جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)12%

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 305

  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30513 / تحميل: 8310
الحجم الحجم الحجم
جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٢ ـ( هَلْ كُنتُ إلّا بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلّا بإذنه سبحانه، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر، وإن كنتم تطلبون مني بما أنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى:( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / ١١١ ).

والمراد من قوله:( إلّاأَن يَشَاءَ اللهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة(١) .

* * *

٤ ـ طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقال: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ) (٢) .

__________________

(١) لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز، لاحظ: ص ٩٥ ـ ١٥٤ من ذلك الجزء.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ٣٠٥.

١٨١

قال ابن هشام: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب وعمّار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصّهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ *وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / ٥٢ ـ ٥٤ )(١) .

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / ٢٨ ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة، وإليك النص الدال على ذلك:

روى السيوطي في الدر المنثور: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنّا نحب أن تجعل

__________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام: ج ١ ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

١٨٢

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول الله الصحيفة من يده، فأتيناه وهو يقول:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال: فكان رسول الله يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣ ص ١٣، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.

(٢) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٣

ويضيف قائلاً: « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى الله سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّتهعليه‌السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى:( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / ٢٧ و ٢٩ و ٣٠ )(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٤

د ـ تعذيب النبيّ وأصحابه

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك:

١ ـ نزل الوحي مسلّياً بقوله:( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / ٣٤ ) وقوله:( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / ١٢٧ ).

٢ ـ ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / ٣٥ ).

٣ ـ وثالثة داعياً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفويض الأمر إلى الله والتريّث حتى يأتي موعده بقوله:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

٤ ـ ورابعاً مروّضا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبال ما يكال إليه من

١٨٥

صنوف الايذاء بقوله:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / ١٠ ).

٥ ـ وخامساً منبّهاً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه:( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / ٤٨ ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول: إصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة فيمر بهم رسول الله فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة(١) .

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٨٦

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون، فقال: صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد: أوّل من أظهر الإسلام سبعة، فعدّ منهم عمّار وسميّة ـ اُمّ عمّار ـ.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل ـ لعنه الله ـ ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم(١) .

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول الله فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية: أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا: أكفر بمحمّد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي، فقال النبي: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإن عادوا فعد، فنزل قوله سبحانه:( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / ١٠٦ ).

فأخبر الله سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب أليم، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم(٢) .

__________________

(١) حلية الأولياء: ج ١ ص ١٤٠.

(٢) تفسير الطبري: الجزء ١٤، ص ١٢٢.

١٨٧

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر، فقال النبي: إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال: ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام(١) .

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لـمّا أضحت فاشلة، إضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر، وأنّ له لحلاوة وأنّ عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه(٢) .

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / ٢٦ ). حتى يصدّوا بذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة، راجع مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٨٧، والسيرة النبويّة: ج ٥ ص ٣٨٢.

١٨٨

من اَراد استماعه، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً(١) . فأوعدهم الله سبحانه بقوله:( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر، فنالوا جزاء أعمالهم، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه:( ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / ٢٧ و ٢٨ ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام، فقالوا: لو اعتنقنا دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفضنا الأصنام والأوثان، لثار الجميع علينا، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) ( القصص / ٥٧ ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حقٌّ ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم(٢) .

فردّه الوحي بأنّ الله سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين الله يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى الله سبحانه من حالة الكفر، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين، وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ٢٤ ص ٧٢.

(٢) التخطّف: أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

١٨٩

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / ٥٧ ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (١) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥٨ ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ، غير أنّ هذه القصة لـمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك‍ « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٣٤، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلّا من أخذته العصبية العمياء فإنّها داء لا علاج له، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال، والرجل

__________________

(١) البطر: الطغيان عن النعمة.

١٩٠

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار، وإليك القصّة على وجه الإجمال:

« جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) فقرأه رسول الله حتى إذا بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) ألقى عليه الشيطان كلمتين:

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيباً، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ): فلمّا أمسى أتاه جبرئيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إفتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل !! فأوحى الله عليه:( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ )، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة: إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما يلقي الشيطان »(١) .

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ١٧، ص ١٣١.

١٩١

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين:

الأوّل: إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

من أمثال:

١ ـ محمد بن كعب القرظي ٢ ـ محمد بن قيس ٣ ـ أبو العالية ٤ ـ سعيد بن جبير ٥ ـ الضحّاك ٦ ـ ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم:

الف ـ محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر: قال العجلي: مدني تابعي ...، وقال البخاري: إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده، هو أبوه، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة ١٠٨ ه‍ ق وقيل: ١١٧ ه‍ ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وجاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق أنّه قال: يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة: فكنّا نقول: هو محمد بن كعب، والكاهنان قريظة والنضير ـ إلى أن يقول ـ:

١٩٢

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة معه(١) .

ب ـ محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز، روى عن أبي هريرة وجابر، ويقال: مرسل، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر ـ قال ابن معين: ليس بشيء لا يروى عنه(٢) .

ج ـ ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري ـ كان يدلّس في النادر ـ وهو أحد التابعين بالمدينة، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ابن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين(٣) .

د ـ أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر حتى قيل: إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه(٤) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٢١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤١٤.

(٣) ميزان الإعتدال: ج ٤ ص ٤٠، وتقريب التهذيب: ج ٢ ص ٢٠٧، ووفيات الاعلام: ج ٤ برقم ٥٦٣.

(٤) تهذيب التهذيب: ج ٣ ص ٣٨٤.

١٩٣

ه‍ ـ سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره، قتله الحجّاج صبراً سنة ٩٥(١) .

و ـ الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين(٢) .

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ـ مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني: إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ١١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ٤٤٧.

١٩٤

أمّا الأوّل فهو مشترك بين ١٩ شخصاً لم يرو واحد منهم عن النبي فالجلّ لولا الكل تابعون(١) .

وأمّا الثاني فهو أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ولد في خلافة عمر(٢) .

وأمّا الثالث فهو محمد بن مروان تابعي. قال ابن معين: ليس بثقه، قال ابن نمير: ليس بشيء وكان كذّاباً(٣) .

نعم رواه أيضاً عن سعيد بن جبير وابن عباس وقد عرفت حالهما، ورواه عن السدي وهو أيضاً تابعي.

