الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة30%

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 183

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة
  • البداية
  • السابق
  • 183 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103458 / تحميل: 8093
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لقد ذكّر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بسيرة الماضين وكيف كانوا، وكيف مضوا، بعد أن نعموا في أعمارهم، ولهوا في إمهالهم، فصاروا إلى ما رحلوا إليه من المصير( عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا، وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا، وَأُنْظِرُوا فَلَهَوْا، وَسُلِّمُوا فَنَسُوا، أُمْهِلُوا طَوِيلاً، وَ مُنِحُوا جَمِيلاً، وَ حُذِّرُوا أَلِيماً ) (١) .

إنّ أهمية هذا الأسلوب تكمن في التأكيد على التذكير وقبوله، حتى يتسنّى الاعتبار للناس من التذكير( عبادَ الله إنّ الدّهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، لا يعود ما قد ولّى منه، ولا يبقى سرمداً ما فيه ) (٢) .

٣. الأسلوب التحاوري

الغاية من هذا الأسلوب هو معرفة آداب الكلام، لقد علّم الإمام الناس كيف يكون الكلام حيّاً وذي سداد، من خلال إلقاء سهام الكلام في المحلّ المقرّر له.

يذكر أهل الحديث أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أثناء نزوله النهروان، التقى جميل - كاتب أنوشيروان - وسأله:كيف ينبغي للإنسان يا جميل أن يكون؟

قال: يجب أن يكون قليل الصديق كثير العدّو، قال:أبدعت يا جميل! فقد أُجمع على أنّ كثرة الأصدقاء أولى، فقال: ليس الأمر على ما ظنّوا، وذكر ما حاصله أنّهم إذا كثروا كلّفوا السعي في حاجة ولا يمكن أن ينهض الإنسان بها كما يجب وينبغي، وجاء في المثل المعروف: ( من كثرة الملاّحين غرقت السفينة ).

قال أمير المؤمنين:فما منفعة كثرة الأعداء؟

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٨٣.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٥٧.

١٠١

فقال: إنّ الأعداء إذا كثروا يكون الإنسان أبداً متحرّزاً متحفظاً أن ينطق بما يؤخذ عليه، أو تبدأ منه زلّة يؤخذ عليها، فيكون أبداً على هذه الحالة سليماً من الخطايا والزلل.

فاستحسن ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وكان جميل هذا حواسّه كلها سالمة إلاّ البصر وذهنه صافياً وقريحته تامة(١) .

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو الّذي حدّد اتّجاه الكلام من خلال الحوار المفيد المبني على السؤال.

٤. الأسلوب التأمّلي

الغاية من هذا الأسلوب معرفة عظمة الخالق سبحانه وتعالى.

حرّك أمير المؤمنين الأبصار والأسماع والقلوب لهذه الغاية من خلال التأمّل في مخلوقات الله تعالى، وكيف رُكبّت وصُوّرت، وكيف بسط لها رزقها وسبلها.

تحدّث أمير المؤمنين في واحدة من خطبه عن أعظمها خلقاً وتقويماً، وهو الإنسان،( أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْحَامِ، وَشُغُفِ الأَسْتَارِ، نُطْفَةً دِهَاقاً وَعَلَقَةً مِحَاقاً، وَجَنِيناً وَرَاضِعاً وَوَلِيداً وَيَافِعاً، ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِسَاناً لافِظاً وَبَصَراً لاحِظاً ) (٢) .

دعا الإمام ( عليه السلام ) إلى التأمل في الشمس والقمر والنبات والشجر وما

____________________

(١) سفينة البحار: ١/٧١٧.

(٢) نهج البلاغة: ٨٣/١٣٨.

١٠٢

اختلف خَلقه، وتفجّر أمره ...(فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّبَاتِ، وَالشَّجَرِ وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَاخْتِلافِ هَذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَكَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وَطُولِ هَذِهِ الْقِلالِ، وَتَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَالأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ ).

دعا الإمام أيضاً إلى التأمل( مَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الأَطْيَارِ، الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الأَرْضِ، وَخُرُوقَ فِجَاجِهَا، وَرَوَاسِيَ أَعْلامِهَا، مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ، وَمُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ وَالْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ، كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ، وَرَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ، وَمَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً وَجَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً، وَنَسَقَهَا عَلَى اخْتِلافِهَا فِي الأَصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ وَدَقِيقِ صَنْعَتِهِ، فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ لا يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ، وَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلافِ مَا صُبِغَ بِهِ.

وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطاووسُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ، وَنَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ، بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ وَذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ ) (١) .

ثمّ فصّل الحديث في خلق الخفاش وعجيب أجزائه، وفيما دبّ في الأرض( انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَلا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٦٥.

١٠٣

الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا، تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا فِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً ) (١) .

ثمّ دعا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى النّظر في خلق الجرادة، وكيف جعل لها الله السمع الخفي والفم السويّ، وغير ذلك ممّا جعله الله لها من بديع صنعه.

إنّ هذا الأسلوب التامّلي لا يترك شيئاً ممّا خلق الله تعالى إلاّ ودعا إلى التأمل فيه والوقوف عنده، بدءً من الذرّة الصغيرة إلى ما علاها من عظيم الجثة، فـ( سُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ وَالْهَمَجَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَالْفِيَلَةِ! ) (٢) .

٥. الأسلوب التدريجي

إنّ الغاية منه معرفة تقدير النعم والابتلاء فيها، كتب البحراني في شرحه أنّ الغرض من الاستدراج هو ( الحثّ على فضيلتي الشكر والصبر )(٣) .

الاستدراج الّذي يقوم به النّاس بعضهم لبعض هو؛ لأجل غرض معيّن أو هدف خاص، قد يكون دنيوياً وأخرى أخروياً.

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٨٥.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٦٥.

(٣) شرح نهج البلاغة: ٥، الحكمة: ٣٣٩.

١٠٤

أمّا الاستدراج الإلهي فهو ليس من قبيل استدراج إنسان لإنسان، بل هو من النوع الذي على الإنسان أن يؤدي فيه حقّ الطّاعة لله، بشكر نعمه أو معرفة النّعمة على الوجه الذي يرضي الله تعالى، وإلاّ فالحذر من هذا الاستدراج(يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ سُبْحَانَهُ يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَأَنْتَ تَعْصِيهِ فَاحْذَرْهُ ) (١) .

إنّ الاستدراج الإلهي بالإحسان والنّعم هو المهم، والذي خصّه أمير المؤمنين في أحاديث مختلفة المناسبة؛ لأنّ الاستدراج الإلهي فيه تبعات تفوق استدراج الناس( كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَمَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ، وَمَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ، وَمَا ابْتَلَى اللَّهُ أَحَداً بِمِثْلِ الإِمْلاءِ لَهُ ) (٢) .

أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عمل على تثقيف النّاس لهذا الأسلوب الإلهي، وحثّهم على الشكر والحذر ممّا يمليه الله عليهم من نعمة.

وبلّغ النّاس على أن يكون خوفهم من النعمة النازلة(أَيُّهَا النَّاسُ لِيَرَكُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ النِّقْمَةِ فَرِقِينَ، إِنَّهُ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً، وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اخْتِبَاراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولاً ) (٣) .

____________________

(١) نهج البلاغة: الحكمة ٢٥.

(٢) نفس المصدر: الحكمة: ١٦.

(٣) نفس المصدر: الحكمة: ٣٥٨.

١٠٥

٦. الأسلوب الإيحائي

الغرض منه تلطيف الغرض في نفس السامع أو المقصود به.

كيف يكون الكلام موجباً؟

عندما تكون هناك دلالات لفظية لها معنى ومفهوم آخر يدركه شخص معيّن أو مجموعة معيّنة، أو يكون هناك سلوك له دلالات رمزية يفهمها شخص مقصود بعينه فضلاً عن صائغ ذلك السلوك ومبدعه.

لهذا ينقل أهل الحديث عن كميل بن زياد النخعي، أنّه بعد الانتهاء من صلاة العشاء الآخرة أخذ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بيده حتى خرجا من المسجد، حتى خرج إلى ظهر الكوفة ولا يكلمه بكلمة، فلمّا أصحر تنفّس، ثمّ قال:( يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ:

النَّاسُ ثَلاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.

