اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)25%

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 226

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181837 / تحميل: 9333
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

اعلام الهداية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

اختلفوا في سنّه حين أعلن إسلامه، والخوض في تحديد عمر الإمامعليه‌السلام حين إسلامه لا يُجدي نفعاً بعد أن عرفنا أنّه لم يكفر حتى يُسلم ولم يشرك حتّى يؤمن، ولقد قال سلام الله عليه:( ولدت على الفطرة ) ، ومن هنا اتّفقت كلمة المحدّثين جميعاً على احترام هذه الفضيلة وتقديسها بقولهم له حين ذكره: )عليّ كرّم الله وجهه)، فكان الإسلام في أعماق قلبه بعد أن احتضنه حجر الرسالة، وغذّته يد النبوّة، وهذّبه الخلق النبوّي العظيم.

قال الأستاذ العقّاد وهو يتحدّث عن الإمام عليّعليه‌السلام : لقد ولد مسلماً على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح، لأنّه فتح عينيه على الإسلام، ولم يعرف قطّ عبادة الأصنام، فهو قد تربّى في البيت الّذي انطلقت منه الدعوة الإسلاميّة، وعرف العبادة من صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوجته الطاهرة قبل أن يعرفها من صلاة أبيه وأمه(١) .

علّيعليه‌السلام أوّل من صلّى :

عاش الإمام عليّعليه‌السلام مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ متغيّرات حياة الرسول الأعظم، فكان يرى في محمّد المثل الكامل الّذي يُشبع تطلعاته وعبقرياته، فكان يحاكيه في أفعاله ويرصده في حركاته ويقتدي به ويطيعه في كلّ أوامره ونواهيه قبل البعثة النبويّة الشريفة وحتى آخر لحظة من عمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أجمع المؤرّخون على أنّه لم يردّ على رسول الله كلمة قطّ.

وقد صرّح الإمامعليه‌السلام بأنّه أوّل من صلَّى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً:(لم يسبقني إلاّ رسول الله بالصلاة) (٢) .

ــــــــــــ

(١) عبقرية الإمام علي، عباس محمّود العقّاد: ص٤٣. وقد ذكر العلاّمة الأميني في كتابه الغدير: ٣ / ٢٢٠ ـ ٢٣٦ ما يربو على ٦٦ حديثاً في أسبقية إسلام الإمام عليّعليه‌السلام على غيره من الصحابة.

(٢) نهج البلاغة للفيض: ٣٩٧ الخطبة ١٣١.

٤١

كما روي عن حبّة العرني أنّه قال: رأيت عليّاًعليه‌السلام يوماً ضحك ضحكاً لم أره ضحك ضحكاً أشدّ منه حتى أبدى ناجذه، ثمّ قال:(اللّهم لا أعرف أنّ عبداً من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (١) .

وجاء في تفسير قوله تعالى: ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (٢) عن ابن عباس: أنّها نزلت في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي طالب وهما أول من صلّى وركع(٣) .

كما جاء عن أنس بن مالك: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صلّت الملائكة عليَّ وعلى عليٍّ سبعاً، وذلك أنّه لم يرفع إلى السماء شهادة لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله إلاّ منّي ومنه) (٤) .

أوّل صلاة جماعة في الإسلام :

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بدء أمره إذا أراد الصلاة خرج إلى شعاب مكّة مستخفياً، وأخرج عليّاًعليه‌السلام معه فيصلّيان ما شاء الله، فإذا قضيا رجعا إلى مكانهما، فمكثا يصلّيان على استخفاء من أبي طالب وسائر عمومتهما وقومهما، ثمّ إنّ أبا طالب مرّ عليهما فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا الذي أراك تدين به؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(هذا دين الله وملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله به نبيّاً إلى العباد، وأنت ياعمّ أحقّ من أبديتُ النصيحة له ودعوتُه إلى الهدى، وأحقّ من أجابني إليه وأعانني عليه) .

وقال عليّعليه‌السلام :(يا أبت، قد آمنت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّبعته وصلّيت معه لله) .

ــــــــــــ

(١) تأريخ دمشق لابن عساكر: ١ / ٤٩ رقم الحديث ٨٨ .

(٢) البقرة (٢) : ٤٣.

(٣) شواهد التنزيل للحسكاني: ١ / ٨٥ .

(٤) المناقب لابن المغازلي: ١٤ رقم الحديث ١٩، وروى نحوه الشيخ المفيد في الإرشاد: ٣٠ الفصل ١ الباب ٢، وأسد الغابة لابن الأثير: ٤ / ١٨ مثله.

٤٢

فقال له: يا بُنيّ، أما إنّه لم يدعك إلاّ إلى الخير فالزمه(١) .

وهناك موقف آخر لعمّه العباس رواه عفيف الكندي حيث قال: كنت إمرأً تاجراً فقدمت الحجّ، فأتيت العباس بن عبد المطّلب لأبتاع منه بعض التجارة، فوالله إنّي لعنده بمنى إذ خرج رجل من خِباء قريب منه، فنظر إلى الشمس فلمّا رآها قد مالت قام يصلّي، ثمّ خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلّي، ثمّ خرج غلام راهق الحلم من ذلك الخِباء فقام معه يصلّي، فقلت للعبّاس: ما هذا يا عبّاس؟ قال: هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، فقلت: من هذه المرأة؟ قال: امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: من هذا الفتى؟ قال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّه، قلت: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلّي وهو يزعم أنّه نبيّ، ولم يتبعه على أمره إلاّ امرأته وابن عمّه هذا الغلام، وهو يزعم أنّه سيفتح على أمته كنوزَ كسرى وقيصر(٢) .

نعم، بعد أن تشكّلت نواة الأمة الإسلامية المباركة من رسول الله وعليّ وخديجة، وأخذ خبر الدين الجديد يتفشّى في صفوف القرشيين، وطفق الذين هداهم الله للإيمان يتقاطرون على الإسلام، وأخذ عود المسلمين يقوى ويشتدّ أزره، وبعد عدّة سنوات تحوّل إلى كيان قويّ وقادر على الإعلان عن نفسه على الجماهير والمواجهة والتحدّي من أجل الدين والعقيدة فأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصدع بما يؤمر، وكان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ذلك إذا أرادوا الصلاة يذهبون إلى الشعاب فيستخفون، فلما صلّى بعض الصحابة في الشعب اطّلع عليهم نفر من المشركين منهم أبو سفيان بن حرب والأخنس بن

ــــــــــــ

(١) الفصول المهمّة لابن الصباغ: ٣٣، والكامل في التأريخ: ١ / ٥٨ ، وأخرج مثله الطبري في تأريخه: ٢ / ٥٨.

(٢) مسند أحمد: ١ / ٢٩، والخصائص للنسائي: ٣، وتأريخ دمشق لابن عساكر: ١ / ٥٨، وكفاية الطالب للكنجي: ١٢٩، والكامل في التأريخ: ٢ / ٥٧.

٤٣

شريق وغيرهما، فسبّوهم وعابوهم حتى قاتلوهم(١) .

عليٌّعليه‌السلام حين إعلان الرسالة :

حديث يوم الإنذار :

وحديث يوم الإنذار هو الحديث الخاص عن اجتماع عشيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعوة منه لغرض دعوتهم إلى بيعته ومؤازرته، وكان أوّل من أعلن استجابته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك اليوم من عشيرته الأقربين: هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . وقد ذكر المفسّرون والمؤرّخون ومنهم الطبري في تأريخه وتفسيره معاً أنّه لمّا نزلت ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضاق ذرعاً لما كان يعلم به من معاندة قريش وحسدهم، فدعا عليّاًعليه‌السلام ليعينه على الإنذار والتبليغ.

قال الإمام عليّعليه‌السلام :دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا عليّ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت ذرعاً وعلمت أنّي متى أبادرهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتّ عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمّد إلاّ تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك. فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عُسّاً من لبن، واجمع لي بني عبد المطّلب حتى أُكلّمهم وأُبلّغهم ما أمرت به .

فصنع عليّعليه‌السلام ما أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعاهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، منهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فأكلوا، قال عليّعليه‌السلام :فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وما أرى إلاّ موضع أيديهم، وأيم الذي نفس عليّ بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمتُ لجميعهم .

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إسقِ القوم، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيم الله إنّه كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلمّا أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ: ٢ / ٦٠، السيرة النبوية: ١/٣١٥ ط دار الفرقان بيروت ـ لبنان.

٤٤

يكلّمهم بادره أبو لهب فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأَمَرَ عليّاً في اليوم الثاني أن يفعل كما فعل آنفاً، وبعد أن أكلوا وشربوا قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطّلب! إنّني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فأحجم القوم عنه جميعاً إلاّ عليّاً، فقد صاح في حماسة: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برقبة عليّ وقال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١) .

إذاً كان يوم الدار يوم الإعلان الصريح عن بداية مرحلة جديدة في حياة النبيّ وحياة الدعوة الإسلامية، وقد اتّسمت بالتحدّي المتبادل ثمّ المواجهة السافرة بين الإسلام والشرك.

