اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)0%

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 193

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 193
المشاهدات: 50137
تحميل: 6828

توضيحات:

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 193 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50137 / تحميل: 6828
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

اعلام الهداية الامام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عملية تربية تتكوّن من (فاعل) هو المربي ومن (تنظيم) تقدّمه الشريعة ومن (حقل لهذا التنظيم) وهو الأمة(١) .

والانحراف الذي بدأ يغيّر هذه العناصر الثلاثة انطلق من افتقاد المربي الكفوء للأمة بوفاة سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكان انهدام هذا العنصر كفيلاً بهدم العنصرين الآخرين إذ لم يكن مَن جاء بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقيادة التجربة كفوءاً لقيادتها كالنبي نفسه علماً وعصمةً ونزاهةً وقدرةً وشجاعةً وكمالاً، وإنّما تزعّمها مَن لم يكن معصوماً ومنصهراً في حقيقة الرسالة ولم يكن مالكاً للضمانات اللازمة لصيانتها من الانحراف عن الخط الذي رسمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذه الأمة، ذلك الانحراف الذي لم يتصور المسلمون مدى عمقه ومدى تأثيره السلبي على الدولة والأمة والشريعة جميعاً على طول الخط ; إذ لعلّهم كانوا قد اعتبروه تغيير شخص لا تغيير خط.

والخطّان الرئيسان اللذان عمل الأئمّة عليهما وكان عليهم أن يوظّفوا نشاطهم لهما هما:

١ ـ خط تحصين الأمة ضد الانهيار بعد سقوط التجربة، وإعطائها من المقومات القدر الكافي لكي تبقى واقفة على قدميها بقدم راسخة وبروح مجاهدة وبإيمان ثابت.

٢ ـ خط محاولة تسلّم زمام التجربة وزمام الدولة ومحو آثار الانحراف وإرجاع القيادة إلى موضعها الطبيعي لتكتمل عناصر التربية ولتتلاحم الأمة والمجتمع مع الدولة والقيادة الرشيدة(٢) .

أما الخط الثاني فكان على الأئمّة الراشدين ان يقوموا بإعداد طويل المدى له، من أجل تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة التي تتناسب وتتفق مع مجموعة القيم والأهداف والأحكام الأساسية التي جاءت بها الرسالة الإسلامية وأريد تحقيقها من خلال الحكم وممارسة الزعامة باسم الإسلام القيّم وباسم الله المشرّع للإنسان ما يوصله إلى كماله اللائق.

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت تنوّع أدوار ووحدة هدف : ١٢٢ .

(٢) المصدر السابق : ٥٩.

٨١

ومن هنا كان رأي الأئمّة في استلام زمام الحكم أن الانتصار المسلّح الآنيّ غير كاف لإقامة دعائم الحكم الإسلامي المستقر بل يتوقف ذلك على إعداد جيش عقائدي يؤمن بالإمام وبعصمته إيماناً مطلقاً يعيش أهدافه الكبيرة ويدعم تخطيطه في مجال الحكم ويحرس ما يحققه للأمة من مصالح أرادها الله لها.

وأما الخط الأوّل فهو الخط الذي لا يتنافى مع كل الظروف القاهرة وكان يمارسه الأئمّةعليهم‌السلام حتى في حالة الشعور بعدم توفر الظروف الموضوعية التي تهيئ الإمام لخوض معركة يتسلّم من خلالها زمام الحكم من جديد.

إن هذا الدور وهذا الخط هو تعميق الرسالة فكرياً وروحيّاً وسياسياً للأمة نفسها بغية إيجاد تحصين كاف في صفوفها ليؤثّر في تحقيق مناعتها وعدم انهيارها بعد تردّي التجربة وسقوطها وذلك بإيجاد قواعد واعية في الأمة وإيجاد روح رسالية فيها وإيجاد عواطف صادقة تجاه هذه الرسالة في الأمة(١) .

واستلزم عمل الأئمّةعليهم‌السلام في هذين الخطين قيامهم بدور رسالي ايجابي وفعّال على طول الخط لحفظ الرسالة والأمة والدولة وحمايتها باستمرار. وكلما كان الانحراف يشتد; كان الأئمة يتخذون التدابير اللازمة

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف : ١٣١ ـ ١٣٢ و١٤٧ ـ ١٤٨.

٨٢

ضد ذلك وكلما وقعت محنة للعقيدة أو التجربة الإسلامية وعجزت الزعامات المنحرفة من علاجها ـ بحكم عدم كفاءتها ـ بادر الأئمّة إلى تقديم الحلّ ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددّها. فالأئمّةعليهم‌السلام كانوا يحافظون على المقياس العقائدي في المجتمع الإسلامي إلى درجة لا تنتهي بالأمة إلى الخطر الماحق لها(١) .

ومن هنا تنوع عمل الأئمةعليهم‌السلام في مجالات شتى باعتبار تعدد العلاقات وتعدّد الجوانب والمهام التي تهمهم كقيادة واعية رشيدة تريد تطبيق الإسلام وحفظه وضمان خلوده للإنسانية جمعاء.

