اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)0%

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 193

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 193
المشاهدات: 50112
تحميل: 6828

توضيحات:

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 193 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50112 / تحميل: 6828
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومن جهة أخرى لحق بالمسلمين المخلصين ـ الذين نشأوا على التربية الإسلامية النقية وارتفعوا عن المنظار القومي والقبلي أو نظروا من خلاله بالشكل الذي لم يضرّ بدينهم ـ أذىً أكبر ممّا لحق بالطائفة الأولى، إذ كانوا يرون في عهد معاوية ـ الذي امتدّ نحو عشرين عاماً ـ اندراس سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد ظهرت البدعة وساد النظام الملكي عوضاً عن الخلافة، واستلم مقاليد أمور المسلمين أفراد أسرة قامت بكلّ ما بوسعها من أجل القضاء على الإسلام والمسلمين، حتى أنّ ولداً غير شرعيّ من آل ثقيف يصبح ـ وبشهادة بائع خمر ـ أخاً لمعاوية(١) .

وخلافاً لصريح القرآن الكريم لقد بثّ معاوية الجواسيس بين الناس ليحصوا عليهم أنفاسهم، ونسخ الوفاء بالعهد والإيمان، فقتلوا حجر بن عديٍّ بعد كلّ الضمانات التي أعطوها له، وبمؤامرة نسج خيوطها معاوية دسّت جعدة بنت الأشعث بن قيس السمّ لزوجها الإمام الحسن المجتبى سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلى عشرات الممارسات الأُخرى المخالفة لصريح القرآن وسنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي كان يتّسم بها ذلك العهد.

فكانت النتيجة أنّه لم يبقَ أيّ مظهر إسلامي للحكومة الإسلامية في الشام والعراق اللّذين كانا يمثّلان أخطر مركزين في الدولة آنذاك، كما اقتصر فقه المسلمين على الصلاة والصوم والحجّ والزكاة وما يسمّى بالجهاد، وكان المتديّنون المخلصون يتألّمون بشدّة لتفشّي البدع، فكانوا يتربّصون الفرص التي تتيح لهم إقصاء ما ابتدعه معاوية في عصره باسم الإسلام.

ــــــــــــــ

(١) راجع: ترجمة سُمّية أم زياد في هامش وقعة الطف : ٢١١ و ٢١٢.

٤١

الوضع السياسي في العراق عند موت معاوية :

وعندما مات معاوية اعتبر الفريقان المتنفّذان في العراق أنّ الفرصة باتت مؤاتية :

أ ـ فريق أهل الدين الذين عاشوا آلام المسلمين وأحزنهم غياب سُنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا يستهدفون القضاء على النظام الملكي وإعادة الحكومة الإسلامية كما كانت في عصر الخلفاء السابقين على الأقل.

ب ـ السياسيون المحترفون اللاهثون وراء السلطة الذين كانوا يرومون وضع حدّ لتحكّم الشام بالعراق.

وفي الأيام التي كان العراق فيها يغصّ بالأحداث الخطيرة كان للأجواء في الشام طابع آخر.

كان يزيد في قرية حوارين(١) عندما هلك والده معاوية، فعاد بمساعي والي الشام (الضحّاك بن قيس) إلى دمشق ليعلن نفسه خليفة للمسلمين، وأسرع إلى محاولة تبديد مخاوفه من الأشخاص الذين سيعارضونه، فكتب في الأيام الأولى من خلافته رسالة إلى حاكم المدينة طلب منه فيها أن يأخذ البيعة له من الحسين بن علىّعليه‌السلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وكان واضحاً من البداية أنّ الحسينعليه‌السلام لن يبايع يزيد، واعتبر ابن الزبير نفسه خليفة، إلاّ أنّ الناس تجاهلوه، ولم يكن لابن عمر أيّ دور في الأوضاع، فلن تحقّق بيعته أو عدمها أيّ ضرر بخلافة يزيد، من هنا فإنّ يزيد لا يخشى إلاّ

ــــــــــــــ

(١) قرية تقع بين تدمر ودمشق.

٤٢

الحسين بن عليعليه‌السلام ويتعجّل أن يتبيّن موقفه.