مضافاً إلى إشتمال الإسناد على رجال ضعاف، وأمّا ما ذكره السيوطي من أنّه أخرج الطبراني والبزاز وابن مردويه والضياء في المختار بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ المرسل والمقطوع لا يوصفان بالصحة على الإطلاق ولو وصفا بالصحّة فالمراد هو الصحّة النسبية، فلا يحتج بها.

إنّ علماء الإسلام وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد أشبعوا هذه الرواية نقضاً وردّاً وإبراماً فوصفها السيد مرتضى: بأنّها خرافة وضعوها(٤) .

وقال النسفي عند القول بها: غير مرضي. وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متّصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٥) .

__________________

(١) راجع تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣٣.

(٣) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٣٦ برقم ٧١٩.

(٤) تنزيه الأنبياء: ص ١٠٩.

(٥) الهدى إلى دين المصطفى: ج ١ ص ١٣٠.

١٩٥

وقال القاضي عياض: إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسنده سليم متصل، وإنّما أولع به المفسّرون، والمؤرّخون، المولعون بكل غريب، والمتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلا المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلّق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته(١) .

وقال أمين الإسلام الطبرسي: أمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعّفة عند أصحاب الحديث، وقد تضمّنت ما ينزّه الرسل عنه، فكيف يجوز ذلك على النبي وقد قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقال:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ) .

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) علمت قريش من عادته أنّه كان يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين: ( تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى ) فظنّ الجهّال أن ذلك من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وقال السيّد الطباطبائي: إنّ الأدلّة القطعيّة على عصمته تكذّب متنها، وإن فرضت صحّة سندها، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة، مضافاً إلى أنّ الرواية تنسب إليه أشنع الجهل وأقبحه فقد تلا « تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى » وجهل أنّه ليس من كلام الله، ولانزل به جبرئيل، وجهل أنّه كفر صريح يوجب الإرتداد، ودام على جهله، حتى سجد وسجدوا في آخر السورة، ولم يتنبّه ثمّ دام على جهله حتى نزل عليه جبرئيل، وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو مصرّ على جهله، حتى أنكره عليه جبرئيل، ثمّ أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفاضحة لجميع الأنبياء

__________________

(١) الشفاء: ج ٢ ص ١٢٦.

(٢) الطبرسي مجمع البيان: ج ٤ ص ٦١ و ٦٢.

١٩٦

والمرسلين وهي قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) .

لو جاز مثل هذا التصرّف من الشيطان في لسانه بالقائه جملة أو جملتين، في ثنايا الوحي، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي، فكان من الجائز حينئذ أن تكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان فيلقي نفس هذه الآية( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) فيضعه في لسان النبي وذكره، فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبرئيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك ـ إلى أن قال ـ وبذلك يرتفع الإعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهة، وتلغى الرسالة والدعوة النبويّة بالكليّة جلّت ساحة الحق من ذلك(١) .

هذا كلّه راجع إلى اسناد الرواية وكلمات العلماء بشأنه، وأمّا ما يرجع إلى متنها فنشير إلى أمرين كل واحد كاف لإبطال الرواية:

تحليل متن الرواية

١ ـ إنّ هذه الروايات أجمعت على أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ سورة والنجم فلمّا بلغ إلى قوله( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) وسوس إليه الشيطان بهاتين الجملتين ثمّ مضى في التلاوة حتى إذا بلغ آية السجدة في آخر السورة، سجد وسجد معه المشكرون.

فنقول: إنّ الذين كانوا في المسجد كانوا على قدر من الوعي والدراية فكيف يعقل منهم أنّهم سمعوا هاتين الجملتين، اللتين تتضمّنان مدح أصنامهم وأوثانهم، وغاب عن سمعهم ما يتضمّن التنديد والازراء بشأن آلهتهم، فإنّه قد جاء بعد هاتين الجملتين المدّعيتين قوله سبحانه:( إِنْ هِيَ إلّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن

__________________

(١) الطباطبائي، الميزان: ج ١٤ ص ٤٣٥ و ٤٣٦.

١٩٧

رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ ) ( النجم / ٢٣ ).

فهل يتعقّل أن ينسب إلى أوتاد الفصاحة والبلاغة أنّهم أقنعوا بهاتين الجملتين، وفاتهم ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي أعقبتها.

فهذه حجة بالغة على أنّ واضع القصة كان غافلاً عن تلك الآيات التي ترد على هاتين الجملتين بصلابة.

٢ ـ إنّ وجود التناقض في طيّات الرواية من جهات شتّى دليل واضح على كونها مختلقة حاكتها أيدي القصّاصين.

وأمّا بيان ذلك التناقض فمن وجوه:

أ ـ تروي الروايات أنّ النبي والمسلمين والمشركين سجدوا إلّا الوليد ابن المغيرة فإنّه لم يتمكّن من السجود لشيخوخته، وقيل: مكانه سعيد بن العاص، وقيل: كلاهما، وقيل: اُميّة بن خلف، وقيل: أبو لهب، وقيل: المطّلب.

ب ـ تضمّن بعضها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها وهو قائم يصلّي، وتضمّن البعض الآخر أنّه قرأها بينما هو جالس في نادي قومه.

ج ـ يقول بعضها: حدّث بها نفسه، وآخر: جرت على لسانه.

د ـ يقول بعضها: انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تنبّه لها حين تلاوتها، والآخر: انّه لم يتنبّه إلى المساء حتى جاء إليه جبرئيل فعرضها عليه ثمّ تبيّن له الخطأ، إلى غير ذلك من وجوه التناقض التي يقف عليها المتتبع عند التأمّل وامعان النظر في متون الروايات المختلفة التي جمعها ابن جرير والسيوطي في تفسيرهما.

فحصيلة الكلام: إنّ الرواية بشتّى طرقها وصورها لا تصحّ الإحتجاج بها لكون إسنادها مراسيل ومقاطيع من جانب، وكونها متضاربة المضمون من جانب آخر، والذي يسقط الرواية عن الحجّية أنّها تنتهي إلى قصّاصين نظير محمد بن كعب

١٩٨

القرظي ومحمد بن قيس، وهما مولعان بذكر كل صحيح وسقيم في أنديتهم ومجالسهم، لأنّ لكل غريب لذّة، ليس في غيره، خصوصاً أنّ محمد بن كعب ابن بيت يهودي أباد النبي قبيلته، ولم يبق منه إلّا نفراً قليلاً، فمن المحتمل جداً أنّه حاكها على نول الوضع لينتقم من النبي الأكرم وليشوِّه عصمته، والآفة كل الآفة من هؤلاء المستسلمين مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه.

