جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)0%

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 305

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الصفحات: 305
المشاهدات: 29246
تحميل: 7290

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29246 / تحميل: 7290
الحجم الحجم الحجم
جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه (1) .

ولا ريب في أنّ رفع المستوى المعيشي لدى أفراد الأمة هو واحد من أهمّ الأهداف المرسومة لأيّة محاولة ثورية، أو عمل إصلاحي، حتّى لو لم تكن دينية، فكيف بها إذا كانت إلهيّة، يقودها شخص الإمام العادل؟

إنّ التحرّك للإصلاح، والناس في بؤس وتخلّف اقتصادي، سوف يكلّفهم الكثير الذي قد يعجزون عنه، ولو تمكّن قائد ما أن يرفع من المستوى الاقتصادي للأمة، فهم يكونون في حالة أفضل لتقبّل أُطروحة الإصلاح، ويكون أوكد على صمودهم أمام الضغوط التي تُفرض عليهم من قِبَل الظالمين والمعتدين.

ثم إنّ السعي في هذا المجال - والمال حاجة يوميّة لكل أحد - أوكد في تعميق الصلة بين القيادة والقاعدة، من حيث تحسّس القيادة لأمسّ الحاجات، وأكثرها ضرورة وأسرعها نفعاً، فتكون دليلاً على حقّانيّة سائر الأهداف التي تعلن للخطّة الإصلاحية.

ولقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يزاول عمليّة تموين الناس بدقّة فائقة، خاصّةً عوائل الشهداء والمنكوبين في معارك ضد الدولة، يقوم بذلك في سرّية تامّة، حتّى خفيت في بعض الحالات على أقرب الناس إليه (عليه السلام). والأهم من ذلك: أنّ الفقراء أنفسهم لم يطّلعوا على أنّ الشخص المموّن لهم هو الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلاّ بعد وفاته، وانقطاع أُعطياته.

فعن أبي حمزة الثمالي: إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) كان يحمل الخبز بالليل، على ظهره، يتبع به المساكين في ظلمة الليل، ويقول: (إنّ الصدقة في سواد الليل تطفىء غضب الرَبّ) (2) .

وعن محمد بن إسحاق، قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون، لا يدرون من أين كان معاشهم، فلمّا مات علي بن الحسين (عليه السلام) فقدوا ما كان يؤتَوْن به بالليل (3) .

____________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (11: 45).

(2) تاريخ دمشق (الحديث 76) مختصر ابن منظور (17: 238).

(3) تاريخ دمشق (الحديث 77) مختصر ابن منظور (17: 238).

١٤١

وعن عمرو بن ثابت، قال: لمّا مات علي بن الحسين (عليه السلام) وجدوا بظهره أثراً، فسألوا عنه؟ فقالوا: هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل (1) .

وهذه الدقّة في السرّية كانت من أجل إلهاء عيون الدولة عن مواقفه.

مع أنّ الهدف الأساسي من هذا العمل وهو تمويل الناس وتموينهم كان يتحقّق بتلك الطريقة الهادئة.

ومع أنّ معرفة الناس للأمر ولو بعد حين كان أوقع في النفوس وأكثر تأثيراً في حبّ الناس لأهل البيت (عليهم السلام).

ومع ما في ذلك من البعد عن الرياء، والسمعة، والمباهاة.

وقد وصلت سرّية عمله (عليه السلام) إلى حدّ أنّه كان يُتّهم بالبخل:

قال شيبة بن نعامة: كان علي بن الحسين يُبَخّل، فلمّا مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة (2) .

وقال ابن عائشة، عن أبيه، عن عمّه: قال أهل المدينة: ما فقدنا صدقة السرّ حتّى مات علي بن الحسين (3) .

وهذا واحد من أساليب عمله في رفع هذه المشكلة، وقد اتّبع أساليب أُخرى، نقرأ عنها الأحاديث التالية:

إنّه (عليه السلام) كان يعتبر المشكلة الاقتصادية محنةً كبيرة أن يجد الفقر متفشّياً في الدولة الإسلامية، وهي السعة بحيث لا يمكن معالجتها بسهولة.

ففي الحديث: شكا إليه (عليه السلام) بعض أصحابه ديناً، فبكى الإمام (عليه السلام) فلمّا سُئل عن سبب بكائه؟ قال (عليه السلام): وهل البُكاء إلاّ للمحن الكبار؟ وأيّ محنة أكبر من أن يرى الإنسان أخاه المؤمن في حاجة لا يتمكّن من قضائها، وفي فاقةٍ لا يطيق دفعها (4) .

وأسلوب آخر في التركيز على مقاومة المشكلة:

____________________

(1) تاريخ دمشق (الحديث 79) مختصر ابن منظور (17: 238).

(2) تاريخ دمشق (الحديث 80) مختصر ابن منظور (17: 239).

(3) حلية الأولياء (3: 361)، تاريخ دمشق (الحديث 81) مختصر ابن منظور (17: 239)، وسير أعلام النبلاء (4: 393).

(4) أمالي الصدوق (ص 367) ونقله في عوالم العلوم (ص 29) في حديث طويل.