وفي تلك الفترة كان من الطبيعي أن يختار العراق ـ الذي كان يتحيّن الفرص ـ ابن بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائداً له ليحقّق أهداف المؤمنين المخلصين والسياسيين المحترفين في آن واحد، باعتباره الشخص الوحيد الذي يمكنه إحياء سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقضاء على البدع، وأنّه الوحيد القادر على استقطاب قلوب الناس بشرافة نسبه وجلالة قدره وكرامة نفسه وتقواه، وهو الأشدّ رفضاً للظلم، ولهذا السبب رفض مبايعة يزيد.

ومن هنا تشكّلت المجالس وانعقدت الجماعات في الكوفة فكانت النتيجة أن وُجّهت الدعوة إلى الحسين بن عليّ ابن بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحجاز لينتقل إلى العراق، وتضمّنت الدعوة المؤكدة بأنّ أهل الكوفة على اُهبة الاستعداد لقتال الأمويّين الذين غصبوا الحكم تحت راية الحسينعليه‌السلام .

وقد بعث الحسينعليه‌السلام ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ومعه إجابات الإمام الحسينعليه‌السلام على رسائل الكوفيين. وقد التف الكوفيّون حول ابن عقيل ورحّبوا به وأكّدوا له مرّةً أُخرى استعدادهم لخوض الحرب ضدّ طُغاة الشام تحت قيادة الحسين، فأرسل إلى الحسينعليه‌السلام رسالة أوضح فيها أنّ في الكوفة مئة ألف رجل يتعهّدون بمناصرة الإمام مشدّداً على ضرورة إسراع الإمام في التحرّك إلى العراق.

والمدهش أنّ رسائل بعثت في تلك الأيام من الكوفة إلى الشام تؤكّد ليزيد أنّه إذا أراد الكوفة فإنّ عليه أن يبعث عليها حاكماً مقتدراً، لأنّ حاكمها النعمان بن بشير أظهر ضعفاً في تعاطيه مع الأحداث.

٤٣

وقد تباحث يزيد في هذا الأمر مع مستشاره الرومي السيرجون، الذي أشار عليه بتعيين عبيد الله بن زياد حاكماً على الكوفة، وبوصول ابن زياد إلى الكوفة تخلّى أهلها عن مسلم، وأتاحوا لابن زياد قتله مع مضيّفه هانئ بن عروة، ومن جهة أُخرى كان الإمام الحسين وأهل بيته عليهم‌السلام وعدد من أنصاره في الطريق إلى العراق، والإمام زين العابدين عليه‌السلام يرافق والده في كل هذه الظروف العصيبة حتى وصلوا العراق (١) .

النصّ على إمامة زين العابدينعليه‌السلام

لقد نصّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامة اثني عشر إماماً من أهل بيته الأطهار، وعيّنَهم بذكر أسمائهم وأوصافهم، كما هو المعروف من حديث الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري وغيره عند العامّة والخاصّة(٢) .

كما نصّ كلّ إمام معصوم على الإمام الذي يليه قبل استشهاده في مواطن عديدة بما يتناسب مع ظروف عصره، وقد كان النصّ يكتب ويودع عند أحد سرّاً، ويجعل طلبه دليلاً على الاستحقاق، ونلاحظ تكرّر هذه الظاهرة في حياة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام بالنسبة لابنه زين العابدينعليه‌السلام تارة في المدينة وأُخرى في كربلاء قبيل استشهاده.

وممّا روي من النصّ على إمامة ولدهعليه‌السلام ما رواه الطوسي، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام : أنّ الحسين لمّا خرج إلى العراق دفع إلى أم سلمة زوجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوصيّة والكتب وغير ذلك وقال لها:(إذا أتاك أكبر وُلدي فادفعي إليه ما قد دفعتُ إليك) . فلما قُتل الحسينعليه‌السلام أتى عليّ بن الحسينعليه‌السلام أُمّ سلمة فدفعت إليه كلّ شيء أعطاها الحسينعليه‌السلام .

ــــــــــــــ

(١) اقرأ أخبار هذه الأحداث مسندة موثقة في : وقعة الطف لأبي مخنف: ٧٠ ـ ١٤١، تحقيق محمد هادي اليوسفي الغروي.

(٢) راجع : منتخب الأثر: ٩٧، الباب الثامن، والإرشاد وإعلام الورى بأعلام الهدى: ٢/١٨١، ١٨٢، النصوص على الأئمة الاثنا عشر، قادتنا: ٥/١٤، وإثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: ٢/٢٨٥، النصوص العامة على الأئمة، وإحقاق الحقّ وملحقاته ج١ ـ ٢٥.

