليهما من الجنايات على الآدميين فإذا قتل العبد ثبت الدم في عنقه فإذا كان عمدا قتل وإن كان خطأ كانت الدية في رقبته كما لو قتله حر وجبت الدية فلو كان حد القذف حقا لآدمى لما اختلف مع إمكان تنصيفه الحر العبد وكذلك العبد والحر لا يختلفان في استهلاك الأموال إذ ما يثبت على الحر فمثله يثبت على العبد وقد اختلف في إقامة حد القذف من غير مطالبة المقذوف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والأوزاعى والشافعى لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وقال ابن أبى ليلى يحده الإمام وإن لم يطالب المقذوف وقال مالك لا يحده الإمام حتى يطالب المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه يقذف فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال سمعت ابن جريج يحدث عن عمر وبن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمر وبن العاص أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب فثبت بذلك أن ما بلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حد لم يكن يهمله ولا يقيمه فلما قال لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سمحاء ائتني بأربعة يشهدون وإلا

١١٤

فحد في ظهرك ولم يحضر شهودا ولم يحده حين لم يطالب المقذوف بالحد دل ذلك على أن حد القذف لا يقام إلا بمطالبة المقذوف ويدل عليه أيضا ما روى في حديث زيد بن خالد وأبى هريرة في قصة العسيف وإن أبا الزاني قال إن ابني زنى بامرأة هذا فلم يحده النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقذفها وقال اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولما كان حد القذف واجبا لما انتهك من عرضه بقذفه مع إحصانه وجب أن تكون المطالبة به حقا له دون الإمام كما أن حد السرقة لما كان واجبا لما انتهك من حرز المسروق وأخذ ماله لم يثبت إلا بمطالبة المسروق منه وأما فرق مالك بين أن يسمعه الإمام أو يشهد به الشهود فلا معنى له لأن هذا إن كان مما للإمام إقامته من غير مطالبة المقذوف فواجب أن لا يختلف فيه حكم سماع الإمام وشهادة الشهود من غير سماعه.

باب شهادة القذف

قال الله عز وجل( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) قال أبو بكر حكم الله تعالى في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على ما قذفه بثلاثة أحكام أحدها جلد ثمانين والثاني بطلان الشهادة والثالث الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب واختلف أهل العلم في لزوم هذه الأحكام له وثبوتها عليه بالقذف بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا فقال قائلون قد بطلت شهادته ولزمته سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه وهو قول الليث بن سعد والشافعى وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك شهادته مقبولة ما لم يحد وهذا يقتضى من قولهم إنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها إذا كان فسقه من طريق الفعل لا من جهة التدين والإعتقاد والدليل على صحة ذلك قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) فأوجب بطلان شهادته عند عجزه عن إقامة البينة على صحة قذفه وفي ذلك ضربان من الدلالة على جواز شهادته وبقاء حكم عدالته ما لم يقع الحد به أحد هما قوله( ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف أن يكونوا غير فساق بالقذف لأنه قال( ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) الآية فكان تقديره ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك هم الفاسقون

١١٥

فإنما حكم بفسقهم متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود فمن حكم بفسقهم بنفس القذف فقد خالف حكم الآية وأوجب ذلك أن تكون شهادة القاذف غير مردودة لأجل القذف فثبت بذلك أن بنفس القذف لم تبطل شهادته وأيضا فلو كانت شهادته تبطل بنفس القذف لما كان تركه إقامة البينة على زنا المقذوف مبطلا لشهادته وهي قد بطلت قبل ذلك والوجه الآخر أن المعقول من هذا اللفظ أنه لا تبطل شهادته مادامت إقامة البينة على زناة ممكنة ألا ترى أنه لو قال رجل لا مرأته أنت طالق إن كلمت فلان ثم لم تدخلي الدار أنها إن كلمت فلانا لم تطلق حتى تترك دخول الدار إلى أن تموت فتطلق حينئذ قبل موتها بلا فصل وكذلك لو قال أنت طالق إن كلمت فلانا ولم تدخلي الدار كان بهذه المنزلة وكان الكلام وترك الدخول إلى أن تموت شرطا لوقوع الطلاق ولا فرق بين قوله أنت طالق إن كلمت فلانا ثم دخلت الدار وبين قوله إن كلمت فلانا ثم لم تدخليها وإن افترقا من جهة أن شرط اليمين في أحدهما وجود الدخول وفي الآخر نفيه ولما كان ذلك كذلك وكان قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) مقتضيا لشرطين في بطلان شهادة القاذف أحدهما الرمي والآخر عدم الشهود على زنا المقذوف متراخيا عن القذف وفوات الشهادة عليه به فما دامت إقامة الشهادة عليه بالزنا ممكنة بخصومة القاذف فقد اقتضى لفظ الآية بقاءه على ما كان عليه غير محكوم ببطلان شهادته وأيضا لا يخلو القاذف من أن يكون محكوما بكذبه وبطلان شهادته بنفس القذف أو أن يكون محكوما بكذبه بإقامة الحد عليه فلو كان محكوما بكذبه بنفس القذف ـ ولذلك بطلت شهادته ـ فواجب أن لا يقبل بعد ذلك بينة على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانيا فلما لم يختلفوا في حكم قبول بينته على المقذوف بالزنا وأن ذلك يسقط عنه الحد ثبت أن قذفه لم يوجب أن يكون كاذبا فواجب أن لا تبطل شهادته إذ لم يحكم بكذبه لأن من سمعناه بخبر يخبر لا نعلم فيه صدقه من كذبه لم تبطل به شهادته ألا ترى أن قاذف امرأته بالزنا لا تبطل شهادته بنفس القذف ولا يكون محكوما بكذبه بنفس قذفه ولو كان كذلك لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته ولما أمر أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه ولما وعظ في ترك اللعان الكاذب منهما ولما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد

١١٦

ما لاعن بين الزوجين الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب فأخبر أن أحدهما بغير عينه هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف دون الزوجة وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب تفسيقه ولا الحكم بتكذيبه ويدل عليه قوله عز وجل( لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط بل إذا لم يأتوا بالشهداء ومعلوم أن المراد إذا لم يأتوا بالشهداء عند الخصومة في القذف فغير جائز إبطال شهادته قبل وجود هذه الشريطة وهو عجزه عن إقامة البينة بعد الخصومة في حد القذف عند الإمام إذ كان الشهداء إنما يقيمون الشهادة عند الإمام فمن حكم بتفسيقه وأبطل شهادته بنفس القذف فقد خالف الآية فإن قيل لما قال الله تعالى( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) دل ذلك على أن على الناس إذا سمعوا من يقذف آخر أن يحكموا بكذبه ورد شهادته إلى أن يأتى بالشهداء قيل له معلوم أن الآية نزلت في شأن عائشة رضى الله عنها وقذفتها لأنه قال تعالى( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) ـ إلى قوله( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ) وقد كانت بريئة الساحة غير متهمة بذلك وقاذفوها أيضا لم يقذفوها برؤية منهم لذلك وإنما قذفوها ظنا منهم وحسبانا حين تخلفت ولم يدع أحد منهم أنه رأى ذلك ومن أخبر عن ظن في مثله فعلينا إكذابه والنكير عليه وأيضا لما قال في نسق التلاوة( فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) فحكم بكذبهم عند عجزهم عن إقامة البينة علمنا أنه لم يرد بقوله( وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) إيجاب الحكم بكذبهم بنفس القذف وإن معناه وقالوا هذا إفك مبين إذ سمعوه لم يأت القاذف بالشهود والشافعى يزعم أن شهود القذف إذا جاءوا متفرقين قبلت شهادتهم فإن كان القذف قد أبطل شهادته فوجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاث لأنه قد فسق بقذفه فوجب الحكم بتكذيبه وفي قبول شهادتهم إذا جاءوا متفرقين ما يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف ويدل على صحة قولنا من جهة السنة ما روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحد ويدل عليه أيضا حديث ابن منصور عباد عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيجلد هلال

١١٧

وتبطل شهادته في المسلمينفأخبر أن بطلان شهادته معلق بوقوع الجلد به ودل بذلك أن القذف لم يبطل شهادته واختلف الفقهاء في شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف والثوري والحسن بن صالح لا تقبل شهادته إذا تاب وتقبل شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب وقال مالك وعثمان البتى والليث والشافعى تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب وقال الأوزاعى لا تقبل شهادة محدود في الإسلام قال أبو بكر روى الحجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ثم استثنى فقال( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ) فتاب عليهم من الفسق وأما الشهادة فلا تجوز. حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا حجاج وقد ورد عن ابن عباس أيضا ما حدثنا جعفر ابن محمد قال حدثنا ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن على بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) قال ثم قال( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ) قال فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله مقبولة قال أبو بكر ويحتمل أن لا يكون ذلك مخالفا لما روى عنه في الحديث الأول بأن يكون أراد بأن شهادته مقبولة إذا لم يجلد وتاب والأول على أنه جلد فلا تقبل شهادته وإن تاب وروى عن شريح وسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا لا تجوز شهادته وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله وقال إبراهيم رفع عنهم بالتوبة اسم الفسق فأما الشهادة فلا تجوز أبدا وروى عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم ابن محمد وسالم والزهري أن شهادته تقبل إذا تاب وروى عن عمر بن الخطاب من وجه مطعون فيه أنه قال لأبى بكرة إن تبت قبلت شهادتك وذلك أنه رواه ابن عيينة عن الزهري قال سفيان عن سعيد بن المسيب ثم شك وقال هو عمر بن قيس أن عمر قال لأبى بكرة إن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يتوب فشك سفيان بن عيينة في سعيد بن المسيب وعمر بن قيس ويقال إن عمر بن قيس مطعون فيه فلم يثبت عن عمر بهذا الإسناد هذا القول ورواه الليث عن ابن شهاب أنه بلغه أن عمر قال ذلك لأبى بكرة وهذا بلاغ لا يعمل عليه على مذهب المخالف وقد روى عن سعيد بن المسيب أن شهادته غير مقبولة