ثمّ إنّ الآية التي زعمت الرواية أنّها نزلت في تلك الواقعة أعني قوله سبحانه:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ ). وقد فرغنا من تفسيره في هذه الموسوعة عند البحث عن عصمة الأنبياء فلا نعيد(١) .

__________________

(١) مفاهيم القرآن: ج ٤ ص ٣٤٨ ـ ٤٥٠.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

(- وموضع السكون إليها قضاءُ اللذّة التي لابدّ من قضائها، وذلك عظيم. ولا قوّة إلاّ بالله).

وأمّا حقّ رعيّتك بِمْلك اليمين (١):

  - فأن تعلم أنّه خلقُ ربّك [ وابن أبيك وأُمّك ] ولحمك ودمك، وأنّك تملِكُهُ، لا أنْتَ صنعتَه دونَ الله، ولا خلقتَ له سمعاً ولا بصراً، ولا أجريتَ له رزقاً (٢)، ولكنّ الله كفاك ذلك، ثمّ سخّره لك، وائتمَنَك عليه، واستودَعَك إيّاه (لتحفظه فيه، وتسير فيه بسيرته، فتطعمه ممّا تأكل، وتلبسه ممّا تلبس، ولا تكلّفه ما لا يُطيق) (٣)

  - فإنّ كرهته (خرجت إلى الله منه و) استبدلت به، ولم تعذّب خلق الله عزّ وجلّ. ولا قوّة إلاّ بالله.

[ و ] (وأمّا حقّ الرحم)

[٢١] فحقّ أُمّك:

  - أنْ تعلم أنّها حملتْك حيث لا يحمل أحد أحداً، وأطعمتْك من ثمرة قلبها ما لا يُطعم أحد أحداً، وأنّها وَقَتْك بـ (سمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها) وجميع جوارحها (مُستَبْشِرةً بذلك فَرِحةً، موابلةً محتَملةً لما فيه مكروهها وألَمِها وثقلها وغَمّها، حَتّى دفعتها عنك يدُ القدرة، وأخرجتك إلى الأرض.

  - فرضيت أن تشبعَ، وتجوع هي (٤)، وتكسوك وتعرى، وتَرويك وتظما، وتُظِلّك وتضحى، وتُنْعِمك ببؤسها، وتلذّذك بالنوم بأرَقها، (وكانَ بطنُها لك وعاءً، وحِجْرها لك حواءً، وثديُها لك سقاءً، ونفسُها لك وقاءً) تباشِر حَرّ الدنيا وبردها لك ودونك

____________________

(١) في الصدوق: وأمّا حق مملوكك.

(٢) في بعض نسخ الصدوق: لم تملكه لأنّك صنعته دون الله! ولا خلقت شيئاً من جوارحه، ولا أخرجت له رزقاً،

(٣) بدل ما بين القوسين في الصدوق: ليحفظ لك ما تأتيه من خير إليه، فأحسن إليه كما أحسن إليك.

(٤) في الصدوق: ولم تبال أن تجوع وتطعمك... وهكذا إلى آخر الفقرة، باختلاف يسير.

٢٨١

  - (فتشكرها على قدر ذلك): [ فإنّك لا تطيق شكرها ] (ولا تقدر عليه) إلاّ بعون الله وتوفيقه.

[٢٢] وأمّا حقّ أبيك:

  - فتعلم أنّه أصْلُك، (وأنّك فرعُه) وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيتَ في نفسك ممّا يُعْجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه.

  - فاحمد الله واشكره على قدر ذلك. ولا قوّة إلاّ بالله.

[٢٣] وأمّا حقّ ولدك:

  - فتعلم أنّه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه.

  - وأنّك مسؤول عمّا ولّيتَهُ من حُسْن الأدب، والدلالة على ربّه، والمعونة له على طاعته (فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب).

  - فاعمل في أمره عمل [ مَنْ يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه، معاقب على الإساءة إليه ] (المتزيّن بِحُسْن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذِر إلى ربّه في ما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه. ولا قوّة إلاّ بالله).

[٢٤] وأما حقّ أخيك

  - فأنْ تعلم أنّه يدك التي تبسطها، وظهرك الذي تلتجئ إليه، وعزّك الذي تعتمد عليه، وقوّتك التي تصول بها (١)

  - فلا تتّخذه سلاحاً على معصية الله.

  - ولا عُدّة للظلم لخلق الله (٢)

  - ولا تدع نصرته على (نفسه، ومعونته على) عدوّه (والحؤول بينَهُ وبين شياطينه) و(تأدية) النصيحة إليه، (والإقبال عليه في الله).

____________________

(١) في الصدوق: فأنْ تعلم أنّه يدك وعزّك وقوّتك.

(٢) في تحف العقول: بحقّ الله.

٢٨٢

  - فإن انقاد لربّه وأحسن الإجابة له (١)، وإلاّ فليكن اللهُ (آثرَ عندك و) أكرم عليك منه. ولا قوّة إلاّ بالله.

[ ز - حقوق الآخرين ]

[٢٥] وأمّا حقّ المنْعِم عليك بالولاء:

فأن تعلم أنّه أنفق فيك ماله، وأخرجك من ذُلّ الرِقّ ووحشته إلى عزّ الحرّيّة وأُنسها، وأطلقك من أسْر الملكة، وفكّ عنك قيد (٢) العبوديّة (وأوجدك رائحة العزّ) وأخرجك من سجن القَهْر (٣) (ودفع عنك العُسر، وبسط لك لسانَ الإنصاف، وأباحك الدنيا كلّها) فملّكَكَ نفسَك، (وحلّ أسْركَ) وفرّغَكَ لعبادة ربّك (واحتملَ بذلك التقصير في ماله)

  - فتعلّم أنّه أوْلى الخلق بك (بعد أُولي رحمك) في حياتك وموتك، وأحقّ الخلق بنصرك (٤)(ومعونتك، ومكانفتك في ذات الله، فلا تُؤْثِر عليه نفسك) ما احتاج إليك.

[٢٦] وأما حقّ مولاك الجارية عليه نعمتُك:

  - فأنْ تعلم أنّ الله جعلك حاميةً عليه، وواقيةً، وناصراً، ومعقلاً، وجعله لك وسيلة وسبباً بينك وبينه، فبالحريّ أنْ يحجبك عن النار، فيكون ذلك ثوابك منه في الآجل.

