جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)18%

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 305

  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30486 / تحميل: 8272
الحجم الحجم الحجم
جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

عَلَناً وعلى رؤوس الأشهاد دليلاً على انتصار الحسين (عليه السلام) وغلبته، وهذا من أعظم العِبَر لمَن اعتبر.

فكذلك تبلورت نتائج مخططات الإمام السجّاد (عليه السلام) في إحياء التشيّع من جديد، والتمهيد لقيام أولاده الأئمة (عليهم السلام) بالحركات التجديدية المتتالية.

٢٤١

٢٤٢

الخاتمة

نتائج البحث

٢٤٣

٢٤٤

وبعد هذا التجوال الذي قمنا به خلال مصادر حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وأعماله وأفكاره، وأدعيته وأحاديثه، تمكّنا من جمع شتات المؤشّرات إلى الأبعاد السياسيّة في حياة الإمام (عليه السلام).

وبعد فرزنا لها في فصول الكتاب، علمنا أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) قد قام بأعمال سياسية كبيرة في سبيل الأهداف الكبيرة التي من أجلها شرّع الدين.

وإذا لاحظنا صعوبة المهمّة التي قام بها في الظروف الحرجة والخطيرة التي عايشها، وعلى طول المدّة حتّى وفاته (عليه السلام)، عرفنا عظمة تلك الجهود التي بذلها في خصوص هذا المجال وحده.

وهو (عليه السلام) وإن لم يمدّ يداً إلى السلاح الحديديّ إلاّ أنّه التزم النضال بكلّ الأسلحة الأخرى التي لا تقلّ أهميّة وخطورة عن السلاح الحديدي.

فشَهَرَ سلاحَ اللسان بالخطب والمواعظ، وسلاحَ العلم بالتثقيف والإرشاد، وسلاحَ الأخلاق بالتربية والتوجيه، وسلاحَ الاقتصاد بالإعانات والإنفاق، وسلاحَ العدالة بالإعتاق، وسلاحَ الحضارة بالعرفان.

حتّى وقف سدّاً منيعاً في وجه أخطر عمليّة تحريف تهدف إبادة الإسلام من جذوره، في الحكم الأمويّ الجاهليّ.

وبقيت الخطوط الأُخرى لسياسة الإمام (عليه السلام) غير معلنة ولا واضحة، أو غير مشروحة، حتّى عصرنا الحاضر؛ فلذلك وقع كثير من كتّاب العصر في وَهْمٍ فظيع،

٢٤٥

تجاه الموقف السياسي للإمام (عليه السلام) حتّى نُسبت إليه تهمة الانعزال عن السياسة، بل ممالأة الظالمين، ممّا لا يقبله أيّ شريف فضلاً عمّن يعتقد في زين العابدين (عليه السلام) أنّه إمام منصوب من قِبل الله تعالى، ليلي أمور المؤمنين إنّ الإمام (عليه السلام) كان مسؤولاً ومن خلال منصبه الإلهي عن كلّ ما يجري في العالم الإسلاميّ، وقد أنجز الإمام (عليه السلام) بتدابير دقيقة ما يلزم من دور قياديّ، وبكل سريّة وذكاء، فشنّ على الطغاة الحاكمين، وأمثالهم من الطامعين، حرباً شعواء، لكنّها باردة صامتةً بيضاء في البداية، أصبحت معلنة صبغتها دماء طاهرة من شيعته في النهاية.

ولم ينقض القرنُ الأوّل، إلاّ أخذت آثار سياسية الإمام زين العابدين (عليه السلام) تبدو على الساحة، بشكل أشعّة تنتشر من أفق مظلم طال مائة عام من الانحراف والظلم والتعدّيّ على الإسلام بمصادره:

القرآن الذي منع تفسيرُه وتأويله من المصادر الموثوقة.

والحديث الذي منع تدوينهُ ونشره، وأُحرق كثير منه.

ورجاله الذين نفوا، واُخرجوا من ديارهم، أو قتّلوا تقتيلاً.

