الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة0%

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 183

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد العبادي
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 183
المشاهدات: 94674
تحميل: 6615

توضيحات:

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 183 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94674 / تحميل: 6615
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

الإمام علي (عليه السلام) وتنمية ثقافة أهل الكوفة

مؤلف:
الناشر: المركز العالمي للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشيطان ومعاقبة العدو، عن جابر قال: سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ):( مهلاً يا قنبر، دع شاتمك مُهاناً ترضي الرّحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوّك، فو الذّي فلق الحبّة وبرأ النّسمة! ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحِلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السّكوت عنه ) (١) .

فالمنع وطرح البديل اللائق، كفيلان بتحصين وحفظ الثقافة الإسلامية من الأهواء والثقافات الأخرى، وجدير بالذكر أنّ المنع يعتبر وسيلةً دفاعية محضة.

ب. التهذيب

تهذيب البلاغ الثقافي يبتدئ من تهذيب الإنسان لآلات التوصيل والارتباط الثقافي.

فاللسان يعبّر عن حقيقة الكلام وقوّته، والكلام من دون تدبير وتفكير يُفقد المرء الاتزان والتعادل، ويجنح بصاحبه نحو المزالق؛ لأجله في عملية التحصين وممارسة التهذيب على المؤمن أن يتدبّر كلامه؛( لأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَإِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ ) (٢) .

____________________

(١) أمالي المفيد: ١١٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١٧٦.

٨١

فالمحلّ الأوّل للكلام في داخل النفس، والمؤمن يتفحص الكلام ويقلّب وجوهه، فإن أصاب الخير أظهره، وان كان فيه الشرّ أنكره؛ لأنّ هذا التهذيب الداخلي هو التأني والتدبّر لنتائج الكلام.

إنّ أمير المؤمنين يعمّق الوعي ويحدّ الرؤية في عملية التهذيب، بحيث إنّها تشمل قنوات وأعضاء أخرى في وجود الإنسان، مثل الخطأ الطفيف لحاسّة البصر الّتي ربّما جلبت مضرّةً، والتي عبّر عنها الإمام بـ ( رمزات الألحاظ ) حيث قد تعني تلك الألحاظ معاني سيئة، ومثل الألفاظ التي ينقلب المعنى فيها إلى غير القصد الصحيح والنافع، والتي ربّما بعثت على سخط الله تعالى أو تحبط الأعمال منها، أو شهوات القلب المترادفة والتي تضع أهداف الإنسان في أسر الأهواء.

قد ورد في الدعاء عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ):( اللّهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ، وسقطات الألفاظ، وشهوات الجنان، وهفوات اللسان ) (١) .

وكما أنّ في جسم الإنسان هذه الأعضاء يطلب تهذيبها، كذلك في المجتمع؛ حيث إنّ مشاهدة العين وتدقيقها على ما يخرج أو ما يرد، ينبغي أن يكون عن معرفة وتقوى في قبول الأشياء الداخلة إلى المجتمع والخارجة منه.

أيضاً سقطات الألفاظ فإنّ بعض الألفاظ التي تصدر من بعض الأفراد قد تكون غير مسؤولة وبعيدة عن التروّي والتفكير. هذه الألفاظ قد تجرّ

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ٧٨.

٨٢

إلى نتائج غير محمودة؛ لذا نجد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يدعوا إلى إجالة النظر ومعرفة هويّة الزّمان وأهله( يا بني، إنّه لابدّ للعاقل من أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه وليعرف زمانه ) (١) .

عندما تكون دائرة المسؤولية كبيرة، ينبغي على الإنسان أن يتصرف بحكمة( يا بنيّ، لا تقل مالا تعلم، بل لا تقل كلّ ما تعلم ) (٢) .

وليس معنى ذلك أن يبخل المرء في أن يقول ما يعلم، وإنّما على المرء أن يعرف في أيّ وعاء يضع علمه، وفي أيّ محلّ ينفقه، ففيه إشارة إلى مراعاة الحكمة في المواضع التي يرتادها الشخص وينشر علمه.