  - ويحكم لك بِميراثه في العاجل - إذا لم يكن له رَحِم - مكافأةً لما أنفقته من مالك عليه وقمت به من حقّه بعد إنْفاق مالك، فإن لم تقم بحقّه خيف عليك أن لا يطيب لك ميراثه.

____________________

(١) في الصدوق: فإنْ أطاع الله تعالى.

(٢) في التحف: حلق، بدل قيد.

(٣) في الصدوق: من السجن.

(٤) في الصدوق: وأن نصرته عليك واجبة بنفسك ما احتاج إليه منك.

٢٨٣

ولا قوّة إلاّ بالله (١).

[٢٧] وأمّا حقّ ذي المعروف عليك:

  - فأنْ تشكره

  - وتذكر معروفه.

  - وتنشر له (٢)المقالة الحسنة.

  - وتُخلص له الدعاء في ما بينك وبين الله سبحانه. فإنّك إذا فعلتَ ذلك كنتَ قد شكرتَه سرّاً وعلانيةً.

  - ثمّ إن أمكنك مكافأته بالفعل (٣)كافأته (وإلاّ كنتَ مُرْصِداً له موطِّناً نفسك عليها).

[٢٨] وأمّا حقّ المؤذّن:

  - فأنْ تعلم أنّه مذكّرك بربّك، وداعيك إلى حظّك، وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك.

  - فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك.

  - (وإنْ كنتَ في بيتك مهتّماً لذلك، لم تكن لله في أمره متّهِماً، وعلمت أنّه نعمة من الله عليك، لاشكّ فيها، فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها على كل حال. ولا قوّة إلاّ بالله).

[٢٩] وأمّا حقّ إمامك في صلاتك:

  - فأن تعلم أنّه قد تقلّد السفارة في ما بينك وبين (الله، والوفادة إلى) ربك.

  - وتكلّمَ عنك ولم تتكلّمْ عنه.

  - ودعا لك ولم تدعُ له

____________________

(١) في الصدوق: فأن تعلم أنّ الله عزّ وجل جعل عتقك له وسيلة إليه، وحجاباً لك من النار، وأنّ ثوابك في العاجل ميراثه، إذا لم يكن له رحم، مكافأة بما أنفقت من مالك وفي الآجل الجنّة.

(٢) في الصدوق: وتكسبه، بدل وتنشر له.

(٣) في الصدوق: يوماً، بدل (بالفعل).

٢٨٤

  - (وطُلِبَ فيك ولم تُطْلَب فيه)

  - وكفاك همّ (١)المقام بين يدي الله (والمسألة له فيك، ولم تكفه ذلك) فإن كان في (وإن كان آثماً لم [ وإنْ كان تماماً كنت شريكه ] شيء من ذلك تقصير (٢) كان به دونك تكن شريكه فيه).

  - ولم يكن له عليك فضل، فوقى نفسَك بنفسه، و(وقى) صلاتك بصلاته.

- فتشكر له على [ قدر ] ذلك (ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله).

[٣٠] وأمّا حقّ الجليس:

  - فأن تُلين له (كنفك، وتطيّب له) جانبك

  - وتنصفه في مجاراة اللفظ.

(- ولا تُغرق في نزع اللحظ إذا لحظت.

  - وتقصد في اللفظ إلى إفهامه إذا لفظت).

  - وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار، وإن كان الجالس إليك كان بالخيار، ولا تقوم إلاّ بإذنه (٣)

- [ وتنسى زلاّته.

  - وتحفظ خيراته.

  - ولا تُسْمعه إلاّ خيراً ]

(ولا قوّة إلاّ بالله)

[٣١] وأمّا حقّ الجار:

  - فحفظه غائباً.

  - وإكرامه شاهداً.

____________________

(١) في الصدوق: هول.

(٢) في الصدوق: نقص.

(٣) في الصدوق، اختلاف في ألفاظ هذه الفقرة، والمعنى واحد.

٢٨٥

  - ونصرته (ومعونته في الحالين جميعاً) [ إذا كان مظلوماً ].

  - ولا تتّبع له عورةً (ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها، فإن عرفتها منه - من غير إرادةٍ منك ولا تكلّفٍ - كنت لما علمتَ حصناً حصيناً وستراً ستيراً، لو بحثت الأسنّة عنه ضميراً لم تتّصل إليه لانطوائه عليه) (١)[ وإن علمت انه يقبل نصيحتك نصحتَه في ما بينك وبينه ].

(- لا تستمع عليه من حيث لا يعلم).

  - ولا تسلّمه عند شديدة.

(- ولا تحسده عند نعمة).

  - وتُقيل عثرته، وتغفر زلّته (٢)(ولا تدّخر حلمك عنه) إذا جهل عليك.

  - ولا تخرج أن تكون سلماً له، تردّ عنه لسان الشتيمة، وتُبطل فيه كَيْد حامل النصيحة (٣))

  - وتعاشره معاشرةً كريمة.

(ولا حول) ولا قوّة إلاّ بالله.

[٣٢] وأمّا حقّ الصاحب:

  - فأن تصحبه بالفضل (ما وجدت إليه سبيلاً) و(إلاّ فلا أقلّ من) الإنصاف (٤)

  - وأن تكرمه كما يكرمك(ولا يسبقك في ما بينك وبينه إلى مكرمة، فإن سبقك كافأتَهُ) (٥)

  - (وتحفظه كما يحفظك)

  - [ وتودّه كما يودّك ] (ولا تقصّر به عمّا يستحقّ من المودّة

____________________

(١) في الصدوق - بدل ما بين القوسين -: فإن علمت عليه سواً سترته عليه.

(٢) في الصدوق: ذنبه.

(٣) كذا، ولعلّها: (النميمة) لأنّ - ها أنسب بما قبلها وما بعدها سجعاً، ولأنّ حامل النصيحة لا كيد له ظاهراً، فلاحظ.

(٤) في الصدوق: فإن تصحبه بالتفضّل والإنصاف.

(٥) هذه الجملة مؤخّرة في التحف عن الجملة التالية.

٢٨٦

  - تلزم نفسك نصيحته وحياطته.

  - ومعاضدته على طاعة ربّه)

  - ومعونته على نفسه في ما لا يهمّ (١)به من معصية (ربّه).

  - ثمّ تكون (٢)عليه رحمة، ولا تكون (٣) عليه عذاباً. ولا قوّة إلاّ بالله.