٤٤

وفي نصٍّ آخر: أنّهعليه‌السلام جعل طلبها منها علامة على إمامة الطالب لها من الأنام فَطلبها زين العابدينعليه‌السلام (١) .

وروى الكليني عن أبي الجارود عن الإمام الباقرعليه‌السلام :أنّ الحسين عليه‌السلام لمّا حضره الذي حضره دعا ابنته فاطمة الكبرى فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّة ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين عليه‌السلام مريضاً لا يرون أنّه يبقى بعده، فلمّا قُتل الحسين عليه‌السلام ورجع أهل بيته إلى المدينة دفعت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام (٢) .

وسوف نلاحظ في احتجاج الإمامعليه‌السلام مع عمّه محمد بن الحنفيّة أنّه قال له: (إنّ أبي صلوات الله عليه أوصى إليّ قبل أن يتوجّه إلى العراق وعهد إليّ في ذلك قبل أن يستشهد بساعة) (٣) .

الإمام زين العابدينعليه‌السلام يوم عاشوراء :

إنّ أشدّ ما كان يحزّ في نفوس أهل بيت الرسالة ومحبّيهم ما رواه حميد بن مسلم، وهو شاهد عيان بعد ظهر اليوم العاشر من المحرّم إثر استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام إذ قال: لقد كنت أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها من ظهرها حتى تغلب عليه فيُذهب به منها.

ثمّ انتهينا إلى عليّ بن الحسينعليه‌السلام وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجّالة، فقالوا له: ألا تقتل هذا العليل؟ فقلت: سبحان الله أيقتل الصبيان؟! إنّما هذا صبيٌ وإنّه لما به، فلم أزل حتى دفعتهم عنه.

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ١ / ٢٤٢ / ٣ ، والغيبة للطوسي: ١١٨ الحديث ١٤٨، واثبات الهداة: ٥ / ٢١٤ ـ ٢١٦.

(٢) الكافي : ١ / ٢٤١ / ١، واثبات الوصيّة: ١٤٢، وإعلام الورى : ١ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣.

(٣) الاحتجاج : ٢ / ١٤٧، احتجاجات الإمام زين العابدين عليه‌السلام .

٤٥

وجاء عمر بن سعد فصاحت النساء في وجهه وبكين، فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض... من أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه عليهن، فوالله ما ردّ أحد منهم شيئاً(١) .

وهكذا شارك الإمام زين العابدينعليه‌السلام أباه الحسين السبطعليه‌السلام في جهاده ضد الطغاة ولكنه لم يرزق الشهادة مع أبيه والأبرار من أهل بيته وأصحابه، فإنّ الله سبحانه كان قد حفظه ليتولّى قيادة الأمة بعد أبيهعليه‌السلام ويقوم بالدور المعدّ له لصيانة رسالة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أيدي العتاة العابثين وانتحال الضالّين المبطلين ومن التيارات الوافدة على حضيرة الإسلام التي أخذت رقعتها بالاتّساع والانتشار السريع.

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٢ / ١١٢ ، وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ٢٥٦ ، ٢٥٧.

٤٦

الباب الثالث: فيه فصول:

الفصل الأول: الإمامعليه‌السلام من كربلاء إلى المدينة.

الفصل الثاني: حياة الإمامعليه‌السلام في المدينة.

الفصل الثالث: استشهاد الإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الفصل الأول: الإمام زين العابدينعليه‌السلام من كربلاء إلى المدينة

الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد ملحمة عاشوراء :

ذكر المؤرّخون عن شاهد عيان أنّه قال: قدمت الكوفة في المحرّم من سنة إحدى وستّين، منصرف عليّ بن الحسينعليه‌السلام بالنسوة من كربلاء ومعه الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر اليهم، فلمّا اُقبل بهم على الجمال بغير وطاء جعل نساء الكوفة يبكين، ويلتدِمنَ(١) ، فسمعت عليّ بن الحسين وهو يقول بصوت ضئيل وقد نهكته العلّة وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه:(إنّ هؤلاء النسوة يبكين فمن قتلنا؟!) (٢) .

وعندما أدخلوا الإمام السجادعليه‌السلام على ابن زياد سأله من أنت؟ فقال:(أنا عليّ بن الحسين) ، فقال له: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال عليّعليه‌السلام :قد كان لي أخ يسمّى عليّاً قتله الناس ، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال عليّ بن الحسينعليه‌السلام :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للردّ عليّ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه(٣) .