قد تحصل أنّ التحصين الثقافي، الّذي يتم من خلال التهذيب في تمييز ما يرد عليه من أشياء أو ما يصدر منه، لا بد من أن يكون منسجماً مع ثقافة الإسلام، وهو وسيلة دفاعية أكثر منه هجومية.

ج. التحفيز

هو وسيلة لترغيب الإنسان في أن يكون خلاّقاً ومنتجاً ومفيداً، وهو يعتبر وسيلة هجومية في التحصين الثقافي، وهو بعكس المنع الذي يعتبر وسيلة دفاعية محضة.

حثّ الإمام ( عليه السلام ) على العمل ومعرفة الهدف الذي ينتهي إليه، فكلّما كان العمل ذا هدف سامي، وذا طريقة سليمة من حيث الإحكام والإتقان و

____________________

(١) أمالي الطوسي: ١٤٦.

(٢) نهج البلاغة: الحكمة: ٢٨٣/٧٢٢، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٢٤٠.

٨٣

النّهج المتبع، فإنّ ذلك ينعكس إيجاباً في التأثير والتأثر به ولابدّ منه، بحيث إنّه يصبح نموذجاً يُحتذى به ومثالاً يُقتدى به( الْعَمَلَ الْعَمَلَ، ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ، وَالاسْتِقَامَةَ الاسْتِقَامَةَ، ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ، وَالْوَرَعَ الْوَرَعَ، إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ، وَإِنَّ لِلإِسْلامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ ) (١) .

فالعمل مهما كان يحتاج إلى الجدّ أو المثابرة؛ لأنّه مع التهاون والغفلة لا يؤتي التحفيز أُكله،( الجدّ الجدّ أيّها الغافل! ) (٢) .

كيف يمكن مواجهة ومعالجة الغفلة والجمود؟ إنّ ذلك يكون بالعزم والتفكير والتشمير عن ساعد الجدّ والتزوّد من الاستقامة( فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَالاجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ وَالاسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ ) (٣) .

لقائل أن يقول: لا يمكن تحفيز الطاقة وتشغيلها عند الإنسان بالاعتماد على دوافعه الذاتية الخاصّة فقط!

نعم، نحن لا نقول إنّ تنشيط دوافع الإنسان يكون بالاعتماد والاتكاء على الذّات فقط، بل نقول إنّ نفس حث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو تحفيز من الخارج إلى الناس.

إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يقتصر في هذا التحفيز على الوعظ والتنبيه والحثّ على العمل فقط، بل مضافاً إلى ذلك فرض محفّزات مالية لزيادة

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٧٦.

(٢) نفس المصدر: الخطبة ١٥٣.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ٢٣٠.

٨٤

النشاط والإنتاج والاستفادة، ( عن سالم بن أبي الجعد: فرض عليّ ( عليه السلام ) لمَن قرأ القرآن ألفين ألفين، قال وكان أبي ممّن قرأ القرآن )(١) .

كما أنّ الدوافع الذاتية منشأ التحريك فيها هو ما أعده الله تعالى للذين يعملون الصالحات أو الذين أحسنوا.

فممّا تقدم نلاحظ أنّ التحفيز وسيلة للإبداع وتشغيل القدرات الكامنة في داخل الإنسان، ممّا يجعله وسيلةً تحصينية للثقافة.

د. التبادل الإيجابي

المقصود من التبادل الإيجابي هو ما عناه الحديث الشريف، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال:( قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): لا عليك أن تصحب ذا العقل وإن لم تحمد كرمه، ولكن انتفع بعقله واحترس من سيء أخلاقه، ولا تدعنّ صحبة الكريم وإن لم تنتفع بعقله، ولكن انتفع بكرمه بعقلك، وافرر كل الفرار من اللئيم الأحمق ) (٢) .

فالتبادل الإيجابي هو مبادرة يقوم بها الإنسان المسلم لإثراء ثقافته من صاحب العقل أو من صاحب الأخلاق؛ لكي يصل إلى مقصوده ومنشوده.

