اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)25%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181791 / تحميل: 9325
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقد نُوقشت قضيّة رأس المال في بحوث مُتعدّدة، نذكر منها بحث البعّاج: (مغزى الحلقات المفرغة) الذي انتهى إلى أنّها وسيلة تضليليّة؛ لتسويغ بقاء تخلّف دول العجز في العالم المعاصر واستمراره (1) .

أمّا تدنّي إنتاجيّة العمل، فهو - كما يظهر مَن ولجَ هذا الموضوع - نتيجة لِما تقدّم من معايير، ولم تصمد التفسيرات السوسيولوجيّة بعَزو التخلّف إلى نمط الثقافة والدين والأنظمة الاجتماعيّة والفروق العنصريّة واللون، وتصنيف البشر إلى مجتمعات راكدة وأُخرى راكدة هجينة، إلاّ بمساسها بالمدخل الفكريّ؛ لتوضيح تصوّر الإسلام للمدخل السليم لتفسير التخلّف، وإلاّ فهي دراسات منحازة تضمّ بين جنباتها أغراضاً غير علميّة، وتحتوي على درجة من التعصّب ورمي شعوب العالم الثالث بعيب (الأدْنَويّة)، وتهدف إلى تقرير آراء عنصريّة تلصق التفوّق الطبيعيّ بعناصر وسلالات بشريّة في العالم (*) ، وهكذا لم تقف معايير المنظومة أمام التفسير الإسلاميّ للتخلّف.

ثانياً: التنمية

1 - التصوّر والإجرائيّة في النُظم الاقتصاديّة الوضعيّة المُعاصرة

لقد تعدّدت الزوايا التي ينظر الباحثون من خلالها إلى التّنمية.

فقد لاحظ بعضهم أنّها (الزيادة المُستمرّة في إنتاج الثروات الماديّة) (2) .

ولاحظ آخرون أنّها عمليّة زيادة الدَخل الفرديّ أو الإنتاج الاجتماعيّ، وقد اعترض على ذلك عونار ميردال (3) .

ويلاحظ هانسن ( Hansen ) ارتباط التنمية بالعلاقات الدوليّة.

ويربطها اسمان بالتحوّلات الحضاريّة للدول الأقلّ تصنيعاً من الاقتصاد الرعويّ أو الزراعيّ إلى التنظيم الصناعيّ للأنشطة الاقتصاديّة.

____________________

(*) وقد تخطّى البحث تفسير التخلّف باستعمال منهجيّة المراحل خشية التطويل، كما جاء عند الألمان والأمريكان، مثل نظريّة والت روستو.

(1) البعّاج، اُنظر كذلك حتى التفسير الماركسي عند ( Nurkse )، أو ( Lebenshtin Ianger ) الذي يركّز على ضرورة التراكم.

(2) س. كوزيتتس.

(3) تحليل بالدوين (مبير)، اُنظر: ميردال في نقد النموّ، ترجمة عيسى عصفور، سوريا، 1980م.

٢١

أمّا (فريد ويكسر)، فيراها عمليّة شموليّة بأبعاد مُختلفة.

وركّز (حجبر) على أنّها إطلاق قوى مُعيّنة خلال مدّة زمنيّة طويلة نسبيّاً تُحدث زيادة في الدخل أكبر من زيادة السكّان.

هذه الرّؤى تدور حول محورين هما: العلاقات المورديّة، وانخفاض متوسّط الدخل الفرديّ.

وقد توصّل عدد من الباحثين إلى وضع اليد على خطأ منهجيّ صاحَب تلك الدراسات على مدى نصف قرن؛ وهو أنّها تفصل بين الجوانب الاقتصاديّة والإطار الاجتماعيّ والدوافع العقائديّة؛ لتحسين هذا الإطار وتكييفه، بلحاظ توزيع إمكانات النموّ وثماره (1) .

كما توصّلوا إلى ضرورة التفريق بين مفاهيم النموّ ( Growth )، ومفهوم التنمية ( Development )، ومفهوم التحديث ( Modernization ). ولوحظ أنّ تلك الدراسات ركّزت على النموّ؛ متأثّرة بالتدرّج التاريخيّ لتطوّره من خلال أفكار مُجتهدي المدرسة الاقتصاديّة الكلاسيكيّة، فقد ظهرت مقولات النموّ عند سمث ( Sm i th ) من أفكاره في تقسيم العمل وتقرير حقّ الفرد المُطلق، بوصفه أساساً لتطوّر ثروة الأُمم، وتأكيداته على التوازن الآلي بين تأثيرات العرْض والطلب على السوق، فأعطاه دور المعيار في ماذا يُنتج؟ ولمَن؟ وافتراضات المدرسة بصيرورة كلّ اقتصاد لدرجة التشغيل وتطويره، ومن ثَمّ تحقّق الكفاءة الإنتاجيّة، وتطوّر المعدّات، وتعظيم الادّخارات؛ لتوسيع حجم السوق الداخليّة والخارجيّة، وتأكيداته على تراكميّة النموّ.

وهكذا تطوّرت مفهومات النموّ عند (ريكاردو) في نظريّته في التوزيع الوظيفيّ على العناصر المساهمة في الإنتاج، بالتركيز على مقولة العمل ونظريّته في الرَيع التفاضليّ، وبظهور (مارشال) ظهرت أفكار ومتغيّرات جديدة دخلت في محاور دراسة النموّ، مثل التطوّرات الفنّية والاندماج، ونظريّة الوفورات وأثرها على تقليل الكُلَف وتطوير المهارات.

____________________

(1) اُنظر: النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل، ص: 16 و17.

٢٢

وبَرز الجانب المذهبي للرأسماليّة في أفكار (شومبيز) في آرائه في النُظم، وأثره في إحداث النموّ، حتى ظهرت الكينزيّة التي انحاز تحت ظلّها العلميّ محرّك النموّ إلى جانب الطلب بما يبرز أثر الركود العالميّ (1930م)، فأدخلت تعديلات هامّة على دراسة النموّ في ظلّ التفكير الليبرالي، فطالبت بإعطاء الدولة دوراً في التطوير، وتعكّزت على التوزيع وإعادة التوزيع؛ لتنشيط أثر الاستهلاك بغية إيجاد الطلب الفعّال بوصفه مطوّراً للإنتاج.

إنّ الخيط الذي يربط هذا العرض السريع لتطوّر دراسات النموّ الاقتصاديّ، خلال قرنين من الزمن، يُمكن وصفه بأنّ التنمية في ظلّ الاتّجاه الفرديّ ظلّت عمليّة إبداعات الأفراد لتحقيق الرخاء المادّي، أي أنّ تصوّر الليبراليّة للمشكلة الاقتصاديّة دعاها إلى تكليف كلّ فرد بحلّ هذه المشكلة بجهده ونشاطه، وعلى النطاق الجزئيّ، وبجمْع هذه الجهود سيصار إلى تذليل آثار المشكلة في مجمل الاقتصاد القوميّ، بينما ظلّت الآثار التي تسهم فيها قوانين التوزيع في إحداث وتائر النموّ أو تسريعه مهملة، ما عدا تعديلات طفيفة ظهرت في الفكر الكينزي، لم تلبث أن تلاشت وسط الإهمال الذي تفرضه النظريّة برمّتها في فرض قيود معيّنة على الفرد حين يتصرّف تصرّفاً مطلقاً بالثروة والدخل.

  لذلك فإنّ المقياس الذي تُقاس به التنمية، والذي ينسجم مع النسيج النظريّ الليبراليّ في تصوّر النموّ، هو حجم الثورة الكليّة المُتحصّلة للمجتمع خلال مدّة زمنيّة مُعيّنة. وعليه، فقد اعتمد حجم الدخل القوميّ، مقدار الدخل الفرديّ الحقيقيّ، أو حجم التراكم الرأسمالي لسنة الأساس وآثاره ونسب ارتفاعاته، مقاييس في تصنيف المجموعـات البشريّـة (1) .

إلاّ أنّ ذلك الفصل المُتعمّد عن الجوانب غير الاقتصاديّة في التصوّر، قد برز بعد التنفيذ في الشطر الغربيّ من الأرض، عبّر عنه صراحة روستو ( Rosstow ) بوصفه لمرحلة الاستهلاك الوفير القائل: إنّ هذه المرحلة جعلت المواطن الأمريكيّ يطرح على ذاته أسئلة لا تمسّ مسألة النموّ، إنّما تشخّص حالة الفراغ

____________________

(1) اُنظر: د. العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م، ص: 71 - 77. مقياس جير الدماير، بالدوين.

٢٣

الذي انتاب المجتمع بعد تحقيقه لمرحلة الرفاهية ( Economic Welfare )، وظهرت في تردّد الأمريكي في الإجابة عن أسئلةٍ مثل: هل يزداد الإنجاب؟ هل يرحل إلى الكواكب الأُخرى؟ هل يجعل العطلة الأسبوعيّة ثلاثة أيّام؟ هل يعود إلى القيَم الروحيّة؟ (1) .

نستطيع القول ممّا تقدّم:

أ - إنّ النصّ الذي عبّر فيه روستو عن الإحساسات الجماعيّة، لِما بعد النموّ، يشير بوضوح إلى أنّ التنمية الغربيّة تتوقّف عند غاية الرفاهية، عند تحقيق الجانب المادّي للحياة.

ب - إنّ التنمية الغربيّة قامت على أساس الضغط على الجانب الإنسانيّ، تجلّى ذلك في تحديد الإنجاب، وعلى الجانب الروحيّ للإنسان الغربيّ في إعراضه عن القيم الروحيّة، وفي تكثيف العمل الأسبوعيّ، إذ إنّ إنقاص ساعات العمل بالشكل المطلق يعني، عِبر زيادة إنتاجيّة العمل وحصيلة التقدّم الفنّي والتكنولوجيّ، زيادة في استغلال جهد إنسانيّ أكبر بالمفهوم النسبيّ (*) .