فالأئمّة مسؤولون عن صيانة تراث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأعظم وثمار جهوده الكريمة المتمثلة في:

١ ـ الشريعة والرسالة التي جاء بها الرسول الأعظم من عند الله والمتمثلة في الكتاب والسنة الشريفين.

٢ ـ الأمة التي كوّنها ورباها الرسول الكريم بيديه الكريمتين.

٣ ـ المجتمع السياسي الإسلامي الذي أوجده النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الدولة التي أسسها وشيّد أركانها.

٤ ـ القيادة النموذجية التي حققها بنفسه وربّى من يكون كفوءاً لتجسيدها من أهل بيته الطاهرين.

لكنّ عدم إمكان الحفاظ على المركز القيادي الذي رُشّح له الأئمّة المعصومون من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتُخِبوا لاستلامه ولتربية الأمة من خلاله لا يحول دون الاهتمام بمهمة الحفاظ على المجتمع الإسلامي السياسي وصيانة الدولة الإسلامية من الانهيار بالقدر الممكن الذي يتسنّى لهم بالفعل وبمقدار ما تسمح به الظروف الواقعية المحيطة بهم.

كما أن سقوط الدولة الإسلامية لا يحول دون الاهتمام بالأمة كأمة مسلمة ودون الاهتمام بالرسالة والشريعة كرسالة إلهية وصيانتها من الانهيار والاضمحلال التام.

وعلى هذا الأساس تنوّعت مجالات عمل الأئمّة جميعاً بالرغم من اختلاف ظروفهم من حيث نوع الحكم القائم ومن حيث درجة ثقافة الأمة ومدى وعيها وإيمانها ومعرفتها بالأئمّةعليهم‌السلام ومدى انقيادها للحكام المنحرفين ومن حيث نوع الظروف المحيطة بالكيان الإسلامي والدولة الإسلامية ومن حيث درجة التزام الحكّام بالإسلام ومن حيث نوع الأدوات التي كان يستخدمها الحكّام لدعم حكمهم وإحكام سيطرتهم.

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف : ١٤٤.

٨٣

فللأئمّةعليهم‌السلام نشاط مستمر تجاه الحكم القائم والزعامات المنحرفة وقد تمثّل في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف، بالتوجيه الكلامي، أو بالثورة المسلّحة ضد الحاكم حينما كان يشكّل انحرافه خطراً ماحقاً ـ كثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ضد يزيد بن معاوية ـ إن كلّفهم ذلك حياتهم، أو عن طريق إيجاد المعارضة المستمرة ودعمها بشكل وآخر من أجل زعزعة القيادة المنحرفة بالرغم من دعمهم للدولة الإسلامية بشكل غير مباشر حينما كانت تواجه خطراً ماحقاً أمام الكيانات الكافرة.

وكان للأئمّةعليهم‌السلام نشاط مستمر في مجال تربية الأمة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهمة نشر الوعي والفكر الإسلامي وتصحيح الأخطاء المستجدة في فهم الرسالة والشريعة، ومواجهة التيارات الفكرية الوافدة المنحرفة أو التيارات السياسية المنحرفة أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان يستخدمها الحاكم المنحرف لدعم زعامته، كما قدّموا البديل الفكري والأخلاقي والسياسي للزعامة المنحرفة والذي كان يتمثل في زعامة أهل البيت الأطهار المشروعة، وتصعيد درجة معرفة الأمة لهم والإيمان بهم والوعي اللازم تجاه إمامتهم وزعامتهم.

هذا فضلاً عن نزول الأئمّةعليهم‌السلام إلى ساحة الحياة العامة والارتباط بالأمة بشكل مباشر والتعاطف مع قطاع واسع من المسلمين; فإن الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتع بها أئمة أهل البيتعليهم‌السلام على مدى قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرد الانتماء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; وذلك لوجود كثير ممن كان ينتسب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن يحظى بهذا الولاء; لأن الأمة لا تمنح على الأغلب الزعامة مجاناً ولا يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات اهتمام الأمة ومشاكلها وهمومها.

وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف إن تشوّهت معالم التطبيق، وتحولّت الأمة إلى اُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر واستطاعت أن تسترجع قدرتها وروحها على المدى البعيد كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردي.

٨٤

وقد حقق الأئمّة المعصومون عليهم‌السلام كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الكتلة الصالحة التي تؤمن بهم وبإمامتهم فأشرفوا على تنمية وعيها وإيمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار وإسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد على صمودها في خضمّ المحن وارتفاعها إلى مستوى جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل على صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار.

مراحل حركة الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام :

وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام والظروف المحيطة بهم ولاحظنا سلوكهم ومواقفهم العامة والخاصة استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلى مراحل وعصور ثلاثة يتميز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ولكن الأدوار تتنوع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر.

فالمرحلة الأولى من حياة الأئمّةعليهم‌السلام وهي (مرحلة تفادي صدمة الانحراف) بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة: علي والحسن والحسين وعلي بن الحسينعليهم‌السلام فقاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء على القيادة المنحرفة. لكنهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة على الرسالة الإسلامية نفسها. وبالطبع إنهم لم يهملوا الأمة أو الدولة الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان إسلامي والأمة المسلمة فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم.

وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجاد السياسية حتى الإمام الكاظمعليه‌السلام وتتميز بأمرين أساسيين:

١ ـ أما فيما يرتبط بالخلافة المزيّفة فقد تصدى هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم طبقة من المحدّثين والعلماء (وهم وعّاظ السلاطين) لهم وتقديم التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ الصبغة الشرعية على زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الأولى أن يكشفوا زيف خط الخلافة وأن يُحَسِّسوا الأمة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨٥

٢ ـ وأما فيما يرتبط ببناء الكتلة الصالحة الذي أرسيت دعائمه في المرحلة الأولى فقد تصدى الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلى تحديد الإطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط الرسالي الذي اُؤتمن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام عليه والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية الإمامية وتربية عدة أجيال من العلماء على أساس الثقافة الإسلامية الإمامية الناصعة في قبال الخط العُلمائي الخلفائي (وهو خط وعاظ السلاطين).

هذا فضلاً عن تصديهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق المذهبية التي استحدثت من قبل خط الخلافة أو غيره.

والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا في زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض خطوط المعارِضة للسلطة ولاسيما بعض الخطوط الثورية منها التي كانت تتصدى لمواجهة من تربَّع على كرسيّ خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام .

وأما فيما يخص المرحلة الثالثة من حياة الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام بدءً بشطر من حياة الإمام الكاظمعليهم‌السلام وانتهاءً بالإمام المهديعليه‌السلام فإنهم بعد وضع التحصينات اللازمة للكتلة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً وأخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أن قيادة أهل البيتعليهم‌السلام أصبحت بمستوى تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي، مما خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّةعليهم‌السلام ، وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيتهم.

وأما فيما يرتبط بالكتلة الصالحة التي أوضحوا لها معالم خطها فقد عمل الأئمّةعليهم‌السلام على دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار وإعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة أُخرى، وكان يقدّر الأئمّة أنهم بعد المواجهة المستمرة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبين زيفهم ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للأمة الإسلامية.

ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل واسع ثم إرجاع الناس إليهم وتدريبهم على مراجعتهم في قضاياهم وشؤونهم العامة تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي أخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تحققها وأملت الظروف عليهم الانصياع إليها.

٨٦

وبهذا استطاع الأئمّةعليهم‌السلام ـ ضمن تخطيط بعيد المدى ـ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية والتي كانت تنتهي بتنازل الأمة عن الإسلام الصحيح وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الإلهية بشكل كامل.

فالذي جعل الأمة لا تتنازل عن الإسلام هو أن الإسلام قُدّم له مثل آخر واضح المعالم، أصيل المُثل والقيم، أصيل الأهداف والغايات، وقُدّمت هذه الأطروحة من قبل الواعين من المسلمين بزعامة الأئمّة من أهل البيت المعصومين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

إن هذه الأطروحة التي قدّمها الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام للإسلام لم تكن تتفاعل مع الشيعة المؤمنين بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام فقط، بل كان لها صدى كبير في كل العالم الإسلامي، فالأئمّة الأطهار كانت لهم أطروحة للإسلام وكانت لهم دعوى لإمامتهم، وهذه الدعوى وان لم يطلبوا لها إلاّ عدداً ضئيلاً من مجموع الأمة الإسلامية ولكن الأمة بمجموعها تفاعلت مع هذه الأطروحة التي تُمَثّل النموذج والمخطط الواضح الصحيح الصريح للإسلام في كل المجالات العامة والخاصة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وخلقياً وعبادياً مما جعل المسلمين على مرّ الزمن يسهرون على الإسلام ويقيمونه وينظرون إليه بمنظار آخر غير منظار الواقع الذي كانوا يعيشونه من خلال الحكم القائم(١) .

ــــــــــــــ

(١) أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف : ٧٩ ـ ٨٠ .

٨٧

الفصل الثاني: ملامح عصر الإمام زين العابدينعليه‌السلام

تبيّن بوضوح من خلال البحوث السابقة أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد عاش أقسى فترة من الفترات التي مرّت على القادة من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، لأنّه عاصر قمّة الإنحراف الذي بدأ بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذلك أنّ الانحراف في زمن الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد أخذ شكلاً صريحاً، لا على مستوى المضمون فقط بل على مستوى الشعارات المطروحة أيضاً من قبل الحكّام في مجال العمل والتنفيذ، وانكشف واقع الحكّام لدى الجماهير المسلمة بعد مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ولم يبق ما يستر عورة حكمهم أمام الأمة التي خبرت واقعهم وحقيقتهم المزرية.