[٣٣] وأمّا حقّ الشريك:

  - فإنْ غاب كفيتَه.

  - وإنْ حضر ساويتَه (٤).

  - ولا تعزم على حكمك دون حكمه.

  - ولا تعمل برأيكَ دونَ مُنَاظرته.

  - تحفظ عليه ماله.

  - وتَنْفي عنه خيانته (٥)في ما عزّ أو هانَ، فـ (إنّه بلَغَنَا) (أنّ يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا) ولا قوّة إلاّ بالله.

[٣٤] وأمّا حقّ المال:

  - فأنْ لا تأخذَه إلاّ من حِلّه.

  - ولا تُنفقه إلاّ في حلّه (٦)(ولا تحرّفه عن مواضعه، ولا تصرفه عن حقائقه،

ولا تجعله - إذا كان من الله - إلاّ إليه، وسبباً إلى الله).

____________________

(١) في الصدوق: وتزجره عما يهمّ، إلى آخره.

(٢) في الصدوق: وكن.

(٣) في الصدوق: ولا تكن.

(٤) في الصدوق: رعيته، بدل (ساويته).

(٥) في الصدوق: ولا تخُنْهُ.

(٦) في الصدوق: في وجهه.

٢٨٧

  - ولا تُؤثِر به على نفسك مَنْ لا يحمدك (وبالحريّ أن لا يُحسن خلافته (١)في تركَتِك، ولا يعمل فيه بطاعة ربّك، فتكون مُعيناً له على ذلك، أو بما أحدثَ في مالك أحسن نظراً، فيعمل بطاعة ربّه فيذهب بالغنيمة).

[ - فاعمل فيه بطاعة ربّك، ولا تبخل به ] فتبو ء بـ (الإثمِ و) بالحسرة والندامة مع التبعة. ولا قوّة إلاّ بالله.

[٣٥] وأمّا حقّ الغريم الطالب لك:

  - فإنْ كنتَ مُوسِراً أوفيتَه (٢)(وكفيتَه وأغنيتَه، ولم تردُدْه وتمطله، فإنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (مطلُ الغنيّ ظلم))

  - وإنْ كنتَ مُعْسِراً أرضَيْتَه بحُسْن القول (وطلبت إليه طلباً جميلاً) وردَدْتَه عن نفسك ردّاً لطيفاً (ولم تجمع عليه ذهاب ماله، وسوء معاملته، فإنّ ذلك لؤم. ولا قوّة إلاّ بالله) (٣)

[٣٦] وأمّا حقّ الخليط:

  - فأن لا تغُرّه.

  - ولا تغشّه.

(- ولا تكذّبه.

  - ولا تغفله)

  - ولا تخدعه.

(- ولا تعمل في انتقاصِهِ عمل العدوّ الذي لا يُبقي على صاحبه.

  - وإن اطمأنّ إليك استقصيت له على نفسك، وعلمت: (أنّ غبن المسترسل ربا).

____________________

(١) في بعض نسخ التحف، خلافتك.

(٢) في الصدوق: أعطيته.

(٣) هنا موضع (حق الغريم الذي تطالبه) الذي ذكر في المقدمة مع فروع الحقوق، لكنّه لم يعنون هنا في أيّ من النصين لا في تحف العقول، ولا في كتب الصدوق.

٢٨٨

[ - وتتّقي اللهَ تبارك وتعالى في أمره ]

ولا قوّة إلاّ بالله).

[٣٧] وأمّا حقّ الخصم المدّعي عليك:

  - فإن كانَ ما يدّعي - عليك حقّاً [ كنتَ شاهدَه على نفسك ] (لم تنفسخ في حُجّته) [ ولم تظلمه ] (ولم تَعْمل في إبطال دعوته) [ وأوفيته حقّه ] (وكنْتَ خَصْم نفسك له، والحاكم عليها، والشاهد له بحقّه، دون شهادة الشهود، فإنّ ذلك حقّ الله عليك).

  - وإن كان ما يدّعيه باطلاً رَفَقْتَ به (وردَعته (١)وناشدته بدينه) [ ولم تأتِ في أمره غير الرفق، ولم تُسْخط ربّك في أمره ] (وكسرتَ حدّتَهُ بذكر الله، وألغيتَ حشو الكلام ولُغَطَهُ الذي لايردّ عنك عادية عدوّك، بل تبوء بإثمِه، وبه يشحذ عليك سَيْف عداوته؛ لأنّ لفظة السوء تبعث الشرّ، والخير مَقْمَعَة للشرّ. ولا قوّة إلاّ بالله).

[٣٨] وأمّا حقّ الخصْم المدّعى عليه:

  - فإنّ كانَ ما تدّعيه حقّاً (٢)أجْملتَ في مقاولته (بمخرج الدعوى فإنّ الدعوى غلظة في سمع المدّعى عليه) [ ولم تجحَدْ حقّه ].

(- وقصدت قصد حجّتك بالرفق، وأمهل المهلة، وأبين البيان، وألطف اللطف.

  - ولم تتشاغل عن حجّتك بمنازعته بالقيل والقال، فتذهب عنك حجّتُك، ولا يكون لك في ذلك دَرْك) [ وإنْ كنتَ مُبْطلاً في دعواك اتّقيْتَ الله عزّ وجلّ، وتُبْتَ إليه، وتركتَ الدعوى ]

(ولا قوّة إلاّ بالله)

____________________

(١) كذا في بعض النسخ، والظاهر أنّه الصواب وفي أكثرها ورَوّعْتَهُ، والظاهر عدم صحّته، وفي بعض النسخ: ورّعته، فمعناه دعوته إلى الورع.

(٢) في الصدوق: إن كنت محقّاً في دعواك...

٢٨٩

[٣٩] وأمّا حقّ المستشير:

  - فإنْ حضرك له وجه رأي، جهدتَ له في النصيحة و (١)أشرت عليه (بما تعلم أنّك لو كنتَ مكانه عملتَ به.

  - وذلك ليكنْ منك في رحمةٍ، وليْنٍ، فإنّ الليْن يؤنِسُ الوحشةَ، وإنّ الغلظ يُوحش موضع الأُنس.

  - وإن لم يحضرك له رأي، وعرفتَ له مَنْ تثقُ برأيه وترضى به لنفسك، دَلَلْتَه عليه وأرشدته إليه (٢)فكنتَ لم تألُهْ خيراً، ولم تدّخره نصحاً. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله)

[٤٠] وأما حقّ المُشير عليك:

  - أنْ لا تتّهمَه في مالا يُوافقك عليه من رأيه (إذا أشارَ عليك، فإنّما هي الآراء وتصرُّف الناس فيها واختلافهم، فكن عليه في رأيه بالخيار، إذا اتّهمْتَ رأيه، فأمّا تهمتُهُ فلا تجوزُ لك، إذا كانَ عندكَ ممّن يَستحقّ المشاورة.