ــــــــــــــ

(١) التدمت المرأة: ضربت صدرها في النياحة، وقيل : ضربت وجهها في المآتم.

(٢) الأمالي للطوسي: ٩١.

(٣) الإرشاد للمفيد: ٢٤٤، ووقعة الطف : ٢٦٢، ٢٦٣ .

٤٧

فتعلّقت به عمّته زينب وقالت: ياابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: لا والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه، فقال لها علىّ عليه‌السلام : اسكتي يا عمّة حتى أُكلّمه ، ثمّ أقبل عليه فقال: أبالقتل تهدّدني ياابن زياد؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة؟ ثمّ أمر ابن زياد بعلي بن الحسين عليه‌السلام وأهل بيته فحملوا إلى دار بجنب المسجد الأعظم، ولمّا أصبح ابن زياد أمر برأس الحسين عليه‌السلام فطيف به في سكك الكوفة كلّها وقبائلها، ولمّا فرغ القوم من الطواف به في الكوفة ردّوه إلى باب القصر (١) .

ثمّ إنّ ابن زياد نصب الرؤوس كلّها بالكوفة على الخشب، كما أنّه كان قد نصب رأس مسلم بن عقيل من قبل بالكوفة.

وكتب ابن زياد إلى يزيد يخبره بقتل الحسين عليه‌السلام وخبر أهل بيته (٢) . كما بعث إلى عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة ـ وهو من بني أمية ـ يخبره بقتل الحسين عليه‌السلام .

ولمّا وصل كتاب ابن زياد إلى الشام أمره يزيد بحمل رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس من قتل معه إليه، فأمر ابن زياد بنساء الحسينعليه‌السلام وصبيانه فجُهِّزوا، وأمر بعليّ بن الحسينعليهما‌السلام فغُلّ بغِلٍّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرؤوس مع مجفر بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن، وحملهم على الأقتاب، وساروا بهم كما يسار بسبايا الكفار، فانطلقوا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرؤوس، فلم يكلّم عليّ بن الحسينعليه‌السلام أحداً منهم في الطريق بكلمة حتى بلغوا الشام(٣) .

ــــــــــــــ

(١) مقتل الخوارزمي : ٢/٤٣ مرسلاً، واللهوف على قتلى الطفوف : ١٤٥.

(٢) الكامل في التاريخ للجزري : ٤/٨٣، وإنّ أوّل رأس حمل في الإسلام هو رأس عمر بن الحِمق الخزاعي إلى معاوية.

(٣) عن طبقات ابن سعد في ذيل تاريخ دمشق ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام : ١٣١، وأنساب الأشراف: ٢١٤، والطبري : ٥/٤٦٠ و ٤٦٣ ، والإرشاد : ٢/١١٩ واللفظ للأخير.

٤٨

سبايا آل البيتعليهم‌السلام في دمشق :

خضعت الشام منذ فتحها بأيدي المسلمين لحكّام مثل خالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان، فلم يشاهد الشاميون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يسمعوا حديثه الشريف منه مباشرةً، ولم يطّلعوا على سيرة أصحابه عن كثب ، أمّا النفر القليل من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين انتقلوا إلى الشام وأقاموا فيها فلم يكن لهم أثر في الناس، فكانت النتيجة أنّ أهل الشام اعتبروا سلوك معاوية بن أبي سفيان وأصحابه سنّة للمسلمين، ولمّا كانت الشام خاضعة للإمبراطورية الرومية قروناً طويلة، فقد كانت حكومات العصر الإسلاميّ أفضل من سابقاتها بالنسبة للشاميّين.

ومن هنا ليس أمراً عجيباً أن نقرأ في كتب التأريخ أنّ شيخاً شامياً دنا من الإمام السجادعليه‌السلام عند دخول سبايا آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشام وقال له: الحمد الله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم.

فقال له الإمامعليه‌السلام : يا شيخ أقرأت القرآن ؟

فقال الشيخ: بلى.

فقال له الإمامعليه‌السلام : أقرأت( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ؟

فقال الشيخ : بلى.

فقال له الإمامعليه‌السلام :فنحن القربى، يا شيخ!