وقد عاصر الإمامعليه‌السلام كلّ المحن والبلايا التي وقعت أيّام جدّه أمير المؤمنين علىّعليه‌السلام إذ ولد قبل استشهاد الإمام علىّعليه‌السلام وتفتحت عيناه وجَدّهعليه‌السلام في محنته في خط الجهاد مع الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن ثمّ عاش مع عمّه الإمام الحسنعليه‌السلام في محنته مع معاوية وعُمّالهِ وعملائه، ومع أبيه الحسينعليه‌السلام وهو في محنته الفاجعة إلى أن استقلّ بالمحنة وجهاً لوجه، وقد وصلت به المحنة ذروتها عندما رأى جيوش بني أمية تدخل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وتربط خيولها في المسجد، هذا المسجد الذي كان منطلقاً للرسالة وأفكارها إلى العالم أجمع، وقد أصاب هذا المسجد في عهد الإمام زين العابدينعليه‌السلام كثير من الذلّ والهوان على يد الجيش الأموي الذي أباح المدينة والمسجد معاً، وهتك حرمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهما جميعاً.

وكان القتل هو أبسط الوسائل التي استعملت في ذلك العصر مع المعارضين، إذ كان التمثيل الانتقامي والصلب على الأشجار وتقطيع الأيدي والأرجل وألوان العقاب البدني لغة الحديث اليومي.

٨٨

وانغمس الأمويون في الترف، وقد ذكر المؤرّخون نوادر كثيرة من ترفهم وتلاعبهم باقتصاد الأمة وثرواتها(١) ، حتى بالغوا في هباتهم للشعراء وأجزلوا العطاء للمغنّين(٢) ، وسادت حياة اللهو والعبث والمجون في كثير من أنحاء العالم الإسلامي وخصوصاً في مكّة والمدينة، وعمدت السلطات الأموية إلى إشاعة ذلك فيهما لإسقاط هيبتهما من نفوس المسلمين.

لقد شاع الغناء في مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل يندى له جبين الإنسان المؤمن بالله وبرسوله، حتى صارت مركزاً له.

قال أبو الفرج: إنّ الغناء في المدينة لا يُنكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم(٣) .

وقال أبو يوسف لبعض أهالي المدينة: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها(٤) !!.

وكان العقيق إذا سال وأخذ المغنّون يلقون أغانيهم لم تبق في المدينة

ــــــــــــــ

(١) حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام دراسة وتحليل: ٦٦٥.

(٢) الأغاني : ١ / ٥٥، ٤ / ٤٠٠، ٥ / ١١١.

(٣) الأغاني : ٨ / ٢٢٤.

(٤) العقد الفريد : ٣ / ٢٣٣.

٨٩

مخبّأة ولا شابة ولا شابّ ولا كهل إلاّ خرج ببصره ليسمع الغناء(١) .

نعم غدت المدينة في ذلك العصر مركزاً من مراكز الغناء في الحاضرة الإسلامية وأصبحت معهداً متميزاً لتعليم الجواري الغناء(٢) . بينما كانت الشريعة الإسلامية قد حاربت اللهو والمجنون ودعت الإنسان المسلم إلى حياة الجدّ والاجتهاد والكدح من أجل إعمار حياته الدنيا وحياته الأُخرى بالصالحات واستباق الخيرات وتسلّق قمم الكمال والحرص على أثمن لحظات عمره في هذه الحياة وصيانتها من الضياع والخسران.

أمّا الحياة العلمية في عصر الإمام زين العابدينعليه‌السلام فقد كانت مشلولةً بما حوته هذه الكلمة من معنى، إذ كان الخط السياسي الذي سارت عليه الدولة الأموية منذ تأسيسها يرتكز على مجافاة العلم، وإقصاء الوعي والثقافة من حياة المسلمين، وجرّهم إلى منحدر سحيق من الجهل; لأنّ بلورة الوعي العام وإشاعة العلم بين المسلمين كان يهدّد مصالحهم ودوام ملكهم القائم على استغلال الجهل والغفلة التي روّج لها من تقمّص الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا الطابع الخاصّ للحياة الأدبية فتعرفه ممّا جرى على لسان شعراء ذلك العصر، فهو لم يمثّل أيّ مشكلة اجتماعية من مشاكل ذلك العصر على كثرتها، كما أنّه لم يمثّل أيّ جدٍّ في الحياة العقلية والأدبية، وإنّما كان شعراً قَبَليّاً يحكي فيه كلّ شاعر ما امتازت به قبيلته من كرم الضيافة ووفرة المال والعدد، كما غدا الأدب سوقاً للهجاء المرّ والتنابز بالألقاب(٣) .

ــــــــــــــ

(١) العقد الفريد : ٣ / ٢٤٥ .

(٢) راجع : الأغاني : ٢ / ٢٢٦، ٣ / ٣٠٧، ٤ / ٢٢٢، ٦ / ٢١، ٧ / ٣١٦، و ٣٣٢ ، ٨ / ٢٢٧، ١٠ / ٥٧.

والشعر والغناء في المدينة ومكة: ٢٥٠.

(٣) حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، دراسة وتحليل : ٦٧٢ ـ ٦٧٣.

٩٠

الفصل الثالث: تخطيط الإمام زين العابدينعليه‌السلام وجهاده

نجد في سيرة الأئمّةعليهم‌السلام العديد من الأدلّة التي أوضحوا من خلالها للناس سبب الاختلاف في أساليبهم في قيادة الحركة الإسلامية من إمام لآخر.