  - ولا تدعْ شُكْره على ما بدا لك من إشخاص رأيه، وحُسْن وجه مشورته)

  - فإذا وافقك حمدتَ الله (وقبلتَ ذلك من أخيك بالشكر والإرصاد بالمكافأة في مثلها، إن فزع إليك. ولا قوّة إلاّ بالله).

[٤١] وأمّا حقّ المستنصِح:

  - فإنّ حقّه أنْ تؤدّيَ إليه النصيحةَ (على الحقّ الذي ترى له أنّه يحمل، وتُخرج المخرجَ الذي يلين على مسامعه، وتكلّمه من الكلام بما يُطيقه عقله، فإنّ لكلّ عقلٍ طبقةً من الكلام يعرفه ويَجْتنيه) (٣)

  - وليكن مذهبُك الرحمة [ له والرفق به ]

____________________

(١) في الصدوق: إنْ علمت له رأياً.

(٢) في الصدوق: وإنْ لم تعلم أرشدتَه إلى مَنْ يعلم.

(٣) كذا في بعض النسخ وفي أكثرها: يجتنبه، فلاحظ.

٢٩٠

(ولا قوّة إلاّ بالله).

[٤٢] وأمّا حقّ الناصِح:

  - فأنْ تُلين له جناحك.

  - (ثمّ تُشَرْئب (١)له قلبَك، وتفتح له سمعَك، حتّى تفهمَ عنه نصيحته (٢) . ثمّ تنظر فيها): فإنْ كانَ وُفقَ فيها للصواب (٣) حمدتَ الله (على ذلك، وقبلتَ منه وعرفتَ له نصيحته).

  - وإن لم يكن وُفِّقَ له فيها (٤)رحمتَه، ولم تتّهمْهُ، وعلمتَ أنّه (لم يألُك نصحاً، إلاّ أنّه) أخطأ، [ ولم تُؤاخذه بذلك ] إلاّ أنْ يكونَ (عندك) مستحِقّاً للتهمة، فلا تعبأ بشيٍ من أمره على (كلّ) حال. ولا قوّة إلاّ بالله.

[٤٣] وأما حقّ الكبير:

  - فإنّ حقّه توقير سِنّهِ.

  - وإجلال إسلامه، إذا كان من أهل الفضل في الإسلام، بتقدّمه فيه (٥)

  - وترك مقابلته عند الخِصام.

  - ولا تسبقه إلى طريق.

  - ولا تؤمّه في طريق (٦)

  - ولا تستجهله.

  - وإن جهل عليك، تحمّلتَ، وأكرمته بحقّ إسلامه [ وحرمته ] (مع سِنّه، فإنّما حقّ السِنّ بقدر الإسلام.

____________________

(١) كذا في النسخ، ولعلّ الكلمة (تشرّف).

(٢) في الصدوق: وتُصغي إليه بسمعك، بدل هذه الفقرة.

(٣) في الصدوق: فإن أتي الصواب.

(٤) في الصدوق: وإن لم يوفّق، وفي بعض النسخ: يوافق.

(٥) في التحف لتقديمه، وفي الصدوق: إجلاله لتقدّمه في الإسلام قبلك.

(٦) في الصدوق، ولا تتقدّمه.

٢٩١

ولا قوّة إلاّ بالله.

[٤٤] وأمّا حقّ الصغير:

  - فرحمته (١)

  - (وتثقيفُه وتعليمه)

  - والعفو عنه، والستر عليه.

  - والرفق به.

  - والمعونة له.

  - (والستر على جرائر حداثته، فإنّه سبب للتوبة.

  - والمداراة له، وترك مماحَكته، فإنّ ذلك أدنى لرشده).

[٤٥] وأمّا حقّ السائل:

  - فإعطاؤه [ على قدر حاجته ] (٢)إذا تيقّنتَ صدقَهُ وقَدَرْتَ على سَدّ حاجته.

  - والدعاء له في ما نَزَلَ به.

  - والمعاونة له على طلبته.

  - وإن شككتَ في صدقه، وسبقتْ إليه التهمةُ له، ولم تعزم على ذلك، لم تأمَنْ أنْ يكونَ من كيد الشيطان، أراد أنْ يصدّك عن حظّك، ويحولَ بينك وبين التقرّب إلى ربّك، فتركتَه بستْرهِ، وردَدْتَه ردّاً جميلاً.

  - وإنْ غلبتْ نفسُك في أمره، وأعطيتَه على ما عَرَضَ في نفسك منه، فإنّ ذلك من عزم الأمور.

[٤٦] وأمّا حقّ المسؤول:

  - إنْ أعطى قُبِلَ منه (ما أعطى) بالشُكر له، والمعرفة لفضله.

  - وَطلب وجه العُذْر في منعه (٣)

____________________

(١) أضاف الصدوق: في تعليمه.

(٢) إلى هنا ينتهي ما في الصدوق من حقوق السائل.

(٣) في الصدوق: وإن مَنَعَ فاقبل عُذره.

٢٩٢

(- وأحْسِنْ به الظنّ.

  - واعلم أنّه إنْ مَنَعَ فمالَه مَنَعَ، وأنْ ليس التثريبُ في ماله، وإنْ كان ظالماً، فإنّ الإنسان لظلوم كفّار)

[٤٧] وأمّا حقّ مَنْ سَرّكَ (اللهُ به وعلى يديه) (١):

  - فإن كانَ تعمّدها لك: حمدتَ الله أوّلاً، ثمّ شكرتَهُ (٢)على ذلك بقدره، في موضع الجزاء.

  - وكافأته على فضل الابتداء، وأرصدتَ له المكافأةَ.

  - وإن لم يكن تعمّدها: حمدتَ الله وشكرته، وعلمت أنّه منه، توحّدك بها.

  - وأحببتَ هذا (٣)إذْ كان سبباً من أسباب نِعَمِ الله عليك.

  - وترجو له بعد ذلك خيراً، فإنّ أسبابَ النِعم بركة حيثُما كانَتْ، وإنْ كان لم يتعمّد. ولا قوّة إلاّ بالله.