ومن تتبّع سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاط علماً بجميع شؤونها وتفاصيلها في بدء تشكيل الحكومة الإسلامية وتشريع أحكامها وتنظيم شؤونها ومجرياتها وفق الأوامر الإلهية; يرى أنّ علياًعليه‌السلام وزير النبيّ في كلّ أمره وظهيره على عدوّه، وساعده الّذي يضرب ويبني به وصاحب أمره إلى نهاية عمره الشريف. وكان يوم الدار والإنذار يوم المنطلق الذي لم يشهد ناصراً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كعلي بن أبي طالب، شعاراً وشعوراً وجهاداً وفداءً.

عليٌعليه‌السلام من إعلان الرسالة إلى الهجرة النبويّة المباركة :

عجزت قريش عن إيقاف مدّ الدعوة الإسلاميّة ومنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التبليغ

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري: ٢ / ٦٣ ط مؤسسة الأعلمي، والكامل في التأريخ: ٢ / ٦٢، ومثله في الإرشاد للمفيد: ٤٢ الباب ٢ الفصل ٧، وأيضاً في تفسير مجمع البيان: ٧ / ٢٠٦ وتأريخ دمشق لابن عساكر: ١ / ٨٦ .

٤٥

والهداية، فقد خابت مؤامراتهم ودسائسهم، وفشلت تهمهم وتهديداتهم، لأنّ أبا طالب كان الكهف الحصين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لم يزل يدفع عنه أذى قريش وجبروتها، فلجأت قريش إلى طريقة جبانة تنمُّ عن حقدها وضعفها فدفعت بالصبيان والأطفال للتعرّض للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورميه بالحجارة، وهنا كان الدور الحاسم لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ لا يتسنّى لأبي طالب ـ وهو شيخ الهاشميّين الكبير ـ مطاردة الصبيان، فكان عليّ يطارد الصبيان المترصّدين للنبيّ ويذودهم عنه(١) .

عليّعليه‌السلام في شِعب أبي طالب :

وحين أسرع الإسلام ينتشر في مكّة وأصبح كياناً يقضّ مضاجع المشركين وخطراً كبيراً يهدّد مصالحهم; عمد المشركون إلى اُسلوب الغدر والقهر لإسكات صوت الرسالة الإسلاميّة، فشهروا سيوف البغي ولم يتوانَ أبو طالب في إحكام الغطاء الأمين للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما له من هيبة ومكانة شريفة في نفوس زعماء قريش الذين لم يجرؤا على النَيْلِ من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ ذلك يعني مواجهة علنية مع أبي طالب وبني هاشم جميعاً، وقريش في غنىً عن هذه الخطوة الباهضة التكاليف.

فاتّجهوا نحو المستضعفين المسلمين من العبيد والفقراء فأذاقوهم ألوان التعذيب والقهر والمعاناة ليردّوهم عن دينهم وتمسّكهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولم تلق قريش غير الصمود والإصرار على الإسلام والالتزام بنهج الرسالة الإسلامية، فوجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل حلّ لتخليص المستضعفين من المسلمين هو الخروج من مكّة إلى الحبشة(٢) .

ولمّا لم يبقَ في مكّة من المسلمين إلاّ الوجهاء والشخصيات فقد كانت

ــــــــــــ

(١) الاختصاص للمفيد : ١٤٦.

(٢) سيرة ابن هشام: ١ / ٣٢١.

٤٦

المواجهة الدموية هي أبعد ما يكون، وعندها سقطت كلّ الخيارات، ولم يبق أمام قريش إلاّ أن تلجأ إلى عمل يضعف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجنّبها القتال، فكان قرارهم حصار بني هاشم ومن معهم إجتماعياً واقتصادياً باعتبارهم الحماية التي تقي الرسول من بطش قريش، فبدأت معركتها السلبية مع بني هاشم.

وتجمّع المسلمون وبنو هاشم في شِعب أبي طالب لتوفير سبل الحماية بصورة أفضل، حيث يمكن إيجاد خطوط دفاعية لمواجهة أيِّ محاولة هجومية قد تقوم بها قريش(١) .

وللمزيد من الاحتياط والحرص على سلامة حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أبو طالب يطلب من ولده عليّ أن يبيت في مكان الرسول ليلاً حرصاً على سلامته من الاغتيال والمباغتة من قبل الأعداء من خارج الشِعب(٢) ، وكان عليّعليه‌السلام يُسارع إلى الامتثال لأوامر والده ويضطجع في فراش النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فادياً نفسه من أجل الرسالة وحاملها.

ولم يكتف عليّعليه‌السلام بهذا القدر من المخاطرة بنفسه، بل كان يخرج من الشِعب إلى مكّة سرّاً ليأتي بالطعام إلى المحاصرين(٣) ، إذ اضطرّوا في بعض الأيام أن يقتاتوا على حشائش الأرض.

لم يكن لأحد أن يقوم بمثل هذه الأعمال في تلك الفترة العصيبة إلاّ من ملك جناناً ثابتاً وقلباً شجاعاً ووعياً رسالياً وحبّاً متفانياً للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذلك هو عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام الذي قضى في الشِعب جزءً من زهرة شبابه حيث دخله وعمره سبعة عشر عاماً وخرج منه وعمره عشرون عاماً، فكانت تجربة جديدة في

ــــــــــــ

(١) سيرة ابن هشام: ١ / ٣٥٠، وإعلام الورى: ١ / ١٢٥.

(٢) البداية والنهاية لابن كثير: ٣ / ٨٤ .

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٣ / ٢٥٦.

٤٧

حياته عَوَّدته على الاستهانة بالمخاطر، وأهّلته لتلقّي الطوارئ والمهام الجسام، وجعلته أكثر التصاقاً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما عوّدته على الصبر والطاعة والتفاني في ذات الله تعالى وحبّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

عليعليه‌السلام والهجرة إلى الطائف :

لقد تراكمت الأحداث على الرسول، واشتدّت قريش في تحدّيه وإيذائه بعد وفاة عمّه أبي طالب، ولم يعد في مكّة من تهابه قريش وترعى له حرمة، حتى قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما زالت قريش كاعّةً عنّي حتى مات أبو طالب ) (١) فكان عليه أن يُغيّر مكانه ويستبدله بمكان أكثر أمناً يستطيع منه الانطلاق لنشر الدعوة الإسلاميّة إلى أرجاء الجزيرة العربية والعالم أجمع، فأخذ يعرض نفسه على القبائل وابتدأ أوّلاً بالطائف، وبعد عشرة أيام من مكوثه هناك لم تتجاوب معه ثقيف، بل أغْرت به الصبيان والخدم والعبيد ليرشقوه بالحجارة، فوقف عليّعليه‌السلام ومعه زيد بن حارثة يتلقّيان الضربات ويمنعان الصبية عن مواصلة الاعتداء حتى أصيبا بجروح في جسدهما، ومع ذلك تعرّض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإصابة وسالت الدماء من ساقيه(٢) .

وروي أنّه كان للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة هجرات أُخرى تحرّك خلالها لعرض نفسه على القبائل لنشر الدعوة الإسلامية وتحصين دعوته، ولم يكن معه في حركته إلاّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فخرج إلى بني عامر بن صعصعة والى ربيعة وبني شيبان(٣) . وعليّ يلازمه في كلّ خطواته.

ــــــــــــ

(١) أعيان الشيعة: ١ / ٢٣٥، وسيرة ابن هشام : ٢ / ٥٧، ٥٨.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١ / ١٢٧.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٤ / ١٢٥.

٤٨

عليعليه‌السلام في بيعة العقبة الثانية :

وحين تمّ الاتّفاق على اللقاء التأريخي بين طلائع المسلمين القادمين من المدينة مع قائدهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت عبد المطلب سرّاً وقف إلى جانب الرسول عمّه حمزة وعليّ والعباس(١) ، وتمّت البيعة على أفضل شكل.

وعلى رغم كلّ التدابير التي اتّخذت لسرّيّة اللقاء وإنجاحه إذ تمّ انعقاده دون علم أحد حتى من المسلمين، إلاّ أنّ أنباءه قد تسرّبت إلى المشركين، فتجمّعوا وأقبلوا مع أسلحتهم إلى مكان الاجتماع، فخرج إليهم حمزة ومعه عليّعليه‌السلام بسيفهما، فسألوا حمزة عن الاجتماع فأنكر ذلك فرجعوا خائبين.

إنّ حضور عليّعليه‌السلام في هذا الحدث الهام والاجتماع التأريخي يكشف عن دور عليّعليه‌السلام في أهمّ لحظات الدعوة وتأريخ الرسالة، لأنّه كان يعطي الأنصار صورة جيدة عن رسول الإسلام وعن حماية بني هاشم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتزداد ثقتهم واطمئنانهم بالدعوة والرسالة الإسلامية.

وكان تخطيطاً مُوفّقاً وتدبيراً محكماً من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ استعان بأشجع رجال بني هاشم حمزة وعليّعليهما‌السلام فهما اللّذان عُرفا بالبأس والشدّة في توفير القدر الكافي من الحماية للرسول وللرسالة معاً.