جـ - إنّ القوّة المادّية المُتحصّلة من التنمية دفَعته إلى بواعث عدوانيّة، وسيطرة جنونيّة على الكون.

2 - التنمية في تصوّر المذهبيّة الاشتراكية (الجماعيّة)

إنّ المُتسالم عليه عند الباحثين أنّ مقولات التنمية قد وجدت تنظيرات ونضجاً في ظلّ التفكير الاشتراكيّ للمشكلة الاقتصاديّة، بينما حظي النموّ ( Grwoth ) بالقسط الأوفر في التفكير الاقتصاديّ الليبرالي.

وبصرف النظر عن الأساس النظريّ والواقع التاريخيّ لهذه المُسلّمة، فإنّ النتيجة الحتميّة للتطوّر الاقتصاديّ في العالم الشرقيّ تتمثّل في أنّ الفكر

____________________

(*) ولست أظنّ القارئ يطالب هنا بالدليل أو المصداق، وإن كان الأمر لصيق بالجانب السياسيّ للنموّ الذي يعرض عنه بحثنا؛ لأنّه في صدد تقويم العناصر الفنّية.

(1) روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، 1977م.

٢٤

الذي يقف خلفه حاول جادّاً إحداث تحوّلات هيكليّة من خلال الاستثمارات العامّة، باستخدام التخطيط الشامل ( Centralized Economic Planning )، بما يؤدّي إلى تكوين قاعدة استقطاب للموارد المتاحة كافّة.

وبأُسلوب التوزيع المركزيّ للدخل، وفق قاعدة (كلّ حسب عمله)، دفع النشاط العامّ إلى تحقيق تزايد مُنتظم في متوسّط الإنتاجيّة للفرد، وبالتالي في قدرات المجتمع، مستهدفاً - كما تشير أدبيّات التنمية - إلى توفير الحاجات الأساسيّة وفق مبدأ يتمثّل في (إحداث التغييرات الجذريّة في علاقات وقوى الإنتاج، ومن ثَمّ في البنيان الثقافيّ الملائم معها) (1) .

وعليه، اعتمد ذلك التطبيق مسألة الملكيّة الاجتماعيّة، وخوّل الدولة صلاحية تنظيم الإنتاج وتخطيطه مركزيّاً، وتوزيع عوائده بموازنة صارمة بين الاستهلاك الضروريّ والتراكم المخصّص؛ لتوسيع قاعدة الإنماء عموديّاً وأفقيّاً. وقد اعتمدت السياسة الاقتصاديّة القائمة على أساس ذلك الفكر على المناورة في انخفاض حجم الاستهلاك ورفعه لصالح التراكم؛ تمشّياً مع الأهداف البعيدة والمتوسّطة والقصيرة للتخطيط الاقتصاديّ، مع الأخذ بالحسبان الاعتبارات السياسيّة في المراحل المختلفة. ويلاحظ الباحثون أنّ الفكر الماركسيّ جعل الباعث على إحداث النموّ الاقتصاديّ مواجهة جماعيّة بقيادة الدولة في الغالب للمشكلة الاقتصاديّة، بحيث صارت التنمية بالأساس مسؤوليّة الدولة، وحقّ الفرد عليها لتحقيق ذلك السداد المقبول لحاجاته الأساسيّة، وبسدادها تتجدّد قوى الإنتاج، ويستمرّ النموّ الاقتصاديّ (2) .

وهذا يتيح لنا القول: إنّ مفهوم التنمية - كما يراه أصحاب هذا الاتّجاه - ينزع إلى الربط الجدليّ بين الإنتاج والتوزيع، بعلاقة تأثير متبادلة بينهما، وتسخير الثاني - التوزيع - لمصلحة الإنتاج، وتجديده وتحقيق تراكم مناسب، سواء بالضغط على مستوى الأُجور الفعليّة، أمْ على مستويات الاستهلاك، فضلاً عن تحديد لوسائل الإنتاج.

____________________

(1) اُنظر في هذا الصدد:

د. الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت، 1984م، ص: 70.

د. محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، ص: 210.

د. عبد الله (إسماعيل صبري)، نحو نظام عالمي، ص: 220.

د. مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

(2) عبد الله (إسماعيل صبري)، (م. س.)، ص: 220.

مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

٢٥

3 - مفهوم التّنمية في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ

إنّ المُنطلق الذي ينطلق منه تحديد مفهوم الإسلام للتنمية هو: كيف يرى الإسلام المشكلة الاقتصاديّة؟ وما هو الحلّ الذي قدّمه لها؟

  إنّ التصوّر الإسلاميّ يُسلّم أوّلاً بأنّ الموارد المبثوثة في الكون هي من الوفرة بحيث تغطّي الحاجات القائمة والمفترض قيامها عموديّاً وأُفقيّاً إلى يوم القيامة. وهذه الحقيقة إحدى مُعطيات القرآن الكريـم، ولـه فيها دلالـة واضحـة (1) :

( وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) [إبراهيم: 34] (2) . ويقف الإسلام إزاء هذه المُسلّمة موقف المحرّض بالوسائل العقائديّة والأخلاقية، ومستخدماً القانون المحرّض على العمل واستثمار هذه الموارد.

إنّ النّدرة المعترف بها في الإسلام هي ندرة الطيّبات، (أي السِلع والخدمات المبذول عليها عمل يكيّفها لإشباع الحاجات) (3) .

لذلك فإنّ الجُهد الإنسانيّ هو الكفيل والمسؤول في آنٍ واحد في إحداث وفرة الطيّبات، بينما لا توكل التنمية في الفكر الليبرالي، بقولها بندرة الموارد، إلى الجهد الإنسانيّ وحده، وحيث إنّ الإنسان مأمور بسدّ مُتطلّباته للتوصّل إلى تحصيل قدرته على العبادة بالمعنى الأخصّ، ومأمور بعمارة الأرض لقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود:61]، وحيثيّات كهذه تشير إلى أنّ العمل والإنتاج ليسا ردود فعل للحاجة الإنسانيّة، أو استجابة لها بقدَر ما هما حُكم شرعيّ ينظّم الاستجابة الإنسانيّة لتحدّي الحاجة.

نخلص من ذلك إلى القول: إنّ الركن الأوّل في مفهوم التنمية في الإسلام هو الضرورة الشرعيّة للإنتاج، واستخدام أقصى الطاقات البشريّة فيه، ولمّا كان الإنسان هو حلقة الوصل أو محلّ الارتباط في تبادل التأثير بين كفاية التوزيع، وتحقّق القدرة على الأداء الإنتاجيّ، فقد احتلّ التوزيع الركنيّة الثانية في مفهوم الإسلام للتنمية؛ ذلك أنّ التوزيع الإسلاميّ للثروة والدخل قائم على معيارَي العمل والحاجة، وهنا يسهم التوزيع في مساعدة القوى الإنتاجيّة على الحركة الفعّالة

____________________

(1) اُنظر: الكُبيسي (أحمد عواد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد، ص: 82 و83.

(2) اُنظر آيات الكتاب الكريم: [إبراهيم: 32 - 34].

(3) د. صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ مفاهيم ومُرتكزات، دار النهضة العربية - القاهرة، ط1، 1988م، ص: 23 و24.

٢٦

في إعطائها القوّة المادّية، وتسهم المُسلّمات العقائديّة والأحكام التكليفيّة في إعطاء تلك القوى الدفع الروحيّ المعنويّ.

ما يرتّب، في فهْم التصوّر الإسلاميّ للتنمية، أنّ لها ركنين هما: عدالة التوزيع والإمكانات المادّية، وعدالة توزيع ثمار النموّ لأجل إنتاج يتطلّع إلى عمارة الأرض.

لأجل ذلك كلّه فمفهوم الإسلام للتنمية مفهوم شموليّ لا يُؤكّد على جانب العرض (الإنتاج)، كما هو دأب المدرسة الكلاسيكيّة، ولا يتركّز في جانب التوزيع هدفاً، كما في الماركسيّة، إنّما يجمع بينهما في توليفة متوازنة لإنتاج مفهوم شموليّ للتنمية، ينتج عنه أنّ أُسلوب الإسلام في الإنماء لا يصاب بسوء التوزيع، كما هو محور الكُلفة الاجتماعيّة للتنمية الرأسماليّة، ولا بهبوط الإنتاج كمّاً أو نوعاً، كما هو محور الكُلفة في التنمية الماركسيّة، فضلاً من التأثير السلبيّ لكلّ من هذه النقائص على الركن الآخر.

من ذلك كلّه يستطيع الباحث أن يوجز بعض مفاصل الفهْم الإسلاميّ للتنمية، وعلى الوجه الآتي:

أ - إنّ الإنتاج مسؤوليّة شرعيّة يترتّب التخلّي عنها جزاءات قانونيّة في الدنيا والآخرة.

ب - الامتثال لهذه المسؤوليّة بوصفها حُكماً شرعيّاً عينيّاً يجعل مفاصل الإنتاج مُتعدّدة، فيها الفرد والمجتمع والدولة.

جـ - يجعل الإسلام للعمل مكافأة مادّية وروحيّة، المادّية بشرعيّة الملكيّة، والروحيّة بأجر الامتثال للحكم الشرعيّ.

د - إنّ النمط التوزيعيّ يُهيّئ جميع قوّة العمل المُتاحة للإسهام بالإنماء الاقتصاديّ، طالما ضمِن لأفرادها حدّ الكفاية.

هـ - إنّ غاية التنمية في الإسلام تتخطّى مرحلة زيادة الثروة القوميّة، ومرحلة إشباع الحاجات المادّية فقط، إنّها تضمّ هاتين المرحلتين وتُسخّرهما معاً لهدف أسمى، وهو تسهيل أمر العبوديّة لله تعالى (1) .