ومكارمه وأخلاقه وفقهه وتراثه الذي طالته أيدي التزوير والدسّ والتحريف.

فشوّهت سمعته، وسُوّد وجه تاريخه.

لكنّ الإمام السجاد بمواقفه العظيمة ضمن خطط حكيمة، تمكّن من الوقوف إمام كل هذه التحدّيات الرهيبة، تلك المواقف التي قدّم لها حياته الكريمة.

ولم تنقض فترة على وفاة الإمام (عليه السلام) حتّى بدأ العدّ التنازليّ للحكم الجاهلي، وبدأ الحكّام الأمويون بالتراجع عن كثير من ملتزماتهم، وتعنّتهم، ولم تطل دولتهم بعيداً، إلاّ انمحت آثارها حتّى من عاصمتهم دمشق الشام.

وأمّا أهداف الإمام السجاد (عليه السلام) فقد تولاّها بعده ابنه الإمام الباقر محمّد بن عليّ بن الحسين (عليه السلام)، ثم من بعده الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام)، فاستفادا من وهن الأمويين في تلك الفترة، وتمكّنا من تثبيت دعائم الإسلام والفكر الإماميّ بأفضل ما بإمكانهما.

٢٤٦

فكوّنا أكبر جامعة علميّة إسلاميّة، تربّى فيها آلاف من العلماء المبلّغين للإسلام بعد استيعاب معارفه، على أيدي الإمامين العظيمين.

وقد تمكّن الإمامان من رفع الغشاوة عن كثير من الحقائق المطموسة تحت أَكداس من غبار التهم والتشويه والتحريف في شؤون الإسلام، عامةً، وفي ما يرتبط بحقّ أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الإمامة والحكم، خاصةً.

وعندما نرى تصدّي الحكّام من أمويّين وعباسيّين للإمامَيْن الباقر والصادق (عليهما السلام) ومَنْ كان على خطّهما، نجد أنّ ما قاما به يعدّ فتحاً عظيماً في المعيار السياسيّ، وإنجازاً في قاموس الحركات الاجتماعية، خاصة في تلك العصور المظلمة.

لقد قام الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) بتهيئة الكوادر الكفوءة، وتعميق الثقافة الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وتسليح الأمّة بالعلم، وتثبيت قواعد العقيدة والإيمان، لتكوين جيش عقائديّ منيع، لصدّ التيّارات الإلحادية المبثوثة بين الأمّة، والقضاء على الطلائع الملحدة المبعوثة من قبل الحكّام مثل علماء البلاط ووعّاظ السلاطين.

وبكل ذلك تمّيزت الآيدولوجيّة الإسلامية المتكاملة، وعلى مذهب الشيعة، المأخوذة من ينابيع الحقّ والصدق، أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، والمعتمدة على أصفى المصادر الحقّة: القرآن الكريم، والسنة الصحيحة الموثوقة، والمتّخذة من العقل الراجح مناراً لتمييز الحقّ، على أساس من التقوى والورع والاجتهاد، والإيمان.

فكان هذا العمل تحدّياً معلناً ضدّ الحكومات الفاسدة التي كانت تروّج للتيارات العقائدية الملحدة، والخارجة عن إطار العقائد الإسلامية، وتدعو إلى حياة التفسّخ، والترف، واللهو، والفساد (١) .

كما استفاد ابنه العظيم زيد الشهيد (عليه السلام) من الأرضيّة التي مهّدها الإمام زين العابدين (عليه السلام) للثورة، فكان عمله دعماً لموقف الإمامين (عليهما السلام) في تنفيذ خطط الإمام

____________________

(١) اقرأ كتاب (الأغاني) للوقوف على جانب منقول من هذه الحياة العابثة التي عاشها الخلفاء، ولاحظ: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندويّ.

٢٤٧

زين العابدين (عليه السلام) واستثمار جهوده، والاستمرار بأهدافه (١) .

