اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)25%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181668 / تحميل: 9315
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وقد أدان هؤلاء القادة أنفسهم بهذه الحجّة ، وذلك لأنّ الخلافة إذا كانت بالسبق إلى الإسلام والقرابة القريبة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يدّعون ـ فهي لعليّعليه‌السلام وحده ، لأنّه أوّل الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً بالرسالة الإسلامية ، وأخوه بمقتضى المؤاخاة التي عقدها النبيّ بينه وبين عليّ يوم آخى بين المهاجرين في مكّة ، وبينهم وبين الأنصار في المدينة ، وابن عمّه نسباً وأقرب الناس إلى نفسه وقلبه بلا شكّ في ذلك .

تحليل اجتماع السقيفة :

سارع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة ، وعقدوا لهم اجتماعاً سرّياً أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفّظ ، وأحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن عبادة الذي كان مريضاً ، فقال لبعض بنيه : إنّه لا يستطيع أن يسمع المجتمعون صوته لمرضه ، وأمره أن يتلقّى منه قوله ويردّده على مسامع الناس ، فكان سعد يتكلّم ويستمع إليه ابنه ، ويرفع صوته بعد ذلك ، قال سعد مخاطباً الحاضرين :

إنّ لكم سابقةً إلى الدين وفضيلةً في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ، إنّ رسول الله لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان ، فما آمن من قومه إلاّ قليل ، حتى أراد بكم خير الفضيلة ، وساق إليكم الكرامة ، وخصّكم بدينه ، فكنتم أشد الناس على من تخلّف عنه ، وأثقلهم على عدوّه من غيركم ، ثمّ توفّاه الله وهو عنكم راضٍ فشدّوا أيديكم بهذا الأمر فإنّكم أحقّ الناس وأولاهم .

لكنّ المتتّبع للأحداث يلمح أنّ اجتماع الأنصار لم يكن في بداية أمره للاستئثار بتراث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واغتصاب الخلافة من أهلها الشرعيّين ، وذلك من خلال ملاحظة ما يلي :

١ ـ عدم حضور خيار الأنصار وهم البدريّون في الاجتماع ، مثلُ : أبي أيوب الأنصاري ، حذيفة بن اليمان ، البراء بن عازب ، عبادة بن الصامت .

١٠١

٢ ـ إنّ الأنصار كانوا يعلمون جيّداً النصوص النبويّة ويحفظونها ، ومنها :(إنّ الأئمة من قريش) ، وعرفوا جيّداً الأحكام الواردة في شأن العترة الطاهرة وشهدوا تنصيب عليّعليه‌السلام في غدير خم ، وأوصاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعليّ وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وحين أدركوا أنّه ليس له دور رئيس في الحكم أخذوا يقولون : لا نبايع إلاّ عليّاً(١) .

٣ ـ ثمّ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا زال مسجّىً ولم يُدفن بعدُ ، فهل يعقل أن لا يشارك خيارهم في شرف حضور مراسم الدفن وينشغلوا في اجتماع انتخاب الخليفة ؟

٤ ـ من الممكن تفسير اجتماعهم هذا بأنّه لتقرير مصيرهم من الحكم الجديد بعد علمهم بما تخطّط له قريش من تطبيق قرارهم (لا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم) ، وهم ليست لهم دوافع كالتي كانت في نفوس زعماء قريش ، ثمّ إنّ تخوّفهم هذا له سوابق فبعد فتح مكّة ؛ خشيت الأنصار أن لا يعود معهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان طبيعيّاً أن يتخوفوا من العزلة السياسية والإداريّة .

وإذا قرّرت قريش صرف الخلافة عن صاحبها الشرعيّ، وهو عليّعليه‌السلام ؛ فما دور الأنصار وهم الثقل الأكبر في جمهور المسلمين ، ولهم الدور الفاعل والرئيس في نشر الرسالة الإسلاميّة ؟!

إنّ اجتماع الأنصار في السقيفة لم يكن حاسماً في قراراته ، فقد عُقد لدراسة الاحتمالات المتوقّعة للخلافة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأيضاً لم يكن جميع الأنصار على رأي واحد ، فقد كانت تختفي في أفق الاجتماع نوايا متنافرة وتنطوي النفوس على رغبات متضادّة ، فنجد بعضهم يجيب سعداً قائلاً : وفّقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدو ما رأيت ، نولّيك هذا الأمر .

ثمّ ترادّوا في الكلام فقالوا : فإن أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعشيرته .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٣ ط مؤسسة الأعلمي .

١٠٢

وهنا انبرى آخرون فقالوا : نقول : منّا أمير ومنكم أمير ، فعلّق سعد على هذا الاقتراح قائلاً : فهذا أوّل الوهن(١) .

إنّ الأنصار بموقفهم هذا قد هيَّئوا فرصة سياسية ثمينة ما كانت لتفوت الجناح المترقّب للفوز بالسلطة ، وفتحوا باب الصراع على مصراعيه بعيداً عن القيم والأحكام الإسلامية ؛ إذ قدّمت فيه الحسابات القبلية على الحسابات الشرعية ، وتقدّمت فيه مصلحة القبيلة على مصلحة الرّسالة الإسلامية .

وقد اعتذر عمر من مباغتة الأنصار في السقيفة فقال : وإنّا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإمّا أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون الفساد(٢) .

وهكذا أخذ الموقف السياسي يزداد تعقيداً وإعضالاً .

نظرة قريش للخلافة :

حين انطلقت الرسالة الإسلامية في مكّة وبين ظهراني قريش ؛ لم تتمكّن قريش من تحمّل ظهور نبيّ في بطنٍ من خيار بطونها ، بل أفضلها وهي بنو هاشم ، فاجتمعت كلمة قريش على محاربة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم بكلّ وسائل الحرب ومقاومتهم بشتّى فنون المقاومة وخطّطت للتآمر لا حُبّاً بالأصنام وما هم عليه من العبادة ولا كراهية للدعوة الجديدة ، فليس في الإسلام ما لا ترتضيه الفطرة السليمة(٣) ، لكن قريشاً لا تريد أن تغيّر صيغتها السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف والسيادة ، وخصوصاً أنّ مجتمع الجزيرة كانت تحكمه النزعة القبلية .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٤ ط مؤسسة الأعلمي حوادث سنة ١١ هـ .

(٢) صحيح البخاري : كتاب المحاربين ٦ ح ٦٤٤٢ ، وسيرة ابن هشام : ٤ / ٣٠٨ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٧ ط مؤسسة الأعلمي .

(٣) يروى أنّ كثيراً من زعماء قريش كانوا يجاهرون بالعداء للدين ولكنّهم يذهبون خلسةً لاستماع القرآن .

١٠٣

من هنا لم تكن قريش تريد أن يتميّز البطن الهاشمي عن بقيّة بطونها ولا أن يتفوّق عليها ، وقد تصوّرت أنّ التفاف الهاشميّين حول النبوّة ودفاعهم المستميت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو إصرار هاشمي على التميّز والرغبة بالتفوّق على الجميع ، فحاصرت قريش الهاشميّين في شِعب أبي طالب ، وتآمرت على قتل النبيّ ، وفشل الحصار وفشلت كلّ محاولات الاغتيال لشخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلا طوفان الرسالة الإسلامية على كلّ القوى المناوئة ، وأسلمت قريش طوعاً أو كرهاً ، فلم تعد لقريش قدرة على الوقوف في وجه النبوّة .

ولكنّ إعداد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العدّة لتكون الخلافة من بعده لعليّ ولذرّيّتهعليهم‌السلام بأمر من الله تعالى وباعتبارهم أجدر وأعلم بأصول الشريعة وأحكامها ، وأنّهم الأفضل من كلّ أتباعه ، والأنسب لقيادة الأمة ، قد أثار هذا المنطق في نفوس قريش النزعة القبلية والحقد الجاهلي فعزمت أن لا تجمع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، فالنبوة والخلافة في عرف قريش سلطان وحكم كما صرّح بذلك أبو سفيان يوم فتح مكّة بقوله للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً(١) .

هذه الفكرة والعقلية سادت في الأجواء السياسية المحمومة في آخر أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقريش مدركة أنّ النبيّ ميّت لا محالة في مرضه هذا ، وقد أخبرهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وأيضاً لو تركت الأمور على مجراها الطبيعي فالخلافة ستئول إلى عليّعليه‌السلام حتماً من هنا كان تحرّك الحزب المناوئ لبني هاشم بصورة عامّة ولعليّعليه‌السلام خاصّة ، فكانت السقيفة .

ونجد فكرة عدم اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم من خلال المحاورة

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة : ١٧ / ٢٧٢ .

١٠٤

بين عمر وابن عباس في زمن خلافة عمر ، حين قال له عمر : يا ابن عباس ! أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه فقلت : إن لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدري ، فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتجحفوا على قومكم ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت(١) .

وثمّة أمر آخر يتعلّق بموضوع تحويل الخلافة عن عليّعليه‌السلام وهو أنّ عليّاًعليه‌السلام قد وتر قريشاً في حروبها ضد الإسلام وإنّ كلّ دم أراقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيف عليّعليه‌السلام وسيف غيره فإنّ العرب بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عصبت تلك الدماء بعليّ وحده ، لأنّه لم يكن في رهط النبيّ مَن يستحق في شرع قريش وعاداتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ عليّ وحده(٢) .