ثمّ قال له:فهل قرأت ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ؟

قال: قد قرأت ذلك.

قالعليه‌السلام : فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ؟

قال: نعم.

قال الإمامعليه‌السلام : نحن القربى .

يا شيخ! هل قرأت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟

قال الشيخ: بلى.

قال له الإمامعليه‌السلام :نحن أهل البيت الذين اختصّنا الله بآية الطهارة .

قال الشيخ: بالله إنّكم هم؟!

٤٩

قال الإمامعليه‌السلام :تالله إنّا لنحن هم من غير شكٍّ وحقِّ جدِّنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّا لنحن هم .

فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد(١) .

وذكر المؤرّخون أنّه لمّا قدم عليّ بن الحسينعليه‌السلام وقد قُتل الحسين بن علىّعليه‌السلام استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله وقال: يا عليّ بن الحسين، من غلب؟ وهو مغطٍّ رأسه وهو في المحمل، فقال له عليّ بن الحسين:إذا أردت أن تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذّن ثمّ أقم (٢) .

لقد كان جواب عليّ بن الحسينعليه‌السلام أنّ الصراع إنّما هو على الأذان وتكبير الله تعالى والإقرار بوحدانيّته وليس على رئاسة بني هاشم، وأنّ استشهاد الحسين والصفوة من أهل بيته وأصحابه هو سبب بقاء الإسلام المحمّدي وثباته أمام جاهلية بني أمية ومن حذا حذوهم ممّن لم يذوقوا حلاوة الإيمان والإسلام.

ــــــــــــــ

(١) مقتل الخوارزمي ٢: ٦١ ، واللهوف على قتلى الطفوف : ١٠٠، ومقتل المقرم : ٤٤٩ عن تفسير ابن كثير والآلوسي.

(٢) أمالي الطوسي: ٦٧٧.

٥٠

الإمامعليه‌السلام في مجلس يزيد:

أُدخل رأس الحسين عليه‌السلام ونساؤه ومن تخلّف من أهله على يزيد وهم مقرّنون في الحبال وزين العابدين عليه‌السلام مغلول، فلمّا وقفوا بين يديه على تلك الحال تمثّل يزيد بشعر حصين بن حمام المرّي قائلاً:

نفلِّقُ هاماً من رجال أعزّة

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما(١)

فردّ عليه الإمام عليّ بن الحسينعليه‌السلام بقوله تعالى:( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (٢) .

وتميّز يزيد غضباً، فتلا قوله تعالى:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (٣) .

وينقل المؤرّخون عن فاطمة بنت الحسينعليه‌السلام قولها: فلمّا جلسنا بين يدي يزيد رقّ لنا فقام إليه رجل من أهل الشام أحمر، فقال : يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية ـ يعنيني ـ فأرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم فأخذت بثياب عمّتي زينب وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون.

فقالت عمّتي للشامي: كذبت والله ولؤمت والله، ما ذاك لك ولا له!

فغضب يزيد وقال: كذبت إنّ ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت!

قالت : كلاّ والله ما جعل الله لك ذلك إلاّ أن تخرج من ملتنا وتدين بغيرها، فاستطار يزيد غضباً، وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد: ٢/١١٩ و ١٢٠، ووقعة الطف لأبي مخنف : ١٦٨ و ٢٧١، والعقد الفريد : ٥ / ١٢٤.

(٢) الحديد (٥٧) : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) الشورى (٤٢) : ٣٠.

٥١

أبوك وأخوك!

قالت: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إن كُنت مسلماً، قال: كذبتِ يا عدوّة الله!

قالت: أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك، فكأنّه استحيى وسكت.

فعاد الشاميّ فقال: هب لي هذه الجارية، فقال يزيد: أعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً(١) .

ويبدو أنّ اعتماد يزيد لهجة أقلّ قسوة وشراسة من لهجة ابن زياد في الكوفة يعود إلى أنّ الأخير كان يريد أن يدلّل على إخلاصه لسيّده، بينما لا يحتاج يزيد ذلك، ولعلّ يزيد أدرك أنّه قد ارتكب خطأً كبيراً في قتله الحسينعليه‌السلام وسبيه أهل بيت النبوّة، من هنا فإنّه أراد تخفيف مشاعر السخط تجاهه.