إنّ تلك التدابير، التي اتّبعها الإمام السجّاد وابناه الإمام الباقر وزيد الشهيد، وحفيده الإمام الصادق (عليهم السلام)، وشيعتهم المجاهدون على خطّهم، وتلك المواقف الجريئة التي اتخذوها من الحكّام الظالمين والحكومات الفاسدة، من أجل العقيدة، لا ولن تصدر ممّن يركن إلى الدعة والراحة، أو أذهلته المصائب والفجائع.

بل، إنّ ما قاموا به يُعدّ في العرف السياسي، أهمّ من حمل السلاح في مثل تلك المرحلة بالذات.

وأمّا مجموع ما انتجته تلك الجهود والتدابير، فهو أكبر ممّا تؤثّره البسالة والبطولة في ميادين الحروب.

وهو عمل لا يقوم به إلاّ أصحاب الرسالات من العلماء بالله الذين يفوق مدادهم فضلاً وأثراً من دماء الشهداء.

وإنّ مَنْ يعرف أوّليات النضال السياسيّ، وبديهيّات التحرّك الاجتماعيّ، وخصوصاً عند المعارضة، ليدرك أنّ سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) السياسيّة التي عرضناها في فصول هذا الكتاب، هي مشاعل تنير الدرب للسائرين على طريق الجهاد الشائك، ممّن يلتقي مع الإمام (عليه السلام) في تخليد الأهداف الإلهيّة السامية.

وأيّ مناضلٍ يعرض عن كلّ هذه الجهود، ولا يعدّها (جهاداً سياسيّاً)؟.

والغريب، أنّ أصحاب دعوى النضال والحركة، في هذا العصر وفيهم مَن اتّهم الإمام بالانعزال السياسيّ يتبجّحون باسم النضال والمعارضة السياسية، لمجرّد إصدار بيان، أو إعلان رفضٍ، ولو من بُعد أميال عن مواقع الخطر، ومواقف المواجهة.

ثمّ هم لا يعتبرون تلك التصريحات الخطيرة، وتلك المواجهات والمواقف الحاسمة، التي قام بها الإمام (عليه السلام)، نضالاً سياسياً؟.

وهم، يقيمون الدنيا، لو وقعت خدشة في إصبع لهم، ويعتزّون بقطرة دم

____________________

(١) اقرأ عن زيد الشهيد بحار الأنوار (٤٦: ١٦٨ - ٢٠٩) وعوالم العلوم الجزء (١٨).

٢٤٨

تراق منهم.

بينما لا يحسبون لذلك الجرح الذي أُثخن به الإمام (عليه السلام) في كربلاء، وذلك النزيف من الدم والدمع الذي أريق منه على أثر وجوده في الساحة، قيمةً وأثراً؟.

مع أنّ الآلام التي تحمّلها الإمام (عليه السلام) في جهاده، ومن خلال جهوده العظيمة، والأخطار التي اقتحمها في سبيل إنجاح مخططه، أكثر ألماً، وأعمق أثراً، من جرح ظاهر يلتئم، وقرح يندمل، لكنّ الإمام السجّاد زين العابدين (عليه السلام) ظهر على الساحة ببطولة وشجاعة تختصّ به كإمامٍ للأمّة، فتحمّل آلام الجهاد وجروحه، وصبر على آلام الجهود المضنية التي بذلها.

وانفرد في الساحة في تلك الفترة الحالكة، كألمع قائد إلهيّ في مواجهة أحلك الظروف وأصعبها، وأكثر الهجمات ضراوةً، وأكثر الحكومات حقداً وبعداً عن الإسلام، وباسم الخلافة الإسلامية.

وخرج من ساحة النضال بأعمق الخطط وأدقّها، وبأبهر النتائج وأخلدها.

وأمّا نحن الشيعة في الوقت الحاضر:

فإنّا نواجه اليوم حملة شرسة من أعداء المذهب، مدعومة بحملة ضارية من أعداء الإسلام.