ملامح التخطيط لإقصاء الإمام عليّعليه‌السلام عن الخلافة :

نلاحظ أنّ هناك تخطيطاً محكماً لدى الخطّ المناوئ لعليّعليه‌السلام لأخذ الخلافة منه من خلال ما يلي:

١ ـ بقاؤهم في المدينة ومحاولتهم عدم الخروج منها مهما يكن من أمر ، وذلك عندما عرفوا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تدهورت صحّته، كما لاحظوا بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الأيام كان يكثر من التوصية بعليّعليه‌السلام وضرورة اتّباعه لسلامة الدين والدولة.

٢ ـ حضورهم الدائم قرب الرسول ومحاولتهم الحيلولة دون حصول شيء يدعم ولاية عليّعليه‌السلام ، فكان الشغب في مجلس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشعار الذي رفعه عمر :( حسبنا كتاب الله ) ثمّ اتهام النبيّ المعصومصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغلبة الوجع ممّا أزعج النبيّ ، حيث إنّ قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إئتوني بدواة وكيف ) من غير المعقول أن يثير النفور والشكّ في نفوس الجميع دون سابق مضمر في نفوس البعض ، فلم يكن داعٍ لاعتراضهم إلاّ إثارة الشغب ومنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكتابة .

ــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٢ / ٢٥٣ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : ١ / ١٨٩ ط دار إحياء التراث العربي ، الكامل في التأريخ : ٣ / ٦٣ و ٦٤ .

(٢) نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٢٨٣ .

١٠٥

٣ ـ السرعة في البتّ بموضوع الخلافة وإتمام البيعة عبر استغلالهم الفرصة بانشغال الإمام عليعليه‌السلام وبني هاشم بمراسم تجهيز النبيّ ودفنه ، فحين علم عمر بنبأ الاجتماع في السقيفة ؛ أرسل إلى أبي بكر حين دخل إلى بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن اُخرج فقد حدث أمر لابدّ أن تحضره ، ولم يوضّح ذلك خشية أن يطّلع عليه عليّ أو أحد من بني هاشم ، وإلاّ لماذا ؟ فهل كان هذا الأمر المهمّ يعني أبا بكر دون بقيّة المسلمين وفيهم من هو أحرص على الإسلام من أبي بكر وعمر ؟ ولماذا لم يدخل عمر بنفسه إلى داخل دار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يجتمع الناس فيتحدّث إليهم ؟ يدخل عمر بنفسه إلى داخل دار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يجتمع الناس فيتحدّث إليهم ؟

٤ ـ سعيهم لضمان حياد الأنصار وإبعادهم عن ميدان التنافس السياسي بدعوى أنّهم ليسوا عشيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥ ـ الترتيب في أخذ البيعة أوّلاً من الأنصار ، لأنّ قريشاً لو بايعت الخليفة الجديد ؛ لما كان لبيعتها أدنى قيمة واقعية ، ولأمكن الإمام فيما بعد أن يقيم الحجّة على قريش ، ولا يمكن لأيّ فرد أن يقف في موقع الندّ لعليّعليه‌السلام إذا كانت الأنصار في كفّة الإمام .

ويمكن ملاحظة ذلك من طريقة أخذ البيعة بعد الخروج من السقيفة ، إذ كان الناس مجتمعين في المسجد فقال عمر : ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتّى ؟! قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار ، فقام عثمان ومن معه من بني أمية فبايعوا ، وقام سعد وعبد الرحمن ومعهما بنو زهرة فبايعوا .

١٠٦

٦ ـ دخول عناصر من خارج المدينة معدّةً سلفاً لتأييد الطرف المناوئ لبني هاشم ، بدليل قول عمر : ما هو إلاّ أن رأيت ( أسلم ) فأيقنتُ بالنصر(١) .

٧ ـ محاولتهم التعتيم على الإجراءات التي تمّت مخاتلةً ، واتهامهم لكلّ مَن يعارضهم بأنّه يريد الفتنة وشقّ عصا المسلمين ، وقد اتّضح ذلك من خلال الحوادث التي تتابعت فيما بعدُ ، والقضاء على من ثبت على عدم البيعة وخالف قرار السقيفة(٢) .

٨ ـ ومن الأدلّة على التخطيط السابق : أنّ عثمان بن عفّان كتب اسم عمر في الوصية كخليفة من بعد أبي بكر(٣) من دون أن يأمره بذلك ، فقد كان مغمىً عليه ، فمن أين علم عثمان أنّ عمر هو الخليفة بعد أبي بكر ؟

٩ ـ ثمّ إنّ عمر وضع عثمان ضمن مجموعة أحدها يكون خليفة المسلمين بحيث يضمن ترشيحه مؤكّداً ، وأيّ خبير بالتأريخ مُلمّ بمجريات الأمور وتركيبة المرشّحين الستّة يستطيع أن يحلّل ذلك كما حلل الإمام عليّعليه‌السلام الموقف بوضوح(٤) .

١٠ ـ حين تشكّلت الحكومة التي تمخّضت عن اجتماع السقيفة ؛ توّلى أبو بكر الخلافة ، وأبو عبيدة المال ، وعمر القضاء(٥) ، وهذه هي أهمّ المناصب وأكثرها حساسيةً في مناهج الحكم والدولة ، هذه التركيبة لجهاز الدولة والعناصر الحاكمة لا تتأتّى صدفةً ولا يتمّ ذلك إلاّ عن تخطيط سابق .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٩ ط مؤسسة الأعلمي .

(٢) راجع طبقات ابن سعد : ٣ / ق ٢ / ١٤٥ ، وأنساب الأشراف : ١ / ٥٨٩ ، والعقد الفريد : ٤ / ٢٤٧ ، السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود : ١٣ ، والسقيفة انقلاب أبيض : اغتيال خالد بن سعيد بن العاص ، وابن عساكر : ترجمة سعد بن عبادة وكنز العمّال : ٣ / ١٣٤ .

(٣) تأريخ الطبري : ٢ / ٦١٨ ط مؤسسة الأعلمي ، وسيرة عمر لابن الجوزي : ٣٧ ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٥ .

(٤) أنساب الأشراف : ٥ / ١٩ .

(٥) الكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٠ .

١٠٧

١١ ـ قول عمر حين حضرته الوفاة : لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته(١) .

وليس كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمنّي ، لأنّه كان يعتقد أهليّة عليّعليه‌السلام للخلافة ، ومع ذلك لم يشأ أن يتحمّل أمر الأمة حيّاً كان أو ميّتاً .

١٢ ـ اتّهام معاوية لأبي بكر وعمر بالتخطيط لاستلاب الخلافة من عليّعليه‌السلام ، كما جاء ذلك في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر إذ قال : فقد كنّا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عنده وأتمّ وعده وأظهر دعوته وأفلج حجّته وقبضه إليه ؛ كان أبوك والفاروق أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم(٢) .

١٣ ـ قول أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لعمر :احلب يا عمر حلباً لك شطره ، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً (٣) .

١٤ ـ اتهام الزهراءعليها‌السلام للحاكمين بالحزبيّة السياسية والتآمر للانقضاض على السلطة وتجريد بني هاشم منها(٤) بقولها :(فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ؟ ( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ) .

سلبيّات حادثة السقيفة :

١ ـ الاستبداد بالرأي والقرار ، فقد استهان المشاركون في السقيفة بوصايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين بالاهتمام بعترته الطاهرة ، واستخفّوا بأوامره المصرّحة

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ١٩٠ ط دار إحياء التراث العربي ن وتأريخ الطبري : ٣ / ٢٩٢ قصة الشورى ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٦٥ .

(٢) مروج الذهب للمسعودي : ٣ / ١٩٩ ، وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ك ١١٩ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٢٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ١١ .

(٤) راجع خطبة الزهراء في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبحار الأنوار ك ٢٩ / ٢٢٠ .

١٠٨

بلزوم الاقتداء بهم والتمسّك بحبلهم ، ولو فرض ـ جدلاً ـ أنّه لا نصّ بالخلافة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أحد من آل محمد وفرض كونهم غير متميّزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم أو عمل أو إيمان أو إخلاص ، بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان ثمّة مانع شرعيّ أو عقليّ أو عرفيّ يمنع تأجيل عقد البيعة إلى حين الانتهاء من تجهيز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ؟!

إن هذا الاستعجال من المبادرين لسدّ الفراغ الذي خلّفته وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وجود نصوص أو أرضية تشريعية كان ينبغي تفويتها والمبادرة لأخذ زمام الأمر ، لئلاً تأخذ النصوص فاعليتها إن جرت الأمور بشكل طبيعي ، ولهذا قال عمر عن بيعة أبي بكر : إنّها كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها ألا ومن عاد لمثلها فاقتلوه(٢) .

٢ ـ البيعة لم تكن جامعة لأهل الحلّ والعقد الذي يعتبر شرطاً أساسياً في حصول الإجماع وفي مشروعية الانتخاب ، إذ اُلغي في السقيفة استشارة الطبقة الرفيعة من الصحابة مثل عليّعليه‌السلام والعباس وعمار بن ياسر وسلمان وخزيمة بن ثابت وأبي ذر وأبي أيوب الأنصاري والزبير بن العوام وطلحة وأبي بن كعب ، وغيرهم كثير .