عليّعليه‌السلام ليلة هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة

كان الانفتاح الرسالي العظيم الذي قام به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثر المعاهدة التي أبرمها مع الأوس والخزرج في بيعة العقبة الثانية(٢) ، والذي كان نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية إلى العالم الأوسع، والخطوة الكبيرة لبناء المجتمع الرسالي

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ٢ / ١٧٤.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ١ / ٤٤٠، وموسوعة التاريخ الإسلامي: ١/٧٠٠.

٤٩

المؤمن، بعد أن انتشر الإسلام في يثرب بجهود الصفوة من الدعاة المخلصين والمضحّين من أجل الله ونشر تعاليم الإسلام، وبذا أصبح للمسلمين بقعة آمنة تمثّل محطة مركزية ومهمة لبلورة العمل الثقافي والتربوي والدعوة الإلهية في مجتمع الجزيرة العربية.

وحين تمادى طغاة قريش في إيذاء المسلمين والضغط عليهم لإرغامهم على ترك الدين الإسلامي وفتّهم عن نصرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحين كثر عتوّهم واضطهادهم; أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بالهجرة إلى يثرب، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ الله قد جعل لكم داراً تأمنون بها وإخواناً) ، فخرجوا على شكل مجاميع صغيرة وبدفعات متفرّقة خفيّة عن أنظار قريش(١) .

ومع كلّ المعاناة التي لاقاها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القريب والبعيد والضغوط والتكذيب والتهديد حتى قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في الله) (٢)  فإنّ أمله بالنصر على الأعداء والنجاح من تبليغ الدعوة الإسلامية لم يضعف، وثقته المطلقة بالله كانت أقوى من قريش ومؤامراتها، وقد عرفت قريش فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك وتجسّدت لديها الأخطار التي ستكشف عنها السنون المقبلة إذا تسنّى لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلتحق بأصحابه ويتّخذ من يثرب مستقراً ومنطلقاً لنشر دعوته، فأخذوا يعدّون العدّة ويخطّطون للقضاء عليه قبل فوات الأوان على شرط أن لا يتحمّل مسؤولية قتله شخص معيّن أو قبيلة لوحدها، فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة القبائل جميعاً في دم صاحبهم فيرضون حينئذ بالعَقل منهم.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية لابن هشام: ١ / ٤٨٠، والمناقب لابن شهرآشوب: ١ / ١٨٢، وموسوعة التاريخ الإسلامي: ١/٧١٧.

(٢) كنز العمال : ٣/١٣٠ ، ح ٥٨١٨، حلية الأولياء: ٦/٣٣٣.

٥٠

فكان القرار بعد أن اجتمعوا في دار الندوة وقد كثرت الآراء بينهم أن يندبوا من كلّ قبيلة فتىً شابّاً جلداً معروفاً في قبيلته، ويعطى كلّ منهم سيفاً صارماً ثم يجمعون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في داره، ويضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، واتّفقوا على ليلة تنفيذ الخطة، فأتى جبرئيل إلى النبيّ وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في فراشه، وأذن له بالهجرة، فعند ذلك أخبر عليّاً بأمورهم وأمره أن ينام في مضجعه على فراشه الذي كان ينام فيه، ووصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته، وقال له أيضاً:(إذا أبرمت ما أمرتك به; فكن على أُهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وسر لقدوم كتابي عليك) (١) ، وهنا تتجلى صفحة من صفحات عظمة عليعليه‌السلام ، إذ استقبل أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفس مؤمنة صابرة مطمئنّة، فرسم لنا أكمل صورة للطاعة المطلقة في أداء المهمّات استسلاماً واعياً للقائد وتضحية عظيمة من أجل العقيدة والمبدأ، فما كان جوابهعليه‌السلام إلاّ أن قال للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(أوتسلم يا رسول الله إن فديتك نفسي؟) .

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (نعم، بذلك وعدني ربّي) ; فتبسّم عليعليه‌السلام ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً ، شكراً لما أنبأه به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سلامته(٢) .

ثمّ ضمّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى صدره وبكى وَجْداً به، فبكى عليّعليه‌السلام لفراق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

وعندما جاء الليل; اتّشح عليّعليه‌السلام ببرد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي اعتاد أن يتّشح به، واضطجع في فراش النبيّ مطمئن النفس رابط الجأش ثابت الجنان مبتهجاً بما أوكل إليه فرحاً بنجاة النبيّ، وجاء فتيان قريش والشرّ يملأ نفوسهم

ــــــــــــ

(١) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ٤٥، وبحار الأنوار: ١٩ / ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) ذكر قصّة مبيت الإمام عليّعليه‌السلام في فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدد كبير من العلماء والمؤرّخين منهم: الطبري: ٢ / ٩٩، وأحمد بن حنبل في مسنده: ١ / ٣٣١، وأسد الغابة: ٤ / ٤٥، وابن عساكر في تأريخ دمشق: ١ / ١٣٧، والحاكم في المستدرك: ٣ / ٤ ، وبحار الأنوار : ١٩ / ٦٠ .

(٣) أعيان الشيعة: ١ / ٢٧٥.

٥١

ويعلو سيوفهم، وأحاطوا بالبيت وجعلوا ينظرون من فرجة الباب إلى حيث اعتاد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينام فيه فرأوا رجلاً ينام على فراشه، فأيقنوا بوجود النبيّ، واطمأنت قلوبهم على سلامة خطّتهم، فلمّا كان الثلث الأخير من الليل خرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدار وقد كان مختبئاً في مكان منها، وانطلق إلى غار (ثور) وكَمَنَ فيه ليواصل بعد ذلك هجرته المباركة.

ولمّا حانت ساعة تنفيذ خطّتهم; هجموا على الدار، وكان في مقدّمتهم خالد ابن الوليد، فوثب عليّعليه‌السلام من فراشه فأخذ منه السيف وشدّ عليهم فأجفلوا أمامه وفرّوا إلى الخارج، وسألوه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فقال: لا أدري إلى أين ذهب.

وبذلك كتب الله السلامة لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والانتشار لدعوته.

بهذا الموقف الرائع والإقدام الشجاع والمنهج الفريد سنّ عليّعليه‌السلام سنّة التضحية والفداء لكلّ الثائرين من أجل التغيير والإصلاح والسائرين في دروب العقيدة والجهاد. لم يكن همّ عليّعليه‌السلام إلاّ رضا الله وسلامة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتشار دعوته المباركة، فنزلت في حقّه الآية المباركة: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (١) .

مباهاة الله ملائكته بموقف عليّعليه‌السلام :

كان مبيت عليّعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خذلاناً سافراً لقريش المعتدية، فقد خابت آمالهم وفشلت خططهم في قتل الرسول، وكان فيها إرغام الشيطان وعلو شأن الإيمان، ولم يكن أيّ عمل نظيراً للمبيت في الثواب والقيمة،

ــــــــــــ

(١) البقرة (٢) : ٢٠٧. راجع في شأن نزول الآية شرح النهج لابن أبي الحديد: ١٣ / ٢٦٢، وإحياء العلوم للغزالي: ٣ / ٢٣٨، والكفاية للكنجي: ١١٤، والتذكرة لسبط ابن الجوزي: ٤١، ونور الابصار للشبلنجي: ٨٦، والطبقات لابن سعد: ١ / ٢١٢، وتأريخ اليعقوبي: ٢ / ٢٩، وسيرة ابن هشام: ٢ / ٢٩١، والعقد الفريد لابن عبد ربّه: ٣ / ٢٩٠، وتفسير الرازي: ٥ / ٢٢٣، وشواهد التنزيل للحسكاني: ١ / ٩٦.

٥٢

كيف وقد باهى الله بهذه التضحية ملائكته، كما روي:

أنه ليلةَ بات عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; أوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل:إنّي قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟

فاختار كلاهما الحياة وأحبّاها، فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل عليّ ابن أبي طالب حين آخيت بينه وبين محمّد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فوق سبع سماوات (١) ؟

مهامّ ما بعد ليلة المبيت :

مع إطلالة فجر اليوم الأوّل للهجرة المباركة وظِلال السلام والأمان الإلهي تحوط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ خطوة يخطوها نحو يثرب مقرّ الرسالة الإسلامية الجديد، انفرجت أسارير قلب عليّعليه‌السلام ، فقد انصرم الليل الرهيب باحتمالاته العديدة ومكارهه الكثيرة دون أن يقع شيء يمس حياتهعليه‌السلام بخطر أو مكروه، واستطاع أن يؤدّي المهمّة على أكمل وجه، فقد كان على قدر عال من الانضباط والدقّة والوعي في التنفيذ.

وبقيت أمام عليّعليه‌السلام مهمات أُخرى لم يكن بمقدور أحد أن يقوم بها، منها: أداء الأمانات التي كانت مودعة عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابها ـ وهم من المشركين ـ الذين وثقوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمانته وإخلاصه، فقد اشتهر بين قريش بالصادق الأمين، وكذلك من يقدم من العرب في الموسم فأودعوا عنده الحلي

ــــــــــــ

(١) تذكرة الخواص: ٤١، والسيرة الحلبية بهامشه السيرة النبوية: ٢ / ٢٧، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ٤٨، والمناقب لابن شهرآشوب: ٢ / ٦٥، وبحار الأنوار: ١٩ / ٣٩، وأسد الغابة لابن الأثير: ٤ / ٢٥.