يعتبر التبادل الإيجابي وسيلةً تحصينية متزنة ومعتدلة؛ لأنّها تدعو إلى صحبة ذي العقل وإن لم يحمد كرمه؛ للانتفاع بعقله أو صحبة ذي الكرم؛ للاستفادة من كرمه وإن لم يحمد عقله، أمّا مَن فقد الكرم المحمود والعقل

____________________

(١) كنز العمال: ٢/٣٣٩.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٦٣٨.

٨٥

النافع، فيجب الاحتراز والفرار منه وهو اللئيم الأحمق كما في الرواية الشريفة.

هذا التبادل الإيجابي كما أنّه من الممكن للفرد المسلم ممارسته، كذلك للولايات والأمصار أو الدول تطبيقه في علاقاتها وارتباطاتها، وأخذها ما هو نافع، ولفضها ما هو ضار.

فالملاك في هذا التبادل الثقافي الإيجابي هو أخذ النفع أنّى وجد، وتجنّب الضرر حيث وجد.

على صعيد العلاقات بين المؤمنين، أمر الإمام ( عليه السلام ) بالتفاعل والتواصل وتبادل المحبة والنصح، وتجنّب القطيعة والتدابر:

( عليكم يا بنيّ بالتواصل والتباذِل والتَّبار، وإيّاكم والنفاق والتدابر والتقاطع والتفرّق، وتعاونوا على البّر والتقوى ) (١) .

____________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٧٥.

٨٦

الفصل الثامن: الإمام علي ( عليه السلام ) والوظائف الثقافية

الخليفة الذي وُضع للناس معلّماً ومرشداً، له وظائف ثقافية يُمليها عليه طبيعة تكليفه ومسؤوليته.

فالمرشد والزعيم يلاحظ ويراقب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثّقافية والسّياسية في دائرة مسؤوليته، أو الحدود الّتي له صلاحية متابعتها وتقويمها للتي هي أحسن.

لذا كان الإمام ( عليه السلام ) قد مارس وظائف ثقافية؛ لتجديد الحياة الثقافية في أوساط الكوفة، ولتعديل المسار الثقافي باتجاه الهداية الإلهية، سنبيّن تلك الوظائف بما يلي:

١. التشخيص

اعتماد الأُسس الصّحيحة في التشخيص، وإعمال النظر الدقيق فيه، من الأمور التي علّم الإمام ( عليه السلام ) الناس عليها.

٨٧

إنّ إدارة الفحص الحسن وتوطيد الصّحة والسلامة في أفعال الأشخاص وأقوالهم من المسائل المهمة، التي حرّك الإمام عقول وأحاسيس الناس إليها.

فالتشخيص قطبه التقوى ودليله الرؤية القطعية، وهدفه معرفة الحق واتخذ التشخيص طرقاً أربعة:

١. التشخيص عن طريق الرؤية الحسية: هذه الطرّيقة في التشخيص سهلة الممارسة؛ حيث يمارس الإنسان بصره ونظره في رؤية الأشياء ومن ثَمّ يقوم بإصدار الحكم عليها، قد بيّن الإمام ( عليه السلام )، الميزان العدل والموازين القسط في التشخيص السليم وفق هذه الطريقة:

( مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَتُخْطِئُ السِّهَامُ، وَيُحِيلُ الْكَلامُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ ) ، ( فسئل ( عليه السلام ) عن معنى قوله هذا ) فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال:( الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ ) (١) .

٢. التشخيص عن طريق العلامات الظاهرة: هذه الطريقة تحتاج إلى نوع من المتابعة والوعي، قد وضع الإمام بين يدي النّاس الطريقة العملية في تشخيص أصناف الناس وتحديد هويّاتهم بوضع العلامات المميزّة لهم( ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يُحمد في جميع أموره ) (٢) ( لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلاثُ عَلامَاتٍ: يَظْلِمُ مَنْ

____________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٤١.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٢٣٦.

٨٨

فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ، وَيُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَةَ ) (١) .