____________________

(1) اُنظر في تفصيلات هذه الخصائص:

النجّار (عبد الهادي علي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة المعرفة، الكويت، ص: 75.

العلي (أحمد بويهي)، التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة ومستوى المعيشة، مجلّة البحوث الإدارية - بغداد، العدد الأوّل، ك2، 1978م، ص: 145.

٢٧

4 - أدلّة الوجوب المُستفادة مِن الكتاب الكريم

لقد مرّ بنا الاستدلال بقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود: 61]. وقد جاء في تفسيرها عن الجصّاص قوله:

((استعمركم): أي أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية) (1) .

وجاء في الميزان: (المراد بالاستعمار هُنا الطلب الإلهيّ من الإنسان المُستخلَف أن يجعل الأرض عامرة؛ لكي ينتفع بها، بما يطلب من فوائدها) (2) .

وقد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30]، ومهام خلافة الله في الأرض، كما يرى المفسّرون: (إقامة الحقّ وعمارة الأرض) (3) . وهناك استدلالات أُخرى تُنظر في مظانّها من الكتاب والسنّة والقواعد الفقهيّة وتطبيقات عصر الراشدين (4) .

5 - فلسفة الاستخلاف ومفهوم التنمية في الفِكر الإسلاميّ

ترتكز جميع النُظم الاقتصاديّة في العالم على أساس نظريّ يقرّر نمط التعامل مع طبيعة التصرّف بالثروة والدخل، فيقوم النظام الفرديّ على أساس الحقّ الفرديّ المُطلق للفرد بموجب حصّته من العمل، في أيّ ظروف كانت في الاستحواذ على جزء من الثروة القوميّة، والتصرّف المطلق بالدخل الناتج عن العمل فيها. ويقوم النظام الجماعي على أساس عدم أحقّية الفرد في تملّك وسائل الإنتاج غالباً، ويقرّ التخطيط الشامل للأجر والأسعار طبيعة التصرّف بالدخل، وفق مُتغيّرات ودَوال يعتمدها ذلك التخطيط.

أمّا بالنسبة للتصوّر الإسلامي، فكيف يرسم طبيعة التصرّف بالملكيّة؟

لتوضيح طبيعة التصرّف لا بدّ من عرض القوانين المركزيّة في مذهبيّة الاستخلاف: إنّ الشريعة الإسلاميّة تقرّر ابتداءً أنّ الملكيّة الحقيقيّة لله تعالى، ونمط العلاقة بين الخالق والكون علاقة ملك تامّ وحقيقيّ، فيه أعلى درجات

____________________

(1) الجصّاص، أحكام القرآن: 3/165.

(2) طباطبائي (محمد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي - بيروت، ط 2: 10/310.

اُنظر: الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، مطبعة دار الفكر: 12/178.

(3) الطبرسي، (م. س.): 1/ 74.

البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد: 1/135.

(4) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س.)، ص: 75 - 81.

٢٨

الاختصاص، يظهر ذلك من قوله تعالى: ( للّهِ‏ِ مُلْكُ السّموَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) [المائدة: 120].

قال المفسّرون: إنّ معنى الآية: (لله ملك السماوات والأرض دون كلّ مَن سواه لقدرته عليه وحده)، وقيل: (إنّ هذا جواب لسؤال مُضمر في الكلام، كأنّه قيل: مَن يُعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السماوات والأرض).

فهو يقدر على المعدومات بأن يوجدها، وعلى الموجودات بأن يعدمها (1) ؛ وبناءً على ذلك، فإنّ مطلق الموارد والطاقات والسلع الحرّة والاقتصاديّة تدخل في طبيعة هذا المِلك.

وأهمّ ثمرة تكمن وراء تقرير هذه الحقيقة انتفاء الملكيّة الحقيقيّة الأصليّة للإنسان، فالإنسان، مِن حيث كونه غير موجِد وغير مُدبّر لديمومة الموارد والطاقات، لا يصحّ اعتباره مالكاً؛ لأنّه ليس سبباً للإيجاد والتدبير، إلاّ أنّ الله تعالى أوكَل للإنسان حقّاً في استثمار الموارد المُتاحة في الكون وإعمار الأرض، والانتفاع بتلك الموارد وفق نيابة مشروطة، واختباراً له في طريقة التعامل مع هذه النيابة، كما حدّدتها الشريعة، ويدلّ على هذا القانون قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30].

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) [الأعراف: 10]. قال الطبرسي: (التمكين من التصرّف فيها، والمعايش: أنواع الرزق ووجوه النِعم، وقيل: المكاسب والإقدار عليها بالعلم والقدرة والآلات. ومع كلّ هذه النِعم قلّ شكرُكم) (2) ؛ أي بعدم التزامكم بضوابط الاستخلاف...

وأخيراً، فإنّ القانون الثالث للاستخلاف هو أنّ الله القادر جعل هذه الموارد قابلة لتقديم المعطيات للإنسان، وأنّها وضعت مهيّأة للانتفاع بها إذا ما مارس الإنسان عليها جُهداً، فهي ليست عصيّة على مَن استخلفه الله، يدلّ

____________________

(1) اُنظر: الطبرسي، (م. س.) 3/270.

(2) الطبرسي، (م. ن): 4: 400.

٢٩

على ذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان: 20].

قال الطبرسي: ( مَا فِي السَّمَوَاتِ ) : أي الشمس والقمر والنجوم، الفضاء كلّه مُسخّر للإنسان، وما في الأرض من الحيوان والنبات وغير ذلك، ممّا تنتفعون به وتتصرّفون فيه بحسب ما تريدون.

( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ، يقصد بالظاهرة: ما يُمكّنكم جهدكم من خلْقِه وإحيائه سلعاً نافعاً، خلَق القدرة فيكم على العمل، وخلَق الشهوة فيكم؛ أي خلق الرغبة في العمل.

أمّا الباطنة: فالتي لا يعرفها إلاّ مَن أمعن النظر فيها (1) ؛ أي الموارد المكتشفة باستخدام العلم والمعرفة، والتي تبقى محجوبة عن الإنتاج ما لم يتحرَّها الإنسان بسلطان القدرة العلميّة والعمليّة.

6 - النتائج ذات العلاقة بالتنمية

أ - يترتّب على القانون الأوّل: نفي الملكيّة الحقيقيّة عن الإنسان، إنّما جُلّ الأمر تمكينه بوساطة الحُكم الشرعي للحيازة والانتفاع بالموارد لفرد أو مجموعة، أو للأمّة على اختلاف في الشكل واتّحاد في المُحتوى.

ب - الحيازة بموجب تلكم مفتوحة، فلا تمييز لطبقة النُبلاء؛ لأنّ الوسائل الشرعيّة للحيازة عامّة للجميع، وأهمّ الوسائل ضرورة العَمل، واعتباره الشرعي سبباً للمعاوضة المُنتجة للملكيّة.

وبهذا تشكّل الملكيّة، في منطق هذه القوانين، (حكماً شرعيّاً قدّر وجوده في عينٍ أو منفعة، يقتضي - ذلك الحُكم - تمكين مَن أُضيف إليه انتفاعه بالعين أو المنفعة أو الاعتياض عنها، ما لم يوجد مانع من ذلك) (2) .

جـ - لمّا كان الحُكم الشرعيّ سبباً للملكيّة (حيازةً أو انتفاعاً) دائميّاً، فإنّ انتهاك السبب يعني فساد النتيجة المُترتّبة عليه.

____________________

(1) الطبرسي، (م. ن): 8/320.

(2) القرافي (شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن)، الفروق، دار إحياء الكتب العربيّة: 3/308.

٣٠

د - العلاقة بين الإنسان (المُستخلف) وبين الموارد، ليست علاقة صراع أساسه الندرة، بل علاقة تكامليّة بين الموارد الكافية والمُسخّرة، والتكليف الإلهيّ للإنسان بالعمل وعمارة الأرض.

أي أنّ كلّ جزء من مخلوقات الله يؤدّي دوراً في عمليّة الإعمار، وكلّ هذه الأدوار يكمّل بعضها بعضاً، متّجهة نحو هدف واحد هو إعمار الأرض، وتحسين مستوى الحياة لأغراض تسيير عبادة الله تعالى.

هـ - لمّا كان الإنسان في اعتبار التصوّر الشامل في الإسلام للتنمية هو المستفيد الوحيد من التسخير والاستخلاف، فإنّه يتوجّب عليه ولوج الحياة بكلّ فاعليّة وإيجابيّة، فتعطيل الموارد بعدم الاستخدام أو سوء الاستخدام يُسبّب مناط الحكم أو علّته بسحب الحقّ (1) ، ولأشكال الاستخلاف علاقة خاصّة بالتنمية تشكّل لها حافزاً إيجابيّاً مؤثّراً (2) .

فالأُصول المذهبيّة للاقتصاد الإسلاميّ، إذن، ثلاثة:

1 - الملكيّة: ملكيّة الموارد المادّية والبشريّة، الطبيعة والإنسان، هي لله عزّ وجلّ.

2 - الاستخلاف: هو إنابة المالك لعباده من البشر حيازة تلك الموارد والاختصاص بها.

3 - التسخير: من حيث إنّ الموارد الطبيعيّة، بعوالمها الثلاثة: النباتيّ والحيوانيّ والمعدنيّ، المكتشفة حاليّاً والتي لم تُكتشف بعد، مُسخّرة لهؤلاء البشر.

وتتجسّد وحدة القوانين المركزيّة الثلاثة هذه في مهمّة عمارة الأرض؛ باعتبارها التكليف الشرعيّ للإنسان، الغاية منه إنتاج المستلزمات المادّية الضروريّة له لتأديته مهمّة عبادة الخالق تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].

____________________

(1) اُنظر: السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام، رسالة ماجستير مقدّمة إلى كلّية الإدارة والاقتصاد، رونيو 88، جامعة بغداد، 1985م.