١٤٢

عن الرضا عن أبيه، عن جدّه، قال: قال علي بن الحسين: إنّي لأستحيي من الله عزّ وجل أن أرى الأخ من إخواني، فاسأل الله له الجنّة، وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: (لو كانت الجنّة بيدك لكنتَ بها أبخل وأبخل وأبخل) (1) .

إنّه رفع لمستوى مقاومة المشكلة إلى مستوى مثاليّ رائع، وخطاب موجّه إلى كل من يعمل في الدنيا على حساب نعيم الآخرة، لا على معطياتها الدنيوية فقط، إنّه معنىً عرفاني دقيق، ورفيع، وبديع.

وأسلوب آخر، يدلّ على إصرار الإمام (عليه السلام) لتجاوز المشكلة:

قال عمرو بن دينار: دخل علي بن الحسين على محمّد بن أُسامة بن زيد، في مرضه، فجعل محمّد يبكي، فقال: ما شأنك؟

قال محمّد: عليّ دين.

قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار أو بضعة عشر ألف دينار.

قال الإمام: فهي عليّ (2) .

وقد جاء في الحديث أنّ الإمام (عليه السلام) قاسم الله تعالى ماله مرّتين (3) .

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى: نجد الإمام (عليه السلام) يؤكّد على تداول الثروة ويحثّ على تنميتها، واستثمار الأموال، وعدم تجميدها؛ لأنّ تجميدها هو التكنيز المذموم، للخسارة الواضحة فيها، ولاحتمال سقوط القيمة الشرائية لها، وتسبيبها لعدم ازدهار السوق الإسلامية، بينما تداولها يؤدّي إلى نقيض كلّ ذلك.

فقد قال الإمام (عليه السلام): استنماء المال تمام المروءة (4) وفي نصّ آخر: استثمار المال (5) .

وإذا قارنّا هذه المواقف من الإمام (عليه السلام) بما كان يجري على أيدي بني أميّة من

____________________

(1) تاريخ دمشق (الحديث 84) ومختصر ابن منظور (17: 239)، وتهذيب التهذيب (7: 306).

(2) تاريخ دمشق (الحديث: 83) مختصر ابن منظور (17: 239).

(3) تاريخ دمشق (الحديث 75).

(4) تحف العقول (ص 283).

(5) في هامش المصدر السابق.

١٤٣

البذخ والترف والإسراف والإهدار لأموال بيت المال، ومن منع الموالين لعلي (عليه السلام) من الرزق والعطاء، ومن حاجة الشخصيات مثل محمد بن أُسامة بن زيد، فضلاً عن عوائل الشهداء المغضوب عليهم من قِبَل الدولة.

لو قارنّا بين الأمرين: لعلمنا بكل وضوح أنّ لأعمال الإمام (عليه السلام) بُعْداً سياسيّاً، وهو الوقوف أمام استغلال السلطة للأزمة الاقتصادية عند الناس، ومنع استدراج الظالمين لذوي الحاجة والمحنة وخاصة المنكوبين إلى مهاوي الانتماء إليها أو حتّى الفساد والجريمة، بالمال الذي استحوذت الدولة عليه، وأن لا تطبّق به سياسة التطميع بعد التجويع.

3 - ضدّ الرقّ:

إنّ تحرير الرقيق يُشكّل ظاهرة بارزةً في حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) بشكل ليس له مثيل في تاريخ الإمامة، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة.

وإذا دقّقنا في الظروف والملابسات التي عايشها الإمام، وقمنا ببعض المقارنات بين أعمال الإمام، والأحداث التي كانت تجري من حوله، والظروف التي تكتنف عملية الإعتاق الواسعة التي تبنّاها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، تتضح الصورة الحقيقية لأهداف الإمام (عليه السلام) من ذلك.

فيلاحظ أوّلاً:

1 - إنّ أعداد الرقيق، والعبيد، كانت تتواتر على البلاد الإسلامية، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل، على أثر توالي الفتوحات (1) .

2 - إنّ الأمويين كانوا ينتهجون سياسة التفرقة العنصرية، فيعتبرون الموالي شبه الناس (2) .

3 - إنّ الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية، أخذاً من نفس الخليفة، إلى جميع الأُمراء وموظفي الدولة، لا يمثّل الإسلام، بل كان كل واحد يعارض معنوياته،

____________________

(1) لاحظ فجر الإسلام لأحمد أمين (ص 90).

(2) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور (17: 284).

١٤٤

وأخلاقه، وإن تنادى بشهاداته واسمه.

4 - إنّ انتشار العبيد والموالي، وبالكثرة الكثيرة، ومن دون أي تحصين أخلاقي، أو تربية إسلامية، لأمر يؤدّي لا محالة إلى شيوع البطالة، والفساد، وهو ما تركز عليه الدولة الظالمة التي تعمل في هذا الاتجاه بالذات.

ويلاحظ ثانياً:

1 - إنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان يشتري العبيد والإماء، ولكن لا يُبقي أحدَهم عنده أكثر من مدّة سنة واحدة فقط، وأنّه كان مستغنياً عن خدمتهم (1) .