٣. التشخيص عن طريق الرموز الظاهرية والتغييرات النفسية : هذه الطّريقة أصعب تحديداً من سابقاتها وتكون بمتابعة التغييرات النفسية، وما يظهر منها على صفحات الوجوه، حيث إنّ الرّموز الظّاهرة على صفحات الوجه وتغيّر نظرات الإنسان وإيحائها، أو حركات اليد وتعبيراتها، تعبّر عن نوع الانفعال النّفسي المنبسط داخل وجود الإنسان.

هذه الطريقة تحتاج إلى التركيز والدقة، إضافة للفراسة الّتي يمتلكها الفرد عن طريق المعرفة أو الإيمان في تشخيص هذه الرموز( مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلاّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ ) (٢) ( الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ ) (٣) .

٤. التشخيص لِما في باطن الإنسان عن طريق التقوى العالية : هذه القدرة التشخيصية تحتاج إلى مرتبة معنوية رفيعة، وهي لا تتيسّر لكلّ أحد، إلا بالمراقبة القوية والعمل المستمرّ والجادّ في طاعة الله تعالى، الأصبغ بن نباتة قال: أتى رجل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال: إنّي أحبّك في السّر كما أحبك في العلانية، قال: فنَكَت أمير المؤمنين بعود كان في يده في الأرض ساعة ثمّ رفع رأسه فقال:كذبت والله.

ثمّ أتاه رجل آخر فقال: إنّي أحبّك، فنَكَت بعود في الأرض طويلاً ثمّ رفع رأسه فقال:

____________________

(١) نهج البلاغة / الحكمة: ٣.

(٢) نفس المصدر: الحكمة: ٢٦.

(٣) نفس المصدر: الحكمة: ١٤٨.

٨٩

( صدقت، إنّ طينتا طينة مرحومة، أخذ الله ميثاقها يوم أخذ الميثاق، فلا يشذّ منها شاذّ، ولا يدخل فيها داخل إلى يوم القيامة ) (١) .

نعيد القول والإشارة إلى أنّ هدف الوظيفة التشخيصية هي معرفة الحق وتمييزه عن الباطل، وقد تجلّت هذه الوظيفة التشخيصية في قول أمير المؤمنين للخوارج لمّا سمع قولهم ( لا حكم إلاّ لله ) قال ( عليه السلام ):( كلمة حقٍّ يُراد بها باطل ) (٢) .

٢. الاستشارة

شاور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أصحابه في أكثر من موطن ومناسبة؛ تأسّياً بالنّبي في سيرته وتجسيداً لقوله تعالى:( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى‏ اللّهِ ) (٣) الآية الكريمة كانت تأمر النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) في مشاورة أصحابه، والقرار والعزم النهائي يبقى بيد النبي الكريم، ويتوكل على الله في تنزيل الأمر والموضوع إلى الواقع.

هذه الاستشارة تعني إشراك الأمّة في القضايا الّتي تتعلّق بها، وتحريك فعالية المسلمين نحو الأمور المختلفة( فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ، خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ ) (٤) .

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب: ٢.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٤٠.

(٣) آل عمران: ١٥٩.

(٤) نهج البلاغة: الخطبة ١١٨.

٩٠

وهي لا تعني قصور القيادة العليا للمسلمين عن نيل الرأي السديد؛ بل هي من أجل وضع المسلمين في دائرة المسؤولية المتبادلة، وتفعيل دورهم باتجاه القضايا المختلفة.

يبقى الاختيار والقرار بعد المشورة بيد مَن يتولّى أمور المسلمين.

( إنّي لأَولى النّاس بالنّاس، أضمم أراء الرّجال بعضها إلى بعضٍ، ثمّ اختر أقربها إلى الصّواب وأبعدها من الارتياب ) (١) .

للاستشارة بُعدين أو ظهيرين يمكن استشفافهما من الحكمة العلوية( وَلا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ ) (٢) وهما:

١. الظّهير أو البعد العلمي: أي البعد العلمي بضمّ الآراء إلى بعضها، حيث يعطي ضفر الآراء القوّة والمتانة للرأي المستخلص منها.

٢. الظهير أو البعد الاجتماعي: يتمثل في اجتماع المسلمين بمكان واحد لمداولة أمورهم أو البحث عن رأي سليم، ففي ذلك الاجتماع قوة اجتماعية للمسلمين؛ حيث تشدّ النّفوس بعضها إلى بعض.