ويشبه وضع التشيّع في هذا العصر في كثير من الجهات ما كان عليه في القرن الأوّل، إذ يعايش أجواء سياسية ونفسية متماثلةً.

فاليأس والقنوط يعمّان الجميع، حتّى العاملين في حقل الحركات الإسلامية، والمنضوين تحت ألوية الأحزاب والمنظمات والمجالس والمكاتب.

والارتداد، المتمثّل بابتعاد عامة الناس عن خطّ الإمامة والولاية، وفي ظروف غيبة الإمام (عليه السلام)، التي معها تزداد الحَيْرة وتتأكّد الشبهة.

وتعدّد الاتجاهات والآراء والأهواء، التي اقتطعت أشلاء الأُمّة، وفرّقتها أيدي سبأ.

٢٤٩

والحكومات الجائرة، بما تمتلك من أجهزة القمع، وأساليب الفتك والهتك، والسجن والقتل، وبأحدث أساليب التعذيب، خصوصاً تلك الحاملة لسيوف التكفير ومشانق الاتهام بالردّة، وبدعوى شعارات إسلامية مزيّفة.

والاختراق الثقافيّ الهدّام، لصفوف الأمة الإسلامية وعقولها، وبوسائل الإعلام الحديثة، المقروءة والمسموعة والمرئيّة، وباستخدام الأثير والأشعة والأقمار الصناعية والغزو الفكري المخلخل للوجود الدينيّ من الداخل، بالأفكار والشبهات المضلّلة، والحملات الكاذبة، الطائشة ضدّ المقدّسات الإسلامية، التي تروّجها الدول الاستعمارية الحاقدة، ويزمّر لها الحكّام العملاء في البلدان الإسلامية.

والتصرّفات العشوائية المشبوهة التي يقوم بها الضالون من رجال الدين، والبلاطيون من وعّاظ السلاطين، والمتزلّفون إلى المناصب والأموال والفخفخة والعيش الرغيد في القصور، والمتطفّلون على الموائد وفي السهرات، والمتكئون على أرائك الحكم وأسرّة الإدارة، والراكنون إلى الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي، وحكموا الناس بالجور.

وأصحاب الدعاوى الزائفة بالاجتهاد والمرجعيّة، مع فقدان أوليات المعارف اللازمة، والفراغ من الالتزام الصحيح بأصول العقيدة، والانتماء المذهبي، وإنّما بالركون إلى الحزبيّة الضيّقة، وبدعوى الانطلاق لمسايرة الجيل المتطلّع وادعاء مصادمة الواقع بالفتاوى التي لا أساس لها في الفقه ومصادره، وبالأفكار المخالفة لضرورات الدين والمذهب، باسم التجديد، والتوعية، والتوحيد، والتأليف وغير ذلك من العناوين العصريّة الغارّة لأفكار الشباب وبالأموال التي توزّع بأرقام كبيرة، من مصادر مجهولة أو معلومة!!.

إنّ كلّ هذه الحقائق الجارية في عصرنا، تمثّل بالضبط الفصول التي عاصرها الإمام زين العابدين (عليه السلام) لكن بشكلها العصري.

لكنّ الحقّ الناصعَ وهو (الإسلام) المتأصّل في قلوب المؤمنين، يتجلّى أكثر ممّا مضى بفضل الثقافة الواسعة حول المعارف الإسلامية، وظهور حقائق القرآن والسنّة،

٢٥٠

وفضل أهل البيت (عليهم السلام)، ذلك الذي لم يَعُد اليوم مكتوماً ولا ممنوعاً.

وأساليب عمل الإمام السجّاد (عليه السلام) وجهاده وتعاليمه السياسيّة والاجتماعيّة ماثلة أمام مَنْ يطلب الحقّ.

فعلى كل مَن يُريد النضال والحركة في سبيل الله، أنْ يقتديَ بإمامه، ويجعل عمله مشعلاً يهتدي بنور إرشاده، ويسير على منهجه في النضال والتحرّك السياسيّ والاجتماعيّ، فيكون على بصيرة من أمر دينه، ويصل إلى أفضل النتائج المتوخّاة في أمر دنياه.