فكان يعتقهم بحجج متعدّدة، وبالمناسبات المختلفة.

إذن، فلماذا كان يشتريهم؟ ولماذا كان يعتقهم؟

2 - إنّه (عليه السلام) كان يعامل الموالي، لا كعبيد أو إماء، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية، ممّا يغرزُ في نفوسهم الأخلاق الكريمة، ويحبّب إليهم الإسلام، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام (عليه السلام).

3 - إنّه (عليه السلام) كان يُعلم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلاميّة، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّناً بالعلوم التي يفيد منها في حياته، ويدفع بها الشبهات، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح.

4 - إنّه (عليه السلام) كان يزوّد كلّ مَنْ يُعتقه بما يُغنيه، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحُرّة، كأيّ فرد من الأُمّة، ولا يكون عالة على أحدٍ. إنّ المقارنة بين هذه الملاحظات، وتلك، تعطينا بوضوح القناعة بأنّ الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يُزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق. إنّ عمل الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنتج نتائج عظيمة، هي:

1 - حرّر مجموعة كبيرة من عباد الله، وإمائِهِ الذين وقعوا في الأسر، وتلك حالة استثنائية غير طبيعيّة، ومع أنّ الإسلام كان قد أقرّها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التاريخ، إلاّ أنّ الشريعة قد وضعت طرقاً عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم

____________________

( 1 ) لاحظ الإقبال للسيد ابن طاوس (ص 477).

١٤٥

الحرية، وقد استغلّ الإمام (عليه السلام) كلّ الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطُرق، وتحرير العبيد والإماء.

وفي عمله تطبيق للشريعة وسننها، كما يدلّ عليه الحديث التالي:

فعن سعيد بن مرجانة، قال: سمعت أبا هريرة يقول: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (مَن أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله بكل إربٍ منها إرباً منه من النار، حتّى أنّه يعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج). فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة.

قال سعيد: نعم.

فقال الإمام: ادع لي مطرفاً - لغلام له أفره غلمانه - فلمّا قام بين يديه، قال: اذهب، فأنت حر لوجه الله (1) .

إنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) لا يخفى عليه ثواب عتق الرقبة، وإنّما أراد أن يؤكّد على سنّة العتق من خلال تقرير الراوي على سماع الحديث وليكون عمله قُدوةً للآخرين؛ كي يقوموا بعتق ما يملكون من الرقاب.

2 - إنّ الرقيق المعتقين يشكّلون جيلاً من التلامذة الذين تربّوا في بيت الإمام (عليه السلام) وعلى يده، بأفضل شكل، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحقّ والمعرفة، والصدق والإخلاص، وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة.

فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكل ذلك في قرارات النفوس، في شعورهم أو لا شعورهم، وينقلونه إلى الأجيال المتعاقبة، وفي ذلك حفظ الإسلام.

ولا ريب أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس، فلا بدّ أنّه كان يواجه منعاً من الجهاز الحاكم، أو عرقلةً لعمله، أو رقابةً شديدة على أقل تقدير.

. 3 - إنّ الإمام (عليه السلام) استقطب ولا الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحرّرين؛ إذ

____________________

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3: 188) كتاب العتق والكفارات، ومسلم في صحيحه (10: 152) في العتق، والترمذي في صحيحه (4: 114) في النذور رقم (1541)، وانظر حلية الأولياء (3: 136).

١٤٦

لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام (عليه السلام)، ولا ريب أنّهم أصبحوا جيشاً، فإنّ عددهم بلغ في ما قيل خمسين ألفاً، وقيل: مائة ألف (1) . فعن عبد الغفّار بن القاسم أبي مريم الأنصاريّ، قال: كان عليّ بن الحسين خارجاً من المسجد فلقيه رجل فسبّه فثارت إليه العبيد والموالي، فقال عليّ بن الحسين: مَهْلاً عن الرجل، ثمّ أقبل على الرجل، فقال له: ما سُتر عنك من أمرنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيى الرجل فألقى عليه خميصةً كانت عليه، وأمر له بألف درهم.

فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنّك من أولاد الرسول (2) .

وقد كان لهؤلاء العبيد موقف دفاعيّ آخر، عن أهل البيت، لمّا سمعوا أنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكّة، وشيخهم محمد بن الحنفيّة عمّ الإمام زين العابدين (عليه السلام)، في ما رواه البلاذري بسنده عن المشايخ يتحدثّون: أنّه لما كان من أمر ابن الحنفية ما كان، تجّمع بالمدينة قوم من السودان، غضباً له، ومراغمة لابن الزبير، فرأى ابن عمر غلاماً له فيهم، وهو شاهر سيفه فقال له: رباح!

قال رباح: والله، إنّا خرجنا لنردّكم عن باطلكم إلى حقّنا.

فبكى ابن عمر، وقال: اللّهمّ إنّ هذا لذنوبنا (3) .

وقال عبد العزيز سيد الأهل: وجعل الدولاب يسير، والزمن يمر وزين العابدين يَهَبُ الحرية في كل عامٍ، وكل شهر، وكل يوم، وعند كل هفوةٍ، وكل خطأ، حتّى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار، والجواري الحرائر، وكلّهم في ولاء زين العابدين (4) .