٥٣

والأموال، ولم يكن الرسول ممّن يخل بتعهداته أو يخون أماناته حتى ولو كانت الظروف المحيطة صعبة والخطورة تهدّد حياته الشريفة في تلك اللحظات المتسارعة التي يطير لبّ العاقل فيها، لم ينس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يوكل هذه المهمّة إلى رجل يقوم بها خير قيام، ولم يكن إلاّ عليّعليه‌السلام لأنّه الأعرف بشؤون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمودعين وأموالهم وهو القويّ الأمين.

فأوصلعليه‌السلام الأمانات إلى مَن كان من أصحابها، ثم قام على الكعبة منادياً بصوت رفيع:يا أيّها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من صاحب عدة له قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فلمّا لم يأت أحد لحق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان مقام عليّ بن أبي طالب بعد النبي بمكّة ثلاثة أيام(١) .

هجرة الإمام عليّعليه‌السلام :

وصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى (قُبا) بسلام، واستقبلته جموع الأنصار، ومن هناك بعث بكتابه إلى عليّعليه‌السلام يأمره فيه بالمسير إليه والإسراع في اللحاق به، وكان قد أرسل إليه أبا واقد الليثي، وحين وصل إليه كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشترى عليّعليه‌السلام الركائب وأعدّ العدّة للخروج، وأمر من بقي معه من ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا(٢) إذا ملأ الليل بطن كلّ واد إلى ذي طوى(٣) ، وبدأت المهمّة الشاقّة الثالثة أمام عليّعليه‌السلام وهي الرحيل برفقة النساء نحو يثرب، وخرج هو ومعه الفواطم: فاطمة بنت رسول الله، واُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفاطمة بنت حمزة، وتبعهم أيمن مولى

ــــــــــــ

(١) المناقب لابن شهرآشوب: ٢ / ٥٨، ومروج الذهب للمسعودي: ٢ / ٢٨٥.

(٢) يتخفّفوا: لا يحملوا معهم شيئاً يثقل عليهم.

(٣) ذي طوى: موضع قرب مكة .

٥٤

رسول الله وأبو واقد الليثي(١) .

وتولّى أبو واقد الليثي سوق النياق، ولشدّة خشيته كان يحثّ الخطى سريعاً حتى لا يلحق بهم الأعداء.

وعزّ على عليّعليه‌السلام أن يرى نساء بني هاشم على تلك الحالة من الجهد والعناء من سرعة الحركة، فقالعليه‌السلام :ارفق بالنسوة أبا واقد، إنّهن من الضعائف .

وأخذعليه‌السلام بنفسه يسوق الرواحل سوقاً رقيقاً، وهو ينشد ليبعث الطمأنينة في نفوس من معه:

وليس إلاّ الله فارفع ظنَّكا

يكفيك ربّ الناس ما أهمّكا

واستمرّ عليّعليه‌السلام على هدوئه في قيادة الركب حتى شارف على قرية في الطريق تُسمى (ضجنان) وهناك أدركته القوّة التي أرسلتها قريش للقبض عليه ومن معه وإعادتهم إلى مكّة ، وكانوا سبعة فوارس من قريش ملثّمين معهم مولىً لحرب بن اُمية اسمه (جناح) ، فقال عليعليه‌السلام لأيمن وأبي واقد : أنيخا الإبل واعقلاها ، وتقدّم هو فأنزل النسوة ثمّ استقبل الفوارس بسيفه ، فقالوا له : أظننت يا غدّار أنّك ناجٍ بالنسوة ، إرجع لا أباً لك .

فقالعليه‌السلام : فإنلم أفعل ؟ فازدادوا حنقاً وغيظاً منه ، فقالوا له : لترجعنّ راغماً أو لنرجعنّ بأكثرك شعراً وأهون بك من هالك .

ودنا بعضهم نحو النياق ليفزعوها حتى يُدخلوا الخوف والرعب إلى قلوب النسوة ، فحال عليّعليه‌السلام بينهم وبين ذلك ، فأسرع نحوه جناح وأراد ضربه بسيفه فراغ عنه عليّعليه‌السلام وسارعه بضربة على عاتقه فقسمه نصفين حتى وصل السيف إلى كتف فرس جناح (٢) ، ثمّ شدّ على بقية الفرسان وهو راجل، ففرّوا من بين يديه فزعين خائفين.

ــــــــــــ

(١) أمالي الطوسي : ٢ / ٨٤ ، وعنه بحار الأنوار : ١٩ / ٦٤ .

(٢) بحار الأنوار : ١٩ / ٦٥ .

٥٥

وقالوا: احبس نفسك عنّا يا ابن أبي طالب، فقال لهم:فإنّي منطلق إلى أخي وابن عمّي رسول الله، فمن سرّه أن أفري لحمه وأُريق دمه فليدنُ منّي ، فهرب الفرسان على أدبارهم خائبين.

ثمّ أقبلعليه‌السلام على أيمن وأبي واقد وقال لهما:أطلقا مطاياكما ، فواصل الركب المسير حتّى وصلوا (ضجنان) فلبث فيها يوماً وليلة حتى لحق به نفر من المستضعفين، وبات فيها ليلته تلك هو والفواطم يصلّون ويذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلّى بهم عليّعليه‌السلام صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله حتى قدموا المدينة.

وقد نزل الوحي قبل قدومهم بما كان من شأنهم وما أعدّه الله لهم من الثواب والأجر العظيم بقوله تعالى:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ * * * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ ... وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) (١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (قباء) نازلاً على عمرو بن عوف، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يصلّي الخمس قصراً، يقولون له: أتقيم عندنا فنتّخذ لك منزلاً ومسجداً؟ فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا، إنّي أنتظر عليّ بن أبي طالب، وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطناً منزلاً حتى يقدم عليٌّ، وما أسرعه إن شاء الله ! (٢)

وحين وصل عليّعليه‌السلام ; كانت قدماه قد تفطّرتا من فرط المشي وشدّة الحرّ، وما أن رآه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تلك الحالة; حتى بكى عليه إشفاقاً له، ثمّ مسح

ــــــــــــ

(١) آل عمران (٣) : ١٩١ ـ ١٩٥ ، راجع بحار الأنوار : ١٩ / ٦٦ ـ ٦٧ .

(٢) روضة الكافي: ٣٣٩.

٥٦

يديه على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك(١) .

ثمّ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قدم عليه عليّعليه‌السلام ; تحوّل من قباء إلى بني سالم ابن عوف وعلي معه، فخطّ لهم مسجداً، ونصب قبلته، فصلّى بهم فيه ركعتين، وخطب خطبتين، ثمّ راح من يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعليّ لا يفارقه، يمشي بمشيه، وأخيراً نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند أبي أيوب الأنصاري وعليّ معه حتى بنى له مسجده وبنيت له مساكنه، ومنزل عليّعليه‌السلام فتحوَّلا إلى منازلهما(٢) .

من معاني مبيت الإمامعليه‌السلام في فراش النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

١ ـ إنّ مبيت الإمامعليه‌السلام ليلة الهجرة في فراش النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثابة إعلان عن نضج شخصية الإمام علي الرسالية، وأهليّته في أن يمثّل شخصيّة الرسول الّذي يعهد إليه في كلّ أمر مستصعب وخطب جليل ودعوة مهمّة.

٢ ـ كانت عملية التمويه على قريش بارتداء الإمامعليه‌السلام رداء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومبيته في فراشه ربطاً لصلة القرابة بالعلاقة المبدئية، وتأكيداً لمبدأ أنّ نفس علي هي نفس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخصوصاً حين أتمّ مهامّه الأخرى التي تصرّف فيها الإمام بالأمور المالية والاجتماعية الخاصة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ إنّ ثبات الإمامعليه‌السلام ثلاثة أيام في مكّة كان تأكيداً لشجاعته حين أعلن الإمام بكلّ جرأة وثقة موقفه المبدئي بأنّه ثابت على خطى الرسول، وقد نفّذ أوامره وأنجز مهامه بهدوء ودقة تامّة، ثمّ هجرته العلنية أمام أنظار قريش.

٤ ـ تجلّت في عملية المبيت بعض الجوانب العظيمة من شخصيّة الإمامعليه‌السلام والتي أوجزت حقيقة شجاعة الإمام وقوّته النفسية والبدنية ونضوجه الذهني ووعيه الرسالي واستيعابه للأوامر الآلهية.

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ١٩ / ٦٤، والمناقب لابن شهرآشوب: ١ / ١٨٢، والكامل لابن الأثير: ٢ / ١٠٦.

(٢) روضة الكافي: ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

٥٧

المرحلة الثالثة : عليّعليه‌السلام من الهجرة إلى وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١ ـ عليّعليه‌السلام والمؤاخاة :

حين شرع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتكوين نواة المجتمع الإسلامي وأراد أن يزيد من تماسك عرى العلاقات بين أفراد المجتمع ؛ أخيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين في موقف صريح بيّن ليرسّخ مبدأً أساسياً من مبادئ الإسلام الحنيف ، وهو ما تتطلبه الدعوة الإسلامية في مرحلتيها السرية والعلنية ، فوقعت أوّل مؤاخاة في الإسلام في مكّة قبل الهجرة ، حيث آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار ، وحين نتفحّص عملية المؤاخاة نجد أنّ الرسول ضمّ الشكل إلى الشكل والمثل إلى المثل(١) ، لأنّ الأخوة عملية استراتيجية واسعة ذات معاني ودلالات حركيّة في مسيرة الدعوة الإسلاميّة ، فعبر جسر الأخوة تتماسك العلاقات بين المسلمين كما تنضج الأفكار ويتحقّق الإبداع .