وفي تلك الأيام أوعز يزيد إلى خطيب دمشق أن يصعد المنبر ويبالغ في ذمّ الحسين وأبيهعليهما‌السلام فانبرى إليه الإمام زين العابدينعليه‌السلام فصاح به:(ويلك أيّها الخاطب، إشتريت رضاء المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النار) .

واتّجه الإمام نحو يزيد فقال له:(أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضىً، ولهؤلاء الجالسين أجرٌ وثواب...) .

وبهت الحاضرون وعجبوا من هذا الفتى العليل الذي ردّ على الخطيب والأمير وهو أسير، فرفض يزيد إجابته، وألحّ عليه الجالسون بالسماح له فلم يجد بُدّاً من إجابتهم فسمح له، واعتلى الإمام أعواد المنبر، وكان من جملة ما قاله:(أيّها الناس، أعطينا ستاً، وفُضِّلنا بسبع: أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضِّلنا بأن منّا النبيّ المختار محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنّا الصِّدِّيق ومنّا الطيّار ومنّا أسد الله وأسد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الأمة وسيّدا شباب أهل الجنّة) .

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٢/١٢١ ، ووقعة الطف لأبي مخنف: ٢٧١ ، ٢٧٢.

٥٢

وبعد هذه المقدّمة التعريفية لأسرته أخذ عليه‌السلام في بيان فضائلهم، قائلاً:

(فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء، أنا ابن من اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن علىّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلاّ الله. أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحُنين، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقاطع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين ورسول ربّ العالمين.

أنا ابن المؤيّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومبير المشركين، وسهم من مرامي الله، وبستان حكمة الله، ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء، أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنا ابن المرمّل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن من بكى عليه الجنّ في الظلماء، وناحت عليه الطير في الهواء) .

ولم يزل الإمام يقول: أنا أنا حتى ضجّ الناس بالبكاء، وخشي يزيد من وقوع الفتنة وحدوث ما لا تحمد عقباه، فقد أوجد خطاب الإمام انقلاباً فكرياً إذ عرّف الإمام نفسه لأهل الشام وأحاطهم علماً بما كانوا يجهلون.

٥٣

فأوعز يزيد إلى المؤذّن أن يؤذّن ليقطع على الإمام كلامه، فصاح المؤذن (الله أكبر) فالتفت إليه الإمام فقال له:(كبّرت كبيراً لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، لا شيء أكبر من الله) ، فلمّا قال المؤذّن: أشهد أن لا إله إلاّ الله قال الإمامعليه‌السلام :(شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخي وعظمي) ، ولمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمداً رسول الله التفت الإمام إلى يزيد فقال له:(يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت، وإن قلت: أنّه جدّي فلمَ قتلت عترته (١) ) ؟!

ووجم يزيد ولم يجر جواباً، فإنّ الرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو جدّ سيّد العابدين، وأمّا جدّ يزيد فهو أبو سفيان العدوّ الأوّل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتبيّن لأهل الشام أنّهم غارقون في الإثم، وأنّ الحكم الأموي قد جهد في إغوائهم وإضلالهم، وتبيّن بوضوح أنّ الحقد الشخصيّ وغياب النضج السياسيّ هما السببان لعدم

ــــــــــــــ

(١) نفس المهموم : ٤٤٨ ـ ٤٥٢ ط قم عن مناقب آل أبي طالب : ٤/١٨١ عن كتاب الأحمر عن الأوزاعي: الخطبة بدون المقدمة. والمقدمة عن الكامل للبهائي : ٢/٢٩٩ ـ ٣٠٢، وانظر حياة الإمام زين العابدين للقرشي: ١٧٥ ـ ١٧٧.

٥٤

إدراك يزيد عمق ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ممّا أدّى إلى توهّمه بأنّها لن تؤدّيَ إلى نتائج خطيرة على حكمه.

ولعلّ أكبر شاهد على هذا التوهّم هو رسالة يزيد في بدايات تسلّمه الحكم لواليه على المدينة والتي أمره فيها بأخذ البيعة من الحسينعليه‌السلام أو قتله وبعث رأسه إلى دمشق إن رفض البيعة.