____________________

(1) لاحظ بحار الأنوار (46: 104 105).

(2) صفوة الصفوة لابن الجوزي (2: 100)، تاريخ دمشق (الحديث 112)، وكشف الغمّة (2: 81)، وبحار الأنوار (46: 99)، وعوالم العلوم (ص 115).

(3) أنساب الأشراف (الجز الثالث) (ص 295).

(4) زين العابدين، لسيد الأهل (ص 47).

١٤٧

حقاً لقد تحيّن الإمام (عليه السلام) الفرص، واهتبل حتّى الزلّة الصغيرة تصدر من أحد الموالي ليهب له الحريّة، فكان يكافئ الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يُعْتق، وأركز في خَلَده، فلا ينساه.

إنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) استنفد كلّ وسيلة للتحرير.

وإليك بعض الأحاديث عن ذلك:

1 - نادى علي بن الحسين (عليه السلام) مملوكه مرّتين، فلم يجبه، ثم أجابه في الثالثة، فقال له الإمام: يا بُنيَ أما سمعت صوتي؟

قال المملوك: بلى.

قال الإمام: فما بالك لم تُجبني؟.

قال المملوك: أمِنْتُكَ!

قال الإمام: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني (1) .

2 - عن عبد الرزاق، قال: جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه، فشقّه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إنّ الله عزّ وجل يقول: ( والكاظمين الغيظ ) .

فقال لها: قد كظمت غيظي.

قالت: ( والعافين عن الناس ) .

فقال لها: قد عفا الله عنك.

.قالت: ( والله يحبّ المحسنين ) [ آل عمران (2) الآية 124 ].

قال: اذهبي، فأنت حرّة (2) .

فكأنّ هذا الحوار كان امتحاناً واختباراً، نجحت فيه هذه الجارية، بحفظها هذه الآية، واستشهادها بها، فكانت جائزتها من الإمام (عليه السلام) أن تُعتقَ!

3 - قال عبد الله بن عطاء: أذنب غلام لعلي بن الحسين ذنباً استحقّ منه العقوبة، فأخذ له السوط، فقال: ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ) .

____________________

(1) تاريخ دمشق (الحديث 90) مختصر ابن منظور (17: 240) وشرح الأخبار (3: 260).

(2) تاريخ دمشق (الحديث 90) مختصر ابن منظور (17: 240).

١٤٨

[ الجاثية (45) الآية (14) ].

فقال الغلام: وأمّا أنا كذلك، إنّي لأرجو رحمة الله وأخاف عقابه.

فألقى السوط، وقال: أنت عتيق (1) .

فلقد لقّنه الإمام (عليه السلام) بقراءة الآية، وهو يختبر معرفته بمعناها وذكاءه، فأعتقه مكافأةً لذلك.

4 - وكان عند الإمام (عليه السلام) قوم، فاستعجل خادم له شواءً كان في التنّور، فأقبل به الخادم مسرعاً، وسقط السفود من يده على بُنَيّ للإمام (عليه السلام) أسفل الدرجة، فأصاب رأسه، فقتله، فوثب الإمام (عليه السلام)، فلمّا رآه، قال للغلام: إنّك حرّ، إنّك لم تتعمّده، وأخذ في جهاز ابنه (2) .

ولعملية الإعتاق على يد الإمام (عليه السلام) صور مثيرة أحياناً، تتجاوز الحسابات المتداولة:

ففي الحديث المتقدّم عن سعيد بن مرجانة، وجدنا أنّ الإمام (عليه السلام) قد أعتق غلاماً اسمه (مطرف) وجاء في ذيل الحديث، أنّ عبد الله بن جعفر الطيّار كان قد أعطى الإمام زين العابدين (عليه السلام) بهذا الغلام (ألف دينار) أو (عشرة آلاف درهم) (3) .

ففي إمكان الإمام (عليه السلام) أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أكثر من واحد، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص مع غلاء ثمنه يحتوي على معنى أكبر من العتق:

فهو تطبيق لقوله تعالى: ( لن تَنَالُوا البرّ حتّى تُنفِقوا ممّا تُحِبون ) سورة آل عمران (3) الآية: 92.

وهو إيماء إلى أنّ الإنسان لا يعادَل بالأثمان، مهما غلت وعلت أرقامها.

ولعلّ السبب الأساسي هو: أنّ غلاء ثمن الغلام لا يكون إلاّ من أجل أدبه، وذكائه، وحنكته، وقوّته، وغير ذلك ممّا يجعله فرداً نافعاً، فإذا صار حرّاً، وهو

____________________

(1) تاريخ دمشق (الحديث 113) مختصر ابن منظور (17: 244).

(2) تاريخ دمشق (الحديث 118) مختصر ابن منظور (17 244).

(3) تاريخ دمشق (الحديث 82) مختصر ابن منظور (17: 239).