مارس أمير المؤمنين الاستشارة عملياً، فالمؤرّخون يذكرون أنّه بعد قتل أشرس بن حسّان البكري وأصحابه في الأنبار، عندما كانوا على مسلحتها على يد كتائب بقيادة سفيان بن عوف، وصل الخبر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام )، وعندما دعا ( عليه السلام ) الناس وانتدبهم إلى لقاء الأعداء، إلاّ أنّهم لم يحسنوا السمع والإجابة وأكثروا الكلام، ولم يجب دعوته ( عليه السلام ) إلاّ ثلاثمِئة نفر.

____________________

(١) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٢٤٨.

(٢) نهج البلاغة: الحكمة: ٥٤.

٩١

حزن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وعلت وجهه الكآبة، وجاءه بعض الأصحاب يواسونه بالموالاة والنصرة، ( فقام حجر بن عديّ الكندي وسعيد بن قيس الهمداني، فقالا: لا يسوءك الله يا أمير المؤمنين، مرنا بأمرك نتبعه، فو الله! ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدت، ولا على عشائرنا إن قُتلت في طاعتك.

فقال:تجهّزوا للمسير إلى عدوّنا ، فلمّا دخل منزله ودخل عليه وجوه أصحابه، قال لهم:أَشيروا عليّ برجلٍ صليب ناصح، يحشر النّاس من السواد .

فقال له: سعيد بن قيس: يا أمير المؤمنين! أشير عليك بالناصح الأَريب الشجاع الصليب، معقل بن قيس التميمي.

قال:نعم ، ثمّ دعاه فوجّهه، فسار فلم يقدم حتى أصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) )(١) .

ذكر ابن أعثم الكوفي أحداث تاريخية شاور فيها الإمام أصحابه، صرفنا القلم عنها خشية الإطالة(٢) .

٣. التصحيح

هو عبارة عن حذف وإقصاء الثّقافة الخاطئة عن مجتمع المسلمين، وإعادة الثقافة الصحيحة إلى مكانها.

الغاية من هذه الوظيفة التصحيحية هي تسريع الحركة الثقافية و

____________________

(١) الغارات: ٢/٤٨٢، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد: ٢/٩٠.

(٢) الغارات: ٢/٣٥٢ - ٣٧٣ - ٤٤٢.

٩٢

تنشيطها داخل المجتمع، قد اتخذ التصحيح من جانب الإمام ( عليه السلام ) أشكالاً مختلفة بحسب نوع الخطأ الذي تمّ تحديده، الأشكال التصحيحية كما يلي:

١. تصحيح الدافع الثقافي: إنّ أيّ حركة ثقافية يُراد تصحيحها لابّد من تصحيح جذورها؛ لأنّها النقطة الأُولى التي خرجت منها الحركة، عنه ( عليه السلام ) لسائل سأله عن معضلة:( سَلْ تَفَقُّهاً وَلا تَسْأَلْ تَعَنُّتاً ) (١) .

التصحيح سلّطه الإمام على دافع السؤال والمنطلق الأَوّل الذي خرج منه السؤال، فإذا كان دافع ونية السؤال خاطئةً، فحينئذٍ يكون صبّ العلم وإفراغه على محلّ ونية خاطئةً( وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ ) (٢) .

٢. تصحيح الضابط الثقافي: الإمام بيّن المعيار الصحيح لمعرفة الحق لأحد أصحابه، نهض الحارث بن حَوط الليثي إلى عليّ بن أبي طالب وهو على المنبر، فقال أتظنّ أنّا نظنّ أنّ طلحة والزبير كانا على ضلال؟ قال:( يا حارث، إنّه ملبوس عليك، إنّ الحق لا يُعرف بالرّجال، فاعرف الحق تعرف أهله ) (٣) .

إنّ الإمام ( عليه السلام ) أعطى ضابطاً مهّماً لمعرفة الحق وهو: اعرف الحق تعرف أهله، وشطب على المعيار الخاطئ الذي كان ينظر بن الحارث بن حوط.