[٤٨] وأمّا حقّ مَنْ ساءَ ك(القضاء على يَدَيْه، بقولٍ أو فعلٍ):

  - فإنْ كانَ تعمّدها كان العفوُ أولى بك (٤)(لما فيه له من القَمْع، وحُسْن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق.

[ - وإن علمت أنّ العفوَ عنه يضر، انتصرتَ ] فإنّ الله يقول: ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) إلى قوله ( من عزم الأمور ) (٥) .

وقال عزّ وجلّ: ( وإنْ عاقَبْتُم فعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُم بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُم لهو خيْر للصابِرين ) (٦) .

هذا في العَمْد.

  - فإنْ لم يكن عَمْداً، لم تظلمه بتعمّد الانتصار منه، فتكونَ قد كافأته في تعمّد

____________________

(١) في الصدوق: بدل ما بين القوسين: لله تعالى.

(٢) في الصدوق في هذا الحق: (أنْ تحمد الله عزّ وجّل أوّلاً، ثم تشكره) فقط، ولم يورد باقي ما هنا.

(٣) هذا إشارة إلى الشخص الذي سرّك.

(٤) في الصدوق: أن تعفو عنه، فقط، ثم ذكر قوله: [ وإن علمت... الخ ].

(٥) سورة الشورى (٤٢) الآية: ٤١ - ٤٣.

(٦) سورة النحل (١٦) الآية: ١٢٦.

٢٩٣

على خطأ.

  - ورفقتَ به، وردَدْتَه بألْطَفِ ما تقدِرُ عليه. ولا قوّة إلاّ بالله)

[٤٩] وأمّا حقّ أهل مِلّتك (عامَةً):

  - فإضمار السلامة.

  - و(نشر جناح) الرحمة [ بهم ]

  - والرفق بمسيئهم.

  - وتألّفهم.

  - واستصلاحهم.

  - وشكر محسنهم (إلى نفسه، وإليك، فإنّ إحسانه إلى نفسه إحسان إليك، إذا كَفّ عنك أَذاه، وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه - فَعُمّهم - جميعاً - بدعوتك.

  - وانصرهم - جميعاً - بنصرتك).

  - وكُفّ الأذى عنهم ].

- وتُحب لهم ما تُحبّ لنفسك، وتكرهُ لهم ما تكره لنفسك ].

  - وأنْزِلْهُم - جميعاً - منك منازلهم: كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ (١) [ وعجائزهم بمنزلة أُمّك ].

(- فَمَنْ أتاك تعاهَدْتَه بلُطفٍ ورحمةٍ.

  - وصِلْ أخاك بما يجبُ للأخ على أخيه).

[٥٠] وأمّا حقّ أهْل الذمّة:

  - (فالحكم فيهم) أنْ تقبل منهم ما قَبل الله.

  - (وتفي بما جعل الله لهم من ذمّته وعهده.

____________________

(١) في الصدوق بدل ما هنا: وأن يكون شيوخهم بمنزلة أبيك، وشبابهم بمنزلة إخوتك، وعجائزهم بمنزلة أُمّك، والصغار بمنزلة أولادك.

٢٩٤

- وتكِلَهم إليه في ما طلبوا من أنفسهم، واُجبروا عليه.

- وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك، في ما جرى بينك وبينهم من معاملة).

[ - ولا تظلمهم ما وَفَوا لله عزّ وجل بعهده ] ذمّة الله، والوفاء بعهده وعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حائل، فإنّه بلغنا أنّه قال: (مَنْ ظَلَمَ معاهَداً كنتُ خصمه) فاتّق الله.

ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

[ الخاتمة ]

(فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك، لا تخرج منها في حال من الأحوال، يجب عليك رعايتها، والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جلّ ثناؤه على ذلك.

ولا حول ولا قوة إلاّ بالله).

والحمد لله ربّ العالمين [ وصلواته على خير خلقه محمّد وآله أجمعين وسلم تسليماً ] (١).

____________________

(١) هذه الخاتمة لم ترو في روايات الصدوق.

٢٩٥

الملحق (٢)

من تقاريظ الكتاب نثراً ونظماً

نشر في مجلّة (الذكر) الشهرية التي يعدّها الطلبة اللبنانيون في معهد الإمام شرف الدين (رحمه الله) في حوزة مدينة قم المقدّسة. العدد (٧) جمادى الأولى، السنة الأُولى(١٤١٤هـ) ص(٤٣ - ٤٤). بقلم العلاّمة الخطيب البارع الشاعر المفلّق المرحوم الشيخ محمد رضا آل صادق مقال هذا نصّه:

بسم الله الرحمن الرحيم

جهاد الإمام السجّاد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) سفر قيّم جديد

وممّا يجدر ذكره أنّ هذا الكتاب قد حظِي بالجائزة الأولى في المباراة التي أقامتها مؤسّسة آل البيت: ببيروت...

وينبغي أنْ نلقيَ الضوء على الكتاب والكاتب بما يرسم الصور المتوخّاة للقارئ اللبيب.

أمّا(الكتاب) فيتناول جهاد الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) السياسيّ الذي غفلت عنه جلّ أقلام الكتّاب القُدامى والمعاصرين، بل حاولتْ أنْ تجعل منه رجلاً منصرفاً عن ميادين الجهاد والسياسة إلى صوامع العبادة والزهد وما إلى ذلك...

وقد مهدّ المؤلّف لكتابه بمقدّمة ضافية وافية بيّن فيها ما دفعه إلى تأليف هذا الكتاب أوّلاً.

ثمّ بحث عن الإمامة ومستلزماتها بصورة مفصّلة، وأعقب ذلك بحثاً عن إمامة السجّاد وآراء المذاهب الإسلاميّة في هذا الشأن.

وجعل الكتاب في خمسة فصول...

٢٩٦

تحدّث في الفصل الأوّل: عن أدوار النضال في حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) في كربلاء والأسر والمدينة.

وتحدّث في الفصل الثاني: عن النضال الفكري والعلميّ في مجالات القرآن والحديث والعقيدة والشريعة والأحكام.

وتحدّث في الفصل الثالث: عن النضال الاجتماعي والعملي في مجالات الأخلاق والتربية ومقاومة الفساد وما إلى ذلك.

وتحدّث في الفصل الرابع: عن زهد الإمام وبكائه ودعائه.

كما تحدّث في الفصل الخامس: عن مواقف الإمام السجّاد (عليه السلام) الحاسمة من الظالمين وأعوانهم ومواقفه المبدئيّة من الحركات المسلّحة.