٣ ـ استعمال العنف والقسوة في طريقة أخذ البيعة من المسلمين ، فإنّ كثيراً من المسلمين قد أرغموا عليها ، وقد لعبت دِرَّة عمر في سبيل تحقيقها وإيجادها دوراً كبيراً .

٤ ـ لقّنت السقيفة مفاهيم منحرفة للأمة ، منها :

أ ـ الاستعلاء على الأمة والاستخفاف بشأنها تحت شعار (مَن ذا ينازعنا سلطان محمّد ؟ ! ) .

ــــــــــــ

(١) النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : ٢٥ ط اُسوة .

(٢) تذكرة الخواص : ٦١ ، وراجع صحيح البخاري : كتاب الحدود ، باب رجم الحبُلى .

١٠٩

ب ـ تحويل مفهوم النبوّة الرّبانية وخلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مفهوم السلطة العشائرية التي تستمد قوّتها وشرعيتها من انتخاب أبناء العشيرة وليس من نصوص الشريعة المقدّسة .

ج ـ فسح المجال أمام المسلمين لطرح التعددية في السلطة ومنافسة مَن فرض الله طاعته بالنصّ ، وتشجيع التمرّد على الحاكم المعصوم المنصوب بأمر من الله تعالى ، كما قالوا : منّا أمير ومنكم أمير .

د ـ هيّأ اجتماع السقيفة الأرضيّة المناسبة لتجاوز وجود الأمة وتجاوز رأيها السياسي كما حصل ذلك مرة أخرى عند تعيين عمر ، وثالثة عند وفاة عمر متمثلاً في الشورى التي فرضها عمر على المسلمين .

موقف الإمامعليه‌السلام من اجتماع السقيفة :

لم يكن الإمام عليّعليه‌السلام طامعاً وساعياً في استلام الخلافة والتربّع على عرشها مثل الآخرين ، إذ كان همّه الأوّل والأخير تثبيت دعائم الإسلام ونشره ، وإعزاز الدين وأهله ، وإظهار عظمة الرسول وبيان سيرته ، وحثّ الناس على الاقتداء بمنهجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانشغل بمراسم تجهيز النبيّ والصلاة عليه ودفنه ، وما كان يدور في خَلَده أنّ الخلافة تعدوه وهو المؤهّل لها رسالياً والمرشّح لها نبوّياً ، ولكنّ نفوس القوم أضمرت ما ينافي وصايا نبيّهم في غزوتي أُحد وحنين ، وأغراهم الطمع في سلطان بغير حقّ ، فتركوا نبيّهم مطروحاً بلا دفن كما تركوه وفرّوا عنه في حياته عند الشدائد والهزائز .

لقد وصل خبر اجتماع السقيفة إلى بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يجتمع عليّعليه‌السلام وبنو هاشم والمخلصون من الصحابة حول جسد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال العباس عمّ الرسول لعليّ : يا ابن أخي ، اُمدد يدك أبايعك ، فيقال : عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله ، فلا يختلف عليك اثنان .

فقالعليه‌السلام :يا عمّ ، وهل يطمع فيها طامع غيري ؟

قال العباس : ستعلم .

١١٠

غير أنّ الإمامعليه‌السلام لم يكن ليخفى عليه ما كان يجري في الساحة من مؤامرات آنذاك فأجابه بصريح القول :( إنّي لا أحب هذا الأمر من وراء رِتاج ) (١) .

موقف أبي سفيان :

روي : أنّ أبا سفيان جاء إلى باب دار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّعليه‌السلام والعباس موجودان فيه ، فقال : ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش ؟! والله لئن شئت لأملأنّها عليهم خيلاً ورجالاً ، فقال عليّعليه‌السلام :ارجع يا أبا سفيان ! طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضرّه بذاك شيئاً .

وروي أيضاً : أنّه لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ؛ أقبل أبو سفيان وهو يقول : والله إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم ، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم ! أين المستضعفان عليّ والعباس ، وقال : أبا حسن ، ابسط يدك أبايعك ، فأبى عليّعليه‌السلام عليه وزجره وقال :إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك طالما بغيت الإسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك (٢) ولمّا بويع أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ، إنما هي بنو عبد مناف !

فقيل له : إنّه قد ولّى ابنك ، قال : وصلته رحم(٣) .

لم تكن معارضة أبي سفيان للسقيفة عن إيمانه بحقّ الإمام عليّعليه‌السلام وبني هاشم ، وإنّما كانت حركة سياسية ظاهرية أراد بها الكيد بالإسلام والبغي عليه ، فإنّ

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٢١ والرِتاج : الباب المغلق .

(٢) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ ، والكامل في التاريخ : ٢ / ٣٢٦ ط دار الفكر .

(٣) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ ط دار الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٣٢٦ .

١١١

علاقة أبي بكر مع أبي سفيان كانت وثيقة للغاية(١) .

أقطاب المعارضة للسقيفة :

كان من الطبيعي أن تبرز أطراف معارضة لنتائج السقيفة التي لم تتمتّع بالأهليّة الكافية والاحقيّة في الزعامة ، فبرزت ثلاثة أطراف :

الأوّل : الأنصار باعتبارهم كتلة سياسية واجتماعية كبيرة لابدّ من حسابها في ميزان الترشيح والانتخاب ، فنازعوا الخليفة الفائز وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة ، ووقعت بينهم المنازعة التي انتهت بفوز قريش .

وقد انتفع أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار من :

١ ـ تركّز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية في قوله بأنّهم شجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقربهم إليه ، فهم أولى به من سائر المسلمين ، وأحق بخلافته وسلطانه .

٢ ـ انشقاق الأنصار على أنفسهم بين مؤيّد ومعارض لأبي بكر ، نتيجة تجذّر النزعة القبلية من نفوسهم ، أو لحسد بعضهم لبعض ، أو الرغبة في نيل الحظوة والقُربة لدى السلطة الحاكمة الجديدة ، حتى برزت هذه الظاهرة واضحة في قول أسيد بن حضير في السقيفة : لئن ولّيتموها سعداً عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر(٢) .

ــــــــــــ

(١) فقد روي أنّ أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين منهم أبو بكر وسلمان وصهيب وبلال ، فقال بعضهم : أما أخذت سيوف الله من عنق عدّو الله مأخذها ؟ فزجرهم أبو بكر وقال لهم : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم ؟ ومضى مسرعاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بمقالة القوم فردّ عليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله صحيح البخاري : ٢ / ٣٦٢ .

(٢) الكامل في التأريخ : ٢ / ٣٣١ .

١١٢

لقد أعطى اجتماع السقيفة لأبي بكر القوّة من ناحيتين :

١ ـ إضعاف دور القاعدة الشعبية للإمام عليّعليه‌السلام فإنّ الأنصار سجّلوا على أنفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد السقيفة إلى صفّ الإمام ويخدموا قضيته وأحقّيته في الخلافة .

٢ ـ بروز أبي بكر كمدافع وحيد عن حقوق المهاجرين بصورة عامّة وعن قريش خاصّة في مجتمع الأنصار ، حيث إنّ الظرف كان مناسباً جدّاً ، إذ خلا من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي انتهت إليها .

الثاني : الأمويون الذين كان لديهم مطمع سياسيّ كبير في نيل نصيب مرموق من الحكم ، واسترجاع شيء من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان ، وقد تعامل معهم أبو بكر وحزبه وفق معرفتهم بطبيعة النفس الأموية وشهواتها السياسيّة والمادية ، فكان من السهل على أبي بكر أن يتنازل عن بعض المبادئ والحقوق الشرعية ، فدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين وزكواتهم التي جمعها من سفره الذي بعثه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجباية الأموال ، ولم يعبأ الفائزون بالسقيفة بمعارضة الأمويين وتهديد أبي سفيان وما أعلنه من كلمات الثورة والرغبة في تأييد الإمامعليه‌السلام وبني هاشم .

بل استفاد أبو بكر وحزبه من الأمويين في إضعاف دور بني هاشم حاضراً ومستقبلاً بأن جعلوا للأمويين حظّاً في العمل الحكومي في عدّة من المرافق الهامّة في الدولة .

الثالث : الهاشميّون وأخصّاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان الله عليهم ، وجماعات كثيرة من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو صاحب الحقّ الشرعي بالخلافة ، وهو الوارث الطبيعي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم نصّ الغدير ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها .

ولم تكن لتنطلي عليهم الحجج الواهية التي طرحتها أطراف السقيفة ، فرأت فيهم تيارات تسعى للاستئثار بالحكم لإرضاء شهواتهم ونذيراً بانحراف التجربة الإسلامية من مسارها الصحيح .

١١٣

نتائج السقيفة :

نجح أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار والأمويين ، وكسب الموقف بأن أصبح خليفة للمسلمين ، ولكنّ هذا النجاح جرّه إلى تناقض سياسي واضح ، لأنّه لم يملك في السقيفة من رصيد إلاّ أن يجعلوا حجّتهم مبنيّة على أساس القرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ثَمّ يقرّوا مذهب الوراثة للزعامة الدينية .