فالإمام السجادعليه‌السلام قال له عبّاد البصري وهو في طريق مكّة: تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ولينه، و( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ) (١) فأجابه الإمامعليه‌السلام : إقرأ بعدها:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، ثمّ قالعليه‌السلام :إذا ظهر هؤلاء ـ يعني المؤمنين حسب مواصفاتهم في الآية ـلم نؤثر على الجهاد شيئاً (٢) .

وبهذه الإجابة حدّد الإمامعليه‌السلام بشكل صارم سياسته ولون كفاحه، ووجهة حركته في عصره، ومن ثمّ الأسباب الموجبة لذلك المسار، فإنّ عدوله عن الكفاح المسلّح والمواجهة العسكرية للحكم الأموي لم تأتِ حبّاً في الحياة ونعيمها كما تصوّر عبّاد البصري، وإنّما جاء ذلك لأنّ مستلزمات العمل العسكري الناجح غير متوفرة، ولأنّ النتائج من أيّ تحدٍّ للسلطان في تلك الظروف تكون عكسيّةً تماماً.

ــــــــــــــ

(١) التوبة (٩): ١١١.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٤١، ومناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٧٣ باختلاف يسير في الألفاظ.

٩١

وبعد ملحمة كربلاء مباشرةً تبنّى الإمام السجادعليه‌السلام وكرائم أهل البيت كزينب واُمّ كلثوم ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ سياسة إسقاط الأقنعة التي كان الأمويون قد غطّوا وجوه سياستهم الكالحة الخطيرة بها، وحمّلوا الأمة كذلك مسؤوليتها التاريخية أمام الله والرسالة.

ومن هنا نلاحظ بوضوح أنّ الخطب والتصريحات التي صدرت عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام وعقائل أهل البيتعليهم‌السلام في العراق قد انصبّت على مخاطبة ضمائر الناس كمجموع، وإلفات نظر الناس إلى جسامة الخطر الذي حاق بهم، وإلى حجم الجريمة التي ارتكبتها بنو أمية بحقّ رسالة الله تعالى.

وفي الشام ركّزت كلمات الإمام السجّادعليه‌السلام على التعريف بالسبايا ذاتهم، وأنّهم آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ فضح الحكم الأموي وتعريته أمام أهل الشام الذين أضلّهم عن رؤية الواقع.

وقبل دخوله المدينة عمل الإمام السجادعليه‌السلام على إثارة الرأي والوعي العام الإسلامي وتوجيهه إلى محنة الرسالة التي تمثّلت في فاجعة الطفّ، فقد كان خطابه الذي ألقاه بالناس يستبطن هذه المعاني.

ولقد أعطت تجربة كربلاء مؤشّراً عملياً على أنّ الأمة المسلمة في حالة ركود وتبلّد ممّا جعل الروح الجهادية لديها في حالة غياب إن لم نقل إنّها كانت معدومة نهائياً، ومن أجل ذلك فإنّ السجادعليه‌السلام ـ باعتباره إمام الأمة الذي انتهت إليه مرجعية الأمة ـ أخذ تلك الظاهرة بعين الاعتبار، ولذلك مارس دوره من خلال العمل على تنمية التيار الرسالي في الأمة، وتوسيع دائرته في الساحة الإسلامية، والعمل على رفع مستوى الوعي الإسلامي والانفتاح العملي في قطاعات الأمة المختلفة، وخلق قيادات متميزة تحمل الفكر الإسلامي النقي، لا الفكر الذي يُشيعه الحكم الأموي.

ولهذا النهج مبرّراته الموضوعية، فإنّ قوى الانحراف عبر سنوات عديدة من سيطرتها على مراكز التوجيه الفكري والاجتماعي توفّرت على صنع أجيال ذائبة في الانحراف، الأمر الذي أصبح فيه من المتعذّر على التيار الإسلامي السليم مواجهتها، بالنظر لضخامة تلك القوى، وتوفّر الغطاء الواقي لها من مؤسسات وقدرات; ولتعرّض التيار الإسلامي ذاته للخسائر المتتالية.

ومن هنا، فإنّ أمر تكثيف التيار الإسلامي وإثرائه كمّاً وكيفاً مسألة لا تقبل التأجيل، ما دام أمر بقاء الرسالة حيّة ـ فكراً وعملاً ـ متوقّفاً على بقاء سلامة هذا التيار في كيان الأمة وقواعدها الشعبية، طالما لم يتسنّ له تسلّم المرجعية العامة في الإدارة والحكم.