وفي سياق الحديث عن حسابات يزيد الخاطئة نُشير أيضاً إلى عملية نقل أسرى أهل البيتعليهم‌السلام إلى الكوفة، ومن ثمّ إلى الشام، وما تخلّل ذلك من ممارسات إرهابية عكست نزعته الإجرامية، ولم يلتفت يزيد إلى خطورة الجريمة التي ارتكبها إلاّ بعد أن تدفّقت عليه التقارير التي تتحدّث عن ردود الفعل والاحتجاجات على قتله ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك حاول أن يلقي مسؤولية الجريمة البشعة على ابن مرجانة، قائلاً للإمام السجادعليه‌السلام : لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت، ولكن الله قضى الله ما رأيت، كاتبني من المدينة وأنْهِ كلًّ حاجة تكون لك(١) .

والتقى الإمام السجادعليه‌السلام خلال وجوده في الشام بالمنهال بن عمرو، فبادره قائلاً: كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟ فرمقه الإمام بطرفه وقال له:(أمسينا كمَثَل بني إسرائيل في آل فرعون، يذبّحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، أمست العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً منها، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا أهل بيته مقتولين مشرّدين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون) (٢) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٥ / ٤٦٢ ، والإرشاد : ٢/١٢٢.

(٢) اللهوف في قتلى الطفوف: ٨٥ مرسلاً ورواه ابن سعد في الطبقات مسنداً عن المنهال بن عمرو الكوفي في الكوفة وليس الشام، والخبر أكثر من هذا وإنّما هذا مختصر الخبر.

٥٥

وعهد يزيد إلى النعمان بن بشير أن يصاحب ودائع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعقائل الرسالة فيردَّهنّ إلى يثرب(١) وأمر بإخراجهنّ ليلاً خوفاً من الفتنة واضطراب الأوضاع(٢) .

ــــــــــــــ

(١) الطبري : ٥/٤٦٢ ، والإرشاد : ٢/١٢٢ وعنهما في وقعة الطف لأبي مخنف : ٢٧٢.

(٢) عن تفسير المطالب في أمالي أبي طالب: ٩٣، والحدائق الوردية : ١ / ١٣٣.

٥٦

الفصل الثاني: الإمام زين العابدينعليه‌السلام في المدينة

بدأت ردود الفعل على مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام بالظهور مع دخول سبايا أهل البيتعليهم‌السلام إلى الكوفة. فبالرغم من القمع والإرهاب اللذين مارسهما ابن زياد مع كلّ من كان يبدي أدنى معارضة ليزيد، فإنّ أصواتاً بدأت ترتفع محتجّةً على الظلم السائد.

فعندما صعد ابن زياد المنبر وأثنى على يزيد وحزبه وأساء إلى الحسينعليه‌السلام وأهل بيت الرسالة (قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وقال له: يا عدوّ الله إنّ الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاّك وأبوه يابن مرجانة، تقتل أولاد النبيّين وتقوم على المنبر مقام الصدّيقين؟!

فقال ابن زياد: عليّ به، فأخذته الجلاوزة فنادى بشعار الأزد، فاجتمع منهم سبعمئة فانتزعوه من الجلاوزة، فلمّا كان الليل أرسل إليه ابن زياد من أخرجه من بيته فضرب عنقه وصلبه)(١) ، ومع أنّ هذه المواجهة انتهت لصالح ابن زياد لكنّها كانت مقدّمة لاعتراضات أُخرى.

وظهرت في الشام أيضاً بوادر السخط والاستياء، الأمر الذي جعل يزيد ينحو باللائمة في قتل الحسينعليه‌السلام على ابن زياد، إلاّ أنّ أشدّ ردود الفعل كانت تلك التي برزت في الحجاز، فقد انتقل عبد الله بن الزبير إلى مكة في الأيّام الأولى من حكومة يزيد، واتّخذها قاعدة لمعارضته للشام، وقام بتوظيف فاجعة كربلاء للتنديد بنظام يزيد، وألقى خطاباً وصف فيه العراقيّين بعدم الوفاء، وأثنى على الحسين بن علىّعليه‌السلام ووصفه بالتقوى والعبادة.

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد: ٢/١١٧ وعنه في وقعة الطف لأبي مخنف: ٢٦٥، ٢٦٦.

٥٧

وفي المدينة ألقى الإمام زين العابدينعليه‌السلام خطاباً في أهلها لدى عودته من الشام والعراق، يقول المؤرّخون: إنّ الإمامعليه‌السلام جمع الناس خارج المدينة قبل دخوله إليها، وخطب فيهم قائلاً:

(الحمد لله ربّ العالمين مالك يوم الدين بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلى، وقَرُب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ الله ـ وله الحمد ـ ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحزن مِن أجله؟! أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انْهمالِها؟! فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون.