والله المستعان

والْحَمْدُ لله رَبَ الْعَالَمِينَ

وصلّى الله على رسوله المصطفى الأمين وآله الطاهرين.

٢٥١

٢٥٢

الملاحق:

الملحق الأوّل: رسالة الحقوق.

الملحق الثاني: من تقاريظ الكتاب نثراً ونظماً.

الملحق الثالث: تقرير موجز عن المباراة الكتابية عن الإمام السجّاد (عليه السلام).

٢٥٣

٢٥٤

الملحق (١):

رسالة الحقوق عن الإمام السجّاد

برواية أبي حمزة الثمالي

بِسْمِ اللهِ الرَحْمنِ الرَحِيْمِ

توثيق الرسالة:

اتّفقت المصادر الحديثيّة - كافّةً - على نسبة هذا الكتاب إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).

برواية أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار الشهير بابن أبي صفيّة الأزدي الكوفي (رحمه الله) صاحب الدعاء المشهور باسمه الذي يُتلى في أسحار شهر رمضان المبارك، وقد توفّي عام (١٥٠) لقي من الأئمة السجّاد والباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام).

قال النجاشي: كان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث، وروى عنه العامّة (١) .

وقد نسبه إليه النجاشي باسم ( رسالة الحقوق ) عن علي بن الحسين (عليه السلام)، ثم أسند روايتها إليه (٢) .

لكنّ المنقول عن الكليني أنّه أوردها في ما جمعه باسم (رسائل الأئمة) ممّا يدلّ على كون لكتاب (رسالة) بعثها الإمام (عليه السلام) إلى بعض أصحابه (٣) ، وبهذا جاء

____________________

(١) رجال النجاشي (ص١١٥) رقم٢٩٦.

لكنّهم انهالوا عليه قدحاً وجرحاً، وبما أنّا لم نجد في ما رُوي عنه وبطريقه، ما يقتضي ذمّه، فضلاً عن جرحه، نعرف أنّه لا سبب لموقفهم منه إلا التعصّب المذهبي والطائفية البغيضة، وإلاّ فالرجل كما وصفه النجاشيّ وغيره: من علماء الرجال الإماميّة، وقد حرم العامّة أنفسهم من معارف أهل البيت، بمثل هذه المواقف الظالمة.

(٢) المصدر(ص١١٦).

(٣) نقله في مستدرك الوسائل (٦٩١:١١) عن فلاح السائل لابن طاوس، وسيأتي.

٢٥٥

التصريح في بعض أسانيد الرسالة (١) .

ولعلّ المرسل إليه هو أبو حمزة نفسه وبذلك يوجّه اختصاص روايتها به، وانتهاء الأسانيد كلّها إليه.

مصادر الرسالة:

تعدّدت مصادر هذه الرسالة:

فأوردها من القدماء الشيخ الصدوق في العديد من كتبه: أعظمها كتاب مَن لا يحضره الفقيه، الذي هو من الأصول الحديثية الأربعة، وأوردها في الخصال، والأمالي.

والشيخ الصدوق أسْنَدَ رواية الكتاب إلى أبي حمزة الثمالي في الخصال والأمالي، إلاّ أنّه حذف الإسناد في الفقيه، على دأبه فيه حيث إنّه يحذف الأسانيد ويُحيل على المشيخة التي أعدّها لذكرها، فلا يعدّ الحديث - في هذا الفرض - مرسلاً.

وقد أورد أسانيده إلى أبي حمزة الثمالي في المشيخة وقال: وطرقي إليه كثيرة ولكنني اقتصرت على طريق واحد منها (٢) .

وأمّا الكليني:

فالمنقول عن ابن طاوس في فلاح السائل قوله: (روينا بإسنادنا في كتاب (الرسائل) عن محمد بن يعقوب الكليني، بإسناده إلى مولانا زين العابدين (عليه السلام) (٣) يدلّ على كون الحديث مسنَداً عند الكليني.