محمود محمّد بابللي، السوق الإسلاميّة المشتركة، ص: 40.

د. الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، دار المعرفة، ص: 39.

(2) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س)، ص: 101.

٣١

ثالثاً: العمل الإنسانيّ وأقسام الحُكم التكليفي

العمل: هو الجُهد البشريّ المنظّم بمجموعة من الوسائل، بمستوى معيّن من التقنيّة والتكنولوجيا، المُستهدف تحويل الموارد المُتاحة (السلع الحرّة) إلى سلع اقتصاديّة، بأن يضيف إليها قيمة أي كمّية عمل معيّنة.

ونسْب العمل إلى الإنسان؛ باعتباره ينتج من عمليّات عقليّة مستعيناً بالتقنيّة، ولكونه جهداً هادفاً إلى غاية اقتصادية.

ما حكم العمل في الشريعة الإسلاميّة؟ وهل يمكن الاستدلال بالقرآن الكريم، وبخاصّةٍ الآيات الدالّة على العمل، إشارةً إلى العمل الدنيويّ، أو نتوقّف فيه على ما توقّف عليه أغلب المفسّرين مِن أنّ المُراد القرآني، وفقاً للظهور، وهو حجّة عند الأصوليّين على العمل العبادي بالمعنى الأخص بمصاديق ظاهرة، كإقامة الصلاة والصوم والحجّ... إلخ؟ أو نقطع بالقول: إنّه كلّ جهد اقترن بالباعث الذي يتّجه نحو تحصيل مرضاة الله تعالى؟ أي لا يعدّ العمل جهداً شرعيّاً يدخل ضمن موضوع الحُكم التكليفي، إلاّ إذا اقترن بالنيّة.

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من التفريق بين مقولة العمل في الفكر الوضعيّ وبين مقولته في الفكر الإسلامـيّ.

فهو في الوضعيّ: (الجُهد البدني أو العقليّ الذي ينزل في مجالات النشاط الاقتصاديّ لغرض الكسب) (1) .

أمّا في الفكر الإسلامي: فهناك - إضافة لما تقدّم - قيد يلحق هذا المفهوم، وهو الجهد المبرّر شرعاً، أي المُنسجم مع أحكام الشريعة.

يرى ابن كثير أنّ الحلال مِن الكسب هو عون على العمل الصالح (2) ، بما يشير إلى أنّ الشريعة ترى العمل مقدّمة للكسب الحلال (3) .

____________________

(1) السعيد (صادق مهدي)، اقتصاد وتشريع العمل، بغداد، مطبعة المعارف، ط4، 1969م، ص: 10.

(2) ابن كثير (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل)، تفسير القرآن، دار الأندلس - بيروت، ط1، 1385م: 5/22.

(3) على أنّنا هنا لا نحكم على المقدّمة حُكماً أُصوليّاً؛ لأنّ في مقدّمات الوجوب والواجب، خلافاً أُصوليّاً مُتشعّباً. لا يُريد الباحث استعراضه هُنا أو الحُكم باتّخاذ القاعدة طريقاً للاستنباط؛ لأنّ ما تطرّق إليه الخلاف لا يصحّ به الاحتجاج القطعيّ. اُنظر: عليان (رشدي)، العقل عند الشيعة، مطبعة دار السلام - بغداد، ط1، 1973 م، ص: 440.

٣٢

إنّ العمل الذي يعترف به القرآن هو العمل الصالح، وهو الجُهد الاقتصاديّ الذي يبذل في إنتاج السِلع والخدمات المسموح بها شرعاً، ولإشباع الحاجات المعتبرة والمُعترف بها مِن قِبَل الشرع كذلك (1) .

وقد أشارت السنّة إلى ذلك بعدد من الأحاديث نذكر منها:

قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ مِن الذنوب ما لا تكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحجّ ولا العمرة)، قالوا: فما يكفّرها يا رسول الله؟ قال: (الهموم في طلب المعيشة).

وقوله: (مَن أمسى كالاًّ مِن عمل يده أمسى مغفوراً له) (2) .

إنّ هذا الحثّ - كما يراه الأُصوليّون - لا يخرج عن الإباحة أو الاستحباب، وكذلك لا يخرج الحثّ عليه في آيات سورة الجمعة (3) عن الإباحة والرُخصة والإذن، وهذا هو الأمر المستعمل فيه (4) .

والأمر منوط هنا بأنّ بعض المسلمين توهّم، في بدء الرسالة، بأنّ العمل أيّام الحجّ محظور، فأزال الله هذا الوهْم بالإباحة التي لا تتنافى مع الإخلاص في أعمال الحجّ، فإذا انتقلنا إلى تعريف الحُكم التكليفي: (الاعتبار الشرعيّ المتعلّق بأفعال العباد تعلّقاً مُباشر) (5) ، سيظهر أنّ لموضوع العمل نظريّتين هما: الكلّية والفرديّة. وقد أجمع جمهور الأُصوليّين من المسلمين - ما عدا أُصوليي الحنفيّة - على تقسيم الحُكم التكليفي إلى: الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهية، الحُرمة.

فيُراد بالوجوب: الإلزام بالفعل، مع عدم الترخيص بالترك إلاّ لضرورة مُعتبرة شرعاً، وينطبق على هذا ما كانت الأُمّة بحاجة إليه حاجّة ماسّة.

ويراد بالندب: ما دعا الشارع إلى فعله، ولم يُلزم به، فهو المستحب مِن الأعمال، كالأعمال التي تتوقّف عليها حاجات الأُمّة التحسينيّة.

أمّا الإباحة: فإنّها تشمل الأعمال التي تكمل وتزيد نمط الحياة جمالاً وسعةً، والحاجات الكماليّة المبرّرة الخالية من الإسراف والتبذير.

ويدخل في الكراهة ما كان طريقاً إلى محرّم، أو كانت مفاسده أكثر من

____________________

(1) اُنظر: سيله (عبد الرحمان)، الأسعار في الفكر الاقتصاديّ، رسالة ماجستير، رونيو، ص: 58 و59.

(2) اُنظر: الهيثمي (نور الدين علي)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 4/64.

(3) اُنظر الآية 10 من السورة.

(4) اُنظر: الطوسي (أبو جعفر محمّد بن الحسن)، في تفسير التبيان، تحقيق أحمد حبيب القصير، الأعلمي - بيروت، مجلّد 10، ص: 9.

(5) اُنظر: مباحث الحُكم عند الأُصوليين: 1/55، الإحكام في أُصول الأحكام، للآمدي: 1/49.

٣٣

محاسنه مِن الجانب العملي.

  إنّ الذي عليه المسلمون يتمثّل في أنّ الأوامر والنواهي وليدتا المصالح والمفاسد، وحيث أنّ النهي عن الشيء لا يستلزم الأمر بحرمة تركه على الفرد من حيث هو فرد، ولمّا كانت الذمّة الفرديّة مشغولة بتحقّق النتائج، فإنّ الأسباب لا تعدّ من الأحكام التكليفيّة لإمكان اندراجها ضمن الحكم الوضعيّ، كالشرط والسبب. ولقد أنكر صاحب (الكفاية) كون الشرط أو السبب قابلاً للجعل الشرعيّ؛ لأنّه مجعولٌ بالتكوين، وهذا ما تُشير إليه فلسفة الاستخلاف.

إذ ربّما يكون العمل اختياريّاً بالنسبة للإنسان؛ ولذلك تبقى الترغيبات مُتوفّرة على تحسين الفاعليّة بخفض التكاليف، والإتقان، ويربط العمل بالنيّة؛ لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الساعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله) (1) . فإنّ مفاصل السياسة الاقتصاديّة التي تتوفّر غالباً على مجال الإباحة قد ترفع العمل إلى مصاف الوجوب أو إلى الكراهة، ونادراً إلى الحرمة، إضافةً إلى العناوين الأوّليّة في حرمة العمل المُنتج لسلعة مُحرّمة (2) .

وهذه هي النقلة الثانية لمُناقشة مقولة العمل على مستوى الاقتصاد الكلّي ( Macro )، ذلك أنّ العمل البشريّ هو التكليف الشرعيّ للإنسان بوصفه المقدّمة العقليّة لتحصيل أسباب ديمومة العيش، فلا يدخل من حيث كونه مفردة منحلة إلى الفرد ضمن الحكم التكليفي، كإقامة الصلاة باعتبارها ليست مقدّمة؛ إذ هي نتيجة العمل وترتّب نتائجه.

إنّ الذي حدّدته الشريعة هو: أنّ العمل الذي يرضى عنه الباري: هو الجُهد الذي يسهم في تحصيل المَنفعة الشاملة للمُستخلف، باتّجاه عمارة الحياة والكون، بوصف هذا التكليف عمليّة شرعيّة كلّية أمَر بها القرآن في غير موضع.

____________________

(1) اُنظر الترمذي، صحيح الترمذي، ط1، 1934م، ص: 146.

(2) مكاسب الشيخ الأنصاري، 1/15.

٣٤

٣٥

المصادر

- القرآن الكريم.

1 - الأنصاري (مرتضى)، المكاسب، منشورات جامعة النجف الدينيّة - النجف.

2 - بانللي (محمود محمّد)، السوق الإسلاميّة المُشتركة، دار الكتاب اللبناني - بيروت، ط1، 1975م.

3 - البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد - مصر، جـ 1، ب. ن.

4 - الجصّاص، أحكام القرآن، دار الكتاب العربي - بيروت.

5 - الحسب (فاضل عبّاس)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، عالم المعرفة - بيروت، 1981م.

6 - روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، ب. ن، 1977م.

7 - السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعيّ في الإسلام، رسالة ماجستير، كلّية الإدارة والاقتصاد - جامعة بغداد، نيسان 1985م.

8 - صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ، مفاهيم ومرتكزات، القاهرة، ب. ن.