٩٢

ولقد نجحت خطط الإمامعليه‌السلام على شتّى الأصعدة وحسبما خطّط لها، وفيما يلي مصداقان عمليان على ذلك:

ففي المجال الاجتماعي أثمرت خطّة الإمامعليه‌السلام حيث حظي بإجلال القطّاعات الواسعة من الأمة وولائها، والمصادر التاريخية مجمعة على ذلك. قال ابن خلّكان: لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد أن يصل الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنُصِب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلمّا انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟ فقال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ

هذا ابنُ خير عبادِ الله كُلِّهمُ

هذا النقيُّ التقيُّ الطاهرُ العلَمُ

إذا رأتْهُ قريشٌ قالَ قائِلُها

إلى مَكارمِ هذا يَنتهي الكرَمُ

مشتقَّةٌ من رسولِ الله نبعتُه

طابتْ عناصرُه والْخِيمُ والشِّيَمُ

هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلَهُ

بِجَدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا

الله شرَّفَهُ قِدْماً وعضَّله

جرى بذاك له في لوحِهِ القلَمُ

فليسَ قولُك مَنْ هذا بِضائِرهِ

أَلْعُرْبُ تَعرف مَن أنكرتَ والعجَمُ

مِنْ مَعشرٍ حبُّهمْ ديٌ ، وبُغضُهُمُ

كفرٌ ، وقربهمُ منجى ومُعْتَصَمُ

إنْ عُدَّ أهلَ التُّقى كانوا أئمتهم

أو قيل مَن خيرُ أهلِ الأرضِ قيلَ هُمُ

أيُّ الخلائقِ ليستْ في رقابهمُ

لأَوَّلِيَّةِ هَذا أولُهُ نِعَمُ

مَن يَعُرِفِ الله يَعْرِفْ أَوَّلِيَّة ذا

أَلدِّيْنَ مِنْ بَيْتِ هَذا نَالَهُ الأُمَمُ(١)

ــــــــــــــ

(١) القصيدة طويلة وهي مذكورة في كثير من المصادر التأريخية والأدبية، اُنظر : وفيات الأعيان لابن خلّكان: ٦ / ٩٦، الإرشاد للمفيد: ٢/١٥٠ ، ١٥١ عن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق عليه‌السلام وراجع غيرهما من المصادر في أوائل الفصل الأوّل من الباب الأوّل.

٩٣

إنّ هذه الحادثة توضّح أنّ الإمام عليه‌السلام كان قد حظي بولاء جماهيريٍّ حقيقيٍّ واسع النطاق، بشكل جعل ذلك الولاء يتجسّد حيّاً حتى في أقدس ساعة، وفي موقف عباديّ مشهود، فما أن تلتقي الجماهير الكثيفة بإمامها الحقّ; حتى توسّع له، لكي يؤدّي مناسكه دون أيّة مضايقة عفوية منها، بالرغم من أنّ الأمة تدرك عداء الحكم الأموي لأهل البيت عليهم‌السلام وما يترتّب على ذلك العداء من موقف تجاه أنصار أهل البيت عليهم‌السلام وأتباعهم.

وحقّق النشاط العلمي للإمامعليه‌السلام غاياته المتوخّاة، فالمسجد النبويّ الشريف ودار الإمامعليه‌السلام شهدا طوال خمسة وثلاثين عاماً ـ وهي فترة إمامته ـ نشاطاً فكرياً من الطراز الأول، حيث استقطب الإمامعليه‌السلام طلاّب المعرفة الإسلامية في جميع حقولها، لا في المدينة المنورة ومكّة المكرمة وحدهما، وإنّما في الساحة الإسلامية بأكملها، حتى استطاع أن يخلق نواة مدرسة فكرية لها طابعها ومعالمها المميّزة، وتخرّج منها قادة فكر ومحدّثون وفقهاء.

إنّ انفصام عرى الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وتَشَتُّت قُواهم كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام زين العابدينعليه‌السلام باتّجاه استجماع القوى وتكميل الإعداد من جديد، وقد كان هذا الهدف بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب وبثّ العزم في النفوس.

وقد تمكّن الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعمله الهادئ والمنظّم أن يشرف على تكميل هذه الاستعادة، وعلى هذا الإعداد بكل قوّة وبحكمة وبسلامة وجدّ.

وقد أطلق الإمامعليه‌السلام نهجاً جهادياً ينهض بأعباء متطلبات المرحلة الخطيرة آنذاك. ويمكن الحديث عن هذا النهج عبر مستويات متعدّدة :

١ ـ الجهاد الفكري والعلمي :

من المعلوم أنّ الفكر السليم هو أحد مقوّمات كلّ حركة سياسية صحيحة، فتثقيف الجماهير وتوعيتها لتكون على علم بما يجري عليها وحواليها وما يجب لها وعليها من حقوق وواجبات هو الركيزة الأولى لِصدّ الأنظمة الحاكمة الفاسدة التي تسعى على طول التأريخ في إبعاد الناس عن الحقّ والتعاليم الأصيلة.

٩٤

وقد قام الإمام زين العابدينعليه‌السلام بأداء دور مهمّ في هذا الميدان، حيث تصدّى للوقوف بوجه المنع السلطوي لرواية الحديث(١) فأمر برواية الحديث وحثّ على ذلك، وكان يطبّق السنّة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها، وقد روي عنه قولهعليه‌السلام : إنّ أفضل الأعمال ما عمل بالسنّة وإن قلّ(٢) .

وفي الظروف التي عاشها الإمامعليه‌السلام ـ حيث كان الحكّام بصدد اجتثاث الحقّ من جذوره وأصوله والذي تمثّل في حفظة القرآن ومفسّريه ـ كانت الدعوة إلى الاعتصام بالقرآن من أهم الواجبات آنذاك، ولقد قام الإمام زين العابدينعليه‌السلام بجهد وافر في هذا المجال.