٣. تصحيح المفهوم الثقافي: على الإنسان المسلم أن لا يقف عند قالب اللفظ، بل عليه أن يعبر إلى المفهوم الواسع للكلمة؛ للإشراف على حقيقتها، قال ( عليه السلام )، لقائل بحضرته ( أَستغفرُ الله ):( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاسْتِغْفَارُ؟

____________________

(١) نهج البلاغة / الحكمة: ٣٢٠ / ٧٠٦؛ الغارات: ١/١٧٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر / الحكمة: ٢٦٢.

٩٣

الاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، وَالثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ) (١) .

٤. تصحيح الاستعمال الثقافي: بعض الاستعمالات الثقافية ليس صحيحة، وقد لاحظ الإمام ( عليه السلام ) رجلاً يهنّئ آخر - بمولود وُلد له - باستعمال ثقافي خاطئ، فقال له: ليهنئك الفارس، فقال ( عليه السلام ):(لا تَقُلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ قُلْ، شَكَرْتَ الْوَاهِبَ وَبُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَرُزِقْتَ بِرَّهُ ) (٢) .

هنّأ الإمام ( عليه السلام ) بعد أن نحّى الاستعمال الخاطئ طرح الاستعمال الصحيح.

٤. الترشيد

الترشيد في اللغة من ( رشد: والرّشد والرّشد خلاف الغيّ، يُستعمل استعمال الهداية )(٣) و( أَرشدَهُ: هداه ودَلَّه )(٤) .

____________________

(١) نفس المصدر: الحكمة: ٤١٧.

(٢) نفس المصدر: الحكمة: ٣٥٤.

(٣) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ٢٢١.

(٤) المعجم الوسيط: ٢/ ٣٤٦.

٩٤

ورد معنى الرشد في كلمات أمير المؤمنين بمعنى أنّ أداء الطاعة يترشّح منها الأمن والهداية( مَن يُطع الله يأمن ويرشد، ومَن يعصه يخب ويندم ) (١) .

كما أنّ الرّشد والهداية الّتي يعرفها النّاس عن أمير المؤمنين، هي هداية النّاس والأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم، عن حذيفة بن اليمان أنّه قال: ( إن يولّوها علياً - في كلام وقد مرّ - تجدوه هادياً مهدياً يسلك بكم الطريق المستقيم )(٢) .

في رواية الزبير بن بكار التي ينقلها عن قبيصة بن جابر الأسدي، أنّ رجلاً سأل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن الإيمان، فخطب في النّاس وبيّن صفة الإيمان ودعائمه والشُعب التي يقوم عليها، حتى أنّ الرّجل السائل قام شاكراً لأمير المؤمنين ترشيده وهدايته وبيانه.

قام رجل إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) فسأله عن الإيمان، فقام ( عليه السلام ) خطيباً فقال:( الحمد الله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمَن وردهُ ...

فبالإيمان يُستدل على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه، وبالفقه يرهب الموت، وبالموت تُختم الدّنيا، وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين.

والإيمان على أربع دعائم: الصبر واليقين والعدل والجهاد.

____________________

(١) أمالي المفيد: ٢١٢.

(٢) مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ): ٢/٥٨٨.

٩٥

فالصبر على أربع شُعب: الشوق والشفق والزهادة والترقّب، أَلا مَن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات، ومَن أشفق من النّار رجع عن المحرّمات، ومَن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومَن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعب فهذه صفة الإيمان ودعائمه.

فقال له السائل: لقد هديت يا أمير المؤمنين وأرشدت، فجزاك الله عن الدين خيراً(١) .

في بيان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) للإيمان تجلى الطريق العلمي والعملي للترشيد، قد وصل البلاغ العذر - من قبل الإمام - إلى الناس وأدخلهم إلى الطريق الواضح المستقيم،( لقد حملتكم على الطرّيق الواضح، الّتي لا يهلك عليها إلاّ هالكٌ، مَن استقام فإلى الجنّة، ومَن زلّ فإلى النار ) (٢) .