٣٦

9 - الطباطبائي (محمّد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، الأعلمي - بيروت، 1973م.

10 - الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، شركة المعارف الإسلاميّة، 1379هـ.

11 - عبد الله (إسماعيل صبري)، مجمع البيان، شركة المعارف القاهرة.

12 - علي (أحمد بريهي)، بحوث التنمية الاقتصاديّة، مجلّة البحوث الاقتصاديّة والإداريّة - بغداد، مركز البحوث الاقتصاديّة والإدارية، العدد (1)، 1978م.

13 - العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م.

14 - غونار (ميردال)، العالم الفقير يتحدّى، ترجمة عصفور، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1975م.

15 - القرافي (أحمد بن إدرسي)، الفروق، دار إحياء الكُتب العربيّة.

16 - كبيسي (أحمد عوّاد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد الإسلاميّ، مطبعة العاني - بغداد، 1987م.

17 - الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت.

18 - محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، دار النهضة العربيّة - بيروت، 1975م.

19 - مرسي (فؤاد)، التخلّف والتنمية، دار الوحدة للطباعة - ط1، مصر، 1982م.

20 - المياحي (عبد الأمير كاظم)، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ، رسالة ماجستير، كلّية الشريعة، جامعة بغـداد، 1987م.

21 - النجّار (عبد الهادي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1980م.

22 - النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل.

٣٧

البحث الثاني

الحاجة الاقتصاديّة

في المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ

٣٨

٣٩

مقدّمة

يُمكن مُعالجة مقولة الحاجة في المذهب الإسلامي الاقتصادي، مِن جانب كونها مقولة إنتاجيّة، ومِن خلال تبيّن أثرها في تكييف الفَهم الإسلامي للمشكلة الاقتصاديّة. ويظهره ارتباط جانب العرض في الحاجة نفسها مع جانب الطَلب عند مُعالجتها من حيث هي مقولة توزيعيّة، مِن خلال النَمط الإسلامي في توزيع الثروة والدَخَل. وبطبيعة الحال ينحلّ التبادل إلى ما يخدم جانب العرض في الحاجة نفسها، من حيث هو تسهيل لعنصري القيمة الاستعمالي والتبادلي في السلعة أو إنضاج لهما، فهو يخدم جزءاً مِن التبادل من جانب الطَلب على السِلع التي تشبع تلك الحاجات القائمة فعلاً، أو قوّةً (الحاجة الكامنة).

لذلك يكوّن التبادل الرابطة بين حَجم الحاجات وأنواعها مِن جهة كونها مقولة إنتاجيّة، وبين دورها وأثرها في نمط استهلاك إسلاميّ، من حيث هي مقولة توزيعيّة.

1 - الحاجة في الفِكر الاقتصادي الحديث والمعاصر

تُعدّ الحاجة بما تحمل مِن خصائص الرُكن الثاني الذي يكوّن المشكلة الاقتصاديّة مع ما يُسمّى بنُدْرة الموارد، فالمشكلة التي صلحت دافعاً لتكوين علم الاقتصاد وتطوّره، تقوم على أساس أنّ الموارد المُتاحة لا تكفي لهذا التعدّد غير القابل للحصر من جهة، وعدم كفاية الموارد الطبيعيّة المُتاحة لسدّ هذا التعدّد من جهة أُخرى، فلا بدّ - إذن - مِن استخدام العَقل البشريّ بوصفه المُنظّم والمُرشد للحاجات بما يتلاءم مع المُتاح مِن العرض، مورداً كان أمْ سلعاً مُنتجة.

ويرى أغلب الاقتصاديّين أنّ للحاجة خصائص أهمّها:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وجيء به إلى أبي بكر ، فصاحوا به بعنف : بايع أبا بكر ، فأجابهم الإمام بمنطق الواثق الجريء الشجاع :( أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكم فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة ؟ وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون ) (١) .

وبهذا الموقف الصريح أوضح الإمام الحقيقة من الحجّة السياسية التي اتّخذوها ذريعة للوصول إلى الحكم ، فلم يكن لهم بدّ من التسليم أو الردّ بما تحويه أفكارهم وتضمره نفوسهم ، فثار ابن الخطّاب بعد أن أعوزته الحجّة في الردّ على الإمام ، فسلك طريق العنف قائلاً له : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فزجره الإمام قائلاً :( احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم يردده عليك غداً ، والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه ) (٢) .

هنا كشف الإمامعليه‌السلام عن سرّ اندفاعات عمر وحماسه من أجل البيعة ، فإنّ موقفه هذا من أجل أن ترجع إليه الخلافة وشؤون الملك بعد أبي بكر .

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث في غير ما يحب ، وخشي من عواقب غضب الإمام فقال له : إن لم تبايع فلا أكرهك ، ثمّ تكلّم أبو عبيدة بن الجرّاح محاولاً تهدئة الإمام عليّعليه‌السلام وكسب ودّه ، فقال : يا ابن عم ! إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٢٨ .

(٢) أنساب الأشراف : ١ / ٥٨٧ ، وشرح نهج البلاغة : ٢ / ٢ ـ ٥.

١٢١

واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق من فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك(١) .

إنّ هذه التصريحات السياسية غايتها تضليل الآراء وتسويف المواقف ، وهي لم تكن لتنطلي على وعي الإمامعليه‌السلام بل أثارت في نفسه الألم والاستياء من بوادر الانحراف ، فاندفع يخاطب القوم في محاولة لتنبيههم بخطئهم ، فقال :( الله الله يا معشر المهاجرين ! لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيّة ، الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً ) (٢) .

وروي : أنّ الزهراءعليها‌السلام خرجت خلف أمير المؤمنين من أجل الدفاع عن الإمامعليه‌السلام لأنّها خشيت أن يكون القوم قد أعدّوا السوء لإيقاعه بالإمام ، وقد أخذت بيد ولديها الحسن والحسينعليهما‌السلام وما بقيت هاشمية إلاّ وخرجت معها ، فوصلت مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدّدت القوم بالدعاء عليهم إن لم يتركوا الإمام فقالتعليها‌السلام :( خلّوا عن ابن عمّي ، خلّوا عن بعلي ، والله لأنشرنّ شعري ولأضعنّ قميص أبي على رأسي ولأدعونّ عليكم ، فما ناقة صالح بأكرم على الله منّي ، ولا فصيلها بأكرم على الله من ولدي ) (٣) .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢ ـ ٥ و ١ / ١٣٤ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٢٨ .

(٣) الإحتجاج للطبرسي : ١ / ٢٢٢ .

١٢٢

الإمام عليّعليه‌السلام ومضاعفات السقيفة :

إذا كانت مواقف الإمام عليّعليه‌السلام كلّها رائعة ؛ فموقفه من الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أكثرها روعةً ، فالعقيدة الإلهية تريد في كلّ زمان بَطَلاً يفتديها بنفسه ونفيسه ويعزّز به المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعليّ إلى فراش الموت ، وبالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مدينة النجاة يوم الهجرة ، ولم يكن ليتهيّأ للإمامعليه‌السلام في محنته بعد وفاة أخيه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضحّي لها كلا ولديه الحسن والحسين ؛ لأنه لو ضحّى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلى مجراها الشرعي في رأيه ؛ لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه ، وسبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طفلان لا يتهيّأ لهما من الأمر ما يريد .

إنّ عليّاً الذي كان على أتمّ استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع أدوار حياته منذ ولد في الكعبة والى أن استُشْهِدَ في مسجد الكوفة ؛ قد ضحّى بموقعه الذي نصبه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنازل عن القيادة السياسية الظاهرة في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّاً عليها وحارساً لها .

وقف عليّعليه‌السلام عند مفترق طرق ، كلٌ منها حرج وكلٌ منها شديد على نفسه :

١ ـ أن يبايع أبا بكر دون ممانعة ، ويكون حاله مثل بقية المسلمين ، بل ويحافظ على وجوده ومنافعه الشخصية ومصالحه المستقبلية وينال المكانة والتكريم والاحترام لدى الجهاز الحاكم وهذا غير ممكن ، لأنّه يعني إمضاءهعليه‌السلام لبيعة أبي بكر وولايته ، وهذا مخالف لأوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومؤدٍّ إلى انحراف الخلافة والولاية والإمامة عن مسارها الأصلي ومعناها الحقيقي إلى الأبد ، وتبدّد الجهود والتضحيات التي بذلها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليعليه‌السلام من أجل إرساء قواعد الإسلام وتحكيم أصول الخلافة الشرعية ، وبالتالي انحراف التجربة الإسلامية كلّها .

٢ ـ أن يسكت وفي العين قذىً وفي الحلق شجا ، ويحاول أن يسلك سبيلاً معتدلاً يحفظ كيان الإسلام ويصون المسلمين ووجودهم وأن يجني ثماره متأخّراً .

٣ ـ أن يعلن الثورة المسلّحة على خلافة أبي بكر ، ويدعو الناس إليها ويدفعهم نحوها .

ولكن ماذا كان يترقّب للثورة من نتائج ؟ هذا ما نريد أن نتبيّنه على ضوء الظروف التأريخية لتلك الساعة العصيبة .

١٢٣

ومن المألوف أن الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة تواجههم وهم من عرفناهم حرصاً وشدّةً في أمر الخلافة ، معنى هذا أنّهم سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جدّاً حينئذٍ أن يغتنم سعد ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اُخرى لإشباع أهوائه السياسية ، لأنّنا نعلم أنّه هدّد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال :(لا والله حتّى أرميكم بما في كنانتي وأُخضّب سنان رمحي وأضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم الإنس والجنّ ما بايعتكم) (١) .