يَا كُمَيْلُ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَالْعِلْمُ يَزْكُوا عَلَى الإِنْفَاقِ.

يَا كُمَيْلُ مات خُزَّانُ المال وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ، هَاه هاه! إِنَّ هَاهُنَا - وأشار بيده إلى صدره - لَعِلْماً جَمّاً لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً ) (١) .

في هذا الحديث دلالات موحية وهي:

____________________

(١) مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ): ٢/٩٤، أمالي المفيد: ٢٤٧، أمالي الطوسي: ٢٠، الغارات: ١/١٤٩.

١٠٦

لماذا اختار أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كميل النخعي دون غيره؟

اختاره؛ لأنّه من أصحابه الذّين يدركون ما يقوله ( عليه السلام ).

ثمّ ماذا يعني ويوحي صمت أمير المؤمنين عندما خرج مع كميل بن زياد آخذاًَ بيده؟

إنّ الأخذ بيد كميل له معنى نفسي عميق وهو الصّلة والرابطة المتينة بين كميل وأمير المؤمنين (عليه السلام).

إنّ سكوت الإمام حتى خرجا إلى ظهر المسجد له معنى، وهو أنّ هذا الحديث لا يقال لكلّ أحد أو في حضرة الناس، بل لمَن هو أهل له.

ما الّذي يستفيده كميل من تصنيف أمير المؤمنين للناس؟.

الذي يستفيده أن يختار الصنف الأليق والأحسن من بين أصناف الناس.

ثمّ لماذا ذكر أمير المؤمنين الحديث عن أهمية العلم وعلوّه على المال؟.

ذكر ذلك لكميل؛ لبيان المقياس الصّحيح في أنّ العلم مقدّم على أمور الحياة الأخرى، ومنها المال.

ماذا تعني إشارة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى صدره وقوله:

إنّ هاهنا لعلماً جمّاً لو أَصبت له حَمَلة؟

إنّ فيها حثاً لكميل على طلب العلم من منبعه وهو الإمام ( عليه السلام )؛ ليكون حاملاً له.

هكذا نجد أنّ في هذا الحديث إيحاءً معنوياً مفيداً لأحد أصحاب أمير المؤمنين، لقد كان بالإمكان أن يحدّث كميل في المسجد دون أن يمشي

١٠٧

معه آخذاً بيده، إلاّ أنّ الدلالات الإيحائية في هذا السلوك لها معنى كبير من الناحية النفسية؛ لدفع كميل بن زياد نحو العمل بفحوى هذا اللّقاء.

٧. الأسلوب الاستدلالي

الغاية منه معرفة وجه الحقيقة، فالإمام ( عليه السلام ) توخّى ضوء الحقيقة ووضوحها؛ لأنّ ما بعد الحقيقة ضلال وأوهام( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاّ الضَّلالُ ) (١) .

على هذا ذهب الإمام ( عليه السلام ) في حكومةٍ مع يهودي إلى شريح؛ لأقامة الحق، والدليل فيما تحاكما به.

مضى ( عليه السلام ) في حكومةٍ إلى شريح مع يهودي، فقال:يا يهوديّ، الدّرع درعي ولم أبعْ ولم أهبْ.

فقال اليهودي: الدّرع لي وفي يدي، فسأله شريح البيّنة.

فقال:هذا قنبر والحسين يشهدان لي بذلك.

فقال شريح: شهادة الابن لأبيه وشهادة العبد لا تجوز لسيّده، وإنّهما يجرّان إليك!

فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ):ويلك يا شريح، أخطأت من وجوه ؛أمّا واحدة فأنا إمامك فدين الله بطاعتي، وتعلم أنّي لا أقول باطلاً، فرددت قولي وأبطلت دعواي، ثمّ سألتني البيّنة.

فشهد عبد وأحد سيدَي شباب أهل الجنّة فرددت شهادتهما، ثمّ ادعيت عليهما أنّهما يجرّان إلى أنفسهما.

____________________

(١) يونس: ٣٢.

١٠٨

أَما إنّي لا أرى عقوبتك إلاّ أن تقضي بين اليهود ثلاثة أيّام! ) أخرجوه إلى قبا فقضى بين اليهود ثلاثاً، ثمّ انصرف، فلمّا سمع اليهوديّ ذلك قال: هذا أمير المؤمنين جاء إلى الحاكم وحكم عليه! فأسلم ثمّ قال: الدّرع سقطت يوم صفّين من جمل أورق فأخذتها(١) .

نحو هذه الحكومة إلى شريح أيضاً، بين أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعبد الله بن قفل التميمي في درع طلحة الذي أخذه غُلُولاً يوم البصرة، نقلها ابن شهر آشوب في مناقبه(٢) .

إنّ أمير المؤمنين لا يقضي بشيء إلاّ وله وجه وبرهان، وبيان نابع من صميم الحقيقة، ويقيم على ذلك الاستدلال والبيّنة على أكمل صورة.

وينقل السيوطي رواية تؤيّد ما ندّعيه أعلاه:

جلس رجلان يتغدّيان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلمّا وضعا الغداء بين أيديهما مرّ بهما رجل، فسلّم فقالا: اجلس وتغدَّ، فجلس وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرّجل وطرح إليهما ثمانية دراهم، وقال: خذاها عوضاً ممّا أكلت لكما، ونلته من طعامكما، فتنازعا فقال صاحب الخمسة الأرغفة: لي خمسة دراهم، ولك ثلاثة، وقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلاّ أن تكون الدّراهم بيننا نصفين.

____________________

(١) جواهر المطالب: ٢/١٢٧، تاريخ الخلفاء: ٢١٧، بحار الأنوار: ٤١/٥٦.

١٠٩

فارتفعا إلى أمير المؤمنين عليّ، فقصّا عليه قصّتهما فقال لصاحب الثلاثة،( قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزُه أكثر من خبزك، فارضَ بالثّلاثة ، فقال: والله لا رضيت عنه إلا بمرّ الحقّ، فقال عليّ:ليس لك في مرّ الحق إلاّ درهم واحد، وله سبعة دراهم.

فقال الرّجل: سبحان الله! قال:هو ذلك، قال: فعرّفني الوجه في مرّ الحق حتى أقبله، فقال عليّ:أَليس للثمانية الأرغفة أربعة وعشرون ثلثاً؟ أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس، ولا يُعلم الأكثر منكم أكلاً ولا الأقلّ.

فتُحملون في أكلكم على السّواء، قال:فأَكلت أنت ثمانية أَثلاث ،وإنّما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث، وله خمسة عشر ثلثاً ،أكل منها ثمانية وبقي له سبعة أكلها صاحب الدّراهم، وأكل لك واحداً من تسعة، فلك واحد بواحدك، وله سبعة ) فقال الرّجل: رضيت الآن(١) .

٨. الأسلوب الفلسفي

الغاية منه الوقوف على سرّ الشيء، وحقيقته.

فرض الله تعالى على عباده مجموعة وظائف وتكاليف إلهية؛ ليتقرّب بها إليه سبحانه.

الإسلام دين العلم والبيان، فلم يضع الله حكماً، إلاّ وقد بيّنه

____________________

(١) تاريخ الخلفاء: ٢١٢، الإصابة في تمييز الصحابة: ٣/٤١.

١١٠

لرسوله الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) وبيّنه النّبي لعليّ خاصة وللأمّة على وجه العموم.

علي ( عليه السلام ) بدوره عمل على بيان سرّ هذه الوظائف والتكاليف وحقيقتها، وعن ذلك( مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ؛ تَسْكِيناً لأَطْرَافِهِمْ وَتَخْشِيعاً لأَبْصَارِهِمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاءِ عَنْهُمْ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالأَرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ، انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ، وَقَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ ) (١) .

إنّ بيان حقيقة التكاليف والوظائف الإلهية يعطي للمسلمين رصيداً ثقافيّاً عن خلفيات الأوامر والنواهي الإلهية وماهيّاتها، وهذا الرصيد الثقافي والمعرفي يؤدي إلى ترسيخ الإيمان في نفوس المسلمين، وتثبيت هذه الحقائق في أذهانهم، بعد أن حدّد الإمام ( عليه السلام ) حيثيّاتها بشكل تفصيلي.

( أَلا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات الله عليه ) إِلَى الآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، بِأَحْجَارٍ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ وَلا تُبْصِرُ وَلا تَسْمَعُ، فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ( الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ) .

ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَ

____________________

(١) نهج البلاغة / الخطبة ١٩٢.

١١١

أَضْيَقِ بُطُونِ الأَوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ وَقُرىً مُنْقَطِعَةٍ، لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لا حَافِرٌ وَ لا ظِلْفٌ، ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليه السلام ) وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الأَفْئِدَةِ، مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ، وَمَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ، وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً، يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ، قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ؛ ابْتِلاءً عَظِيماً وَامْتِحَاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَوُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ ) (١) .

٩. الأسلوب النقضي

الغاية منه كشف الحيلة والمغالطة، كان الإمام قد عمل على كشف أيّة مغالطة وخدعة ينسجها الأعداء، من خلال توضيح الواقع الصحيح للناس وحجزهم عن الوقوع في شراك الخديعة والتضليل.

الإمام يقوم بفضح المغالطة وتعريتها ونقضها بعد أن ينتزع طريقة ردّها من نفس ذرائعها الواهية، فيجعلها كهشيم تذروه الرّياح ببيان حق وصدق.

هذا الأسلوب موجود في أكثر أجوبة الإمام ( عليه السلام ) على أعدائه ومناوئيه( و

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٩٢.

١١٢

أمّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلاّ حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ، أَلا وَمَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النَّارِ.

وَأَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ وَالرِّجَالِ فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ ) (١) .

(ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِ عُثْمَانَ، فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وَأَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ، أَمَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَاسْتَكَفَّهُ، أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ ) (٢) .

١٠. الأسلوب التغايري

الغاية منه بيان التفاوت في موازين الأعمال، هذا الأسلوب ينطوي على حثّ الناس نحو الاستزادة من الأعمال الصّالحة بعد توفير القناعة بأنّها هي الصحيحة والنافعة، في حالة مجانبة الإنسان للأعمال الصّالحة فإنّ ذلك يعني أنّه يعمل بما لا ينفعه عاجلاً وآجلاً( شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ: عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَتَبْقَى تَبِعَتُهُ، وَعَمَلٍ تَذْهَبُ مَؤونَتُهُ وَيَبْقَى أَجْرُهُ ) (٣) .

فالعمل الصّالح يرفع صاحبه والطّالح يضع راكبه، وقد بيّن

____________________

(١) نفس المصدر: الكتاب: ١٧/٤٩٦.

(٢) نفس المصدر: الكتاب: ٢٨.

(٣) نفس المصدر: الحكمة: ١٢١.

١١٣

أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمعاوية الحدّ الفاصل بين العملين، بعد شيوع صالح الأعمال في بني هاشم، وذيوع طالح الأعمال في بني أمية:

( وأمّا قولك: إنّا بنو عبد منافٍ، فكذلك نحن، ولكن ليس أميّة كهاشم، ولا حربٌ كعبد المطلّب، ولا أبو سفيان كأبي طالبٍ، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كالّلصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمُدغِل ) (١) ( ومنّا النبيّ ومنكم المكذّب، ومنّا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنة ومنكم صبية النار، ومنا خير نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب ) (٢) .

لو لم يكن هناك حدّ فاصل بين العملين وآثارهما، لصدق قول معاوية نحن بنو عبدٍ مناف، واستوى أميّة وهاشم، وأبو سفيان وأبو طالب، والمهاجر والطليق، لكن وجود فارق بين العملين، رجّح كفة الحقّ إلى جانب بني هاشم.

١١. الأسلوب النفسي

الغاية منه التأثير على الميدان النفسي للآخرين، فهذا الأسلوب يعني استخدام إرادة ضّد إرادة أخرى.

قد عمل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قبل نشوب الحرب مع معاوية في صفّين على توجيه ضربات نفسية إلى معاوية، لتعظيم مقاومته،

____________________

(١) نفس المصدر: الكتاب: ١٧، الأخبار الطوال: ٢٧٨.

(٢) نفس المصدر: الكتاب: ٢٨.

١١٤

( فَلَبِّثْ قَلِيلاً يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ، فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ، وَيَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ، وَأَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ، مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ، وَقَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ وَسُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ، قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ وَخَالِكَ وَجَدِّكَ وَأَهْلِكَ ( وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) ) (١) .

إنّ هذا الأسلوب النفسي شلّ معنويات معاوية وثبّط عزيمته من خلال إلقاء الرّعب في قلبه.

استخدم الإمام ( عليه السلام ) أسلوب نفسي آخر، بإظهار الصّلابة والقّوة الشّجاعة في مواجهة معاوية، حيث دعاه ( عليه السلام ) للبراز والقتال فيما بينهم على انفراد دون الناس، واستعان بأسلوب الإثارة النفسية لتحريك معاوية في قبول البراز (

( وَقَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَرْبِ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَاخْرُجْ إِلَيَّ وَأَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ؛ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَالْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ، فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَأَخِيكَ وَخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي ) (٢) .

____________________

(١) نفس المصدر: الكتاب: ٢٨/٥١٦.

(٢) نفس المصدر: الكتاب: ١٠؛ الأخبار الطوال: ٢٦٢.

١١٥

١٢. الأسلوب التربوي

الغاية منه هي التعلّي بالآداب الإسلامية( أَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَأْوِيلِهِ وَشَرَائِعِ الإِسْلامِ وَأَحْكَامِهِ وَحَلالِهِ وَحَرَامِهِ، لا أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ ) (١) .

التربية الحقة تأخذ طريقها بسهولة كلّما كان الإنسان قريباً من الصّغر( وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ، مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْ‏ءٍ قَبِلَتْهُ، فَبَادَرْتُكَ بِالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ ) (٢) .

الإمام ( عليه السلام ) عندما يوصي أحد أبنائه أو أحد أصحابه؛ لأنّه يأمل فيه أن يأخذ ذلك بقوة، ويتبع أحسن الذي قيل له من أبواب الأدب( ولا ميراث كالأدب ) (٣) .

إنّ هذا الأسلوب التّربوي يستهدف عقل الإنسان ونفسه وتكاليفه، يستهدف عقل الإنسان في دفع الجهل عنه وتحريكه نحو الخير، ويستهدف نفس الإنسان في قلع أو علاج الأمراض النفسية كالعجب، ويستهدف تكاليف الإنسان وتقديم الأهمّ فالأهمّ ممّا له تأثير في تأديب الإنسان وتربيته الروحية مثل عبادة التفكر.

أوصى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى الحسن بن عليّ ( عليه السلام ) فقال فيما أوصى به إليه:( يا بُني، لا فقر أشد من الجهل، احتمالاً ( ولا وحدة )

____________________

(١) نفس المصدر: الكتاب: ٣١.

(٢) نفس المصدر: الكتاب: ٣١.

(٣) نفس المصدر: الحكمة: ١١٣.

١١٦

( صنعة ) ولا عدم أعدم من العقل، ولا حبّ أوحش من العجب، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف عن محارم الله، ولا عبادة كالتفكر في صنعة الله عزّ وجل.

يا بني العقل خليل المرء، والحلم وزيره، والرفق ولده، والصبر من خير جنوده ) (١) .

ربّى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أصحابه على مهمات الأخلاق ومكارمها( وفرشتُكم المعروف من قولي وفعلي، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي ) (٢) .

ومَن أخذ من مكارم أخلاق علي ( عليه السلام ) فقد أخذ بحظٍ وافر.

١٣. الأسلوب العاطفي

الغاية منه إيصال الحق وتوثيق الارتباط به وتذكرّه.

يُستخدم هذا الأسلوب في أغلب الأحيان قبل الورود إلى مطلب معيّن، فهو جسر وطريق إلى هدف أسمى منه، وإن كان نفس الأسلوب العاطفي صحيح وصدق في اللجوء إليه (

( ووجدتُك يا بني بعضي، بل وجدتك كلّي، حتى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي مستظهراً به إن أنا بقيت

____________________

(١) أمالي الطوسي: ١٤٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٨٧.

١١٧

لك أو فنيت، فإنيّ أُوصيك بتقوى الله ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله ) (١) .

إنّ المقياس عند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في البعد والقرب منه ليس النسب، بل ما يجده ( عليه السلام ) في المؤمنين من التقوى والاستعداد والقدرة.

