جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)18%

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 305

  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30500 / تحميل: 8281
الحجم الحجم الحجم
جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

جهاد الإمام السجاد (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية للطباعة والنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

قال ابن أبي قرّة في (مزاره) بسنده عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: كان أبي علي بن الحسين (عليه السلام)، قد اتّخذ منزله من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي (عليه السلام) بيتاً من شَعْرٍ، وأقام بالبادية، فلبث بها عدّة سنين، كراهيةً لمخالطة الناس (١) وملاقاتهم.

وكان يصير من البادية بمقامه إلى العراق زائراً لأبيه وجدّه (عليهما السلام)، ولا يُشْعَرُ بذلك من فعله (٢) .

إنّه تصرّف غريب في طول تاريخ الإمامة، لم نجد له مثيلاً، لكنّه كما تكشف عنه الأحداث المتتالية عمل عظيم يَنُمّ عن حنكة سياسية، وتدبير دقيق للإمام (عليه السلام).

فإذا كان الإمام (عليه السلام) يعيش خارج المدينة، وكان ينزل البادية:

فإنّ الدولة لا تتمكّن من اتهامه بشيء يحدث في المدينة، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته، في محل مكشوف مثل البادية!

وأمّا هو (عليه السلام): فخير له أن يتخذ منتجعاً مؤقّتاً بعيداً عن الناس، حتّى تهدأ الأوضاع وتستقرّ، وتعود المياه إلى مجاريها.

وبعيداً عن الناس، للاستجمام، ولاستجماع قواه، كي ينتعش ممّا أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب؛ ليتمكّن من مداومة مسيره بعد ذلك بقوّة وجدّ.

وهو (عليه السلام) بحاجة بعد ذلك العناء والضنى إلى راحة جسدية، وهدوء بال وخاطر، حتّى يبلّ من مرضه أو يداوي جراحاته.

ثمّ إنّ المدينة التي دخلها الإمام السجاد (عليه السلام) وهو غلام ابن ( ٢٣ ) سنة أو نحو ذلك لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام، وهو بعد لم يعاشرهم، ولم يداخلهم، وما تداولوا حديثه، ولم تظهر لهم خصائصه، كي ينطلقوا معه كقائم بالإمامة.

ولعدم وجود العدد اللازم من الأعوان والأنصار، بالقدر الكافي لإعداد حركة

____________________

(١) يلاحظ أنّ كلمة (الناس) في حديث أهل البيت: خاصة يطلق على غير المعتقدين بالإمامة، في أغلب الأحيان.

(٢) فرحة الغري، لابن طاوس (ص ٤٣)؛ الإمام زين العابدين، للمقرّم (ص ٤٢)؛ ولاحظ الكافي للكليني، قسم الروضة (ص ٢٥٥) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجاد لقبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ولقاء أبي حمزة الثمالي له؛ فليلاحظ.

٦١

مستقلّة يعلنها الإمام، وحفاظاً على العدد الضئيل الباقي على ولائه للإمام.

فقد بنى الإمام زين العابدين (عليه السلام) سياسته، في ابتداء إمامته على أساس الابتعاد عن الناس، ودعوتهم إلى الابتعاد عنه (عليه السلام).

وقد أعلن الإمام عن هذه السياسة، في أول لقاء له مع مجموعة من شيعته ومواليه في الكوفة، عندما عرضوا عليه ولاءهم، وقالوا له بأجمعهم: نحن كلّنا يا بن رسول الله، سامعون، مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك، رحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذنّ تِرَتك وتِرَتنا ممّن ظلمك وظلمنا.

فقال (عليه السلام): هيهات... ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا (١) .

إنّ الإمام (عليه السلام) أخذ عليهم، سائلاً، أن يأخذوا في تلك الفترة جانب الحياد تجاه أهل البيت (عليهم السلام)، لا لهم، ولا عليهم.

إذ لو رأت السلطة أدنى تجمّع حول الإمام (عليه السلام)، لاتّخذَت ذلك مبرّراً لها أن تستأصل وجوده ومَن معه، فإنّ من الهيّن عليها قتل علي بن الحسين وهو ضعيف، بعد أن قتلت الحسين (عليه السلام) وهو أقوى موقعاً في الأُمّة.

كان مغزى هذا التدبير السياسي المؤقّت: أن لا يبقى الإمام (عليه السلام) داخل المدينة، حتّى لا تلاحقه أوهام الدولة وتخمينات رجالها وحتّى يبتعد عن ظنونهم السيئة، بل خرج إلى فضاء البادية المفتوح، وخارج البلد، يسكن في بيت من (شَعْرٍ) ليرفع عن نفسه سهام الريب، ويدفع عن ساحته اهتمام رجال الدولة، كوارث للشهداء.

ولقد طالت هذه الحالة عدّة سنين حسب النصّ، ولعلّها بدأت من سنة ( ٦١ ) عندما رجع أهل البيت إلى المدينة، وحتّى نهاية سنة ( ٦٣ ) عندما انتهت مجزرة الحرّة الرهيبة.

____________________

(١) الاحتجاج للطبرسي (ص ٣٠٦) وانظر اللهوف لابن طاوس (ص ٦ - ٦٧) ويبدو أنّ هذا الاجتماع كان بعد عودة الإمام (عليه السلام) من الشام إلى الكوفة أو في بعض أسفاره السرّيّة إلى العراق. وانظر فضل الكوفة من مزار ابن المشهدي (ص ٧٨).

٦٢

وأمّا بعد هذه الفترة، فلم يُعْرَف عن هذا البيت من الشَعْر خبر في تاريخ الإمام (عليه السلام)، ولا أثر!.