١٤٩

متّصف بهذه الصفات، يفيد المجتمع ككلّ، فهو أفضل عند الإمام (عليه السلام) من أن يكون عبداً يستخدمه شخص واحد لأغراضه الخاصّة، مهما كانت شريفة، وبهذا واجه الإمام زين العابدين (عليه السلام) مشكلة الرقّ، واستفاد منها في صالح المجتمع والدين (1) .

وبما أنه (عليه السلام) كان يحتلّ موقعاً رفيعاً بين الاُمَة الإسلامية جمعاء:

إمّا لأنّه إمام مفترض الطاعة، عند المعتقدين بإمامته (عليه السلام).

أو لأنّه من أفضل فقهاء عصره، والمعترف بورعه وتقواه وعلمه، عند الكافّة.

أو لأنّه من سادات أهل البيت الذين يمتازون بين الناس بالطهارة والكرامة والشرف والمجد.

فقد كان عمله حجّةً معتبرةً، وقدوةً صالحة، للمسلمين كافّةً، يقتدون به في تحرير الرقيق، ومحو العنصريّة المقيتة.

وبعد هذه الصور الرائعة:

فهل يصح أن يقال: (إنّ زين العابدين (عليه السلام) كان منعزلاً عن السياسة، أو مبتعداً عنها) وهو يقوم بهذا النشاط الاجتماعي الواسع.

____________________

(1) واقرأ صوراً مثيرة من تعامله مع عبيده وإمائه في عوالم العلوم (ص 151 - 155).

١٥٠

وأخيراً: مع كتاب (رسالة الحقوق)

إنّ رسالة الحقوق التي نظَمها الإمام زين العابدين (عليه السلام) تدل على اهتمام الإمام بكل ما يدور حوله في المجتمع الإسلامي، وعنايته الفائقة بسلامته النفسية والصحيّة، ورعايته لأمنه واستقراره، وحفاظه على تكوينته الإسلامية.

وإذا نظرنا إلى ظروف الإمام (عليه السلام) من جهة، وإلى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق، من سعة الأفق وشموليته من جهة أخرى، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبّار الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرناً.

إنّ صنع مثل هذا القانون في جامعيته ودقّته وواقعيته، لا يصدر إلاّ من شخص جامع للعلم والعمل، مهتمّ بشؤون الأمة، ومتصد لإصلاحها فكرياً وثقافياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وإدارياً، وصحيّاً، ونفسياً، ولا يصدر قطعاً من شخص منعزلٍ عن العالم، وعن الحياة الاجتماعية، ولا مبتعدٍ عن السياسة وأُمور الحكم والدولة.

ولذلك فإنّا نجد الرسالة تحتوي على حقوقٍ مثل: حقّ السلطان، وحق الرعِيّة، وحقّ أهل الملّة عامّة، وحقّ أهل الذمّة، وغيرها ممّا يرتبط بأُمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعية، إلى جانب الشؤون الخاصة العقيديّة والعبادية والماليّة، وكل ما يرتبط بحياةٍ حرّةٍ كريمة للفرد، وللمجتمع الذي يعيش معه، ومثل هذا لا يصدر ممّنْ يعتزل الحياة الاجتماعية.

ورسالة الحقوق عمل علمي عظيم يستدعي دراسة موضوعية عميقة شاملة، نقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين (عليه السلام) الاجتماعية، وخاصّة من المنظار السياسي، وما استهدفه من بيانها ونشرها.

ونقدّم هنا مقطعين هامّين، يرتبطان مُباشرةً بأُمور الإدارة والحياة الاجتماعية، وهما حقّ السُلطان على الرعيّة، وحقّ الرعيّة على السُلطان:

قال (عليه السلام) في حقوق الأئمّة:

وأما حقّ سائسك بالسُلطان:

١٥١

فأنْ تعلم أنّك جُعِلتَ له فتنةً، وأنّه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السُلطان.

وأنْ تخلصَ له في النصيحة، وأن لا تُماحكه، وقد بُسِطَتْ يدُه عليك، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه.

وتذلّل وتلطّف لإعطائه من الرضا ما يكفّه عنك، ولا يضرّ بدينك، وتستعين عليه في ذلك بِالله.

ولا تعازّه ولا تعانده، فإنّك إنْ فعلتَ ذلك عَقَقْتَهُ وعَقَقَتَ نفسك، فعرَضْتَها لمكروهه، وعرَضتَهُ للهلكة فيك، وكنتَ خليقاً أن تكون مُعيناً له على نفسك، وشريكاً له في ما أتى إليك من سوء.

ولا قوّة إلاّ بالله (1) .

وقال (عليه السلام) في حقوق الرعيّة:

وأمّا حقّ رعيّتك بالسُلطان:

فأنْ تعلم أنّك إنّما استرعيتَهم بفضل قوّتك عليهم، فإنّه إنّما أحلّهم محلّ الرعيّة لك ضعفهم وذلّهم.

فما أولى مَنْ كفاكَهُ ضعفُه وذلّه حتّى صيّره لك رعيّةً وصيّر حكمك عليه نافِذاً، لا يمتنع عنك بعِزّةٍ ولا قُوّةٍ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلاّ بالله بالرحمة والحياطة والأناة.