عبارة الإمام وجدتك تشير إلى هذا المعنى؛ حيث إنّ أقرب النّاس معنوياً إلى أمير المؤمنين ولداه الحسن والحسين ( عليهم السلام )، قد صرّح الإمام بنوع القرب الحقيقي، وهو قرب المودّة، لا قرب النسب( القريب مَن قرّبته المودّة وإن بَعُد نسبه، والبعيد مَن باعدته العداوة وإن قرب نسبه ) (٢) .

المودة الحقيقية هي المودة والحب في الله؛ حيث إنّ كلّ إنسان يولي الجميل محببٌ، وتهوي إليه قلوب المؤمنين( مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ) (٣) .

كذا أوصى أمير المؤمنين لابنه الحسن ( عليه السلام )( ووجدتك بعضي بل وجدتك كلّي ) ليس لأنّه ابنه فحسب؛ بل لأنّه يسرع به العمل أن يكون بعض بل كلّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ).

ممّا يؤيّد وجود الموّدة والمحبّة الحقيقية بين أمير المؤمنين وأصحابه، قوله ( عليه السلام ) في الشهداء من أصحابه:

( أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن

____________________

(١) نفس المصدر: الكتاب: ٣١؛ العقد الفريد: ٣/١١٤.

١١٨

فأحكموه على وجوههم غَبَرة الخاشعين، أولئك إخواني الذّاهبون ،فحقّ لنا أن نظمأ إليهم، ونعضَّ الأيدي على فراقهم ) (١) .

كذا قول الإمام عند فقده عمّار بن ياسراً:

أَلا أيّها الموت الذي ليس تاركي

أَرحني وقد أفنيتَ كلَّ خليلِ

أَراك بصيراً بالّذين أُحبهم

كأنّك تسعى نحوهم بدليلِ(٢)

كما ذكرنا فإنّ الأسلوب العاطفي يُستخدم في كثير من الأحيان قبل الدخول إلى مطلب معيّن، ينقل المؤرّخون إنّ أمير المؤمنين لمّا نزل بالنخيلة وأَيَس من الخوارج، جمع إليه رؤوس أهل الكوفة والقبائل ووجوه الناس وأمراء الأجناد،

فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:( يا أهل الكوفة، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، ومجيبيّ إلى جهاد المُعلين، بكم أضرب المدبر، وأرجو إتمام طاعة المقبل ) (٣) .

١٤. الأسلوب التوضيحي

الغاية منه بيان المطلب وإزالة الغموض، في هذا الأسلوب تارةً يقوم الإمام ( عليه السلام ) بتوضيح معاني معيّنة يحتاج النّاس معرفتها من دون أن يطلبوا ذلك منه، وأخرى يكون عن طريق استيضاح من قبل فرد عن حدث أو

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٢١.

(٢) الأمثال والحِكم المستخرجة من نهج البلاغة: ٢٩٦.

(٣) الإمامة والسياسة: ١/١٦٥، تاريخ الطبري: ٣/١١٧، تاريخ ابن خلدون: ٢:٦٣٨.

١١٩

معنى كلام، فيجيب الإمام عن تلك الاستفسارات الّتي يريدها الناس.

أمّا توضيح المعاني التي يحتاج الناس معرفتها، مثل معنى كلمة ( شُبهة ) وسبب تسميتها بذلك، فيوضّح ( عليه السلام ) ذلك:

( إنّما سمّيت الشبهةُ شبهةً؛ لأنّها تشبه الحقّ، فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، وأمّا أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ) (١) .

أمّا توضيح المعاني عن طريق الاستيضاح والسؤال، فيُروى أنّ أمير المؤمنين قال في إحدى خطبه:

( أعوذ بالله من الذنوب التي تعجّل الفناء، فقام إليه ابن الكوّاء الشِكري(٢) فقال: يا أمير المؤمنين أَوَ تكون ذنوب تعجّل الفناء؟ فقال:نعم ويلك قطيعة الرّحم، إنّ أهل البيت لَيجتمعون ويتواسون وهم فَجَرة فيرزقهم الله ،وإنّ أهل البيت ليتفرّقون ويقطع بعضهم بعضاً فيحرمهم الله وهم أتقياء ) (٣) .

إنّ هذا الأسلوب يزيل الغموض ويؤسّس الوضوح في ثقافة النّاس للمعاني المختلفة.

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ٣٨.

(٢) كان من رؤوس الخوارج.

(٣) الأصول من الكافي: ٢/٣٤٧.

١٢٠

73 - المحدّث الشيخ عبد الله بن محمّد بن الصديق الغماري (ت 1413 هـ).

من علماء المغرب، درس وعاش في مصر. له مؤلّفات في الفقه والعقيدة والحديث واللّغة. عاد إلى المغرب واستمرّ في الإفتاء والتدريس والتصنيف. له ردود على ابن تَيمِيه. قال:

«وانحراف ابن تيميه عن عليّ وأهل البيت معروف، وحتّى حُكم عليه بالنفاق لأجل ذلك. وذكر الحافظ ابن حجَر في ترجمته من (الدرر الكامنة) أنّ العلماء حكموا بنفاق ابن تيميه لما ثبت عليه من بُغض عليّ وانحرافه عنه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم لعليّعليه‌السلام : (لا يُبغضك إلاّ منافق)»(1) .

قلت: وقد اطّلعت على رسالة صغيرة له ذكر فيها: أنّ الأحاديث الواردة في فضل عليّ لا تُثبت له ميزة على مطلق المؤمنين فضلاً عن الصحابة، وبيّن ذلك في بعض الأحاديث التي ذكرها، بكلامٍ ظاهر عليه الحقد والتحامل؛ وفي كتابه الذي سمّاه منهاج السنّة وهو في الحقيقة منهاج البِدعة، تحامل كبير على عليّ، وانتقاص لعليّ مكانه، خصوصاً في أوائل الجزء الثالث منه، فإن فيه مع ذلك مساساً بفاطمة الزهراء، صلوات الله عليها، ووصمها بشائبة النفاق! وقد عاقبه الله على هذه الوقاحة والخبث؛ فجعله الله إمام الناصبيّة والمبتدعة منذ وقته إلى الآن، في كلّ زمان ومكان، فلا تجد عدوّاً لآلِ البيت ولا خارجاً على الجماعة إلاّ وليد أفكار، وتلميذ كتبه الملأى بالضلال، فدونك المجسّمة والمشبّهة ومَن

____________________

(1) أفضل مقول في مناقب أفضل رسول، لعبد الله الغماري 25، الطبعة الأولى مكتبة القاهرة - مصر.

١٢١

على شاكلتهم، كلّهم يعتمدون عليه ويرجعون في نصر بدعتهم إليه، ودونك أعداء الزيارة النبويّة، الذين يزعمون أنّها معصية، لا حجّة لهم في زعمهم إلاّ كلامه، ودونك المتجرّئين على القول في الدين بالهوى والغرض لم يكتسبوا جرأتهم إلاّ منه، وهكذا بقيّة صنوف البِدع هو الذي فتح أبوابها وسهّل أسبابها».

تعليق: هنيئاً لابن تيميه ومَن والاه من الوهّابيين؛ فخصيمهم يوم القيامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ أساءوا إليه في وصفه أنّه في حضرته الشريفة عظام ورمة تحرم زيارته؛ وأهلُ بيته عليّ الذي هو نفسُ رسول الله كما في آية المباهلة والذي هو بمنزلة هارون من موسى والذي ثبتت إمامته كما في آية التصدّق حال الركوع في الصلاة والذي أخذ له النبي البيعة في حجّة الوداع، وطهّره الله تعالى كما في آية التطهير...

وأمّا ثاني أهل البيتعليهم‌السلام ، ممّن تطاول عليهم ابن تيميه فهي الزهراء البتول بضعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سيّدة نساء العالمين والمطهّرة من كلّ رجس بمحكم التنزيل، طهّرها الله تعالى ووالدها وبعلها وابنيها الحسن والحسين صلّى الله عليهم وسلّم، في آية التطهير، وبهم باهلَ النبيّ نصارى نجران فغلبهم، فكان عليّ نفسه، وفاطمة نساءه، والحسنان أبناءه؛ ولو كان مَن هو أشرف منهم لخرج به يُباهل. فكانواعليهم‌السلام معجزة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ؛ عامل الله ابن تيميه وأتباعه، بعدله جلّ وعلا، والعاقبة للمتّقين.