وأبرز ما أثمرته هذه الظاهرة الغريبة، أنّ القائد الأموي السفّاك مسلم بن عقبة، في هجومه الوحشي الكاسح على المدينة وأهلها، لم يمسّ الإمام بسوء، وعدّه خيراً لا شرّ فيه.

وواضح، أنّ المراد من الخير والشر في منطق هذا الأموي السفّاح، ما هو؟ مع أنّ الإمام كان مستهدفاً بالذات في ذلك الهجوم، كما سنوضحه في ما بعد.

ولقد استنفد الإمام السجاد (عليه السلام) جلّ أغراضه وأهدافه من هذا الإجراء الفريد، فرجع إلى المدينة، وقد انقلبت ظنون رجال الحكم السيّئة، إلى حالة مألوفة، وأصبح الإمام في نظرهم مواطناً، يمكنه أن يسكن المدينة، من دون أن تُنصب له الدوائر، ولا أن تُجعل عليه العيون، بل انقلب البغض الدفين، الذي كان يكنّه الأمويون تجاه بني هاشم، وركّزه معاوية في أهل بيت الرسول، وصبّه على أمير المؤمنين علي وأولاده، وجسّده يزيدُ في الفاجعة المروّعة بقتل شيخ العترة وسيّدها الحسين بن علي (عليه السلام)، وقتل خيرة رجالات أهل بيته، وأصحابه، في مجزرة كربلاء.

انقلب كل ذلك في نهاية المطاف بفضل سياسة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، إلى أن يكون علي بن الحسين أحبّ الناس إلى حكّام بني أمية (١) .

وبهذا يمكن أن نفسّر النصّ الوارد في إعلام إمامة علي بن الحسين (عليه السلام) المعروف بحديث اللوح الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري حيث جاء فيه:

(أطْرِق، واصمت، والزم منزلك، واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين) (٢) .

فلابد أن تحدّد فترة ذلك بأول عهد إمامة الإمام السجاد (عليه السلام) حين كان يواجه

____________________

(١) كان علي بن الحسين أحبّ الناس إلى مروان وابنه عبد الملك. طبقات ابن سعد (٥: ١٥٩) تاريخ دمشق (الأحاديث ٣٨ - ٤٠) وابن كثير في البداية والنهاية (٩: ١٠٦) وتذكرة الحفاظ (١: ٧٥).

(٢) الإمامة والتبصرة من الحيرة، لابن بابويه (ص ١٦٧) الحديث (٢٠)، وانظر مصادر تخريجه. ولاحظ أمالي الطوسي (١ ٢٩٧).

٦٣

تلك الأخطار والتهديدات والإطراق والصمت معبّران عن التزام السكون، والهدوء، والتخطيط للمستقبل، والابتعاد عن لقاء الناس.

وهذا هو الذي عبّر عنه إسماعيل بن علي أبو سهل النوبختي بقوله: وقُتِل الحسين (عليه السلام) وخلّف علي بن الحسين (عليه السلام) متقارب السنّ - كانت سنّه أقل من عشرين سنة - ثم انقبض عن الناس، فلم يلق أحداً، ولا كان يلقاه إلاّ خواصّ أصحابه، وكان في نهاية العبادة، ولم يخرج عنه من العلم إلاّ يسير، لصعوبة الزمان وجور بني أمية (١) .

فهو شرح عيني لحالة هذه الفترة بالذات.

وإلاّ، فإنّ الفترة التالية من حياة الإمام السجاد (عليه السلام) نراها مليئة بكلّ أغراض الكلام والخطب والأدعية والمواعظ.

فأين الصمت؟.

ونجد في حياته الأسفار المكرّرة إلى الحجّ، والنشاط العملي الجادّ في الإنفاق، والإعتاق، والحضور في المسجد النبوي، والخطبة كلّ جمعة، والمراسلات والمساجلات والاحتجاجات.

فأين الإطراق؟

ولا يُمكن لأحدٍ أنْ يعبّر عن العلم الذي خرج عن الإمام (عليه السلام) بأنّه يسير وهو يجد أمامه: الصحيفة السجّادية، ورسالة الحقوق، ومناسك الحج، مضافاً إلى الخطب والكلمات والرسائل التي احتوتها بلاغة علي بن الحسين (عليه السلام) وجمعتها كتب تراثيّة عديدة (٢) .

____________________

(١) نقله الصدوق في إكمال الدين (ص ٩١) عن كتاب (التنبيه) للنوبختي.

(٢) لاحظ تدوين السنة الشريفة (ص ١٥٠ ١٥٢) وراجع معجم ما كُتب... للرفاعي بالأرقام: ٢٠٣٩٧ باسم (التذكرة) و ٢٠٤١٥ باسم التعقيبات، و ٢٠٤٨٢ باسم الديوان، و٢٠٦٨٨باسم المخمسّات، و٢٠٧٣٣ - ٢٠٧٣٦باسم (الندبة) و ٢٠٧٣٧و٢٠٧٣٨ باسم نسخة.

٦٤

وجمع أسماء مَنْ روى عنه في كتب أُخرى (١) ومجموع مَن ذكرهم الشيخ الطوسي فقط من الرواة عن الإمام (عليه السلام) بلغوا ١٧٠ راوياً (٢) .

ولا ريب أنّ مجموع هذا العلم ليس يسيراً، فلابدّ أنْ يكون ذلك قد حصل بعد تلك الفترة القصيرة فقط.