غير أنّ وجود بني هاشم كطرف معارض بدّل الوضع السياسي ، واحتجّت المعارضة على أبي بكر وحزبه بنفس حجّتهم على باقي الأطراف ، وهي إذا كانت قريش أولى برسول الله من سائر العرب فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش .

وهذا ما أعلنه الإمام عليّعليه‌السلام حين قال :إذا احتجّ المهاجرون بالقُرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت الحجّة لنا على المهاجرين بذلك قائمة ، فإن فلجت حجّتهم كانت لنا دونهم ، وإلاّ فالأنصار على دعوتهم .

وأوضحه العباس في حديث له مع أبي بكر إذ قال له : وأمّا قولك نحن شجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنكم جيرانها ونحن أغصانها(١) .

فالإمام عليّعليه‌السلام كان مصدر رعب ورهب في نفوس الفائزين في لعبة السقيفة وسدّاً منيعاً إزاء رغباتهم وطموحاتهم ، وكان بإمكانه أن يستغلّ النفعيّين ـ وما أكثرهم ! ـ والذين يميلون مع كلّ ريح وينعقون مع كلّ ناعق والذين يعرضون أصواتهم ومواقفهم رخيصة في الأسواق السياسية ، وأن يشبع نهمهم ممّا خلّفه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخمس وغلاّت أراضي المدينة ونتاج (فدك) التي كانت تدرّ بالخيرات ، إلاّ أنّهعليه‌السلام أبى عن كلّ ذلك لكمال شخصيّته وسموّ منزلته ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان بوسعهعليه‌السلام أن يتحرّك محتجّاً أمام أرباب السقيفة بمبدأ القرابة الذي يعدّ ورقة رابحة بيده حتى ألمح لذلك بقولهعليه‌السلام :(احتجوّا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) وكان السواد الأعظم من الناس يقدّسون أهل البيت ويحترمونهم لذلك السبب ، وبالتالي سيدفع السلطة الحاكمة إلى أزمة سياسية حرجة لا مخرج منها ، بيد أنّهعليه‌السلام كان أسمى من ذلك وأجلّ ، حيث قدّمعليه‌السلام المصلحة الإسلامية العليا على كلّ المصالح الخاصة .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ٥ .

١١٤

ولتلافي احتمال تحرّك الإمام على هذا المسار تردّدت السلطة بين موقفين :

أوّلاً : أن لا تقرّ للقرابة بشأن في الخلافة ، وهذا معناه نزع الثوب الشرعي عن خلافة أبي بكر الذي تقمّصه يوم السقيفة .

ثانياً : أن تناقض السلطة الحاكمة نفسها وإصرارها على مبادئها التي أعلنتها في السقيفة مقابل بقيّة الأطراف ، فلا ترى أيّ حق للهاشميّين في السلطة وهم أقرب الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو تراه لهم ، ولكن في غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة مقابلة حكم قائم ووضع قد تعاقد عليه الناس .

وكان الخيار الثاني هو خيار السلطة(١) .

ــــــــــــ

(١) راجع تفصيل ذلك في ( فدك في التأريخ ) للشهيد الصدر ك ٨٤ ـ ٩٦ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ و ٤٥٠ ( أحداث السقيفة ) .

١١٥

الفصل الثاني: الإمام عليّعليه‌السلام في عهد أبي بكر

خطوات السلطة لمواجهة المعارضة :

ما كانت الفئة المسيطرة لتتنازل عن السلطة بعد أن سعت وخطّطت للاستيلاء عليها ، فثبتت على آرائها التي روّجتها في السقيفة ودعمتها بشتّى الوسائل والسبل بغض النظر عن شرعيّتها أو صحّتها في المحافظة على سلامة الدعوة الإسلامية ، لذا فإنّنا نلاحظ بعض الظواهر والخطوات السياسية التي اتّبعتها هذه الفئة من أجل إبعاد آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحكم نهائياً والقضاء على الفكرة التي أمدّت الهاشميين بالقوة ، بل القضاء على كلّ معارضة محتملة مستقبلاً ، وهي:

١ ـ إنّ السلطة الجديدة أخذت على المعارضين أنّ مخالفتهم الخليفة الجديد ليس إلاّ إحداثاً للفتنة المحرّمة في شريعة الإسلام ، وكان يدعم إدانتهم للمعارضة هذه أنّ ظروف الدولة الإسلامية كانت غير مستقرّة بعد ، وكان الأعداء من خارج البلاد يهدّدون الدولة الإسلامية إضافة إلى أحداث الردّة التي حصلت بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داخل حدود الدولة الإسلامية الفتيّة .

١١٦

٢ ـ أسلوب الشدّة والعنف الذي اتّبعه الخليفة وحزبه مع الإمام عليّعليه‌السلام ومن معه بنفس الطريقة التي اتّبعوها مع سعد بن عبادة في السقيفة ، فقد بلغت الشدّة منهم أنّ عمر هدّد بحرق بيت الإمام عليّعليه‌السلام وإن كانت فاطمةعليها‌السلام فيه(١) ، ومعنى هذا أنّ فاطمة وغيرها من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتّخذ الجهاز الحاكم الطريقة نفسها معهم .

٣ ـ إنّ أبا بكر ومن معه لم يشرك شخصاً من الهاشميّين في شأن من شؤون الحكم المهمّة خشية أن يصل الهاشميّون إلى الخلافة(٢) ولا جعل منهم والياً على شبر من الدولة الإسلامية الواسعة .

٤ ـ إعداد وتهيئة كتلة سياسية ضخمة تنافس آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعاديهم ، لنيل الخلافة والمركز الأعلى في الحكم ، فإنّنا نلاحظ أنّ الأمويين ذوي الألوان والطموحات السياسية الواضحة قد احتلوا الصدارة في المناصب الإداريّة أيام أبي بكر وعمر ، وإضافة إلى ذلك أنّ مبدأ الشورى الذي ابتكره الخليفة الثاني سوف يجعل من عثمان بن عفّان المرشح الأوفر حظّاً من غيره من المنافسين .

هذه الكتلة السياسية من شأنها أن تطول وتتّسع لأنّها ليست متمثلة في شخص بل في بيت كبير ، وبالتالي سوف لن تكون الظروف مهيأة لصعود آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سدّة الخلافة بسهولة على أقلّ تقدير .

٥ ـ عزل كلّ العناصر التي تميل إلى بني هاشم ، فقد روي أنّ أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجّهه لفتح الشام بعد أن أسندها إليه لا لشيء إلاّ لأنّ عمر نبّهه إلى نزعته الهاشمية وميله إلى آل محمد ، وذكّره بموقفه المعارض لهم بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

٦ ـ إضعاف القدرة الاقتصادية للإمام عليّعليه‌السلام خشية أن يستثمرها الإمام في الدعوة لاستعادة حقّه الشرعي في الخلافة ، فقام الخليفة بمصادرة فدك من الزهراءعليها‌السلام لعلمه أنّهاعليها‌السلام كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته إلى نفسه ، هذا إذا علمنا أنّ أطرافاً سياسية باعت صوتها للحكومة ، فمن الممكن أن تفسخ المعاملة إذا عرض عليها ما ينتج ربحاً أكبر ، كما

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٣ / ١٩٧ ط دار الوفاء .

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٦١٨ ، ومروج الذهب على هامش تأريخ ابن الأثير : ٥ م ١٣٥ .

(٣) تاريخ الطبري : ٢ / ٥٨٦ ط مؤسسة الأعلمي .

١١٧

وأنّ الخليفة أبا بكر نفسه اتّخذ المال وسيلة من وسائل الإغراء وكسب الأصوات(١) .

وإذا أضفنا لذلك أنّ الزهراء كانت دليلاً يحتجّ به أنصار الإمام عليّعليه‌السلام على أحقّيته بالخلافة نستوضح أنّ الخليفة كان موفَّقاً كلّ التوفيق في مسعاه السياسي لإظهار موقف الزهراءعليها‌السلام الداعم لأمير المؤمنينعليه‌السلام موقفاً محايداً ، وذلك بأسلوب لبق وغير مباشر لإفهام المسلمين أنّ فاطمةعليها‌السلام امرأة من النساء ولا يصحّ أن تؤخذ آراؤها ودعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك ، فضلاً عن موضوع مهم كالخلافة ، وأنّها إذا كانت تطلب أرضاً ليس لها بحقّ ؛ فمن الممكن أن تطلب(٢) لقرينها الدولة الإسلامية كلّها ، وليس له فيها حقّ كما يدّعيه هؤلاء الصحابة الذين رشّحوا أنفسهم لخلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيطروا على زمام الأمر .

فقد روي أنّه لمّا استقرّ الأمر لأبي بكر ، بعث إلى وكيل الزهراء فأخرجه منها واستولى على فدك ، واحتجّ بحديث لم يروه غيره ، وهو أنّه سمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( إنّا معاشرَ الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة ) فالنبيّ لا يورث وإنّما ميراثه في المساكين وفقراء المسلمين(٣) .