قال الغماري: «ويدلّ أيضاً على أنّ عليّارضي‌الله‌عنه كان ميمون النقيبة، سعيد الحظ،

١٢٢

على نقيض ما قال ابن تيميه في منهاجه عنه أنه كان مشؤماً مخذولاً، وتلك كلمة فاجرة، تنبئ عمّا في قلب قائلها من حقدٍ على وصيّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخيه كرّم الله وجهه»(1) .

74 - المحدّث الشيخ محمّد زكي الدين إبراهيم (ت 1419 هـ). من علماء الأزهر، له دور كبير في فضح بِدع ومنكرات بعض الجماعات، ولم يسكت عن الأخطاء التي كانت تقع من مشايخ الأزهر. ومن كلامه بشأن ابن تيميه:

«وقد استوعب الإمام التقي السبكي أكثر ما ورد في زيارة القبر النبوي في كتابه شفاء السقام بزيارة خير الأنام ردّ به تهوّر ابن تيميه الذي حكم جزافاً ببطلان أحاديث زيارة القبر النبوي، حتّى بلغ به الاندفاع إلى اعتبار السفر بنيّة هذه الزيارة معصية لا تقصر فيه الصلاة!! ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله. وكان من أثر ذلك فتنة عمياء انتصر فيها ابن عبد الهادي لابن تيميه في كتاب سمّاه الصارم المنكي، ثمّ انتصر ابن علان للسبكي بكتاب سمّاه المبرد المبكي، وتابعه الشيخ السمنودي بكتاب سمّاه نصرة السبكي.

ثمّ بقي من يخطب على منبر الكعبة أيّام الحجّ ثمّ على منابر مصر، فيفتي بحرمة زيارة القبر الشريف، بلا خجل من الله ولا من النبيّ، ولا من العالم»(2) .

وقال: «يتّخذ إخواننا الذين ينتسبون إلى التسلّف أو السلفية من أحاديث

____________________

(1) سمير الصالحين، عبد الله الغماري 77 الطبعة الأولى، مكتبة القاهرة - مصر 1388 هـ.

(2) كلمة الرائد، محمّد زكي إبراهيم، 3: 538، الطبعة الأولى، مصر 1426 هـ.

١٢٣

شدّ الرحال وسيلة للتشهير بمن يلتمسون البركة بزيارة مشاهد بعض أولياء الله وأهل البيت الكرام، أو قصد الصلاة في بعض المساجد الشهيرة، وقد يتغالى بعضهم فلا يكتفي بتسمية الأغلبية الغالبة من مسلمي المشارق والمغارب بـ (القبوريّين)، بل إنّه ليرميهم كما هي العادة بالشرك والردّة والوثنيّة والزندقة، وإنّه ليستحلّ دماءهم وأموالهم وأعراضهم باسم السَّلَفيّة البريئة والتوحيد المظلوم، ثمّ باسم إحياء السنّة وكفاح البِدعة.

وهكذا يرى هؤلاء الإخوان على اختلاف طوائفهم أنّ جمهور المسلمين بعامّتهم بين مشرك مرتدّ أو كافر مبتدع أو وثنيّ نجس، فلا إسلام ولا إيمان إلاّ ما هم عليه، وقد يكون هذا عن اقتناع أحمق أو فهمٍ جاهل أو عن تقليد طائفيّ متعصّب، أو حاجة في نفس يعقوب. ومن الحاجات ما تبرأ منه الإنسانيّة والشرف وما لا يستقيم مع العلم والدين.

لقد قلّدوا إمامهم الأكبر الشيخ أحمد بن تيميه الذي منع شدّ الرحال حتى لزيارة قبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشذّ بهذا عن كلّ علماء القبلة»(1) .

وعن الوهّابيّين ومنهجهم في الزيارة لما رأوا غضبة الأُمّة الإسلاميّة بشأن شدّ الرحال، قال:

«إنّهم لما أحسّوا ذلك نقلوا حملتهم إلى أهل البيت، ففي منهاج السنّة لابن

____________________

(1) الإفهام والإفحام، محمّد زكي إبراهيم، 149 الطبعة الخامسة، مصر 1425 هـ.

١٢٤

تيميه مثلاً، كلام موبق مثير عن فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلي بن أبي طالب، قوبل من الأمّة بالاستهجان المطلق، ووُصِم كاتبه بين العلماء بالنفاق والناصبيّة»(1) .

وفي شأن سيّدة العالمين بضعة النبيّ وما قاله الناصبيّ فيها، قال:

«وفي أوائل الجزء الثالث من كتاب منهاج السنّة لابن تيميه بصفةٍ خاصّة تحامل بغيض كريه على الإمام عليّرضي‌الله‌عنه ، وعلى السيّدة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى إنّه وصمها بالنفاق - عياذاً بالله - ومع أنّ لابن تيميه انحرافات شتّى، فلعلّ من أوقحها هذا الانحراف اللئيم»(2) .

75 - محمّد ناصر الألباني (ت 1420 هـ). من ألبانيا بأوربا، هاجر طفلاً صغيراً مع أسرته إلى سوريا، ومنها تحوّل إلى الأردن. من كبار شيوخ الوهّابيين. تابع ابن تيميه، وهو مع هذا فقد تكلّم فيه وأنكر عليه أموراً، مع محاولة منه لتسويغ بعض أقواله؛ فلم يفلح!، قال:

«فمِن العجب حقّاً أن يتجرّأ شيخ الإسلام ابن تيميه على إنكار هذا الحديث - حديث مَن كنت مولاه - وتكذيبه في منهاج السّنة كما فعل بالحديث المتقدّم هناك، مع تقريره رحمه الله أحسن تقرير أنّ الموالاة هنا ضد المعاداة وهو حكم ثابت لكلّ مؤمن وعليّرضي‌الله‌عنه من كبارهم يتولاّهم ويتولّونه، ففيه ردّ على الخوارج

____________________

(1) كلمة الرائد، مصدر سابق 2: 492.

(2) نفسه: 546.

١٢٥

والنواصب»(1) .

وقفة مع الألباني:

أظهر الألباني عجبه من شيخه إذ أنكر حديث الولاية يوم غدير خُمّ! ثمّ عاد ليُحسّن تقرير شيخه ثانية للحديث، وتفسيره له! وابن تيميه هائم في تَيْه لا موسى له ينجيه! فهو في منهاج السنّة قد أنكر فضائل علي أمير المؤمنين وأهل البيتعليهم‌السلام في القرآن والسنّة؛ ولكثرة هملجته وجدناه ينسى نفسه فيذكر أمراً قد أنكره في موضع أو أكثر، ثم يعود إليه فيقرّ بشطرٍ منه مع تكذيبه الشطر الآخر! ويصرف الشطر الثاني إلى غير معناه!! كما فعل مع هذا الحديث - وقد وفيناه حقّه في هذا البحث - ولكن كلامنا هنا مع الوهّابي الألباني وقوله إنّ شيخه ابن تيميه قد قرّر الحديث أحسن تقرير وهو أنّ الموالاة هنا ضدّ المعاداة وهو حكم ثابت لكلّ مؤمن...!

وهل هذا يخفى عن ذي أدنى لُبّ؟ أليس القرآن الكريم والأحاديث النبويّة زاخرة في تقرير الموالاة بين المؤمنين ومعاداتهم للمشركين؟! فما فلسفة جمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحجّاج بعد قفوله من حجّة الوداع ويخطب بهم تلك الخطبة المعروفة ثمّ يأخذ بيد أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ويقول: «مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه، اللّهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه». فقرن ولايته بولايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك معاداته.

____________________

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني 5: 263، مكتبة المعارف - الرياض 1415 هـ.

١٢٦

ولم يقل: اللّهم هؤلاء المؤمنين مواليّ فوالهم... ثمّ لِمَ اختار عليّاً من دون غيره؟!

وعاد الألباني إلى كلام ابن تيميه عن حديث الغدير، فقال: «فقد كان الدافع لتحرير الكلام وبيان صحّته أنّني رأيت شيخ الإسلام ابن تَيمِيه، قد ضعّف الشطر الأوّل من الحديث، وأمّا الشطر الآخر فزعم أنّه كذب! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرّعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طُرقها ويدقّق النظر فيها والله المستعان»(1) .