إنّ كلّ تلك الفعاليات الكلامية والعملية لممّا يتيقّن معها بأنّ الإمام السجاد (عليه السلام) بعد تلك الفترة لم يسكن مطرقاً، ولم يسكت صامتاً، ولم ينعزل عن الناس، بل زاول نشاطاً واسعاً في الحياة العامّة، بل كما ذكره النسّابة قد روى الحديثَ، ورُوي عنه، وأفاد علماً جمّاً (٣) .

وستتكفّل الفصول القادمة في هذا الكتاب ذكر الشواهد على كل هذا النشاط بعون الله.

ومع وقعة الحرّة:

ورجع الإمام السجاد (عليه السلام) إلى المدينة:

ليستقبله أهلها، بالبكاء والتعزية، ويستفيد الإمام من هذه العواطف لينشر أنباء حوادث كربلاء، ويركّزها في الأذهان من طريق القلوب، كي لا يطالها التشويش والإنكار، بمرور الأعصار، كما طال كثيراً من الوقائع والحوادث، فأصبحت مغمورة أو مبتورة.

فأرسل بشر بن حذْيم (٤) إلى المدينة وأهلها ناعياً الحسين (عليه السلام) ومعرّفاً إيّاهم بمكان الإمام السجاد (عليه السلام).

قال بشر: فما بقيتْ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلاّ برزن من خدورهن،...، فلم

____________________

(١) لاحظ معجم ما كُتِبَ بالأرقام:٢٠٤٨٣ باسم ذكر مَنْ روى عن الإمام (عليه السلام) للصدوق، و ٢٠٧١٤ كتاب مَنْ روى عنه (عليه السلام) لابن عقدة.

(٢) رجال الطوسي (ص ١٠٧ ١٢٠) الأرقام (١٠٥٨ - ١٢٢٨) وهم مائة وسبعون راوياً، لعلم الإمام (عليه السلام).

(٣) المجدي في أنساب الطالبيّين (ص ٩٢).

(٤) كذا في بعض نسخ المصدر، ويظهر من هذه الرواية أنّ أباه كان شاعراً وقد ترحّم عليه الإمام (عليه السلام)، وفي أصحابه: حذيم بن شريك الأسدي، وجاء في نسخ أُخرى: بشير بن حذلم.

٦٥

أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه.

قال: فخرج علي بن الحسين، ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسيّ، فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك عن العَبْرة، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء، وحنين النسوان والجواري، والناس يعزّونه من كل ناحية، فضجّت تلك البقعة ضجّة واحدة، فأومأ بيده: أن اسكنوا، فسكنت فورتهم، فقال:

(الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارىء الخلق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلا، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة، الكاظّة، الفادحة الجائحة.

أيّها القوم، إنّ الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتِلَ أبو عبد الله الحسين، وعترته، وسُبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها الناس، فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها، وتضنّ عن انهمالها؟

فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لجج البحار، والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون.

أيّها الناس، أصبحنا مشرّدين، مطرودين، مذودين، شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلاّ اختلاق.

والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا، كما تقدّم إليهم في الوصية بنا، لما زادوا على ما فعلوا بنا.

فإنّا لله و إنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأفجعها، و أكظّها، وأفظعها، وأمرّها، و أفدحها

٦٦

فعنده نحتسب ما أصابنا، فإنّه عزيز ذو انتقام) (١) .

ولم تذكر المصادر شيئاً عن رجالات المدينة المعروفين، إلاّ أنّ صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فاعتذر إليه، فترحّم الإمام على أبيه.

والظاهر أنّ رجال المدينة اكتفوا في مواجهة الإمام السجاد (عليه السلام) بالعواطف الحارّة فقط، وأنّهم لم يتجاوزوا ذلك؛ إذ لم يجدوا مبرّراً في التورّط مع الحكومة، ولو بعد قتل الحسين (عليه السلام) بهذه الصورة التي شرحها لهم الإمام السجاد (عليه السلام).

ويظهر من البيان الذي أصدره أهل المدينة عند تحرّكهم ضدّ يزيد وحكومته أنّهم قبل ذلك لم يعرفوا من يزيد ما يُنكر من فعل أو ترك، حتّى وفدوا عليه، وحضروا بلاطه، ورأوا بأمّ أعينهم ما رأوا، فرجعوا، وثاروا عليه.

وقد جاء في إعلانهم الأوّل ما نصّه: إنّا قدّمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويدع الصلاة، ويعزف بالطنابير، وتضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخرّاب، والفتيان، و إنّا نُشهدكم أنا قد خلعناه.

وأتوا عبد الله بن الغسيل، فبايعوه وولّوه عليهم (٢) .

فليس في بيانهم ذكر الحسين (عليه السلام)، ولا الظلم الذي جرى على أهل البيت (عليهم السلام)، وأمّا الذي ذكروه من يزيد وإلحاده وفسقه وفجوره، فقد أعلنه الإمام الحسين (عليه السلام) قبل سنين في كتابه إلى معاوية (٣) .

فأين كان أهل المدينة يومذاك؟

ولماذا لم يتحرّكوا من أجله حينذاك؟

ثم إنّ مَنْ يحرّكه شرب الخمر، والفسق، والفجور، لماذا لا يتحرّك من أجل قتل الحسين (عليه السلام) والفجائع التي صُبّت على أهل البيت (عليهم السلام)، والتي أدّى علي بن الحسين (عليهم السلام) حقّ بلاغها في خطبته تلك؟

____________________

(١) اللهوف لابن طاوس (ص ٤ - ٨٥)، وانظر كامل الزيارات (ص ١٠٠).

(٢) أيام العرب في الإسلام (ص ٤٢٠)، وانظر تاريخ الطبري (٤:٣٦٨)، ولاحظ طبقات ابن سعد (٥: ٤٧).