إلاّ أنّ كتاب (الرسائل) مفقود، وابن طاوس نقل عنه هكذا بحذف الإسناد. ومن المحتمل قويّاً أن يكون الكليني قد رواه عن شيخه علي بن إبراهيم، الذي يروي الرسالة كما في سند النجاشي، كما سيأتي.

وقد أورد ابن شعبة الحرّاني الحسن بن علي بن الحسين أبو محمد هذه (الرسالة) في كتابه العظيم (تحف العقول عن آل الرسول) هي مرسلة شأن كلّ ما

____________________

(١) الخصال (ص٥٦٤) رقم (١).

(٢) مشيخة الفقيه (ص٣٦) من المطبوع مع الفقيه، الجز الرابع.

(٣) لاحظ مستدرك الوسائل(٦٩١:١١.).

٢٥٦

في الكتاب.

إلاّ أنّ من المطمأَنّ به كون رواياته في الأصل مسندة، لأمرين.

الأول: لقوله في مقدّمة الكتاب: وأسقطتُ الأسانيد، تخفيفاً وإيجازاً، وإن كان أكثره لي سماعاً، ولأنّ أكثره آداب وحكم تشهد لأنفسها (٧) .

فقد حذف الأسانيد تخفيفاً، وهذا أمر متداول عند المؤلّفين، بعد عصر التدوين، لثبوت الأسانيد في مواضعها من الأصول المنقول منها، وإن كانت المحافظة على الأسانيد وإثباتها أحوط، لما يتعرّض له التراث من الآفات. وكذلك حذَفَ الأسانيد؛ لأنّ الحاجة إليها إنّما هي ماسّة في باب الأحكام ومسائل الشريعة، وأمّا الآداب والحكم فلا تكون الأحاديث فيها إلاّ مرشدةً إلى ما يقتضيه العقل والحكمة والتدبير، والمضامين تشهد بصحة الأحاديث من دون تأثير الأسانيد في ذلك.

فأحاديث الكتاب وإن كانت على ظاهر الإرسال إلاّ أنّها مسندة واقعاً.

الثاني: إنّ أحاديث الكتاب مرويّة بأسانيدها في المصادر المتقدّمة، ولا يرتاب الناظر إلى كتاب (تحف العقول) في كون مؤلّفه على جانب كبير من العلم والمعرفة بالحديث وشؤونه، ممّا يربأ به من إثبات ما لا سند له في كتابه مع تصريحه بنسبة ما أثبته إلى الأئمة (عليهم السلام)، ومن المعلوم أنّ النسبة لا يمكن الجزم بها إلاّ مع ثبوت الأسانيد.

وفي خصوص رواية (رسالة الحقوق) فإنّ ما أثبته من النصّ موافق لما نقله ابن طاوس عن (رسائل) الكليني (٨) وقد عرفت كون روايته مسندةً.

و سمّاها ابن شعبة (رسالة الحقوق) (٩) وهو الاسم الذي ذكره النجاشي لها، عندما أسند إليها، كما مرّ.

____________________

(١) تحف العقول (ص٣).

(٢) لاحظ مستدرك الوسائل (١١:١٦٩).

(٣) تحف العقول (ص٢٥٥).

٢٥٧

مجموعة الأسانيد:

١ - سند الصدوق في الخصال: قال الصدوق: حدّثنا علي بن أحمد بن موسى رحمه الله، قال: حدّثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدّثنا جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري، قال: حدّثنا خيران بن داهر، قال: حدّثني أحمد بن علي بن سليمان الجبلي، عن أبيه، عن محمّد بن علي، عن محمد بن فضيل، عن أبي حمزة الثمالي، قال: هذه رسالة علي بن الحسين (عليه السلام) إلى بعض أصحابه (١) .