وما أولاكَ إذا عرفتَ ما أعطاك الله من فضل هذه العزّة والقُوّة التي قهرتَ بها أنْ تكون لله شاكراً، ومَنْ شكر الله أعطاهُ في ما أنعم عليه.

ولا قُوّة إلاّ بالله (2) .

إنّ الإمام (عليه السلام) في هاتين الفقرتين إنّما يخاطب مَنْ هم من عامّة الناس سُلطاناً ورعيّةً ممّنْ لابُدَ أنْ تربط بينهم السياسة، إذ لابُدّ للناس من أَمير، على ما هو سُنّة الحياة وطبيعة التكوينة الاجتماعية، فلابدّ أن تكون لهم حُقوق، وتثبت عليهم واجبات، تُرتّب بذلك حياتهم ترتيباً طيّباً كي يعيشوا في صفاء ووُدّ وخير وسعادة.

والإمام (عليه السلام) هنا يقطع النظر عن الولاية الإلهيّة التكوينية، ومنصب الإمامة المفروضة تشريعياً على الناس.

____________________

(1) رسالة الحقوق، الحق رقم 15.

(2) رسالة الحقوق، الحقّ رقم 18.

١٥٢

ولذلك عبّر (بالسلطان) و (الرعيّة) ولم يفرض في السُلطان ولاية إلهيّة، وإنّما فرضها سُلطةً حاصلةً بالقوّة والقهر، وهذا ما يتمكّن من تحصيله حتّى غير الأئمّة الإلهيين، وإن كان السلاطين يحاولون الإيحاءَ بأنّهم ينوبون عن الله في الولاية والسلطة، وأنّهم ظلّ الله على الأرض؛ ولذلك يُلقّنون الناسَ فكرة (الجبر) حتّى يربطوا وجودهم بإرادة الله (1) .

لكنّ الإمام السجّاد (عليه السلام) فَرَغَ الحديثَ عن السُلطان من كلّ هذه المعاني، وإنّما تحدّث عن حقّه كمتسلطٍ بالقوّة على الرعيّة، فهو في هذه الحالة لابُدّ أنْ يعرف واجباتِه ويؤدّيها، ويعرف حقوقه فلا يطلب أكثر منها.

كما أنّ الرعيّة المواجهة لمثل هذا السُلطان لابُدّ أنْ تعرف حدود المعاملة الواجبة عليها تجاهُه، وما يحرم عليها فلا تقتحمه، رعاية للمصالح الاجتماعيّة العامّة بشريّاً.

وبما أنّ السلاطين في هذا المقام لم تفرض لهم العصمة، اللازمة في الولاة الإلهيّين، فلابدّ أنْ يحذروا من المخالفات الشرعيّة، كما لابدّ للرعيّة أنْ يحذروا من التعرّض لبَطْشهم وسطوتهم، فهُناك حقوق مرسومة لكلّ منهما السُلطان والرعيّة لابدّ من مراعاتها، حدَدها الإمام (عليه السلام).

فعلى السلطان أنْ لا يغترّ بقدرته الموقوتة المحدودة:

1 - أنْ يكون رؤوفاً رحيماً بالبشر الذين استولى عليهم.

2 - أنْ يعرف قدر نعمة السلطة، حتّى يوفّق للمزيد، حَسَبَ الموعود بالمزيد لمَنْ شكر، ويتنعّم بما هو فيه من فضل وسلطة.

وأما الرعيّة، فَعليها:

1 - أن تخلص في النصيحة للسُلطان، وتبذل الولاء في سبيل إنجاح المهمّة الاجتماعيّة والحكمة والتدبير من (لابدّية الأمير) في سبيل الخير.

2 - وأنْ لا تلجأ إلى العداء والبغضاء حتّى لا يلجأ السُلطان إلى العدوان والفتك، فيحصل العقوق بين الراعي والرعيّة فيشتركان في إثم الفَساد في الأرض.

____________________

(1) كما شرحنا جانباً من ذلك في بحث سابق، لاحظ (ص 88 91) في الفصل الثاني.

١٥٣

ومن المعلوم في المقامين أنّ مخاطب الإمام (عليه السلام) إنّما هم المؤمنون بالله تعالى؛ ولذا جعل كلاّ منهما (فتنةً إلهيّة) للآخر، ليعتبر بهذا الموقع الخطر الذي يتبوؤه كلّ منهما.

فالحديث مع الذين لا يُخالفِون أمر الله ولا يعادونه، وإنّما يَسيرون موافِقين للإسلام، ويعتمدون على ما سَنّهُ من أحكام، ولا يضرّون بالدين، وإلاّ فالأمر يختلف، والحديث يتفاوتُ، والحقوق تكون غيرها، والواجبات سواها.

والحاصل: أنّ ما حدّده الإمام (عليه السلام) إنّما هو عن السُلطان والرعية، إذا لم يتهدّد كيان الإسلام وأحكامه وشعائره خطر من قبل السلطة، بدليل التذكير فيه بنعم الله وحوله وقوّته وأنّه لا حول ولا قوّة إلاّ به.