وأكبر الظنّ أنّه تهيّب الغقدام على الثورة ولم يجرؤ على أن يكون أوّل شاهر للسيف ضدّ الخلافة القائمة ، وإنّما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة إعلان الحرب ، وأخذ يترقّب تضعضع الأوضاع ليشهر سيفه بين السيوف ، فكان حريّاً به أن تثور حماسته ويزول تهيّبه ويضعف الحزب القائم في نظره إذا رأى صوتاً قويّاً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة محاولاً إجلاء المهاجرين من المدينة

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٩ ط مؤسسة الأعلمي .

١٢٤

بالسيف(١) ، كما أعلن ذلك المتكلّم عن لسانه في مجلس السقيفة .

ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتّلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان ، وما كان لهم من نفوذ في مكّة في سنواتها الجاهلية الأخيرة ، فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الإسلام والحكومة النبويّة ، وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص ابن أُمية أميرها المطاع في تلك الساعة .

وإذا تأمّلنا ما جاء في تأريخ تلك الأيام(٢) من أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا توفّي وبلغ خبره إلى مكّة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية استخفى عتاب وارتجّت المدينة وكاد أهلها يرتدّون ، فقد لا نقتنع بما يعلّل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والإيمان ، وليس مردّ ذلك التراجع إلى أنّهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب إليه بعض الباحثين ؛ لأنّ خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفّي فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكبر الظنّ أنّ خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة ، بل تعليل القضية : أنّ الأمير الأموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتّخذته أسرته في تلك الساعة ، فاستخفى وأشاع بذلك الاضطراب حتّى إذا عرف أنّ أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين إلى نتائج تصبّ في صالح البيت الأموي ؛(٣) ظهر مرّة أخرى للناس وأعاد الأمور إلى مجاريها .

وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الأمويين كانت قائمة في ذلك الحين ، وهذا ما يفسِّر لنا القوّة التي تكمن وراء أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٩ ، قصة السقيفة ، قول الحبّاب بن المنذر : ( أمّا والله لئن شئتم لنعيدنّها جذعَة ) .

(٢) الكامل في التأريخ / لابن الأثير : ٣ / ١٢٣ وصلَ خبر وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية أميراً على مكّة .

(٣) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ ، هدأت ثائرة أبي سفيان بعد أن ولّى الخليفة الأوّل ابنه معاوية ، فقال : وصلته رحم .

١٢٥

أبي بكر وأصحابه ، إذ قال : إنّي لأرى عجاجة لا يطفيها إلاّ الدمّ ، وقال عن عليّ والعبّاس : أما والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما(١) .

فالأمويون كانوا متأهّبين للثورة والانقلاب ، وقد عرف عليّعليه‌السلام منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعّم المعارضة ولكنّه عرف أنّهم ليسوا من الذين يعتمد على تأييدهم ، وإنّما يريدون الوصول إلى أغراضهم عن طريقه ، فرفض طلبهم ، وكان من المنتظر حينئذٍ أن يشقّوا عصا الطاعة إذا رأوا الأحزاب المسلّحة تتناحر ، ولم يطمئنّوا إلى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم ، ومعنى انشقاقهم حينئذٍ إظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكّة عن المدينة .

إذاً كانت الثورة العلويّة في تلك الظروف إعلاناً لمعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتّى ، وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثمّ المنافقون .

ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعليّ بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم ، بل لتناحرت وتقاتلت مذاهب متعدّدة الأهداف والأغراض ، ويضيع بذلك الكيان الإسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب أن يلتفّ المسلمون حول قيادة موحّدة ، ويركّزوا قواهم لصدّ ما كان يترقّب أن تتمخّض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات(٢) .

ومن هنا كان على الإمام عليّ أن يختار الطريق الوسط ليحقّق أكبر قدر ممكن من الأهداف الرسالية التي جعله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّاً عليها .

ومن هنا نعرف أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أعدّ للإمام عليّعليه‌السلام خطّتين أو خطّة واحدة ذات مرحلتين ، فالمرحلة الأولى هي نصبه إماماً شرعياً وخليفةً له بشكل رسمي بعد الإعلان الصريح وأخذ البيعة له من المسلمين وإتمام الحجّة على جميع من حضر وغاب عن مشهد يوم الغدير .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ .

(٢) فدك في التاريخ ، الشهيد السيد محمد الصدر : ١٠٢ ـ ١٠٥ .

١٢٦

وحين كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك القائد السياسي المحنّك الذي أثبت للتأريخ ولمن عاصره جميعاً نفاذ بصيرته وبُعد نظره وشفقته على أمته وارتباطه المستمر بعالم الغيب والعلم الإلهي الذي شاء للشريعة الإسلامية أن تكون خاتمة الشرائع وعلى أساسها ينبغي أن تتحقّق أهداف الرسالات الإلهية جميعاً فمن هنا ومن حيث علمهعليه‌السلام بمدى وعي الأُمة للرسالة الإسلامية في عصره ومدى اندماجها وذوبانها في قيم الرسالة ، وطبيعة المجتمع الذي أسلم أو استسلم لدولة الرسول بما كان يشتمل عليه من عصبيات وقيم جاهلية يصعب اجتثاثها بسرعة وبخطوات تربوية قصيرة لكلّ هذا وغيره ممّا يمكن أن يدركه المتأمّل في الظروف المحيطة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدولته ، يشعر المتأمّل بضرورة وجود تخطيط بعيد المدى يتكفّل تحقيق الأهداف الرسالية الكبرى على المدى البعيد بعد أن كان يستحيل أو يصعب اجتناء الثمار المرجوّة من حركة الرسالة في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع على المدى القريب بعد ملاحظة منطق العمل التغييري بشكل خاص .

إذن كانت المرحلة الثانية بعد إعراض الأُمة أو عدم انقيادها للأطروحة النبويّة الإلهية هي الصبر والحزم والتخطيط العملي الواقعي لعمل تربوي جذري في ظلّ الدولة الإسلامية الفتيّة ، ريثما تُهيَّأ الظروف اللازمة لاستلام الحكم وتحقيق تلك الأطروحة ، لتتحقّق جميع الأهداف الممكنة لتطبيق هذه الشريعة الخالدة تطبيقاً صحيحاً رائعاً .

الإمام عليّعليه‌السلام ومهمّة جمع القرآن :

اتّفقت كلّ الروايات الصحيحة على أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام ما أن انتهى من تجهيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواراته الثرى ؛ حتى اعتكف في داره منشغلاً بجمع آيات القرآن وترتيبها حسب نزولها بعد أن كانت مبعثرة في الألواح .

١٢٧

وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّعليه‌السلام :يا عليّ ! القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه ، واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليّ عليه‌السلام فجمعه في ثوب أصفر (١) وجاء أيضاً أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقسم أنّه لا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ن فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن(٢) .

كما روي أنّ عليّاًعليه‌السلام انقطع عن الناس مدّةً حتى جمع القرآن ، ثمّ خرج إليهم في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد ، فلمّا توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثمّ قال :إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) وهذا كتاب الله وأنا العترة (٣) ، وقال لهم : لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين .

ثمّ قال : لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكُمْ إلى نصرتي ولم أذكركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته(٤) .

فقال له عمر : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما .

ــــــــــــ

(١) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٤١ ، وفتح الباري : ١٠ / ٣٨٦، والإتقان للسيوطي : ١ / ٥١ .

(٢) الفهرست لابن النديم : ٣٠ .

(٣) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٤١ .

(٤) كتاب سليم بن قيس : ٣٢ ، ط مؤسّسة البعثة .

١٢٨

ويبدو أنّ الإمام لم يكتف بجم الآيات القرآنية بل قام أيضاً بترتيبها حسب النزول ، وأشار إلى عامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكلّ نوعٍ مثالاً يخصّه ، وبهذا العمل الكبير استطاع الإمام أن يحافظ على أهمّ أصل من أصول الإسلام ، وأن يوجّه العقل المسلم نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ، ليصبح المنبع الرئيسي للفكر والمصدر المباشر الذي تستمد منه الإنسانية ما تحتاجه في حياتها .

إنّ أمير المؤمنين كان جديراً بما فعل ، فإنّه قال :ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله عزّ وجلّ أن يعلّمني فهمها ، فما نسيت آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ ولا علماً أملاه عليّ فكتبته وما ترك شيئاً علّمه الله عز وجل من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي وما كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس منه حرفاً واحداً (١) .

من مواقف الإمامعليه‌السلام في عهد أبي بكر :

قال الإمامعليه‌السلام :( فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنَحّوهُ عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس إلى أبي بكر يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل

ــــــــــــ

(١) كفاية الطالب للكنجي : ١٩٩ ، والاتقان للسيوطي : ٢ / ١٨٧ ، وبحار الأنوار : ٩٢ / ٩٩ .

١٢٩

وزهق واطمأن الدين وتنهنه )(١) .

كلّ الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما سادها من أجواء المشاحنات وما حفّها من ابتعاد عن الحقّ وانجراف في غير الطريق الذي كان على المسلمين سلوكه لم تَنس عليّاً أنّه الوصيّ على هذه الأُمة وعلى تطبيق الرسالة الإسلامية .

كانت بيعة أبي بكر قد استلبت حقّ الإمام في إدارة شؤون الأُمة مباشرة واضطرّته إلى أن يعتزل إلى حين فإنّ وصايا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له وعهده إليه بالتكليف الإلهي برعاية الأُمة ثمّ حرصه العميق على الرسالة الإسلامية والمجتمع من التمزّق والضياع جعل من أمير المؤمنين القدوة المُثلى للمدافعين عن الكيان الإسلامي في كل الميادين .

من هنا وقف عليعليه‌السلام ليدلي بآرائه الصائبة ، موضّحاً قواعد الدين الصحيحة في كلّ موقف يستعصي على الماسكين بزمام إدارة الدولة في زمن عصيب ، وفي اُمّة لم تترسّخ العقيدة الإلهية في نفوس أبنائها ، فكان عليّعليه‌السلام ميزان القضاء والإفتاء في شؤون الحياة الإسلامية من قضاء واجتماع وإدارة في عهد أبي بكر وما تلاه من فترات حكم الخلفاء .