٢ - سند الصدوق في الأمالي: قال الصدوق: حدّثنا علي بن أحمد بن موسى، قال حدّثنا محمد بن جعفر الكوفي الأسديّ، قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل البرمكي، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثنا إسماعيل بن الفضل، عن ثابت بن دينار الثمالي، عن سيّد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: قال: (٢)

٣ - سند النجاشي: قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدّثنا الحسن بن حمزة، قال: حدّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليه السلام) (٣) .

أمّا سند الصدوق في (الفقيه):

فقد ذكر في موضع الحديث ما نصّه: روى إسماعيل بن الفضل، عن ثابت بن دينار، عن سيّد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال (٤) .

ممّا يدلّ على كون سنده إليه هو سند الأمالي المنتهي إلى إسماعيل بن الفضل، لكنّه.

____________________

(١) الخصال (ص٥٦٤) رقم(١).

(٢) الأمالي للصدوق (ص٣٠٢) وهو تمام المجلس (٥٩) في ربيع الآخر سنة (٣٦٨).

(٣) رجال النجاشي (ص١١٦) رقم(٢٩٦).

(٤) مَن لا يحضره الفقيه (٢: ٣٧٦).

٢٥٨

قال في المشيخة: (وما كان فيه: عن أبي حمزة الثمالي، فقد رويته عن أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، ثابت بن دينار الثمالي (١) .

وهذا السند يختلف عن أسانيد الصدوق السابقة، فيظهر الاختلاف بين ما أثبته في الكتاب، وبين السند المثبت في المشيخة.

ولو كان إرجاع الصدوق في المشيخة على طريقه إلى (إسماعيل بن الفضل) وهو الهاشمي، فقد قال: رويته عن جعفر بن محمد بن مسرور رحمه الله عن الحسين بن محمد ابن عامر، عن عمّه عبد الله بن عامر، عن محمد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن محمد، عن الفضل بن إسماعيل بن الفضل، عن أبيه إسماعيل بن الفضل الهاشمي (٢) .

وهذا السند لا يجتمع مع أسانيده السابقة في شيء، فالأمر كما قلنا مرتبك، إلا أنْ يتدارك بما أفاده بقوله: (وطرقي إليه كثيرة ولكنّني اقتصرت على طريق واحد منها) (٣) وجعل ذلك دالاً على التزامه بنظرية (التعويض) بين الأسانيد.

وقد صرّح المجلسيّ الأوّل المولى محمد تقي في قول الصدوق في الفقيه (روى إسماعيل بن الفضل بإسناده) بقوله: (القويّ كالصحيح) (٤) .

والظاهر حكمه على سند الصدوق في الأمالي المنتهي إلى إسماعيل. وقال النوري في سند النجاشي: إنّه أعلى وأصحّ من طريق الصدوق في الخصال إلى محمد بن الفضيل (٥) .

ويظهر من المشجّرة التي رتّبناها أنّ سَنَد النجاشي ليس أعلى من سند الصدوق في الأمالي، لاستواء عدد الرواة من كلّ منهما إلى أبي حمزة.

مع أنّ سند النجاشي ليس سالماً من النقد، من جهة رواية (إبراهيم بن هاشم مباشرةً عن (محمد بن الفضيل) فانّ المعروف مكرّراً روايته عن البزنطي، ورواية

____________________

(١) مشيخة الفقيه (ص٣٦) طبع مع الجز الرابع من (مَن لا يحضره الفقيه).

(٢) مشيخة الفقيه (ص١٠٢).

(٣) مشيخة الفقيه (ص٣٦).

(٤) روضة المتقين (٥: ٥٠٠).

(٥) مستدرك الوسائل (١١: ١٦٩).

٢٥٩

البزنطي عن (محمد بن الفضيل) كما ورد في سند الصدوق في لمشيخة إلى أبي حمزة.

ومع ذلك فإنّ السيّد الإمام البروجرديّ قال في (طبقات رجال النجاشي) عند ذكر محمد بن الفضيل: (عن أبي حمزة، عنه إبراهيم بن هاشم، كأنّه من السادسة) وعلّق: وروايته عن أبي حمزة محلّ ريب (١) .