وللصنعاني كتاب رفع الأستار لإبطال أدلّة القائلين بفناء النار ردّ فيه على ابن تيميه وصاحبه ابن قيّم الجوزيّة، وحقّقه الألباني فقال في مقدّمة التحقيق:

«بعد هذا أعود فأقول: إنّ ما تقدّم من الآيات والأحاديث صريحة في الدلالة على بطلان القول بفناء النار، فكيف ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيميه وانتصر له تلميذه ابن قيّم الجوزيّة؟

فأقول: إنّ أحسن ما أجد في نفسي من الجواب عنهما، إنّما هو أنّه لما توهّما أنّ بعض الصحابة قد ذهبوا إلى ذلك، وهم قدوتنا جميعاً لو صحّ ذلك عنهم رواية ودراية، ولم يصحّ عند المؤلّف الصنعاني رحمه الله، واقترن مع ذلك غلبة الخوف عليهما من الله، والشفقة على عباده تعالى من عذابه، وغمرهما الشعور بسعة رحمته وشمولها حتّى للكفّار منهم، وساعدهما على ذلك ظواهر بعض النصوص ومفاهيمها!! فأذهلهما ذلك عن تلك الدلالة القاطعة، وقالا ما لم يقل

____________________

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 344.

١٢٧

أحد قبلهما!، وما أرى لهما شبهاً في هذا إلاّ ذلك المؤمن الذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ليضلّ عن ربّه فلا يقدر على تعذيبه!!»(1) .

قال: فكيف يقول ابن تَيمِيه: ولو قُدّر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة!

فكأنّ الرحمة عنده لا تتحقّق إلاّ بشمولها للكفّار المعاندين الطاغين! أليس هذا من أكبر الأدلّة على خطأ ابن تيميه وبُعده هو ومَن تبعه عن الصواب في هذه المسألة الخطيرة؟!

فغفرانك اللهم!»(2) .

76 - الدكتور الشيخ محمّد سعيد رمضان البوطي، من علماء دمشق المعاصرين. كان عميداً لكليّة الشريعة، وله عشرات الكتب والمؤلّفات.

قال في كتابه فقه السيرة النبويّة:

«واعلم أنّ زيارة مسجده وقبره صلّى الله عليه وسلّم من أعظم القُربات إلى الله عزّ وجلّ، أجمع على ذلك جماهير المسلمين في كلّ عصر إلى يومنا هذا، لم يخالف في ذلك إلاّ ابن تَيمِيه، فقد ذهب إلى أنّ زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم غير مشروعة»(3) .

____________________

(1) رفع الأستار 21.

(2) رفع الأستار 25.

(3) فقه السيرة، الدكتور البوطي، 560. دار الفكر المعاصر - بيروت، 1423 هـ.

١٢٨

وفي كتاب آخر له، قال:

«وبعد، فلم أكن أهدف من هذه الوقفة مع ابن تَيمِيه، إلى تتبّع أخطاء له، فما عقدتُ فصول هذا الكتاب لشيء من هذا الغرض، ولكنّي أردتُ أن أوضّح أن ابن تيميّه وهو نموذج من قادة مَن يُسمَّون اليوم بالسّلَفيّة، لم يتبيّن رأيه في هاتين المسألتين - ولهما نظائر - اتباعاً للسّلف من حيث إنّهم سلف، ولم يدافع عن رأيه فيهما بأنّ السلف أو بعضاً منهم كان على هذه العقيدة، بل إنّنا لنعلم جميعاً أنّه لا يوجد واحد من السلف الصالح على امتداد عصوره الثلاثة قال: إنّ العالم قديمٌ بالنوع حادثٌ بالعَيْن (وهذا هو تعبيرُ ابن تَيمِيه)...»(1) .

لا كلام معنا مع السَّلفيّة ممّن يتوسّمون خطى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته قولاً وعملاً، وما كان عليه السلف الصالح ممّن هم أقرب عهداً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من ابن تَيمِيه؛ وإنّما كلامنا مع التيميّين الذين أعرضوا عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وتمسّكوا بذيل ابن تيميه ورأوا فيه أنّه السّلف كلّ السلف، وقوله عندهم وحيٌ وإن نطلق الوحي الكريم بنقيضه وأظهر كفر صاحبهم وبِدعته؛ وهتفوا لصاحبهم وانتصروا له وإن كان قوله لا وجود له عند واحد من السلف الصالح على امتداد عصوره الثلاثة؛ ولم يلتفتوا للأحكام التي أصدرها علماء المذاهب بتكفير هبلهم! وزندقته وفسقه وبِدعته ومن ثمّ إيداعه السجن ثلاث مرّات في كلّ مرّة يكتب

____________________

(1) السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، الدكتور البوطي 186 الطبعة الأولى، دار الفكر المعاصر - بيروت، 1408 هـ.

١٢٩

بخطّه توبته الكاذبة! من تلك الأفكار الشاذّة، فإذا اُطلق، عاد إلى ما كان عليه من آراءٍ يهوديّة صابئيّة خارجيّة! حتّى اُخرج المرّة الثالثة جسداً بلا روح. فأيّ سَلفيّة تلك التي يزعمها التَيميّون؟!

قال البوطي: «وها قد رأينا أنّ ابن تيميه لم يُبالِ أن يخالف السَّلَف كلّهم ممثّلين في أصحاب مالك والشافعيّ وأبي حنيفة، كما قال هو بذاته في النّص الذي نقلناه عنه، اتّباعاً لما يقضي به في (نظره واجتهاده) منهج تفسير النصوص...»(1) .

وابن تيميه والتَيمِيّون يلوذون بأهل السنّة والجماعة وذلك إذا حزبهم أمرٌ لا مخرج لهم منه؛ فمَن هم أهل السنّة والجماعة إذا لم يكن منهم أصحاب مالك والشافعيّ وأبو حنيفة؟!

إنّ منهج ابن تَيمِيه، أوقعه في تناقضات حادّة؛ فإضافة إلى شذوذه في جانب العقيدة والسيرة والفقه والتفسير ممّا أخرجه عن أهل السنّة والجماعة، ولأجله سمّاه أصحابه: الإمام المطلق - انظر مقدّمة منهاج السنّة لابن تيميه - أي أنّه لا يفتي بفتوى لأحد تلك المذاهب وإنّما بما وصل إليه اجتهاده. ومن تلك التناقضات: أنّه يهاجم الفلسفة والفلاسفة، وعلم الكلام والمشتغلين به، لكنّه يتوغّل في تلك العلوم ويرمي فيها بسهمٍ خائب!

____________________

(1) السلفيّة، 186.

١٣٠

قال البوطي: «ولا شكّ أنّ خوض ابن تيميه هذا في علم الكلام ومسائله ينسجم مع قراره الذي نقلناه عنه والمتضمّن جواز الاشتغال بهذا العلم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ولكنّه لا ينسجم ولا يتّفق أبداً مع هجومه العجيب والشديد في أماكن ومناسبات أخرى على المشتغلين بعلم الكلام، المتعاملين مع أساليب المناطقة ومفاهيم الفلاسفة، مع العلم بأنّ أيّاً من هؤلاء العلماء الداخلين في حظيرة أهل السنة والجماعة لم يتوغّل في مباحث علم الكلام وبالمقاييس والمصطلحات المنطقية والفلسفية أكثر ممّا توغّل ابن تيميه ذاته!.

كما تحدّث ابن تيميه أيضاً عن علم المنطق والفلسفة، فانتهى بعد كلام طويل وفي أكثر من مناسبة ورسالة إلى التشنيع على هذا العلم والتحذير منه، وإلى التأكيد بأنّ كلّ مَن يمارسه وينظر فيه فهو فاسد النظر والمناظرة، كثير العجز عن تحقيق علمه وبيانه! وزاد في التشنيع على المقبلين على هذا العلم عن هذا القدر أكثر من مرّة، ولا حاجة لاستقراء مواقفه التشنيعيّة هذه فهي أمر معروف عنه ورأي شائع وذائع له.