ثمّ خلص إلى خاتمة الكتاب التي أوجز فيها نتائج البحث. وممّا ورد فيها قوله:

(إنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) قد قام بأعمال سياسيّة كثيرة في سبيل الأهداف الكبيرة التي من أجلها شُرّع الدين.

وهو (عليه السلام) - وإن لم يمدّ يداً إلى السلاح الحديدي - إلاّ أنّه التزم النضال بكلّ الأسلحة الأخرى التي لا تقلّ أهميّة وخُطورة من السلاح الحديدي.

فشهر سلاح اللسان بالخطب والمواعظ، وسلاح العلم بالتثقيف والإرشاد، وسلاح الأخلاق بالتربية والتوجيه، وسلاح المال بالإعانات والإنفاق، وسلاح العدالة بالإعتاق، وسلاح الحضارة بالعرفان).

كما أكّد المؤلّف في هذه الخاتمة،: أنّ مَن يعرف أوليّات النضال السياسي وبديهيات التحرّك الاجتماعي، وخاصةً عند المعارضة، لَيُدرِك أنّ سيرة الإمام زين العابدين السياسية التي عرضناها في فصول هذا الكتاب، هي مشاعل تُنير النهج للسائرين على طريق الجهاد الشائك ممّن يلتقي مع الإمام (عليه السلام) في تخليد الأهداف الإلهية السامية...

وتتجلّى قيمة هذا الكتاب - كما ترى - عندما يعرف القارئ أنّ المؤلّف رجع إلى ما يقرب من مئة وتسعين مصدراً، ومرجعاً ممّا كتبه الفريقان من أهل السنّة والشيعة حول شخصية الإمام زين العابدين وحياته وسيرته.

٢٩٧

كما يتبّين السرّ للقارئ بوضوح في علّة عدول الإمام السجّاد عن الكفاح المسلّح إلى الجهاد باللسان والمال والسُبُل الأُخرى حين يطّلع على أنّ الإمام قد صرّح قائلاً: (ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا).

وأمّا الكلام عن (مؤلّف الكتاب).

فألحقّ أنّه أشهر من أنْ يُذكر فقد عرفته الأوساط العلميّة: كاتباً قديراً، وعالِماً نِحْريراً، له طول باعٍ وسعة اطّلاعٍ في التحقيق والرجال والفقه والأصول، بحيث أحسبه في غِنىً عن البيان بعد أنْ أصبحَ ممّن يُشار إليه بالبنان.

وحسبُنا أن نذكر - على سبيل الاستشهاد - أنّه سبق أنْ فاز كتابه الموسوم برسالة أبي غالب الزُراري إلى ابن ابنه في آل أعين، وتكملتها: لأبي عبد الله الغضائري بجائزة الكتاب السنويّ في حقل تحقيق التراث بإيران قبل عامين...

فطوبى له وحسن مآب، وأخذ الله بيديه وأيدينا جميعاً إلى ما فيه الخير والصواب...

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد الصادق الوعد الأمين، وآله الهُداة الميامين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، آمين.

كُتِبَ في يوم الجمعة الأوّل من ربيع الأوّل سنة١٤١٤ هجرية بقم عُشّ آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

محمد رضا آل صادق

٢٩٨

مقاطع من نظم العلاّمة الخطيب الشاعر الباهر الشيخ سعيد المنصوري (دام ظلّه)

في تقريض وتاريخ صدور كتاب (جهاد الإمام السجّاد) في عام(١٤١٤) هـ:

المقطوعة الأولى:

جهادُ الإمامِ كتاب لهُ

عند أهل الحِجا قيمة راجحَهْ

مؤلّفُهُ رجلٌ فاضِلٌ

أدّلتُهُ قدْ أتَتْ واضِحهْ

فأكْرِمْ بهِ من فتىً عالمٍ

مواضيعُهُ كلّها ناجِحهْ

فقَرّي عُيوناً بني هاشِمٍ

بِشِبْلٍ مواهبُهُ صالِحهْ

فإنْ قلتَ للنجم أرخْهُ (طُل

تجارتُهُ فيكم رابحهْ)

١٤١٤

المقطوعة الثانية:

إنّ الجلاليّ بتأليفهِ

لدى المباراةِ: (جهادَ الإمامْ)

أوضَحَ أمراً لم يكنْ واضحاً

بخيرِ أُسْلوبٍ وخير الكلامْ

وفي بيانٍ ساحِرٍ جاذبٍ

قد كَسَبَ السبْق ونالَ المرامْ

أبدَعَ في موضوعه خدمةً

لأهل بَيْت الوحْي خير الأنامْ

ففيهِ أنوارُ الهُدى أشرقَتْ

وعن طريق الحقّ أجلى الظَلامْ

وحينَ قالوا: علمُه دافِق

أرّخْتُه: (دفق كصوب الغمامْ)

١٤١٤

المقطوعة الثالثة:

اقرأ كتاباً بِيَراع الرضا

فيه لنا قد خُطّتِ الأسطرُ

فقل: له فضل على غيره

وثُمَ أرّخْ (فَيَد تُذْكَرُ)

٢٩٩

المقطوعة الرابعة

(محمّد الرضا) قد فُزْتَ في ما

به وافيتنا فوزاً عظيما

رسمتَ حقيقةً لا ريبَ فيها

وسفّهتَ المُبْطنَ والسقيما

فسِفْركمُ (الجهاد) دليلُ خيرٍ

ونور في البلاد سرى عميما

(لِزين العابدين) حوى دروساً

لها أطلقتُمُ قلماً سليما

سيأتيكم غَداً عوناً ويأتي

لمَنْ كَذَبوا عليه غداً خصيما

فِدى مجموعةِ الأبطال رُوحي

إماماً كانَ مِقداماً حليما

سِياسيّاً أبِيّاً أرْيَحيّاً

وإنْ نالَ الورى عُسْرٌ كريما

إلى العَليا به سلكتْ جدودٌ

وآباءٌ صِراطاً مستقيما

كتبتَ به صحائفَ محكماتٍ

فدُمْ في ما تسجّله حكيما

بذكرك قد أشدْتُ ولا أُبالي

وقلتُ مسبّحاً ربّاً عليما

لمن قالوا: أتعرف للجلالي

كتابَ هُدىً حديثاً أو قديما؟

يداه لجانب التاريخ (صدقاً

بجدٍّ قدّمَتْ دُرّاً يتيما)

١٤١٤

٣٠٠

301

302

303

304

305