(٣) الاحتجاج للطبرسي (٧ - ٢٩٨).

٦٧

بل إنّ المسعودي يذكر: أنّ حركة أهل المدينة وإخراجهم بني أمية وعامل يزيد، من المدينة، كان عن إذن ابن الزبير (١) .

فلم يكن لأهل البيت، ولا للإمام السجاد (عليه السلام)، دور ولا موقع في أهداف أهل المدينة، وأصحاب الحرّة، لمّا تحرّكوا ضدّ حكم يزيد.

بينما كان دخول الإمام (عليه السلام) معهم في التحرّك توقيعاً على شرعيّة حركتهم.

والحقّ أنّ أهل المدينة جفوا الإمام السجاد (عليه السلام) بعد كربلاء، وهذه الحقيقة كانت واضحة، حتّى أعلنها الإمام في قوله: (ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا) (٢) .

ولعلّ علم الإمام (عليه السلام) بما كان عليه أهل المدينة من ضعف وقلّة، في مواجهة ما كان عليه أهل الشام من كثرة وبطش وقسوة، من دواعي حياده (عليه السلام).

مضافاً إلى أنّ اتّخاذه القرار السابق، بالابتعاد عن المدينة، للأسباب والمبرّرات التي ذكرناها سابقاً، كان كافياً لعدم تورّطه في هذه الحركة.

ويظهر أنّ الدولة التي واجهت هذه المرّة حركة أهل المدينة، كانت على علم بجفاء أهل المدينة لأهل البيت (عليه السلام)، وبما أنّها قد أسرفت من قبل في إراقة دماء أهل البيت (عليهم السلام)، أرادت أن تستفيد من الوضع، بالتزلّف إلى علي بن الحسين والتودّد إليه؛ لامتصاص النقمة، فلم تتحرّش به، بل حاولت أن يتمثّل الناس به، حسب نظر رجال الدولة!

ثم إنّ اختيار أهل الحرّة للمدينة بالذات مركزاً للتحرّك، كان من أخطر الأخطاء التي ارتكبوها، كما أخطأ ابن الزبير في اتخاذه مكّة، والمسجد الحرام بالخصوص، مركزاً لتحرّكه، حتّى عرّضوا هذين المكانين الحرمين المقدّسين لهجمات أهل الشام اللئام وانتهاك الأمويين الحاقدين على الإسلام ومقدّساته.

بينما أهل البيت عامة، بدءاً بالإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومروراً بالإمام

____________________

(١) مروج الذهب (٣: ٧٨).

(٢) شرح نهج البلاغة (١٠٤:٤).

٦٨

الحسين (عليه السلام)، وكذلك كل العلويين الذين ثاروا على الحكّام، إنّما خرجوا في حركاتهم عن الحرمين، حفاظاً على كرامتهما من أن يهدر فيهما دم، وتهتك لهما حرمة، وإبعاداً لأهالي الحرمين من ويلات الحروب ومآسيها، ونقمة الجيوش وبطشها (١) .

وهذه مأثرة لأهل البيت (عليهم السلام) لابد أن يذكرها لهم التاريخ لكنّ أهل الحرّة، لم يصلوا إلى المستوى اللائق كي يدركوا هذه الحقائق، لبعدهم عن الإمام السجاد (عليه السلام) الذي كان في عمر ( ٢٦ ) سنة.

ولقد هيّأ هذا البعد بين أهل المدينة والإمام السجاد (عليه السلام) أمرين كانا في صالح الإمام (عليه السلام)، ولهما الأثر في مجاري عمله وتخطيطه للمستقبل:

أحدهما: النجاة من اتّهام السلطات له بالتورّط في الحركة؛ ولذلك لم تضعه في القائمة السوداء، فإنّ الحكومة وحسب بعض المصادر كانت تعرف ابتعاده عنها.

الثاني: تمكّن الإمام (عليه السلام) من تخليص كثير من الرؤوس أن تُقطع، وكثير من الحرمات أن تُهتك.

ومَنْ يدري؟ فلعلّ اشتراك الإمام السجاد (عليه السلام) في تلك الحركة كان يؤدّي إلى إبادة أهل البيت النبوي والعلوي، إبادة شاملة، تلك التي كانت من أماني آل أمية؟

فتمكّن الإمام السجاد (عليه السلام) بحياده ذلك من الوقوف في وجه هذا العمل.

ولقد كان الإمام (عليه السلام) ملجأ للكثير من العوائل الأخرى، حتّى من عوائل بني أمية نفسها.

ففي الخبر أنّه (عليه السلام) ضمّ إلى نفسه أربعمئة مُنافيّة يعولهن إلى أن تفرّق الجيش (٢) .

وكان في مَنْ آواهنّ عائلة مروان بن الحكم، وزوجته هي عائشة بنت عثمان بن عفّان الأموي، فكان مروان شاكراً لعلي بن الحسين ذلك (٣) .

____________________

(١) علّق سماحة السيد بدر الدين الحوثي (دام علاه) هنا: (ولعلّ ما صدر من الإمام النفس الزكية كان اضطرارياً؛ لأنّ قيامه أيضاً كان اضطرارياً) تمّت.

(٢) كشف الغمّة للإربلي (٢: ٧) وانظر ربيع الأبرار للزمخشري (١: ٤٢٧).

(٣) أيام العرب في الإسلام (ص ٤٢٤) هامش (١).