١١٨

بعد التوبة فإن صح عنه حديث عمر فلم يخالفه إلا إلى ما هو أقوى منه ومع ذلك فليس في حديث عمر أنه قال ذلك لأبى بكرة بعد ما جلده وجائز أن يكون قاله قبل الجلد قال أبو بكر ما ذكرنا من اختلاف السلف وفقهاء الأمصار في حكم القاذف إذا تاب فإنما صدر عن اختلافهم في رجوع الاستثناء إلى الفسق أو إلى إبطال الشهادة وسمة الفسق جميعا فيرفعهما والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه من زوال سمة الفسق به دون جواز الشهادة أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة والدليل عليه قوله تعالى( إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ ) فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم ولو قال رجل لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهم كان عليه ثمانية دراهم وكان الدرهم مستثنى من الثلاثة وإذا كان ذلك حكم الاستثناء وجب الاقتصار به على ما يليه ويدل عليه أيضا أن قوله( فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) في معنى الاستثناء وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء لأنه يليهن فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه وأيضا فإن الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل عليها الاستثناء عموما وجب أن يكون حكم العموم ثابتا وأن لا نرفعه باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إليها فإن قيل قال الله تعالى( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ـ إلى قوله ـإِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) فكان الاستثناء راجعا إلى جميع المذكور لكونه معطوفا بعضه على بعض وقال تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) ثم قال( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) فكان التيمم لمن لزمه الاغتسال كلزومه لمن لزمه الوضوء بالحدث فكذلك حكم الاستثناء الداخل على كلام معطوف بعضه على بعض يجب أن ينتظم الجميع ويرجع إليه قيل له قد بينا أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة وقد قامت الدلالة فيما ذكر على رجوعه إلى جميع المذكور ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه على رجوعه إلى المذكور فإن قيل إذا كنا قد وجدنا الاستثناء تارة يرجع إلى بعض المذكور وتارة إلى جميعه وكان ذلك متعالما مشهورا في

١١٩

اللغة فما الدلالة على وجوب الاقتصار به على بعض الجملة وهو الذي يليه دون رجوعه إلى الجميع قيل له لو سلمنا لك ما ادعيت من جواز رجوعه إلى الجميع لكان سبيله أن يقف موقف الاحتمال في رجوعه إلى ما يليه وإلى جميع المذكور وإذ كان كذلك وكان اللفظ الأول عموما مقتضيا للحكم في سائر الأحوال لم يجز رد الاستثناء إليه بالاحتمال إذ غير جائز تخصيص العموم بالاحتمال ووجب استعمال حكمه في المتيقن وهو ما يليه دون ما تقدمه فإن قيل ما أنكرت أن لا يكون اللفظ الأول عموما مع دخول الاستثناء على آخر الكلام بل يصير في حيز الاحتمال ويبطل اعتبار العموم فيه إذ ليس اعتبار عمومه بأولى من اعتبار عموم الاستثناء في عوده إلى الجميع وإذا بطل فيه اعتبار العموم وقف موقف الاحتمال في إيجاب حكمه فسقط اعتبار عموم اللفظ فيه قيل له هذا غلط من قبل أن صيغة اللفظ الأول صيغة العموم لا تدافع بيننا فيه وليس للاستثناء صيغة عموم يقتضى رفع الجميع فوجب أن يكون حكم الصيغة الموجبة للعموم مستعملا فيه وأن لا نزيلها عنه إلا بلفظ يقتضى صيغته رفع العموم وليس ذلك بموجود في لفظ الاستثناء فإن قيل لو قال رجل عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله رجع الاستثناء إلى الجميع وكذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا إن شاء الله فكان استثناؤه راجعا إلى جميع الأيمان إذ كانت معطوفة بعضها على بعض قيل له ليس هذا مما نحن فيه في شيء لأن هذا الضرب من الاستثناء مخالف للاستثناء الداخل على الجملة بحروف الاستثناء التي هي إلا وغير وسوى ونحو ذلك لأن قوله إن شاء الله يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت منه شيء والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله إلا لرفع حكم الكلام رأسا ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ولو قال أنت طالق إلا طالق كان الطلاق واقعا والاستثناء باطلا لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام ولذلك جاز أن يكون قوله إن شاء الله راجعا إلى جميع المذكور المعطوف بعضه على بعض ولم يجب مثله فيما وصفنا فإن قيل فلو كان قال أنت طالق وعبدى حر إلا أن يقدم فلان كان الاستثناء راجعا إلى الجميع فإن لم يقدم فلان حتى مات طلقت امرأته وعتق عبده وكان ذلك بمنزلة قوله إن شاء الله قيل له ليس ذلك على ما ظننت من قبل أن قوله إلا أن يقدم فلان وإن كانت صيغته صيغة الاستثناء فإنه في معنى الشرط

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193