الاحتجاجات على خلافة السقيفة :

إنّ الصفوة الخيّرة من الصحابة الذين وقفوا مع الإمام عليّعليه‌السلام في المطالبة بحقّه الشرعي في الخلافة احتجّوا بصلابة وثقة وعلانية وبحجّة واضحة دامغة وبدليل شرعيّ منصوص وبأسلوب يدلّ على الحرص على إصابة الحقّ وصيانة الحكم الإسلامي من الانحراف على الحكومة ، فقد وقفوا في مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانبرى الصحابيّ الجليل خزيمة بن ثابت فقال : أيّها الناس ! ألستم تعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قَبِل شهادتي وحدي ، ولم يرد معي غيري ؟ فقالوا : بلى ، قال : فأشهد أنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :(أهل بيتي يفرّقون بين الحقّ والباطل ، وهم الأئمّة الذين يقتدى بهم) ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين .

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد : ٣ / ١٨٢ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : ١ / ١٣٣ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢٨٤ ط المحققة / أبو الفضل إبراهيم وفيه جواب مدرس المدرسة الغربية علي بن الفارقي بهذا المعنى عندما سأله ابن أبي الحديد .

(٣) راجع سنن البيهقي : ٦ / ٣٠١ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢١٨ ـ ٢٢٤ ، ودلائل الصدق للمظفر : ٣ / ٣٢ .

١١٨

واحتجّ عمار بن ياسر فقال : يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين ! إن كنتم علمتم وإلاّ فاعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به وأحقّ بإرثه وأقوم باُمور الدين وآمن على المؤمنين وأحفظ لملّته وأنصح لاُمّته ، فمروا صاحبكم فليردّ الحقّ إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظهر شقاقكم وتعظم الفتنة بكم .

ووقف سهل بن حنيف فقال : يا معشر قريش ! أشهد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رأيته في هذا المكان ـ يعني مسجد النبيّ ـ وقد أخذ بيد عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وهو يقول :( أيّها الناس ، هذا عليّ إمامكم من بعدي ووصيّي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأوّل من يصافحني على حوضي ، وطوبى لمن تبعه ونصره ، والويل لمن تخلّف عنه وخذله ) .

ثمّ قام أبو الهيثم بن التيهان فقال : وأنا أشهد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أقام عليّاً يوم غدير خم ، فقالت الأنصار : ما أقامه إلاّ للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلاّ ليعلم الناس أنّه مولى من كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مولاه ، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجلاً منّا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه عن ذلك ، فقال :( هو وليّ المؤمنين بعدي وأنصح الناس لأمتي ) ، وأنا أشهد بما حضرني ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً .

١١٩

ثمّ قام آخرون منهم أبو ذر وأبو أيوب الأنصاري وعتبة بن أبي لهب والنعمان بن عجلان وسلمان الفارسي فاحتجّوا على القوم(١) .

محاولة إرغام الإمامعليه‌السلام على البيعة :

كان لامتناع الإمام عن البيعة وقيام عدد من الصحابة الأجلاّء بالاحتجاج العلني ومطالبة السلطة بالتنحّي عنها وتسليمها إلى صاحبها الشرعي الأثر الفعّال في تحريك مشاعر المسلمين وتعبئتهم في صف أمير المؤمنينعليه‌السلام ، هذا بالإضافة إلى وجود بعض العشائر المؤمنة المحيطة بالمدينة مثل أسد وفزارة(٢) وبني حنيفة وغيرهم ممن شاهد بيعة يوم الغدير (غدير خم) التي عقدها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام بإمرة المؤمنين من بعده الذين رفضوا بيعة أبي بكر ، وامتنعوا عن أداء الزكاة للحكومة الجديدة باعتبارها غير شرعية ، وكانوا يقيمون الصلاة ويؤدّون جميع الشعائر ، كلّ هذا كان يشكّل خطراً على الحكم القائم ، فرأت السلطة الحاكمة أن تصنع حدّاً لهذا الخطر ، وذلك بإجبار رأس المعارضة وهو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على بيعة أبي بكر .

وذكر بعض المؤرّخين أنّ عمر أتى أبا بكر فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة ؟ يا هذا لم تصنع شيئاً ما لم يبايعك عليّ ! فابعث إليه حتى يبايعك .

فأجمعوا آراءَهم على إرغام الإمامعليه‌السلام وقسره على البيعة لأبي بكر ، فأرسلوا قوة عسكرية فأحاطت بداره فدخلوا داره بعنف(٣) ، وأخرجوه منها بصورة لا تليق بمكانة شخص قال عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ) .

ــــــــــــ

(١) تأريخ أبي الفداء : ١ / ١٥٦ ، والخصال للصدوق : ٤٣٢ ، والاحتجاج للطبرسي : ١ / ١٨٦ .

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٧٦ ط مؤسسة الأعلمي .

(٣) الإمامة والسياسة : ٣٠ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٣ .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فالإمام الحسينعليه‌السلام هو باب الله، وهو وسيلة الرحمة الإلهية، وهو الصراط المستقيم الذي ندعو الله يومياً أن يهدينا إليه.

فإن تعرف الإمام الحسينعليه‌السلام بانّه ابن أمير المؤمنين الإمام عليٍّعليه‌السلام ، وابن سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وأنّه سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشهيد كربلاء، وغريب الغرباء، فتلك معرفة جيدة، ولكنها لا تقع في الدرجة الأولى من درجات المعرفة، فمن أراد السموّ إلى الدرجات العلا والثواب الأكبر فعليه أن يعرف الإمام الحسينعليه‌السلام حقّ المعرفة.

وقد ورد بسندٍ معتبر عن بشير الدهّان قال: قلت للصادق (صلوات الله وسلامه عليه): ربما فاتني الحج، فأعرف عند قبر الحسينعليه‌السلام ؟

قال:« أحسنت يا بشير، أيّما مؤمن أتى قبر الحسين (صلوات الله عليه) عارفاً بحقه في غير يوم عيد كُتب له عشرون حجّة، وعشرون عمرة مبرورات متقبلات، وعشرون غزوة مع نبيٍّ مرسل وإمام عادل. ومَن أتاه في يوم عرفة عارفاً بحقه كُتب له ألف حجة، وألف عمرة مبرورات متقبلات، وألف غزوة مع نبي مرسل وإمام عادل » (١) ، إلى غير ذلك من الثواب والدرجة.

التقوى والورع شرط الولاية

إنّ من يريد الوصول إلى الهدف المنشود فعليه أن يبحث ويسير وفق الطريق الصحيح، وحتّى الرغبة في الوصول إلى أهل البيت (عليهم الصلاة والسّلام) بحاجة إلى تحديد الطريق الصحيح من الطريق المنحرف.

وبين هذا وذاك نجد - وللأسف الشديد - من يمنّي نفسه بالفوز بمرضاة الله رغم ارتكابه أنواع الكبائر، تحت طائلة أنّه يحب أهل البيتعليهم‌السلام ،

____________________

(١) مفاتيج الجنان - فضائل زيارة الحسين في يوم عرفة.

١٦١

شأنه في ذلك شأن فرقة المرجئة التي أسسها أو قوّمها بنو اُميّة في إطار مساعيهم الشيطانيّة لإخماد حركة المجتمع نحو الحق والحريّة؛ فقد كانت تلك الفرقة تعتقد بأنّ التفوّه بالشهادتين، والاعتقاد برسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأداء بعض التكاليف كفيل بضمان الجنّة حتّى وإن تخلّل ذلك ارتكاب الكبائر والموبقات من الذنوب.

وتستدل تلك الفرقة على ما ذهبت إليه ببعض الآيات والشبهات. ولكنّ الأئمّة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) في مقابل ذلك عارضوا هذه العقيدة التي سيطرت آنذاك على عقول كثير من المسلمين، عارضوها بكل قوّة، وعملوا دون تمييع الحدود التي رسمها الله سبحانه وتعالى بين المؤمنين وغير المؤمنين؛ فقالوا مراراً وتكراراً، وبشكل أو بآخر بأنّ الإيمان قول وعمل، وأكّدوا بأنّ الإيمان عمل كلّه والقول منه، بمعنى أنّ القول وإعلان الإيمان ليس إلاّ عملاً واحداً من جملة أعمال الإيمان.

وقالوا أيضاً: إنّ مرتكب الكبيرة لدى ارتكابه المعصية يبتعد عن روح الإيمان، وأيّة قيمة للإيمان من الممكن بقاؤها مع إنسان لا يجد في نفسه مانعاً يمنعه عن ارتكاب الكبائر من الكذب، والفجور، والظلم، وقتل الآخرين، بل وما فائدة الإيمان؟ ولماذا إذاً خلق الله عزّ وجلّ النار ورسم العدالة؟!

إنّ بعض الناس الذين يدّعون الإيمان وحبّ وموالاة أهل البيتعليهم‌السلام ، ولكنهم في الوقت ذاته تتّحد عقيدتهم مع عقيدة المرجئة، فيقولون بعدم التناقض بين الإيمان والظلم، أو الفجور أو التقاعس عن أداء التكاليف الدينية، إنّ هؤلاء ينبغي أن يعرفوا بأنّ الولاية لأهل البيتعليهم‌السلام قضية أساسية من قضايا الرسالة الإلهية، ومن لا يتّبع تعاليم أهل البيتعليهم‌السلام حريٌّ به أن تُسلب

١٦٢

منه هذه الولاية؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَآءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِاَيَاتِ اللَّهِ ) (الروم/١٠).