٦٩

ويحاول بعض الكتّاب أن يجعل من حياد الإمام (عليه السلام)، وتصرّفاته مع مروان، وعدم تعرّضه من قبل الجيش بسوء، دليلاً على عدم تحرّكه (عليه السلام) ضدّ الحكم الأموي؟

لكنّها محاولة مخالفة للحقيقة: فإنّ الإمام (عليه السلام) إنّما ينطلق في تصرّفاته، من منطلق الحكمة والتدبير، وما ذكرناه من الشواهد كافٍ لأن نبرّر موقفه الحيادي من حركة الحرّة، فكل مَن يدرك تلك الحقائق ويقف عليها يتبيّن له أنّ التحرّز من عمل تكون عواقبه مرئيّة وواضحة ومكشوفة، هو الواجب والمتعيّن، فلو دخل في الحركة، فإمّا أن ينسحق تحت وطأة الجيش الظالم، أو تنجح الحركة التي لم تبتنِ على الحقّ في دعواها، وإنّما تبنّاها مَنْ لا يعرف لأهل البيت حرمة ولا كرامة ولا حقّاً في الإمامة.

مع أنّ من النصوص ما يدلّ على أنّ الإمام كان مستهدفاً:

قال الشيخ المفيد: قدم مسرف (١) بن عقبة المدينة، وكان يقال: (إنّه لا يريد غير علي بن الحسين (عليه السلام)) (٢) .

ولا ريب أنّ الحكم الأموي الذي استأصل أهل البيت (عليهم السلام) في كربلاء، لم يكن يخاف الإمام السجاد (عليه السلام)، لما هو معلوم من وحدته وغربته، ومع ذلك فقد كانت الدولة تراقبه، لأنّه الوارث الوحيد لأهل البيت بمالهم من ثارات ودماء، وبما لهم من مكانة مرموقة في أعين مُحبّيهم، الذين يترقّبون فيهم من الإمامة.

فلا ريب أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) كان مستهدفاً!

وهذا النصّ قبل كل شي يدلّ على أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) كان في نظر الناس عنصراً معارضاً للحكم والدولة، ولم يكن مستسلماً قط، حتّى كان الناس يرون أنّ

____________________

(١) هو المتسمّي باسم (مسلم) معدود من الصحابة، وهذا واحد من المحسوبين على الصحابة من الفسقة والمجرمين، سُمّي لعنه الله بمجرم ومسرف؛ لما كان من إجرامه بأهل المدينة وإسرافه في قتلهم وإباحتها ثلاثة أيام بأمر يزيد (لعنهما الله)، وقد سمّى المدينة (نتنة) خلافاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي سمّاها طيّبة، مروج الذهب (٣: ٧٨)، وقد انفضّ فيها ألف عذراء، دلائل البيهقي (٦: ٤٧٥).

(٢) الإرشاد للمفيد (ص ٢٩٢).

٧٠

الجيش الجرّار إنّما توجّه بقصده إلى (علي بن الحسين) لا ليحترمه طبعاً، فعلي بن الحسين - في نظر الناس - لا يزال عدوّاً للدولة، رغم انعزاله، وابتعاده، وعدم تورّطه في الحركة!

كما يدلّ قول البلاذري إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) استجار بمروان وابنه عبد الملك، فأتيا به ليطلبا له الأمان (١) على أنّ الإمام (عليه السلام) كان يخشى من فتك مسرف بن عقبة.

لكنّ الدولة، التي لم تغفل عن الإمام السجّاد (عليه السلام) كانت على علمٍ بتصرّفاته، ولم يقع لها ما يبرّر اتهامه وصبّ جام الغضب عليه والفتك به.

ومن أجل امتصاص النقمة، وخاصة بعد تحرّك أهل المدينة، صار رجال الدولة إلى النفاق، لتغطية جرائمهم تجاه أهل البيت وتجاه المدينة وأهلها، فأخذوا يعلنون التزلّف إلى الإمام (عليه السلام) بإظهار التودّد إليه، ويكرّمونه، ويقرّبونه، ويعبّرون عنه بالخير الذي لا شرّ فيه، مع موضعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومكانه منه (٢) .

وقال المسعودي: ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجّاد، وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأتي به إلى مسرف، وهو مغتاظ عليه، فتبرّأ منه ومن آبائه، فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد، وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممّن قُدّم إلى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثم انصرف عنه.

فقيل لعلي: رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت؟

قال: قلت: اللّهمّ ربّ السماوات السبع وما أظللن، والأرضين وما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّدٍ وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه.

وقيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه، فلمّا أُتي به إليك رفعت منزلته؟

فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلء قلبي منه رعباً (٣) .

وهكذا يفرض عنصر (الغيب) نفسه في البحث، ولا يمكن إبعاده لكونه وارداً في المصادر المعتمدة.

____________________

(١) أنساب الأشراف (٤: ٣٢٣)، وانظر الأخبار الطوال للدينوري (ص ٢٦٦).

(٢) الإرشاد للمفيد (ص ٢٦٠).

(٣) مروج الذهب (٣: ٨).

٧١

ونحن وإن كنّا أبعدنا هذا العنصر عن ما نستشهد به، إلاّ أنّ الذين يريدون أن يُضفوا على حياة الإمام السجاد (عليه السلام) أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر!

مع أنّ خوف الإمام (عليه السلام) وفزعه، من الجيش السفّاك، ولجوءه وعوذه بالحرم الشريف، وسبّ القائد الأموي له وتبرؤه منه، أدلّة كافية في إثبات أن الإمام (عليه السلام) كان مستهدفاً، إلاّ أنّ سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته وخلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة وأشرافها.

ومع أعباء القيادة:

ورجع الإمام (عليه السلام) إلى المدينة: ليواجه الخطر المحدق بالإسلام، والذي انتشر في نفوس الأُمّة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه، بعدما تعرّض الحسين ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمثل هذا القتل، وما تعرّض له أهله من التشريد والسبي، في بلاد المسلمين.