قالعليه‌السلام :(عليك بالقرآن، فإنّ الله خلق الجنّة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن، فمن قرأ منها قال له: إقرأ وارق، ومن دخل الجنّة لم يكن في الجنّة أعلى درجة منه، ما خلا النبيّين والصدّيقين) (٣) . وكان يقول:(لو مات من بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي) (٤) .

كما كان يسعى في تمجيد القرآن عملياً وبأشكال مختلفة، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن(٥) ، كما كان يرشد الأمة من خلال تفسيره للقرآن

ــــــــــــــ

(١) كانت عملية منع الحديث ـ تدويناً ورواية ـ قد بدأت بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة.

(٢) المحاسن: ٢٢١ ح١٣٣.

(٣) تفسير البرهان : ٣ / ١٥٦.

(٤) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٧.

(٥) المصدر السابق : ٧٠ ، ب٥ ، ح٤٥.

٩٥

الكريم(١) .

وبذل الإمامعليه‌السلام جهوداً جبّارةً لتثبيت قواعد التوحيد الإلهي وتشييد أركانه عبر الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين، والردّ على الأفكار المنحرفة التي غذّاها الحكّام ـ مثل فكرة الجبر الإلهي ـ بهدف التمكّن من السلطة والسيطرة التامة على مصير الناس والهيمنة على الأفكار بعد السيطرة على الأفواه والأجسام، وقد ذكرنا أنّ الإمامعليه‌السلام قال لابن زياد الذي أراد أن ينسب قتل عليّ بن الحسين إلى الله:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ، فالإمام تحدّى الحاكم في مجلسه حين ردّ على الانحراف العقائدي بتلك الصراحة، وبيّن الفرق بين التوفّي للأنفس واسترجاعها ـ الذي نسبه القرآن إلى الله تعالى حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ـ وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قبل القاتل قبل حلول الموت المذكور.

وفي جوابهعليه‌السلام عن سؤال: أبقدر يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل؟ قالعليه‌السلام :(إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد... ولله فيه العون لعباده الصالحين) ، ثمّ قالعليه‌السلام :(ألا من أجور الناس من رأى جوره عدلاً، وعدل المهتدي جوراً) (٢) .

وهكذا تصدّى الإمامعليه‌السلام لعقيدة التشبيه والتجسيم(٣) ، وفكرة الإرجاء(٤) .

وعلى صعيد الإمامة والولاية أعلن الإمامعليه‌السلام عن إمامته بنفسه بكلّ وضوح وصراحة ومن دون أيّة تقيّة أو سريّة، وقد تعدّدت الأحاديث

ــــــــــــــ

(١) الاحتجاج: ٣١٢ ـ ٣١٩ .

(٢) التوحيد للصدوق: ٣٦٦.

(٣) كشف الغمة : ٢ / ٨٩ .

(٤) جهاد الإمام السجاد عليه‌السلام : ١٠٧.

٩٦

المصرّحة بهذا الإعلان، منها قولهعليه‌السلام :(نحن أئمّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين وقادة الغرّ المحجّلين وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء... ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها، ولم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله فيها، ولو لا ذلك لم يعبد الله) (١) .

وقال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي: قال لي عليّ بن الحسينعليه‌السلام :(إلى مَن يذهب الناس؟) قال: قلت: يذهبون ها هنا وها هنا، قال:(قل لهم يجيئون إليّ) (٢) .

وقال له أبو خالد الكابلي: يا مولاي، أخبرني كم يكون الأئمّة بعدك؟ قال:(ثمانية لأنّ الأئمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنا عشر إماماً، عدد الأسباط، ثلاثة من الماضين، وأنا الرابع، وثمانية من ولدي...) (٣) .

والانحراف الذي حصل عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام لم ينحصر في إقصائهم عن الحكم والولاية فقط، بل انتهى إلى الجهل بأحكام الشريعة التي كان الأئمّة هم المرجع الواقعي والصحيح للتعرّف عليها.

فالإمام ليس وليّاً للأمر وحاكماً على البلاد والعباد فحسب، وإنّما هو مصدر يرجع إليه لفهم الشريعة وتبيين أحكامها، باعتبار معرفته التامة بالشريعة الخاتمة وارتباطه الوثيق بمصادرها الحقيقيّة.

وكما أقصى الحكّام أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عن الحكم والولاية; حاولوا كذلك نفي مرجعيتهم الدينية والعلميّة وإبعاد الناس عنهم، لذلك اهتمّ الأئمّة

ــــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق: ١١٢، الاحتجاج: ٣١٧.

(٢) تأريخ دمشق : الحديث ٢١.

(٣) كفاية الأثر : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٩٧

وأتباعهم بإرشاد الناس إلى هذا المعين الصافي للشريعة الإسلامية كي ينهلوا منه، وكان اهتمام الإمام السجادعليه‌السلام بليغاً بهذا الأمر حتى قالعليه‌السلام لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية:(يا هذا، لو صرت إلى منازلنا لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا، أيكون أحدٌ أعلم بالسنّة منّا) (١) .