ومهما يكن، فإنّ تعدّد الأسانيد والطرق إلى أبي حمزة، لم يدع مجالاً للبحث السَنَدي في هذا الكتاب، خصوصاً على المنهج المختار من عدم اللجوء إلى المعالجات الرجاليّة إلاّ في مواقع استقرار التعارض بعدم المرجّحات، والمفروض هنا عدم وجود ما يُعارض مضامين هذه الرواية أصلاً.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ أمثال هذه المضامين، الدائرة حول الآداب والحِكَم ليست بحاجةٍ إلى الأسانيد، لشهادة الوجدان بما فيها.

والأهمّ من كلّ ذلك تلقّي كبار المحدّثين لها بالقبول بإيرادها في كتبهم، المؤلّفة للعمل، خصوصاً كتاب الفقيه الذي وضعه المؤلّف على أنْ يكون حجّة بينه وبين الله تقدّس ذكره، وأنّ جميع ما فيه مستخرَج من كتبٍ مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع (٢) ، وهذا كافٍ في تجويز النسبة المعتبرة في الكتب.

____________________

(١) الموسوعة الرجالية (٦) رجال أسانيد فهرست الشيخ النجاشي (ص٦١٣) السطر الأوّل.

(٢) من لا يحضره (١: ٣)

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين، ولا يتحصل ذلك إلّا بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمزاولته صحف والكتب العربية، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على الله، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث عطف على الجملة الأولى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه: لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى، ولا يردفها بقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات، والاجهار بها بأصح الأساليب، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً، بل كان بعيد عن ذلك

٣٠١

كل البعد، لصح عطفها على ما تقدم عليها، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه: إنّه لا يعرف القراءة والكتابة، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً، توضيحاً للمراد. والله سبحانه لـمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة، أتى بما هو الدارج في لسان العرب، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا: أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال(١) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه: قلت: سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ـ ١٥٨ ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي: أنّه رسول، نبي، اُمّي ،

__________________

(١) نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج ٨ ص ٢١٦ ط بيروت.

٣٠٢

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحل لهم الطيبات، يحرّم عليهم الخبائث، يضع عنهم الإصر، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ ).

قوله سبحانه:( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلّا أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم، الذين يحرفون كتاب الله وكلماته عن مواضعها، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة ـ ٧٩ ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي: إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع(١) إلى أن قال: الصفة الثالثة كونه اُمّياً، قال الزجّاج: معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب(٢) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً(٣) .

__________________

(١) لا، بل عشر، كما عرفت.

(٢) إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه: ج ١ ص ٣٢٧ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

(٣) مفاتيح الغيب: ج ٤ ص ٣٠٩.

٣٠٣

وقال البيضاوي: الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا، إحدى معجزاته(١) .

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام ٣٩٥ صاحب « مقاييس اللغة »(٢) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل، والمرجع والجماعة والدين، قال الخليل: كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس: وهو الدماغ، اُم التنائف: أشدها وأبعدها، اُم القرى: مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى، واُم القرآن: فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ، واُم الرمح: لواؤه وما لف عليه، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها: اُم مثوى، واُم كلبة: الحمى، واُم النجوم: السماء، واُم النجوم: المجرّه إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال: الاُمّي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه(٣) .

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلّا مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج ٣ ص ٢٣٠ مع شرحه لاسماعيل القنوي.

(٢) بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة، وكنه أسرارها وفهم اُصولها، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال ـ وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يخلفه غيره.

(٣) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٤

ويتحققوا ما فيها(١) .

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان: ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها: أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها: أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها: أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت: هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

١. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى ـ ٧ ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً: إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة ـ وإن كان يطلق عليها ـ غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله: « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

__________________

(١) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف: ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٥