فهذا الوزير عبيد الله بن سليمان كان يرى: أنّ قتل الحسين أشدّ ما كان في الإسلام على المسلمين؛ لأنّ المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه، وعدل ينتظرونه (١) .

هذا بالنسبة إلى أصل الإسلام، وأمّا بالنسبة إلى الإمامة، وإلى أهل البيت، وإلى الإمام (عليه السلام)، فقد تفرّق الناس عنهم، وأعرضوا، بحيث عبّر الإمام الصادق (عليه السلام) عن ذلك بالارتداد.

قال (عليه السلام): ارتدّ الناس بعد قتل الحسين (عليه السلام) إلاّ... (٢) .

وكان منشأ اليأس والردّة: أنّهم وجدوا الآمال قد تبدّدت بقتل القائد، وسبي أهله، وظهور ضعف الحقّ وقلّة أنصاره، هذا من جهة.

____________________

(١) نقله الثعالبي في آخر كتاب (ثمار القلوب) بواسطة: علي جلال في (الحسين) (٢: ١٩٥).

(٢) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) (ص ١٢٣) رقم (١٩٤).

٧٢

ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة، فكيف يمكن التصدّي لها، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّياً إلى الاتهام والمحاسبة؛ فلذلك ابتعد الناس عن الإمام (عليه السلام).

لكنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) بخطّته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد، وقلبه إلى عنصر مطلوب، ومفيد لنفسه، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه.

حتّى أصبح، بما ذكرنا من التصرّفات، في نظر رجال الحكم (خيراً لا شرّ فيه).

وبذلك التخطيط الموفّق حافظ الإمام (عليه السلام)، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة، فقط، بل تمكّن من استعادة قواه، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس؛ لكونه مواطناً صالحاً لا يُخاف من الاتصال به والارتباط به؛ لأنّه أصبح (عليّ الخير) (١) .

وطبيعي أن يعود الناس، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذٍ؛ ولذلك قال الإمام الصادق (عليه السلام) في ذيل كلامه السابق: (... ثمّ إنّ الناس لحقوا وكثروا) (٢) .

إنّ انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين (عليه السلام) وتشتّت قواهم، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد (عليه السلام) بعد رجوعه إلى المدينة، وكان عليه، لأنّه الإمام، وقائد المسيرة أن يخطّط لاستجماع القوى، وتكميل الإعداد من جديد، وهذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب، وبثّ العزم في النفوس.

وقد تمكّن الإمام السجاد (عليه السلام) بعمله الهادي الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة، وعلى هذا الإعداد، والتمهيد، بكل قوّة، وبحكمة وبسلامة وجدّ.

وكما قد يكون تأسيس بناء جديد، أسهل وأمتن من ترميم بناء متهرّئ، فكذلك إنّ بناء فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة، والجادّة في الالتفاف حولها، والعزم على إحيائها، هو أسهل، وأوفر جهداً من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها، وتصوّروا إخفاق تجربتها، وهم يُشاهدون إبادة

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (١٥: ٢٧٣).

(٢) اختيار معرفة الرجال (الكشي) (ص ١٢٣) رقم (١٩٤).

٧٣

كبار حامليها، وضعف أنصارها، واستيلاء المعارضين عليها، فحرّفوا معالمها، وشوّهوا سمعتها، وزيّفوا أهدافها.

فإنّ عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشكّ من كل ما قيل وطرح وعرض، ويحاولون الانسحاب والارتداد، والوقوف على الحواشي، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة.

فقد مُنِيَ المسلمون بإخفاق ويأس ممّا في الإسلام من خطط تحرّرية، ومخلّصة من العبودية والفساد؛ وذلك لمّا رأوا الأمويين أعداء هذا الدين قديماً، ومناوئيه حديثاً قد استولوا على الخلافة، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والأنصار القدمأ له، ويعيثون فساداً في أرض الإسلام بالقتل والفجور، وكل منكر، حرّمه الإسلام.

وإذا كان صاحب الحقّ، منحصراً في الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام)، الذي قام النصّ على إمامته، وهو وارث العترة، وزعيم أهل البيت في عصره، فهو الإمام الحامل لثقل الرسالة على عاتقه، فلا بدّ أن يدبّر الخطّة الإصلاحية، ليجمع القوى، ويلملم الكوادر المتفرّقة، ويعيد الأمل إلى النفوس اليائسة، والرجاء إلى العيون الخائبة، والحياة إلى القلوب الميّتة.

إلى جانب مقاومته للأعداء، وتفنيد مزاعمهم واتّهاماتهم، والكشف عن مؤامراتهم ودسائسهم، وتبديد خططهم وأحابيلهم.

إنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) مع مالهم من مآثر العلم والمجد والإمامة، التي أقرّ بها لهم جميع الأمّة، هم يهتمّون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم، ليرسّخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام.

والإمام (عليه السلام) قد استلهم الإسلام بكلّ ما له من معارف ومآثر علمية وعملية، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة، وهم آباؤه الطاهرون.

وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسراياه، كما في الحديث عن عبد الله بن محمّد بن عليّ، عن أبيه، قال: سمعتُ عليّ بن الحسين يقول:

٧٤

كنّا نُعلّم مغازي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسراياه كما نعلّم السورةَ من القرآن (١) .

فتلقّن الإمام السجّاد (عليه السلام) أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله، ومن أجل الإسلام، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة.