وقالعليه‌السلام : (إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة، لا يُصاب إلاّ بالتسليم، فمن سلّم لنا سَلِم، ومن اقتدى بنا هُدي، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه ـ ممّا نقوله أو نقضي به ـ حَرَجاً كفر بالّذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم) (٢) .

٢ ـ الجهاد الاجتماعي والعملي :

إنّ أهّم أهداف القادة الإلهيّين هو إصلاح المجتمع البشريّ بتربيته على التعاليم الإلهية، ولا بدّ للمصلح أن يمرّ بمراحل من العمل الجادّ والمضني في هذا الطريق الشائك، فعليه:

١ ـ أن يربّي جيلاً من المؤمنين على التعاليم الحقّة التي جاء بها الدين والأخلاق القيّمة التي ينبغي التخلّق بها، لكي يكونوا له أعواناً على الخير.

٢ ـ أن يدخل المجتمع بكلّ ثقله، ويحضر بين الناس، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه، ويبلغهم رسالات الله.

٣ ـ أن يقاوم الفساد الذي يبثّه الظالمون في المجتمع بهدف شلّ قواه، وتفريغه من المعنويات، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحقّ والخير.

ــــــــــــــ

(١) نزهة الناظر: ٤٥.

(٢) إكمال الدين : ٣٢٤، الباب ٣١، الحديث ٩.

٩٨

كان للإمامعليه‌السلام نشاط واسع في كلّ هذه المجالات، بحيث يعدّ ـ بحقٍّ ـ في صدر قائمة المصلحين الإلهيين بالرغم من تميّز عصره بتحكّم طغاة بني أمية على الأمة وعلى مقدّراتها وجسم الخلافة الإسلامية التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه تحت عنوان الخروج على الإسلام.

ويمكن الحديث عن أوجه نشاطهعليه‌السلام العملي في الجانب الاجتماعي على عدّة أوجه منها:

أ ـ الأخلاق والتربية (على مستوى الأمة وأتباع أهل البيتعليهم‌السلام ) :

ضرب الإمام زين العابدينعليه‌السلام أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة وفي سيرته مع الناس، بل مع كلّ ما حوله من الموجودات.

فكانت تتبلور فيه شخصية القائد الإسلامي المحنّك الذي جمع بين القابلية العلمية الراقية، والشرف السامق، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدّها بكلّ صبر وأناة وهدوء.

فالصبر الذي تحلّى به وتجلّى لنا من خلال ما تحمّله في مأساة كربلاء أكبر شاهد على عظمة صبره.

ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي بارزة للعيان، وهذا الفصل يمثّل جزءاً من نشاطه السياسي والاجتماعي الجادّ.

وحديث مواساته للإخوان والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام بالبذل والعطاء والإنفاق ممّا اشتهر عند الخاصّ والعامّ.

وحُنوّه وحنانه على العبيد وعلى الأقارب والأباعد بل على أعدائه وخصومه ممّا سارت به الركبان.

وأخبار عبادته وخوفه من الله جلّ جلاله وإعلانه ذلك في كلّ مناسبة ملأت الصحف حتى خصّ بلقب (زين العابدين) و (سيّد الساجدين). وسنتحدّث عن بعض ذلك فيما بعد بإذنه تعالى، كما أنّنا أشرنا إلى جانب بسيط جدّاً من ذلك سابقاً.

٩٩

ب ـ الإصلاح والدولة :

لقد شاع عند بعض المؤرّخين أنّ الأئمّة من أبناء الحسينعليهم‌السلام قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسة، وانصرفوا إلى الإرشاد والعبادة والانقطاع إلى الدنيا(١) .

ويدلّلون على قولهم هذا بتأريخ حياة الإمام السجادعليه‌السلام ودعوى انعزاله عن الحياة الإسلامية العامة، ويبدو أنّ سبب هذه التصوّرات الخاطئة لدى المؤرّخين هو ما بدا لهم من عدم احتدام الأئمّة بعد الحسينعليه‌السلام على عمل مسلّح ضد الوضع الحاكم مع إعطائهم الجانب السياسي من القيادة معنىً ضيّقاً لا ينطبق إلاّ على عمل مسلّح من هذا القبيل.

إنّ ما يقال من أنّ الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام من أبناء الحسينعليه‌السلام اعتزلوا السياسة وانقطعوا عن الدنيا فهو زعم يكذّبه وينفيه واقع حياة الأئمّة الزاخرة كلّها بالشواهد على ايجابية المشاركة الفعّالة التي كانوا يمارسونها.

فمن ذلك علاقات الإمام زين العابدينعليه‌السلام بالأمة والزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق والتي كان يتمتّع بها على طول الخط(٢) ; فإنّ هذه الزعامة لم يكن ليحصل عليها الإمامعليه‌السلام صدفةً أو على أساس مجرّد الانتساب إلى

ــــــــــــــ

(١) نشأة الشيعة والتشيّع، للشهيد السيّد محمد باقر الصدر.

(٢) قد أشرنا إلى حادثة استلام الإمام عليه‌السلام للحجر بعد أن انفرج الحجيج له، راجع الصفحة ١١١ من الكتاب.

١٠٠