روي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا آخى بين أصحابه آخى بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، ولم يؤاخِ بين عليّ بن أبي طالب وبين أحد منهم(٢) .

فقال عليّعليه‌السلام :يا رسول الله ! لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت بغيري ، فإن كان هذا من سخط عليَّ ؛ فلك العُتبى والكرامة .

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :والذي بعثني بالحق ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي .

فقالعليه‌السلام :وما أرث منك ؟

ــــــــــــ

(١) كفاية الطالب للحافظ الكنجي : ١٩٤ .

(٢) الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي : ٣٨ ، والغدير للعلاّمة الأميني : ٣ / ١١٢ .

٥٨

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما ورّث الأنبياء من قبلي ، كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم ، وأنت معي في قصري في الجنّة (١) .

وأمّا المؤاخاة الثانية فكانت في المدينة بعد الهجرة بأشهر قليلة(٢) .

٢ ـ اقتران عليّعليه‌السلام بالزهراءعليها‌السلام :

بعد أن استقرّ المقام بالمسلمين وبدأت مبادئ الإسلام وتعاليمه تترسّخ في نفوس المسلمين وظهرت يدهم القويّة في الدفاع عن الرسالة والرسول ؛ تفتّحت العلاقات بين المسلمين في صورة مجتمع متمدّن ونهضة ثقافية اجتماعية شاملة ، يتزعّمها الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي عصمه الله في الفهم والتلقّي والإبلاغ والتربية والتنفيذ ، وها هو عليّعليه‌السلام قد تجاوز العشرين من عمره الشريف وهو يصول في سوح الجهاد والدفاع عن العقيدة والدعوة الإسلامية ، ويقف مع الرسول في كلّ خطواته ، وقد بلغ من نفس الرسول أعلى منزلة ، يعيش معه وهو أقرب من أيّ واحد من المسلمين ، وبعد أن انقضت سنتان من الهجرة وفي بيت الرسول بلغت ابنته الزهراءعليها‌السلام مبلغ النساء ، وشرع الخطّاب بما فيهم أبو بكر وعمر(٣) يتسابقون إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطلبونها منه وهو يردّهم ردّاً جميلاً ويقول : إنّي أنظر فيها أمر الله ، وكان عليّ من الراغبين في الزواج منها .

ولكن كان يمنعه عن مفاتحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحياء وقلّة ذات اليد ، فلم يكن

ــــــــــــ

(٢) أخرجه أحمد بن حنبل في مناقب عليّعليه‌السلام ، وتأريخ دمشق لابن عساكر : ٦ / ٢٠١ ، وكنز العمال للمتّقي الهندي : ٥ / ٤٠ ، وكشف الغمة : ١ / ٣٢٦ .

(٢) كفاية الطالب للكنجي : ٨٢ ، تذكرة الخواص : ١٤ ، والفصول المهمّة : ٣٨ .

كما وردت أحاديث المؤاخاة بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّعليه‌السلام يصيغ مختلفة ومصادر عديدة منها : تأريخ ابن كثير : ٧ / ٢٣٥ ، والفصول المهمّة : ٢٢ ، ومسند أحمد : ١ : ٢٣ ، وتأريخ ابن هشام : ٢ : ١٣٢ ، وتأريخ دمشق : ٦ / ٢٠١ ، وفرائد السمطين : ١ / ٢٢٦ ، والغدير : ٣ / ١١٥ ، وكفاية الطالب : ١٨٥ .

(٣) كشف الغمة : ١ / ٣٥٣ .

٥٩

عليّعليه‌السلام من الذين يملكون الأموال ن وبتشجيع من بعض أصحاب الرسول تقدّم عليّ لخطبة الزهراء ، فدخل على النبيّ وهو مطرق إلى الأرض من الحياء ، فأحسّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما في نفسه فاستقبله ببشاشته وطلاقة وجهه الكريم ، وأقبل عليه يسأله برفق ولطف عن حاجته ، فأجابهعليه‌السلام بصوت ضعيف :يا رسول الله تزوّجني من فاطمة ؟

فردّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً :مرحباً وأهلاً ، ودخل على بضعته الزهراء ليعرض عليها رغبة عليّعليه‌السلام فيها ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها :لقد سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم اليه ، وقد عرفت عليّاً وفضله ومواقفه ، وجاءني اليوم خاطباً فما ترين ؟ فأمسكت ولم تتكلّم بشيء ، فخرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول :سكوتها رضاها وإقرارها .

ثمّ إنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع المسلمين وخطب فيهم ، فقال :إنّ الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ ...

ثمّ التفت إلى عليّعليه‌السلام فقال :

لقد أمرني ربّي أن أزوجك فاطمة أرضيت هذا الزواج يا عليّ ؟ فقالعليه‌السلام :رضيته يا رسول الله ، وخرّ ساجداً لله .

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :بارك الله فيكما ، وجعل منكما الكثير الطيب .

وجاء عليّعليه‌السلام بالمهر الذي هيّأه من بيع درعه فوضعه بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمر الرسول أبا بكر وبلالاً وعمّاراً وجماعةً من الصحابة وأم أيمن لشراء جهاز الزواج ، ولمّا تم الجهاز وعرض على الرسول ؛ جعل يقلّبه بيده ويقول : بارك الله لقوم جلّ آنيتهم من الخزف .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٤ ـ( وَالنّازِعاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرجُف الراجِفَة * تَتْبَعُها الرّادِفَة ) (١)

وهانحن نبحث عن أقسام سورة الصافّات والذاريات في فصلَين مُتتالين ، ونُحيل بحث أقسام سورة المُرسَلات والنازعات إلى محلّها ، حسب ترتيب السور

وقبل الخوض في تفسير الآيات ، نُقدِّم شيئاً من التوحيد في التدبير :

إنّ من مراتب التوحيد في الربوبيّة التدبير ، بمعنى أنّه ليس للعالم مُدبِّر سواه ، يقول سبحانه :( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (٢)

فصَدر الآية يُركّز على حصر الخالق في اللّه ، كما يُركِّز على أنّه هو المُدبّر ، وأنّه لو كان هناك سبب في العالم ( شفيع ) فإنّما هو يؤثَر بإذنه سبحانه ، فاللّه هو الخالق وهو المُدبِّر ، قال سبحانه :( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجرِي لأجَلٍ مُسمّى يُدبِّرُ الأمْرَ يُفصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون ) (٣)

ويظهر من الآيات الكريمة أنّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحّدين في الخالقيّة ، ولكن مشركين في الربوبيَّة والتدبير ، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة ، ولذلك قرَّر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد ، وأنّه خالق ، وأنّه مُدبِّر ، غير أنّ معنى التدبير في التوحيد ليس عزل العِلل والأسباب المادِّية والمجرَّدة في تحقّق العالم وتدبيره ، بل المراد أنّ للكون مُدبِّراً قائماً بالذات ، مُتصرفاً كذلك ، لا يشاركه في التدبير شيء ، ولو كان هناك مُدبِّر وحافظ ، فإنّما هو يُدبِّر بأمره وإذنه

ــــــــــــــــ

(١) النازعات : ١ـ٧

(٢) يونس : ٣

(٣) الرعد : ٢

٨١

فعندما يُحصر القرآن الكريم التدبير في اللّه ، يريد التدبير على وجه الاستقلال ، أي : مَن يُدبِّر بنفسه غير مُعتمِد على شيء ، وأمّا المُثبّت لتدبير غيره ، فالمراد منه أنّه يُدبِّر بأمره وإذنه ، وحوله وقوَّته ، على النحو التَبَعِي ، فكلّ مُدبِّر في الكون فهو مَظْهرُ أمره ومُنفِّذ إرادته ، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الأوّل من مفاهيم القرآن

ويظهر من غير واحد من الآيات ، أنّ الملائكة من جنوده سبحانه ، وأنّها وسائط بين الخالق والعالَم ، وأنّهم يقومون ببعض الأعمال في الكون بأمر من اللّه سبحانه ، وستتَّضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية

إنّ للعلاّمة الطباطبائي كلاماً في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه و بين الأشياء ، حيث يقول : الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بِدءاً وعَوداً ، على ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق المادِّية في العالم المشهود ، قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده

أمّا في العود ، أعني : حال ظهور آيات الموت ، وقبض الروح ، وإجراء السؤال ، وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكلّ بنَفْخِ الصور وإحيائهم بذلك ، والحشر وإعطاء الكتاب ، ووضع الموازين والحساب ، والسَوْق إلى الجنَّة والنار ، فوساطتهم فيها غنيّة عن البيان ، والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والأخبار المأثورة فيها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فوق حدِّ الإحصاء

وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ، ودفع الشياطين عن المُداخلة فيه ، وتسديد النبي وتأييد المؤمنين ، وتطهيرهم بالاستغفار

٨٢

وأمّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة ، فيدلّ عليها ما في مُفتَتح هذه السورة ، من إطلاق قوله :( والنازِعاتِ غَرقاً * وَالناشِطاتِ نَشطاً * وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) (١)

الصافّات والقَسَم بالملائكة :

لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة وقال :

أ ـ( وَالصّافّاتِ صَفّاً )

ب ـ( فَالزّاجِراتِ زَجْراً )

ج ـ( فالتّاليات ذِكراً * إِنَّ إلهَكُم لواحِد ) (٢)

وكلّ هذه الثلاثة مُقسَم به ، والمُقسَم عليه هو قوله :( إِنَّ إلهكم لواحد )

وإليك تفسير المُقسَم به فيها :

فالصافّات : جمع صافَّة ، وهي من الصفِّ بمعنى جعل الشيء على خطٍّ مستوٍ ، يقول سبحانه :( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً ) (٣)

والزاجرات : من الزَجْرِ ، بمعنى الصرفِ عن الشيء بالتخفيف والنهي

والتاليات : من التلاوة ، وهي جمع تالٍ أو تالية

غير أنّ المهمّ بيان ما هو المقصود من هذه العناوين ، ولعلّ الرجوع إلى القرآن الكريم يُزيح الغموض عن كثير منها

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/١٨٢ـ ١٨٣

(٢) الصافّات : ١ـ٤

(٣) الصف : ٤

٨٣

يقول سبحانه حاكياً عن الملائكة :( وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم * وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون * وَإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُون ) (١)

فينطبق على الملائكة أنّهم الصافّون حول العرش ، ينتظرون الأمر والنهي من قبل اللّه تعالى

نعم ، وصفَ سبحانه الطير بالصافّات وقال :( وَالطَّيرَ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسبِيحَهُ ) (٢) ، وقال :( أَوَ لَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ صافّاتٍ وَيَقْبضْنَ ) (٣) ، كما أمر سبحانه على أن تُنحر البُدن وهي صوافّ ، قال سبحانه :( وَالبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيرٌ فاذْكُرُوا اسمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ ) (٤)

والمعنى : أن تُعقَل إحدى يديها وتقوم على ثلاث ، فتُنحَر كذلك ، فيُسوّى بين أظلفتها لئلاّ يتقدَّم بعضها على بعض

وعلى كلّ تقدير ، فمن المحتمَل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافّات ، ويمكن أن يكون المحلوف به كلّ ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم ، وإن كان الوجه الأوّل هو الأقرب

وأمّا الثانية ، أي الزاجرات : فليس في القرآن ما يدلّ على المقصود به ، فلا محيص من القول بأنّ المراد : الجماعة الّذين يزجرون عن معاصي اللّه ، ويحتمل أن ينطبق على الملائكة ، حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالإلهام إلى قلوب الناس

قال سبحانه : ( وَما أُنْزِلَ عَلى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) (٥) ، كما أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم بالدعوة إلى المعاصي

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١٦٤ـ ١٦٦

(٢) النور : ٤١

(٣) المُلك : ١٩

(٤) الحجّ : ٣٦

(٥) البقرة : ١٠٢

٨٤

قال سبحانه :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (١)

والتاليات : هنّ اللواتي يتلون الوحي على النبي المُوحى إليه

فالمرادُ من الجميع الملائكة

وثَمَّة احتمال آخر ، وهو أنّ المراد من الصفات الثلاث هم العلماء ، فإنّهم هم الجماعة الصافّة أقدامها بالتهجّد وسائر الصلوات ، وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح ، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه والدارِسة شرائعه

كما أنّ ثَمّة احتمالاً ثالثاً ، وهو أنّ المراد هم الغزاة في سبيل اللّه ، الّذين يصفّون أقدامهم ، ويزجرون الخيل إلى الجهاد ، ويتلون الذكر ، ومع ذلك لا يشغلهم تلك الشواغل عن الجهاد

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّ إِلهكم لَواحد )

والصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه : هي أنّ الملائكة أو العلماء أو المجاهدين الّذين وصفوا بصفات ثلاث ، هم دعاة التوحيد وروّاده ، وأبرز مصاديق من دعا إلى التوحيد على وجه الإطلاق ، وفي العبادة خاصّة

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ١١٢

٨٥

الفصل الثاني : القَسَم في سورة الذاريات

لقد حلف سبحانه بأُمور أربعة مُتتابعة وقال :

( وَالذّارِياتِ ذَرْواً )

( فَالحامِلاتِ وِقْراً )

( فَالجارِياتِ يُسْراً )

( فَالمُقسِّمات أمراً * إِنّما تُوعدونَ لصادِقٌ * وإنَّ الدِّينَ لَواقِع ) (١)

ثُمّ حلف بخامس فرداً ، أي قوله :( وَالسَّماءِ ذاتِ الحُبُك )

أمّا الأوّل ، أعني :( والذارِيات ذَرواً ) : فهي جمع ذارية ، ومعناها الريح الّتي تنشر شيئاً في الفضاء ، يقول سبحانه :( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) (٢) ، ولعلّ هذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح

وأمّا الحاملات : فهي من الحِمل ، والوِقرـ على زنة الفِكْر ـ ذو الوزن الثقيل

والمراد منه : السحب ، يقول سبحانه :( هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنشىَُ السَّحابَ الثِّقال ) (٣) ، وقال سبحانه :( حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ٦

(٢) الكهف : ٤٥

(٣) الرعد : ١٢ .

٨٦

مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماء ) (١)

وأمّا الجاريات ، فهي جمعُ جارية ، والمراد بها السُفن ، بشهادة قوله سبحانه :( حَتّى إِذا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة ) (٢) ، وقال :( وَالفُلْكِ الّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاس ) (٣) ، وقال سبحانه :( إِنّا لَمّا طَغا الماءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَة ) (٤)

وأمّا المُقسِّمات ، فالمراد الملائكة الّتي تُقسَّم الأرزاق بواسطتها ، الّتي ينتهي إليه التقسيم

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإقسام بالملائكة الّذين يعملون بأمره ، فيقسِّمونه باختلاف مقاماتهم ، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد ، فإذا حمله طائفة من الملائكة ، على اختلاف أعمالهم ، انشعب الأمر وتقسَّم بتقسيمهم ، ثُمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأُولى تَقسَّم ثانياً بتقسيمهم وهكذا ، حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونيّة الجزئية ، فيَنقسم بانقسامها ويتكثّر بتكثُّرها

والآيات الأربع تُشير إلى عامّة التدبير ، حيث ذكرت أنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في البرِّ ، وهو الذاريات ذرواً ، وأنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في البحر ، وهو الجاريات يسراً ، وأنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في الجوّ ، وهو الحاملات وقراً ، وتمَّم الجميع بالملائكة الّذين هم وسائط التدبير ، وهم المقسِّمات أمراً

فالآيات في معنى أن يقال : أُقسم بعامَّة الأسباب الّتي يتمَّم بها أمر التدبير في العالم ، أن كذا كذا.

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ٥٧

(٢) يونس : ٢٢

(٣) البقرة : ١٦٤

(٤) الحاقّة : ١١

٨٧

وقد ورد من طرق الخاصّة والعامّة عن عليعليه‌السلام تفسير الآيات الأربع(١)

وبذلك يُعلَم قيمة ما روي عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير الآية ، عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة ـ وهو يخطب على المنبر ـ ، فقال :

قال : ما الذاريات ذرواً ؟

قال عليه‌السلام : الرياح . قال : فالحاملات وقراً ؟

قال عليه‌السلام : السَحاب قال : فالجاريات يسراً ؟

قال عليه‌السلام : السُفن قال : فالمقسِّمات أمراً ؟

قال عليه‌السلام : الملائكة .