وإلاّ، لم يكن الخطاب بمثل هذا الكلام المعتمد على الإيمان بالله الاعتقاد بالواجب والإحساس بالخدمة للناس والإصلاح في المجتمع، والاعتماد على قوّة الله وحوله، كما هو الحال في كلّ الحقوق الأخرى التي ذكرها في ( رسالة الحقوق ) فإنّه وجّه الخطاب إلى الأمة الإسلامية في داخل الوطن الإسلامي، وفي الحدود التي يلتزم رعاياها بشريعة الإسلام وقواعده.

وسنثبت نصّاً موثوقاً لرسالة الحقوق في الملحق الأوّل من ملاحِق الكتاب بعون الله (1) .

____________________

(1) لاحظ الصفحات (254 - 296) من كتابنا هذا.

١٥٤

الفَصلُ الرابِع

التزامات فَذّة فِي حَيَاةِ الإمَامِ (عَلَيهِ السَلامُ)

أوّلاً: التزام الزهد والعبادة.

ثانياً: التزام البكاء على سيّد الشهداء (عَلَيهِ السلام).

ثالثاً: التزام الدعاء.

وأخيراً: مع الصحيفة السجّاديّة هدفاً ومضموناً.

١٥٥

١٥٦

تميّزت سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) بمظاهر فذّة، وهي وإن كانت متوفّرة في حياة آبائه وأبنائه الأئمة، إلاّ أنّها برزت في سيرة الإمام (عليه السلام) بشكلٍ آخر، أكثر وضوحاً، وأوسع دوراً، ممّا تسترعي الانتباه، وهي:

1 - ظاهرة الزهد والعبادة.

2 - ظاهرة البكاء.

3 - ظاهرة الدعاء.

فإذا سبرنا حياة الأئمة: وجدناهم كلّهم يتميّزون في هذه المظاهر على أهل زمانهم، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) تجاوزت الحدّ المألوف، حتّى كان (عليه السلام) فريداً في الالتزام بكلٍ منها:

العبادة والزهد، فقد عدّ فيهما: زينَ العابدين وسيدَ الزاهدين، حتّى ضُرِب به المثل فيهما.

والبكاء، فقد عدّ فيه: من البكّائين الخمسة.

وأما الدعاء: فالصحيفة التي خلّفها تكفي شاهداً على ما نقول.

وسنحاول في هذا الفصل أن نشاهد أثر الالتزام بهذه المظاهر في ملامح سيرة.

الإمام (عليه السلام)، ونقرأ ما خلّده لنا التاريخ من آثارها في الحياة الاجتماعية للإمام (عليه السلام)، وما استهدفه الإمام (عليه السلام) من اللجو ء إليها بهذا الشكل المركّز.

١٥٧

أوّلاً: التزام الزهد والعبادة

لقد أخذت هذه الظاهرة ساعات طويلة من وقت الإمام (عليه السلام)، وملأت مساحات واسعة من صفحات سيرته الشريفة، حتّى أصبح من أشهر ألقابه (زين العابدين) (1) و (سيّد الساجدين) (2) .

والزهد، من الفضائل الشريفة التي يتزيّى بها الرجال الطيّبون، المخلصون لله، الراغبون في جزيل ثوابه، العارفون بحقيقة الدنيا وأنّها فانية زائلة، فلا يميلون إلى الاستمتاع بلذّاتها ومغرياتها، بل يقتصرون على الضروريّ الأقلّ، من المشرب والملبس والمسكن والمأكل.

وقد التزم أئمّة أهل البيت بهذه الفضيلة بأقوى شكل، وفي التزامهم بها معنى أكبر من مجرّد الفضل والخلق الجيّد، فكونهم أئمةً يُقتدى بهم وأُمثولة لمَن يعتقد بهم، وأُسوة لمَن سواهم، وقدوة للمؤمنين، يتبعون خطاهم، فهم لو تخلّقوا بهذا الخلق الكريم، قام جمع من الناس بذلك معهم، سائرين على طرق مأمونة من الانحراف.

فللإمام السجاد (عليه السلام) في العبادة مشاهد عظيمة، وأعمال جليلة، وسجدات طويلة، وصلوات متتالية، حتّى أنّه كان يصلّي في اليوم والليلة (ألف ركعة) (3) ، وهذا يشبه ما نقل عن جدّه الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).

وإذا نظرنا إلى عصر الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وإلى ما حوله من حوادث واقعة وأُمور جارية: أمكننا أنْ نقول: إنّ التزام الإمام بهذه العبادة، وبهذا الشكل من السعة، والإصْرار، والإعْلان، لم يكن عفويّاً، ولا عن غير قصدٍ وهدف، ولا لمجرّد

____________________

(1) تاريخ أهل البيت(ص 130 - 131) مختصر تاريخ دمشق (17: 237) عن مالك بن أنس و (ص 235) عن الزهري.

(2) قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع، فلاحظ (ص 35 - 37) من كتابنا هذا.

(3) سير أعلام النبلاء (4:392) وشرح الأخبار (3:254و272)، والخصال للصدوق وعلل الشرائع له (ص232)، والإرشاد للمفيد (256)، وكشف الغمّة (1:33) نقلاً عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم، و(2:86)، وفلاح السائل (ص244)، وتذكرة الحفّاظ (1:75)، وبحار الأنوار (6746).