في طريق آخر لمعرفة الرّشد، أوضح الإمام أنّ تلك المعرفة تنبثق من معرفة الذي ترك الرّشد( واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرّشد حتى تعرفوا الّذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذّي نقضه ) (٣) .

إنّ طريق الهداية إذا لم يتضّمن معرفة عدوّ هذا الطريق، فسوف لن يكون هناك وصول إلى الرّشد؛ إذ من الممكن أن يُقطع الطريق على سالك طريق الرشد، ولن يكون هناك بلوغ إلى أقصاه إذا لم يطّلع على عدو هذا

____________________

(١) نهج البلاغة: الحكمة: ٣١، الأصول الكافي: ٢/٥٠، أمالي الطوسي: ٣٧.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ١١٩.

(٣) نفس المصدر: الخطبة ١٤٧.

٩٦

الطريق، ونقاط الضعف التي يستغلها للتسلّل والقعود على الصراط.

فالمسلّم عليه أن لا يكتفي وظيفياً بالاطلاع على الثقافة الإيجابية الّتي هي ثقافة الهداية والترشيد، بل عليه أيضاً أن يطّلع على الثقافة الأخرى التاركة للثقافة الإسلامية حتى يتكامل الترشيد.

قد أمر ( عليه السلام ) بالأخذ بنهج الخير ومعرفته والإعراض عن نهج الشر بمعرفته( فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشّرِّ تقصدوا ) (١) .

____________________

(١) نفس المصدر: الخطبة ١٦٧.

٩٧

٩٨

الفصل التاسع: الإمام علي ( عليه السلام ) والأساليب الثقافية

تعددت الأساليب الثقافية وتنوّعت عناوينها بحسب الشؤون والأحداث الّتي عالجها الإمام، وقد اقتضى كلّ موقف أُسلوباً وغايةً يختصان به، هذه الأساليب هي كما يلي:

١. الأسلوب الوعظي

استخدم الإمام هذا الأسلوب كثيراً والغاية منه هي الوصول إلى ثمرة التقوى.

في هذا الأسلوب نثر الإمام (عليه السلام) لآليء مواعظه، والتي هي جامعة للعِظة والحكمة، حسب رأى ابن أبي الحديد( فإنّ الغاية أمامكم، وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم، تخفّفوا تلحقوا، فإنّما ينتظر بأَوّلكم آخركم ) .

قال الرضي رحمه الله: ( أقول إنّ هذا الكلام لو وُزن بعد كلام الله سبحانه

٩٩

وبعد كلام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بكلّ كلام، لمال به راجحاً وبرّز عليه سابقاً )(١) .

إنّ علة جامعية هذه الموعظة المليئة معنىً، هي أنّ الإمام ذكر الغاية والمحرك والمسير والمصير في عبارة واحدة جامعة للعظة.

مرّة أخرى طُلب من أمير المؤمنين موعظة مختصرة، فوعظ بذكر الدار ودقة الإقامة فيها، وذكر السبق في العمل والإعراض عن التأسي بالنبي ( صلّى الله عليه وآله ) إلى الرّغبات؛ قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ): عظنا وأوجز، فقال:

( الدنيا في حلالها حساب وحرامها عقاب، وأنّى لكم بالرَّوح ولمّا تأسَّوا بسنة نبيكم، تطلبون ما يطغيكم ولا ترضون ما يكفيكم ) (٢) .

هناك خطب كثيرة تضمنت الحكمة والموعظة الحسنة، وقد آثرنا الاختصار وتجنّبنا الإكثار؛ لأنّها فوق التعريف لشهرتها.

٢. الأسلوب التذكيري

الغاية من هذا الأسلوب هي النظر في العواقب واستلهام العبرة، قد ورد في التنزيل الحكيم:( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (٣) و( أَوَلَمْ نُعَمّرْكُم مّا يَتَذَكّرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ ) (٤) جاء في كلام له ( عليه السلام ):( وليكن نظركم عبراً ) (٥) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: ١/٣٠١.

(٢) الأصول من الكافي: ٢/٤٥٩.

(٣) الروم: ٩.

(٤) فاطر: ٣٧.

(٥) نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: ١/٧٥.

١٠٠