والتكذيب بآيات الله من الممكن أن يأخذ صبغة عملية عبر ارتكاب المآثم والموبقات والكبائر وهجر التكاليف الشرعية، كما قد يأخذ التكذيب بآيات الله صبغة مباشرة عبر عدم الاعتراف بها والكفر بها جهاراً.

فالذي لا يطيع أوامر الله والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه الأئمةعليهم‌السلام من بعده من شأنه أن يموت كافراً، ومن شأنه أيضاً أن يحرم من ولاية الله والرسول والأئمة، وذلك هو الخسران المبين.

ولقد كرّر الإمام أبو عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام قوله لشيعته:« أبلغ (الراوي)موالينا عنّا السلام، وأخبرهم أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلاّ بعمل، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلاّ بعمل أو ورع » (١) .

فمن يقل بأنّه موالٍ للأئمةعليهم‌السلام ويعيش بين الموالين هو الآخر معرّض إلى الانزلاق نحو المفاسد، ومن ثمّ سيتبيّن له الخطل فيما ادّعاه؛ وذلك لأنّ الأئمةعليهم‌السلام أنفسهم لا يعترفون بتشيّع إنسان ما لم يتبعهم بما أمروه به ونهوه عنه.

وإنّها لخطيئة كبرى وخسارة عظمى أن يتصور الإنسان أن موالاة أهل البيتعليهم‌السلام مجرّد المحبة وإحياء الذكرى؛ لأنّ الولاية بمعناها الكامل والصحيح هي طاعة الله، وطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاعتراف بحقّ آل البيتعليهم‌السلام ، والسير على نهجهم الذي لم ولن يختلف أبداً عن تعاليم القرآن.

ومن نماذج النقص في الولاية للأئمةعليهم‌السلام أن نرى البعض منهمكاً في التحدّث عن فضائلهم ومناقبهم وتأريخهم، ولكنّه في الوقت ذاته يقصّر في

____________________

(١) بحار الأنوار ٢ / ٢٨.

١٦٣

التعرّف إلى الحكمة الإلهية من وجود الأئمّةعليهم‌السلام ، أو تنصيبهم زعماء للدين من دون الناس، ويقصّر أيضاً في معرفة فقههم ومعارفهم الإلهية؛ فتراه - تبعاً لذلك - يجادل في كل صغيرة وكبيرة مجادلةً تنبع من عدم التسليم لآراء الأئمّةعليهم‌السلام ، مع علمه واعترافه بعصمتهم ومنزلتهم من القرآن والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فمَن قال بإمامة الحسين بن علي وسائر الأئمة المعصومينعليهم‌السلام يتوجّب عليه اتّباع كلماتهم، فلا يجهلها أو يتجاهلها، أو يفسّرها حسب هواه وأغراضه.

ومن جملة ما يروى في هذا الإطار أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام سأل رجلاً من أتباعه - ولعله فضيل بن يسار - قائلاً:« كيف تسليمك لنا يا فضيل؟ » .

فأجاب: يابن رسول الله، لو أخذتَ تفّاحة وقسمتها قسمين، وقلْت هذا القسم حلال وهذا حرام فأنا لا أقول: لماذا؟ بل أقول: سلّمت.

وكان من قبله سلمان المحمدي؛ حيث أُثر عنه أنّه كان يقتفي أثر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فيضع قدمه في موضع قدم الإمامعليه‌السلام ، فهو كان يرغب بالتعبير عن اتّباعه وتسليمه لأمير المؤمنينعليه‌السلام حتّى في هذا المجال وبهذه الطريقة …

آفاق الولاية

بعد أن نتجاوز خطيئة المرجئة وقشرية السلفية بالنسبة لأهل البيتعليهم‌السلام ، وبعد أن نتوجّه إلى العمق، أقول كلمة، وأعتقد بأنّها مهمّة للغاية، وهي: إنّ الإنسان حينما يحب ويتبع الأئمةعليهم‌السلام يجب أن تتنامى في قلبه محبّة أولياء ومحبّي الأئمّةعليهم‌السلام ؛ إذ لا يجوز العيش في رحاب أهل البيتعليهم‌السلام مع رفض أوليائهم ومحبّيهم، ويتبع ذلك عدم صحّة البحث عن المعاذير لذلك الرفض أو الطرد أو الكره.

١٦٤

ويروى في هذا المجال عن محمّد بن علي الصوفي قال: استأذن إبراهيم الجمّالرضي‌الله‌عنه على أبي الحسن عليّ بن يقطين الوزير فحجبه، فحجّ عليُّ بن يقطين في تلك السنة، فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفرعليه‌السلام فحجبه، فرآه ثاني يومه، فقال عليُّ بن يقطين: يا سيدي، ما ذنبي؟!

فقال:« حجبتك لأنّك حجبت أخاك إبراهيم الجمّال، وقد أبى الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك إبراهيم الجمّال » .

فقلت: سيدي ومولاي، مَن لي بإبراهيم الجمّال في هذا الوقت، وأنا بالمدينة وهو بالكوفة؟!

فقال:« إذا كان الليل فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك، واركب نجيباً هناك مسرجاً » .

قال: فوافى البقيع وركب النجيب، ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمّال بالكوفة، فقرع الباب وقال: أنا عليُّ بن يقطين.

فقال إبراهيم الجمّال من داخل الدار: وما يعمل عليُّ بن يقطين الوزير ببابي؟!

فقال عليُّ بن يقطين: يا هذا، إنَّ أمري عظيم! وآلى عليه أن يأذن له، فلمّا دخل قال: يا إبراهيم، إنَّ المولىعليه‌السلام أبى أن يقبلني أو تغفر لي.

فقال: يغفر الله لك.

فآلى عليُّ بن يقطين على إبراهيم الجمّال أن يطأ خدّه، فامتنع إبراهيم من ذلك، فآلى عليه ثانياً ففعل، فلم يزل إبراهيم يطأ خدّه وعليُّ بن يقطين يقول: اللَّهمَّ اشهد. ثمَّ انصرف وركب النجيب وأناخه من ليلته بباب المولى موسى بن جعفرعليه‌السلام بالمدينة، فأذن له ودخل عليه فقبله(١) .

إذاً فالقضية حادّة ومهمّة للغاية، لا سيما وأنّ الشيطان قد أكثر من مزالقه ومهاويه ليوقع بها بين الناس؛ لذلك نرى البعض يكيل التهم

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٨ / ٨٥.

١٦٥

والأكاذيب للعلماء والكتّاب والمجاهدين العاملين، وبأعصاب باردة، غافلاً أو متغافلاً عن أنّ ما يجترحه بلسانه من غيبة أو إشاعة للفحشاء أو قول بغير حقٍّ أو افتراء على شيعة أهل البيتعليهم‌السلام من شأنه أن يبعده عن أهل البيتعليهم‌السلام فيلقيه على رأسه في جهنم.

مسؤولياتنا تجاه الولاية

من الممكن أن نعبّر عن مسؤوليتنا تجاه الولاية لأهل البيتعليهم‌السلام بعدة أبعاد ونقاط، وهي:

١ - أن نعرف أهل البيتعليهم‌السلام حقّ المعرفة؛ فنعرف مقامهم ومنزلتهم، وأنّهم خلفاء الله في الأرض، وأنهم أسماؤه الحسنى … ونستطيع ذلك من خلال الأدعية والزيارات المأثورة، فلنكن على تواصل دائم معهم عبر قراءة الزيارات الشريفة الواردة بحقهم، من قبيل زيارة عاشوراء، ولنعوّد أنفسنا على زيارة أضرحة الأئمةعليهم‌السلام وأولادهم ما أمكن.

٢ - معرفة كلماتهم؛ وعليه فإنّ القراءة الواعية للكتب التي احتوت آثارهم؛ مثل نهج البلاغة، والصحيفة السجّادية، وتحف العقول لها الأثر الأكبر في تعميق المعرفة بسنّة أهل البيت (صلوات الله عليهم).

٣ - معرفة مسيرتهم العملية والاقتداء بها؛ ولذلك كان لزاماً علينا البحث عن الكتب والمقالات والمحاضرات الخاصّة بهذا الشأن.

٤ - الاتّباع والاقتداء بهم.

٥ - الدفاع عنهم، فربّنا العلي القدير يقول:( يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) ، ونصرة الله تكون عبر نصرة دينه، وإنّ أوّل من يمثل الدين هو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته، وأهل بيتهعليهم‌السلام وسيرتهم

١٦٦

ومبادئهم، وهذا يعني الذبّ عن شخصياتهم المقدسة ما امكن؛ فلندافع عن أئمتناعليهم‌السلام بالعمل الصالح، وإنشاء المشاريع، وكتابة الكتب وغير ذلك.

٦ - محبّة أولياء آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وحمايتهم والدفاع عنهم، وليكن الشعار الأوّل في هذا المضمار ما نقرأه في زيارة المعصومينعليهم‌السلام ، حيث جاء:« اِنّي سِلْمٌ لِمَن سالمكم، وحربٌ لمَن حاربكم، ووليٌّ لمَن والاكم، وعدوٌّ لمَن عاداكم » (١) .

نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنتصرين لدينه، وأن لا يستبدل بنا غيرنا، وأن يجعلنا مع الحسينعليه‌السلام فنواليه ونتّبعه، ونعرفه وندافع عنه. وندعوه تبارك وتعالى أن يرفع الضيم عن أتباع أهل البيتعليهم‌السلام أينما كانوا، وأن يجعل كلمتهم هي العليا، وكلمة أعدائهم السفلى، إنّه وليّ التوفيق.

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارت الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء / ٤٥٧.

١٦٧

الشعائر الحسينيّة اُسلوباً ومحتوىً

ترى لماذا نحيي في كلِّ عام شعائر الإسلام في ذكرى استشهاد أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؟ ولماذا تتجدد هذه الذكرى مع مرور السنين، وتتسع في كل عام، وتنتشر عبر آفاق جديدة؟

هذا السؤال ليس سؤالاً فقهياً أو علمياً محضاً، بل هو سؤال واقعي يعيشه كل إنسان مسلم. وللإجابة عليه نقول: إنّ هذه الواقعة يعيشها كل قلب، وكل فطرة، وكل نفس بشرية.

وقد طرح عليّ هذا التساؤل اثنان من المستشرقين الالمان قائلين: لماذا يتغيّر كل شيء عندكم أيها الشيعة إذا اقترب هلال محرم، لا بضغط من حكومة، ولا بمال من غني، ولا بإعلام قوي، بل بشكل عفوي، في حين أنّكم تعتقدون بقول نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وآله :« مداد العلماء خير من دماء الشهداء »، فلماذا ترفعون راية الحسين بينما يقرّر رسولكم أن مداد العلماء خير من دماء الشهداء؟

سر خلود الثورة الحسينيّة

وعندما أجبتهما على هذا السؤال قلت لهما: أوّلاً: إنّ الحسينعليه‌السلام ليس شخصاً، بل هو قضية، وقيمة، ومدرسة، ومنهج، ومسيرة؛

١٦٨

فهوعليه‌السلام كالنبي إبراهيم الذي كان يمثّل اُمّة، وكان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين؛ ولذلك فإنّ جميع أتباع الديانات السماوية يقدّسون هذا الرجل؛ لانه جسّد قيمة التوحيد، ورفع راية (لا إله إلاّ الله)، فتحوّل إلى قيمة؛ ولذلك قرّر القرآن الكريم أنّه كان اُمّة، واستجاب له الله سبحانه وتعالى عندما قال:( وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) (الشعراء/٨٤).

وكما أنّ إبراهيمعليه‌السلام جسّد قيمة، فإنّ الحسينعليه‌السلام قد جسّد قيمة هو الآخر؛ فقد استشهد في سبيل العدل والحق، ومن أجل الدين والحرية. ومن المعلوم أنّ هذه القيم ثابتة، فلا يمكن أن يأتي زمان لا نحتاج فيه إلى الدين والعدالة والحرية؛ فالحق هو فلسفة الحياة، بل هو الحياة نفسها، وبدونه لا يمكن ان تستمر. وكما أنّ قيمة الدين والعدالة والحرية والحقّ وسائر القيم المقدسة مستمرة، فإنّ قضية الإمام الحسينعليه‌السلام مستمرة هي الاُخرى.

وفي القسم الثاني من الإجابة قلت لذينك المستشرقين: إننا نعيش اليوم تحت راية أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، ونحن أتباع أهل البيتعليهم‌السلام لا يمكن أن نعيش بدونه؛ لأنّ العيش بدونه يعني العيش بدون قيم، وبدون دين واستقلال.

أهمّية المواكب الحسينيّة

ونحن كنّا وما زلنا نقيم المواكب الحسينيّة في كلِّ عام؛ ففي أيام الأربعين يتقاطر الشيعة على مدينة كربلاء لتتحوّل إلى موكب حسيني كبير، وهذه المواكب هي الناطقة عن قضية الإمام الحسينعليه‌السلام

١٦٩

وقضايا الشيعة في العالم الإسلامي؛ فعلى سبيل المثال اُعدم قبل خمسة وأربعين عاماً مسلم إيراني بسيف آل سعود ظلماً وعدواناً، وفي تلك السنة حملت جميع المواكب الحسينيّة التي وفدت إلى كربلاء راية هذا الرجل، وبعد فترة كان النظام البائد في إيران يضطهد العلماء، فكانت المواكب الحسينيّة في العراق تنادي بالدفاع عن علماء إيران، وبعد فترة اُخرى حدثت مجزرة ضد الشيعة في لبنان، فما كان من المواكب الشيعية في العراق إلاّ أن نادت بالدفاع عن الشيعة في لبنان.

وأنا اُوجّه كلامي هنا إلى اُولئك الذين يلوموننا على بكائنا في يوم عاشوراء، فأقول لهم: إنّنا نبكي بكاء الأبطال، ولكي نصبح حسينيين. فمثل هذه الشعائر هي التي حافظت على الإسلام، بلى هي التي حافظت علينا - نحن الشيعة - على مرّ التاريخ رغم كثافة المشاكل المحيطة بنا.

وهكذا فإنّ ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام كانت قضية فأصبحت قيمة، وكانت واقعة فتحولت إلى راية. وكل إنسان في هذا العالم يريد أن يدافع عن قيمه وقضيّته وظلامته لا بدّ أن ينضوي تحت هذه الراية المقدّسة.

الشعائر الحسينيّة والأنظمة الطاغوتيّة

وقد أدركت الحكومة الطاغوتيّة عمق هذه الشعائر؛ ولذلك فإنّها عمدت وتعمد إلى محاربة الشعائر الدينية للشيعة، فهي تريد - في الحقيقة - أن تعزل الشيعة عن تأريخهم.

ففي كلِّ عام تهتدي الآلاف المؤلّفة من البشر بفضل الحسينعليه‌السلام ؛ ولذلك فإنّ الحكومات تحرص على محاربة هذه المجالس التي يجب أن نحافظ عليها بأي شكل من الأشكال لكي تستمر المسيرة والنهضة؛ ذلك لأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام

١٧٠

استشهد، وباستشهاده في كربلاء أثبت أنّ الظلامة التي ارتكبت بحقِّ أهل البيتعليهم‌السلام كانت حقيقية.

تعظيم شعائر الله

وهكذا فإنّ الشعائر باقية ومستمرة، فالله سبحانه وتعالى يقول:( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (الحج/ ٣٢).

وهنا اُريد أن أتوقّف عند كلمتين في تفسير هذه الآية الكريمة المقتطفة من سورة الحج؛ الكلمة الاُولى هي (الشعائر) التي هي جمع شعيرة، وهي كل عمل يشعرك بشيء؛ فقد كانوا يأتون بالإبل إلى مكّة المكرّمة بعد أن يشعروها - أي يلطّخوها بشيء من الدم -، أو يقلّدوها بشيء يشعر أنّها قرابين في سبيل الله تعالى؛ لكي يتجمّع عليها الفقراء والمساكين وينالوا نصيبهم منها.

والقرآن الكريم يصف هذا العمل بقوله تعالى:( مِن شَعَآئِرِ اللَّه ) (الحج/٣٦)، أي إنّ هذه القرابين خالصة لله سبحانه ولا شأن لأحد بها؛ وعلى هذا فإنّ الشعائر تنطبق على كل ما يعظّمه الإنسان شريطة أن لا يكون حراماً.

ويحذّر القرآن الكريم في قوله تعالى:( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) من أن تفرغ الشعيرة من محتواها؛ لأنّها يجب أن ترسّخ التقوى - التي هي الكلمة الثانية التي نريد التحدث عنه - في النفس، فيجب أن نخلص النية في أدائها تماماً كالصلاة التي تكون باطلة إذا ما انعدمت منها النية؛ لأنّ النية هي إطار ومحتوى الصلاة بالإضافة إلى ذكر الله تعالى وخشوع القلب.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الشعائر الحسينيّة، فلنعمل من أجل ان تتحوّل هذه الشعائر إلى مدرسة تربوية للمجتمع.

١٧١

وهنا أطرح بعض الاقتراحات في مجال تطوير الشعائر الحسينيّة وإغنائها، وهي:

١ - فهم شخصية الحسين عليه‌السلام من خلال كلماته

علينا أن نفهم الحسينعليه‌السلام من خلال كلماته؛ فقد كانعليه‌السلام إماماً ناطقاً، وكان من أعظم ما تكلّم به دعاؤه في يوم عرفة، هذا الدعاء الغنيّ بالمعاني العرفانية، والذي يقول من جملة ما يقول فيه:« الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صنع صانع، وهو الجواد الواسع. فطر أجناس البدائع، وأتقن بحكمته الصنائع، لا تخفى عليه الطلائع، ولا تضيع عنده الودائع، جازي كل صانع، ورائش كل قانع، وراحم كل ضارع، منزل المنافع، والكتاب الجامع بالنور الساطع » (١) .

فلنتأمل هذه الفقرة، ولننظر كيف يعرّف الإمام الحسينعليه‌السلام ربه (عزّ وجلّ) بكلمات مضيئة تفيض توحيداً وإخلاصاً.