يا أيّها الناس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟!

أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين وشاسعين عن الأمصار، كأ نّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلاّ اختلاق.

٥٨

والله، لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظّها وأفظعها وأمرّها وأفدحها! فعند الله نحتسب فيما أصابنا وأبلغ بنا، فإنّه عزيز ذو انتقام)(١) .

لقد جسّد هذا الخطاب ـ على قصره ـ واقعة كربلاء على حقيقتها مركّزاً على المظلومية التي لحقت بأهل البيتعليهم‌السلام في قتل الحسين بن علىّعليه‌السلام من جانب، وأسرِ أهل بيته من جانب آخر، بالإضافة إلى المظلومية التي لحقتهم بعد واقعة الطفّ، إذ حملت رؤوس الشهداء بما فيهم سيّدهم الحسينعليه‌السلام فوق الأسنّة من بلد إلى بلد.

وعقّب الإمام زين العابدينعليه‌السلام ـ بلمحة سريعة ومعبّرة ومؤثّرة ـ واصفاً ما لقيه آل البيت من السبي والتشريد والتعامل السيّء والمهين، وهم أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة، وهم قادة أهل الإيمان وأبواب الخير والرحمة والهداية.

وأنهى الإمام خطابه بوصف في منتهى الدقّة عن عظمة الجرائم التي ارتكبها جيش السلطة الأموية في حقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، فإن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان يأمر هؤلاء بالتمثيل بأهل البيت وتعذيبهم; لما كانوا يزيدون على ما فعلوا، فكيف بهم وقد نهاهم عن التمثيل حتى بالكلب العقور؟! وكيف يمكن توجيه كلّ ما فعلوه وقد أوصاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحفظه في عترته، ولم يطالبهم بأجر للرسالة سوى المودّة في قرباه؟!

فالإمام زين العابدينعليه‌السلام حاول في خطابه هذا تكريس مظلومية أهل البيت لاستنهاض الروح الثورية في أهل المدينة، وتحريك الوعي النهضوي ضدّ الظلم والجبروت الأموي والطغيان السفياني.

ــــــــــــــ

(١) اللهوف: ١١٦، بحار الأنوار : ٤٥ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

٥٩

ولم تكن الأوضاع هادئة في المدينة في هذه السنة التي كانت تحت إدارة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأوضح شاهد على اضطراب الأوضاع في المدينة هو استبدال ثلاثة ولاة خلال عامين، واستبدل يزيد الوليد بن عتبة بعثمان بن محمد بن أبي سفيان(١) .

وأراد عثمان أن يدلّل على كفاءته في إدارة المدينة ويكسب رضا وجوهها عن يزيد وعنه فأرسل وفداً من أبناء المهاجرين والأنصار إلى دمشق، ليشاهدوا الخليفة الشابّ عن كثب وينالوا نصيبهم من هداياه، إلاّ أن الوفد رأى في سلوك يزيد ما يشين ويقبح.

ولما رجعوا إلى المدينة أظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، وتعزف عنده القِيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الحراب ـ وهم اللصوص ـ وإنّا نشهدكم أنّا قد خلعناه.

وقال عبد الله بن حنظلة: لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوّى به.

فخلعه الناس وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم(٢) .

ثورة أهل المدينة :

إنّ نقد الوفد المدني ليزيد لم يكن هو الدليل الوحيد عند أهل المدينة على انحراف يزيد وتنكّره للإسلام وجوره وطغيانه، بل إنّهم كانوا قد لمسوا جور يزيد وعمّاله على البلدان الإسلامية وفسقهم وشدّة بطشهم واستهتارهم بالحرمات الإلهية التي لا مجال لتأويلها، إذ كيف يمكن تأويل ما ارتكبه من القتل الفظيع في حقّ الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ريحانة الرسول وسيّد شباب أهل الجنة وما اقترفه من السبي لأهله وحُرَمه؟ وكيف يمكن تأويل ما أظهره من شربه للخمور التي حرّمها الله بالنصّ الصريح؟!

ــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٥ / ٤٧٩، ٤٨٠ .

(٢) الطبري : ٥ / ٤٨٠ وعنه في الكامل في التأريخ : ٤ / ١٠٣.

٦٠