وقف عليعليه‌السلام ليدافع عن المدينة ويصدّ هجوم المرتدّين عن الإسلام ومعه الصفوة من الصحابة الذين ساندوه في محنته .

وصيّة أبي بكر إلى عمر :

لم يزل الإمام عليّعليه‌السلام مظلوماً يدفع بحقّه بعيداً عنه ، يتألّم على الخلافة إذ تلكّأت وعلى الرسالة إذ ضمرت ، لا يجد سبيلاً إلاّ الصبر وهو الحليم ولا يجد إلاّ الأناة وهو البصير ، وقد عبّر عن أحزانه وآلامه في خطبته الشهيرة بالشقشقيّة إذ قال :

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الكتاب ٦٢ .

١٣٠

( أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ن وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تُراثي نهباً ، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته (١) إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ) (٢) .

لم تطل أيّام أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض وأشرف على الموت ، وقد صمّم على أن يولي عمر الخلافة من بعده ، فاعترض أكثر المهاجرين والأنصار ، وأعلنوا كراهيّتهم لهذا القرار لما علموا من خشونة أخلاق عمر وسوء تعامله مع الناس(٣) .

لكنّ أبا بكر أصرّ على موقفه .

ثمّ إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفّان لوحده ليكتب عهده لعمر ، فقال له : اُكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أما بعد ثمّ أغمي على أبي بكر ، فكتب عثمان : فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيراً ، ثمّ أفاق أبو بكر فقال : إقرأ عليّ ، فقرأ عليه فكبّر أبو بكر

ــــــــــــ

(١) إشارة إلى قول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم ، راجع تذكره الخواص : ٦٢ .

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٣ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٣٦ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٦١٨ و ٦١٩ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٥ .

١٣١

وقال : أراك خِفتَ أن يختلف الناس إن مُتُّ في غشيتي ، قال : نعم ، قال : جزاك الله خيراً(١) .

مآخذ على وصية أبي بكر :

لم يكن عليّعليه‌السلام راضياً بما فعله أبو بكر للأسباب التالية :

١ ـ إنّ أبا بكر لم يستشر أحداً من المسلمين في تقرير مصير الخلافة إلاّ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان اللذين كانا على معرفة تامّة بميول أبي بكر لاستخلاف عمر من بعده ، خشية أن يدفعه أهل الرأي من الصحابة المخلصين على تغيير رأيه في اختيار عمر .

٢ ـ الإصرار على إبعاد الإمام عليّعليه‌السلام عن الساحة السياسية ومسألة تقرير مصير الخلافة فلم يستشره في أمر الخلافة ، في حين أنّ أبا بكر كان يفزع إلى الإمام في حلّ المشاكل المستعصية ، أو أنّ آراء الإمام ومواقفه في خلافة أبي بكر هي الناصحة والصائبة دون من عداها .

٣ ـ إنّ أبا بكر فرض عمر فرضاً على المسلمين ، وكأنّ له الوصاية عليهم حيّاً وميّتاً وذلك بقوله : استخلفت عمر بن الخطاب عليكم فاسمعوا له وأطيعوا ، رغم أنّه رأى الغضب ظاهراً في وجوه الكثيرين من الصحابة .

٤ ـ إنّه ناقض نفسه في دعواه بالسير على منهاج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه كان يدّعي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي ولم يعهد لأحدٍ في شأن الخلافة ، في حين نجده يوصي لصاحبه عمر من بعده(٢) .

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٥ .

(٢) وهو من العجائب ؛ لأنّه لمّا أفاق من الإغماء واستمع إلى ما كتبه عثمان من تعيين الخليفة بعده ، قال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي قال : نعم ؛ كيف هو وعثمان خافا من اختلاف الناس ؟! وأمّا الرسول الأعظم الحكيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخف من اختلاف أمته ؟! لأنهم يصرّحون بأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات ولم يعيّن أحداً تباً لهم فما لهم كيف يحكمون ؟!

بل نلاحظ عمر يمنع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة وصيّته في لحظاته الأخيرة بينما يجلس وبيده جريدة ومعه شديد مولى لأبي بكر معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر وعمر يقول : أيّها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنه يقول غني لم آلكم نصحاً راجع الطبري ط أوربا ١ / ٢١٣٨ أرأيت التناقض بين موقفيه ؟! وهل هناك من تفسير غير التآمر على تخطيط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

١٣٢

٥ ـ هيّأ الملك لبني أُمية ، الذي جلب الويلات للإسلام والمسلمين ، وذلك من خلال إثارة طمعهم في الخلافة وتشجيعهم عليها بقوله لعثمان : لو لا عمر ما عدوتك(١) وأبو بكر يعلم أنّ عثمان عاطفي ضعيف يميل لبني أُمية ، وأنّهم سيغلبونه على أمره ، وهذا ما حصل .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ١٦٤ .

١٣٣

الفصل الثالث: الإمام عليعليه‌السلام في عهد عمر(*)

مهّد أبو بكر كرسيّ الخلافة لعمر بن الخطاب فتولاّها بسهولة ويسر دون معارضة تذكر من أقطاب المهاجرين والأنصار ، وقد قبض على زمام الحكم بقوة وساس الأمة بشدّة ، حتى تحامى لقاءه أكابر الصحابة(١) وحقّقت جاهلية قريش انتصاراً سياسياً آخر ومضت بخطّها على أن لا تعطي حقّاً لبني هاشم ، وأتقن عمر هذا السير أيّما إتقان .

أمّا أمير المؤمنينعليه‌السلام فلم يثأر لحقه المغتصب بعدما شاهد من سيرة السلطة الحاكمة وحركة الفئة غير الواعية في ركبها ، من تعنت وإصرار على الانحراف بالخلافة ، فوقف الإمام موقف الناصح الأمين للخليفة الجديد شعوراً منه بالمسؤولية الكبيرة ، فهو الأمين على سلامة الرسالة والأمة ، لقد ساهم أمير المؤمنين في الحياة العامّة ما وسعه من جهد ، وأدّى ما عليه من تكليف في تعليم وتفقيه وقضاء بصورة أوسع من دوره في عهد أبي بكر حيث اقتضت الضرورة ذلك ، فقد اتّسعت رقعة البلاد الإسلامية واستجدّت أحداث جديدة طارئة كان يعجز عنها الخليفة الجديد وكلّ من معه من الصحابة ، ولم يكن يجد لها حلولاً إلاّ

ــــــــــــ

(*) استخلاف عمر بن الخطاب في جمادى الآخرة عام (١٣) هـ .

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٦١٧ و ٦١٨ .

١٣٤

ممّن عصمه الله عن الذنب والخطأ ، ولذا كان عمر يقف متصاغراً أمام أمير المؤمنين ويحترم رأيه ويمضي حكمه وقراره حتى روي عنه لأكثر من مرّة وفي أكثر من موقف حرج قوله : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن(١) .

فقد روي أنّ عمر أراد أن يرجم امرأةً مجنونةً اُتّهمت بالزنا ، فردّ الإمام عليّعليه‌السلام قضاء عمر وذكّره بحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(رفع القلم عن ثلاث : عن المجنون حتى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبيّ حتى يعقل) حينذاك قال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر(٢) .

ملامح من سيرة عمر(٣) :

١ ـ الشدّة والقسوة في التعامل مع الناس ، وفرض السلطان بالعنف والقوة ، فخافه القريب والبعيد ، وكان من شدته أنّ امرأةً جاءت تسأله عن أمر وكانت حاملاً ولشدّة خوفها منه أجهضت حملها وقصّته مع جبلّة وعنفه معه ممّا سبب ارتداد جبلّة وهروبه إلى بلاد الروم(٤) .

٢ ـ عدم مساواته في العطاء بين المسلمين ، فقد ميّز بينهم على أساس غير مشروع من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا موجّه في القرآن ، بل على أساس عصبي(٥) ، وكان من آثاره أن ظهرت الطبقية في العهود التي تلته ، فنشط النسّابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب اُصولها ممّا أدّى إلى حنق الموالي على العرب وكراهيتهم لهم والتفتيش عم مثالبهم ، وقد خالف بذلك سيرة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة صاحبه أبي بكر أيضاً .

ــــــــــــ

(١) اُسد الغابة ٤ / ٢٢ ، وتهذيب التهذيب : ٧ / ٢٩٦ ، وتاريخ دمشق : ٣ / ٣٩ حديث ١٠٧١ ، والرياض النضرة : ٢ / ١٩٧ ، وكنز العمال : ٥ / ٨٣٢ .

(٢) تذكرة الخواص : ٨٧ ، وكفاية الطالب : ٩٦ ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : ٢ / ٣٠٩ .

(٣) راجع النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : ١٤٨ .

(٤) الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٨٥ ، وتأريخ الطبري : ٣ / ٢٩١ ، والعقد الفريد : ٢ / ٥٦ .

(٥) تأريخ الطبري : ٣ / ٢٩١ و ٢٩٢ .

١٣٥

وندم عمر على تصرّفه هذا في آخر فترة حكمه حينما رأى الثراء الفاحش عند كثير من الصحابة ، ولم تطب به نفسه ، وإنّما راح يقول : لو استقبلت من الأمر ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء(١) .

٣ ـ عدم الدقّة والموضوعية في اختيار العمّال والولاة على أسس إسلاميّة تخدم مشروع الحكومة الإسلامية وتحافظ على كيان الأمة ، فإنّه استعمل مَنْ عُرف بالفساد وعدم الإخلاص للدين ، وأصرّ بموقفه هذا على إبعاد كلّ ما يمتّ إلى الخلافة بصلة ، عن الإمام عليّعليه‌السلام والصحابة الأجلاّء الذين وقفوا معه(٢) .