وبعد أن رأى بأُمّ عينيه في كربلاء بطولات أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) وجهاد أصحابه الأوفياء، في سبيل إعلاء كلمة الله، لم يكن ليرفع اليدَ عن محاولة تطبيق تلك الصور الفريدة، والتخطيط للوصول إلى نتائجها الغالية.

ولقد بدأ الإمامُ السجّاد (عليه السلام) في الفصول التالية، من جهاده وجهوده، لتحقيق هذه الأهداف السامية. وحاولنا نحن - بقدر وسعنا - لجمع ما انتشر من أنباء ذلك الجهاد، وتلك الجهود، في المجالات العملية والعلمية، بعون الله وتوفيقه.

____________________

(١) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي (٢ ٢٨٨) رقم (١٦٤٩).

٧٥

٧٦

الفصل الثاني

النضال الفكري والعلمي

أوّلاً: في مجال القرآن والحديث.

ثانياً: في مجال الفكر والعقيدة.

ثالثاً: في مجال الشريعة والأحكام.

وأخيراً: في إعمار الكعبة المعظّمة.

٧٧

٧٨

يكاد المؤرّخون لحياة الإمام السجاد (عليه السلام)، لاسيّما الدارسون الاجتماعيّون، الذين يريدون إبعاد الإمام عن الحياة السياسية، يتّفقون على أنّ الإمام (عليه السلام): (انكبّ على الشؤون الدينية، ورواية الحديث، والتعليم) (١) وأنّ مهمّته كانت: (الانصراف إلى بثّ العلوم، وتعليم الناس، وتربية المخلصين، وتخريج العلماء والفقهاء، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية) (٢) .

ولا ريب في أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) قام بدور بليغ في هذه المجالات كلّها، ولكن لم تكن قطّ هذه الأمور خارجة عن العمل السياسي، أو بديلاً عن العمل السياسي، بل إنّ هذه الواجبات هي من أهم وظائف الأنبياء والأئمّة، بل المصلحين السياسيين من البشر، بأن يقوموا بها، ويبلُغوا بالأمم والشعوب إلى مستويات راقية فيها، خاصة التعاليم الإلهيّة التي من أجلها بُعثوا، ولها عُيّنوا، وبتبليغها وبثّها كُلّفوا، وهم طريق معرفة الناس بها، والأُمناء الوحيدون عليها. والتعليم الصحيح هو واحد من طرق النضال، فكل مناضل يعلم بوضوح أنّ من مقوّمات كل حركة سياسية، هو تثقيف الجماهير، وتوعيتها، بالتعليم والتلقين؛ لتكون على علم بما يجري حولها وما يجب لها من حقوق وما عليها من واجبات. وقد سعى الحكّام الفاسدون على طول التاريخ إلى إبعاد الناس عن الحقّ، والتعاليم الأصيلة، بطرق شتّى:

____________________

(١) معتزلة اليمن (ص ١٧ ١٨).

(٢) الإمام السجاد (عليه السلام) لحسين باقر (ص ١٣ - ١٤).

٧٩

منها: التصدّي للذين يبلّغون رسالات الله، بالضغط، والأسر، والتشريد، والحبس، وحتّى القتل.

ومنها: تزييف الأديان وتحريفها بالبِدَع والخرافات، وبثّ التعاليم الباطلة، والعمل من أجل ترويجها.

ومنها: منع تثقيف الناس، حذراً من تنبّههم إلى ما هم عليه من خلل ونقص في الحياة المادّية، وما هم فيه من ذلّ ومهانة في الحياة المعنوية.

ومنها: محاولة استيعاب أجهزة التعليم، بوضع المناهج التعليمية المشبوهة والمحرّفة.

وهكذا تضييع جهود القائمين على التعاليم، بشراء الضمائر، وغسل الأدمغة والعقول، وتفريغها من الرؤى الصائبة، وملئها بالأفكار الفاسدة والمنحرفة. وقد استعمل معاوية هذا الأسلوب بكل جرأة لمّا استولى على أريكة الخلافة، فعمّم كتاباً على أقطار نفوذه، يأمر فيه الولاة بوضع الأحاديث والروايات واختلاقها، وبثّها بين الناس في المدارس والمساجد والكتاتيب والبيوت، ليربّي جيلاً ناشئاً مشبّعاً بتلك التعاليم المزوّرة في صالح الأمويين، والتي تعارض التعاليم الإسلامية الأصيلة (١) .

فوجود المعلّمين المناهضين لتلك الخطط الهدّامة، وتلك المناهج التعليمية الفاسدة، يكون صدّاً سياسياً للأنظمة الحاكمة، ويكون عملهم جهاداً ونضالاً سياسياً، بلا ريب. وإنّ الحكومات الفاسدة، من أجل تنفيذ خططها في تحريف الدين وإغواء الناس وإبعادهم عن العلماء المصلحين، اصطنعت من علماء السوء رجالاً مقنّعين بالعلم، ملجمين بلباس الدين، من العملاء بائعي الضمائر، ليكونوا وسائل لإقناع العامّة بما تمليه الدولة عليهم من أحكام باطلة، وقضايا منافية للحقّ، وليصحّحوا للدول الظالمة تصرّفاتها الجائرة.

____________________

(١) لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (١١: ٤٤ - ٤٦) والاحتجاج للطبرسي (ص ٢٩٥).

ولاحظ كتابنا (تدوين السنّة الشريفة) (ص ٤٧٥).

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢

السلطة التنفيذيّة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات، وقرارات، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن فهي تزيد أو تنقص، وتضاف مديريّة أو تحذف، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة، وإن كان الدارج الآن

٢٨١

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال: « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة »(١) .