١٥٨

حاجة شخصيّة، وتقرّب خاص، بل كان ورأها تدبير اجتماعي مهمّ جدّاً، إذ إنّ الأمويين في تلك الفترة بالخصوص، وبعد سيطرتهم على مقدّرات العباد والبلاد جدّوا في إشاعة الفساد، وتمييع المجتمع، وترويج الترف واللهو، بين الناس، بهدف تبرير أعمالهم المخالفة للشرع المقدّس، المنافية للعرف الذي يبتنى على العفة والشرف، وسعياً لتخدير الناس، وإبعاد الأمة عن الروح الإسلامية الواثبة المقتدرة التي تمكّن المسلمون بها من السيطرة على مساحات شاسعة من العالم وحضارات لإمبراطوريات مجاورة لها بعد أن كانوا من الشعوب المتخلّفة تتخطفهم الأمم من حولهم، لا يملكون لعدوّهم دفعاً، ولا عن ذمارهم منعاً.

وقد خاطبتهم الزهراء فاطمة ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واصفةً حالتهم بقولها: (... وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مَذَقةَ الشارب ونَهَزَةَ الطامع، وقبسة العجلان، وموطأ الأقدام، تشربون الطرق وتقتاتون الورق، أذلّة خاسئين تخافون أن يتخطّفكم الناسُ من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي) (1) .

فأرشدهم الرسول إلى المجد والعلى والكرامة والعلم.

لكنّ الأمويين، ولأجل إخماد ثورة الإسلام في نفوس الناس، أخذوا في ترويج الفحشاء والمنكر، والفجور والخمور، والظلم والخيانة، حتّى ضُرب بهم المثل في خرق العهود والمواثيق، وتجاوز الأعراف والموازين المقبولة بين الناس، وتلاعبوا بكلّ المقدّرات والمقرّرات، وانغمسوا وجرّوا الناس معهم في الرذيلة واللعب، ومعهم الجيل الناشئ من الأمة، الذي نما على هذه الروح الطاغية اللاهية.

حتّى جعلوا من مدينة الرسول الطيّبة، مركزاً للفساد.

قال أبو الفرج الأصبهاني: إنّ الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم (2) ، وحتّى كانت يثرب تعجّ بالمغنّيات،

____________________

(1) بلاغات النساء (ص 13) وانظر: فدك للقزويني (ص 153) وخطبتها في مسجد أبيها لما منعها أبو بكر فدكاً مروية في الاحتجاج للطبرسي، وشرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد (4: 78)، وطرقها عديدة متضافرة.

(2) الأغاني طبع دار الكتب (8: 224) ولاحظ (4: 222) ففيه موقف مالك فقيه المدينة، وانظر العقد الفريد (3: 233 و 245).

١٥٩

ومن المؤسف حقّاً أنّ مدينة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صارت في العصر الأموي مركزاً للحياة العابثة، وكان من المؤمّل أن تصبح معهداً للثقافة الدينية، ومصدراً للإشعاع الفكري والحضاري في العالم الإسلامي، إلاّ أنّ الأمويين سلبوها هذه القابلية، وأفقدوها مركزيّتها الدينية والسياسية (1) .

ولمّا خرج عُروة بن الزبير من المدينة واتخذ قصراً بالعقيق، وقال له الناس: قد أجْفَرْتَ مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إنّي رأيتُ مساجدهم لاهيةً، وأسواقهم لاغيةً، والفاحشة في فجاجهم عالية (2) .

وأضاف القرطبي: وكان في ما هناك عمّا أنتم فيه عافية (3) .

إنّه في مثل هذه الأجواء والظروف ليس عفوياً، ولا عن غير هدف: أن يظلّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) في المدينة، يعظ الناس ويرشدهم، ويدعوهم إلى نبذ المُتَع، ويحذّرهم من اللغو واللهو ومن الزينة والتفاخر. فكان (عليه السلام) يقول: لا قُدّست أُمّة فيها البَرْبَط (4) .

لقد كان له مجلس في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعظ الناس فيه:

قال سعيد بن المسيب: كان علي بن الحسين (عليه السلام) يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا، ويرغّبهم في أعمال الآخرة، بهذا الكلام، في كل جمعة، في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحفظ عنه، وكتب، كان يقول:

أيّها الناس اتقوا الله واعلموا أنّكم إليه ترجعون، فتجدُ كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير مُحْضَراً وما عملت من سُوء، تَوَد لو أنّ بينَها وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم الله نفسه [ مقتبس من القرآن الكريم. سورة آل عمران (3) الآية (30) ].

ويحك يا بن آدم الغافل، وليس بمغفول عنه.

____________________

(1) لاحظ حياة الإمام زين العابدين للقرشي (ص 670) واقرأ في الصفحات (665 - 671) أخباراً من ترف الأمويين، وحياة اللهو والغناء وحفلات الرقص في المدن المقدّسة المدينة ومكّة.

(2) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (17: 23).

(3) جامع بيان العلم (2).

(4) لسان العرب مادّة (بربط).

١٦٠