ولكن العجب كلّ العجب في هذا الأمر، أنّه يصيح بكلماته التشنيعيّة هذه وهو غارق في أقصى أودية التعامل مع المقاييس والموازين الفلسفيّة، موغل إلى أبعد حدٍّ في التعامل مع قواعد الفلسفة ومقولاتها ومفاهيمها. ولا يعنيني أنّه في استغراقه وإيغاله هذين، مؤيّد لأفكار المناطقة والفلاسفة أو منتقد، إنّما المهم أنّه قد تعلّم المنطق والفلسفة وأكبّ على دراستها بكلّ إقبال وجدّ، وها هو ذا في

١٣١

حديثه عن المنطق والفلسفة يحاور ويناقش مناقشة الخبير البصير ثمّ الممارس المتمكّن! فكيف يصحّ له بعد هذا أن يخاطب الناس عموماً كما يخاطب الوصي والولي القُصَّر الذين عهد إليه برعايتهم، يقول لهم: لقد تعلّمت لكم الفلسفة والمنطق ووقفتُ على مقاييسها ومفاهيمها، فعلمتُ أنّ أكثر ما فيهما باطل من الكلام ووهمٌ من القول، فلا تضيعوا بهما وقتاً ولا تبذلوا في سبيلهما جهداً بدون طائل، فإنّ الاشتغال بهما عليكم حرام ومحظور! وإذا سلّمنا أنّ لابن تيميه من قوّة العارضة وحصافة الرأي والاستقامة على دين الله ما يجعله في مكان القدوة لسائر مَن بعده مِن الناس، أفليس اقتداؤهم بفعله خيراً من اقتدائم بقوله الذي يتناقض مع فعله؟

وماذا صنع الإمام الغزالي أكثر من هذا الذي صنعه الإمام ابن تَيمِيه، مع فارق واحد: هو أنّ الأوّل لم يحرّم على الناس ما أباحه لنفسه، أما الثاني فقد تربّع على مائدة الفلسفة يتناول منها ويعثو(1) بأطباقها كما يُحبّ، ويصيح في كل مَن حوله يطردهم عن المائدة، ويحذّرهم من أن يذوقوا منها مذاقاً، لأنّ كلّ ما عليها طعامٌ آسن ضارّ غير مفيد!»(2) .

77 - الدكتور الشيخ عمر عبد الله كامل، من علماء مكّة المكرّمة المعاصرين. له مؤلّفات في العقيدة والفقه والاقتصاد. وله ردّ على ابن تيميه في

____________________

(1) يعثو، من عثا، أي بالغ في الكبر والكفر والفساد.

(2) السلفية، 161.

١٣٢

رسالته التدمرية، سمّاه (نقض قواعد التشبيه من أقوال السلف). جاء فيه:

«وهذا الكتاب ردّ مختصر على أهم ما ورد من أفكار وكذا المنطلقات التي بُنيت عليها في الكتاب الموسوم بالعقيدة التدمرية والمنسوب للشيخ ابن تيميه وكلّ يُؤخذ من كلامه ويُردّ، خاصّة وأن هذه الأفكار والآراء تعارض ما يعتقده جمهور الأمّة المعصومة وهنا مكمن الخطر»(1) .

وفي كتاب كلمة هادئة في الزيارة وشدّ الرحال قال:

«ولازم استحباب زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم: استحباب شدّ الرحال إليها، لأنّ زيارته للحاج بعد حجّه لا تمكن بدون شدّ الرحل، فهذا كالتصريح باستحباب شدّ الرحل لزيارته صلّى الله عليه وسلّم. وقد درج علماء الإسلام وفي مقدّمتهم الحنابلة على هذا الفهم واتّفقوا على شدّ الرحال واستحباب زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلى أن جاء ابن تيميه في القرن الثامن، وخالف عامّة المسلمين وقال لا تستحبّ زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم.

وقد نقلنا إجماع المسلمين على مشروعيّة زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في مختلف الأزمنة، وأنّه لم يخالف في ذلك غير ابن تيميه ومَن تبعه، فهل من الحكمة أن نأخذ بقوله وفهمه للمسالة، وندع إجماع أئمّة المسلمين في عصور ما قبل ابن تَيمِيه؟ مع أنّ إجماعهم في عصر واحد حجّة ملزمة، فضلاً عن

____________________

(1) نقض قواعد التشبيه، الدكتور عمر عبد الله كامل، 8 الطبعة الأولى، دار المصطفى 1426 هـ.

١٣٣

أقوال أكثر أئمّة المسلمين بعد عصر ابن تَيمِيه»(1) .

78 - الدكتور الشيخ عيسى بن عبد الله بن مانع الحِمْيري، من كبار علماء دبي المعاصرين. له مؤلّفات في العقيدة، منها كتاب تصحيح المفاهيم العقيدية. جاء فيه:

«... وهذا ترْكٌ من ابن تيميه لمذهب السلف بالكليّة وادّعاءٌ عليهم بمذهب غير مذهبهم ودخول في مضايق وعرة وشنائع أمور استبشعها العلماء واستبعدوها، وقد رأينا لهذا المخالف ومَن شايعه ألفاظاً شنيعة لم ترد في الكتاب والسنّة، ولم ينطق بها أحد من السلف؛ فأثبتوا الجسميّة صراحة، وأثبتوا الجهة والحدّو التحيّز والحركة والصوت والانتقال والكيف وغير ذلك من التجسيم الصريح»(2) .

وقال أيضاً:

«ولم يَنْتهِ ابن تيميه عند هذا الحد بل نسب لله تعالى الجهة بلازم كلامه ومنطوق أقواله، وهو القائل لا نَصِف الله تعالى إلاّ بما وصف به نفسه كما هو مشهور عنه، فنقول له: بالله عليك هل وجدت آية أو حديثاً ولو ضعيفاً أو أثراً عن السلَف الصالح أنّهم يصفون الله تعالى بالجهة؟، ما هذا إلاّ ابتداع ابتدعته،

____________________

(1) كلمة هادئة في الزيارة وشدّ الرحال، عمر عبد الله كامل 44 الطبعة الأولى ن دار المصطفى، 1426 هـ.

(2) تصحيح المفاهيم العقديّة، عيسى الحِميري، 131 الطبعة الأولى، دار السلام - مصر، 1419 هـ.

١٣٤

وضلال ابتكرته، نسأل الله تعالى السلامة»(1) .

وخلص الدكتور عيسى إلى: «فالحاصل من هذا أنّه يتبيّن لك أنّ ابن تيميه عشوائي في فهمه ولا يمشي على قاعدة مستقيمة بل يتّبع ما يبدو له إذا استطاع بذلك أن ينصر مذهبه»(2) .

ونحن نسأل الله تعالى السلامة من أن نقول ما قاله ابن تيميه وتابعه الوهّابيّون فصاروا فِرقةً مباينةً لعامّة المسلمين، ولنا أن نقول لهم: لنا ربُّنا المنزّه عن الجسميّة والجهة والتحيّز والحركة والصوت... وكلّ صفات الحوادث؛ ولكم ربّكم الذي هو محلّ كلّ الحوادث. ولنا نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أشرف الخلق أجمعين ن ونعتقد به الوسيلة المقبولة لدى الله تعالى، وأنتم تُنكرون ذلك، ونحن نعتقد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ في قبره، وأنّ قبره روضة من رياض الجنّة، فنزوره ونجدّد معه عهداً على أن لا نزيغ عمّا جاء به من الله تعالى؛ وأنتم تحرّمون ذلك وتمنعون منه؛ بل صرتم إلى تكفيرنا! وتستحلّون دماءَنا وتُفضّلون كفّار أهل الكتاب علينا! وتقولون عن نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه عظام رمّة...، وغداً الملتقى عند ربٍّ لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء ولا في الأرض ويحكم بيننا بالعدل وحينها يخسر المبطلون.

79 - الفقيه الشيخ طارق بن محمّد الجباوي السعدي الشافعي. من علماء مدينة صيدا اللبنانيّة المعاصرين. له مؤلّفات كثيرة في الفقه والأصول والعقيدة

____________________

(1) تصحيح المفاهيم العقديّة، 135.

(2) نفسه 175.

١٣٥

والسيرة، كلّها في الردّ على ابن تَيمِيه، ممّا أثار عليه الوهّابيّين الجهلة فسعوا لإيذائه وهدّدوه رغم دعوته لهم للحوار والمناظرة.

ومن مؤلّفاته تلك: الردود الشرعيّة على الفتوى الحموية، وكشف المَيْن في شرح الحرّاني لحديث ابن حُصَين...