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً: إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً: استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً: بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها الله سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلّا لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع، ولا

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

٢٨٢

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ) وجلد الزاني والزانية:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور: ٢ ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع »(١) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين: يا عليّ ابرز أليّ، فخرج إليه عليّعليه‌السلام فقال: إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقالعليه‌السلام : « وما هو ؟ » قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّعليه‌السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٨٣

ولـمـّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها، فكلّم النبيّ في أمرها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتشفع في حدّ من حدود الله » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال: « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً »(٢) .

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّعليه‌السلام : « أللّهم إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي »(٣) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً: « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي »(٤) .

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلّا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً »(٥) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

__________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، والخراج: ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨.

(٤) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ: ٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٣١١.

٢٨٤

ليلة وأيّامها »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال: « لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً »(٣) .

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل:( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم: ١٩ ): « ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »(٤) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام الله سبحانه، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلّا شيوع الفوضى، وضياع الحقوق، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، ٣١٥.

(٣ و ٤) نفس المصدر: ٣٠٨.

٢٨٥

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه: « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة، وحقوق مدنيّة، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات: عزّره الحاكم، أدّبه الحاكم، نفاه الحاكم، طلّق عنه الحاكم، حبسه الحاكم، خيّره الحاكم(١) . وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

__________________

(١) راجع هذا الجزء: ٢٣ ـ ٣٠.

٢٨٦

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول: تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس، ويزجروا عن الشرّ والمنكر، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي: أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة، مشتركون في المصير فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير، والمسير(١) .

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

__________________

(١) راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

٢٨٧

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة، وأحاديث، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير، وإنكار المنكر، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها، وصعوبتها، ومن تلك الآيات قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ١٠٥ ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله: « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي »(١) .

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو: أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره، وإلى ذلك يشير الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣: ٢٥٤.

٢٨٨

ومؤدّبهم »(١) .

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه:( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل: يا رسول، من الغرباء ؟ فقال: « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي »(٢) .

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يصلحون » بصيغة اللازم، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّعليه‌السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ »(٣) .

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ الحكم ـ الرقم (٧٣).

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٢١٢، أخرجه الترمذي.

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم (٣٧٤).

٢٨٩

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء: ١٤٠ ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له، ولأجل ذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم الله بالعذاب لـمّا عمّوهُ بالرِّضى »(١) .

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول: إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلّا القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

١. وظيفة فرديّة.

٢. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠١).

٢٩٠

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة: ٧١ ).

وقوله تعالى:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة: ١١٢ ).

وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران: ١١٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ب‍ ( أمّة ) وفي ذلك قوله سبحانه:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران: ١٠٤ ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل: ١٢٠ ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام هذه الآية بقوله: « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال: لا، فقيل لهُ: ولم ؟ قال: إنَّما هُو على القوي الـمـُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف والدَّليلُ على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال الله عزَّ وجلَّ:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أمّة يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف: ١٥٩ ) ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كُلِّ قومه، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال الله عزَّ وجلَّ:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ ) »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٠.

٢٩١

وقوله تعالى:( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض، ولا يتقيد بقيد السلطة، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلّا فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن قول رسول الله: « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال: « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت: إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبوا، إنَّما أراد قولُ الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم الله أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين إنّما الدّينُ واحد »(١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ٢: ١٧٢ ومعاني الاخبار: ١٥٧ وعلل الشرائع ١: ٦٠ وقد نقلها صاحب الوسائل في ٨: ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٩٢

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ قال: « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: « أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة »(٢) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »(٣) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره »(٤) .

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك، وردِّ المظالم، وردع الظَّالم، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلّا بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٤، ٤١٣.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ١١: ٤١٣، ٤٠٩.

٢٩٣

تأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر »(١) .

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلّا بجهاز تنفيذيّ قويّ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء: حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها »(٣) .

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥، ٣٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٣، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول: ١٧١ ( طبعة بيروت ).

٢٩٤

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين، الذين فيهما صلاح عامّة الناس، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إذ قالت: « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة »(١) .

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « أخذ الله على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم »(٢) .

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير، إلّا بجهاز وسلطة خاصّة، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلّا ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمامعليه‌السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك »(٣) .

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( ٣٨٠ ه‍ ) ـ ص ١٢، ومعاني الأخبار: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

(٣) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

٢٩٥

فكيف يمكن أمان المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن الله وأحكامه بلا استثناء إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد الله بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال الله تعالى:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة: ٦٢ ـ ٦٣ ).

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى تفسير هذه بقوله: « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لـمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات »(١) .

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما، فهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب الحدود ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥.

٢٩٦

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه، فلو قتله غيره كان عليه القود، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

١. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكافر الحربيّ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

٢. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه، ولو قتله الذميّ فعليه قود، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

٣. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله(١) .

٤. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

١. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

٢. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

٣. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه، سقط الإنكار.

٤. أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط(٢) .

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص ١٥٩ ـ ١٩٨ الجزء ٤١.

(٢) شرائع الإسلام: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٩٧

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً، ولو بالنسبة للآخرين، وهذا نظير قوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

٢٩٨

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء: ١١٤ ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى: وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون: ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً )(١) .

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فرديّ، وعموميّ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة: ٧.

٢٩٩

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّعليه‌السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال: « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب الله ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال: ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب وليكون له أقهر، وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس: أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

٣٠٠

301

302

303

304

305