وأمّا عن كلامه في النبوّة والإمامة فيقولعليه‌السلام :« إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق … ومثلي لا يبايع مثله » (٢) .

ومن جملة كلامهعليه‌السلام في الموت قوله:« خُطّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة » (٣) .

____________________

(١) مفاتيح الجنان - دعاء الإمام الحسين يوم عرفة.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٥٥.

(٣) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٦٦.

١٧٢

٢ - تخريج الخطباء

إنّنا نمتلك - والحمد لله - حوزات علمية، وقد حافظت هذه الحوزات على استقلالها وحيويتها على مدى العصور، ولكن هذه الحوزات تخرّج العلماء والمراجع الكبار في الغالب، وعلينا أن نفتح إلى جانب هذه الحوزات أو داخلها تخصّص للخطباء؛ لكي يتلقّى الطالب في الحوزة دروس الخطابة.

٣ - إقامة المؤتمرات

إنّ شهر محرم هو بالنسبة إلينا الرأسمال الوحيد، فإذا لم نقم المجالس في شهر عاشوراء من كلِّ عام فسوف لا نمتلك برنامجاً للأعوام القادمة، فلماذا إذاً لا نقيم مؤتمرات للخطباء؛ كأن يجتمعوا قبيل حلول شهر محرم في كلِّ عام ليتبادلوا الأفكار والآراء بينهم بشأن تطوير المجالس الحسينيّة؟

٤ - دور المشرفين على الحسينيّات والمواكب

إنّ المشرفين على المجالس والحسينيّات والمواكب عليهم بدورهم أن يعقدوا الاجتماعات على مدار السنة؛ لكي يدرسوا ويصدروا القرارات بشأن بناء الحسينيّات، وجمع التبرعات، والإتيان بالخطباء الجدد الذين من شأنهم أن يسهموا في تزويد المسلمين بأفكار جديدة.

٥ - دور المثقّفين

وهنا اُوجّه كلامي إلى المثقفين، وأدعو كل واحد منهم إلى أن يبثّوا بين الناس من خلال كلماتهم وكتبهم ومقالاتهم كلَّ ما هو جديد ومفيد عن الثورة الحسينيّة.

١٧٣

ضرورة تطوير الأساليب

وعلى هذا فإنّ علينا أن نعمل جاهدين من أجل أن نطوّر أساليبنا من ناحية المحتوى، وهذه هي إحدى مسؤولياتنا الكبرى.

فمن المتعيّن علينا أن ندعو إلى المجالس الحسينيّة، وأن نحرص على أن يحضرها عدد كبير من الناس؛ وذلك من خلال تطوير الأساليب، وتزويد الشعائر الحسينيّة بالمحتوى الذي يجب أن يكون تجسيداً لمدرسة الحسينعليه‌السلام التي هي مدرسة القيم والتقوى.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ المجالس الحسينيّة يجب أن تكون اللسان المعبّر والناطق عن مشاكلنا وآلامنا وقضايانا، أي أن نُعطي لهذه الشعائر محتوىً حضارياً مرتبطاً بالزمان؛ ذلك لأن شيعة الحسينعليه‌السلام لا بدّ أن يسيروا في خطه، وأن يترجم الواحد منهم قوله إلى واقع عملي وهو يقف امام ضريحهعليه‌السلام ويردّد:« إنّي سِلمٌ لمن سالمكم، وحربٌ لمَن حاربكم، ووليٌّ لمَن والاكم، وعدوٌ لمَن عاداكم » (١) .

فنحن نسير في خطّهعليه‌السلام ، ونمثل تكتّلاً واحداً تحت رايته التي لا بدّ أن تقودنا إلى الجنة كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف:« أوسع الأبواب في القيامة باب أبي عبد الله الحسين » .

والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عاشوراء / ٤٥٧.

١٧٤

الفهرس

المقدّمة ٣

ذلكم الإمام الحسين عليه‌السلام.... ٦

الفصل الأوّل: على خطى الإمام الحسين عليه‌السلام.... ٩

الإمام الحسين عليه‌السلام منار التوحيد. ١١

١ - الإمام الحسين. ١١

٢ - الكلمة المسؤولة ١٩

٣ - القيادة الربانيّة ٢٠

٤ - المنهج الواضح. ٢٢

٥ - الاستقامة حتّى الشهادة أو النصر ٢٤

الإمام الحسين عليه‌السلام مشعل الهدى وسفينة الخلاص.. ٢٨

ألف: يوم الحسين. ٢٨

باء: رسالة عاشوراء ٣١

الإمام الحسين عليه‌السلام ضمير الاُمة ومسؤولية المستقبل. ٣٦

الضمير الناهض.. ٣٦

شهر محرم.. باب الرحمة ٣٨

العودة الى القرآن. ٤٠

الرؤية السليمة ٤٠

حصن الإيمان. ٤١

مسؤوليات اجتماعيّة ٤١

الإمام الحسين عليه‌السلام الشهيد الشاهد. ٤٤

كربلاء رمز المواجهة ٤٨

الإمام الحسين. ٥١

الإمام الحسين عليه‌السلام والتطوّر الحضاري للأمة ٦١

الإمام الحسين عليه‌السلام وسيلة النهوض الحضاري. ٦٦

١٧٥

الفصل الثاني: على نهج الإمام الحسين عليه‌السلام.... ٧١

الإمام الحسين عليه‌السلام آية العقل والعاطفة ٧٣

الإمام الحسين عليه‌السلام ضمانة الهدى والفلاح. ٨٤

الإمام الحسين. ٨٤

العودة إلى حقيقة الدين؛ رسالة الأنبياء ٨٥

حقائق الدين في القرآن. ٨٨

فرصة إصلاح النفس.. ٩٠

الإمام الحسين عليه‌السلام ومنهج البراءة من المشركين. ٩٢

الرفض بداية الإيمان. ٩٤

درس المسؤولية ٩٦

اتّباع القيادة الربانيّة ٩٧

اختيار المنهج السليم. ٩٨

الإمام الحسين عليه‌السلام محور حكمة الخلق، ومظهر تحدّي الطغيان. ١٠٠

الإمام الحسين. ١٠٠

الإرادة حكمة الخلق. ١٠١

كربلاء خلاصة بطولات التاريخ. ١٠٢

الشهادة كرامة عظيمة ١٠٣

ذعر الحكم الاُموي من الإمام الحسين. ١٠٤

الردّ الحاسم. ١٠٥

جرائم الحزب الاُموي. ١٠٦

الفتنة الكبرى. ١٠٧

الإعداد للثورة ١٠٩

سر عظمة الإمام الحسين عليه‌السلام.... ١١١

نظرات في عظمة الإمام الحسين. ١١٢

الخلوص والصفاء ١١٣

مأساة تستدر الدموع. ١١٦

١٧٦

الفصل الثالث: على هدى الإمام الحسين عليه‌السلام.... ١١٧

كربلاء البداية لا النهاية ١١٩

هل كانت فاجعة الطف الأليمة نهاية أم بداية؟ ١١٩

تكامل مسيرة التاريخ. ١٢٠

حملة الرسالة ١٢٤

حركات ذات بعدين. ١٢٦

أعلى درجات الإيمان. ١٢٦

الحزب الجاهلي والتحدي الرسالي. ١٣٠

إحدى صور المعاناة ١٣٠

لكلِّ قبيلةٍ صنم. ١٣١

عمل فريد من نوعه ١٣٢

صراع مبدئي. ١٣٤

ما هي مسؤوليتنا؟ ١٣٥

واقعة كربلاء ثورة مستمرة ١٣٧

لماذا الإمام الحسين عليه‌السلام مصباح الهدى. ١٤١

الإمام الحسين عليه‌السلام يدعوك لنصرته ١٤٩

الإمام الحسين. ١٤٩

هتاف الحسين مازال يدّوي. ١٥٠

معركة الحق والباطل تعيد نفسها ١٥١

بنو اُميّة يعودون إلى الحياة ١٥١

الصراع ما يزال متجدّداً ١٥٢

نحن ومحّرم ١٥٣

شهر محرم منعطف خطير. ١٥٤

ماذا نقدّم؟ ١٥٥

بين القول والفعل. ١٥٦

أين نحن من ولاية الإمام الحسين عليه‌السلام.... ١٥٨

١٧٧

مَن هو الإمام الحسين عليه‌السلام؟ ١٥٩

التقوى والورع شرط الولاية ١٦١

آفاق الولاية ١٦٤

مسؤولياتنا تجاه الولاية ١٦٦

الشعائر الحسينيّة اُسلوباً ومحتوىً. ١٦٨

سر خلود الثورة الحسينيّة ١٦٨

أهمّية المواكب الحسينيّة ١٦٩

الشعائر الحسينيّة والأنظمة الطاغوتيّة ١٧٠

تعظيم شعائر الله. ١٧١

١ - فهم شخصية الحسين. ١٧٢

٢ - تخريج الخطباء ١٧٣

٣ - إقامة المؤتمرات.. ١٧٣

٤ - دور المشرفين على الحسينيّات والمواكب.. ١٧٣

٥ - دور المثقّفين. ١٧٣

ضرورة تطوير الأساليب.. ١٧٤

١٧٨

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226