قال السعدي في مقدّمة كتابه كشف المَين: «فهذا كتاب أسميته كشف المَيْن أي: الكذب، بيّنت فيه بهتان ابن تيميه الحرّاني وافتراءه على العقل والنقل بما حشاه في شرحه لحديث سيّدنا عمران بن حصينرضي‌الله‌عنه ، منبّهاً على كثير من مخازيه بالإشارة أو العبارة، وذلك بعد اطّلاعي المفصّل على كتبه، كمجموع الفتاوى، ودرء التعارض، ومنهاج السنّة، والصفديّة؛ وغيرها ممّا نقلنا بعض نصوصه فيها على قِدم نوع العالم في كتاب كشف الزلل الذي فصلنا فيه مذهبه ورددنا عليه، حتّى أنّك لتجد الكشفين: للزللِ والمَيْن منفصلين متمّمين: فكلّ منهما كما أنّه استوف المطلب وحقّق المقصود، كان متمّماً للآخر في مسائل لم نتعرّض لها فيه»(1) .

وختم كتابه الآنف بقوله: «وبعد: فهذا آخر ما يسّره الله تعالى لنا في كشف مَيْن ابن تيميه على العقل والنقل سيّما حديث عمران بن حصين.

«ولسنا قد تعرّضنا له لشخصه إلاّ أنّه بات رأساً لفرقة ترجع إليه القول،

____________________

(1) مقدّمة كتاب كشف المين، طارق السعدي، دار الجنيد.

١٣٦

وتُوقِف العقل والنقل على بيانه، وروّجت له بين عوام العلماء، فبات بينهم علَماً محقّقاً بارعاً... الخ، ما أوجب علينا التخصيص والتنصيص.

فأسأل الله تعالى كشف بصيرة أتباعه فضلاً عن المغبونين والمغترّين به إلى الحقّ، ليعرفوا مكانة هذا المبتدع على التحقيق، وأنّه ليس إلاّ مارق زنديق، ليس فيما انفرد فيه إلاّ البِدعة والضلالة وفُرقة الجماعة»(1) .

ما أعظمها خزاية بابن تيميه شيخ إسلام المتسلّفين الوهّابيّين وإمامهم المطلق - كذا - أنّه كذّاب على العقل يتصيّد بذلك عبيد الدنيا وما لهم في الآخرة من خَلاق. ولم يقف عند ذلك، إنّما امتدّ كذلك إلى النقل وتكذيب النصّ أو تحريفه، وتحميل ما يضطرّ إلى تصديقه، ما لا يحتمل ويذكر أُموراً بعيدة؛ وعلى هذا حكم عليه السعدي أنّه ليس إلاّ مارق زنديق صاحب بِدعة وضلالة وفُرقة للجماعة. عامله الله تعالى ومَن تبعه بعدله.

80 - الشيخ يوسف بن هاشم الرفاعي، من رجالات الكويت المعاصرين.

مؤسّس معهد الإيمان الشرعيّ في دولة الكويت، ورئيس الاتحاد العالمي للدعوة والإعلام في لاهور وفي القاهرة.

له كتاب الردّ المحكم المنيع على شبهات ابن منيع.

نقتطف منه هذه الفقرة فهي وافية بالغرض، قال:

«رحم الله خصوم الشيخ ابن تيميه فإنّهم لما خرج على الإجماع في بعض

____________________

(1) كشف المَيْن - الخاتمة.

١٣٧

آرائه، أقاموا له المناظرات الكثيرة المفتوحة في مصر ودمشق بحضور العلماء والوزراء وطلبة العلم ولم يحكموا عليه من طرف واحد»(1) .

81 - الشيخ محمود سعيد بن ممدوح الشافعي، عالم مصري معاصر. له مؤلّفات واسعة في الحديث والفقه.

له ردود على ابن تيميه وأتباعه وتلامذته، من ذلك:

«ولا يخفى أنّ الشيخ أحمد بن تيميه الحرّاني الدمشقي (664 - 728) من علماء الحنابلة، كانت له آراء واختيارات انفرد بها، وأحدث بعضها دويّاً هائلاً بين العلماء لاسيّما في مصر والشام، وانتُقد انتقادات واسعة من معاصريه، بل إنّ تلاميذه المقرّبين كالمِزّي والذهبيّ وابن كثير وأشباههم كابن رجب الحنبلي انتقدوه وعارضوه، وبانقضاء هذا العصر أفل نجم هذه الفتنة، وقد أكثر العلماء فيما بعد من التحذير من شذوذات الشيخ ابن تَيمِيه. وكلمات التقي السُّبكي وابنه التاج والصلاح العلائي والحافظ العراقي وابنه وليّ الدين المعروف بـ (أبي زرعة) العراقي والحافظ ابن حجر والبدر العيني والتقي الحصني، وغيرهم من معاصريهم ومَن جاء بعدهم، أقول كلمات المذكورين وغير معروفة لأهل العلم في معارضة شذوذات الشيخ ابن تيميه نصيحةً للمسلمين ودفاعاً عن حوزة الدين وحفاظاً على أعراض أئمّة المسلمين من التكفير والتبديع. ومن قيام علماء المسلمين

____________________

(1) الردّ المحكم المنيع، يوسف الرفاعي 5، الطبعة السابعة، مكتبة دار القرآن الكريم - الكويت 1410 هـ.

١٣٨

بالنُّصح التامّ ودرء الفِتن في مهاجعها لقرون متتالية، فقد ظهر في وسط جزيرة العرب في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب المتوفّى 1206، وكان معجباً بآراء ابن تيميه الشاذّة المُنتقَدة وعضّ عليها بالنواجذ.

وزاد تمسّكه بها أنّه نشأ في بادية نائية فلم يتمكّن من معرفة اتّجاهات أهل العلم في دفع دخائل وانفرادات ابن تيميه عند أهل العلم فضلاً عن فقهاء مذهب السادة الحنابلة، ولم يداخل ابن عبد الوهّاب العلماء مداخلةً جيّدة تمكّنه من النظر الصحيح والموازنة بين الرأي والرأي الآخر»(1) .

إنّ ما ذهب إليه الشيخ الشافعي محمود سعيد في علّة تمسّك ابن عبد الوهّاب بآراء ابن تيميه الشاذّة؛ كونه قد نشأ في بادية نائية لم تمكّنه من مداخلة العلماء والتّفقة في معرفة الرأي والرأي الآخر، هو عين الحقيقة، ذلك أنّ هذه النشأة في مثل هذه البيئة الصحراوية القاسيّة بعيداً عن معاهد العلم والمعرفة لا تعطي نفسه إلاّ المفاهيم البسيطة الساذجة، وأظنّ ظنّاً قويّاً لو أنّ ابن تيميه قد دعا إلى وثنٍ، لتابعه ابن عبد الوهّاب، والقرآن الكريم قد نطق بحقيقة الأعراب في أكثر من آية، منها:( الْأَعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَاأَنْزَلَ اللّهُ

____________________

(1) كشف الستور عن أحكام القبور، محمود سعيد 6، الطبعة الأولى ن مكتبة دار الفقيه، الإمارات 1423 هـ.

١٣٩

عَلَى‏ رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1) .

مع التذكير أنّ نجوم ابن عبد الوهّاب كان مع دخول الإنجليز المحتلّين جزيرة العرب، وتعاون آل سعود معهم ضدّ الأتراك العثمانيّين، فيما رفض الهواشم ذلك؛ باعتبار أن الأتراك مسلمين وإن ظلموا، فيما الإنجليز كفّار. وبعد هزيمة الجيوش العثمانيّة، أعطى الإنجليز السلطة الزمنيّة لآل سعود؛ وبذا ظهرت المملكة السعوديّة، وأعطوا السلطة الدينيّة لآل الشيخ وهي أسرة محمّد بن عبد الوهّاب التميمي النَجْديّ، وما زال الأمر كذلك إلى يومنا. فالوهّابيّة حركة سياسيّة تتقنّع زوراً باسم الدين!

قال الشيخ محمود سعيد: «إنّ شدّ الرحال أي السفر لزيارة القبر النبوي الشريف - سواء كان سفراً تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر - من أهم القربات، وهو قريب من الوجوب عند بعض العلماء، بل واجب عند الظاهريّة وكثير من المالكيّة والحنفيّة.

وعلى كون هذا السفر قربة درج سائر الفقهاء في المذاهب الإسلاميّة العقدية والفقهية رحمهم الله تعالى، فكان إجماعاً للأمّة الإسلاميّة، وقد خالف هذا الإجماع الشيخ أحمد بن تيميه، فصرّح بأنّ السفر لزيارة قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرُ معصية لا تقصر فيه الصلاة، وقال: مَن أراد أن يزور القبر الشريف فليزر المدينة

____________________

(1) التوبة: 97.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183