٤ ـ استثناء معاوية من المحاسبة والمراقبة التي كان يشدّدها على ولاته ، وتركه على هواه يعمل ما يشاء لسنين طويلة ، ممّا أعان معاوية على طغيانه واستقلاله بالشام في عهد عثمان ، كما اُثر عنه قوله في توجيه تصرفات معاوية : إنه كسرى العرب(٣) .

محنة الشورى :

إذا كانت السقيفة وبيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها ـ كما قال عمر ـ ؛ فإنّ الشورى أشدّ فتنةً وأكبر انحرافاً عن مسير الرسالة الإسلامية ، فقد امتُحن المسلمون فيها امتحاناً عسيراً ، وزرعت لهم الفتن والمصاعب وجلبت لهم الويلات والخطوب ، وألقتهم في شرّ عظيم ، إذ تبيّن التآمر علناً لإقصاء الإمام عليٍّ عن الحكم وتسليم زمام الأمة الإسلامية بيد المنحرفين من دون واعز من الضمير أو حرص على المصير .

ــــــــــــ

(١) شرح النهج : ٩ م ٢٩ .

(٢) شيخ المضيرة أبو هريرة : ٨٤ .

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٤٧٩ ، وكنز العمال : ٦/٣٩.

١٣٦

فلمّا يئس عمر من حياته وأيقن برحيله عن الدنيا أثر الطعنات التي أصابته قيل له : استخلف علينا ، قال : والله لا أحملكم حيّاً وميّتاً ، ثمّ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي ـ يعني أبا بكر ـ وإن اَدَع من هو خير منّي ـ يعني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ(١) ، ثمّ أبدى أسفه وحسرته على بعض من شاركه مسيرته للخلافة فقال : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته لأنّه أمين هذه الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته لأنّه شديد الحبّ لله ، فقيل له : يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً .

قال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأُولّي رجلاً أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ ـ وأشار إلى الإمام عليّعليه‌السلام ـ ورهقتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنّة قد غرسها ، فجعل يقطف كلّ غضّة ويانعة فيضمّه إليه ويصير تحته ، فعلمت أنّ الله غالب أمره ، ومتوفّ عمر ، فما أريد أن أتحمّلها حيّاً وميّتاً عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم : إنّهم من أهل الجنّة ، وهم : عليّ وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ، فليختاروا منهم رجلاً ، فإذا ولّوا والياً فأحسنوا مؤازرته وأعينوه(٢) ، وأمرهم أن يحبس هؤلاء الستّة حتى يولّوا أحدهم خلال أيام ثلاثة وأن يضرب عنق المخالف لاتّفاق الأغلبية أو الجناح المخالف للذي فيه عبد الرحمن بن عوف ، وأن يصلّي صهيب بالناس ثلاثة أيام حتى تجتمع الأمة على خليفة ، وطلب أن يحضر شيوخ الأنصار وليس لهم من الأمر شيء(٣) .

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٤١ قد عرفت سابقاً أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدع وقد عيّن خليفته مراراً كيوم الإنذار لعشيرته الأقربين وغدير خم وغيرهما .

(٢) تأريخ الطبري : ٣ / ٢٩٣ ط مؤسسة الأعلمي ، الكامل في التأريخ : ٣ / ٦٦ .

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٩٤ ط مؤسسة الأعلمي ، طبقات ابن سعد : ٣ / ٢٦١ ، والإمامة والسياسة : ٤٢ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٦٨.

١٣٧

وحين اجتمع أعضاء الشورى لدى عمر ، وجّه إليهم انتقادات لاذعة لا تدلّ على وضوح توجّه صحيح أو ارشاد إلى انتخاب يعين الأمة في أزمتها ، فقال : والله ما يمنعني أن استخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك مع أنّك رجل حرب ، وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلاّ أنّك فرعون هذه الأمة ، وما يمنعني منك يا زبير إلاّ أنّك مؤمن الرضا كافر الغضب وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره(١) ، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع امرأته وما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيتك وحبّك قومك وأهلك وما يمنعني منك يا عليّ إلاّ حرصك عليها ، وإنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم(٢) .

مؤاخذات على الشورى :

نظام الشورى الذي وضعه عمر كان عارياً عن الصحّة والصواب يحمل التناقض بين خطواته ، فإنّنا نلاحظ فيه أُموراً يبعده عن الدقّة والموضوعية :

١ ـ إنّ الأعضاء المقترحين للشورى لم يحصلوا على هذا الامتياز بالأفضلية وفق ضوابط الانتخاب حيث لم تشترك القواعد الشعبية في الترشيح والانتخاب ، وإطلاق كلمة الشورى على هذا النظام جزاف ، لأنّه لم يكن إلاّ ترشيح فرد لجماعة وفرضهم على الأمة ومن ثَمّ أمر باجتماعهم تحت التهديد بالقتل والسلاح حتى يختاروا أحدهم .

٢ ـ عناصر الشورى متنافرة في تركيب شخصياتها وأفكارها ، ولا يمثّل كلّ فرد فيهم إلاّ رأيه الشخصي ، فكيف يمكن أن يعبّر عن رأي الأمة ؟ وقد نشب

ــــــــــــ

(١) كيف هم يدخلون الجنة ـ حسب نقل عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع أنّ عبد الرحمن فرعون هذه الأمة وطلحة صاحب الكبر والنخوة والزبير مؤمن الرضا كافر الغضب ؟!

(٢) الإمامة والسياسة : ٤٣ .

١٣٨

الخلاف فيما بينهم من بعد الشورى ممّا فرّق شمل المسلمين(١) .

٣ ـ الاستهانة بالأنصار ودورهم ، فقد طلب عمر حضورهم ولا شيء لهم بل ولا رأي ، فالأمر منحصر في الستّة فما معنى حضور الأنصار ؟ بل إنّ عمر استهان بالأمة كلّها حين تمنّى حياة سالم وأبي عبيدة .

٤ ـ إنّ عمر ناقض نفسه في عمليّة اختيار العناصر ، ففي السقيفة كان يدّعي ويصرّ على أنّ الخلافة في قريش ، بينما نجده في هذا الموقف يتمنّى حياة سالم مولى أبي حذيفة ليوليه الأمر ، كما أنّه استدعى أصحاب الشورى دون غيرهم من الصحابة بدعوى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راضٍ عنهم أو أنّهم من أهل الجنّة ، ولكنّه نسب اليهم عيوباً لا تجتمع مع الرضا عنهم ويتنزّه عنها أهل الجنة ثم إنّه أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، لأنّ إمامة المصلّين لا ترتبط بالخلافة ولا تستلزمها ، وقد كان يناضل يوم السقيفة من أجل استخلاف أبي بكر ، وكات صلاته المزعومة دليله الأول على أهليّة أبي بكر للخلافة .

٥ ـ إنّه أراد أن يستخلف عليّاًعليه‌السلام لأنّه سيحمل الأمة على النهج القويم والمحجّة البيضاء ، ولكنّه رأى في المنام ما رأى ، فأعرض عن الإمامعليه‌السلام وكأنّه أراد بذلك التشويش على مكانة الإمام وأهليّته .

٦ ـ إنّ عمر قال : أكره أن أتحمّلها ـ يقصد الخلافة ـ حيّاً وميّتاً ، ولكنّه عاد فحدّد ستّة أشخاص من اُمّة كبيرة ، فأكّد بذلك نزعته في الاستعلاء على الأمة وقدراتها .

٧ ـ اختيار العناصر الستّة يبدو مبيّتاً بحيث يصل الأمر إلى عثمان باحتمالية أكبر من وصولها إلى الإمام عليّعليه‌السلام وهو العنصر المؤهّل من الله ورسوله لخلافة الأمة ، فترشيح طلحة هو إثارة وتأكيد لأحقاد تيم ، لأنّ الإمام نافس وعارض أبا بكر في خلافته وها هو الآن ينافس مرشّحها الجديد طلحة ، وترشيحه لعثمان تأكيد منه على أحقاد أمية وإثارة نزعة السلطان والوجاهة لديها ، وأمّا ترشيحه لعبد الرحمن وسعد فهو فتح جبهة سياسية جديدة منافسة للإمام عليّعليه‌السلام فهما من بني زهرة ولهما نسب أيضاً مع بني أمية ، فسوف يكون ميلهما لصالح عثمان لو تنافس مع الإمامعليه‌السلام .

ــــــــــــ

(١) أنساب الأشراف : ٥ / ٥٧ ، وتذكرة الخواص : ٥٧ ، والنص والاجتهاد : ١٦٨ .

١٣٩

٨ ـ إنّه أمر بقتل أعضاء الشورى في حالة عدم التوصّل إلى اتّفاق أو إبداء معارضة وإصرار ، وكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين قوله : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راضٍ عنهم ؟ وهل تكون مخالفة رأي عمر موجبة لقتل الصحابة(١) ؟

حوار ابن عباس مع عمر حول الخلافة :

روي أنّ حواراً وقع بين عمر وابن عباس في شأن الخلافة .

قال عمر : أما والله ، إنّ صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ، إلاّ أنّنا خفناه على اثنتين ، قال ابن عباس : فما هما يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : خفناه على حداثة سنّه ، وحبّه بني عبد المطلب .

وفي بعض مجالس عمر بن الخطاب وقد جلس إليه نفر منهم عبد الله بن عباس ، فقال له عمر : أتدري يا ابن عباس ما منع الناس منكم ؟ قال ابن عباس : لا يا أمير المؤمنين ، قال عمر : لكنّني أدري ، قال ابن عباس : فما هو ؟ قال عمر : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً فنظرت لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت .

فردّ عليه ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عنّي غضبه ؟ فأمّنه عمر قائلاً : قل ما تشاء .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٩٣ ط مؤسسة الأعلمي .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226