ثُمّ إنّه سبحانه حلفَ بالذاريات بواو القَسَم ، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات بالفاء ، فيحمل المعطوف معنى القَسَمِ أيضاً

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه : هو قوله :( إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وَإِنَّ الدِّين لواقِع ) ، أي إنّما توعدون من الثواب و العقاب والجنّة والنار لصادق ، أي : صِدقٌ لابدّ من كونه ، فهو اسم الفاعل موضع المصدر ، وإنّ الدِّين أي : الجزاء لواقع ، والحساب لكائن يوم القيامة

وعلى ذلك ،( إِنَّما تُوعَدونَ لَصادق ) جواب القَسَم ، وقوله :( إنّ الدِّين لواقِع ) معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى : أُقسِم بكذا وكذا ، إنّ الّذي توعدونه من يوم البعث ، وإنّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ ، لَصادِق وإنّ الجزاء لواقِع(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١٨/٣٦٥

(٢) الميزان : ١٨/٣٦٦

٨٨

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه هو ، أنّه سبحانه أقسمَ بعامّة الأسباب الّتي يتمّ بها أمر التدبير في العالم ، لغايةِ أنّ هذا التدبير ليس سُدى وبلا غاية ، والغاية هي يوم الدِّين والجزاء ، وعود الإنسان إلى المعاد ، إذ لولا الغاية ، لأصبح تدبير الأمر في البرّ والبحر والجوّ وتدبير الملائكة ، شيئاً عبثاً بلا غاية ، فهو سبحانه يحاول أن يُبيِّن أنّما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث ، وانتقال الإنسان من هذه الدار إلى دار أُخرى هي أكمل

وفي ختام البحث نودّ أن ننقل شيئاً عن عظمة الرياح والسحاب ، والّتي كشف عنها العلم الحديث فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجوِّ ، إذا سارت متوازية مع سطح الأرض ، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مئة كيلومترٍ في الساعة ، فتُسمَّى زوبعة ، وإذا زادت على مئة ، سُمّيَت إعصاراً ، وقد تصل سرعة الإعصار إلى ٢٤٠ كيلومتراً في الساعة

والرياح هي العامل المهمّ في نقل بخار الماء وتوزيعه ، وتكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد ، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبُّع تتكوّن السُحب ويختلف ارتفاع السُحب على حسب نوعها ، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من ١٢ كيلومترا كسَحاب السيرس الرقيق وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة ، لا يمكن نزول قطرات المَطر المتكوِّن ؛ وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها ، ورفعها معه إلى أعلى ، حيث ينمو حجمها ، ويزداد قطرها ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر ، تتناثر إلى نقط صغيرة ، لا تلبث أن تكبر بدورها ، ثُمّ تتجزّأ بالطريقة السابقة وهكذا

وكلمّا تناثرت هذه النقط ، تُشحَن بالكهرباء الموجبة وتنفصل الكهرباء السالبة الّتي تحمل الرياح.

وبعد مُدَّة تصير السُحب مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء ، فعندما تقترب الشُحنتان بعضهما من بعض ـ بواسطة الرياح كذلك ـ يتمّ التفريغ الكهربائي ، وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وَميض البرق لحظة قصيرة ، وبعده يُسمَع الرَعد ، وهو عبارة عن : الموجات الصوتيَّة الّتي يُحدِثها الهواء ، وما هي إلاّ بُرهة حتى تُخيِّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون ، ثُمّ تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الأرض ، وفجأة يشتدّ المطر ويستمرّ حتى تأخذ الأرض ما قدَّر اللّه لها من الماء(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ١٣٥ـ ١٣٦

٨٩

الفصل الثالث : القَسَم في سورة الطُور

حلف سبحانه في سورة الطور بأُمور ستّة وقال :

( وَالطُّور * وَكِتابٍ مَسْطُور * في رقٍّ مَنْشُور * وَالْبَيتِ المَعْمُور * وَالسَّقْفِ المَرْفُوع * وَالْبَحْرِ المَسْجُور * إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (١)

تفسير الآيات :

الطُور : اسم جبل خاصّ ، بل اسم لكلِّ جبل ، ولو قلنا بصحّة الإطلاق الثاني ، فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية ، لا كلّ جبل ؛ بشهادة كونه مقروناً بالألف واللام

ومَسطور : من السَطر ، وهو الصفّ من الكتابة ، يُقال : سطَّر فلان كذا ، أي : كتب سطراً سطراً

والظاهر أنّ المراد من ( مَسطور ) هنا هو المُثبّت بالكتابة ، قال سبحانه :( كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مَسْطُوراً ) ( أي : مُثبَّتاً ومحفوظاً )

و رَقّ : ما يُكتَب فيه ، ( شبه الكاغَد )

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ١ـ ٨

٩٠

ومنشور : من النَشْرِ ، وهو البَسط والتفريق ، يقال : نشر الثوب والصحيفة وبسطَهما ، قال سبحانه :( وَإِذا الصُّحُف نُشرَت ) ، وقال :( وَإِلَيْهِ النُّشور )

والمَسجُور : من السَجر وهو : تَهييج النار ، يقال : سَجرتُ التنّور ، ومنه البحر المَسجور ، وقوله :( وإِذَا البِحارُ سُجِّرت ) ، وربّما يُفسَّر المسجور بالمملوء

والمراد من الطُور ـ كما تشهد به القرائن ـ : هو الجبل المعروف الّذي كلّم اللّه فيه موسىعليه‌السلام ، ولعلّه هو جبل طور سينين ، قال سبحانه :( وَطُورِ سِينِين ) (١) ، وقال سبحانه :( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ) (٢) ، وقال في خطابه لموسىعليه‌السلام :( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالواد المُقدَّس طُوىً ) (٣)

وقال سبحانه :( نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) (٤)

وهذه الآيات تُثبِت أنّ المُقسَم به جبل مُعيَّن ، ومع الوصف يحتمل أن يُراد مطلَق الجبل ؛ لما أُودع فيه من أنواع نعمه ، قال تعالى :( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوقِها وَبارَك فِيها ) (٥)

والمراد من كتاب مَسطور : هو القرآن الكريم ، الّذي كان يُكتَب في الورق المأخوذ من الجِلد

وأمّا وصفه بكونه منشوراً ، مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطِّه ووَرَقه ، هو الإشارة إلى الوضوح ؛ لاَنّ الكتاب المَطوي لا يُعلَم ما فيه ، فقال هو فيرَقٍّ منشور ، وليس كالكتب المَطويَّة ،

ــــــــــــــــ

(١) التين : ٢

(٢) مريم : ٥٢

(٣) طه : ١٢

(٤) القَصص : ٣٠

(٥) فُصّلت : ١٠

٩١

ومع ذلك ، يُحتمَل أن يُراد منه صحائف الأعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتاباً يَلقاهُ مَنْشُوراً ) (١) ، كما يُحتمَل أن يراد منه اللوح المحفوظ ، الّذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون وما هو كائن ، تقرأه ملائكة السماء

وهناك احتمال رابع ، وهو أنّ المراد هو التوراة ، وكانت تُكتَب بالرَقِّ وتُنشَر للقراءة ، ويُؤيّده اقترانه بالحلفِ بالطُور

وأمّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المُشرَّفة ، فإنّها أوّل بيت وُضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى :( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّة مُباركاً وَهُدى لِلْعالَمين ) (٢)

ولعلّ وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجّاج الطائفين به والعاكفين حوله

وقد فُسِّر في الروايات ببيتٍ في السماء إزاء الكعبة ، تزوره الملائكة ، فوصفه بالعمارة لكَثرةِ الطائفين به

والسَقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه :( والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعََ الْمِيزان ) (٣)

وقال :( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَونَها ) (٤)

قال سبحانه :( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعرِضُون ) .(٥)

ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض ، الّذي سيلتهب قبل يوم القيامة ثُمّ ينفجر

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ١٣

(٢) آل عمران : ٩٦

(٣) الرحمن : ٧

(٤) الرعد : ٢

(٥) الأنبياء : ٣٢

٩٢

قال سبحانه :( وَإِذَا البِحارُ سُجِّرَت ) (١) ، وقال تعالى :( وَإِذَا البِحارُ فُجِّرَت ) (٢)

ثُمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأُولى يجمعها شيء واحد ، وهو صِلتها بالوحي وخصوصيّاته ، حيث أنّ الطور هو محلّ نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الّذي يطوف به الملائكة ، الّذين هم رُسل اللّه

وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السَقف المرفوع والبحر المَسجور ، فهما من الآيات الكونيّة ، ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته

لكنّ الرازي ذهب إلى أنّ الأقسام الثلاثة الّتي بينها صِلة خاصّة ، هي : ( الطُور والبيت المعمور والبحر المسجور ) ، وإنّما جمعها في الحلف بها ؛ لأنّها أماكن لثلاثة أنبياء ، ينفردون بها للخلوة بربِّهم ، والخلاص من الخلق ، والخطاب مع اللّه

أمّا الطُور فانتقل إليه موسى ، والبيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبحر المَسجور يونسعليه‌السلام ، وكلٌّ خاطب اللّه هناك ، فقال موسى :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاء ) (٣) ، وقال أيضاً :( أرِني أنظر إليك ) ، وأمّا نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :( السلامُ علينا وعلى عبادِ اللّه الصالحين ، لا أُحصي ثناء عليك كما أثنيتَ على نفسك ) ، وأمّا يونس فقال :( لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمين ) (٤)

فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب ، وحلف اللّه تعالى بها

وأمّا ذكر الكتاب ؛ فانّ الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع اللّه تعالى كلام ، والكلام في الكتاب واقترانه بالطُور أدلّ دليل على ذلك ؛ لاَنّ موسىعليه‌السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطُور

ــــــــــــــــ

(١) التكوير : ٦

(٢) الانفطار : ٣

(٣) الأعراف : ١٥٥

(٤) الأنبياء : ٨٧

٩٣

وأمّا ذكر السَقف المرفوع ومعه البيت المعمور ؛ ليُعلَم عظمة شأن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (٢)

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به ـ على تعدّده ـ والمُقسَم عليه ، هو أنّ المُقسَم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة ، وعدم القدرة على دفعه

فإذن ، ناسب أن يقسم بالكتاب ـ أي : القرآن ـ والتوراة اللَذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميَّتها

كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة ، كالسقف المرفوع والبحر المسجور ، حتى يُعلَم أنّ صاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر ، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقِع ، وليس له دافع

ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزاً كبيراً من سطح الأرض ، يبلغ نحو ثلاثة أرباعه ، وتختلف صفات الماء عن الأرض بسهولة تدفّقه من جهة إلى أُخرى ، حاملاً الدفء أو البرودة ، وله قوّة انعكاس جيّدة لشعاع الشمس ، ولذا فإنّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيراً أثناء النهار ، ولا تنخفض بسرعةٍ أثناء الليل ، فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط

ويقول أحد العلماء : إنّ البحر يُباري الزمان في دوامه ، ويُطاول الخلود في بقائه ، تمرّ آلاف الأعوام ، بل وعشرات الأُلوف والملايين ، وهو في يومه هو أمْسه وغَده ، تنقلب الجبال أوديَة ، والأوديَة جبالاً ، ويتحوّل التراب شجراً ،والشجر تراباً ، والبحر بحرٌ ، لا يتحوّل ولا يتغيَّر

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٤٠

(٢) الطور : ٧ـ ٨

٩٤

وقد دلَّت الأبحاث العلميّة أنّ أقصى أعماق البحار تُعادل أقصى علوّ الجبال(١)

كما ناسب أن يحلف بالطور ؛ لاَنّ بعض المجرمين كانوا يتصوّرون أنّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب اللّه ، كما قال ابن نوحعليه‌السلام ( سَآوي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الماء ) ، قال :( لا عاصِمَ اليَوم مِنْ أَمْرِ اللّه إِلاّ مَنْ رَحِمَ ) (٢)

فحلف بالطُور إيذاناً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب ، أو تَحوْل بين اللّه ووقوع المعاد

كما يمكن أن يكون الحلف بالطُور لأجل كونه آية من آيات اللّه الدالّة على قدرته ، الّتي لا يحوْل بينه و بين عذابه شيء

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ٧٥

(٢) هود : ٤٣

٩٥

الفصل الرابع : القَسَم في سورة القَلَم

حلف سبحانه بالقلم وما يسطرون معاً ، مرّة واحدة ، وقال :( ن والقَلَمِ وَما يَسْطُرُون * ما أَنْتَ بِنعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُون * وَإِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظيم ) (١)

وقبل تفسير الآيات ، نُقدّم شيئاً وهو : أنّ لفظة ( ن ) من الحروف المُقطّعة ، وقد تقدَّم تفسيرها

وهناك وجوه أُخرى نذكرها تباعاً :

أ ـ ( ن ) هو السمكة الّتي جاء ذكرها في قصّة يونسعليه‌السلام ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) (٢)

ب ـ إنّ المراد به هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشَوقُ يَرجِع بي إليهِم

ألقتُ النُون بالدَمْعِ السُجُوْم

ج ـ إنّ ( ن ) هو المداد الّذي تكتب به الملائكة

ولكنّ هذه الوجوه ضعيفة ؛ لاَنّ الظاهر منها أنّها مُقسَم به ، وعندئذٍ يجب أن يُجَرّ لا أن يُسَكَّن

يقول الزمخشري : وأمّا قولهم هو الدواة ، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ؟!

ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة ، من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً ، فأين الإعراب والتنوين ؟! وإن كان علماً فأين الإعراب ؟!

ــــــــــــــــ

(١) القلم : ١ـ ٤

(٢) الأنبياء : ٨٧

٩٦

وأيّهما كان ، فلابُدّ له من موقع في تأليف الكلام(١)

وبذلك يُعلَم وجه تجريد ( ن ) عن اللاّم ، واقتران القَلمِ بها

تفسير الآيات :

١ ـ حلف سبحانه بالقلم وقال :( والقَلَمِ وما يسطُرون ) ، وهل المراد منه جنس القلمِ الّذي يَكتب به مَن في السماء ومَن في الأرض ؟!

قال تعالى :( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (٢)

فمنَّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم ، كما منَّ بالنُطق ، وقال :( خَلَقَ الإنسانَ * عَلَّمَهُ البَيان ) (٣)

فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان ، فبالبيان يخاطب الحاضرين ، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين ، فتمكّن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه

وربّما قيل : إنّ المراد هو القلم المعهود الّذي جاء في الخبر :( إنّ أوّل ما خلق اللّه هو القلم ) ، ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الإسلام ، الّذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق اللّه ولا بآخره

ثُمّ إنّه سبحانه حلف بـ( ما يسطُرون ) ، فلو كانت ( ما ) مصدريّة ، يكون المراد ( وسَطْرهم ) ، فيكون القَسَم بنفس الكتابة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٤/١٢٦ ، تفسير سورة القلم

(٢) العلق : ٣ ـ ٥

(٣) الرحمن : ٣ ـ ٤

٩٧

كما يحتمل أن يكون المراد المَسطور والمكتوب ، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة ، أو بجنس المكتوب ، كأنّه قيل : ( أحلفُ بالقلم وسَطرهم ، أو مسطوراتِهم )

ثُمّ أنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلى مكانة القلم والكتابة في الإسلام ، كما أنّ في قوله سبحانه :( علّمَ بالْقَلم ) إشارة إلى ذلك

والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وَسطِ مجتمع سادَه التخلّف والجهل والأُميَّة ، وكان مَن يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع !

وقد سردَ البلاذري في كتابه ( فتوح البلدان ) أسماء سبعة عشر رجلاً في مكَّة ، وأحد عشر من يثرب(١)

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدِّمته : أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً ، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢)

ومع ذلك ، يعود القرآن ليؤكّد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الإسلاميّة ، وجعل في ظلّ هذا التعليم أُمّة متحضّرة ، احتلّت مكانتها بين الحضارات

وليس هذه الآية وحيدٌ نَسْجها في الدعوة إلى القلم والكتابة ، بل ثَمَّة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ) (٣)

كما أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حثّ على كتابة حديثه ، الّذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم :

ــــــــــــــــ

(١) فتوح البلدان : ٤٥٧

(٢) مقدّمة ابن خلدون : ٤١٨

(٣) البقرة : ٢٨٢ .

٩٨

١ ـ أخرج أبو داود في سُننه ، عن عبد اللّه بن عمرو ، قال : كنتُ أكتب كلّشيء أسمعه من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : أتكتُب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر يتكلَّم في الغضب والرضا ؟! فأمسكتُ عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأومأ بإصبعه إلى فِيه وقال : ( اكتبْ ، فوالّذي نفسي بيدِه ، ما يخرج منه إلاّ حقّاً ) (١)

٢ ـ أخرج الترمذي في سُنَنه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول اللّه ، إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( استَعن بيمينِك ) وأومأ بيده للخطِّ(٢)

٣ ـ أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال :( ما تحدّثون ؟ )

فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول اللّه

قال : ( تحدَّثوا ، وليَتبوّأ مَن كذّبَ عليّ مقعداً من جهنّم ) .

ومضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته ، ونكس القوم رؤوسهم فقال : ( ما شأنكم ، ألا تحدّثون ؟! ) .

قالوا : الّذي سمعنا منك يا رسول اللّه

قال : ( إنّي لم أُرد ذلك ، إنّما أردتُ مَن تعمَّد ذلك ) .

قال : فتحدَّثنا

قال : قلتُ : يا رسول اللّه ، إنّا نسمعُ منك أشياء فنكتبها

ــــــــــــــــ

(١) سُنن أبي داود : ٣/٣١٨ ، برقم : ٣٦٤٦ ، باب في كتابة العلم مسند أحمد : ٢/١٦٢. سُنَن الدارمي : ١/١٢٥ ، باب من رخص في كتابة العلم

(٢) سُنَن الترمذي : ٥/٣٩ ، برقم : ٢٦٦٦

٩٩

قال : ( اكتبوا ولا حرج ) .(١)

وبعد هذه الأهمّيّة البالغة الّتي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة ، أفهل من المعقول أن يُنسَب إليه أنّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد ، تضادّ الكتاب العزيز والسُنّة والسيرة المتواترة

ونجلُّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحيلولة دون كتابة السُنّة

هذا والكلام ذو شجون ، وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب ( الحديث النبوي بين الرواية والدراية )(٢)

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه ، فقد جاء في قوله سبحانه :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون )

والمراد من النعمة : النبوّة والإيمان ، والباء للسَببيَّة ، أي : لستَ أنتَ بسبب هذه النعمة بمجنون ؛ ردّاً على مَن جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه ، قال سبحانه :( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (٣)

ويُحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّ ما تفضَّل عليه سبحانه من النِعَم وراء الإيمان والنبوّة ، كفصاحته ، وبلاغته ، وعقله الكامل ، وخُلقه الممتاز ، فإنّ هذه الصفات تُنافي حصول الجنون

واحتمل الرازي أن يكون جملة ( بِنعْمة رَبّك ) مقطوعة عمّا قبلها و ما بعدها ، وانّ وِزانها وزِان ( بحمد اللّه ) في الجمل التالية :

أنتَ ـ بحمدِ اللّه ـ عاقل

ــــــــــــــــ

(١) تقييد العلم : ٧٢و٧٣

(٢) انظر : صفحة ١٢ـ ٣٢ من نفس الكتاب

(٣) القلم : ٥١ـ ٥٢

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226